حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$archive_pages - Line: 2 - File: printthread.php(287) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(287) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 287 eval
/printthread.php 117 printthread_multipage
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
غابريل ماركيز - قصص قصيرة - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5)
+--- المنتدى: قــــــرأت لـك (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=79)
+--- الموضوع: غابريل ماركيز - قصص قصيرة (/showthread.php?tid=12163)

الصفحات: 1 2


غابريل ماركيز - قصص قصيرة - ابن نجد - 02-09-2007



[CENTER]رجل عجوز بجناحين كبيرين[/CENTER]





بعد اليوم الثالث للمطر كانوا قد قتلوا الكثير جداً من السرطانات داخل البيت مما اضطر بيلايو أن يعبر باحته الموحلة ليرميها في البحر، ذلك لأن الوليدة الجديدة قد أصيبت بالحمى طوال الليل واعتقدوا أن ذلك بسبب الرائحة النتنة.
العالم حزيناً منذ الثلاثاء. صار البحر والسماء قطعة واحدة من الرماد ورمال الشاطئ التي تلمع في ليالي آذار مثل ضوء مطحون، وقد أمست مزيجاً من الطين والمحار. وهن الضوء جداً في وقت الظهيرة حتى أن بيلايو عندما عاد إلى بيته بعد أن رمى السرطانات، كان من الصعب عليه أن يرى ذلك الذي يتحرك ويئن في آخر الباحة. تحتم عليه أن يقترب جداً ليرى أنه رجل عجوز، عجوز جداً، منكب على وجهه في الطين، وهو على الرغم من كل الجهود المضنية التي يبذلها، لا يستطيع النهوض، إذ أن جناحين هائلين كانا يعيقانه.

أرعبه هذا الكابوس فهرع ليأتي بأليسندا زوجته، التي تضع الكمادات على الطفلة المريضة، وأخذها إلى آخر الباحة. نظرا إلى الجسد الملقى بذهول أخرس. كان يرتدى أسمال جامعي الخرق. لم تكن هناك سوى بضعة شعيرات على صلعته وبضعة اسنان في فمه، وحالته المثيرة للشفقة لجد كبير واقع في الوحل أزالت أي شعور بالمهابة كان من الممكن أن يحمله. جناحاه الصقريان الضخمان، الوسخان والنصف منتوفان، عالقان أبداً في الطين. كان بيلايو وأليساندا قد نظرا إليه طويلاً وعن قرب حتى تغلبا على ذهولهما فوجداه في الأخير أليفاً. ثم تجرأا للكلام معه وأجابهما بصوت قوي غير مفهوم لبحار. هكذا تخطيا غرابة الجناحين واستخلصا بذكاء أنه قد قذف بمفرده من سفينة أجنبية غارقة بفعل عاصفة. ولذلك استدعيا جارتهما، التي كانت تعرف كل شيء عن الحياة والموت، لتراه. كلما كانت تحتاج إليه هي نظرة واحدة لتبين لهما خطأهما.

قالت لهما،"إنه ملاك. لابد أنه قد جاء من أجل الطفلة، لكن المسكين هرم جداً مما جعل المطر يطيح به."

في اليوم التالي عرف الجميع قد أن ملاكاً بدمه ولحمه قد وقع أسيراً في منزل بيلايو. وإزاء الرأي الحكيم الذي طرحته الجارة، التي كانت ترى أن الملائكة في تلك الأزمنة لاجئون انقذوا من مؤامرة روحية، لم تطاوعهم قلوبهم على ضربه بالهراوات حتى الموت. كان بيلايو يراقبه طوال وقت العصر من نافذة المطبخ، متسلحاً بهراوته البوليسية، وقبل أن يأوي إلى فراشه أخرجه من الطين وحشره في القن مع الدجاجات. وعند منتصف الليل، عندما توقف المطر، كان بيلايو وأليساندا لايزالان يقتلان السرطانات. بعد ذلك بوقت قصير أفاقت الطفلة من الحمى وصارت لديها رغبة في تناول الطعام. فشعرا بشهامة دفعتهما إلى أن يقررا أن يضعا الملاك على طوف مع ماء عذب وزوادة لثلاثة أيام ويتركانه لمصيره في أعالي البحار. لكنهما حين ذهبا إلى الباحة مع ظهور أول خيط للفجر، شاهدا أن الجيران كلهم هناك أمام قن الدجاج ويتسلون بالملاك، ومن دونما وازع، يرمونه عبر الفتحات بمختلف الأشياء ليأكلها كأنه لم يكن كائناً سماوياً بل مجرد حيوان سيرك.

وصل الأب غونزاكا قبل السابعة، بعد أن ذعرته الأخبار الغريبة. خلال ذلك الوقت كان قد وصل متفرجون أقل طيشاً من أولئك الذين جاؤوا مع الفجر وكانوا يقومون بكل انواع الحدوس التي تتعلق بمستقبل الأسير. وأبسطها فكرة أن من الأحرى تعيينه عمدة للعالم. آخرون من امتلكوا عقلاً صارماً شعروا أنه من الأحرى أن يرقى مرتبة جنرال بخمس نجوم من أجل كسب جميع الحروب. البعض من الحالمين تأملوا أنه من الممكن أن يوضع للاستيلاد من أجل أن تنتشر في الأرض سلالة من البشر المجنحين الحكماء الذين من الممكن أن يتولوا مسؤولية الكون. لكن الأب قبل أن يكون كاهناً، كان يعمل في تقطيع الأخشاب. فراجع ثقافته الشفاهية بلحظة وطلب منهم فتح الباب كي يلقي نظرة فاحصة على ذلك الرجل المسكين الذي كان يبدو أشبه بدجاجة ضخمة عاجزة بين الدجاجات الرائعات. كان يضطجع في الزاوية يجفف جناحيه المفتوحين تحت ضوء الشمس بين قشور الفواكه وبقايا طعام الإفطار التي رماها عليه من جاؤوه مبكرا. وعندما دخل الأب غونزاكا القن وقال له صباح الخير باللاتينية. وشعر بالغربة إزاء وقاحة العالم فلم يستطع الملاك إلا أن يرفع عينيه الأثريتين ويتمتم بشيء ما بلغته الخاصة. عندما لم يفهم لغة الرب ولم يعرف كيف يحيي كهنته صار لدى كاهن الإبرشية شك بأن هذا دجال لا غير. وعندما اقترب منه لاحظ أنه اقرب إلى البشر؛ فلديه رائحة مشردين لا تطاق، الجانب الخلفي من جناحيه قد اكتسى بالطفيليات كما أن الريش الكبيرة قد عبثت بها الريح، وليس ثمة شيء يمكن أن يحيله إلى كرامة وفخر الملائكة. ثم خرج من قن الدجاج وبموعظة موجزة حذر من المتطفلين ومن خطر كونه مخلصاً. وذكرهم أن الشيطان كانت له تلك العادة السيئة في استعمال خدع الكرنفال من أجل إيهام الغافلين. وكانت حجته أنه إذا كانت الأجنحة هي العنصر الأساسي في الأقرار بالاختلاف بين الصقر والطائرة، فهي اقل من ذلك أهمية لدى التعرف على الملائكة. لكنه رغم ذلك قد وعد بأن يكتب رسالة إلى اسقفه كي يكتب الأخير رسالة إلى كبير أساقفته الذي بدوره سيكتب إلى الحبر الأعظم لغرض الحصول على الحكم الأخير من أعلى السلطات.

لقد وقعت حكمته على قلوب عقيمة. وانتشرت أخبار الملاك الأسير بسرعة هائلة حتى أن الباحة قد امتلأت بعد سويعات بضجة كضجة السوق وتحتم عليهم أن يطلبوا النجدة من قوات يحملون حراب مشرعة لتفريق جمهور الغوغاء الذين أوشكوا أن يطيحوا بالبيت. وكان ظهر أليسندا قد انقصم من تنظيف نفايات ذلك السوق، حتى تولدت لديها فكرة وضع سياج للباحة وطلب خمس سنتات رسم دخول لمشاهدة الملاك.

وجاء حب الاستطلاع من مكان بعيد. إذ وصل كرنفال من الرحالة ومعهم بهلوان طائر كان يئز فوق الجمهور المزدحم مرة إثر مرة من دون أن ينتبه إليه أحد لأن جناحيه لم يكونا لملاك بل، بالأحرى، لخفاش نجمي. وحضر أغلب التعساء من المرضى الباحثين عن الشفاء؛ إمرأة مسكينة تحصي دقات قلبها وقد نفدت الأرقام لديها؛ رجل برتغالي لم يستطع النوم لأن ضوضاء النجوم تقلق راحته؛ سائر في نومه نهض في الليل وألغى كل ما عمله عندما كان في اليقظة، والكثير ممن لديهم مصائب أقل جدية. في خضم تلك الفوضى التي جاءت من السفينة الغارقة، كان بيلايو وأليسندا سعيدان ومرهقان، لأنهما في أقل من أسبوع امتلأت غرفهما بالأموال ولا يزال هنالك طابور جد طويل للحجاج ينتظر دوره للدخول يصل مداه إلى ما بعد الأفق.

كان الملاك هو الوحيد الذي لم يشترك في مشهده. فقضى وقته محاولاً أن يستريح في عشه المستعار، مربكاً من الحرارة الجحيمية لمصابيح الزيت وشموع السر المقدس التي وضعت بمحاذاة أسلاك القن. حاولوا في البداية أن يجعلوه يأكل كرات العث، الطعام الذي يوصف للملائكة تبعاً إلى توصية الجارة الحكيمة. لكنه رفضها كما رفض وجبات الطعام البابوية التي جلبها له المرضى، ولم يعرفوا أن رفضه قد جاء بسبب أنه كان ملاكاً أو بسبب أنه رجل عجوز. ولم يأكل في الأخير غير الباذنجان المهروس. كانت ميزته الخارقة للطبيعة الوحيدة هي الصبر. خصوصاً في الأيام الأولى، عندما نقرته الدجاجات بحثاً عن الطفيليات المفضلة لديها والتي تتكاثر في جناحيه وكان المشلولون ينزعون عنه الريش ليضعوه على أعضائهم المصابة، وحتى أكثرهم عطفاً عليه كانوا يرجمونه بالأحجار محاولين إيقافه لينظروا إليه وهو منتصبا. والمرة الوحيدة التي نجحوا في إيقافه عندما حرقوا جنبه بسيخ لوسم الثيران المخصية، لأنه كان جامداً لساعات طويلة حتى ظنوا أنه ميت. نهض مذعوراً زاعقاً بلغته السحرية تتساقط الدموع من عينيه ونفض جناحيه عدة مرات مما اثار زوبعة من غبار ذروق الدجاج ونوبة ذعر بدت آتية من عالم غير هذا العالم. ورغم أن الكثيرين ظنوا ان رد الفعل هذا لم يأت من الغضب بل من الألم، صاروا حذرين في أن لا يزعجونه، لأنهم أدركوا أن سلبيته لم تتأت من انه يريد أن يستريح بل هو هدوء العاصفة. كان الأب غونزاكا يرد الجموع المندفعة بكلمات مستوحات من الخادمة بينما كان في انتظار وصول الحكم النهائي بشأن طبيعة الأسير. ولكن بريد روما لم تبد عليه العجلة. فالوقت في معرفة إذا كان الاسير له سرة، أو إن كانت لغته لها علاقة بالآرامية، وكم مرة يمكنه أن يثبت رأس الدبوس، أو فيما إذا لم يكن غير نرويجي له أجنحة. هذه الرسائل الهزيلة لربما تستمر في أن تأتي وتذهب إلى آخر الزمان لو لم تضع العناية الألهية نهاية للمصائب التي على رأس الكاهن.

وحدث في تلك الأيام، أن من بين كرنفالات الجذب، وصل المدينة عرض لرحالة ظهرت فيه المرأة التي انقلبت إلى عنكبوت لأنها لم تطع والديها. كان الرسم الذي يدفع لرؤيتها ليس أقل مما يدفع لرؤية الملاك فحسب، بل سمح للناس أن يسألوها كل أنواع الأسئلة حول حالتها المزرية ويتفحصونها من كل جوانبها حتى لايشك أحد بحقيقة رعبها. كانت عبارة عن عنكبوت ضخم بحجم الكبش ولها رأس فتاة حزينة. وما كان يمزق القلب هو ليس شكلها الغريب بل الألم الصادق المنبعث من روايتها لتفاصيل حظها العاثر. فعلى الرغم من أنها كانت لاتزال طفلة تسللت من منزل والديها لتذهب للرقص، وأثناء عودتها عبر الغابات بعد أن قضت الليل بطوله ترقص من دون السماح لها بذلك، صعق رعد السماء وفلقها وعبر ذلك الانفلاق جاء صاعق برقي كبريتي وحولها إلى عنكبوت. كان غذاؤها الوحيد هو من الكرات اللحمية التي يتصدق بها المحسنون ويدفعونها في فمها. مشهد مثل هذا، مليء بالحقيقة البشرية وبدرس مروع، كان على وشك أن يقضي على مشهد ملاك متعجرف نادراً ما كان يتلطف بالنظر إلى الناس. فضلاً عن ذلك ثمة بضعة معجزات أوعزت إلى الملاك توضح اختلاله العقلي، مثل الرجل الأعمى الذي لم يشفه بل زرع له ثلاثة اسنان جديدة، والمشلول الذي لم يتمكن من السير بل كاد يربح اليانصيب، والمجذوم الذي نبتت في تقرحاته زهور عباد الشمس. عزاء المعجزات هذا، الذي كان أشبه بالسخرية، كان قد حطم سمعة الملاك التي سحقت تماماً في الأخير مع مجيء المرأة التي تحولت إلى عنكبوت. وهكذا شفي الأب غونزاكا تماماً من أرقه وخلت باحة دار بيلايو مثلما كانت خالية عندما أمطرت السماء لثلاثة أيام ودخلت السرطانات إلى غرف النوم.

لم يكن ثمة من داع لإلقاء اللوم على صاحبي المنزل. فقد بنيا بالمال الذي حصلا عليه بيتا بطابقين وله شرفات وحدائق وشبكة عالية تمنع السرطانات من النزول داخل البيت عند الشتاء، ووضعا قضباناً حديدية تمنع الملائكة من الدخول. وعمل بيلايو مزرعة أرانب قرب المدينة وتخلى عن عمل وكيل مزرعة إلى الأبد، واشترت أليسندا أحذية ساتانية فاخرة بكعب عال والكثير من الثياب القزحية الحريرية، التي ترتدى في تلك الأيام من قبل اغلب النساء في يوم الأحد. كان قن الدجاج هو الوحيد الذي لم ينتبهوا إليه. وإن كانوا يغسلونه بالكريولين وقطرات من الصمغ الراتينجي بين الحين والحين. لكن ذلك ليس إجلالاً للملاك بل لإبعاد رائحة الروث التي لاتزال عالقة في كل مكان كالشبح وتحيل البيت الجديد إلى بيت قديم. وعندما تعلمت الطفلة المشي لأول مرة حرصا على أن لا تقترب من قن الدجاج. لكنهما فيما بعد أبعدا مخاوفهما وألفا الرائحة، وقبل أن يظهر السن الثاني لطفلتهما كانت قد ذهبت لتلعب قرب قن الدجاج حيث تداعى الجدار السلكي للقن. كان الملاك فاتراً معها مثلما كان مع باقي الكائنات، لكنه تحمل أبشع سلوك بريء بصبر كلب لا أوهام لديه. وأصيبا كلاهما بجدري الدجاج. الطبيب الذي جاء لمعلجة الطفلة لم يستطع مقاومة أغراء الاستماع إلى قلب الملاك، ووجد صوت صفير في القلب وسمع الكثير من الأصوات في كليتيه حتى بدا للطبيب أن من الاستحالة أن يكون حيا. الشيء الأغرب هو منطق جناحيه. لقد كانا يبدوان طبيعيين على ذلك الجسم البشري حتى أنه استغرب لماذا لا يملك البشر الآخرون مثلهما.

عندما بدأت الطفلة بالذهاب إلى المدرسة كان قد مر بعض الوقت الذي هدمت فيه الشمس والأمطار قن الدجاج. وظل الملاك يجر نفسه هنا وهناك مثل رجل ضال يلفظ أنفاسه الأخيرة. كانوا يطردونه من غرفة النوم بالمكنسة فيجدونه قد ذهب إلى المطبخ. حتى ظهر لهم أنه موجود في عدة أماكن في اللحظة نفسها وظنوا أنه صار أكثر من واحد، كأنه يولد من نفسه آخرين ينتشرون داخل البيت، مما جعل أليسندا الساخطة والمشوشة أن تصرخ أن هذه حياة بائسة في جحيم مليء بالملائكة. كان نادراً ما يأكل وأمست عيناه الأثريتين مضببتين أدت به إلى أن يصطدم بالأعمدة.

كل ما بقي له هي الإبر المجردة لآخر ريشات له. رمى عليه بيلايو بطانية وتفضل عليه أيضاً بالسماح له بالمنام في السقيفة ولاحظوا عندذاك أن حرارته قد ارتفعت في الليل وبدأ بالهذيان ملتوي اللسان مثل عجوز نرويجي. وكانت تلك هي من المرات القليلة التي يشعرون فيها بالخطر، لاعتقادهم أنه سوف يموت ولن تستطيع حتى جارتهم الحكيمة أن تنصحهم بما يجب أن يعملونه بملاك ميت.

ولكنه لم يعش طوال الشتاء فحسب بل بدا أنه تحسن مع الأيام المشمسة الأولى. وبقي دون حراك لعدة أيام في ابعد زاوية من الباحة، حيث لا أحد يراه، ومع بواكير كانون الثاني نبتت له بعض الريش الكبيرة الصلبة، ريش فزاعة، هي اشبه بعجز مأساوي آخر. ولكن لابد أنه كان يعلم سبب تلك التغيرات، لأنه كان حريصاً جداً على أن لا يلاحظه أحد ، ولا أحد يسمع الأناشيد البحرية التي كان يغنيها أحياناً تحت النجوم. وفي احد الأيام عندما كانت أليسندا تقطع البصل للغداء دخلت إلى المطبخ ريح بدت كأنها آتية من أعالي البحار. ثم أطلت من النافذة ورأت الملاك وهو في أولى محاولاته للطيران. كانت غير متقنة لدرجة أن أظافره قد فتحت حفرة في البقعة الخضراء وكان على وشك أن يطيح بالسقيفة برفرفته الخرقاءالمنفلتة في الضياء والتي لم توفق في قبض الهواء. ولكنه تمكن من تحقيق بعض العلو. وأطلقت اليسندا تنهيدة راحة، من أجل نفسها ومن أجله، عندما راقبته يمر من فوق أخر المنازل، رافعاً نفسه على نحو ما برفرفة مجازفة كأنها لنسر عجوز. ظلت تراقبه وهي لاتزال تقطع البصل واستمرت تراقبه حتى حين لم يعد بإمكانها رؤيته، لأنه عند ذاك لم يعد يمثل أي قلق لحياتها بل مجرد نقطة خيالية في أفق البحر.




غابريل ماركيز - قصص قصيرة - ابن نجد - 02-09-2007

[CENTER]أجمل غريق في العالم [/CENTER]




ظنّه الأطفال لمّا رأوه ، أول مرة ، أنه سفينة من سفن الأعداء. كان مثلَ رعنٍ أسود في البحرِ يقترب منهم شيئا فشيئا. لاحظ الصبيةُ أنه لا يحمل راية ولا صاريًا فظنوا حينئذٍ أنه حوتٌ كبير، ولكن حين وصل إلى ترابِ الشاطيء وحوّلوا عنه طحالبَ السرجسِ و أليافَ المدوز و الأسماكَ التّي كانت تغطيهِ تبيّن لهم أنّه غريق. شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثة يوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلون نَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث. أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَ إلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَ حصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :

"ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحت البحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه." عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربت قدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت. كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌ من الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس من قريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانت القرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تحمل الريحُ الأطفال ومنع ذلك الرجالَ من زرع ِ الأزهار ، أمّا الموتى فكانوا نادرين لم يجد لهم الأحياءُ مكانًا لدفنهم فكانوا يلقون بهم من أعلى الجرف..

كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا و كريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي في حوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقص منهم أحد.. في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًا يبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق ...أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن ما لصق بجلده بالسكاكين..

لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتمي إلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح في متاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ في فخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهت النسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثل هذا الجمال و الهيبة..

لم تجد نساء القرية للجثة ، بسبب الطولِ المفرطِ ، سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِ السراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميه بعد أن جربوا أكبر الأحذية. فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن في تفصيل سروالا من قماشِ الأشرعة و كذلك قميصًا من "الأورغندي" الشفاف فذلك يليق بميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال.. جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بين أصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر "الكاراييب" أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن " أن لذلك علاقة بالميّت" ، وقالت أخرى " لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشك أنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أن ينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج من الصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف".. أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها ، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول أن أزواجهن من أكبر المساكين..

دخلت النسوة في متاهات الخيال. قالت أكبرهن:" للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان". كان هذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّا الأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهار وذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل "لوتارو". في الواقع ما قالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيد التفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعت وكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..

بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكت البحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . أتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسم إستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعره واللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثة ممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكم ظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخل فيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أن تجد ربة البيت له كرسيا يتحمله...ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرة ألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضا لبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوا يقولون له "ابق وأشرب القهوة معنا" ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: "حمدا لله لقد ذهب هذا الأبله". هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..

في الفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف على وجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعت أصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..

وزاد البكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض.. عندما عاد الرجال بعد أن تأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوه النسوة. قالت النسوة: "الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!".. أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هو التخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجال نقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقل الغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلى الأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لا تتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتى الآخرين. ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقت حيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت "الكتفيّة" حول كتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراع لغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :" مالهذه الوشايات والفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذه الفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟"..

بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّت فانقطعت أنفاس الرجال دهشة: "إنه إستبان!" لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. من يكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟ لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفه وبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..

لكن الجثة التي أمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد! إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافي القدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بدا الخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر من الجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحد الرجال: "لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكون قد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه."

أعد سكان القرية أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضار الزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.

عندما تأكدت نساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحم المكان بالزهور وبالنساء.. في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريق إلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب ، وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذا الغريق. ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكوا أنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير في قريتهم..

عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكن شبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف ودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..

منذ ذلك اليوم قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبار في الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم: "أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس. هناك هي قرية إستبان!" .





غابريل ماركيز - قصص قصيرة - ابن نجد - 02-09-2007

[CENTER]ضوء مثل الماء [/CENTER]





في عيد الميلاد، عاد الطفلان الى طلب زورق التجديف.

قال الأب:

حسن، سنشتريه حين نعود الى كارتاخينا.

لكن توتو، في التاسعة من عمره، وجويل في السادسة، كانا أشد تصميماً مما اعتقده أبواهما. فقد قالا معاً:
- لا. إننا نحتاجه الآن وهنا.
قالت الأم: أولاً لا يوجد ماء للإبحار سوى الماء الذي ينزل من الدش.
وقد كانت هي وزوجها على حق، ففي بيتهم في كارتاخينا دي اندياس يوجد فناء فيه رصيف على الخليج، ومكان يتسع ليختين كبيرين، أما هنا في مدريد فيعيشون محشورين في شقة في الطابق الخامس من المبنى رقم «47» في شارع باسيودي لاكاستيانا. ولكنهما في النهاية لم يستطيعا هو أو هي، أن يرفضا، لأنهما كانا قد وعدا الطفلين بزورق تجديف مع آلة سدس وبوصلة، فإذا فازا بإكليل الغار في السنة الثالثة ابتدائية، وقد فازا به. وهكذا اشترى الأب كل شيء، دون أن يخبر زوجته، وهي الأكثر معارضة لتحمل ديون من أجل الألعاب، كان زورقاً بديعاً من الألمونيوم، مزين بخط ذهبي عند حد الغطاس. وقد كشف الأب السر عند الغداء.
- الزورق موجود في الكراج.
المشكلة أنه لا يمكن الصعود به في المصعد أو على السلم، وفي الكراج لا يوجد مكان كاف. ومع ذلك، دعا الطفلان أصدقاءهما يوم السبت التالي للصعود بالزورق على السلم، وتمكنوا من حمله الى غرفة المستودع في البيت.
قال لهم الأب: تهانينا.. ثم ماذا الآن؟
قال الأطفال - الآن لا شيء كل ما كنا نريده هو حمل الزورق الى الغرفة، وها هو ذا هنا.

يوم الاربعاء ليلاً، وكما في كل أربعاء، ذهب الأبوان الى السينما، أما الطفلان اللذان صاحبا وسيدا البيت، فقد أغلقا الأبواب والنوافذ، وكسرا أحد مصابيح الصالة المضاءة. فبدأ يتدفق تيار من الضوء الذهبي والبارد من المصباح المكسور، وتركاه يسيل الى أن بلغ ارتفاعه أربعة أشبار. عندئذ أقفلا التيار، وأخرجا الزورق وأبحرا بمتعة بين جزر البيت.

وقد كانت هذه المغامرة الخرافية نتيجة طيش مني حين شاركت في ندوة حول شعر الأدوات المنزلية، فقد سألني توتو كيف يضاء النور بمجرد ضغط الزر، ولم تكن لدي الشجاعة للتفكير بالأمر مرتين حين أجبته:

الضوء مثل الماء: يفتح أحدنا الصنبور، فيخرج.

وهكذا واصلا الابحار كل أربعاء ليلاً، وتعلما استخدام آلة السدس والبوصلة، وحين كان الأبوان يرجعان من السينما يجداهما نائمين على اليابسة كملاكين. وبعد عدة شهور، كانا يتحرقان للمضي الى ما هو أبعد من ذلك، فطلبا أجهزة للصيد تحت الماء، مجموعة كاملة، أقنعة، أقدام زعنفية، أسطوانات أكسجين، وبنادق هواء مضغوط.

قال الأب: أمر سيء. أن يكون لديكما في غرفة المستودع زورق تجديف لا يمكن استخدامه في شيء. ولكن الأسوأ من ذلك هو أن تطلبا حيازة أجهزة غوص.

قال جويل: وإذا فزنا بالغار الذهبية في الفصل الأول من السنة؟

فقالت الأم مذعورة - لا - لا شيء آخر.
لامها الأب على عدم تساهلها.

فقالت: المشكلة أن هذين الولدين لا يفوزان بقلامة ظفر لمجرد القيام بالواجب، أما من أجل نزواتهما فإنهما مستعدان للفوز حتى بكرسي المعلم.

ولم يقل الأبوان في نهاية الأمر «نعم» ولم يقولا «لا». ولكن توتو وجويل اللذين كان ترتيبهما الأخير في السنوات السابقة، فازا في يوليو بالغارونيتين الذهبيتين وثناء المدير العلني. وفي ذلك المساء بالذات، ودون أن يطلبا، وجدا في غرفة نومهما أجهزة الغوص في علبتها الأصلية. وفي يوم الاربعاء التالي، بينما كان الأبوان يشاهدان «التانغو الأخير في باريس» ملأ الطفلان الشقة الى ارتفاع ذراعين، وغاصا مثل سمكتي قرش وديعتين تحت الأثاث والأسِرّة، وأخرجا من أعماق الضوء الأشياء التي كانا قد فقداها منذ سنوات في الظلام. وعند منح الجوائز النهائية، أختير الأخوان كتلميذين مثاليين في المدرسة، وقدمت لهما شهادات امتياز. وفي هذه المرة لم يطلبا شيئاً، لأن الأبوين سألاهما عما يريدانه، وقد كانا عاقلين لدرجة أنهما لم يرغبا إلا في إقامة حفلة في البيت لتكريم زملائهم في الصف.

كان الأب متألقاً وهو يتحدث على انفراد مع زوجته.

- هذا دليل على نضجهما.

فقالت الأم:

- الله يسمع منك.

وفي يوم الاربعاء التالي وبينما الأبوان يشاهدان فيلم «معركة الجزائر» رأى الناس الذين كانوا يمرون في شارع كاستيانا شلالاً من الضوء يهوي من عمارة قديمة مختفية بين الأشجار، كان يخرج من الشرفات، ويتدفق بغزارة على واجهة المبنى، ويجري في الجادة العريضة في سيل ذهبي يضيء المدينة حتى غواداراما.

حطم رجال الإطفاء الذين استدعوا على عجل باب الطابق الخامس.

ووجدوا البيت طافحاً بالضوء حتى السقف. كانت الاريكة والمقاعد المغلفة بالجلد تطفو في الصالة على مستويات متعددة ما بين زجاجات البارد والبيانو بشرشفه الذي صنع من المانيلا، والذي كان يتحرك وسط الماء مثل سمكة مانتاريا ذهبية. وكانت الأدوات المنزلية في أوج شاعريتها، تطير بأجنحتها الخاصة في سماء المطبخ. وأدوات الجوقة الحربية التي كان الطفلان يستخدمانها للرقص، كانت تطفو على غير هدى بين الأسماك الملونة التي تحررت من الحوض الذي تحبسها فيه ماما. وكانت تلك الأسماك الملونة التي تحررت هي الوحيدة التي تطفو حية وسعيدة في المستنقع الفسيح المضيء. وفي الحمام كانت تطفو فراشي أسنان الجميع وواقيات منع الحمل المطاطية التي يستخدمها بابا. وأنابيب الكريمة وطقم أسنان ماما الاصطناعية. وكان تلفزيون الصالة يطفو مائلاً وهو لا يزال مفتوحاً يبث الحلقة الأخيرة من فيلم منتصف الليل المحظور على الأطفال.

وفي نهاية الممر، كان الصغيران يطفوان بين ماءين.. توتو جالساً في مقدمة الزورق، متشبثاً بالمجدافين والقناع على وجهه، وهو يبحث عن فنار الميناء الى حيث سمح له الهواء الذي في الاسطوانة، وجويل يطفو في مؤخرة المركب وهو لا يزال يبحث بآلة السدس عن موقع نجم القطب. وكان يطفو في جميع أرجاء البيت رفاقهم في الصف السبعة والثلاثين وقد تخلدوا في لحظة تبولهم في أصيص الجرانيوم، وغنائهم النشيد المدرسي بكلمات محورة من سخرية المدير، أو تناولهم خفية كأس براندي من زجاجة بابا. ذلك أنهم كانوا قد فتحوا أنواراً كثيرة في وقت واحد جعلت البيت يطفح، وغرق جميع التلاميذ.. تلاميذ الصف الرابع الابتدائى في مدرسة سان خوليان في الطابق الخامس من المبنى «47» في باسيو دي كاستيانا في مدريد بأسبانيا المدينة البعيدة عن الأصياف الملتهبة والرياح المتجمدة، والتي لا بحر فيها ولا نهر، والتي لم يكن سكان يابستها يوماً من الأيام ماهرين في فنون الإبحار في الضوء.


غابريل ماركيز - قصص قصيرة - ابن نجد - 02-09-2007

[CENTER]الموت أقوى من الحب[/CENTER]




عندما وجد السيناتور أونيسمو سانشيز المرأة التي انتظرها طوال عمره، كان لا يزال أمامه ستة أشهر وأحد عشر يوماً قبل أن توافيه المنية. وكان قد التقاها في روزال دل فيري، وهي قرية متخيّلة، كانت تستخدم كرصيف ميناء سري لسفن المهربين في الليل، أما في وضح النهار، فكانت أشبه بمنفذ لا فائدة منه يفضي إلى الصحراء، وتواجه بحراً قاحلاً لا اتجاه له، وكانت قرية نائية وبعيدة عن أي شيء، إلى درجة أن أحداً لم يكن يتوقع أن يكون بوسع أي انسان أن يغيّر مصير أي فرد من سكانها. حتى أن اسمها كان يثير الضحك نوعا ما، وذلك لأن الوردة الوحيدة الموجودة في تلك القرية كان يضعها السيناتور أونيسمو سانشيز في سترته عصر ذلك اليوم الذي التقى فيه لورا فارينا.

وكانت كذلك محطة إجبارية في الحملة الانتخابية التي كان يقوم بها السيناتور كلّ أربع سنوات. فقد كانت عربات الكرنفال قد وصلت في الصباح الباكر، ثم تبعتها الشاحنات التي تقل الهنود الذين كانوا يُستأجرون ويُنقلون إلى المدن الصغيرة لزيادة عدد الحشود في الاحتفالات العامة وتضخيمها. وقبل الساعة الحادية عشرة بقليل، وصلت السيارة التابعة للوزارة التي يشبه لونها لون مشروب الفراولة الغازي، بالإضافة إلى السيارات التي تقل الموسيقيين، والألعاب النارية، وسيارات الجيب التي تقل أفراد الحاشية. أما السيناتور أونيسمو سانشيز، فكان يجلس مسترخياً في سيارته المكيّفة، لكنه ما أن فتح باب السيارة، حتى هبّت عليه نفحة قوية من اللهب، وعلى الفور تبلل قميصه المصنوع من الحرير الصافي، وأصبح وكأنه قد غمس في حساء فاتح اللون، واعتراه شعور بأنه كبر عدة سنوات، وأحس بالوحدة على نحو لم يشعر به من قبل. في الحياة الحقيقية، كان قد بلغ الثانية والأربعين من العمر، وكان قد تخرّج من جامعة غوتينجين بدرجة شرف كمهندس في استخراج المعادن. كان قارئاً نهماً للأعمال الكلاسيكية اللاتينية المترجمة ترجمة ركيكة. وكان السيناتور زوج امرأة ألمانية متألقة أنجبت له خمسة أطفال، وكانوا جميعهم يعيشون بسعادة في بيتهم، وكان هو أكثرهم سعادة إلى أن أخبروه، منذ ثلاثة أشهر، بأنه سيموت ميتة أبدية قبل أن يحل عيد الميلاد القادم.

وفيما كانت التحضيرات للاجتماع الحاشد على وشك أن تُستكمل، تمكّن السيناتور من الاختلاء بنفسه لمدة ساعة في البيت الذي كانوا قد أعدّوه له ليرتاح فيه. وقبل أن يتمدد على الفراش، وضع الوردة التي حافظ عليها طوال رحلته عبر الصحراء في كأس مليء بمياه الشرب، وابتلع الحبوب التي أخذها معه ليتحاشى تناول قطع لحم العنز المقلّي التي كانت تنتظره أثناء النهار، وتناول عدّة حبوب مسكّنة قبل وقتها المحدد خشية أن يعتريه الألم. ثم وضع المروحة الكهربائية قرب الأرجوحة واستلقى عارياً لمدة خمس عشرة دقيقة في ظلّ الوردة، وبذل جهداً كبيراً كي يبعد فكرة الموت عنه كي يغفو قليلاً. وفيما عدا الأطباء، لم يكن أحد يعرف أن أمامه أياماً معدودات سيعيشها، لأنه قرّر أن يبقي سرّه طي الكتمان، وأن لا يغيّر شيئاً في حياته، لا بدافع من الكبرياء، بل بسبب الخجل والخزي.

أحسّ أنه يمتلك زمام أموره عندما خرج للقاء الجمهور للمرة الثانية في الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم، مرتاحاً ونظيفاً، وهو يرتدي بنطالاً من الكتّان الخشن، وقميصاً مزّهراً، وكانت الحبوب المضادة للألم قد ساعدته في إضفاء شيء من السكينة على روحه. غير أن التآكل الذي كان الموت يحدثه فيه أكثر خبثاً مما كان يظن، لأنه ما أن صعد إلى المنصة، حتى اعتراه شعور غريب بالازدراء للذين كانوا يسعون جاهدين لأن يحظوا بشرف مصافحته، ولم يشعر بالأسف، كما في السابق، على جموع الهنود الذين قلما كان بوسعهم تحمّل جمرات نترات البوتاسيوم الملتهبة تحت أقدامهم الحافية في الساحة الصغيرة المجدبة. وبحركة من يده أوقف التصفيق، بغضب تقريباً، وبدأ يتكلم دون أن تبدو على وجهه أية تعابير محددة. وكانت عيناه مثبتتين على البحر الذي كان يئن تحت وطأة لهيب الحرارة. وكان صوته العميق الموزون يشبه المياه الراكدة، لكنه كان يعرف أنه لم يكن يقول الصدق في الخطاب الذي كان قد حفظه عن ظهر قلب، والذي كان قد ألقاه أمام الجموع مرات كثيرة، بل كان يناقض أقوال ماركوس أوريليوس صاحب النزعة الجبرية في كتاب تأملاته الرابع.

"إننا هنا لكي نلحق الهزيمة بالطبيعة"، بدأ خطابه بخلاف كلّ قناعاته. " لن نصبح لقطاء في بلدنا بعد الآن، أيتام الله في عالم العطش والمناخ الرديء، منفيين في أرض آبائنا وأجدادنا. بل سنكون أناساً مختلفين، أيها السيدات والسادة، سنكون أناساً عظماء وسعداء".

كان ثمة نمط معين في هذا السيرك الذي يقوم به. ففيما كان يلقي كلمته، كان مساعدوه يلقون بمجموعات من الطيور الورقية في الهواء، فتدّب الحياة في هذه المخلوقات الاصطناعية، وتحلّق حول المنصة المنتصبة من ألواح خشبية، وتطير باتجاه البحر. وفي الوقت نفسه، كان رجال آخرون يفرغون بعض جذوع الأشجار من الشاحنات، ويغرسونها في تربة نترات البوتاسيوم وراء الجموع الحاشدة. وكانوا قد أقاموا واجهة كرتونية من بيوت خيالية من الآجر الأحمر ذات نوافذ زجاجية، وأخفوا وراءها الأكواخ الحقيقية البائسة.

أطال السيناتور خطابه مستشهداً باقتباسين اثنين باللغة اللاتينية ليطيل أمد المهزلة. ووعد الحشد بآلات تصنع المطر، وبأجهزة نقّالة لتربية حيوانات المائدة، وبزيوت السعادة التي تجعل الخضراوات تنمو في تربة نترات البوتاسيوم، وبشتلات من أزهار الثالوث المزروعة في أصص. وعندما رأى أنه استطاع أن يخلق عالمه الخيالي، أشار إليه بيده، وصاح بأعلى صوته: "ذاك الدرب سيكون دربنا، أيها السيدات والسادة. انظروا! ذاك الدرب سيكون لنا".

التفت الحشد. كانت سفينة مصنوعة من الورق الملّون تعبر وراء البيوت، وكانت أطول من أعلى بيت في المدينة الاصطناعية. وعندها لاحظ السيناتور، أنها بعد أن شُيدت وأُنزلت وحُملت من مكان إلى مكان آخر، التهم الطقس الشنيع البلدة الكرتونية المتداخلة، وكادت تصبح سيئة كما هو حال قرية روزال دل فيري.

وللمرة الأولى منذ اثتني عشرة سنة، لم يتوجه نلسن فارينا ليرحب بالسيناتور. بل كان يستمع إلى خطاب السيناتور وهو مستلق على أرجوحته في ما تبقى من قيلولته، تحت ظلال عريشة البيت ذي الألواح غير المستوية، الذي بناه بيديّ الصيدلي اللتين جرّ فيهما زوجته الأولى والتي قطعّها إلى أشلاء. ثم هرب من جزيرة الشيطان، وظهر في روزال ديل فيري على متن سفينة محمّلة بببغاوات بريئة من نوع المقو، برفقة امرأة سوداء جميلة كافرة، كان قد التقى بها في باراماريبو وأنجب منها فتاة. لكن المرأة ماتت لأسباب طبيعية بعد فترة قصيرة، ولم تلق مصير المرأة الأخرى، التي ساهمت أعضاؤها المقطعّة إرباً في تسميد قطعة الأرض المزروعة بالقنبيط، بل ووريت التراب بكامل جسدها، محتفظة باسمها الهولندي، في المقبرة المحلية. وقد ورثت الابنة لون أمها وقوامها الجميل، فضلاً عن عينيّ أبيها الصفراوين المندهشتين، وكان يحق له أن يعتقد أنه كان يربّي أجمل امرأة في العالم.

ومنذ أن اجتمع بالسيناتور أونيسمو سانشيز خلال حملته الانتخابية الأولى، طلب منه نلسن فارينا أن يساعده في الحصول على بطاقة هوية مزورة تجعله في منأى عن قبضة القانون. إلا أن السيناتور رفض بطريقة ودّية، ولكن حازمة. غير أن نلسن فارينا لم يستسلم، بل ظل ولسنوات عديدة، وكلما أتيحت له الفرصة، يكرّر طلبه بأساليب مختلفة. أما هذه المرة، فقد بقي في أرجوحته، وقد كتب عليه أن يتعفّن حياً في عرين القراصنة اللاهب ذاك. وعندما سمع التصفيق الأخير، رفع رأسه، وأخذ يتطلع من فوق ألواح السياج، ورأى الجانب الخلفي من المهزلة: الدعائم التي أُحضرت للمباني، جذوع الأشجار، والمخادعين المتوارين الذين يدفعون السفينة فوق المحيط. ثم بصق بإحساس مفعم بالحقد والازدراء.

وبعد أن ألقى كلمته، أخذ السيناتور كدأبه يجوب شوارع القرية وسط أنغام الموسيقى والأسهم النارية، وقد تحلّق حوله سكان القرية، الذين راحوا يبثون له شكاويهم ومشاكلهم. وكان السيناتور يصغي إليهم باهتمام وود شديدين ولم يكن يتورع عن مواساة كلّ فرد منهم، دون أن يقدم لأي منهم أي خدمات هامة. وتمكنت امرأة تقف على سطح أحد المنازل مع أطفالها الستة الصغار من أن تُسمعه صوتها وسط الضجيج وأصوات الأسهم النارية.

"إني لا أطلب الكثير، أيها السيناتور"، قالت"، "حمار واحد فقط لأتمكن من سحب الماء من بئر الرجل المشنوق".

لاحظ السيناتور الأطفال النحاف الستة وسألها: "ماذا حدث لزوجك؟"

"ذهب يبحث عن الثروة في جزيرة أروبا"، أجابت المرأة بروح دمثة، "وعثر على امرأة أجنبية، من النوع الذي يضع الماس في أسنانهن".

أحدث الجواب عاصفة من الضحك.

"حسناً، قرّر السيناتور، " ستحصلين على حمارك".

وما هي إلا لحظات، حتى أحضر أحد مساعديه حماراً مزوداً بسرج جيد إلى بيت المرأة، وقد دُوِّن على كفله شعار من شعارات الحملة الانتخابية بطلاء لا يمكن إزالته لكي لا ينسى أحد أبداً أنه هدية من السيناتور.

وعلى امتداد الشارع القصير، قام ببعض الأعمال الصغيرة الأخرى، بل وحتى قدم ملعقة دواء للرجل المريض الذي أمر بإخراج سريره ووضعه عند باب بيته كي يتمكن من رؤية السيناتور عندما يمرّ.

في الزاوية الأخيرة تلك، ومن خلال ألواح السياج، رأى نلسن فارينا وهو مستلق في أرجوحته، وقد بدا شاحباً وكئيباً، لكن ومع ذلك، حيّاه السيناتور دون أن يبدي له أية مشاعر بالمودّة.

"مرحباً، كيف حالك؟"

التفت نلسن فارينا من فوق أرجوحته ورمقه بنظرته المفعمة بالارتياب والغّل.

"أنا، كما تعرف"، قال.

خرجت ابنته إلى الباحة عندما سمعت التحية.

كانت ترتدي فستاناً هندياً رخيصاً من نوع غواجيرو، وكانت تزّين رأسها أقواس ملوّنة، وكانت قد دهنت وجهها بأصباغ لتقيه من أشعة الشمس. إلا أنه، حتى في وضعها السيئ ذاك، يستطيع المرء أن يتصور أنه لا توجد امرأة أخرى في جمالها على وجه البسيطة كلها. وقف السيناتور منقطع الأنفاس وقال بدهشة: "اللعنة. يفعل الله أكثر الأشياء جنوناً".

في تلك الليلة، جعل نلسن فارينا ابنته ترتدي أجمل ثيابها، وبعث بها إلى السيناتور. وطلب منها الحارسان المسلحان بالبنادق اللذان كانا يهزان رأسيهما من شدة الحرارة في البيت المستعار، أن تنتظر على الكرسي الوحيد في الردهة.

كان السيناتور يعقد في الغرفة المجاورة اجتماعاً مع أناس على قدر من الأهمية في روزال دل فالي، الذين كان قد جمعهم لينشد على مسامعهم الحقائق التي لم يكن قد ذكرها في خطابه، والذين كانوا يشبهون إلى درجة كبيرة جميع من كان يلتقي بهم في البلدات الصحراوية كلها. وكان قد بدأ يعتري السيناتور الملل ويشعر بالتعب من تلك الجلسات الليلية التي لم تكن تتوقف. كان قميصه مبللاً بالعرق، وكان يحاول أن يجففه على جسده من التيار الحار المنبعث من المروحة الكهربائية التي كانت تصدر طنيناً كطنين ذبابة الفرس في وسط الحرارة اللاهبة التي تغمر الغرفة.

قال: "بالطبع لا نستطيع أن نأكل طيوراً ورقية" ثم أضاف: "إنكم تعرفون، وأنا أعرف أن اليوم الذي ستنمو فيه الأشجار والأزهار في كومة روث العنزات هذه، وفي اليوم الذي سيحل سمك الشابل محل الديدان في برك الماء، عندها، لن يعود لكم، ولن يعود لي شيء هنا، هل تفهمون ما أقوله لكم؟"

لم يحر أحد جواباً. وفيما كان السيناتور يتكلم، مزّق صفحة من التقويم، وشكّل منها بيديه فراشة ورقية، ثم ألقاها نحو تيار الهواء المنبعث من المروحة، فراحت الفراشة تتطاير حول الغرفة، ثم خرجت وانسلت عبر شق الباب الموارب. وتابع السيناتور كلامه، بعد أن تمالك نفسه، يساعده في ذلك الموت المتواطئ معه.

وأضاف: "لذلك، لا يتعين عليّ أن أكرّر على أسماعكم ما تعرفونه جيداً: بأن انتخابي مرة أخرى هو لمصلحتكم أنتم أكثر مما هو لمصلحتي أنا، لأني سئمت المياه الراكدة وعرق الهنود، في الوقت الذي تكسبون فيه أنتم، أيها الناس، رزقكم منه".

رأت لورا فارينا الفراشة الورقية وهي تنسرب من باب الغرفة. رأتها فقط لأن الحارسين في البهو كانا يغطان في النوم وهما جالسين على الدرج، يعانق كل منهما بندقيته. وبعد أن دارت عدة دورات، انفتحت الفراشة المثنية بكاملها، وارتطمت بالحائط، والتصقت به. حاولت لورا فارينا أن تقتلعها بأظافرها. إلا أن أحد الحارسين، الذي استيقظ على صوت تصفيق منبعث من الغرفة المجاورة، لاحظ محاولتها العقيمة.

"لا يمكنك اقتلاعها"، قال بفتور، "إنها مرسومة على الحائط". عادت لورا فارينا وجلست عندما بدأ الرجال يخرجون من الاجتماع. وقف السيناتور عند مدخل الغرفة ويده على المزلاج. ولم يلحظ لورا فارينا إلا عندما أضحت الردهة خاوية.

"ماذا تفعلين هنا؟"

قالت: "لقد أرسلني أبي".

فهم السيناتور . أمعن النظر في الحارسين النائمين، ثم تمعّن في لورا فارينا، التي كان جمالها الفائق يفوق ألمه، وهنا عرف أن الموت هو الذي اتخذ قراره نيابة عنه.

"ادخلي" قال لها.

وقفت لورا فارينا والدهشة تعتريها عند مدخل الغرفة: كانت آلاف من الأوراق النقدية تتطاير في الهواء، تخفق كالفراشات. لكن السيناتور أطفأ المروحة، فتوقفت عن السباحة في الهواء وأخذت تتهاوى وتتساقط فوق قطع الأثاث في الغرفة.

"كما ترين"، قال مبتسماً، " حتى الخراء يمكن أن يطير".

جلست لورا فارينا على المقعد المدرسي. كانت بشرتها ناعمة ومشدودة، وبلون النفط الخام وكثافته، وكان شعرها مثل عرف فرس صغيرة، وكانت عيناها الواسعتان تمنحان بريقاً أكثر لمعاناً من وهج الضوء. وتبع السيناتور مسار نظرتها ووجد أخيراً الوردة التي تلوثت بنترات البوتاسيوم.

قال: "إنها وردة".

"نعم" قالت وفي صوتها نبرة ارتباك. "لقد شاهدتها عندما كنت في ريوهاتشا".

جلس السيناتور على السرير العسكري، وراح يتحدث عن الورود فيما بدأ يفك أزرار قميصه. وعلى الجانب الذي كان يخيّل إليه أن قلبه موجود فيه داخل صدره، كان قد رُسم وشم في شكل قلب يخترقه سهم. ألقى القميص المبلل على الأرض وطلب من لورا فارينا أن تساعده في خلع حذائه الطويل.

جثت أمام السرير. لم يبعد السيناتور عينيه عنها وهو يتمعن فيها بدقّة، وفيما كانت تفكّ رباط حذائه، كان يتساءل من منهما سيكون سيء الحظ من لقائهما هذا.

قال: "إنك مجرد طفلة".

قالت: "قد لا تصدق. سأبلغ التاسعة عشرة من عمري في شهر نيسان القادم". أبدى السيناتور مزيداً من الاهتمام.

"في أيّ يوم؟"

قالت: "في اليوم الحادي عشر".

أحس السيناتور بأنه أصبح أفضل حالاً، ثم قال: " ننتمي كلانا إلى برج الحمل"، ثم أضاف مبتسماً:

"إنه برج العزلة".

لم تكن لورا فارينا تبدي اهتماماً بما كان يقوله لأنها لم تكن تعرف ماذا تفعل بالحذاء. أما السيناتور، فلم يكن يعرف ماذا يفعل بلورا فارينا، لأنه لم يكن قد اعتاد مثل علاقات الحبّ المفاجئة هذه، كما أنه كان يعرف أن أصل هذه العلاقة يعود إلى الذل والمهانة. ولكي يتاح له قليل من الوقت للتفكير، أمسك لورا فارينا بإحكام بين ركبتيه، وضمها حول خصرها، واستلقى على ظهره فوق السرير. ثم أدرك أنها كانت عارية تحت ثيابها، بعد أن انبعثت من جسدها رائحة قوية من عطر حيوان الغابة، لكن قلبها كان واجفاً، وكسا جلدها عرق جليدي.

"لا أحد يحبّنا"، قال متنهداً.

حاولت لورا فارينا أن تقول شيئاً، لكن لم يكن لديها من الهواء سوى قدر يكفيها كي تتنفس. جعلها تستلقي بجانبه ليساعدها، وأطفأ الضوء وأصبحت الغرفة في ظلّ الوردة. استسلمت إلى رحمة قدرها. وراح السيناتور يداعبها ببطء، يسعى إليها بيده، يلمسها لمساً خفيفاً، لكنه صادف شيئاً حديدياً يعوق طريقه في البقعة التي كان يسعى إليها.

"ماذا تضعين هناك؟"

قالت: "قفل".

"لماذا بحق السماء!" قال السيناتور غاضباً وسأل عن الشيء الذي يعرفه جيداً. "أين المفتاح؟"

تنفست لورا فارينا الصعداء.

أجابت: "إنه موجود عند أبي"، وأضافت: "لقد طلب مني أن أخبرك بأن ترسل أحداً من رجالك للحصول عليه، وأن ترسل معه وعداً خطياً بأنك ستحلّ مشكلته".

ازداد السيناتور توتراً. ودمدم ساخطاً: "يا له من ضفدع ابن زنى". ثم أغمض عينيه ليسترخي وألقى بنفسه في الظلام. تذكّر، تذكّر، سواء كنت أنت أو شخصاً آخر، فلن تمضي في هذه الحياة فترة طويلة وستموت حتى لن يبقى أحد يلهج باسمك.

انتظر حتى تلاشت القشعريرة التي اعترته.

سألها: "قولي لي شيئاً واحداً: ماذا سمعت عني؟"

"هل تريد أن أقول الحق؟"

"الحق".

قالت لورا فارينا: "حسناً، إنهم يقولون إنك أسوأ من الآخرين لأنك مختلف".

لم ينزعج السيناتور. لاذ بالصمت لفترة طويلة وهو مغمض العينين. وعندما فتحهما ثانية، بدا أنه أفاق من أكثر غرائزه المثيرة للخوف.

ثم قرّر: "أوه، بحقّ السماء، قولي لأبيك ابن العاهرة بأنني سأحلّ مشكلته".

"إذا أردت، يمكنني أن أذهب وأجلب المفتاح بنفسي"، قالت لورا فارينا، لكن السيناتور أوقفها.

قال: "انسِ أمر المفتاح، ونامي قليلاً معي. جميل أن يكون بصحبة المرء أحد عندما يكون وحيداً تماماً".

ثم وضعت رأسه على كتفها، وعيناها مثبتتان على الوردة. طوّق السيناتور خصرها بذراعيه، ودفن وجهه في إبطها الذي تفوح منه رائحة حيوان الغابة، واستسلم للرعب. وبعد ستة أشهر وأحد عشر يوماً مات وهو في تلك الوضعية ذاتها، مُحتقراً ومُهاناً بسبب الفضيحة التي شاعت بأنه كان مع لورا فارينا وكان يبكي بحرقة لأنه مات بدونها.




غابريل ماركيز - قصص قصيرة - ابن نجد - 02-09-2007

[CENTER]بائعة الورد[/CENTER]



تحسست مينا طريقها في عتمة الفجر, و لبست ثوبها القصير الأكمام الذي كانت قد علقته في الليلة الماضية قرب الفراش, و جعلت تفتش في الصندوق الكبير عن الكمين المنفصلين الذين يكسوان الذراعين امتثالاً للواجب قبل الذهاب إلى الكنيسة ... ثم بحثت عنهما فوق المسامير المعلقة على الحائط و خلف الأبواب, حريصة في كل ذلك ألا تحدث أقل جلبة لكيلا توقظ جدتهما العمياء, التي كانت نائمة في نفس الغرفة ... و لكن ما أن اعتادت عيناها العتمة, حتى لاحظت أن جدتها قد نهضت من الفراش, فذهبت إليها في المطبخ لكي تسألها عن الكمين .. فقالت الجدة العمياء :
- هما في الحمام .. إنني غسلتهما أمس بعض الظهر ..
و فعلاً وجدتهما في المطبخ, معلقين من سلك ممدود بمشبكين .. و لكنهما كانا لا يزالان مبتلين .. فعادت مينا بهما إلى المطبخ و بسطتهما فوق أحجار الموقد .. و كانت الجدة العمياء تقلب القهوة و قد سمرت حدقتي عينيها الجامدتين على جدار الشرفة التي رصت فيها أصص الزهور مليئة بأعشاب طيبة ..
قالت لها مينا : لا تأخذي أشيائي مرة ثانية .. لا يمكنك هذه الأيام أن تتأكدي من طلوع الشمس ..
حركت المرأة العمياء وجهها نحو الصوت و قالت :
- إنني نسيت أن هذا يوم الجمعة الأول من أسبوع الفصح, موعد القداس ..
و بعد أن تأكدت الجدة بنفس قوي من فمها أن القهوة نضجت, رفعت الإناء عن الموقد, ثم قالت :
- ضعي قطعة من الورق تحت الكمين, لأن أحجار الموقد متسخة .
أجرت مينا أصابعها على أحجار الموقد .. فوجدها متسخة فعلاً, و لكن بطبقة من السناج المتحجر الذي لا يمكن أن يلوث الكمين إذا لم يحتكا بالأحجار .. على أنها قالت لجدتها :
- إذا اتسختا فستكونين أنت المسؤولة !..
و ما لبثت الجدة العمياء أن صبت لنفسها قدحاً من القهوة, و قالت و هي تجذب مقعداً شطر الشرفة :
- أنت غاضبة .. و من المحرم أن يذهب الانسان للقداس و هو غاضب ...
و جلست لشرب القهوة عن كثب من الزهور في الحوش .. و عندما انبعث رنين دقات الناقوس الأولى إيذاناً بموعد القداس رفعت مينا الكمين عن الموقد, فكانا لا يزالان مبتلين .. بيد أنها لبستهما .. فإن القس لا يرضى دخول أحد إلى الكنيسة بثوب عاري الذراعين .. ثم مسحت آثار الأحمر من وجهها بمنشفة, و أخذت كتاب الصلاة و الشال من غرفتها, و خرجت للشارع ...
و بعد ربع ساعة عادت أدراجها ...
فقالت الجدة العمياء و هي جالسة في مواجهة الزهور في الحوش :
- سوف تصلين إلى هناك بعد القراءة الأولى ..
أما مينا فقالت و هي تتجه إلى دورة المياه :
- لن أتمكن من الذهاب إلى القداس اليوم .. الأكمام مبتلة, و الثوب كله " مكركش " ..
و على الأثر شعرت بعينين فاهمتين تتبعانها ..
و ما لبثت العجوز أن هتفت : يوم الجمعة الأول و لا تذهبين للقداس !..
و لما عادت مينا من دورة المياه صبت لنفسها قدحاً من القهوة و جلست في المدخل المطلي بالمصيص الأبيض عن قرب من العجوز العمياء .. بيد أنها لم تستطع أن تشرب القهوة .. و غمغمت في سخط كامن و هي تشعر بأنها توشك على الغرق في دموعها الحبيسة :
- أنت السبب !..
فهتفت العجوز العمياء : أنت تبكين !..
و أضافت و هي تمر قرب جدتها بعد أن وضعت قدح القهوة على الأرضية : يجب أن تذهبي للاعتراف لأنك جعلتني أضيع قداس يوم الجمعة الأول !..
أما الجدة العجوز فقد لزمت مكانها جامدة تنتظر أن تغلق باب غرفة النوم .. و ما لبثت أن اتجهت إلى آخر الشرفة ثم انحنت تتحسس حتى عثرت على قدح القهوة على الأرض غير مشروب .. فقالت و هي تسكب القهوة في الإناء الخزفي :
- الله يعلم أن ضميري مستريح ..
و في هذه اللحظة خرجت أم مينا من غرفة النوم, و قالت للعجوز :
- مع من تتكلمين ؟..
فأجابت : مع نفسي !.. قلت لك قبل الآن انني في طريقي إلى الجنون !..
و عندما احتجبت مينا في غرفتها فكت أزرار " المشد " و أخرجت ثلاثة مفاتيح صغيرة معلقة في مشبك .. ففتحت بأحدها الدرج السفلي في " التواليت " و أجرت منه علبة متوسطة فتحتها بمفتاح آخر .. و من داخلها أخرجت مجموعة خطابات مكتوبة على ورق ملون و مربوطة بحزام من المطاط .. فأخفت الخطابات داخل مشدها ثم أعادت العلبة إلى مكانها و أغلقت الدرج .. و أخيراً ذهبت إلى دورة المياه و ألقت بالرسائل في المرحاض ..
و لما رجعت مينا إلى المطبخ قالت لها أمها :
- حسبتك في الكنيسة ..
فتولت الجدة العمياء الرد قائلة : لم تتمكن من الذهاب .. أنا نسيت أن هذا يوم الجمعة الأول, و غسلت الأكمام بعد ظهر أمس ..
فغمغمت مينا : انها لا تزال مبتلة ..
فقالت العجوز العمياء : انني أقوم بأعمال كثيرة هذه الأيام ..
و قالت مينا : و أنا مطالبة بتسليم مائة و خمسين " دستة " ورد لمناسبة عيد الفصح ..
و لم تلبث حرارة الشمس أن تزايدت مبكراً .. و قبل الساعة السابعة كانت مينا قد أعدت " مشغل الورد الصناعي " في غرفة المعيشة : سلة مليئة بأوراق الورد, و لفافة سلك, و علبة من ورق الكريب, و مقصان, و بكرة خيط, و إناء به غراء.. و بعد برهة جاءت ترينيداد التلميذة المترهبة في الكنيسة تحمل علبة كرتون تحت إبطها, و سألتها على الفور لم لمْ تذهب لحضور القداس .. فأجابت مينا :
- لم تكن الأكمام جاهزة ..
فقالت ترينيداد : كان يمكن استعارة كمين من أي أحد ..
و جذبت كرسياً و جلست قرب سلة أوراق الورد .. فقالت مينا :
- وجدتني متأخرة كثيراً ..
و فرغت من صنع وردة .. فوضعت ترينيداد علبة الكرتون على الأرض و اشتركت في العمل .. فنظرت مينا إلى العلبة قائلة :
- هل اشتريتِ حذاءً جديداً ؟
فأجابت ترينيداد : هي فئران ميتة ..
و لما كانت ترينيداد ماهرة في تركيب أوراق الورد, فقد تفرغت مينا لعمل سيقان من السلك مغلفة بورق أخضر .. و ظلت كلتاهما تعمل في صمت دون أن تلاحظا تقدم الشمس في غرفة المعيشة, التي كانت مزخرفة بصور تزينية و عائلية .. و عندما تفرغت مينا من صنع السيقان تحولت إلى ترينيداد بنظرة تفيض أسى, فكفت هذه عن العمل و قالت لها :
- ماذا جرى ؟
فمالت مينا نحوها و قالت : إنه رحل !..
فألقت ترينيداد المقص في حجرها قائلة : لا ... لا تقولي هذا !؟؟
فكررت مينا كلماتها قائلة : إنه رحل !..
فحدقت ترينيداد فيها طويلاً, و قالت مقطبة : و الآن ؟..
فأجابت مينا بصوت ثابت : الآن لا شيء ..
و قبيل الساعة العاشرة تأهبت ترينيداد للانصراف, فاستمهلتها مينا لكي تلقي الفئران في المرحاض, و في طريقها مرت بالعجوز العمياء التي كانت تستقي الزهور في الأصص, فقالت لها مينا :
- أراهن أنك لن تعرفي ما بداخل هذه العلبة ..
و هزت العلبة بالفئران ... فأرهفت العجوز حواسها, قائلة :
- هزيها مرة ثانية ...
فكررت مينا العملية, بيد أن العجوز لم تستطع أن تتعرف على ما بداخل العلبة رغم هزها مرة ثالثة, فقالت مينا :
- هي الفئران التي وقعت في المصيدة في الكنيسة الليلة الفائتة .

و عندما عادت أدراجها مرت بجانب الجدة العمياء دون أن تكلمها .. بيد أن العجوز تبعتها إلى غرفة المعيشة لكي تستكمل مينا عملية الورد الصناعي, و قالت لها :
- يا مينا .. إذا أردت أن تكوني سعيدة, فلا تعترفي بشيء لشخص غريب عنك ..
تطلعت إليها مينا دون أن تتكلم .. فجلست الجدة العجوز في المقعد المواجه لها محاولة أن تساعدها في العمل . بيد أن مينا استوقفتها ..
فقالت الجدة العمياء : أنت عصبية .. لماذا لم تذهبي إلى القداس ؟..
- أنت تعرفين السبب أكثر من غيرك ..
فقالت العجوز العمياء : لو كان السبب الأكمام, لما فكرت في الخروج من البيت .. هناك شخص كان ينتظرك في الطريق, و هو الذي سبب لك الشعور بخيبة الأمل ..
مرت مينا بيديها أمام عيني جدتها, كأنما تمسح لوحاً غير مرئي من الزجاج, و قالت :
- أنت ساحرة !..
فقالت المرأة العمياء : إنك ذهبت إلى دورة المياه مرتين هذا الصباح .. و أنت لا تذهبين دائماً أكثر من مرة ..
استمرت مينا في استكمال الورد الصناعي, بينما عادت العجوز تقول :
- هل تجسرين على أن تريني ما تخفينه في درج "التواليت" ؟..
فتركت مينا الوردة التي بيدها متمهلة و أخرجت المفاتيح الثلاثة الصغيرة من مشدها و وضعتها في يد العجوز قائلة :
- اذهبي و انظري بعينيك ...
فجعلت العجوز تفحص المفاتيح بأناملها, و قالت :
- إن عيني لا يمكنها الرؤية في قاع المرحاض !..
رفعت مينا رأسها, و عندئذ اعتراها إحساس مختلف .. فقد شعرت أن الجدة العمياء عرفت انها تتطلع إليها .. و لهذا قالت لها :
- انزلي في المرحاض إذا كان ما افعله يهمك إلى هذه الدرجة !..
تجاهلت الجدة العجوز هذا الرد اللاذع, و قالت :
- أنت دائماً تجلسين في الفراش و تكتبين حتى الصباح المبكر ..
فقالت مينا : أنت نفسك تطفئين النور قبل النوم ..
فعاجلتها العمياء قائلة : و في الحال تنيرين أنت بطاريتك .. و بإمكاني أن أعرف أنك تكتبين, من صوت انفاسك
بذلت مينا جهداً للاحتفاظ بهدوئها, و قالت دون أن ترفع رأسها :
- جميل .. و لنفرض أن هذا هو ما يحدث, فما هو الغريب في ذلك ؟..
فردت العجوز قائلة : لا شيء .. إلا أن هذا أضاع منك حضور قداس يوم الجمعة الأول ..
و عند هذا الحد حملت مينا بكلتي يديها بكرة الخيط و المقصين و كومة من الورود التي لم تتم, و ألقت بها جميعاً في السلة, ثم واجهت الجدة العمياء قائلة :
- هل تحبين أن أقول لك ماالذي ذهبت لكي أفعله في المرحاض ؟
و ظلت الإثنتان متحفزتين إلى أن تولت مينا الرد بنفسها, قائلة :
- ذهبت لكي آتي ببعض المخلفات !..
و عندئذ طوحت الجدة العمياء بالمفاتيح الصغيرة في السلة, و غمغمت قائلة و هي تتجه إلى المطبخ :
- كان يمكن أن يكون سبباً لا بأس به, و كان يمكن أن تقنعيني لولا أنها المرة الأولى في حياتك التي سمعتك فيها تشتمين !..
و في هذه اللحظة كانت أم مينا آتية في الممشى من الناحية المقابلة محتضنة كومة من الورود الشائكة , و قالت :
- ماذا جرى ؟..
فتولت الجدة العمياء الرد قائلة :
- إنني جننت .. لكن الظاهر أنكم لا تفكرون في إرسالي إلى مستشفى المجانين طالما لا أرمي أحداً بالحجارة .


غابريل ماركيز - قصص قصيرة - ابن نجد - 02-09-2007

[CENTER]في يوم من الإيام [/CENTER]



فجر الاثنين ، دافئ وغير ممطر. أوريليو أسكوفار، طبيب أسنان من دون شهادة، مبكر جدا في النهوض، فتح عيادته عند الساعة السادسة. تناول بضعة أسنان اصطناعية، مازالت موضوعة في قوالبها الكلسية، من علبة زجاجية ، ووضع مجموعة من الأدوات على الطاولة مرتبا إياها حسب حجمها كما لو كان يجهزها للعرض. كان يرتدي قميصا عديم الياقة مغلقا عند العنق بزر ذهبي، وبنطلونا بحمالات. وكان منتصب القامة، نحيفا، قلما ينسجم مظهره مع الموقف، تماما كما هي حالة الأصم.

عندما انتهى من ترتيب العدة على الطاولة، سحب المثقاب ناحية كرسي المعالجة وجلس ليباشر في صقل الأسنان الاصطناعية. وكان يبدو شارد الذهن، لا يفكر في تفاصيل العمل الذي يؤديه بدقة وثبات متواصلين، وكانت قدمه تظل تضغط على عتلة المثقاب حتى عندما تنتفي حاجته إلى الآلة.

بعد الثامنة توقف لبرهة كي ينظر إلى السماء من خلال النافذة فرأى صقرين منشغلين في تجفيف نفسيهما تحت الشمس على سقيفة البيت المجاور. عاد إلى عمله وهو يقول لنفسه بأن المطر سيسقط قبل موعد الغداء. صوت ابنه الحاد والمفاجئ شتت تركيزه

- بابا.

- ماذا ؟

- العمدة يريد أن يعرف إذا كنت ستخلع له ضرسه.

- قل له بأنني غير موجود.

كان منشغلا بصقل سن ذهبية. حملها أمامه وراح يتفحصها بعينين نصف مغلقتين. عاد ابنه ذو الأحد عشر عاما يصرخ مجددا من غرفة الانتظار.

- يقول بأنك موجود، وأيضا لأنه يستطيع أن يسمعك.

ظل الطبيب منشغلا بتفحص السن. وعندما أنجز عمله واخذ السن شكله النهائي وضعه على الطاولة وقال:

_ هذا أفضل.

شَغَّل المثقاب ثانية، وأخذ بضعة قطع تركيب من علبة كارتونية حيث يحتفظ بالأشياء التي تحتاج إلى انجاز، وباشر بعملية التعديل والصقل.

- بابا.

أجابه مستخدما نفس التعبير

- ماذا؟

- يقول بأنك إذا لم تخلع له سنه فسوف يطلق النار عليك.

دون تعجل، وبحركة شديدة الهدوء أوقف المثقاب، دفعه بعيدا عن الكرسي، وسحب الدرج السفلي للطاولة، وكان هنالك مسدس. قال:

- حسنا، قل له أن يأتي ويطلق النار علي.

دفع الكرسي بمواجهة الباب، وكانت يده تستقر على حافة الدرج. ظهر العمدة عند الباب. كان قد حلق الجانب الأيسر من وجهه، لكن الجانب الآخر كان متورما وبلحية لم تحلق منذ خمسة أيام. رأى الطبيب في عينيه ليالي من التوجع والأرق، فأغلق الدرج بأطراف أصابعه وقال برفق:

- اجلس.

- صباح الخير.

أجابه الطبيب:

- صباح الخير.

وبينما انشغل الطبيب بتسخين أدواته، أسند العمدة رأسه على مسند الكرسي الخلفي فشعر بشيء من الارتياح. كانت أنفاسه تطلق بخارا في الهواء. كانت عيادة بائسة: كرسي خشبي قديم، مثقاب يعمل بدواسة، وعلبة زجاجية تحوي قناني السيراميك. في المواجهة للكرسي نافذة تغطيها ستارة من القماش. عندما شعر العمدة باقتراب الطبيب شبك ساقيه وفتح فمه.

أدار أسكوفار رأس العمدة باتجاه الضوء. وبعد أن تفحص السن الملتهبة، أغلق فك العمدة بحركة حذرة، ثم قال:

- سأقلعه ولكن من دون مخدر.

- لماذا؟

- لأنه لديك خرّاج.

نظر العمدة في عيني الطبيب. قال أخيرا وهو يحاول أن يتبسم.

- حسناً.

ولم يرد الطبيب على ابتسامته. جلب إناء الأدوات المعقمة إلى الطاولة وراح يخرجها من الماء المغلي بملقط صغير بارد، دون أن يبدو عليه بأنه في عجلة من أمره. دفع المبصقة بطرف حذائه، وذهب ليغسل يديه في المغسلة. قام بكل ذلك دون أن ينظر إلى العمدة، لكن العمدة لم يرفع عينيه عنه.

كان سن عقل سفلي. فتح الطبيب قدميه وأمسك بالسن بالكلاّب الساخن. تشبث العمدة بذراعي الكرسي، واضعا كل قوته في قدميه. شعر عندها بفجوة باردة في كليتيه، لكنه لم يصدر صوتا. حرك الطبيب رسغه فقط. ومن دون حقد، وبرقة لاذعة قال:

- الآن ستدفع لموتانا العشرون.

شعر العمدة بانسحاق العظام في فكه، وامتلأت عيناه بالدموع. لكنه لم يتنفس حتى أدرك بأن السن قد أقتلع، ثم رآه من خلال دموعه. في تلك اللحظة كان عاجزا تماما عن فهم عذاب الليالي الخمس الفائتة.

انحنى على المبصقة، لاهثا يتصبب منه العرق. فتح أزرار سترته الضيقة ومد يدا الى جيب بنطلونه ليخرج المنديل. ناوله الطبيب قطعة قماش نظيفة. قال له:

- جفف دموعك.


كان العمدة يرتعش وهو يجفف دموعه. وأثناء انشغاله بغسل يديه، رأى أسكوفار السقف المتداعي وشبكة العنكبوت المغبرة وبيض العنكبوت والحشرات الميتة. عاد الطبيب وهو يجفف يديه. قال للعمدة:

- خذ غرغرة ماء بالملح، ثم اذهب إلى الفراش .

نهض العمدة واقفا. أدى تحية وداع عسكرية ثم تحرك باتجاه الباب وهو يدفع ساقيه، ودون أن يغلق أزرار سترته الضيقة. قال:

- ابعث بالفاتورة.

- لمن ؟ لك أم للبلدة ؟

لم ينظر إليه العمدة. أغلق الباب وراءه وهو يقول:

- لا فرق.



غابريل ماركيز - قصص قصيرة - ابن نجد - 02-09-2007

[CENTER]عينا كلبٍ أزرق[/CENTER]




ثمَّ ، نظرتْ إليّ . في البداية اعتقدتُ أنها تراني للمرة الأولى ، لكنها عندما استدارت خلف الموقد ، و بقيتُ أشعر بنظرتها المراوغة تنزلق على ظهري ، و تعبر فوق كتفي ، عندها أدركتُ أنني من يراها للمرة الأولى. أشعلتُ سيجاراً ، و سحبتُ نفساً عميقاً و قوياً من الدخان قبل أن أدير المقعد لأجعله يتزن على ساق خلفية واحدة. وبعدها أصبح بإمكاني مشاهدتها حقاً ، كما كانت تقف بجانب الموقد و ترمقني ، كل ليلة. لدقائق وجيزة كان ذلك كلّ ما فعلناه : تبادل النظرات. أنا رمقتُها من مقعدي المتزّن على ساق خلفية واحدة ، فيما هي واقفة ويدها الطويلة الساكنة فوق الموقد ، ترمقني بدورها . شاهدت الألق الذي انفرج عنه جفناها ، كما في كل ليلة ؛ فتذكرتُ عادتي في أن أقول لها : ( عينا كلبٍ أزرق ). وبدون أن ترفع يدها عن الموقد قالت: ( تلك العبارة، لن ننساها أبداً. ) . ثم غادرت مكانها و تابعت متنهدة : ( عينا كلبٍ أزرق. لقد كتبتُها في كل مكان.)

راقبتها تسير متجهة إلى منضدة التزين، وشاهدتُ صورتها تظهر في المرآة المستديرة ترمقني كلما طالني شيء من الضوء. مستمرة في مراقبتي بعينيها البراقتين كجمر ، بدأتْ بفتح العلبة الصغيرة المغطاة بنسيج وردي ذو لآلئ ، ثم رشتْ المسحوق على أنفها ، كل هذا و أنا أراقب. حين انتهتْ أغلقت العلبة و انتصبتْ معاودة السير نحو الموقد ، قالت : ( أخشى أنَّ أحدهم يحلم بهذه الغرفة ويستكشف أسراري.) ، ومدت ذات اليد الطويلة المرتجفة فوق الوهج ، تلك التي كانت تعمل على تدفئتها قبل الجلوس للمرآة. قالت : ( أنت لا تشعر بالبرد. ) فأجبت : ( أحياناً ). وعادت تقول : ( يجب أن تكون تشعر به الآن ). وعندها أدركتُ لِمَ لمْ يمكنني البقاء وحيداً على الكنبة ؛ لقد كان البرد هو الباعث على شعوري بالوحدة. قلت : ( الآن أشعر به.) ثم استطردتُ : ( وهذا غريب لأن الليل صافٍ ، ربما سقطت الملاءة). لكنها لم تحر جواباً. مرة أخرى أراها تغادر مكانها لتتجه إلى المرآة ، فأدير المقعد لأبقي على ظهري مواجهاً لها. و بدون النظر إليها ، عرفتُ ما كانت تقوم به. عرفتُ أنها جلست أمام المرآة مرة أخرى ، تراقب ظهري الذي حظي بالوقت ليصل إلى أعماق مرآتها ، ويُقبض عليه من قِبل نظراتها ، تلك التي بدورها حظيت بالوقت لتصل إلى الأعماق و ترجع – كل هذا قبل أن تبدأ اليد دورتها الثانية – حتى أصبحت شفتاها مرسومة بالقرمزي في دورة واحدة من يدها ، وهي جالسة أمام المرأة.
في مقابلي ، كنت أتطلع الى الجدار الاملس ، الذي بدا كمرآة عمياء لا يمكنني عبرها النظر إلى تلك الجالسة خلفي ، ولكن بوسعي تخيلها كما لو كانت هناك مرآة معلقة على الحائط تنقل إليّ صورتها ، و قلت ( أنا أراكِ ) . و على الجدار أمكنني أن أراها فعلاً ، كما لو رفعت عينيها إلى المرآة وشاهدتني بظهري المقابل لها على المقعد ، و في عمق المرآة ، وجهي المصوب باتجاه الحائط. ثم شاهدتُها تخفض عينيها ، دون أن تنطق بكلمة. قلت لها مرة أخرى ( أنا أراكِ ). فرفعت عينيها ثانية وقالت: ( هذا مستحيل. ) سألتها عن السبب الذي يجعله مستحيلاً ، و بعيون هادئة و منخفضة أجابت : ( لأن وجهك بإتجاه الحائط ). عندها أدرتُ المقعد ، قابضاً على السيجار في فمي . وحين بقيتُ مواجهاً لها عادتْ إلى مكانها خلف الموقد . هاهي ترفع كفيها فوق الموقد، كما ترفع دجاجة جناحيها ، تدفيء نفسها ، بينما ظلال أصابعها تغطي وجهها ، و قالت : ( أعتقد أني على وشك الإصابة بالبرد. لابد أن تكون هذه مدينة الصقيع. ) أدارت وجهها جانباً ، فتحولت بشرتها من النحاسية إلى الحمراء ، و فجأة بدت حزينة. قالت : ( افعل شيئاً بهذا الصدد.) و بدأت بخلع ملابسها. قلت : ( سأدير وجهي للحائط ) لكنها قاطعتني : ( لا جدوى ، سيمكنك رؤيتي على أية حال ، كما فعلت قبلاً.)
الوهج ينزلق على بشرتها النحاسية فيجعلها تلمع ، قلت لها : ( لطالما أردتُ رؤيتك هكذا ، و بطنك المكسوة بالحفر كما لو تم ضربك.) و قبل أن أدرك كم كانت كلماتي غبية و غير لبقة ، كانت هي قد أصبحت عديمة الحس بماحولها ، مشغولة بتدفئة نفسها قرب الموقد. قالت : ( أحياناً أشعر أني مصنوعة من معدن.) ، و صمتت فيما تحرك كفيها بخفة فوق اللهب. قلت : ( أحياناً ، في أحلام أخرى ، اعتقدتُكِ مجرد تمثال برونزي صغير مقام في زاوية أحد المتاحف ؛ ربما لهذا أنتِ باردة.)
- ( في بعض الأوقات ، عندما أنام على قلبي ، أستطيع أن أشعر بالفراغ يكبر في جسدي ، بشرتي تصبح رقيقة كصفيحة معدن ، ثم عندما يزداد تدفق الدم ، أشعر بالقرع في داخلي. كما لو أن شخصاً يناديني بالطرق على معدتي ، يصبح حتى بوسعي سماع صوت النحاس خاصتي في الفراش، يبدو مثل – ماذا يسمونه ؟ - المعدن المصفح.)
ثم سكتت و اقتربتْ أكثر من الموقد . قلتُ لها : ( أحبُّ أن أسمعكِ).
- ( اذا استطعنا العثور على بعضنا يوماً ، ضع أذنك على أضلعي عندما أنام على جانبي الأيسر ، و ستسمعني أقرع. لطالما أردتكُ أن تفعلها يوماً.)

سمعتُها تلهث بقوة فيما تتحدث. قالت أنها لسنوات لم تفعل شيئاً مختلفا ً؛ وهبتْ عمرها للبحث عني في أرض الواقع. ودليلها الوحيد إليّ كان تلك العبارة : ( عينا كلبٍ أزرق ). سارت عبر الشارع و صرخت عالياً بها ، أرادت أن تخبر ذلك الشخص الوحيد القادر على الفهم : ( أنا الشخص الذي يزورك في أحلامك كل ليلة ، ليقول لك : عينا كلبٍ أزرق ). كانت تذهب إلى المطاعم ، و قبل أن تطلب شيئاً تقول للنادل : ( عينا كلبٍ أزرق ) لكن الندل جميعهم كانوا ينحنون مجاملين باحترام ، دون أن يتذكر أحدهم أنه قال تلك العبارة في أحلامه قط. بعدها لجأتْ إلى الكتابة على الشراشف أو الحفر بسكين على أسطح الطاولات المصقولة : ( عينا كلبٍ أزرق ) . و على النوافذ المتشحة بالضباب جميعها ، نوافذ الفنادق ، و المحطات ، و جميع المباني الحكومية ، خطتها بسبابتها : ( عينا كلبٍ أزرق ).
قالت أنها ذات مرة دخلت محل صيدلة ، شمّت هناك ذات الرائحة التي شمتها مرّة في غرفتها ، بعد أن حلمتْ بي ، ذات ليلة. قالت لنفسها : ( لابد أنه قريب ) و بعد أن تفحصت القرميد الجديد النظيف اتجهت للصيدلي و قالت : ( أحلمُ كل ليلة برجلٍ يقول لي : عينا كلبٍ أزرق. ) يومها حدق الصيدلي بعينيها ثم قال : ( بالواقع يا آنستي ، إن لك عيوناً كتلك بالفعل.). قالت له : ( عليّ أن أعثر على الرجل الذي قال لي هذه الكلمات حرفياً ، في أحلامي.) لكن الصيدلي بدأ بالضحك ثم اتجه للزاوية البعيدة من منضدة العرض. بقيتْ ترمق القرميد النظيف و تشم تلك الرائحة المميزة ، ثم فتحت حقيبتها و أخرجت حمرة شفاهها القرمزية و كتبت بحروف مُحمرّة : ( عينا كلبٍ أزرق.). و حين عاد الصيدلي قال لها : ( سيدتي ، لقد لوثتِ القرميد.) ثم أعطاها قطعة قماش رطبة مستطرداً : ( نظّفيها الآن).
و تابعت الحديث من موقعها بجوار الموقد ، لتقول أنها أمضت طوال فترة ما بعد الظهر جاثية على أربع ، تنظف القرميد و تردد دون انقطاع : ( عينا كلبٍ أزرق.) حتى تجمع الناس عند الباب و قالوا أنها مجنونة.

و الآن بعد أن توقفتْ عن الكلام ، كنتُ ما أزال جالساً في الزاوية ، أتأرجح فوق المقعد. قلت لها : ( في كل يوم أحاول تذكر العبارة التي ستقودني اليكِ ، و الآن أعتقد أني لن أنساها. لكني لم أفتأ أبيّت النية ذاتها ، و عندما أستيقظ أكون قد نسيت الكلمات التي تمكنني من العثور عليكِ ).
- (أنتَ من ابتكرها في اليوم الأول).
- ( لقد ابتكرتُها لأني شاهدت عيناكِ الرماديتين ، لكن لم يكن بوسعي أبداً التذكر في الصباح التالي).
بقبضة مطبقة مرفوعة فوق الوهج ، تنهدتْ بعمق ، وقالت : ( لو أن بوسعك على الأقل أن تذكر الآن اسم المدينة التي كتبتُ بها تلك العبارات. )
أسنانها المتراصة المنتظمة تعكس وميض اللهب ؛ قلت لها : ( أودُّ لو ألمسكِ الآن.)
رفعتْ وجهها الذي كان مسلّطاً على الموقد ، رفعتْ أنظارها الملتهبة ، الدافئة في الآن ذاته ، تماماً مثلها و مثل يديها ، و شعرتُ بها ترمقني ، في الزاوية حيث أجلس متأرجحاً فوق المقعد. نطقت : ( لم تخبرني بهذا قبلاً)
- ( أنا أقولها لكِ الآن ، و هي الحقيقة. )
و من الجهة الآخرى خلف الموقد ، طلبَتْ سيجاراً. عندها شعرتُ بسيجاري الذي توارى بين أصابعي ؛ كنتُ قد نسيت أني أدخنُ واحداً. قالت : ( لا أدري لم لا يمكنني التذكر .. أين كتبتُها تلك العبارات)
- ( للسبب نفسه ، غداً لن يكون بوسعي تذكر الكلمات)
و بحزن قالت : ( لا . أحياناً أفكر أني ربما أكون قد حلمتُ بتلك الكتابة أيضاً.)

وقفتُ ، وسرت باتجاه الموقد ، حيث تجلس هي خلفه ، حاملاً السيجار و عود الثقاب في يدي ، التي لن يكون بوسعها الوصول الى ما خلف الموقد . مددتُ لها السيجار فوق الموقد فالتقطته بشفتاها ، ثم مالت على اللهب قبل أن يتاح لي الفرصة لإشعال عود ثقاب. قلت لها : ( في مدينة ما في العالم ، على كل الجدران ، لابد أن تلك الكلمات مكتوبة : عينا كلبٍ أزرق. و اذا تذكرتُها في الصباح فسيكون بإمكاني العثور عليكِ.) . رفعت وجهها ثانية عن الموقد ، بسيجار مشتعل بين شفتيها. همستْ : ( عينا كلبٍ أزرق) ، و بدأت تسترجع الذكرى فيما تذر الرماد ، و عينها نصف مفتوحة. نفثت الدخان ، قبضت على السيجار بين أصابعها و استطردت : ( شيءٌ قد اختلف الآن . بدأتُ أشعر بالدفء.) قالتها بصوتٍ فاتر و سريع ، كما لو أنها لم تقلها حقاً. كما لو أنها كتبتها على قطعة ورق و قربتها من النور فيما أقرأ : ( بدأتُ اشعر بالدفء) ممسكة اياها بسبابتها وابهامها ، قبل أن تبدأ بلفها وإتلافها ، و فيما أنا بالكاد أكمل القراءة ( .. دفء) كانت قد صيرتها كرة و ألقتها إلى النار ، لتصير خيوطاً من رمادٍ و وهج.
قلتُ لها : (هكذا أفضل. أحياناً يُشعرني مرآكِ ترتجفين بجوار اللهب ، بالخوف).

كانت قد مرت سنين طوال علينا و نحن مستمرين في رؤية بعضنا . في بعض الأوقات عندما نكون معاً ، شخصٌ ما كان يلقي ملعقة بالخارج ، و كنا عندها نستيقظ. وببطء أدركنا أن صداقتنا كانت خاضعة للأشياء الخارجية ، لأبسط حدث. لقاءاتنا جميعها انتهت بالطريقة ذاتها ، سقوط الملعقة ، حالما يحلّ الفجر. و الآن ها هي بجوار الموقد تحدق بي ، مما يجعلني أتذكر أنها نظرت لي بالطريقة ذاتها في الماضي أيضاً ، منذ ذلك الحلم البعيد ، حين جعلت المقعد يدور على ساق خلفية واحدة ، و بقيت أحدق في إمراة غريبة ذات عيون رمادية. لقد حدث عندها ، في ذلك الحلم أن سألتها للمرة الأولى : ( من أنتِ ؟ ) و أجابتني : ( لا أتذكر. ) و عدت أقول لها مصرّا : ( لكني أعتقد أننا شاهدنا بعضنا قبلاً . ) و بغير اكتراث جاءني جوابها :

- ( أعتقد أني حلمتُ بكَ مرة ، و بهذه الغرفة ذاتها)
- ( صحيح . لقد بدأتُ أتذكر الآن)
- ( يا للغرابة . من المؤكد أننا التقينا قبلاً ، في أحلام أخرى. )

سحبتْ نفسين من السيجار. كنتُ لم أزل واقفاً أمام الموقد ، و فجأة وجدتني لا أنفك عن التحديق بها، ارتفاعا و هبوطاً ، كانت لم تزل نحاسية. ليس ذاك النحاس القاسي البارد ، بل كان نحاسها أصفراً ، ناعماً ، و لين. و قلت لها ثانية : ( أودُّ لو ألمسكِ الآن).
- ( ستفسد كل شيء).
- ( لم يعد مهماً. كل ما علينا فعله هو قلب المخدة ليتسنى لنا اللقاء ثانية).
و رفعتُ يدي فوق الموقد ، لكنها لم تتحرك . فقط كررت الجملة ذاتها ( ستفسد كل شيء.) ، قبل أن أتمكن من لمسها.
قالت : ( ربما إن استطعتَ الوصول إلى خلف الموقد ، سيكون بإمكاننا أن نستيقظ معاً ، من يدري في أي بقعة من العالم).
- ( لم يعد مهماً.)
قالت : ( ان استطعنا قلب المخدة سيكون بامكاننا اللقاء ثانية ، لكنك عندما تستيقظ ستكون قد نسيت على أية حال.)
كنتُ قد عاودتُ سيري تجاه الزاوية ، فيما هي خلفي مستمرة في الإستدفاء بالوهج. و قبل أن أبلغ المقعد سمعتها تقول :
( عندما أستيقظ في منتصف الليل ، أبقى أتقلب في الفراش ، حاشية المخدة تحرق ركبتي ، لكني أبقى أردد حتى الفجر : عينا كلبٍ أزرق).
قلت لها و أنا أحدق في الجدار ، كما كنتُ قبلاً : ( إنه الفجر فعلاً.) ، و واصلتُ دون الإلتفات إليها : ( عندما قرعتْ الساعة الثانية بعد منتصف الليل كنتُ مستيقظاً ، و لكن ذلك كان منذ وقتٍ بعيد.)
اتجهتُ للباب و حين أوشكتُ على لمس المقبض ، جاءني صوتها مجدداً ، بذات الثبات : ( لا تفتح ذلك الباب.) و تابعتْ بعد صمت ( إن الرواق مليء بالأحلام المبهمة.) سألتُها : ( ما أدراك؟ ) و أجابت : ( لأني كنتُ هناك بالفعل قبل لحظةٍ مرت ، لكني عدت إلى هنا حين اكتشفت أني نائمة على قلبي).
كنتُ قد فتحت الباب تقريباً ، و من الفرجة الصغيرة جاءني نسيم بارد ناعم حمل لي رائحة منعشة للأرض المخضرّة و الحقول الندية. عادتْ تتحدث لكني واصلتُ فتح الباب و قلت لها : ( لا أعتقد أن هناك أي رواق في الخارج ، أني اشم رائحة الريف).
- ( أنا أدرى بهذا خيراً منك . هناك إمرأة بالخارج تحلم بالريف.) و عقدتْ ذراعيها فوق اللهب متابعة : ( إنها تلك المرأة التي طالما تمنت أن يكون لها بيت بالريف ، لكنها لم تكن قادرة قط على مغادرة المدينة.)
عندها تذكرتُ رؤيتي لتلك المرأة في بعض أحلامي السابقة ، لكني أدركتُ أيضاً ، فيما الباب شبه مفتوح، أن أمامي نصف ساعة قبل أن يتوجب عليّ الذهاب لتناول افطاري. لذا قلت : ( على أية حال ، يجب عليّ أن أغادر هذه الغرفة ، استعدادًا للإستيقاظ ).

في الخارج عوت الريح للحظة ، ثم هدأت، و أصبح بإمكاني سماع الأصوات الناجمة عن تنفس شخص نائم ، انقلب في فراشه للتو. النسيم القادم من الحقول توقف و لم يعد هناك روائح . قلت لها : ( في الغد سأتذكرك بهذا ؛ عندما أسير في الشارع و أشاهد امرأة تكتب عبارة ( عينا كلبٍ أزرق ) على الجدران. ) قالت فيما ارتسمت بسمة حزينة على شفتيها - بسمة مذعن للمستحيل - : ( رغم ذلك لن تتذكر شيئاً أثناء النهار. ) و عادت تضع كفيها فوق الموقد فيما تغيب ملامحها وسط غمامة أسى .
( أنتَ الرجل الوحيد في العالم ، الذي لا يتذكر شيئاً مما حلم به ، حين يستيقظ . )



غابريل ماركيز - قصص قصيرة - ابن نجد - 02-09-2007

[CENTER]أشباح أغسطس[/CENTER]



وصلنا إلي أريزو قبل منتصف النهار بقليل، وقضينا أزيد من ساعتين في البحث عن القصر الذي يدل علي عصر النهضة، الواقع في ذاك المكان الشاعري من القرية البدائية، والذي اشتراه الكاتب الفنزويلي ميغيل أوتيرو سيلفا. كان يوم أحد من أول أسبوع من شهر آب (أغسطس)، حارا ومثيرا للأعصاب، ولم يكن من السهل مصادفة شخص يعرف شيئا عن القصر في الشوارع التي تغص بالسائحين. وبعد عدة محاولات للبحث بدون جدوي عدنا إلي السيارة وغادرنا البلدة عبر طريق صغير تحفه أشجار السرو دون هدف واضح، لكن امرأة عجوزا كانت ترعي الإوز دلتنا في النهاية علي مكان القصر بالتحديد، وقبل أن تودعنا سألتنا إن كنا سنقضي الليلة هناك، فأجبناها، وفقا لما كان مقررا في الدعوة، بأننا ذاهبون فقط للغذاء، فقالت:
ـ هذا لحسن الحظ، لأن المكان يثير الرعب.
وبما أننا، زوجتي وأنا، لم نكن نؤمن بأشباح منتصف النهار، فقد سخرنا من كلامها، لكن طفلينا، البالغين من العمر تسعا وست سنوات، انتابهما الفرح لكونهما سوف يريان أشباحا حقيقية.
وجدنا ميغيل أوتيرو سيلفا، الذي كان علاوة علي كونه كاتبا جيدا مضيافا رحب الصدر، ينتظرنا بطعام الغذاء الذي لا يمكن نسيانه أبدا. وبما أننا وصلنا متأخرين فلم يكن لدينا وقت لكي نتجول في أرجاء القصر قبل الجلوس إلي مائدة الطعام، ولكن منظره من الخارج لم يكن مما يثير الخوف، بل إن مشهد المدينة التي كانت تبدو لنا من المكان المرتفع الذي نتغذي فيه كان كافيا لطرد أي شعور بالكآبة.
كان من الصعب أن يتصور المرء كيف يمكن أن يولد في هذه البيوت المتكاتفة فيما بينها فوق هذه الهضبة، حيث يعيش حوالي تسعة آلاف من الأفراد متزاحمين أشخاص ذوو عبقرية دائمة، لكن ميغيل أوتيرو سيلفا قال لنا بمزاجه الكاريبي أن أيا من هؤلاء الأشخاص الممتازين ليس أفضل ما في أريزو، وأضاف:
ـ إن أفضلهم كان هو لودوفيكو.
هكذا: لودوفيكو، بدون ألقاب زائدة، أحسن رجال الفن والحرب الذي بني هذا القصر الحزين، والذي استفاض ميغيل أوتيرو سيلفا في الحديث عنه طيلة وقت الغذاء، عن قوته التي لا تقهر وغرامياته التعسة وموته المأساوي، وكيف أنه في لحظة جنون قاسية قتل عشيقته علي السرير الذي مارسا فيه الحب ثم أثار عليه بعد ذلك كلاب الحرب الذين قطعوه أربا. وأكد لنا، بلهجة يقينية، أن شبح لودوفيكو يخرج بعد منتصف الليل ويبدأ في التسكع في جنبات القصر وسط الظلمة محاولا إعادة السكينة إلي مطهر حبه.
لقد كان القصر في الحقيقة واسعا جدا ومعتما، غير أن قصة ميغيل لم تبد لنا في واضحة النهار مع امتلاء المعدة وانشراح القلب إلا مجرد مزحة شبيهة بمزحاته الكثيرة التي يحاول الترويح بها علي ضيوفه. وخلال تجوالنا بعد فترة القيلولة من دون أي شعور بالخوف بدت لنا الغرف الإثنتان والثمانون التي يتكون منها القصر وكأنها خضعت لتغييرات كثيرة من طرف ملاكيه المتعاقبين. قام ميغيل بإصلاح الطابق الأسفل كاملا وبني غرفة نومه بطريقة حديثة وجعل أرضيتها من الرخام، وحماما بخاريا علي الطريقة الفنلدنية، وشرفة زودها بورود فاقعة حيث تناولنا طعام الغذاء. أما الطابق الثاني الذي خضع للاستعمال كثيرا خلال القرون الماضية فقد كان عبارة عن سلسلة من الغرف التي لا تحمل سمات معينة خاصة بها، فيها أثاث ينتمي إلي مختلف العصور ترك بلا عناية. لكن في الطابق العلوي كانت هناك غرفة لم تمس في السابق يبدو أن الزمن لم يتمكن من الوصول إليها فبقيت كما كانت. إنها غرفة نوم لودوفيكو.
كانت لحظة ساحرة. فهناك كان السرير المحاط بالستائر الموشاة بخيوط من الذهب، والأغطية الحريرية العجيبة المتغضنة التي لا يزال بها أثر دم العشيقة المقتولة، والمدفئة الرمادية المتجمدة التي تحول فيها الحطب الأخير إلي حجر، والدولاب التي لا تزال به الأسلحة الفتاكة، والبورتريه الزيتي في إطار من الذهب للفارس وهو يتأمل، مرسومة بيد واحد من كبار فناني فلورنسة، لكن الذي أثار اندهاشنا هو وجود رائحة الفراولة ما تزال نفاذة في غرفة النوم دون تفسير واضح.
الأيام في الصيف في توسكانا طويلة وبطيئة، حيث يبقي الأفق مستقرا في مكانه حتي التاسعة ليلا. وعندما انتهينا من التجول داخل القصر كانت الساعة تشير إلي الخامسة من بعد الظهر، ولكن ميغيل أصر علينا بأن يأخذنا لنري اللوحات الجدارية لبييرو ديلا فرانسيسا في كنيسة سان فرانسيسكو، وبعد ذلك جلسنا لتناول القهوة والدردشة تحت تعريشة المكان، وحينما عدنا إلي القصر لحمل حقائبنا وجدنا أنهم أعدوا طعام العشاء، وهكذا اضطررنا للبقاء.
فيما كنا نتعشي تحت سماء خبازية اللون لا توجد بها سوي نجمة يتيمة، أخذ الولدان المشاعل من المطبخ وراحا يستكشفان غرف الطابق العلوي وسط الظلمة. ومن مكاننا في الأسفل سمعنا أصوات ركضهم الذي كانا يقلدان به الخيول علي السلم، وأنين الأبواب، والأصوات الناعمة السعيدة التي تنادي لودوفيكو في الغرف المظلمة. وخطرت للولدين تلك الفكرة السيئة بأن نقضي الليلة هنا، وساندهم ميغيل أوتيرو سيلفا سعيدا بها، فلم نجد في أنفسنا الشجاعة الأدبية لنرفض الدعوة. بعكس ما كنت أتخوف، نمنا تلك الليلة جيدا، زوجتي وأنا، في غرفة نوم بالطابق السفلي بينما نام الولدان في الغرفة المجاورة. كانت الغرفتان معا قد أدخلت عليهما إصلاحات بشكل جعلهما حديثتين، لذلك لم تكونا معتمتين. وفي انتظار أن يأخذني النوم بدأت أتلهي بتعداد الضربات الإثنتي عشرة للساعة الجدارية الكبيرة، فتذكرت تحذير راعية الإوز، لكننا كنا متعبين جيدا فنمنا نوما ثقيلا مليئا بالأحلام، وصحوت بعد الساعة السابعة صباحا بقليل علي نور الشمس المتسلل عبر فتحات النوافذ، وكانت زوجتي إلي جانبي ما تزال نائمة، فقلت في نفسي: يا لها من حماقة، أن يؤمن المرء في هذا الزمن بالأشباح.
وفي تلك اللحظة بالذات اجتاحتني رائحة الفراولة التي كأنها قطفت للتو، وصورة المدفئة الرمادية المتجمدة التي تحول فيها الحطب الأخير إلي حجر، والبورتريه الزيتي للفارس الحزين في الإطار المذهب وهو ينظر إلينا من وراء ثلاثة قرون. واكتشفت بأننا لم نكن في الحقيقة نائمين في نفس الغرفة التي نمنا فيها ليلة أمس بالطابق السفلي، بل في غرفة نوم لودوفيكو، تحت الستائر التي علق بها الغبار والأغطية الملطخة بالدم الذي لا يزال طريا علي السرير اللعين.




غابريل ماركيز - قصص قصيرة - ابن نجد - 02-09-2007

[CENTER]الجمال النائم والطائرة [/CENTER]





كانت جميلة فاتنة ، رشيقة القوام ، وبشرتها ناعمة بلون الخبز ؛ عيناها مثل اللوز الأخضر و شعرها الأسود مسدول على كتفيها ؛ ذات هيئة أندونيسية ، كما قد تكون قادمة من بلاد الأنديز .

كانت ترتدي لباسا ذا نسق خلاق ينم عن ذوق رفيع ؛
سترة مصنوعة من فراء اللينكس ، قميصا من الحرير الخالص بأزهار متناسقة ، سروالا ذا قماش طبيعي مع حذاء ذي حزام ضيق بلون نبات البوغنفيليا (bougainvillea ).

" هذه أجمل امرأة على الإطلاق شاهدتها في حياتي " ؛ قلت في نفسي عندما لمحتها عيناي
وهي تمر أمامي بخطوات رهيفة حذرة كخطوات اللبؤة ، و أنا واقف في الصف أمام مكتب التسجيل لدفع الأمتعة بمطار شارل ديغول بباريس ، إستعدادا لرحلتي إلى نيويورك . لقد كان ظهورا خارقا لملاك فائق الجمال وللحظات فقط بحيث سرعان ما اختفى في زحمة بهو المطار .

كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا ، و كان الثلج يتساقط منذ الليلة المنقضية . كانت حركة المرور أبطأ من العادي في شوارع باريس ، و أكثر بطئا على الطرق السريعة أين اصطفت الشاحنات الكبيرة على جانب الطريق ، بينما تزاحمت السيارات و اختلط دخانها بالثلج ؛ أمّا بداخل بهو المطار فكان الجو لايزال ربيعيا .

وقفت في الطابور أنتظر دوري ، خلف مسنّة هولندية أمضت ساعة كاملة في الحديث عن حقائبها الإحدى عشر ؛ و بدأت أشعر بقليل من الملل عندما وقعت عيناي على الجمال الفاتن الذي قطع عليّ أنفاسي وأنقذني من تلك الضوضاء ، و لم أدر بعدها كيف انتهى مسلسل المرأة الهولندية وحقائبها ؛ ولم أنزل من تحليقي في السحاب إلاّ على صوت مضيفة المكتب وهي تعاتبني عن شرود ذهني ؛ وبادرتها ملتمسا عذرها إن كانت تؤمن بالحب من أوّل نظرة . " طبعا ، أمّا بقية الأصناف فهي مستحيلة " ردّت عليّ دون أن تحوّل عينيها من شاشة الكمبيوتر ، ثمّ سألتني إن كنت أفضّل مقعدا في مساحة التدخين أو عكس ذلك . رددت عليها بلهجة تهجّم قصدت بها السيّدة الهولندية " لا يهم ، ما دام أنّني لن أجاور الإحدى عشر حقيبة ."

أبدت قبولها للتعليق ببسمة تجارية ، ثمّ قالت لي دون أن تفارق عيناها الشاشة لحظة : " اختر أحد الأرقام التالية ؛ ثلاثة ، أربعة أو سبعة "

قلت : " أربعة " .

ردّت ، و قد كشفت ابتسامتها عن نشوة وسعادة : " منذ خمسة عشر عاما و أنا أشغل هذا المكان ، ما رأيت أحدا قبلك اختار غير الرقم سبعة " .

كتبت رقم المقعد على بطاقة الركوب ، ثم أرجعتها إليّ مع بقية الوثائق . نظرت إليّ لأوّل مرة بعينين بلون العنب أغدقتا عليّ عزاء ، و خفّفتا من حرقتي ريثما يظهر الجمال الفاتن من جديد . و في هذه اللحظة بالذات ، أخبرتني أنّ المطار قد أغلق للتو في وجه الملاحة ، و أنّ كلّ الرحلات قد أجّلت إلى مواعيد لاحقة .

" إلى متى يدوم هذا التأجيل ؟ "

" علم ذلك عند الله " ، ردّت عليّ بابتسامة ، وواصلت : " لقد أذيع هذا الصباح بأنّ هذه العاصفة هي الأعنف خلال العام كلّه " .

لقد كانت على خطأ ؛ لقد كانت عاصفة القرن كلّه ؛ إلاّ أنّ الجو ظلّ ربيعيا في قاعة الإنتظار ذات الدرجة الأولى ، و يمكنك ملاحظة ورود حقيقية لازالت حيّة في إصّيصاتها ، وحتى الموسيقى المنبعثة تضفي سحرا وهدوءا تماما كما تصوّرها مبدعوها ؛ ثمّ فجأة قرّرت في نفسي أنّ هذه الظروف تمثّل ملجأ مناسبا للجمال الفاتن ، و كذلك رحت أبحث عنها في قاعات الإنتظار الأخرى تائها ولهانا و غير آبه بما قد أسبّبه من لفت أنظار الجمهور إليّ .

كان معظم المنتظرين رجالا من الحياة الواقعية ، يقرؤون صحفا بالإنجليزية ، بينما كانت زوجاتهم يفكرن في أشخاص آخرين وهن ينظرن من خلال النوافذ إلى الطائرات الجامدة في الثلج وإلى المصانع الخامدة المتجمّدة وحقول " رواسي " الواسعة التي حطّمتها أسود جائعة .

وما أن حلّ منتصف النهار حتى شغلت كل أماكن الجلوس وارتفعت درجة حرارة القاعة ، و باتت لا تحتمل إلى درجة أنّني غادرت لآخذ جرعة هواء منعشـة . وبالخارج شاهدت منظرا غير عادي ؛ لقد تجمهر كل أصناف البشر داخل قاعات الإنتظار ، و منهم من قبع في الأروقة وعلى المدرّجات منقوصة الهواء ، ومنهم من ألقى بنفسه على الأرض رفقة الحيوانات الأليفة والأمتعة والأبناء . وانقطعت الإتصالات مع المدينة وأضحى القصر البلاستيكي الشفاف أشبه بكبسولة فضائية عملاقة تركت قابعة على الأرض في وجه العاصفة . ولم يفارق ذهني التفكير في أن الجمال الفاتن يقبع في مكان ما وسط هذا الحشد المدجّن ( المروّض ) ، و ألهمني ذلك شجاعة و صبرا لأظلّ منتظرا ظهوره .

ما أن حلّ وقت الغذاء حتى أدركنا أنّ حالنا أضحى شبيها بمن تحطّمت سفينتهم في البحر ، وأضحت الطوابير غير منتهيّة خارج مطاعم المطار السبعة ، و خارج المقاهي و الحانات ؛ وفي أقلّ من ثلاث ساعات أوصدت أبوابها لأنّه لم يبق بها شيء للإستهلاك . و حتى الأطفال ، الذين ظهروا في لحظة ما و كأنّهم كل أطفال العالم قد اجتمعوا هنا ، شرعوا في البكاء دفعة واحدة . ثمّ ما لبثت أن انبعثت رائحة القطيع من الجمهور الغفير ؛ لقد كان نداء الفطرة .

وفي تلك الزحمة ، لم أستطع الحصول سوى على كأسين من مثلّجات الفانيلا من محلّ بيع للأطفال . لقد كان الناذلون يضعون الكراسي على الطاولات عندما غادر أصحاب المحل ، في حين كنت أتناول وجبتي ببطء عند الكونتوار وأنا أتأمّل نفسي في المرآة المقابلة مع آخر كأس وآخر ملعقة صغيرة ، ولكن دائم التفكير في الجمال الفاتن .

في الثامنة ليلاّ ، غادرت رحلة نيويورك المبرمجة أصلاّ على الساعة الحادية عشر صباحاّ . وما أن امتطيت الطائرة حتى كان مسافرو الدرجة الأولى قد أخذوا أماكنهم ؛ واصطحبتني المضيفة إلى مقعدي ؛ وفجأة كاد قلبي يتوقّف عن النبض . يا لغريب الصدف ! رأيت الجمال الفاتن جالسا على المقعد المجاور أمام النافذة . لقد كانت مستغرقة في ترتيب مجالها الحيوي بأستاذية المسافر الخبير ؛ و قلت في نفسي : " لو قدّر لي أن أكتب هذا ، فلن يصدّقني أحد ". ثمّ نجحت في إلقاء تحية متردّدة بعد تلعثم لم تسمعها و لم تنتبه لها .

لقد شغلت مقعدها كما لو كانت تنوي أن تعمّر هنالك لأعوام ؛ وضعت كلّ شيء في مكانه المناسب و في متناول يدها حتى أنّ محيط مقعدها أصبح مصفّفا كالبيت المثالي . و في أثناء ذلك ، أحضر لنا المضيف شامبانيا الضيافة . أخذت كأسا لأناولها إياه ، لكنّني تمهلت قليلا و فكّرت في ذلك ثمّ عدلت عن رأيي في الوقت المناسب . لم تكن تريد سوى كأس ماء ، ثمّ أوعزت إلى المضيف ، أوّل الأمر بلغة فرنسية غير مفهومة ثمّ بلغة إنجليزية لم تكن أوضح من سابقتها إلاّ بقليل ، بأن لا يوقظها خلال الرحلة ، و لأيّ سبب كان . لقد كان يشوب صوتها الدافىء بعض الحزن الشرقي .

وعندما أحضر المضيف الماء ، كانت تضع في حجرها محفظة تجميل ذات زوايا نحاسيّة ؛ أخذت قرصين ذهبيين من علبة تحتوي على أقراص أخرى ذات ألوان مختلفة . كانت تفعل كلّ شيء بطريقة منهجيّة و بثقة كبيرة وكأن لا شيء غير متوقع قد حدث لها منذ ولادتها . وما إن انتهت حتى أسدلت الستار على النافذة ، سحبت مقعدها إلى الخلف في اتجاه عمودي ومدّدته إلى أقصى ما يمكن ، غطّت جسمها ببطانية إلى الخصر دون أن تنزع حذاءها ، وضعت قناع النوم على رأسها ، استدارت وولّتني ظهرها ثمّ سرعان ما غرقت في نوم عميق . لم تصدر عنها تنهيدة واحدة ، ولا أدنى حركة طيلة الساعات الثمانية الأبدية ودقائقها الإثني عشر الإضافية ، زمن الرحلة إلى نيويورك .

لقد كانت الرحلة خارقة واستثنائية بالنسبة إليّ . لقد آمنت دائما ولازلت أؤمن بأن لا شيء أجمل في الوجود من امرأة جميلة ؛ وكان يستحيل عليّ أن أهرب للحظة واحدة من أسر ذلك المخلوق الفاتن الذي ينام بجانبي ، والذي كثيرا ما تردّده الروايات والقصص .

ما إن أقلعت الطائرة حتى اختفى المضيف وخلفته مضيفة شابة ، حاولت أن توقظ الملاك النائم لتناولها محفظة النظافة وسماعات الموسيقى . ردّدت عليها التعليمات التي أملاها الملاك على زميلها ، غير أنها أصرّت على السماع منه شخصيا ممّا اضطر المضيف أن يؤكد أوامرها مع أنّه ألقى ببعض اللوم عليّ لأنّ الملاك لم يعلّق إشارة " أرجو عدم الإزعاج " حول رقبتـه .

تناولت وجبة العشاء بمفردي ، محدّثا نفسي في سكون بكلّ ما كنت سأقوله لها لو شاركتني عشائي . كان نومها هادئا منتظما إلى درجة أنّ نفسي حدّثتني في إحراج بأنّ الأقراص المنوّمة التي تناولتها لم تكن للنوم بل كانت للموت . و مع كلّ شراب كنت أرفع كأسي لأشرب نخب صحّتها .

خفتت الأضواء ، و كان يعرض على الشاشة فيلم لم يكن لينتبـه إليه أحد ، و كنّا ولا أحد معنا في ظلمة هذا العالم . لقد ولّت عاصفة القرن وكان ليل الأطلسي صافيا ورهيبا ، وكانت الطائرة تبدو جاثمة غير متحرّكة بين النجوم . ثمّ رحت أتأمّلها بتمعّن لعدّة ساعات ، وأدقّق في جسمها شبرا بشبر ، ولم أكن ألاحظ أية إشارة تدلّ على الحياة سوى ظلال الأحلام التي كانت تعبر من خلال جبهتها عبور السحب فوق الماء . كانت تضع حول رقبتها سلسلة رقيقة تكاد لا ترى نظرا للون بشرتها الذهبي . لم تكن أذناها المكتملتان مثقوبتين ، وأظافرها الوردية تعكس صحتها الجيدة . وكان يزيّن يدها اليسرى خاتم بسيط ؛ ولأنّها لا تبدو أكبر من العشرين عاما ، كان عزائي أنّه لا يمثّل خاتم زفاف بل لا يعدو أن يكون علامة خطبة عابرة أو ارتباط آني . ورحت على وقع تأثير الشامبانيا أردّد في سرّي روائع جيراردو دييغو حول المرأة والحب والجمال . خفّضت ظهر مقعدي ليصل إلى نفس مستوى مقعدها ، وألقيت بجسمي عليه ، فكنّا أقرب إلى بعضنا البعض من لو كنّا ممدّدين على سرير الزوجية .

كانت بشرتها تحرّر عبيرا منعشا ، محاكيا صورتها ، لم يكن سوى رائحة جمالها . لقد كان شيئا مدهشا حقا . لقد قرأت في الربيع الماضي قصّة جميلة للكاتب ياسوناري كاواباتا عن أثرياء كيوتو القدامى الذين كانوا يدفعون مبالغ ضخمة من المال مقابل قضاء ليلة في التفرج على أجمل فتيات المدينة وهنّ مخدرات و مستلقيات عرايا على نفس السرير ، يتعذبون من حرقة الشغف والحب ولا يستطيعون ايقاظهن أو لمسهن ، بل ولا يجرؤون حتى على المحاولة لأنّ مبعث لذّتهم و تلذذهم هو رؤية الفتيات العاريات وهنّ نائمات .

في تلك الليلة ، وأنا أراقب الجمال النائم ، لم أصل فقط إلى إدراك معنى التألم الناجم عن الضعف النفسي والحسّي ، بل مارسته وجرّبته وتذوّقت مرارته إلى أبعد الحدود ؛ وقلت في نفسي وقد ازدادت آلامي واتقدت أحاسيسي بفعل الشمبانيا : " ما فكّرت يوما في أن أصبح من قدماء اليابانيين عند هذا العمر المتأخّر ".

أعتقد أنّني نمت لعدة ساعات تحت تأثير الشامبانيا وتفجيرات الفيلم الصامتة ؛ وعندما استيقضت كانت رأسي تؤلمني بشدّة . ذهبت إلى الحمّام ، وألفيت المرأة المسنّة مستلقيّة على مقعدها تماما كالجثّة الهامدة في ساحة المعركة . كانت نظاراتها متساقطة على الأرض في وسط الرواق ، و للحظة ، إنتابني شعور عدواني ممتع في عدم التقاطها . ما إن تخلّصت من الشمبانيا الزائد في دمي ، حتى رحت أتأمّل نفسي في المرآة ، فوجدتني قبيح المنظر وتعجّبت كيف يحطّم الحب صاحبه إلى هذا الحد .

فقدت الطائرة علوّها من دون سابق إنذار ، ثمّ عادت واستوت وواصلت تسابق الأجواء بسرعة كاملة إلى الأمام . ظهرت فجأة إشارة " ألتزموا أماكنكم " ، فأسرعت إلى مقعدي على أمل أن أجد الجمال النائم قد استيقظ بفعل الإضطراب ، لعلّه يلجأ إلى حضني ليحتمي به ويدفن فيه خوفه وذعره . وخلال حركتي الخاطفة ، كدت أن أدوس على نظارات المرأة الهولندية وكنت سأسعد لو أنّني فعلت ؛ غير أنّتي غيرت موضع قدمي في آخر لحظة ، ثمّ التقطتها ووضعتها في حجرها شكرا لها وامتنانا لعدم اختيارها للمقعد ذي الرقم أربعة.

كان نوم الملاك الجميل أعمق من أن تعكره حركة الطائرة . وعندما استوت الطائرة في مسارها من جديد ، كان عليّ أن أقاوم رغبتي الجامحة في ايقاظها بافتعال عذر ما ، لأنّ كل ما كنت أرغب فيه خلال الساعة الأخيرة من الرحلة هو فقط رؤيتها يقظة ، حتى ولو كانت غاضبة ، لأستردّ حريّتي المسلوبة وربما لأستعيد شبابي كذلك ؛ غير أنّني افتقدت الشجاعة الكافية لذلك ، و قلت لنفسي باحتقار شديد : " إذهب إلى الجحيم ! لماذا لم أولد ثورا ؟ "

استفاقت من نومها ، ومن تلقاء نفسها ، عند اللحظة التي اشتعلت فيها أضواء الهبوط . كانت جميلة ناعمة و مرتاحة كما لو أنها نامت في حديقة للورود ؛ وحينها أدركت أنّ الأشخاص الذين يتجاورون في مقاعد الطائرة لا يبادرون بتحية الصباح تماما كما هو شأن الأزواج القدامى ؛ و كذلك هي لم تفعل .

خلعت قناعها ، فتحت عيناها المشعّتين ، أرجعت ظهر المقعد إلى وضعيته العاديّة ، وضعت البطانية جانبا ، حرّكت شعرها ليعود إلى نسقه بفعل وزنه ، وضعت محفظة التجميل على ركبتيها ، عالجت وجهها ببعض المساحيق غير الضرورية لتستهلك وقتا كافيا يعفيها من النظر إليّ ريثما تفتح أبواب الطائرة ، ثمّ لبست سترتها اللينكسيـة . تخطّتنـي مع عبارة عفو تقليدية بلغة اسبانية لاتينوأمريكية نقيّة ، وغادرت من غير كلمة وداع ، أو على الأقل كلمة شكر على ما بذلته من أجل أن أجعل ليلتنا سعيدة ، ثمّ سرعان ما اختفت في شمس يومنا الجديد في غابة نيويورك الأمازونية .



غابريل ماركيز - قصص قصيرة - ابن نجد - 02-09-2007

[CENTER]ماريا [/CENTER]



كانت ماريا دوس برازيراس تتخيل عمال الجنازات في صورة مخيفة , جشعين وجوههم مكفهرة مجعدة , يرتدون ملابس الحداد في إهمال , يضعون وردة في عجالة فوق آذانهم حتى يبدوا مقبولين للناس .
لكنها حين فتحت الباب خجلت من ملبسها وهيأتها , لم تجد عامل الجنازة كما تخيلته , بل شاب خجول يرتدي بدلة على أحدث صيحات الموضوعات ورباط عنق مزخرف بعصافير كل الألوان , لا يرتدي المعطف بالرغم من برد الخريف خجلت منه وهي التي اعتادت مقابلة الرجال في كل الأوقات .
وبالرغم من بلوغها السادسة والسبعين من عمرها , وبالرغم من يقينها من موتها قبل نهاية العام إلا إنها فكرت في أن تغلق الباب في وجهه وتتركه ينتظرها بالخارج حتى تبدل ثيابها , لكنها تراجعت عن الفكرة شفقة عليه من أن يصاب بالبرد ، فتركته يدخل قائلة :
- سامحني لأنني منذ أن أتيت إلى هنا منذ خمسين عاما .......
كانت تتكلم بأسلوب كتالوني متقن لكن بلهجة برتغالية ، التجاعيد تكسو وجهها ، نظراتها شرسة ، تفتقد كل أنواع الزحمة في التعامل مع الرجال ، مسح الشاب حذاءه ثم أشار لها باحترام شديد لكي تتقدمه فجلجلت بضحكة ماجنة قائلة :
أنت رجل مهذب ، اجلس .
كان الشاب حديثا في هذه المهنة , أدرك الآن أن الزبائن لا يحسنون استقباله , خاصة إن كانت زبونة عجوزا بلا رحمة , يبدو وكأنها هاربة من أمريكا .
وقف الشاب في المدخل لا يعرف ماذا يفعل بينما أزاحت ماريا الستائر الكثيفة فظهر الصالون الدقيق القديم تحت الضوء الخافت وكأنه متحف قديم , هناك الحاجيات الخاصة بالاستعمال اليومي , كل شيء موضوع في مكانه بعناية حتى اعتقد أنه لا يوجد في الدنيا منزل منظم أكثر من ذلك قال مرتبكا : آسف كنت قد أخطأت العنوان . فقالت :
- أتمنى ذلك , لكن الموت لا يخطىء أحداً
فرش الشاب خريطة كبيرة ملونة بكل الألوان على المنضدة , كل لون يحتوي على صلبان وأرقام كثيرة , فهمت ماريا أنها خريطة مفصلة لمقابر مونت جويس الفخمة فتذكرت من الماضي البعيد ما حدث في مانواس يوم أن فاض نهر الأمازون وتحولت البلدة إلى مستنقع قذر , لقد رأت وهي طفلة صغيرة النعوش سابحة في فناء منزلها تخرج منها الثياب مهللة مختلطة بشعر الموتى ، ولهذا السبب فضلت مقابر مونت جويس على سان جير فاسيو حيث يرقد كل أفراد عائلتها . قالت :
- أريد مكانا لا تصله المياه أبداً .
أخرج البائع قلما صغيراً من جيبه وأشار إلى مكان في الخريطة قائلاً :
- هنا لا يمكن لأي بحر الوصول إلى مثل هذا الارتفاع.
تأملت ماريا الخريطة التي تشبه رقعة الشطرنج , رأت بجوار المدخل ثلاث مقابر متجاورة خاصة بأهل دورتي ثم مقبرتين خاصيتين بقتلى الحرب الأهلية المنبوذين , كل ليلة يأتي أناس يكتبون أ سماء القتلى بالأقلام , بالكربون , بألوان الزيت ، يكتبون الأسماء بطريقة أنيقة جميلة ، لكن كل صباح يمسح الحراس هذه الأسماء حتى لا يحدد أحد من الذي يرقد تحت هذا الرخام الصامت .... اختارت ماريا مقبرة دورتي الأكثر حزنا وكآبة من بين كل المقابر , بيد أنه لم يكن هناك مقبرة جاهزة في هذا المكان فرضخت للأمر الواقع الذي فرضه عليها البائع قائلة :
- بشرط ألا تتركوني في أحد الأدراج خمس سنوات .
ثم تذكرت فجأة الشرط الأساسي :
- أريد أن أدفن نائمة .
كانت محقة في طلبها , فلقد شاع في الآونة الأخيرة – بعد أن كثر الطلب على المقابر وبعد أن أصبحت تباع نقدا وبالتقسيط – أنهم يدفنون الأموات واقفين توفيرا لمساحات الأرض , حاول البائع أن يوضح لها كذب هذه الإشاعات وأن هناك مشاريع ضخمة لزيارة عدد هذه المقابر ، ثم سكت عندما سمع ثلاث دقات على الباب , فقالت بصوت منخفض :
- لا تشغل بالك , إنه "نوا" أكمل .
أكمل البائع حديثه وبدت ماريا مقتنعة , ثم راحت تفتح الباب وهي تشعر
أكمل البائع حديثه وبدت ماريا راضية مقتنعة , ثم راحت تفتح الباب وهي تشعر بأنها قد ماتت بالفعل منذ زمن بعيد , منذ فيضان نهر الأمازون في مانواس فأكدت طلبها قائلة :
- كل ما أريده مقبرة تحت الأرض بعيدة عن مياه الفيضانات ، وإن أمكن في ظل الأشجار خلال فصل الصيف , وألا يفتح قبري أحد ليلقي بي في سلة المهملات .
فتحت الباب , فدخل كلب صغير مبلل بمياه الأمطار يسير بخطوات خجولة ، قفز فوق المنضدة وراح ينبح بلا سبب واضح , كاد يمزق خريطة المقابر لولا أن سيدته رمته بنظرة حادة وأمرته بالجلوس نظر إليها الكلب في رعب ثم بكى ، التفتت ماريا إلى البائع فوجدته مرتبكا يقول لها :
- مسكين إنه يبكي
فأوضحت قائلة بصوت خفيض :
- إنه سعيد لأنها أول مرة يرى شخصا هنا في هذه الساعة ، في العادة عندما يعود إلى المنزل يكون مهذبا أكثر من الرجال . إلا أنت على ما أعتقد .
كرر البائع " كلا إنه يبكي "
ثم اكتشف وقاحته بتكذيبها فاحمر وجهه وقال معتذرا :
- سامحيني , إنني لم أر مثل ذلك في حياتي .
- كل الكلاب تستطيع أن تفعل ذلك إذا أحسنا تربيتها , لكن للأسف معظم الناس يقسون على الكلاب فيدربونهم على الأكل في أطباق والانتظام في المواعيد بدلاً أن يسمحوا لهم بأن يعيشوا حياتهم الطبيعية . المهم إلى أين وصلنا .
عندما انتهيا من حديثهم اكتشفت ماريا أنها ستدفن في مكان مشمش لأن ظلال كل الأشجار محجوزة للموظفين الكبار التابعين لنظام الحكم فوافقت على مضض لأنها لاتستطيع الدفع مقدماً .
راح البائع يلملم أوراقه وهو يتأمل المنزل بنظرات ثاقبة فاحصة مدهوشا بأناقته وسحره , فأستدار إلى ماريا وكأنه يراها لأول مرة :
- هل من الممكن أن اسأل سؤالا شخصيا ؟
- بالتأكيد , إن لم يكن سؤالاً عن سني .
- لدي موهبة خاصة في تخمين أعمال الناس من خلال تفحص منازلهم والأشياء التي يحتفظون بها , لكن هنا لم أستطع أن أخمن شيء .
جلجلت ضاحكة :
- أنا عاهرة يا بني , ألم تلاحظ ذلك .
كاد البائع يصطدم بالباب فأمسكته من ذراعه قائلة : حافظ على نفسك حتى تدفني .
ما كادت تغلق الباب حتى أخذت الكلب في حضنها تلاطفه في حنان بالغ وراحت تغني نفس اللحن الذي يغنيه الأطفال في الملجأ المجاور .....
لقد رأت في موتها منذ ثلاثة اشهر مضت , منذ هذا الحلم وهي تشعر بقسوة مرارة الوحدة وزعت كل ما تملكه على الناس الذين تعرفهم بالتساوي تماما , حددت اسم كل شخص كاملا ومهنته وعنوانه بجوار الشيء الذي خصصته له , ابتسمت عندما تخيلت الدهشة على وجه المحامي الذي يقوم بتوزيع تركتها بعد موتها ثم بدأت تنشغل بمصير جسدها .
ضاقت بالمدينة الخانقة المكتظة بالسكان , اختارت البلدة الريفية الجميلة مأوى لها , اشترت هذه الشقة التي كانت محطمة تماما , لم يكن لها حتى مجرد باب , الحوائط مملحة , السلالم رطبة ومظلمة رغم وجود سكان في الطوابق الأخرى , أصلحت الحمام والمطبخ , غطت الحوائط ببعض التحف , زينت الشبابيك المحطمة الزجاج بالستائر, ثم رتبت عفشها بعناية فائقة , رتبت دولابها الذي كان مكتظا بالملابس الحريرية المزركشة النادرة التي اشترتها من المزادات بأسعار رخيصة .
قطعت كل علاقاتها القديمة , لم يتبق لها إلا صديق واحد هو الكونت كوردنا يزورها في يوم الجمعة الأخيرة من كل شهر يتناولان معاً العشاء ثم يشرعان في لهو فاتر بلا طعم , حتى هذه الصداقة القديمة مقيدة بحدود لا يجب عليها أن تتخطاها . الكونت يترك سيارته بعيداً ويأتي إليها متخفيا وكأنه شبح حرصا منه على شعور زوجته وأقاربه , حتى في هذا المنزل علاقتها محدودة , فهي لا تعرف أحداً في هذه العمارة سوى جيرانها الذي يقطنون الشقة المقابلة لها فقط .
بعد أن اشترت المقبرة بدأت تعود نفسها على زيارتها كل أحد , شرعت- مثل بقية جيرانها – في زرع حديقة قبرها بأزهار تتفتح في كل المواسم , غرست الأرض بالنجيلة ثم قطعتها بالمقص حتى تصبح أكثر كثافة من سجاد الفنادق الكبرى , بدا لها المكان مألوفا فتعجبت كيف ستكون أيامها موحشة في مثل هذا المكان الجميل .
في الزيارة الأولى ارتجف قلبها بشدة وعنف , رأت المقابر الثلاث المتجاورة المجهولة في المدخل , لم تلتفت إليها بعد أن لمحت الحارس جالسا يقظاً , بيد إنها غافلته في الزيارة الثالثة , أخرجت من حقيبتها أحمر الشفاه وكتبت على اسم دورتي ومنذ هذا اليوم بدأت تكتب بثقة وثبات في كل مرة تسمح لها الظروف بذلك .
في يوم عاصف ممطر من شهر أكتوبر انشغلت المقبرة المجاورة لها بشابة صغيرة متزوجة حديثا .
في نهاية العام انشغلت سبع مقابر مجاورة لها . لقد مر الشتاء سريعا دون أن تموت ... لم تقلق .. ارتفعت الحرارة , فتحت الشباك لتأنس بضجيج الشارع ليعاونها على مقاومة غموض أحلامها .
أصبحت أيامها خالية موحشة بعد أن هجرها الكونت الذي اعتاد على قضاء الصيف في قصره بالجبل , لكنه عندما عاد وجدها أكثر فتنة من شبابها .
بعد محاولات كثيرة فاشلة نجحت ماريا في أن تجعل كلبها نوا يعرف مكان قبرها اصطحبته معها كثيرا سيرا على الأقدام , حفظته العلامات التي يهتدي بها , ثم دربته على البكاء أمام القبر الخاوي , حتى يفعل ذلك بحكم العادة بعد موتها , في أحد الأيام تركته يخرج في الساعة الثالثة بعد الظهر , راقبته من الشباك فوجدته يسير وحيداً حزينا فبكت من كل قلبها على كلبها , على نفسها , على عمرها الذي راح ... بعد ربع ساعة استقلت الأتوبيس إلى المقابر , لمحته يسير منهكا جاداً , انتظرته لمدة ساعتين , سلمت على الزائرين الذين تعرفت عليهم من الأيام السابقة , بعد قليل انصرفوا جميعاً , سمعت ضجيجاً يأتي من البحر , التفتت فوجدت باخرة بيضاء ترفع علم البرازيل ، تمنت من أعماقها أن تحمل إليها هذه الباخرة نبأ وفاة شخص تعرفه في سجن برنامبوكو .
في الخامسة مساء أتي نوا لاهثا مجهدا لكنه فخور بنفسه كمراهق مغرور , منذ هذه اللحظة اطمأنت إلى أنها ستجد أحداً سيبكي على قبرها .
في الخريف توالت الإنذارات الغامضة , أثقلت قلبها يوما بعد يوم حتى ملأتها رعباً , لقد اعتادت تناول القهوة في أحد الكازينوهات ترتدي معطفها المطعم بفراء الثعلب , تغطي شعرها بقبعة مطعمة بزهور صناعية محاولة أن تجاري الموضة , تشغل نفسها بالاستمتاع بزقزقة العصافير , تتناقش مع بائعي الكتب في الأكشاك , ثم تراقب جرحى الحرب وهم يلقون بالخبز للحمام وفجأة شعرت بالإشارة المؤكدة , فأدركت أنه في أعياد رأس السنة المقبلة عندما يعلقون الأنوار , وتصدح الموسيقى وصيحات الفرح من الشرفات ويأتي السائحون يملأون الشوارع ويفترشون المقاهي , ستكون هي في انتظار الموت في أي لحظة .
انتابها القلق , أيقظتها رجفات الذعر من نومها .. في إحدى الليالي استيقظت فزعة على صوت الرصاص ,
فاكتشفت أن الشرطة قد أطلقت النار على أحد الشباب تحت نافذتها .
لم تشعر بمثل هذا القلق من قبل منذ أن كانت طفلة صغيرة في مانواس في هذه الليلة سكتت فجأة كل ضوضاء هذه الليل , توقفت المياه في النهر , خيم سكون غامض مريب على الغابة الأمازونية , كأنه سكون الموت ومما زاد من قلقها ماحدث عندما زارها الكونت كوردونا يوم الجمعة الأخير من شهر إبريل .
كان لزياراته طقوس احتفالية خاصة , يحضر عادة مابين السابعة والتاسعة مساء يحمل زجاجة شمبانيا مغلفة بجريدة المساء وعلبة شكولاتة .
بينما تعد له دجاجة مشوية وطبقا من فاكهة الموسم , يجلس وهو يستمتع بالموسيقى الكلاسيكية يتجرع في هدوء .
بعد العشاء يتداعبان بفتور مما يجعلهما يشعران بالحسرة على شبابهما. قبل أن يمشي يضع لها خمسا وعشرين بيزيتا تحت طفاية السجائر , هذا هو أجرها الذي لم يتغير منذ أن تعرفت عليه في فندق باراليلو منذ أمد بعيد .
كلاهما لا يعرف على أي أساس توطدت علاقتهما . المهم أن ماريا يجب أن تقدم له وجبات شهية , والكونت يقدم لها نصائح غالية للحفاظ على مدخراتها البسيطة التي عبارة عن بعض التحف المسروقة من المزادات
هو الذي أشار عليها بشيخوخة محتشمة عندما أحالوها إلى المعاش في بيت الدعارة الذي أمضت فيه حياتها ,
فينما كانت مديرة البيت تريد أن تحولها إلى مدرسة خاصة لتعليم الأطفال ممارسة الحب مقابل خمسة وعشرين بيزيتا أشار عليها الكونت بالإعتزال في حي غارسيا . قصت عليه كيف أن والدتها باعتها وهي في الرابعة عشرة لبحار تركي في البرتغال مارس معها الجنس دون شفقة أثناء عبور الأطلنطي ثم تركها بلا مال أو لغة أو حتى مجرد اسم في فندق باراليلو , توطدت الصداقة بينهما , لم يخدشها شيء إلا ماحدث في هذه الليلة عندما سمعا في المذياع أن الإمبراطور فرانسيسكو فرانكو أمر بإعدام ثلاثة انفصاليين , أعلنت ماريا استياءها من هذا الديكتاتور الأبدي . انزعج الكونت . نظرت إليه مليا فرأت في عينيه نظرات الغرور والتغطرس , واكتشفت لأول مرة المخالب الوحشية في يديه فنهرته قائلة :
- إذا أعدموهم سأقلب لك طبق المرقة .
سال الكونت خائفا :
- لماذا ؟
- صحيح أنني عاهرة لكن لدي إحساس بالعدالة .
لم يأت الكونت بعد ذلك أبدا, فأيقنت أن آخر حلقة من حلقات حياتها قد انتهت .
بعد عدة أسابيع لاحت أن الناس أصبحت تترك لها المقعد في الأوتوبيس , يعاونونها على عبور الشارع , يمسكون بذراعها عند عبور السلم .. في البداية رفضت كل المساعدات , ثم تقبلتها , ثم أصبحت تنتظرها بعد ذلك , فاشترت قطعة حجر صغيرة لتضعها على قبرها دون أن تكتب اسمها أو تحدد التاريخ .
بدأت تنام دون أن تغلق النافذة حتى يستطيع نوا إعلان خبر وفاتها إذا ماتت أثناء النوم .
قابلت في أحد أيام الأحد وهي عائدة من المقابر الطفلة ا لصغيرة التي تسكن في الشقة المقابلة لها , لعبت الطفلة مع نوا وكأنهما صديقان حميمان , شعرت ماريا بعاطفة الجدة تجيش بصدرها , عزمت الطفلة على قطعة جيلاتي وهي تسألها :
- هل تحبين الكلاب
- أعشقهم .
عرضت ماريا اقتراحاً أزاح عنها بعض القلق :
إذا حدث لي شيئا اهتمي أنتِ بنوا . فقط كل ما أريده منكِ أن تتركيه حراً كل يوم أحد دون أن تقلقي عليه , سيذهب إلى مكان يعرفه جيداً ثم يعود إليك.
سعدت الطفلة كثيرا بهذا العرض , كما إن ماريا عادت إلى بيتها سعيدة لشعورها بعاطفة الجدة التي حلمت بها كثيرا دون أن تعايشها , وتمنت من الله أن تتم بقية أحلامها قبل أن تموت . وفعلا تحقق حلمها الأخير عندما كانت عائدة من المقابر في شهر نوفمبر .
كان البرد قارصا , ما إن وصلت إلى محطة الأوتوبيس حتى انهمر المطر شديدا فبلل كل ثيابها ، حمت الكلب تحت معطفها , وقفت حائرة لا تعرف ماذا تفعل , المقابر خلفها , أمامها الأحياء الشعبية الخربة التي ليس بها شرفة واحدة تحتمي بها , تمر الأوتوبيسات من أمامها خالية دون أن تقف على المحطة , مرت سيارات الأجرة خالية من دون أن ينتبه أحد إلى إشارات الاستغاثة منها .
فجأة مرت أمامها سيارة رمادية فاخرة دون أن يصدر منها أي صوت وكأنها تعيش في عصر المعجزات , هدأت السيارة من سرعتها ثم رجعت تقف أمامها بالضبط , هبط الزجاج بطريقة سحرية غامضة , عرض السائق توصيلها فقالت بإخلاص :
- مشواري بعيد . إذا أوصلتني إلى نصف المسافة تكون قد أديت لي خدمة كبيرة .
- قولي لي إلى أين تريدين الذهاب .
- غراسيا .
- إنه طريقي , تفضلي .
عندما دخلت السيارة شعرت وكأنها في عالم آخر , عالم سعيد ساحر, المطر أصبح متعة , الحياة تبدلت إلى ألوان جميلة زاهية . السائق يقود بمهارة وسط زحام المدينة وكأنه ساحر عظيم . خجلت من نفسها , كما خجلت من أن تضايق صاحب السيارة بكلبها الذي يجلس على ركبتها قالت مجاملة :
- يا لها من سيارة فاخرة ، لم أر مثلها ولا في الأحلام .
قال السائق بلهجة كتالونية :
- في الحقيقة إنها ليست سيارتي إذا ادخرت كل مرتبي طوال حياتي لن أستطيع شراء مثلها .
- ألاحظ ذلك .
نظرت بطرف عينيها فوجدته شابا مراهقا , شعره قصير مجعد , خمري اللون وكأنه روماني قديم , ليس وسيما لكن له جمال خاص , يرتدي جاكت قديم من الجلد لابد أن تكون أمه سعيدة لأن لها ابنا مثله .. لم يتحدثا طوال المسافة لكنها كانت ترميه بنظرات جانبية من حين لآخر , شعرت بمدى معاناتها لأنها لا تزال عائشة حتى بلغت أرذل العمر , أشفقت على نفسها وهي ترتدي مثل هذه الثياب الرثة في انتظار الموت .
عندما وصلا إلى جراسيا كانت السحب قد تبددت هبط المساء وأضيئت أنوار الشارع , طلبت منه أن يتركها في أول الشارع بيد أن الشاب أبي إلا أن يوصلها إلى المنزل , وقف ملاصقا للرصيف حتى لا تبتل ثيابها , نزل الكلب ثم هبطت هي , استدارت إليه تشكره فرأت في عينيه الذهول , لم تعرف من الذي ينتظر من ولماذا قال الشاب في ثبات :
- أصعد معك!
شعرت إنها قد أهينت فقالت :
- أشكرك على هذه الخدمة , لكن هذا لا يعني أن تسخر مني .
قال الشاب برزانة وحزم :
- أنا لا أسخر من أحد , خاصة سيدة مثلك .
كانت ماريا تعرف رجالا كثيرين مثله أنقذت رجالا أكثر منه وقاحة من الانتحار , لكنها أبدا لا تعرف مثل هذا الخوف من اتخاذ القرار في حياتها , عاد الشاب يقول بنفس الثبات :
- أصعد معك ؟
تركته دون أن تغلق باب السيارة , دخلت الدهليز المنار بأضواء الشارع , صعدت بضعة درجات وهي مذعورة , كانت تتصور إنها لن تشعر بمثل هذا الخوف إلا في لحظات الموت .
وقفت أمام بابها مرتبكة تبحث عن المفتاح في جيبها , سمعت طرقات أبواب السيارة وهي تغلق , كاد نوا ينبح لولا إنها أمرته بالسكوت , سمعت خطواته على درج السلم , يقترب أكثر فأكثر , في لمح البصر رأت عينيه في الظلام , نفس العينين اللتين رأتهما في الحلم منذ ثلاث سنوات , قالت فزعة :
- ربي , إنه ليس الموت إذا !
فتحت باب شقتها , شعرت بأنفاسه تلاحقها , فعرفت الآن لماذا كان يجب أن تنتظر سنوات وسنوات , أليس من أجل أن تعيش هذه اللحظة .