حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$archive_pages - Line: 2 - File: printthread.php(287) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(287) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 287 eval
/printthread.php 117 printthread_multipage
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
بيت من لحم - يوسف ادريس - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5)
+--- المنتدى: لغـــــــة وأدب (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=78)
+--- الموضوع: بيت من لحم - يوسف ادريس (/showthread.php?tid=39280)

الصفحات: 1 2


بيت من لحم - يوسف ادريس - هاله - 09-29-2010

الخاتم بجوار المصباح.. الصمت.. الصمت يحل فتعمى الآذان.. في الصمت تتسلل الأصبع، يضع الخاتم..

في صمت أيضًا يطفأ المصباح، والظلام يعم..

في الظلام أيضا تعمى العيون، الأرملة وبناتها الثلاث، والبيت حجرة والبداية صمت..
الأرملة طويلة بيضاء ممشوقة، في الخامسة والثلاثين، بناتها أيضًا طويلات فائرات، لا يخلعن الثوب الكاسي الأسود بحداد أو بغير حداد، صغراهن في السادسة عشرة وكبراهن في العشرين، قبيحات ورثن جسد الأب الأسمر المليء بالكتل غير المتناسقة والفجوات، وبالكاد أخذن من الأم العود.
الحجرة، رغم ضيقها تسعهن في النهار، رغم فقرها الشديد مرتبة أنيقة، يشيع فيها جو البيت وتحفل بلمسات الإناث الأربع، في الليل تتناثر أجسادهن كأكوام كبيرة من لحم دافئ حي، بعضها فوق الفراش، وبعضها حوله، تتصاعد منها الأنفاس حارة مؤرقة، أحيانًا عميقة الشهيق.
الصمت خيم منذ مات الرجل، والرجل مات من عامين بعد مرض طويل، انتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى وأبرزها الصمت، صمت طويل لا يفرغ، إذ كان في الحقيقة صمت انتظار، فالبنات كبرن والترقب طال والعرسان لا يجيئون ومن المجنون الذي يدق باب الفقيرات القبيحات، وبالذات إذا كن يتامى؟ ولكن الأمل بالطبع موجود، فلكل فولة كيال، ولكل بنت عدلها، فإذا كان الفقر هناك، فهناك دائمًا من هو أفقر، وإذا كان القبح هناك، فهناك دائمًا الأقبح، والأماني تُنال أحيانًا بطول البال.
صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة، يتصاعد في روتين لا جدة فيه ولا انفعال، والتلاوة لقارئ، والقارئ كفيف، والقراءة على روح المرحوم وميعادها لا يتغير، عصر الجمعة يجيء بعصاه ينقر الباب، ولليد الممدودة يستسلم، وعلى الحصير يتربع، وحين ينتهي يتحسس الصندل، ويلقي بتحية لا يحفل أحد بردها، ويمضي، بالتعود يجيء، بالتعود يقرأ، بالعادة يمضي، حتى لم يعد يشعر به أو ينتبه إليه أحد.
دائم هو الصمت، حتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت، دائم هو كالانتظار، كالأمل، أمل قليل ولكنه دائم، فهو أمل في الأقل، دائمًا هناك لكل قليل أقل، وهن لا يتطلعن لأي أكثر، أبدًا لا يتطلعن.
يدوم الصمت حتى يحدث شيء، يجيء عصر الجمعة ولا يجيء القارئ، فلأي اتفاق مهما طال نهاية، وقد انتهى الاتفاق.
وتدرك الأرملة وبناتها الآن فقط كنه ما تقدم، ليس فقط الصوت الوحيد الذي كان يقطع الصمت، ولكن أيضًا الرجل الوحيد الذي كان ولو في الأسبوع مرة يدق الباب، بل أشياء أخرى يدركن، فقير مثلهن هذا صحيح، ولكن ملابسه أبدًا نظيفة، وصندله دائمًا مطلي، وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون، وصوته قوي عميق رنان.
والاقتراح يبدأ لماذا لا يجدد الاتفاق ومنذ الآن؟ ولماذا لا يرسل في طلبه هذه اللحظة؟ مشغول، فليكن الانتظار ليس بالجديد، وقرب المغرب يأتي، ويقرأ وكأنه أول مرة يقرأ، والاقتراح ينشأ، لماذا لا تتزوج إحدانا رجلًا يملأ علينا بصوته الدار؟ هو أعزب لم يدخل دنيا، وله شارب أخضر، ولكنه شاب وبالكلام يجر الكلام، ها هو الآخر يبحث عن بنت الحلال.
البنات يقترحن والأم تنظر في وجوههن لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح، ولكن الوجوه تزور مقترحة -فقط مقترحة- قائلة بغير كلام أنصوم ونفطر على أعمى؟ هن ما زلن يحلمن بالعرسان، والعرسان عادة مبصرون مسكينات لم يعرفن بعد عالم الرجال، ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه
- تزوجيه أنت يا أماه، تزوجيه
- أنا ؟ يا عيب الشوم! والناس؟
- يقولون ما يقولون، قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال
- أتزوج قبلكن؟ مستحيل.
-أليس الأفضل أن تتزوجي قبلنا، ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك؟ تزوجيه، تزوجيه يا أماه.
وتزوجته، زاد عدد الأنفس واحدًا، وزاد الرزق قليلًا، ونشأت مشكلة أكبر..
الليلة الأولى انقضت وهُما في فراشهما، هذا صحيح، ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب، ولو صدفة، فالبنات الثلاث نائمات، ولكن من كل منهن ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة إلى المسافة الكائنة بينهما، كشافات عيون، وكشافات آذان، وكشافات إحساس، البنات كبيرات، عارفات ومدركات، والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحي إلى ضوء نهار، ولكن بالنهار لم تعد ثَمَّة حجة، وواحدة وراء الأخرى تسللن ولم يعدن، إلا قرب الغروب، مترددات خجلات يقدمن رِجلًا ويؤخرن رِجلًا، حتى يزددن قربًا، وحينذاك يدهشهن، يربكهن، يجعلهن يسرعن ضاحكات، قهقهات رجُل تتخللها سخسخات امرأة، أمهن لا بد تضحك، الرجُل الذي ما سمعنه إلا مؤدبًا خاشعًا، ها هو ذا يضحك، بالأحضان قابلتهن ولا تزال تضحك، رأسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك، وجهها ذلك الذي أدركن للتو أنه كان مجرد فانوس مطفأ عشش فيه العنكبوت والتجعيدات، فجأة أنارها هو ذا أمامهن كلمبة الكهرباء مضيء ها هي ذي عيونها تلمع وقد ظهرت وبانت وتلألأت بالدمع الضاحك، تلك التي كانت مستكنة في قاع المهجر.

الصمت تلاشى واختفى تمامًا، على العَشاء وقبل العَشاء وبعد العَشاء نكت تترى وأحاديث غنَّاء، صوته حلو وهو يغني ويقلد أم كلثوم وعبد الوهاب، صوت عال أجش بالسعادة يلعلع.
خيرًا فعلتِ يا أماه، وغدًا تجذب الضحكات الرجال، فالرجال طُعم الرجال،
نعم يا بنات، غدًا يجيء الرجال ويهل العرسان، ولكن الحق أن ما أصبح يشغلها ليس الرجال أو العرسان ولكنه ذلك الشاب كفيف فليكن، فما أكثر ما نعمى عن رؤية الناس لمجرد أنهم عميان، هذا الشاب القوي المتدفق قوة وصحة وحياة، ذلك الذي عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير أوان.
الصمت تلاشى وكأن إلى غير رجعة، ضجيج الحياة دب، الزوج زوجها وحلالها وعلى سُنة الله ورسوله، فماذا يعيب؟ وكل ما تفعله جائز، حتى وهي لم تعد تحفل بالمواربة أو بكتمان الأسرار، حتى والليل يجيء وهم جميعًا معًا، فيطلق العقال للأرواح والأجساد، حتى والبنات مبعثرات متباعدات يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات، مسمرات في مراقدهن يحبسن الحركة والسعال، تظهر الآهات فجأة فتكتمها الآهات، كان نهارها "غسيل" في بيوت الأغنياء، ونهاره قراءة في بيوت الفقراء، ولم يكن من عادته أول الأمر أن يئوب إلى الحجرة ظهرًا، ولكن لما الليل عليه طال والسهر أصبح يمتد، بدأ يئوب ساعة الظهر يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى، واستعداد لليل قادم، وذات مرة بعد ما شبعا من الليل وشبع الليل منهما، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا هي منطقة تتكلم الآن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها؟ ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الآن؟ إذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا، ولماذا لم تكن تضعه ساعتها؟
كان ممكنًا أن تنتفض هالعة واقفة صارخة، كان ممكنًا أن تجن كان ممكنا أن يقتله أحد، فليس لما يقوله إلا معنى واحد، ما أغربه وأبشعه من معنى.
ولكن غصة خانقة حبست كل هذا وحبست معه أنفاسها، سكتت بآذانها التي حولتها إلى أنوف وحواس، وعيون راحت تتسمع وهمها الأول أن تعرف الفاعلة إنها متأكدة لأمر ما أنها الوسطى، أن في عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص إذا أطلق، ولكنها تتسمع الأنفاس الثلاثة تتعالى عميقة حارة، كأنها محمومة ساخنة بالصبا تجأر، تتردد، تنقطع، أحلام حرام تقطعها أنفاس باضطرابها تتحول إلى فحيح، فحيح كالصهد الذي تنفثه أراضي عطشى، والغصة تزداد عمقًا واحتباسًا، إنها أنفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن تفرق بين كومة لحم حي ساخنة متكومة وكومة أخرى، كلها جائعة كلها تصرخ وتئن، وأنينها يتنفس ليس أنفاسًا، ربما استغاثات، ربما رجوات، ربما ما هو أكثر.
غرقت في حلالها الثاني ونسيت حلالها الأول، بناتها، والصبر أصبح علقمًا، وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر، فجأة ملسوعة ها هي ذي كمن استيقظ مرعوبًا على نداء خفي، البنات جائعات، الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم، أبدًا ليس مثل الجوع حرام، إنها تعرفه، عرفها ويبس روحها ومص عظامها، وتعرفه وشبعت ما شبعت، مستحيل أن تنسى مذاقه، جائعات وهي التي كانت تخرج اللقمة من فهما لتطعمهن، هي التي كان همها حتى لو جاعت أن تطعمهن، هي الأم، أنسيت؟ وألح مهما ألح تحولت الغصة إلى صمت، الأم صمتت، ومن لحظتها لم يغادرها الصمت..
وعلى الإفطار كانت، كما قدرت تمامًا الوسطى صامتة وعلى الدوام صامتة، والعشاء يجيء، والشاب سعيدًا وكفيفًا ومستمعًا ينكت لا يزال، ويغني ويضحك ولا يشاركه إلا الصغرى والكبرى فقط..
ويطول الصبر ويتحول علقمه إلى مرض، ولا أحد يطل وتتأمل الكبرى ذات يوم خاتم أمها في إصبعها وتبدي الإعجاب به، ويدق قلب الأم دقاته وهي تطلب منها أن تضعه ليوم، لمجرد يوم واحد لا غير، وفي صمت تسحبه من إصبعها، وفي صمت تضعه الكبرى في إصبعها المقابل، وعلى العشاء التالي تصمت الكبرى وتأبى النطق، والكفيف الشاب يصخب ويغني ويضحك، والصغرى فقط تشاركه ولكن الصغرى تصبح بالصبر والهم وقلة البخت أكبر، وتبدأ تسأل عن دورها في لعبة الخاتم، وفي صمت تنال الدور.
الخاتم بجوار المصباح، الصمت يحل فتعمى الآذان، وفي الصمت تتسلل الإصبع صاحبة الدور وتضع الخاتم في صمت أيضًا، ويطفئ المصباح والظلام يعم، وفي الظلام تعمي العيون، ولا يبقى صاخبًا منكتًا مغنيًا، إلا الكفيف الشاب.
فوراء صخبة وضجته تكمن رغبة تكاد تجعله يثور على الصمت وينهال عليه تكسيرًا، إنه هو الآخر يريد أن يعرف، عن يقين يعرف، كان أول الأمر يقول لنفسه إنها طبيعة المرأة التي تأبى البقاء على حال واحدة!
فهي طازجة صابحة كقطر الندى مرة، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى، ناعمة كملمس ورق الورد مرة، خشنة كنبات الصبار مرة أخرى!
الخاتم دائم وموجود صحيح، ولكن الإصبع التي تطبق عليه كل مرة تختلف، إنه يكاد يعرف، وهن بالتأكيد كلهن يعرفن، فلماذا لا يتكلم الصمت؟ لماذا لا ينطق؟

ولكن السؤال يباغته ذات عشاء، ماذا لو نطق الصمت؟ ماذا لو تكلم ؟
مجرد التساؤل أوقف اللقمة في حلقه، ومن لحظتها لاذ بالصمت تمامًا وأبى أن يغادره، بل هو الذي أصبح خائفًا أن يحدث المكروه مرة ويخدش الصمت، ربما كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله، والويل له لو انهار بناء الصمت، الصمت المختلف الغريب الذي أصبح يلوذ به الكل الصمت الإرادي هذه المرة، لا الفقر، لا القبح، لا الصبر ولا اليأس سببه.
إنما هو أعمق أنواع الصمت، فهذا الصمت المتفق عليه أقوى أنواع الاتفاق، ذلك الذي يتم بلا أي اتفاق.

الأرملة وبناتها الثلاث
والبيت حجرة
والصمت الجديد
والقارئ الكفيف الذي جاء معه بذلك الصمت، وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكته في الفراش على الدوام هي زوجته وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه، تتصابى مرة أو تشيخ، تنعم أو تخشن، ترفع أو تسمن، هذا شأنها وحدها، بل هذا شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم، هم الذين يملكون نعمة اليقين، إذ هم القادرون على التمييز، وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك، شك لا يمكن أن يصبح يقينًا إلا بنعمة البصر، وما دام محرومًا منه فسيظل محرومًا من اليقين، إذ هو الأعمى، وليس على الأعمى حرج، أم على الأعمى حرج؟؟



RE: بيت من لحم - يوسف ادريس - coco - 09-29-2010

شكرا للزميلة العزيزة / هالة علي جلب هذه القصة وأظنها فرصة سانحة لدعاة الفن الإسلامي للهجوم علي الفن الواقعي ولكن أرجو أن تتمهلوا قليلا وتشاهدوا هذه المعالجة السينمائية للقصة

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

الجزء الرابع

اللغة السينمائية لها طبيعتها وجمالياتها وآلياتها الخاصة التي يمكن أن توصل بطريقة مختلفة عن اللغة الأدبية

كوكو


الرد على: بيت من لحم - يوسف ادريس - jafar_ali60 - 09-30-2010

شكرا يا هالة على الموضوع

يوسف ادريس هو من اكبر روائي الوطن العربي وفيلسوفهم ، وهذه القصة في عمق كبير وتنتمي للواقع والادب الواقعي ، فالفقر لا يكون فقط في خواء المعدة بل في خواء الجنس وخواء الحواس

ولاعداء الواقعية اين هم من نكاح المحارم والسفاح وهو يتغلغل وينخر في المجتمعات


يا عزيزي كوكو

جميل الفيلم والروس اجادوا التمثيل ، الا ان البناء ناقص حجر الاساس فيه ، وهو ان " الدمامة" التي وقفت عائقاً امام فتيات قصة يوسف ادريس لم نجدها في الفيلم بل كانت الفتايات في غاية الجمال " جمال روسي"

تحية لكما


الرد على: بيت من لحم - يوسف ادريس - العلماني - 09-30-2010

Sorry !!


RE: الرد على: بيت من لحم - يوسف ادريس - jafar_ali60 - 09-30-2010

(09-30-2010, 11:09 AM)العلماني كتب:  Sorry !!

على شو سوري يا سندي ؟

رأيتك تضع روابط لمؤلفات يوسف ادريس ، وعلى أمل ان اقوم بتحميل بعض منها اثناء الليل

وتمسح وتقول سوري؟

وحق عليك الان سوريان ، الاول لأنك مسجت مداخلتك ، وثانيهما لانك وضعت سوري مكان الكنز

اعد وضع الوصلات ثم قول سوري

تحياتي






RE: بيت من لحم - يوسف ادريس - coco - 09-30-2010

عزيزي / jafar_ali60

اقتباس:يا عزيزي كوكو

جميل الفيلم والروس اجادوا التمثيل ، الا ان البناء ناقص حجر الاساس فيه ، وهو ان " الدمامة" التي وقفت عائقاً امام فتيات قصة يوسف ادريس لم نجدها في الفيلم بل كانت الفتيات في غاية الجمال " جمال روسي"

أتفق معك في أن السيناريو قد أباح لنفسه التصرف في القصة ليس بما تفضلت بذكره فقط ولكن بأمور أخري
ويوسف إدريس كان يكره إضافة حرف واحد علي مايكتبه وخصوصا المسرح وكان يحضر البروفات أحيانا لمراقبة خروج المخرج أو الممثلين عن النص وعليك أن تتذكر مشكلته مع المخرج يوسف شاهين في فيلم حدوتة مصرية حينما قام شاهين بالخروج السافر علي النص والذي جعل يوسف إدريس يتنصل تماما من الفيلم وكتبوا علي التترات فكرة يوسف إدريس , فالعلاقة بين السينما والنصوص الأدبية ليست دائما علاقة جيدة لأنه قد تتكشف للمخرج أثناء دراسة الفيلم أن بعض الأجزاء في العمل الأدبي لا تتفق مع الآليات السينمائية فيقوم بإلغائها أو تهميشها أو أن يصيغ الفكرة بشكل مختلف أو يزيد في النص أمورا ليست فيه لأفكار أخري طرأت له يعتقد أنها تزيد الفكرة جلاء أو تعدلها وفي ذلك مشكلة إذ قد تتغير رؤية الكاتب الأصلي إلي وجهة أخري وهذا الموضوع كبير جدا إن استفضنا فيه وأتينا بالشواهد ويمكن دراسته عند يوسف إدريس عن ماذا فعلت السينما بكتاباته حيث أن كم ما تم تنفيذه من كتاباته لابأس به ويصلح لعمل دراسة عليه.

كوكو


RE: بيت من لحم - يوسف ادريس - coco - 10-04-2010

مؤقتا حتي تتفرغ العزيزة / هالة New97 What

قبل أن نعلق علي قصة بيت من لحم ليوسف إدريس فسوف نلقي نظرة علي الأدب الواقعي في تناوله لموضوع الجنس .
بداية ألفت نظر القارئ إلي الفيلم الهام للمؤلف المتميز وحيد حامد وهو فيلم ( النوم في العسل ) , في هذا الفيلم ناقش الكاتب بطريقة لاواقعية فكرة واقعية وطبعا هناك فرق بين المضمون الواقعي والتناول اللاواقعي , إذ أن الواقعية في تناولها ترصد ما يمكن أن يتحقق واقعيا بصرف النظر عن تحققه فعلا فالفكرة التي يتناولها الكاتب الواقعي هي ما يمكن للعقل أن يتصور حدوثه بصرف النظر عن حدوثه فعلا , فقد يكون المضمون أو الفكرة التي يتناولها الكاتب من بنات أفكاره ولم تحدث واقعيا ولكن إمكان حدوثها معقولا , لأننا لا يمكن أن نطالب الكاتب الواقعي أن يتناول ما حدث فعلا و إلا كانت مادة إلهامه محدودة , في الفيلم كانت مشكلة الجنس هي المادة المتناولة , ووحيد حامد عندما صاغ معادله الموضوعي ( عدم القدرة علي الفعل الجنسي ) إنما كان يشير بتناول غير واقعي إلي واقع آخر حقيقي ( real ) وهو المضمون الذي يرمي توصيله وهو ( عدم القدرة علي الفعل عند الجماهير ) , وطبعا لن أتناول الفيلم هنا وإنما أشير فقط إلي أن الشكل الذي اختاره الكاتب في تناوله ليعبر به عن فكرته كان هو الجنس من حيث أنه أحد أهم أشكال التعبير عن الدور الإنساني الفاعل في الحياة , وإذا تأملنا الحوار الذي دار بين بطل الفيلم والطبيب النفسي سوف نلاحظ أهمية هذا الدور , فإذا كان هذا الدور قد توقف عن العمل فما هي قيمة هذا الإنسان , ولذلك كان التعبير عن فقده يعني لدي وحيد حامد ضياع دور الإنسان المصري نتيجة إحساسه بفقد الهوية أو عدم وجود مشاريع كبري أو, أو , أو ...

في قصة يوسف إدريس التي تتحدث عن حدث واقعي بالمعني الذي ألمحت إليه آنفا يتمثل في أرملة وبناتها الثلاث الفقيرات الدميمات اللواتي لا يجدن فرصة في الزواج بسبب هذا الواقع تضطر الأم إلي الزواج من مقرئ كفيف فربما انفتح الباب لبناتها ليجدن فرصة للزواج بعد أن تعرف أرجل الرجال بابهن , ولكن الحال يظل كما هو لا يتغير , والأزمة في القصة تبدأ حينما تخدع البنت الوسطي الكفيف وتنام معه مكان أمها لتشبع رغبتها الجنسية بعد أن تلبس الخاتم الذي أهداه لأمها ولا يعرفها إلا به وخاصة أن البنت تلوذ بالصمت عند اللقاء الجنسي ثم تتناوب البنات الدور واحدة إثر الأخري بعلم الأم وصمتها وصمت البنات أثناء الفعل وبعده ,والمقرئ الكفيف يشك في الأمر ولكنه يصمت هو الآخر ولا يتفوه .

طبعا بهذا الشكل الذي طرح به يوسف إدريس قصته سوف يجد نقاد الأدب الواقعي الفرصة سانحة كما ذكرت في مداخلتي الأولي للهجوم علي الأدب الواقعي بأنه يعرض الواقع بما فيه من مفاسد ولا دور للمثل العليا أو الأخلاق الفاضلة فيه حيث أن الأم تصمت حين تكتشف تلك الكارثة وكذلك فإن الطرف الآخر - الرجل – يظل سادرا ويتعلل بحجة واهية وهي أنه كفيف وأنه لا حرج علي الكفيف وإنما الحرج علي المبصرين وحدهم .

ولكن لو تأملنا قليلا فسوف نري أن يوسف إدريس وهو يطرح قصته بهذا الشكل الجرئ والخارج علي كل الأعراف والتقاليد التي تفزع القارئ إنما توسل بهذا الشكل لكي يعبر عن قضيته خير تعبير , ذلك أن الجوع الجنسي لدي البنات الفقيرات كان تعبيرا عن واقع اجتماعي شرس لم يرحمهن في فقرهن ودمامتهن وأدي بهن إلي الضياع النفسي الذي شل قدرتهن علي الفعل الصحيح , وكان لاختلال الموازين النفسية دورها في إنتاج أي فعل يتعارض مع الأخلاق والقيم والتقاليد وحتي الدين , وإدريس وهو الكاتب الواقعي المنحاز للطبقة الفقيرة لا يلقي بقصته دون أن يحلل هذا الواقع الاجتماعي ويكشف دوره في إنتاج ظواهر لصيقة الصلة بتناقضاته .

يتبع بعدها

كوكو



RE: بيت من لحم - يوسف ادريس - هاله - 10-04-2010

أستاذ كوكو

أتعرف كيف لا يقرب المؤمن الصلاة الا بعد وضوء و تطيب و كيف تقضي المليحة ساعات أما المرآة لتخرج كأجمل نساء الأرض يسبقها عطرها و رنة خلخالها الى موعدها مع روميو أو مع ابن الملوح؟ هكذا أنا. لا أستطيع الاقتراب من عمل أدبي دون ترتيب الطبيعة و المزاج و لا قبل أن تصبح الفكرة معتقة ..

من ناحية أخرى
أدخل النادي فأجد أبواب الفكر الحر و الحدث و الاجتماعية في وجهي فأعلق فيها خاصة و أني أبحث عن الصدام و وجع الدماغ بحثا فينتهي الوقت قبل أن أدرك واحة الجمال الأدبية ... سوري أعزائي و ها أنذا أكتب:


مداخلة رائعة يا أستاذ كوكو اذ أنك أشرت الى فيلم رغم قدمه لا يزال عالقا بذاكرتي و اذكر أني كتبت حوله في الزمنات في مكان ما. و أنا هنا اضيف فقط الى مداخلتك التي أوافقك الرأي فيها جملة و تفصيلا.

اقتباس:يوسف إدريس وهو يطرح قصته بهذا الشكل الجرئ والخارج علي كل الأعراف والتقاليد التي تفزع القارئ إنما توسل بهذا الشكل لكي يعبر عن قضيته خير تعبير , ذلك أن الجوع الجنسي لدي البنات الفقيرات كان تعبيرا عن واقع اجتماعي شرس لم يرحمهن في فقرهن ودمامتهن وأدي بهن إلي الضياع النفسي الذي شل قدرتهن علي الفعل الصحيح , وكان لاختلال الموازين النفسية دورها في إنتاج أي فعل يتعارض مع الأخلاق والقيم والتقاليد وحتي الدين ,

هذا الواقع أجاد تصويره كل من يوسف ادريس و المخرج أشرف سمير. فهو واقع يبدأ يومه و يمضي فيه و ينهيه بالدين و الصلاة (تعدد مشاهد الآذان) و تبدو الأمور من السطح عادية تماما لكن عندما ننزل الى خباياه (البيت تحت الأرض و يوصلنا اليه سلم أو درج) نجد النقيض الصارخ لذلك الواقع المتدين و الورع. اذ أنه حتى الرجل الذي يقرأ القرآن مرات و مرات كل يوم رفع الراية مستسلما ليمضي في علاقاته غير المشروعة بالبنات و يستمر الصمت و الاتفاق غير المعلن من قبل الجميع سيدا الموقف.

واقع الفقر هذا الذي أعاق الرجل فيزيولوجيا منذ طفولته فأعماه أعاق الأم ماديا و نفسيا و اجتماعيا فاضطرها لزواج لا ترغب فيه -انما أملا في حل معضلة العائلة- كما أعاق البنات أيضا بالحرمان الجنسي و بالتهميش الاجتماعي فأمسين "كومة لحم". الكل اذن ضحية الواقع القاسي الشرس و لكن الكل أيضا تواطأ مع الواقعلدرجة أن شكل "جمعية" في رجل أعمى. هذا الأعمى نشب صراع في داخله (تردد قبل الدخول في آخر لقطة من الفيلم) حين أدرك اللعبة لكنه آثر المضي فيها و الانضمام الى جمعية الصمت قهرا أو القهر صمتا.
و ذلك لب قضية فيلم "النوم في العسل" حيث الكل يعاني نفس المشكلة (الضعف الجنسي) لكن الكل ينكرها (و اذا بليتم فاستتروا) من أجل أن تبدو الأحوال تمام التمام.

بقيت النقطة التي أشار اليها زميلنا الرائع "ابو جعفر" حول الحرمان و أحد أشكاله الحرمان الجنسي الذي تعانيه البنات. هذا الجوع الجنسي مضاد لمتطلبات الطبيعة البشرية و الحيوانية و لذلك نرى الطبيعة تنتصر داحرة تعاليم أتت من خارجها رغم أن هذه التعاليم حسب زعمها تحمي و تقود الى و تؤسس لمكارم الأخلاق. لقد اثبتت فشلها و قهرها الواقع و أعاقها مثلما أعاق أبطال القصة. ففي هكذا واقع يمسي الانسان و الدين معا ضحايا و لا بد من تغييره ان أردنا مكارم أخلاق حقيقية و حلمنا بانسان معزز مكرم.  

هذا رد سريع .. و تسليكة حال .. و لنا عودة

تحياتي و Rose_rouge


RE: بيت من لحم - يوسف ادريس - coco - 10-04-2010


رد سريع
اقتباس:هذا الواقع أجاد تصويره كل من يوسف ادريس و المخرج أشرف سمير. فهو واقع يبدأ يومه و يمضي فيه و ينهيه بالدين و الصلاة (تعدد مشاهد الآذان)

هذه إحدي نقاط الخلاف بين العمل الأصلي والفيلم , فيوسف إدريس لم يمس الدين إلا مسا خفيفا حين أورد هذه الفقرة
اقتباس:صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة، يتصاعد في روتين لا جدة فيه ولا انفعال، والتلاوة لقارئ، والقارئ كفيف، والقراءة على روح المرحوم وميعادها لا يتغير، عصر الجمعة يجيء بعصاه ينقر الباب، ولليد الممدودة يستسلم، وعلى الحصير يتربع، وحين ينتهي يتحسس الصندل، ويلقي بتحية لا يحفل أحد بردها، ويمضي، بالتعود يجيء، بالتعود يقرأ، بالعادة يمضي، حتى لم يعد يشعر به أو ينتبه إليه أحد.

ولكن الفيلم جعل للدين مساحة أكبر بتكرار الآذان والصلاة وممارسات جماعة المؤمنين, وربما كان هذا بسبب ظروف إنتاج الفيلم , فالفيلم مشروع تخرج للمخرج من روسيا , صحيح أن إدريس وهو يتحدث في الفقرة أعلاه يجعلنا نحس بأن دور الدين أصبح دورا معتادا مكررا وهامشيا ومكانه الوحيد هو في الترحم علي الأموات , ولكن الفيلم صوره كنوع من النفاق والخداع الاجتماعيين ففي الوقت الذي ينكب فيه المجتمع علي الدين بهذا الشكل الكبير تدور تلك المأساة الفاجعة والدين الذي يتلفع به المجتمع لا يلقي بالا إليها فكأنه الفاعل في صنعها وهذا كثير علي نص إدريس وزائد عنه , وربما يكون لنا في النهاية وقفة لنبين مواطن الخلاف بينهما كما تفضل الزميل جعفر حين تكلم عن جمال الفتيات فبإضافة هذه إلي تلك ربما تكون المحصلة أن للفيلم توجه أيديولجي .

كوكو




RE: بيت من لحم - يوسف ادريس - هاله - 10-04-2010

أستاذ كوكو

أنا كنت أتكلم عن الفيلم و ليس عن القصة و ذلك اكمالا لتطرق زميلنا ابو جعفر اليه ثم تطرقك الى فيلم "النوم في العسل". و ربما نأتي للقصة لاحقا حتى لا يحدث خلط بين العملين.

أما عن الدين فلا أعتقد أن المخرج أو يوسف ادريس أو أنا ظلمناه انطلاقا من موقف ايدولوجي. فثلاثتنا نتفق معك في أنه ليس "الجاني" أو المتهم بل الواقع هو الذي جنى على الكل. و أنا قلت في ردي السابق: ففي هكذا واقع يمسي الانسان و الدين معا ضحايا. المخرج أفرد مساحة لعنصر الدين -لأنه جزء اصيل من ثقافة هذه الأمة- لكنه لم يتجنى عليه. و ها هو واقع اليوم الطافح بالتدين طافح بالفساد أيضا. ليس هناك تجني و لكن هناك شهادة من الواقع نفسه على غلبة الواقع للدين.

نقطة أخرى
التركيز على الدين عند المخرج جاء ليضفي القوةعلى حدة التناقض بين الدين و الواقع مثلما تضفي المقابلة في الشعر قوة على الصورة الشعرية مثل قول سميح القاسم مثلا "كأنه الليل منثورا على الفجر" عند وصفه لشعر المحبوبة أو قول ناظم الغزالي واصفا شعره الذي تخلله الشيب "فالليالي تزينها الأقمار" ليكثف سواد الأسود و بياض الأبيض و هكذا. اذن هناك توظيف فني و فكري للدين -و هو مصدر الفضيلة بمفهوم ذلك المجتمع- و كيف دفع به الواقع الشرس الى مستنقع الرذيلة.

نعم يوسف ادريس لم يفرد مساحة للدين فهو محكوم بحجم القصة القصيرة لكن اختيار شيخ كفيف لذلك الدور لم يأت من فراغ. فقد كان من الممكن أن يختار رجلا كفيفا و فقيرا آخر. فالمساحة ليست هي الحكم دائما. بل ان هناك قصصا و روايات و مسرحيات البطل فيها غائب و مع ذلك "الكلام كم كان عليه" -على حد تعبير محمد منير- و عندك "في انتظار غودو" مثلا. و في مسرحية "بيت الدمية" لابسن ربما لم نر الرجل الذي استلفت منه "نورا" النقود لكن دوره كان كاللغم الذي انفجر في دقيقة ليعري الشخوص و القيم و يقود نورا (الدمية) الى شخصية نمر شرس.

أما كون البنات في الفيلم أقل دمامة من وصف ادريس لهن فيقودني الى القول أن المخرجين يقدمون نفس العمل الأدبي برؤياهم الخاصة و بقراءاتهم المختلفة. فأحد المخرجين -لا أذكر اسمه- قدم القصة نفسها و لكنه جعل العائلة سعيدة و مرحة بما فيها الكفيف بعد أن "انفكت" عقدتهم الجنسية في حين أن ادريس بدأ القصة و أنهاها بجو الصمت و التأزم. هذا لا يعني بنظري ظلما للقصة و لا افتراء عليها بل بالعكس فهي شهادة رائعة لها بخصوبتها و قدرتها على أن تكون "مولدة" لأعمال و رؤى مختلفة. و العديد من مطربي اليوم نجدهم يغنون روائع قديمة لأم كلثوم و عبد الحليم و ناظم الغزالي و غيرهم باصواتهم.

الرفق بالفتيات عند المخرج أراه ضربة موفقة فهذا يعني أن الواقع لم يرفق بهن حتى لو كن على قدر اقل من الدمامة و هذا تكثيف لشراسة وطأة الواقع و خصوصا على المرأة. فهذا الواقع همشها و هشمها و حولها الى كتلة لحم بلا انسانية و لا دور و لا حقوق و لا ولا ولا. تلك الكتلة لا منفذ و لا متنفس لها الا عبر الذكر (و لذلك تزوجت الأم الأعمى أملا في خلاص بناتها) لكن هذا الخلاص في ذلك الواقع الشرس يقود الى اعادة انتاج الشراسة و استغلال المرأة (مواصلة الزوج مضاجعة البنات) دون أن يحقق لهما أي حلم (السفر للاسكندرية أو تحسن الوضع المادي مرموزا له بدفع الايجار). بل ان ذلك الخلاص/ الحلم تبين أنه سراب حتى بالنسبة للرجل الفقير اذ صتر يبدو "كاذبا" في وعوده و لا أخلاقيا في علاقاته.
و هكذا لا خلاص لأي طرف و لا للدين في هكذا واقع ظالم و شرس.

لنا عودة

New97