حدثت التحذيرات التالية: | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5) +--- المنتدى: لغـــــــة وأدب (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=78) +--- الموضوع: علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي (/showthread.php?tid=40310) الصفحات:
1
2
|
علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي - coco - 11-15-2010 علي الشاطئ ذهابا وإيابا استدرجني بطول الساحل الممتد . منذ وطأت قدماي تلك المدينة الساحلية البعيدة وأنا أحذره رغم أنى علي الأرض بعيدا عنه , وربما كان يعلم بهذا الحذر ويمد أمواجه قدر ما يمكن من هذا البعد لكي يراني , وعندما تلاقينا بطول الساحل حاول أن يكون رقيقا لأول وهلة فظهرت مياهه خفيفة الزرقة تلمس الرمال الناعمة الدقيقة في رقة ونعومة أحسده عليهما . كان الجرف عاليا جدا ونظرت إليه في البعيد عند حد الأفق , كان جسده مسترخيا يتموج دون أعضاء وأنا الذي أعرفه , أعرف يديه وأعرف وجهه وأعرف ذكورته المعذبة , بدا لي الآن وكأنه أنثي في لحظة خدر لذيذة مستسلما في نشوة لاستلقائه الفسيح . بطول الساحل ظل يراودني أن أقترب , يعرف أن الجرف العالي يمنعه عني , بطول الساحل ظل يراودني بعرائسه ذوات اللباس القصير واللحم الأشقر القاني أو الأسمر المحروق , كنت أراهن بطول الساحل يتهادين علي الطريق في زينتهن , يدخلن إليه بملابسهن الخفيفة , بحمرة الأصباغ علي خدودهن ,الأحمر المتوهج في شفاههن ,الأسود اللامع علي حواف عيونهن وعندما يواجهنه لا يستطعن الإفلات , كان يبتذلهن بعنف وتتبدي ذكورته التي لا حد لها إلا الأفق , كن يخرجن منه محلولات الشعر متهدجات الأنفاس مختلطات الأصباغ ,تحملق عيونهن في اللامرئي, مستسلمات لصوت بعيد, مسحوقات ,عاريات ,بقايا ثم ما يلبثن أن يرتمين بين ذراعيه مرة أخري , يتراجع بجسده الكبير ثم يدفع بهن فيتأرجحن علي سريره الناعم اللدن في لطف , يداعب أعضائهن فيرخين أهدابهن حالمات ,يتخلل الملابس الرقيقة إلي الداخل , ينساب في زواياهن السرية المظلمة , يتلمس المكامن الخفية التي يعرفها جيدا وعندما يتركهن يكون البلل الداخلي قد غمرهن وفاض علي وجوههن . ظللت أراقبهن بطول الشاطئ وهن في ذلك التداخل والانفصال , وبطول الساحل ظل يغريني بهن أن أنزل وأتداخل معه فيهن واعدا إياي بنصيبي منهن إلا أنني وأنا الحريص والذي أعرف مكره الذي لا ينتهي كنت أوليه ظهري وأستمر سادرا طالما ظلت قدماي تحملني حتي أصل لنهاية الساحل . الرصيف الصخري للميناء القديم كان يمنعه هذه المرة عن مجرد لمسي , نظرت إليه في كشف , حول الرصيف بعض الحديد الصدئ وكميات كبيرة من النفايات الجافة التي لفظها في أيامه الطويلة , جلست علي الرصيف وأدليت بساقي إلي الأسفل , هل يستطيع أن يشدني إليه , قست المسافة بين قدمي وبينه فوجدتها تقترب من الذراع وأخذت أحدق في جسده المحدود بحدود خليج الميناء كأنه السجين , كان تحت قدمي هلاميا يضرب إلي الزرقة الداكنة , أمواجه كأنها حلزونات كبيرة تهرع إلي الرصيف تحمل تلك النفايات وتدفعها في بطء ثم تعاود الكرة في تموج رخو, كنت اعرف أنه يجيد تنظيف نفسه , الاستحمام هو متعته الوحيدة فإن لم يجد من يستحم معه استحم بنفسه , جسده الهلامي علي بعد عدة مترات لا يفصح عن شئ بداخله إلا الظلمة الزرقاء الداكنة ولكن علي الأطراف وتحت قدمي كنت أستطيع أن أري عمقه الصغير , وفجأة انتبهت علي صوت غريب كأنه صوت طبول خافتة تأتي من بعيد, وعرفت أن الصوت صوت مياهه تضرب الرصيف الصخري من الداخل , وفكرت سريعا : إذن فقد استطاع أن ينخر الرصيف من أسفل وأحسست للحظات أن الأرض التي أجلس عليها وأثق فيها ربما كانت ملكه أيضا , وأنه يستطيع أن يوقع بي ولكنه ينتظر اللحظة المناسبة , رفعت قدمي بسرعة وتراجعت عن الرصيف الصخري قدر ما أستطيع أن أفقد ذلك الصوت الأجوف إلا أنه كان دائما يصل إلي أذني خافتا , وفجأة رأيتها , كانت عارية لا شئ يستر بدنها المتغضن إلا غلالة رقيقة علي نصفها الأسفل وكانت نائمة في العمق الشفاف شعرها مفروش حول رأسها , عيناها الميتتان تحدقان في امتلاء الماء وساقاها منفرجتان وذراعاها معقوفتان كأنها تحتضن الزرقة الخفيفة , كان يرفعها ويخفضها في العمق دون أن يدفعها إلي السطح أو إلي الخارج , واستطعت بعد تأمل دقيق أن أري وجهها المستدير الذي أحفظ تضاريسه وقد أصبح مستطيلا رفيعا , وشفتيها المكتنزتين وقد استحالتا إلي جفاف شاحب , وتلك الخضرة النامية في صدرها والتي كثيرا ما جست خلالها قد يبست واستحالت إلي البني الداكن , كان قد انتهي منها حد الثمالة, وعرفت الآن أن تبدل أحواله من أول الشاطئ كانت متصاعدة ,الإغواء بالرقة ثم بالعنف ثم السخرية , لم يراودني خاطر أن أنتشلها لأني كنت متأكدا في قرارة روحي أنها لا تعدو أن تكون جثة خامدة منذ أن استسلمت له , والآن هاهو ذا يريني إياها في ذلك العمق الضحل تحت لمعان الشمس علي سطحه , لم أحس بالشفقة تجاهها أو حتي بالازدراء وإنما حياد بارد لا يعكر صفوه مويجة صغيرة , سحبها إلي الداخل في خضه لها وظل يراقبني شاهرا عينيه في وجهي متهما إياي بالضعف والخور وظل يذكرني بذكورته اللانهائية تجاهها , قال لي : أنه مارسها بقوة عدة مرات ولم تملك إلا أن تكون مشدوهة الأنفاس لا تقوي علي الحراك , وأنه مارسها برقة مرات أخري وكانت مسترخية الأوصال في خدر , كان كلامه يعذبني ويغريني أن أقفز إليه وأصارعه , ضحك ضحكة مكتومة وحول وجهي إلي عدة سنوات مرت حين تصارعنا بعد أن قطعت شوطا طويلا فيه محاولا أن أسبر تراميه الهائل وبعد أن أنهكني لطمني لطمة أخيرة ثم بدأ في ابتلاعي إلي امتلائه الثخين وما كدت أنساب إلي الداخل حتي فك قبضته عني واثقا أنني في طريقي إلي العمق وإذا بقوة يائسة تدب في ذراعي جعلتني أصارع حتي أصل إلي السطح , موجاته العالية تعيدني مرة أخري إلي قلبه وتجرعني من مائه المالح حد امتلاء معدتي ورئتي ثم يشدني في بطء إلي أسفل ويظل يحشو داخلي بالماء كي أصير منه , لفت وجهي عن الذكري وتساءلت , لماذا كان يحتاجني هذا اليوم ؟ هل كان سيقوي بابتلاعي ويجدد قوته ؟ هل يستمد فحولته مني ومن كل أولئك الغارقين ليصير خالدا إلي الأبد يستمتع بإغراء عرائس الماء ؟ , هل عندما لفظني كنت إحدي النفايات بعد أن سلبني كل شئ ؟ , لست متأكدا , ما يهمني هو السؤال لماذا يراودني عن ذاتي كلما أواجهه ولماذا يغريني بالعناق ؟ , ربما كان يخاتلني لغرض مبهم لا يعرفه هو نفسه , لو يفصح لي قليلا ربما تمكنت من مساعدته علي الإجابة و لربما استسلمت له , ولكني كنت مشحونا دائما بعدائه القوي , بصمته الدائم , وعينيه الكبيرتين اللتين تحملان سره ولا تبوحان , تلمعان بالشمس علي سطحه الرقراق وتخفي الغموض كله في العمق . كان علي أن أعود بطول الساحل وظل يلاحقني من وراء و لكن عيني الداخليتين عليه , حتي انتهيت إلي الجرف العالي الذي بدأت منه في أول الساحل , رأيتهم محتشدين في قارب صغير يسرعون إلي الداخل , يقفز بعضهم إلي الماء ينتشلون منه جسدا ما , ربما كان جسدها وقد دفع به إلي هنا , ولكنني رأيتهم وهم يخرجون منه و يتسلقون الجرف في تظاهرة يحملون رجلا وكان الآخرون علي الشاطئ يهرعون إليهم للمساعدة فيزداد الجمع , وضعوه أعلي الجرف ثم تحلقوا حوله , حثثت الخطي حتي وصلت إليهم , اخترقت الأجساد الملتفة حوله , كان مسجي علي بطنه انحنيت عليه في سرعة وحركته بمساعدتهم حتي استلقي علي ظهره , كان رجلا ضخم الجسم كبير البطن , وجهه شاحب وجسده متصلب وعيناه واقفتان في محجريهما , أدرت وجهي ونظرت من بين سيقان الحشد إليه و رأيته يلعق شفتيه ويتقافز ثم يهرع إلي الساحل الرملي في نزق كي يلمس أقدام عرائس الماء اللائي فزعن منه فوقفن علي الرمال بعيدا عنه خائفات وهو يجري إلي أقدامهن ولا يطالها , ثم يتراجع مبتعدا قليلا ويستنشق نفسا عميقا ثم ينطلق مرة أخري إليهن في اندفاع جنوني وهن ينظرن إليه في تراجعه وانطلاقه حائرات , فتحت فم الرجل المتصلب فواجهني لسانه الكبير يملأ تجويفه وأخذت نفسا عميقا ودفعت بالهواء إلي فمه , دوي صوت الهواء في فراغ فمه كأنه بوق أجوف وسمعت صوته من بعيد وهو يحذرني , أخذت نفسا آخر ودفعت فسمعت صوت الهواء يرتد وأنا أضغط علي صدره في تلاحق , كان البحر كله بداخله , ممتلئا بالماء حتي أخمص قدميه , وكما يدفع البحر الهواء الذي يدخل إليه إلي الخارج في شكل فقاعات صغيرة ظل يقاوم دخول الأنفاس إلي امتلائه بغضب , كان الغيظ يدفعني أن أملأ صدره بالهواء كيفما اتفق , أحكمت وضع فمي علي فمه واستطعت أن أدفع إليه نفسا كبيرا وارتددت بوجهي عنه فوجدت البحر يخرج من بين شفتيه ماء رائقا أبيض يملأ الفم ثم يسيل علي الجانبين , شعرت بالتقزز إذ كان محملا بالزبد الخفيف الذي سرعان ما ينفثأ لدي خروجه في وجهي , حمله الرجال إلي عربة الإسعاف التي كانت قد وصلت ووقفت أتحسس سروالي وأنفض الرمال الناعمة التي التصقت به بفعل البلل وعندما دوي بوق سيارة الإسعاف تغادر بالرجل نظرت إليه فوجدته يلاعب عرائس الماء اللاتي كن قد دخلن فيه وهو يشيح بوجهه عني متجاهلا . مرسي مطروح صيف 1994 كوكو يتبع - هوامش وتأملات شتي - RE: علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي - coco - 11-16-2010 توتو عوامي – (بورتريه) – المد والجزر لاحظت مع مرور الأيام أن "توتو عوامي" لا يدخل حانة "فوتي "إلا في الليالي المقمرة , جلستي المعتادة علي "الأجلون" مكنتني من تلك الملاحظة , كان يكفيني أن ألاحظ خروجه من الحانة التي تقع إلي الغرب وأنظر إلي الشرق لأري البدر مصعدا في السماء وعندما يمر بي متجها إلي الشرق كان نظره لا يفارق البدر الكبير الصاعد إلي أعلي , فارضا وسامته علي عيني لدي مروره أمامي أراه كما لو كان شخصا آخر غير "توتو" الذي أعرفه في النهارات والليالي السابقة , متألق العينين مشدود القامة صلب الأنف , بصره شاخص للشرق مصوبا علي البدر الطالع , عندما يتجاوزني أناديه بصوت يتناسب مع بعده الخطوات القليلة عني , وعندما تزيد المسافة يعلو صوتي ولكنه لا يجيب , يظل ماضيا في طريقه حتي يصل إلي تقاطع شارع "الإسكندرية" مع "علم الروم" , يقف لبرهة ثم ينعطف في "علم الروم" ويغيب عن بصري تاركا إياي في تساؤلات شتي . بدأت معرفتي به عندما أتاني بتوصية يطلب خدمة لقريب له عن طريق عملي , رأيته شخصا مرحا ودودا علي غير عادة أهل البلد , تطرق الحديث عن علاقته بالرجل الذي أوصي به , قال مندهشا : ألا تعرفني , أنا عازف المجرونة في فريق الموسيقي , عندما تغضنت جبهتي لأعلي وارتفع حاجباي مد يده إلي صدره وأخرج لي آلته الموسيقية مبتسما وقال : إنها لا تفارقني أبدا , أمسكت بها وقلبتها بين يدي وعندما قلت : هل هذه هي التي تصنع كل هذا الجنون في الناس , خفض وجهه خجلا , ولما تصنعت عدم فهمي لخجله انسحب من أمامي دون وداع وتركني أهيم بناظري في إثره. في الليالي الدامسة حين يكون القمر في بداية دورته الجديدة , كان يأتي إلي "الأجلون" يمسك بيدي ويشدني لأقوم معه لدرجة أنني قد لا أتمكن من محاسبة النادل فألوح له ويلوح لي , نمضي إلي الغرب في طريقنا إلي الشاطي حتي نصل إلي اللسان الصخري في منتصف الخليج , نقطعه في بطء وعندما نصل إلي نهايته ونري الماء الأسود يجلس القرفصاء , يمد يده إلي صدره ويخرج المجرونة ويمسح عليها في حنو ويقول : اسمع هذه , يظل يعزف وأنا واقف أتأمل أضواء السفن الضعيفة التي تأتي من عرض البحر , وعندما ينتهي أراه يتحول من جلسته القرفصاء إلي النوم علي بطنه ويمد يده ويغترف غرفة من مياه البحر ثم ينتصب واقفا , وكما لو كان وحيدا في المكان يمعن النظر فيها لبرهة ويتذوقها بطرف لسانه ويشمها بأنفه ثم يتمتم بصوت بالكاد أسمعه : تلك المياه ميتة , يمضي ويتركني هناك أحاول الفهم . قابلته بالصدفة في ليلة غير مقمرة , أمسك بذراعي وأعادني أدراجي , أفهمته أنني مشغول فأصر علي أمضي معه , كان جسده يبدو مضطربا وأحس بالرعشة تنتاب صوته كلما اقتربنا من المكان الذي يقصده , توقف قليلا جاعلا جسدي ستارا له وأخذ ينظر في وله إلي منزل أمامه , كان من نوعية البيوت المنتشرة في البلد , سور كبير يحوي فناء والمنزل يقبع في المنتصف , ظل يتأمل المنزل لدقائق ولما أبديت له استيائي من وقفتنا الغربية في هذا المكان شبه المهجور , تمتم : اعمل معروفا , كان البكاء يكاد يخنق صوته فاستسلمت , رأيت عينيه تشعان بالتحفز حين ظهر ضوء قرب أحدي النوافذ , إلتفت ببصري وأنا مازلت أخفيه فرأيت في نور الضوء الشاحب وجه فتاة , ظلت ساكنة للحظات , جامدة الأسارير و وبعد لحظات مدت يدها إلي وجهها وكأنها تمسح دمعة ثم لوحت بها بخفة لاحظتها بالكاد ثم انقطع الضوء وضاع الوجه معه , التفت ببصري إليه فوجدت بحيرتين من الدموع في عينيه , أمسكت بكتفيه وقد فهمت الأمر وقلت في سخط : ما الذي يمنعك عنها ,هه , ماذا يمنعك عنها ؟ , أطلق آهة من أعماقه ولما رآني مازلت أهز كتفيه نزع نفسه مني في غضب وقال : الدم , الدم , هل تفهم ؟ , دم بين القبيلتين , أطرقت من الدهشة والرهبة ومضي هو في طريقه تاركا إياي وحدي لظلمة المكان . في ذلك اليوم وبعد أن حدست التوقيت الصحيح قررت أن أعرف سره , في ليلة البدر لم أجلس علي "الأجلون" , جلست علي مقهي آخر قرب "علم الروم " , لدي تبديه لي متهاديا في الشارع تمكنت من رؤية وجهه المشغول بسره و عندما انعطف في "علم الروم "قمت من مكمني وأخذت في تتبعه , أخذ ينعطف يمنة ويسرة كأنه يضلل شبحا ما , وزادت دهشتي عندما وجدته وأنا وراءه يدلف إلي ساحل "روميل " من مكان لم أتوقعه قط , ظل يمضي علي الرمال في ساحة الشاطئ بينما ظللت بعيدا عنه , يفصلنا المياه الضحلة عند المرسي الجديد , قفزت إلي أحد القوارب وأخفيت جسدي , سمعت ورأيت كل شئ , جلس القرفصاء كيوم أن أسمعني ألحانه للمرة الأولي وظل يراقب حركة البدر المتصاعدة في السماء وينقل عينيه للماء , وفجأة رأيته يمد يده لصدره ويخرج "المجرونة " , غمر الليل صوت شجي هلع قلبي له ينادي من أعماق الصحراء مياه البحر التي بدأت في الاضطراب بفعل المد القمري ربما أو بتأثير المجرونة , ظل يعزف لساعة ويقوم ويقعد ويميل ويهتز ويدور حول الشاطئ , وفجاة وجدته لدهشتي لدرجة أنني قفزت من القارب أحاول منعه يدخل إلي البحر ماشيا فيه ويظل ماشيا حتي يختفي تحت سطحه , تاركا أياي في ظلمة نفسي . لم أندهش حين قابلته بعد أسابيع من ليلة " روميل " , فقد تعودت اختفاءه وظهوره حتي ولو كان بالدخول في البحر كان القمر قد بدأ في الشحوب وكانت الليلة باردة , وكنت أجلس داخل " الأجلون " عندما انحط بجسده بجواري كأنه يلقي كل معاناته وعذاباته , ربت علي كتفه , لوحت للنادل ولكنه اعتذر , كان صامتا وأنا أستفيض في الحديث دون توقف , ولما لاحظت سكوته الطويل , أشعلت سيجارة ومددتها إليها , أشاح بوجهه عني فمددتها إلي شفتيه مداعبا فدفعها بيده وقال : أحتاج إلي كل خلية تنبض في رئتي اليوم , تساءلت : ماذا لديك الليلة , غمغم ستعرف في الصباح , انتصب واقفا وأمسك يدي يسلم علي ّ , وقفت أسلم عليه فاحتضنني بقوة غريبة لم أعهدها منه من قبل , قلت : ماذا وراءك , غمغم بصوت متحشرج : ستعرف في الصباح , في الصباح ومضي مغادرا تاركا إياي في حيرتي الدائمة . في الصباح وأنا في طريقي إلي العمل وجدت سحنة السماء تتفق مع سحنة المدينة في الوجوم , مجموعات صغيرة متناثرة علي طول الطريق وفي الأركان تتحدث , توقفت أشتري الجريدة واستفهمت من البائع , قال وهو يمضغ الكلمات : " توتو عوامي" , استغربت أن يسميه" توتو" , الجميع هنا يناديه باسمه الحقيقي عوامي ولا أحد سواي يناديه "بتوتو عوامي " , قلت في سرعة : ما الذي حدث له ؟ أشاح بوجهه وغمغم : قتل , جننت , ما الذي حدث , قال في قهر : قتل قلت لك أنه قتل . رأيته في الحلم في نفس ليلة مقتله ولكني حاولت تناسي الحلم في الصباح حال استيقاظي حتي أستطيع أن أمضي يومي , رأيت "توتو" يسير في نفس الطريق الذي قطعناه معا حتي بيت "الحرماني" , وحده هذه المرة دون رفيق ولكن عيني لا تفارقه في الحلم , عندها توقف هناك منتصبا والريح تصفع كل جسده وزمجرتها المخيفة تتقاطع مع الزمجرة التي تغلي في روحه , ظل واقفا إلي أن لاح من النافذة الضوء الشاحب ومعه الوجه الحزين , وبكل عزم وتصميم مد يده إلي صدره وأخرج المجرونة , لوحت له اليد من النافذة صارخة ألا يفعل ولكنه كان في عالم آخر , وبعيني المثقلتين بالدموع في الحلم وعيناه الغارقتان في الأسي والحزن بدأ بنشيج طويل توقف له كل من كان سائرا وبدأ في الاقتراب منه والتحلق حوله , واللحن ينساب ويتحول من النشيج الأسيان إلي الفرح رويدا رويدا . وقع بقدمه اللحن فبدأ الناس في الحركة شيئا فشيئا وسرعان ما دب الحماس في أحدهم وتحرك في بطء داخل الساحة وبدأ في الرقص , انسابت الأنغام الفرحة المشرقة في الفضاء الساكن وتوقفت الريح عن العويل وانتبهت لما يفعل , وانفتحت كل النوافذ القريبة والبعيدة وانطلق الضوء منها ينير الليل بينما يتقدم آخرون ألي الساحة ويندمجون في الرقص , ظل يلعب بالأنغام في سرعة وبطء وحمي الرقص تتزايد , والوجه الذي أمامه لا يفارق عينيه , وعندما أطلق زغرودة طويلة من المجرونة أسكتتها الرصاصة التي اخترقت صدره وتهاوي إلي الأرض وهو ينظر لي في استغاثة تاركا إياي في عالمه إلي الأبد . مرسي مطروح نوفمبر 1993 المجـــــــــــرونة كوكو يتبع - هوامش وتأملات شتي - RE: علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي - coco - 11-19-2010 لوحة – أطفال المنفي- موسيقي حزينة لم تكن علاقتي بالبحر في الصيف بالقوة التي في غيره من الفصول , كرهي للزحام ويقيني بملكيتي للمدينة طوال العام يجعلاني لا أفكر بزيارته , كنت أقول لنفسي : لأتركه للغرباء في هذا الفصل وأنفرد به في بقية الفصول , يبدأ قدوم الغرباء بعد الامتحانات وينتهي مع بدء الدراسة , ما قبل ذلك وما بعده كان ملكا للأسر التي تنشد الهدوء , وكنت في هذا الأيام كثيرا ما أزوره تمهيدا للغيبة الطويلة التي ستحدث . في ذلك اليوم الذي زرته لم يكن أمامه في البقعة التي اخترتها إلا ثلاث أسر متباعدة , نصبت ظلتي وتخففت من ملابسي وتمددت , كان الوقت عصرا وكان البحر يبدو كسجادة زرقاء ناعمة ورحت في غفوة , استيقظت علي أصوات طفولية محببة تداعب أذني , عندما فتحت عيني وجدتهما تلعبان أمامي مباشرة بالرمال المعجونة بالماء تحاولان إقامة بناء ما , تلفت يمنة ويسرة فوجدت الشاطئ علي حاله , نفس الأسر كما هي , شاب وفتاة في مقبل العمر مختليان , وشيخ وسيدة , وأسرة أخري صغيرة , خمنت أن تكون الطفلتان بنتي الشاب والفتاة , ناديت إحداهما فتقدمت مني دون خوف وسألتها : ماذا تفعلين , قالت : نبني بيتا , قلت : ومن هذه , قالت : أختي , تقدمت الأخري مبتسمة وهي تميل برأسها وتتلاعب بيديها, كانتا كما رأيت نسخة واحدة في كل شئ حتي في في ملابس البحر , قلت : انتما توأم , هزتا رأسيهما بالموافقة وأخذتا في التقافز , أنت ما اسمك وأشرت للأولي , قالت : نسمة وما اسم بابا , فذكرت اسم أبيها , وما اسم جدو , فذكرت اسم جدها , ابتسمت لها وأشرت للأخرى : وأنت , قالت متدللة في نطق الكلمات : بسمة , أهاه , أنت فعلا أختها , قلتها وأنا أكاد أضحك من تصرفاتهما الطفولية , قالت إحداهما وأنت يا عمو : ما اسمك وعندما ذكرته قالت وباباك ضحكت مرة أخري وذكرته فقالت وجدو فذكرته لها وأردفت أنت عفريتة , كانتا لا تكفان عن الحركة حول ظلتي والعبث بأشيائي والسؤال عنها وماذا أفعل بها ولماذا أفعل ذلك وكيف أفعل ذلك , أمسكتا بدفتر أفكاري والقلم , قالتا : لماذا تذاكر يا عمو , ضحكت من القلب , أمسكت إحداهما بالمذياع الصغير وجعلت تدير مفاتيحه في عبث طفولي , انتبهتا فجأة ونظرتا لبعضهما , ثم انطلقتا فجأة في تسابق ناحية ظلة الشيخ والسيدة . أمسكت بالقلم وبدأت أفكر في شئ أكتبه عنهما وأنا أميل برأسي أنظر إليهما هناك , رأيت السيدة بعد قليل تقف وتمضي ممسكة بواحدة بيدها والأخري تجري أمامها ثم تعود للخلف وتلف حولها ثم تسرع في التسابق , كانت السيدة تتجه إليّ , قلت في نفسي : ما الذي كذبت به الشيطانتان علي ّ و انتظرت في قلق لأنني لا أعرف ما الذي سأدافع به عن نفسي , عندما وصلن أشارت الطفلتان بأصبعيهما السبابة نحوي : هو هذا , قالت السيدة : مساء الخير , رددت : مساء الخير , قالت : هل حضرتك من عائلة .. وذكرت لقب عائلتي , أومأت موافقا , قالت : أهلا وسهلا أنا من نفس العائلة , ومدت يدها بالسلام , نهضت واقفا وبدأت في تأمل تفاصيلها وهي تسأل : من أي فرع ؟ , كانت ترتدي نظارة طبية ملونة ولكن أشعة الشمس مكنتني من رؤية لون عينيها السوداوين , قلت : مسقط الرأس في .. وذكرت لها المكان , رددت في حبور : أهلا وسهلا , أهلا وسهلا , ومدت يدها مرة أخري , أصابع طويلة تتفق مع طول قامتها , شعرها الأسود الذي بدأت شعيرات بيضاء تغزوه مربوط من المنتصف ( بايشارب ) أصفر وذؤابات نافرة علي الوجه البيضاوي , قالت : تفضل معنا , زوجي .. وأشارت بيدها إلي الشيخ , تمتمت شاكرا ولكنها لوحت بيدها : تفضل معنا نحن أهل , التفت حولي لأجد الطفلتين مثقلتين بأشيائي , ضحكت وأنا أتناول الحقيبة وأضع فيها الأشياء وقد غزتني من الداخل كلمتها : نحن أهل ,كانت ترتدي عباءة مطرزة بورود كبيرة علي أرضية بنية ورائحة محببة لنفسي تشع منها , مضت تقتلع رجليها من الرمال وهي تشير للبنتين , قلت : شقيتان حفيدتاك , التفتت بجانب وجهها وابتسمت مصححة : ابنتاي . قال الشيخ ضاحكا : إنها مهتمة بجمع شتات عائلتها , ضحكت وقلت مجاملا : أهلا وسهلا , قال الشيخ : لماذا أنت وحدك أين أسرتك ؟ , أفهمته - وهي تنتبه لكل كلمة - أنني لست مصطافا ولكني أقيم وأعمل هنا , قالت : وزوجتك وأولادك , قلت مبتسما : لا زوجة أولاد فقط , نظر الشيخ إليّ مستفسرا : أرمل , هززت رأسي بالنفي ونظرت في اتجاه البحر الذي بدأ يضطرب , أحسست به يربت علي ظهري فالتفت إليه ورأيت وجهها الواجم : أين هم , قلت معها في الشتاء وسوف يكونون هنا بعد أيام , نظر إلي الشيخ وقال : إذا أردت أن تنقل عملك لأي مكان هي في الخدمة أسرتها تنتشر في كل مكان , قلت في بطء : أنا هنا بإرادتي بدا أنهما تفهما ما وراء كلماتي ووجدتها تقول: خسارة سنسافر بعد غد ونظرت للشيخ في رجاء , نظر لها الشيخ مليا وقال في تمهل : متي سيأتون بالتحديد ؟ قلت : ربما أول الأسبوع القادم , أخذ يفكر ثم نظر إليها وغمغم : ربما ربما سأفكر , تهلل وجهها بغتة وقامت ممسكة بآلة التصوير و أشارت للطفلتين بيدها للانضمام لي وللشيخ وأخذت في التقاط الصور , أحسست بالدفء عندما التصقت الطفلتان بي وبأبيهما وأحسست بوشيجة هائلة تربطني بتلك الأسرة , تململ الشيخ فقمت طالبا الانصراف فضحك وقال : لن تستطيع الهروب , نحن نقيم بهذا الشاليه وأشار إلي أحد الشوارع, قالت في سرعة : ستتناول معنا العشاء , اعتذرت مندهشا من العرض , فقالت السيدة التي بدأت تلم الحاجيات : أنت غريب هنا , قلت لها : بل أنتم الغرباء , نظر الشيخ لها ولي وقال كلنا غرباء يا بني . عندما وصلت البلد في المساء أوصيت بمن يكون في شئونهم ممن أعرفهم , أن يغسل لهم السيارة ويقضي لهم ما يحتاجون إليه , كنت سكران من الألفة التي غمرتني معهم وكلما تذكرت طهوها الجيد ونكهة مائدتها وترحيبها المستمر أحس بالحنين إلي الوطن , أرسلت ( تلغرفا ) أطلب تقديم موعد مغادرة أطفالي وطلبت الرد الفوري وآويت للمقهي أنتظر الشيخ , رأيت السيارة المرسيدس ذات الموديل القديم تتهادي أمامي و وجدتها تشير للشيخ عن مكاني , نزل من السيارة يرتدي حلة زرقاء وتقدم إلي بينما هي تلوح من السيارة هي والأطفال ثم تنطلق , سلمت واقفا وأوصيت بقهوته بسرعة , شكرني علي الشخص الذي أرسلته للمعاونة وجلسنا صامتين لمدة نتأمل الطريق الذي مضت منه السيارة , أهلا وسهلا قلتها وكأنني أحاول قطع الصمت , قال : أهلا بك يا بني , لماذا لا تحاول أن تسوي أمورك وتلم شتات عائلتك , قلت له في برود : هذا موضوع منته ولا أحب الخوض فيه , قال : منها لله سفيرة السلام جعلتني أخوض فيما ليس لي , قلت : كلا أنا آسف ولكن الموضوع انتهي تماما , قال : الدنيا لا تساوي , كما قلت لك , كلنا غرباء وبعد قليل نغادر , لحظات السعادة قليلة يجب أن نستمتع بها قدر طاقتنا وفجأة وجدته بعد أن ذكر أنه ارتاح لي يسرح في أفكاره ويقول : إلتقيتها في خريفي بعد الستين , كانت في الثانية والأربعين كنت أرمل ولم أنجب وكانت أرملة ولم تنجب أيضا , الحياة غربية , ضحك وقال : كانت البنتان آخر البويضات التي لديها , أما أنا فماذا أقول إلا إن بني صبية صيفيون أفلح من كان له ربعيون , ضحكت وأنا أتذكر المثل ورأيته علي ضوء قصته , أردف : ما جمعنا أنها تشككت في كوني من أسرتها الهائلة عند لقائنا الأول وتم التعارف وتزوجنا , قلت له : ربنا يعطيك طول العمر , قال مبتسما : هذا هو قولها لي دائما وتقول لي أيضا أن عائلتها الهائلة سوف تتكفل بالأمر بعد رحيلي ورحيلها , وصل الشخص الذي أكلفه بأموري وسلمني ( تلغرافا ) وقال من مكتب البريد رأسا , فضضته بسرعة كان من أخي : سوف يصلون غدا في ( سوبرجيت )العاشرة , قال : بهذه السرعة , قلت له : يبدو أن العائلة بدأت تحس بالحميمية التي رأيتها اليوم معكم . عندما وصلت بالسيارة لكي تعيده( للشالية ) كانت الساعة تشير للواحدة من صباح اليوم التالي أوصلته للسيارة ,وعندما استقلها انحني عليها هامسا فنظرت لي في حبور ونزلت وسلمت عليّ وأخت تهز يدي وقالت : شكرا شكرا. عندما وصلت إلي موقف ( السوبرجيت ) في العاشرة إلا الربع , لاحظت مندهشا أن السيارة المرسيدس تقف قريبا من الموقف , وفجاة عندما انتبهوا لوجودي وجدتهم يغادرون السيارة والطفلتان تندفعان نحوي في تسابق وتحتضنان ساقي , قالت : أنها لم تنم هي وزوجها وطلبت مني وقد أشرعت ( الكاميرا) أن أنبهها عندما ينزل اطفالي من ( السوبرجيت ) , عندما توقفت السيارة في الموقف كنت أراقب عينيها التي تتنقل بيني وبين الراكبين النازلين وقلت لها : أنت التي ستعرفيني بهم , لحظة وصرخت : هاهم , كان أطفالي نصف نائمين ينزلون من السيارة ويتوجهون إلي ّ وأنا أنحني عليهم وهم في دهشة من السيدة التي تلتقط لهم الصور وتشير لطفلتيها الواحدة تلو الأخري أن تنضما لنا . مرسي مطروح يونيو 1994 شجن كوكو يتبع - هوامش وتأملات شتي - RE: علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي - عادل نايف البعيني - 11-19-2010 (11-15-2010, 11:40 PM)coco كتب: علي الشاطئ ذهابا وإيابا الأديب الصديق والشاعر الرقيق والقاص الرشيق والناقد الأنيق كوكو رشاقة قلمك ودماثة أسلوبك تشدّ القارئ بتلابيبه حتى النهاية فطوبى لمن لديه قلما وفكرا ومخيلة مثل ما لديك إذا كان ما أنزلته هنا وأقصد القصة الأولى (مخطوطا) فلي رأي بها علك تأخذ به لقد كشفت يا صديقي كوكو عن بطلك بعد جملتين تماما فما أن انتهى السطر الأول وبدأ اللون الأحمر حتى قلت في نفسي إنّ غريم البطل هو البحر). وكنت أتمنى لو لم تكشفه بجملة ([/color]رغم أنى علي الأرض بعيدا عنه , ويمد أمواجه فيبقى لغزا محيرا حتى آخر النص لتكون الدهشة فما جاء بعد ذلك جميل جدا ويمكن إن راقك رأيي أن تعيد النظر بالقصة فلا ينكشف هذا الذي استدرج البطل حتى آخر النص أسلوب جميل ورشيق أغبطك محبتي ومودتي RE: علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي - coco - 11-19-2010 أخي العزيز / عادل شكرا لتقريظك الذي لا أستحقه , وأعدك بالتجويد المستمر كوكو RE: علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي - coco - 11-25-2010 ماريانا – ( بورتريه ) – تناسخ وقفت أمام المعطف الأحمر الصغير المعروض في واجهة المحل شاردا , لمدة أسبوع في رواحي وغدوي السريع أراه في واجهة المحل وأفكر هل يتناسب مع جسم طفلتي , كان العيد الصغير يقترب والجو مازال باردا والمعطف يخايلني , هذه المرة عندما توقفت أتأمله كان الشرود يتملكني وعلي حين بغتة رأيت صورتها منعكسة علي زجاج الواجهة , بنفس الوضع الذي اعتدت أن أراها عليه دائما والذي لفت انتباهي أول مرة وجعلني أتسائل لماذا تصر علي هذا الوضع , كانت تحتضن حافظة الأوراق إلي صدرها كأنها إحدي طالبات الإعدادي أوالثانوي حين يفاجأن بالبروز الذي ينمو في صدورهن فيحتضن حقائبهن مخفيات إياه , ربما لأنهن يشعرن أنهن منكشفات - فيما يخبئنه داخلهن من مشاعر جديدة عليهن - يعانين من فهمها حين يختلين بأنفسهن - ولا يردن لكائن أن يراها حتي يتعرفن عليها أولا - , جعلت أتأمل صورتها المنعكسة وأتجول في ملامحها دون أن أخشي هذه المرة أن يمسك بي أحد بجرم تحديقي في وجهها . أول مرة رأيتها كانت عندما كنت في المكتب وحيدا , عندما رفعت عيني عن الأوراق التي أمامي اكتشفت أنها كانت تتأملني من إدارتها وجهها سريعا خوفا من اكتشافي لفعلتها , كانت واقفة حذاء باب المكتب وقد أسندت ظهرها للحائط و اعتمدت بإحدى قدميها علي الحائط خلفها ومدت قدمها الأخري بزاوية حادة مستندة عليها وأمامها زميلة لها تبادلها النظر والابتسام ,كانت رؤيتي لها في هذا الوضع الجانبي تمنعني من ملاحقة عينيها , عندما تلصصت مرة أخري علي ّ أشرت لها بالمجئ , ابتسمت لزميلتها وكأنها تهمس : بدأ التحقيق , خيل لي ذلك لما هو معروف عني من صرامة في العمل , تقدمت إليّ ووقفت أمام المكتب مباشرة وقد ألصقت نصفها الأسفل به متحدية , أشرت لها بيدي بما يعني : ماذا تريدين ؟ , فابتسمت مرة أخري وأشارت لأحد المكاتب الخالية لأحد مرؤوسي ونقرت علي حافظة الأوراق التي تحتضنها , ابتسمت من ردها بلغة الإشارات مثلي وهززت يدي: أن هاتي ما لديك , نظرت إليّ نظرة ذات مغزي غريب وهي تنزل الحافظة عن صدرها ربما لتوقعها أن نظرتي سوف تكون مسلطة علي المكان الذي غادرته الحافظة , خفضت بصري وعالجت هي الحافظة لتخرج ورقة وترفعها أمام وجهي مباشرة وأشرت لها أن تجلس وأخذت في القراءة , حينما انتهيت كان لا سبيل إلا الكلام وجدتها وشبح ابتسامة باهتة لا يغادر وجهها تستمع لي في اهتمام وتهز رأسها وتضغط علي شفتها السفلي وأنا أعرّفها بما ينبغي الحديث عنه في المذكرة, وبعد أن انتهيت ورأيتها تطوي الورقة وتودعها الحافظة عرفت أنها لم تعرف عما أتحدث ولكنها أجادت قراءة ملامح وجهي , وعندئذ فقط أدركت لحالي - دون أن يرشدني أحد - جزءا صغيرا من الحقيقة . حينما بدأت في تأمل تفاصيل ملامحها المنعكسة علي زجاج الواجهة رأيتها في الزجاج تبتسم وتلاقت نظراتنا وابتسمت أنا ألاخر , لفترة طويلة كنت عاكفا علي قراءة أشياء فيها غير التي بدأت في النظر إليها الآن , كانت في الخامسة العشرين أو أكثر قليلا , قدها معتدل وإن كانت تميل للقصر , أنفها الصغير مرتفع قليلا شأن المريمات الأخريات وشفتاها الدقيقتان يكشفان عندما تبتسم عن مسافة صغيرة بين سنيها الأماميتين تزيدها لطفا وإشراقا ,أما عيناها فكانتا واسعتين تذكراني بالبحر حال تصالحي معه , أشرت للمعطف ونظرت لوجهها في الزجاج فوجدتها تتأمله برهة ثم أدارت يدها اليمني متسائلة وهي تكاد تضحك , أشرت بيدي بما يعني طول طفلتي ثم نزلت بيدي في الطول ارتفاعا ونزولا ولوحت بيدي بما يعني أنني لا أدري , رأيتها تنقر علي الزجاج متفكرة , عندئذ لاحظت أن الشاب يقف عبر الشارع مستندا علي الحائط ينظر تجاهنا بنظرة ثابتة . عندما دخلت المكتب وجدتها منكبة علي الآلة الكاتبة تدق الحروف في خبرة , شملت المكتب بنظري , بعض الزبائن من أهل البلد , رفعت بصرها عن المفاتيح فرأتني ,ابتسمت متهللة وقامت واقفة وأسرعت تفتح المكتب بين دهشة الزبائن من أهمية القادم وأشارت بيدها أنه علي وشك الوصول , ترتدي ملابس بيضاء بسيطة وقد سدلت شعرها الأسود حول وجهها الصغير , بعد قليل وجدتها تضع أمامي فنجان القهوة فيما كان مخدومها داخلا , آسف تأخرت عليك قالها وهو يسلم في حرارة , وعندما رأي البخار يتصاعد من قهوتي أضاف : ولكن ليس كثيرا شرفت المكتب , قلت : هل صدر الإذن , قال : أنا قادم من هناك توا , هاهو وأخرج من جيب قميصه إذن الصيد , تناولته وقرأته , إذن موعدنا الجمعة قلتها وأنا أناوله الورقة , قال : ولكن أين ستصلي المكان منعزل وبعيد جدا, ضحكت وأنا أقول : سأكون مثلك هذا اليوم وأشرت إلي علامة الصليب الموشومة علي باطن يده فيما أدرات هي يدها وفيما رنوت إلي صليبها الصغير ابتسمت مغضية إلي الأرض , قال : ستكون ماريانا معنا , رفعت حاجبي دهشة , نظر إليها فأومات براسها في حبور عدة مرات بالموافقة , سوف تري أننا سنحتاج إلي خدماتها , قالها ضاغطا علي كل حرف , عندما خرجت أشرت للنافذة , قال : رأيته وأنا داخل لقد تحدثت إليه مرات ولكنه لا يستمع , يظل واقفا ليراها وهي خارجة من المكتب , ويتابعها في كل مكان تذهب إليه في شئون المكتب حتي عندكم ويظل واقفا بالخارج بالساعات ينتظر خروجها ليتابعها , أفهمته أن هذا يمكن أن يثير مشكلة كبيرة بعدما تقابل مع أبيها ورفض حتي أن يتحدث معه في الأمر واكتفي بتوجيه النصح له ثم التحذير , هذا لم يحدث في البلد أبدا , أنا أعيش هنا من خمسين سنة ولم أر شيئا مثل هذا , سألته : وهي ما موقفها منه ؟ , قال : هي تستمع لنا ولكنها حائرة تحس أن فرصها في الزواج قليلة ولكنها مازالت صغيرة والمسيح الحي لو كان ابني في مثل سنها ما ترددت في تزويجها له , إنها كاملة في كل شئ حتي في عالمها الصامت , أضطر لتوصيلها بعد المكتب بالسيارة حسب طلب أبيها وأطمئن أنها دخلت المنزل وأظل من الليل حتي الصباح قلقا عليها حتي تصل للمكتب. عندما خرج البائع من المحل مرحبا : تفضل بالداخل لو سمحت , لا يصح ذلك خدماتك علي رأسنا يا أستاذ , تبين لي أنه يعرفني ثُم أردف وهو يشير بيده : أدخلي يا ماريانا الجو بارد , ابتسمت , سألته عن ثمن المعطف , فقال والله ما يكون إلا هدية يا أستاذ , قلت له : لابد أننا تقابلنا من قبل وتعرف طريقتي , قال : نعم تقابلنا وماريانا أيضا يوم المحاسبة , زويت ما بين حاجبي متذكرا وهي تؤمي برأسها مبتسمة وتشير إليه كأنها تشجعني علي التذكر , قلت له أنني خائف أن يكون المعطف أصغر من حجم طفلتي , قال بسرعة : لا تدفع شيئا حتي تجربه مادمت ترفض الهدية , أسرع إلي الداخل يخرجه من الواجهة ويعود مادا يده به داخل كيس ملون , قلت ولكنني سأسافر قبيل العيد ولن أرجع ..., قاطعني ولو بعد سنة يا أستاذ , أنت صاحب واجب , عندما تناولت الكيس منه نظرت إلي الواجهة الزجاجية فوجدت صورة الشاب مازلت منعكسة عليها بجوار صورة ماريانا . عندما وصلنا للمكان كان الجو باردا , أخرجنا أمتعتنا من السيارة ونصبنا الظلل خوفا من شمس الشتاء وتركنا لماريانا الباقي , بعد قليل تلفت حولي فوجدت المكان بعد أن تولته يداها يشع بالحياة , المذياع يبث موسيقي جميلة , شخص ما ضبط لها الإرسال علي محطة البرنامج الموسيقي قبل أن تأتي وقد افترشت البساط ووضعت ( ترمس ) الشاي والأكواب وأخرجت السكر والملاعق وبعض الكعك والأطباق وأشياء كثيرة حولها , غرقت في الكرسي وأرخيت القبعة وأخذت أراقب البحر والصيد , لاح بعض الجنود من هناك وعندما رأتهم قادمين أخرجت الورقة من حقيبتها وناولتها لرفيقي فقام متجها إليهم , بعد قليل عاد ليتناول من يدها طبق الكعك وكوب الشاي فيما أنا غارق مع الموسيقي والصيد الوفير ,لم تكف طيلة الوقت عن إمدادنا يشراب الليمون أو الفاكهة وهي تراقب الصيد وتنبهنا ونحن نضحك من قلة خبرتها , بعد أن قدمت لي وأنا مندهش فنجان قهوتي كما أتناولها تماما رأيتها تأخذ في التجول حولنا ثم تمشي علي الساحل في بطء تمد يدها للماء تخرج بعض الأصداف أو الصخور الصغيرة الملونة وتضعها في كيس , عند الظهر وجدتها من خلفي تضع في عنقي قلادة وتمر إلي رفيقي لتفعل المثل , ضحكنا ,والتفت خلفي فوجدت البساط يحوي قلائد كثيرة صنعتها في براعة وهي تشير بمجموعة منها بما يعني أنها لطفلتي , عندما ربت علي بطني , رأيتها تخرج بعض الأسماك وتبدأ العمل وبعد ساعة نظرت خلفي فوجدت مائدة طيبة من السمك المشوي والسلطات والطحينة وقد وضعت في المنتصف باقة زهور بيضاء ندية لا أدري كيف تمكنت من الحصول عليها في هذا الصباح الباكر . عندما بدأ قرص الشمس الكبير يهبط غاطسا في البحر رأيتها هناك قربه تدخل إلي البحر بملابسها البيضاء وتلقي بنفسها إلي سطحه الناعم , نظرت إلي رفيقي فوجدته قد راح في غفوة وخيط ( سنارته ) في الماء تتلاعب به النسمات الصغيرة , رأيتها بعد قليل تخرج من البحر تجر ملابسها وتقف علي الشاطئ لثوان ثم تبدأ في خلع ملابسها البيضاء ولدهشتي وجدت أن لا شئ يستر جسدها الأبيض الذي بدا لدي سقوط قرص الشمس في البحر يشع بانعكاس الضوء الباقي , رأيتها تفرد ذراعيها وتدور حول نفسها في بطء ثم تتسارع كأنها تبغي الطيران وأحسست بالخوف عليها من تلك الموسيقي التي تنبعث من داخلها وتستولي عليها , ظلت كذلك لمدة حتي أحسست بها كأنها اختفت فجأة في الحرية التي امتلكتها , ورأيتني وأنا في مدرستي أتسور السور الفاصل بين مدرستنا ومدرسة البنات أتلصص علي البنات ومدرستهن تدربهن علي بعض الحركات التوقيعية مع الموسيقي وعيناي تثبتان علي تلك البنت التي راحت المدرسة تركز في تدريبها وجسمها يتلوي في براعة بكافة الحركات , لم تكن إلا ماريانا بنفس الوجه ونفس العينين الواسعتين والأنف المريمي ولون جسدها الأبيض وشعرها الأسود المسترسل . نبهت رفيقي من غفوته فأفاق وتسائل : أين ماريانا ؟ لقد حلمت حلما مزعجا , أشرت بيدي إلي الغرب فأدار وجهه , وجدناها قادمة تحمل حذائها في يدها محاذية مياه الساحل تطبع خطواتها علي الرمل المبلول في خفة الطائر , أسرعت تلم الحاجيات ونحن نساعدها وهو لا يتوقف عن الحديث : كانت ترقص هناك عارية كما ولدتها أمها عند قرص الشمس الغارب والشاب يتلصص عليها من أعلي هذا التل وأنا أكاد أكون مشلولا لا أستطيع حتي أنا أحرك يدي ورأيته ينزل من التل في سرعة وهي تتجه إليه بنفس السرعة ثم يتعانقان ويقعان علي الأرض وهما متلاصقان ويتمرغان علي الرمال ويظلان يدوران كجسد واحد حتي ينزلقان في البحر ويختفيان . عندما أوصلني بالسيارة إلي الاستراحة نزل من السيارة لكي يودعني ونزلت هي الأخري معه , مددت لها يدي بصيدي من السمك فتمنعت ممتنة فأشرت إلي الاستراحة أفهمها أن لا أحد معي فتناولته من يدي وكما هي عادتها عندما تحمل شيئا آوته إلي صدرها , ضحكت , فأسرعت بوضعه جانبها والابتسامة الخجولة تفترش وجهها . ظللت علي سريري طيلة الليل أنظر علي الحائط للفتاة التي كانت تلعب في المدرسة وهي مسجاة علي الأرض ووجهها أزرق والحبل الملتف حول عنقها الأبيض يدميه وقد اتسعت عيناه وفمها الفاعر يبدو منه لسانها المقطوع وعلي باطن يدها علامة الصليب الصغير ,عندما وضع أحدهم علي وجهها ورقة جريدة وثبتها بحجرين صغيرين رأيت ماريانا تتبدي بمساحة الحائط في صمتها المبتسم . مدت يدها بحافظة الأوراق إلي ّ فأمسكتها منها وتناولت الكيس وأخرجت منه المعطف ومسحت بيدها علي قماشه الناعم ثم رفعته في الهواء تنظر تفاصيله ثم أخذت في طيه بيد خبيرة وهي تسنده إلي ساقها التي رفعتها قليلا لتسنده عليها ثم وضعته في الكيس. هززت لها رأسي شاكرا فمدت يدها الصغيرة البيضاء في رشاقة وأخذت مني حافظة الأوراق وأسلمتها للمكان الدافئ من صدرها , كان عليّ في هذه اللحظة بالذات أن أسألها السؤال الذي ظل يحيرني طويلا و إلا فلا سبيل لذلك إلي الأبد تمتمت بالكلمات وهي تتعثر علي شفتي في خروجها : هل أنت هي ؟ ظلت تنظر في وجهي مبتسمة , كررت الكلمات وأنا أشير بأصبعي السبابة إلي وجهها : هل أنت .. ثم أشرت إلي هناك ناحية الشرق من حيث أتيت : هي ؟ رأيتها تومئ إليّ برأسها : أن نعم , عندئذ وجدتني وفي الطريق العام وأمام كل من في الشارع أمد يدي كالمسحور وأربت علي كتفها وأغمغم : أرجو أن تنتبهي هذه المرة , ابتسمت لي ابتسامة غامضة ومضت في طريقها , تابعتها ببصري خلال مرورها علي المحلات التي ازدانت بمعروضات العيد وكل بائع يقف أمام محله يلوح لها بالسلام وهي ترد بإشارة بسيطة من يدها اليمني التي تترك حافظة الأوراق ليدها اليسري ورأيت الشاب علي الجانب الآخر يبدأ في المتابعة وقبل أن تغيب في المنحني التفتت ووجهت له بوجهها الجامد الملامح نظرة محذرة وكأنها تتخلص من موقف قديم مرت به من قبل و يلوح لها الآن كشبح ,توقف في مكانه بغتة وهي تغيب في المنحني و لا يقدر علي متابعتها إلا ببصره بينما كنت أعبر الطريق متجها لمكان حجز تذاكر( السوبرجيت ) . مرسي مطروح – مارس 1994 Reencarnación كوكو يتبع - هوامش وتأملات شتي - RE: علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي - coco - 11-30-2010 مقدمة موسيقية هجرة الطيور– لوحة – ألحان متداخلة الطيور المهاجرة علامة علي تحول الفصول , صمت قليلا وهو ينعم النظر في وجهي , عندما أري السمان في الشباك أعرف أننا في الخريف , قال ذلك وهو يناولني الشص الذي طلبته , ثم تابع حديثه وهو ينظر لوجه منصور مبتسما : سوف أحضر لك الطائر , غاب بالداخل عبر فتحة تصل المحل بمنزله , قلت لمنصور : ما الحكاية , رد : لقد اصطاد هذا الطائر ووجد شيئا يريد أن يسألك فيه , قلت له : ومن قال أنني من خبراء الطيور , إياك أن تكون قد أفهمته ذلك , رد بسرعة : أبدا المسالة غير ذلك تماما سوف تري , خرج يحمل قفصا به طائر لم أر مثله في الشكل من قبل , وعندما كنت أتأمله لاحظت أن منصورا مستغرق تماما , عندما تركت الطائر ورحت إلي وجه منصور قال الرجل : لا تستغرب ولعه به , إنه يأتي كل يوم ليشاهده وقد يأتي في اليوم مرتين , أفكر في وضعه بالمحل حتي أجنب نفسي الخروج والدخول به كلما جاء منصور ليراه , أشار منصور مستفهما مني لرجل الطائر فرأيت حلقة معدنية صغيرة تلتف بها , قربت وجهي من الحلقة فرأيت كتابة دقيقة , قلت له : ببساطة إنها معلومات عنه , قال الرجل : نريدك أن تقرأها , فهمت علي الفور ما قصده منصور , طلبت عدسة مكبرة وبعض الضوء , كانت الكتابة تعطي عنوانا وتطلب المراسلة في حال وصول الطائر إلي مكان ما . تعرفت علي منصور بمجرد قدومي إلي البلد أول مرة ,عادة ما يترك فينا الشخص الأول الذي نقابله في مكان جديد أثرا لا ينمحي , فإذا كان اللقاء مثل لقائي مع منصور فإن الأثر يظل راسخا في الذاكرة ويكاد يكون علامة علي المكان , سألت عن الاستراحة في موقف السيارات فدلوني عليها , كان الوقت عصرا وكنت مرهقا من هذا السفر الطويل الذي لم أكن أتوقعه , فوجئت بأن الاستراحة ليس بها أحد ومغلقة , نزلت وجلست علي المقهي المقابل , اخترت طاولة علي رصيف الشارع , وحينما جاء النادل سألته فقال إن المفتاح مع منصور ويمكن لي أن أجده بنادي المحافظة لأنه يعمل بعد الظهر هناك , طلبت شايا وأخذت في الانتظار . عندما تعلق بي أطفالي نزعت أيديهم الصغيرة عن رقبتي وملابسي وقلت في ألم : يجب أن أستعيد نفسي أولا وبعدها يمكن أن أستعيدكم , وهاهو باب الاستراحة في اليوم الأول مغلق , فكيف أخلو إلي نفسي التي أريد الحديث معها طويلا . مددت يدي للنادل بالحساب وطلبت أن يصف لي طريق نادي المحافظة , رفع يده ثم عاد وأنزلها وقال : هاهو الأستاذ منصور قادم , شاب في حوالي الثلاثين , سمين , يتحرك في نضال كأن شيئا بين ساقيه يزعجه , ناعم الشعر , ذو عينين سوداوين والأغرب أن عينيه تبدوان وكأنهما مكحلتان , تحركت من المقهي في إتجاه الاستراحة ودون أن أنبهه , كنت بجواره علي الباب , جفل من وجودي المفاجئ وبدا أنه يتهيأ للقتال , لاحظت ذلك من سحنته التي تغبرت فجأة , سألني في جفاء : نعم ؟, قلت افتح أولا سوف نتحدث بالداخل , قال : ماذا تريد ؟ قلت : أنا ... - وذكرت اسمي - منقول حديثا , ظل يتأملني للحظات في ارتياب وأنا في دهشة من تصرفاته ثم أخرج المفتاح و فتح الباب وطلب مني الدخول , لاحظت أنه يجعلني أمامه دائما أثناء حركتنا في الاستراحة , فتح غرفة وقال في تردد : تفضل , ووقف علي الباب يراقبني وعندما أبديت دهشتي من وقوفه سألني عارضا المساعدة : ألن تفرغ حقيبتك ؟, سألته عن المقيمين في الاستراحة فتردد في الإجابة , و عاد لتكرار السؤال عن حقيبتي , رن جرس الباب فوجدته كالمذعور يهتف : (مين) ؟ وسمعت ارتجاف صوته في المسافة بين الحرفين , جاءته الإجابة من الخارج : أنا أشرف , عندها أحسست كأنه وجد قشة النجاة , وقال : في بطء إنه حارس الاستراحة , كان في أجازة . كتبت الرسالة وأودعتها المظروف وسالت منصورا عن الورقة التي نسخت فيها العنوان , غاب بالداخل طويلا وناديت عليه عدة مرات دون رد ,تحركت إلي غرفته , كان الباب مغلقا , عندما فتح لي وجدته قد أبدل ملابسه, تقع غرفة منصور التي لا يشاركه فيها أحد في نهاية الاستراحة , لم أر ضوء الشمس في الغرفة أبدا دائما أري أشياء غرفته القليلة في ضوء الكهرباء لأن النافذة لا تفتح , ولاحظت أن قضبان حديدة رفيعة في المسافة بين بابها الخشبي وبابها الزجاجي , عرفت فيما بعد أن منصورا هو من وضع هذه القضبان عندما سكن الغرفة أول مرة وبدا لي منصورا مثل الطائر السجين الذي كتبت الرسالة بشأنه , قال : يبدو أننا نسينا الورقة هناك , رفعت وجهي إليه فقال : عند الطائر , وجدتها فرصة للخروج فأبدلت ملابسي , لدي مرورنا علي حضانة الأطفال في الطريق توقف وتحادث عبر قضبان سور الحضانة مع فتاة في مثل حجمه ترتدي معطفا أزرق ويبدو عليها أنها مقاربة لسنه , وجهها المستدير تبدو به حفر صغيرة من بقايا ( حب الشباب ) التي يبدو أنها عانت منها طويلا , سبقته و توقفت غير بعيد أنظر إليهما , كانت تضحك وكان هو يكاد يغتصب البسمة أثناء حديثه معها وعندما استدار ليلحقني تحدثت الفتاة إليه كعادة العشاق الذين لا يرغبون في الفراق فعاد لها برأسه دون خطواته , كان يمكن لي أن أري اللهفة في ملامحها والبريق في عينيها وأري الذبول في ملامحه والانطفاء في عينيه , وقلت لنفسي : ربما كان ذلك من هذه القضبان التي تفصلهما , خطيبتي قالها عندما وصل إليّ , توقف قليلا ثم أكمل : مشرفة الحضانة , كانت ماتزال واقفة وراء القضبان تنظر في إثره وأطفال الحضانة حولها يشدونها من معطفها أو يحتضنون ساقيها بأذرعهم الصغيرة , قلت لنفسي : هاهم أطفالي , ولما رآني معلق النظر بها , هز ذراعي وقال في مزاح : إيه , أنا صعيدي , كانت ماتزال واقفة ممسكة بالقضبان بكلتا يديها عندما استدار برأسه لها ابتسمت له فعاد إليّ وقال عندما رأيتها أول مرة رأيتها في هذا المكان وبنفس الوضع الذي تراها عليه الآن وتعلقت بها في الحال . تقابلنا في الشارع عندما كنت عائدا من أجازتي الشهرية – أربعة أيام في نهاية الأسبوع الأخير من كل شهر – كان قادما من نفس الاتجاه الذي لقيته فيه عندما قدمت البلد أول مرة وأنا قادم من الاتجاه المعاكس , أسرع إليّ وسألني في لهفة عن حال أطفالي , قلت في لهجة قاطعة : بخير , قال : لن أسامحك أبدا عن تخلفك عن حفل خطبتي , أخذ حقيبتي يحملها وأنا أمانع وقربها من أنفه يشمها وقال : ملابس نظيفة ومكوية , سوف اريك صور الخطوبة , ورفع يده باللفافة التي يحملها , هاهي , استلمتها توا . عندما ألقي الحقيبة علي السرير ألقي لفافة الصور فوقها وأسرع للثلاجة واستخرج كيسا وقال : أما وليمتك فقد حجزتها لك وأشار لي بكيس اللحم المجمد سيكون كل شئ جاهزا بعد ساعة , أنظر للصور وللجمال الذي سيسلب عقلك , أمي هي السيدة الكبيرة في الصورة الأولي , هذا لك فقط , أنا صعيدي , لم أصبر لكي أخلع ملابسي وفضضت اللفافة بينما انصرف هو إلي الموقد , كان قد تحدث عنها كثيرا معي من قبل حين حدثته عن أمي , كانت السيدة آية في الجمال والوقار وحولها بناتها الجميلات , عندما عاد قال : ما رأيك , قلت له : باهرة الجمال , ضحك من قلبه وكرر : لك أنت فقط , أنا صعيدي , ثم بدأت الغيوم تحوم حول عينيه فجأة , لو رأيت الأسد الذي كانت له لملئك الرعب ولم تجسر علي النظر إليها , أعطاني ظهره وتصورت أن الغيوم زادت في عينيه وتنذر بالمطر , عرفت ذلك من صوته , أخذت في تأمل صور أخري لها تجمعها معه والعروس وصورة أخري مع بناتها وحفيداتها الجميلات أيضا بينما يأتيني صوته من بعيد في الليالي التي سهرناها معا: رأيتها جاثمة فوق أسدها ليلة مقتله وجدائل شعرها مصبوغة بدمائه وقد أفزعت صرخاتها في الليل كل حي , ثم ترفع عينيها إلي ّ لأري كحل عينيها يسيل علي وجهها وتشدني في قسوة وهي تهتف : إياك أن تنسي تلك الصورة ما حييت , لم يزدهر جمالها مرة أخري إلا بعد أن رأت قاتل أسدها علي التراب ويدا أخي الأكبر مصبوغة بدمائه وهتفت بي : ابتعد , ابتعد قدر ما تستطيع , إياك أن أراك هنا مرة أخري , سمعت بكائه نشيجا عاليا يأتيني من غرفته وأنا أخرج اللحم لأضعه في القدر الذي يغلي مائه , كان يكره رؤية اللحم العاري وكان يترك لي دائما مهمة فض لفافة اللحم وغسله ووضعه في الماء المغلي , عندما خرج بعد مدة وجدت مظروفا طويلا في يده ناولني إياه وقال هذا هو رد الرسالة التي أرسلتها ورد بالأمس , وانصرف إلي الموقد . تحادثت مع الرجل طويلا , ومنصور يتابع في اهتمام بالغ , قلت له : يجب أن نطلق الطائر هذا ما طلبوه في الرسالة ,إنهم يجرون الدراسات والبحوث عن هجرة الطيور , هذا ما ورد في ردهم , قال : وما شأني بهم , هذا رزق ساقه الله لي , أفهمته أن هذا الطائر كما ورد بالرسالة لا يهاجر إلي هذه البلد أبدا وأنه كان في طريقه لمكان آخر ويبدو أنه انفصل عن سربه بسبب ظروف جوية وهذا يساعدهم أيضا في فهم أمور أخري متعلقة بعملهم ,أخذ يهز رأسه علامة الرفض ومنصور ينظر إليه في ضيق , عندما أوليته ظهري يائسا سمعت منصورا مندهشا وهو يقول : إذن فأنت تتنازل عن الجنيهات الإسترلينية التي أرفقوها مع الخطاب , عندما التفت إليهما غمز لي منصور بعينه وقال : يجب أن نعيد لهم نقودهم يا أستاذ مع رسالة أخري , قال الرجل : هل أرسلوا نقودا ؟ , إنها من حقي , تابعت حديثهما وأنا أكاد أضحك من حيلة منصور وطمع الرجل , قال منصور : بأي حق لقد أرسلوا النقود فداء للطائر وأنت تصر علي احتجازه وأخرج من جيبه عشر جنيهات إسترلينية ولوح بها للرجل , تردد الرجل قليلا وقال : ولكن المبلغ قليل يجب أن .. , قاطعه منصور : سوف نعيد لهم المبلغ مع اعتذار , هيا يا أستاذ , جذبه الرجل من ذراعه ومد يده ليأخذ النقود فقال منصور : هات الطائر أولا . كنا في الصباح الباكر علي الساحل , قلت له : ماذا تنتظر أيها الصعيدي الرقيق القلب , غمغم : أنتظر خروج الشمس من هنا و أشار بيده إلي ناحية الشرق من حيث أتيت , أحسست كما لو كان ينتظر أن تغمر الشمس غرفته التي عذبها ضوء الكهرباء , أخرج الطائر من القفص وأخذ يتأمله , لون جناحيه أصفر داكن مرقط بلون أسود يعلو رأسه تاج أصغر من تاج الهداهد أما سائر جسده فكان يميل للسواد , منقاره الطويل الأصفر وعيناه التي بدأت الحياة تدب فيها لدي خروج الشمس من البحر جعلاني أحس بشموخ هذا الطائر , رفع منصور يديه عاليا ثم قذف به إلي الفضاء , طار طيرا مضطربا كأنه يجرب جناحيه لأول مرة ثم ارتفع في الفضاء في اتجاه البحر , رأيناه يدور في حلقات واسعة وهو يعرج في الفضاء كأنما يريد أن يتخلص من آثار الأسر الذي دام طويلا ويتعرف علي اتجاهات العالم, في الدورة الأخيرة رأيناه يسلك الجهة الشرقية واضعا وجهه صوب الشمس التي خرجت من البحر بكامل قرصها ووقفت تتراقص علي سطحه . مرسي مطروح - نوفمبر 1993 Migration كوكو يتبع - هوامش وتأملات شتي - RE: علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي - coco - 12-14-2010 مسجد سيدي العوام – حوار– ضد البحر يواجه مسجد سيدي العوام البحر متحديا , يقول العامة أن صاحب المقام جاء إلي البلد داخلا من البحر طافيا فوق كتلة من الخشب وقيل أيضا أنه جاء ماشيا علي ماء البحر , قلت لنفسي : المهم أن الروايتين تتفقان في أنه جاء من البحر , وفكرت أن أولئك الأولياء لابد أن تكون لهم علاقة ما بالبحر , ففي الشرق من حيث أتيت يواجه مسجد سيدي أبي العباس المرسي البحر ووراءه يقبع مسجدا تلميذيه سيدي ياقوت العرش وسيدي البوصيري , وعلي الجانب الآخر من المدينة يقع مسجد سيدي بشر أمام البحر وفي المنتصف يقع مسجد سيدي جابر ولكن للداخل قليلا وإن كنت أشك أن المكان الذي بينه وبين البحر كان مأهولا علي أيامه . يقع مسجد سيدي العوام في أعلي نقطة والطريق الممتد أمامه والذي يفصله عن البحر ينحدر هابطا من الجهتين , من الجهة الغربية في اتجاه البوسيت ومن الجهة الشرقية إلي شاطئ المحافظة , البناء تشغله كتل غير عادية يحس منها الداخل بصلابة المكان وقوته , ولكني عندما تواجهت بالبناء كان خيالي مشغولا بهذا المجهول الذي يرقد تحته ومدي الصلابة التي في داخله ليواجه البحر كل تلك السنين وبكل تقلباته خلال الفصول الأربعة . كان الوقت خريفا , وكان كل شئ مفقودا في هذا اليوم , الجريدة والسكر ومن يؤنس وحدتي , صحوت مبكرا وفي طريقي إلي العمل وجدتني أسير في شارع الإسكندرية وحدي تقريبا , سألت عن الجريدة لدي البائع , لم تصل بعد , دخلت مكتبي , لا قهوة , لا يوجد سكر , غادرت إلي الأجلون , لا أحد غير النادل يدخن ( الشيشة ) في أحد الأركان وكل زجاج النوافذ مغلق , قام في صمت ليعد قهوتي , من خلال الزجاج رأيتها شبه حائرة تلتفت يمنة ويسري كأنها مندهشة من تلك المدينة الخالية , ثم وكأنها وجدت بغيتها وجدتها تدفع الباب الزجاجي فتعوي ريح خفيفة كأنها صوت جرو والنادل يشير لها أن تغلق الباب , جلست في أحد الأركان ووضعت حقيبتها الكبيرة وحافظة أورق علي الطاولة , ترتدي ( تنورة ) صفراء طويلة فضفاضة وصديري أصفر من الصوف المشغول وتغطي عنقها ( بشال ) صوفي أصفر أيضا يتهدل علي كتفيها وصدرها , طويلة, شقراء , بيضاوية الوجه , زرقاء العينين , رمقتني بهما حالما دخلت فرأيت مدي صفاء الأزرق فيهما , بعدما جاء النادل بقهوتي اتجه إليها فحجبها عني , سمعت صوتها يرطن بإنجليزية تسأل عن مسجد سيدي العوام ولا أري غير يديها تلوح بهما , التفت اليّ وسألني عن طلبها : قلت له : تسأل عن مسجد سيدي العوام , قال ضاحكا : وماذا تشرب ؟, انتبهت أنني الترجمان الوحيد هنا عندما سألتها عن مشروبها , أجابت قهوة , سألتها : فرنسية ؟ , فلم ترد علي ّ , أشعلت سيجارة وتشاغلت بالنظر للطريق , عندما عاد لها بقهوتها عادت تسأله عن الطريق إلي مسجد سيدي العوام ,التفت إليّ , رأيتها تنتظر إجابتي , فأخذت نفسا عميقا من سيجارتي ونفثته تجاهها وعدت للنظر للخارج , سمعت صوتها الذي انتظرته يقول بعد قليل : إيطالية , التفتت إليها مبتسما فوجدتها تبتسم , قلت في نفسي : جاء من يؤنس وحدتك في هذا الخريف الثقيل . عندما وصلت عصرا لمسجد سيدي العوام وجدتها قد سبقتني في الحضور , تجلس علي سور كورنيش البحر و تسند ورقة بيضاء علي حافظة أوراقها وبالقلم الرصاص ترسم واجهة المسجد وقد شع أصفرها علي المكان , كنت قد عرفتها المكان سابقا وعدنا( بالكاروزة ) إلي فندقها الذي تملكه سيدة , مانع الخدم في صعودي لغرفتها فجلسنا في البهو حتي وصلت صاحبة الفندق والتي انقبضت لمرآي وقالت فور دخولها : ها أنت تري بنفسك سوء الأحوال في غير الصيف , الإشغال صفر , أفهمتها أنني لم آت للعمل بل لأوصي علي السيدة فأشارت لعينيها وأذنت لي بالصعود معها , كانت ملابسها معلقة هنا وهناك كلها بدرجات الأصفر , راحت تجمع قصاصات بها رسومات من علي السرير والطاولة , قلت لها : مودلياني , اعترتها الدهشة , قلت لها : هل هذا النسخ لك , أجابت بالنفي ثم بعد تردد : لزوجي , هل تعرف مودلياني , قلت لها : نعم ولكن رسومه لا تعجبني , نظرت إلي ّ في مقت كأنني ارتكبت ذنبا لا يغتفر وقالت : مودلياني ! , عندما فهمت من إيقاع الكلمة أنها تنعتني بالجاهل اندفعت في سرعة أغمغم : عيون شخصياته المشوهة أو الممسوحة , تحطيمه لشكل الوجه , نساءه المتوحشات بالشعر في آباطهن , استمعت إليّ بتركيز : أنت لم تفهم موديلياني , رأيته من الخارج فقط , ثم بعد صمت , كما رأيت مسجد سيدي العوام , نفيت ذلك وقلت لها أنني مشغول بسره منذ وفدت علي البلدة , بدت غير مصدقة , ثم قالت : العين التي تدعوها بالمشوهة والمحطمة في ( البورتريه ) ليست عين الشخصية المرسومة إنها عين مودلياني , عينه التي رأي بها الشخصية التي يرسمها , ثم قالت في غضب : نساءه اللواتي تدعوهن بالمتوحشات لم يكن يرسمهن إلا بعد أن ينام معهن , ببساطة كان يرسم ما حدث أثناء اللقاء , هذا التوحد مع شخصياته التي كان يرسمها قل أن تجده عند مصور آخر , أخرجت من الحافظة ( بورتريه ) بقلم الفحم تكاد تكون فيه عارية وقالت: كما رآني زوجي بأسلوب مودلياني , ثم أخرجت مجموعة صور لأعمال مودلياني وبدأت تعرضها وبدأت أفهم ماذا يعني الأصفر بالنسبة لها عندما وجدته شاخصا في معظم الأعمال . دخلنا معا مسجد سيدي العوام بعد صلاة العصر بعد أن لفت شعرها ( بإيشارب ) , راحت تتأمل المقام في تفحص وتدور بعينيها في المسجد البسيط , همست لها : أن علينا الخروج فهم غير معتادين علي مثل هذه الزيارات لأن المسجد ليس أثريا , كانت تستبقيني وهي تمسك بالورقة وتضع خطوطا عليها , عندما خرجنا رأيتها تتجه إلي الكورنيش وتعبر الحاجز وتسير علي الرمال وتتجه إلي البحر وأنا أتبعها مستغربا من عجلتها , وصلت لها وهي تكاد تلامس حافة الماء بقدميها , كانت تنظر في المدي البعيد للبحر المضطرب ثم عادت للكورنيش من جديد وجلست في مواجهة المسجد , لم تنطق بكلمة حتي الغروب رغم محاولاتي جرها للحديث . في أحد الأيام وعلي الكورنيش وظهرنا للمسجد سألتها عن سبب زيارتها للبلد , قالت : إنها تبحث عن شخص ما , بل شخصين , رجل وطفل , هما غريبان , ربما يكونا قد أنسا لهذا المكان , أو ربما يكونا قد فقدا الذاكرة من هول ما رأياه , ثم سألتني بدورها : وأنت ؟ , قلت : أنني أبتغي العزلة إثر مأساة صغيرة مررت بها , سألتني : لماذا هذا المكان بالتحديد , أقصد أن تكون مدينة بحرية , قلت لها : هذا أبعد مكان يمكن أن يكون لي عمل به , أما البحر فقد سلبني أشياء كثيرة , أراها في أحلامي تتلألأ في أعماقه , وكنت أود أن أصفي حسابي معه علي مهل , ومع الوقت وجدت أن الأمر أكبر من أن أواجهه فهو قوي للغاية ويستعصي علي أية مواجهة , وأنت ؟ سألتها بدوري , قالت : أن حسابي معه بشكل آخر , هو سلبني مثلك ولكن صراعي معه لن ينتهي , أنني أريد أن أفهم , لماذا فعل بي ما فعله ؟ , وكيف أسترد منه ما سلبه ؟ , ما بداخله من صمت كثيف يستعصي عليّ حتي الآن , أشارت بيدها للوراء إلي المسجد , هل تظن أنه قد فهمه ؟ ضحكت , فقالت : أنا متأكدة أنه فهمه بعد أن روض سطحه و ذلل عمقه , وأتي إلي هنا ممتطيا ظهره , ثم أقام أمامه كل تلك السنين ليكون شاهدا علي هزيمته له . في أول الليل سألت عنها في الفندق فوجدتها قد تركت رسالة أنها هناك , وجدتها علي الكورنيش أمام المسجد المغلق ساهمة , جلست بجوارها صامتا وأخذت أدخن , وبغتة قالت : ما الذي خطفه منك البحر , أعادني سؤالها للوراء كثيرا إلي ما كنت قد تجاوزته , وقلت : هاهي تفتح جروحي , قلت لها : أنني تعافيت الآن ولا داعي لجلب الأمر علي السطح مرة أخري و غمغمت : النسيان ومحاولة تقبل الأمور والرضي , ووجدتني مرغما أحكي وأحكي, قالت وكأنها تقرأ ما لم أقله : وإذا كان الجرح مفتوحا إلي الأبد , صمت و أنا أري في عينيها تشويه مودلياني للعيون , لقد اختطف مني زوجي وابني , قالتها وهي تنزع الكلمات نزعا , اعترتني الدهشة وهي تكمل خرجا يوما بزورق إلي البحر من خمس سنين ولم يعودا حتي الآن , التفت بوجهي إلي البحر حانقا وهي تكمل من خلف ظهري : أؤمن بأنهما مازالا يعيشان في مكان ما , عدت إليها وهي تقول : ليس في قاع البحر , في مكان ما , في مكان ما , وغلبتها الدموع فمددت يدي فأزاحتها وقالت : لا تلمسني ,إنني قوية , لو أعرف فقط كيف مشي هذا علي الماء وأشارت للمسجد , قلت ماضغا كلماتي : إنها خرافة يتناقلها العامة لا تصدقي ذلك , راحت تردد : كلا لقد مشي علي الماء , أنا واثقة أنه فعل ذلك , إذا تمكنت من هذه المعرفة فسوف أعرف طريقهما , فكرت أن أعيدها للفندق ولو بالقوة إذ شككت أنها احتست مشروبا قويا , كانت تكاد تهذي : أنت لا تفهم شيئا , استوقفت ( كاروزة ) مارة وطلبت منها الركوب فأبت وقالت : أنت علي الساحل , أنت لا تعرف شيئا , لا تعرف هذا المسجد الذي رأيته كثيرا , ولا تعرف مودلياني , ولا تعرف زوجي أو ابني , ولا تعرف أطفالك , ولا تعرف البحر , أنت لاتعرف أي شئ , أنت تتقبل الأمر الواقع وتحاول التجاوز والرضي , هذا استسلام سوف يرديك يوما ما , لو عرفت معني التحدي لفهمت مودلياني ولفهمت سيدك العوام , ثم انقلب لسانها إلي الإيطالية وهي تلوح في غضب وتكاد يدها تصل إلي وجهي , ثم عادت إلي الإنجليزية وقالت : ظننتك متحديا عندما نفثت الدخان في وجهي يوم التقينا ولكنك أجوف , أجوف هل تفهم , أنت أجوف , أنت لا شئ , أنت لاشئ , طأطأت رأسي وأنا أراها تعبرني مسرعة في طريقها إلي البحر . لم أشأ لقائها بعد هذا الليل العاصف , وقبعت في الاستراحة لا أذهب إلي العمل , كان عليّ أن أحدد موقفي من نفسي مرة أخري علي ضوء الوضع الجديد , هل أظل في جرحي المفتوح دائما ؟ , هل أظل في مواجهة مع البحر إلي الأبد ؟ , أتأمل ( بورتريهات ) مودلياني في الكتيب الذي أعارته لي , وأروح بخيالي إلي مقام سيدي العوام , ولا أجد أية إجابة . تحاملت علي نفسي ذات صباح وقررت زيارتها , كانت قد ذكرت لي أنها تصحو مبكرة وتقرأ وتكتب حتي الظهر , سألت عنها في الفندق فقالوا أنها غادرت بالأمس صباحا ولم تعد حتي الآن , سألت عن حقائبها , فقالوا : أنها تحمل أشيائها البسيطة في حقيبة صغيرة , سألت عن حسابها فقالوا أنه مسدد مقدما لآخر الأسبوع , تملكتني الحيرة وجلست في البهو أحاول تفسير أمر غيابها , قال عامل الفندق : لا تقلق لقد تركت لك رسالة وأمانة , فضضت الرسالة في سرعة , فوجدتها تشكرني علي احتمالي لها وتعتذر عن مغادرتها المفاجئة وفي نهاية الرسالة تقرر أن حيرتها قد انتهت لأنها عرفت طريقها , وأنني ربما أفهم ما حدث , لم استطع تفسير الجملة الأخيرة , فضضت اللفافة فوجدتها تحتوي علي بعض رسوم لزوجها لم تطلعني عليها من قبل لها ولابنها بأسلوب مودلياني , ورسوم أخري رسمتها هي بنفس الأسلوب, واحدة لمقام سيدي العوام ينتصب في العراء أمام البحر , وواحدة لرجل سمهري الطول يندمج في المقام العاري أيضا أمام البحر وهو يشير لشخص ما كأنه يدعوه للدخول في البحر , وصورة ثالثة لما تخيلته أنه سيدي العوام ماشيا علي الماء وخلفه ما يشع باللون الأصفر يمشي علي الماء أيضا , احتملت الأشياء وغادرت إلي الشاطئ قبالة المسجد وجعلت أحدق في المدي البعيد للبحر واجما , كانت الأسئلة تتزاحم في رأسي عن مصيرها وعندما عدت إلي نفسي رأيت في العمق الشفاف علي مقربة مني ما بدا لي أنه ( شالها ) يتأرجح تحت الماء . مرسي مطروح - نوفمبر 1994 - قبل الرحيل The Sea كوكو يتبع - هوامش وتأملات شتي - RE: علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي - coco - 03-20-2011 وجه يهجم فجأة لماذا تستفزين حبري بكتابتك ؟ , لماذا لا تتفضلين خارج الغرفة إلي بهو الانتظار ؟, تركنين إلي عالم الصمت بقلبي , تنزوين هناك في الظلمة الداخلية , تنتظرين مع عشرات الوجوه التي تتكدس هناك دورك , وقت استدعائك , حاذري واركضي للفرار , لا أريد أن أمددك الآن علي طاولة التشريح فنصالي ليست مسنونة بالقدر الكافي , ويدي مازالت ترتعش , أخاف أن تجهز عليك , في الوقت الذي أريد أن أفصل لحمك عن عظمك في عناية , أن أجعل لحمك شرائح طولية , أعلقها علي حبل طويل حتي تجف , ثم أتأملها واحدة واحدة , أنظر ما تشي به الأنسجة عن الأيام البعيدة , ما تفصح عنه حين كانت طازجة مترعة بالحياة , قد يتهور الحبر في غضبه , قد يكتبك بلمسة طائشة , يكشف لك ما أنت فيه من ذنب يأكل رأسك , يرسم لك صورتك التي تتقافز في نزق , يشبك عينيك فيها , ألا تعلمين أن حبري لو اشتبك بهذا القميص الخفيف لفكك كل خيوطه, لجردك منه وأوقفك أما نفسك عارية ترتجفين , أما تخافين سيلان الحبر الذي يمكن له أن يلون نسيجه بلون ثقيل عندما يرشح خلال خيوطه , سوف تضعين أصبعك فوق شفتك متفكرة و تتأملين نفسك برهة , سوف تهوين إلي أعماقك , تترسبين هناك ككلس ثقيل في مائع شفاف , وعندما تستقرين في القاع لن يكون في مقدورك الطفو , سوف تجدين أن أنفاسك قد نفدت , وأن ذراعيك قد وهنت , ولن تستطيعي حتي أن تنطقي بكلمة اعتذار : كنت مخطئة , سوف تنظرين للشمس التي تسطع هناك , في الأعالي وتتمنين أن تغمضي عينيك علي شعاع واحد منها , سوف أبعدك ببساطة عن خاطري بمجرد أن ألتفت وأنظر نحو ما يشغلني الآن , أدير خط الحبر الرفيع علي الصفحة البيضاء الجديدة ليكتب ما يفصله عنك من هم , ما يتبادر للروح حين تفك عنها إطار ثقيل , ما يدور أمام العين من خطر لا تدرين كنهه , ما يجعل القلب يفيض بزحمة الحرف الذي يكويه غير حافل بزيف ما تجرحين به نفسك , بوجهك الذي يتصور أنه يصور بهجة , لا تظني أن الأوان قد فرج ستاره يبحث عنك , ولا تحسبي أن الوقت عندك يسرع , لا , لا تظني , إنما هو الموت يغزل من رفاتك في داخلي لحنا حزينا , يقمطك به كطفلة هرعت من الروع تجري بعيدا , فاستريحي علي العشب الجاف واشعلي سيجارتك الأخيرة وألقي نظرة علي المسرح الحافل أمامك , علك تدركين ذوبان جسمك في برودة العشب , زحف النمل منه إليك نملة نملة , يقوض ما تبقي من ثدييك اللذين كانا حافلين يوما , لون شفتيك , غريزة شاحبة , ساقين لا تقويان علي الوقوف , قلب نزف ماءه حتي النزع الأخير , انفعال لا لون له , عينين خيم فيهما الليل الطويل , قلب طاح به البرد الثقيل . حتي إذا ما نال حبري منك ما يشتهي , أبقاك هناك في قاع الذاكرة مجرد صورة تنتظر دورها في آخر البهو , ليوم استدعائها عند الحساب الأخير . مرسي مطروح / يناير 1994 - يتبع - كوكو RE: علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي - coco - 04-09-2011 رائحة كان عليّ في هذا اليوم أن أنجز ما أجلته من أسابيع فالرائحة التي أصبحت لا تطاق وجعلتني أفكر في الفرار من المدينة كلها من قبل حين كانت خفيفة باهتة هي نفسها - حين صارت خانقة - التي جعلتني أتوقف عن قرار الهروب وأفكر في المواجهة , لعدة أيام منذ اكتشافي الرائحة شككت في أنفي واتهمت نفسي اتهامات باطلة , في الأيام الأولي أحسست بها خفيفة تروح وتجئ كالوهم ولم أعرها التفاتا إذ أنها كانت أشبه برائحة اللحم المشوي , في الأيام التالية بدأت تتحول إلي رائحة اللحم المحترق وبدأت أحس علي جلدي بوقع لفحات من الحر , في الأيام الأخيرة تحولت إلي قيظ ثقيل يمنع الهواء من الدخول إلي الرئة كلية فيما كنت أشمها أشبه ما تكون باللحم المتعفن , ولقد سألت نفسي في قلق : هل يمكن أن توجد جثة حيوان بهذا الحجم أمام أحد دون أن يكلف نفسه مؤنة منعها من نشر تلك الرائحة الفظيعة ؟, وبدأت الرائحة تسيطر علي أفكاري بطريقة مخيفة , في الصباح عند الاستيقاظ وقبل أن تتسرب إلي أنفي أبدأ في تشممها والاستفسار عنها كأنني أفتقدها وعندما تداعب أنفي بطبيعتها السرية أبدأ في المقاومة وأظل طيلة اليوم لا أفعل شيئا سوي التفتيش عن مصدرها . رسمت خريطة المدينة في رأسي واستبعدت الشوارع الرئيسية والميادين العامة تلك التي أمر عليها صباح مساء دون أن أري شيئا وبدأت رحلتي من السوق وككلب الصيد المدرب أخذت أتشمم أماكن ثقل الرائحة إلا أنها كانت ثابتة , كانت محلات القصابين خالية من أي بقايا أمامها إذ أن الكلاب الراقدة هناك كانت تلتهم أية نفايات بسرعة وشراهة , أما تحت طاولات بائعي السمك فقد كانت الأرض تموج بالقطط الشريدة تبحث تحتها وقد مسحت الأرض بألسنتها الصغيرة ولم تبق علي قشرة سمكة والرائحة مازالت جاثمة , وكانت عربات القمامة تجمع بقايا الخضروات الملقاة جوار العربات وتهرع بها بعيدا إلي خارج المدينة حيث تلقي في قمامة ضخمة وسرعان ما تحرق , ولقد قلت لنفسي في هدوء : هل يشم الآخرون تلك الرائحة مثلي ؟ وإذا كانوا يشمونها فما الذي يمنعهم من الحديث بشأنها ؟ , وقلت لنفسي في غضب أيضا : كان علي الجهات المسئولة في المدينة أن تعلن عن وجود تلك الرائحة علي الأقل وإذا كانت تعاني من الفشل في مكافحتها أن تطلب المعونة من هؤلاء البشر الذين يتحركون خلالها , ولقد حرصت في أيام عديدة علي الاقتراب من المسئولين وأخذت أراقب ردود أفعالهم البسيطة التلقائية إلا أنني كنت أحس أنهم حذرون جدا ويتصنعون من الحركات ما يدل علي أنهم لا يشمون تلك الرائحة ثم تناقشت مع نفسي كثيرا حد العراك وقلت لها في النهاية : هل يمكن أن يكون الجميع متآمرين علي الصمت حيالها , فلم تجبني بشئ , وبدأت أراقب في تفحص وجوه المتسكعين في الطريق أو الماضين في جد وكان قلبي يدق في عنف حين أري أحدهم يلوي عنقه ليتابع امرأة متعطرة حتي اختفاء رائحتها ولكني كنت غير متأكد ما إذا كان يتابع عطرها أم يملأ نظره من جسدها , وتأكد لي الأمر أكثر وبشكل قاطع حين تجولت علي الشاطئ , كان البحر في أشد حالات هياجه هذا الصيف , يرغي بالزبد طيلة الوقت ويهاجم الشاطئ في عنف ويصدم الحاجز الحجري في قسوة , وأحسست أن الرائحة كما لو كانت هي الباعثة علي هذا الغضب بل وتثير فيه الغثيان فقد كان يرميني بالرشاش في غضب وأراه من بعيد يتمطي في قوة وكأنه ينوي إغراق المدينة كلها وابتلاعها في جوفه الضخم حتي يتخلص من تلك الرائحة وأحسست أن ما يفعله الآن مجرد تحذير وأن زيادة قوة الرائحة كفيل بإثارة المزيد من غضبه الذي لا يقاوم , وقلت لنفسي في النهاية – ببساطة - : طالما أن السلطات يديرها بشر مثلي فإن كل واحد منهم يتهم عقله مثلي وأنه خائف من الإفصاح و إلا نعت بالجنون , وكل ما يفعله أن يمضي إلي شاطئ البحر هناك حيث تختفي الرائحة ويهدئ نفسه ثم يعود ويتناسي الأمر كله , وقلت لنفسي أخيرا أن المعتوهين لابد وأنهم لم يفقدوا حاسة الشم أيضا , وعندما راقبت أحدهم وأنا جالس علي المقهي وكان واقفا في تقاطع طريقين من الطرق التي تمر بها السيارات يشير بيديه كأنه جندي مرور , أحسست من حركات يديه المتصلبتين كأنه يطرد تلك الرائحة , بعد قليل اتجهت إليه محاولا رؤية تفاصيل وجهه وربما مسحة الاشمئزاز المختفية في ثنايا جلده المحروق , وعندما وقفت أمامه نظر إلي في حدة والتمعت عيناه وتراجع إلي الخلف مذعورا حتي أن إحدي السيارات زعقت عجلاتها , وهرع يختبئ خلف متاع أحد المحلات التي تعرض بضائعها علي الرصيف وهو ينظر إليّ في خوف . انطفأت الشمس عندما كنت فوق بناية عالية أراقب بمنظار مقرب نوافذ مباني المدينة , كان الناس مشغولين بأمورهم البسيطة لا يدرون شيئا عن تجسسي عليهم , أراهم يخلعون ملابسهم فتبدو أجسادهم ناصعة كالضوء الخالص حين يضعونها تحت رشاش الماء الرائق في الحمامات , أما الملابس المتسخة فيضعونها في الغسالات , يأكلون في نهم ثم يلقون البقايا في أكياس ويحكمون إغلاقها , يجامعون نساءهم في اعتياد ثم يتنظفون جيدا , يضربون أطفالهم ويطاردونهم خلال أشياءهم ثم يصالحونهم ويعيون ترتيب ما تبعثر , يتبولون ويتغوطون ثم يحركون مقبض المياه في رشاقة , جعلت أجول بالمنظار علي كل نافذة متاحة مدققا داخل الغرف دون جدوي , بدأت أضواء المدينة تتكاثر وعيناي تجولان بالمنظار في جنون إذ أن الرائحة ثقلت فجأة وزادت حدتها , وكانت نسمات الصيف البخيلة تحملها إلي أنفي كأنها الكابوس , وضعت المنظار جانبا وأخذت أتأمل المدينة الشاطئية الجميلة أمامي والتي تحمل ذلك الذنب الذي ينشر تلك الرائحة الفظيعة , اعتمدت علي السور لدي إحساسي بالدوار وألقيت نظرة علي الشوارع , كان الزحام قد بلغ أشده , الرجال والنساء والأطفال في تزاحم تحت الأضواء الملونة , مست عيناي شارعا ثم شارعا آخر وأخذت أري شوارع المدينة المتشابكة الأضواء في عتمة الليل عناقيد من الضوء المرقط فتراجعت إلي الخلف وأنا أحس بالقشعريرة الهائلة ومن كل الاتجاهات كان يمكن أن أري ذلك الحيوان الأخطبوطي الضخم المنير ينبض كقلب يحتضر فيما الرائحة تزيد لدي تراجعي واشتممتها وهي تأتي مع النسمات فتخنقني , وإذ ذاك التفت أري البحر من أعلي فوجدت الموجات العالية بعرض الأفق الممتد تعلو قامتها عن البناية التي أقف فوقها تأتي متباطئة ثقيلة كالحلم المخيف تتلوها علي أبعاد متفاوتة موجات تصل إلي السماء وتمنعني من رؤية النجوم , ونظرت إلي أسفل فرأيت مد الماء ينساب في الشوارع ويعتلي الأرصفة والناس يخوضون فيه دون أن يلقوا إليه بالا ثم يغمر مدخل البناية ثم يصعد السلم متجها إلي ّ . مرسي مطروح - أغسطس 1993 تنتمي هذه القصة لهذه المجموعة كوكو يتبع - هوامش وتأملات شتي - |