حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$archive_pages - Line: 2 - File: printthread.php(287) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(287) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 287 eval
/printthread.php 117 printthread_multipage
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
غسان تويني - في ذمة الله ! - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3)
+--- المنتدى: قضايا اجتماعيــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=60)
+--- الموضوع: غسان تويني - في ذمة الله ! (/showthread.php?tid=48736)

الصفحات: 1 2 3


غسان تويني - في ذمة الله ! - العلماني - 06-09-2012

بيروت- (ا ف ب) توفي الجمعة غسان تويني الملقب بـ(عملاق الصحافة العربية) والسياسي والدبلوماسي اللبناني عن 86 عاما، بحسب ما ذكرت صحيفة (النهار) العريقة التي تملكها عائلته.
وعنونت النهار على صفحتها الاولى (رحل... فجر النهار)، وكتبت حفيدته رئيسة مجلس إدارة الصحيفة نايلة تويني "هكذا قبل صياح الديك، رحلت"، مضيفة "لن ارثيك اليوم ولن ابكيك. لا عبارات لدي تفيك بعض حقك. امامك وانت سيد القلم، تسقط الحروف وتعجز الكلمات".

ويعرف غسان تويني بانه "عملاق الصحافة العربية" و"عميد الصحافة اللبنانية".
وبدأ عمله الصحافي وهو في بداية العشرينات في جريدة النهار التي اسسها والده العام 1933.

وما لبث أن دخل المجال السياسي ودخل البرلمان اللبناني وكان في الخامسة والعشرين من عمره.

شغل مناصب وزارية مهمة. وكان مندوب لبنان الدائم في الامم المتحدة في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات في اوقات عصيبة تخللها خصوصا اجتياحان اسرائيليان. وينظر اليه على نطاق واسع على انه "عراب" القرار 425 الصادر عن مجلس الامن الدولي في 1978 والذي دعا اسرائيل الى الانسحاب من لبنان، الامر الذي لم ينفذ حتى العام 2000.

وتميزت حياته بمآس عدة، لدرجة وصف بان قدره يشبه "ابطال التراجيديا الاغريقية". فقد توفيت ابنته نايلة وهي في السابعة بمرض السرطان، وما لبثت أن لحقت بها زوجته الشاعرة ناديا تويني بالمرض نفسه.

وبعد ذلك بسنوات، قضى نجله مكرم في حادث سيارة في فرنسا. وقتل نجله الصحافي والسياسي جبران تويني في عملية تفجير استهدفته في كانون الاول 2005.

وقبل ثلاث سنوات، توقف غسان تويني عن كتابة افتتاحيته في جريدة (النهار) بسبب العجز والمرض.

ولغسان تويني مؤلفات كثيرة ابرزها("دعوا شعبي يعيش) وهو عنوان خطاب القاه في الامم المتحدة خلال الحرب الاهلية اللبنانية (1975-1990)، و"حرب من اجل الآخرين".

----------

غسان تويني باختصار (عن النهار البيروتية)

غسان تويني سيرة شخصية

¶ الولادة: 5 كانون الثاني 1926
¶ الحياة المهنية: الرئيس الفخري لـ "النهار"
¶ رئيس مجلس الادارة المدير العام لـ "النهار" حتى 2010
¶ رئيس تحرير "النهار" (2000 – 2006)
¶ رئيس مجلس الإدارة المدير العام لـ"دار النهار للنشر"
¶ ناشر "النهار" وشريك مفوض لشركة "النهار" (1963-1999)
¶ باشر مسؤولياته كرئيس تحرير "النهار" عام 1949
¶ رئيس لجنة متحف سرسق (1998 – 2010)
¶ نائب سابق لرئيس المؤسسة الوطنية للتراث
¶ ناشر وعضو في مجلس الادارة "L’Orient le Jour"،
(1970 - 1991)
¶ ناشر ورئيس تحرير جريدة "Le Jour" باللغة الفرنسية (1965)

الحياة السياسية
¶ نائب بيروت (2006 - 2009)
¶ سفير ومندوب لبنان الدائم لدى الأمم المتحدة
(أيلول 1977- أيلول 1982)
¶ مبعوث خاص للرئيس الياس سركيس إلى الولايات المتحدة
(كانون الأول 1976)
¶ وزير العمل والشؤون الاجتماعية، السياحة، الصناعة والنفط
(حزيران 1975-كانون الأول 1976)
¶ ممثل شخصي لمدير اليونيسيف وسفير في مهمة خاصة
في الخليج العربي (أيار 1971)
¶ نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الإعلام والتربية الوطنية
(تشرين الأول 1970 – كانون الثاني 1971)
¶ سفير مطلق الصلاحية وممثل شخصي لرئيس الجمهورية اللبنانية في الولايات المتحدة بعد حرب حزيران 1967
¶ عضو الوفد اللبناني إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة (1957)
¶ نائب بيروت ونائب رئيس مجلس النواب (1953-1957)
¶ نائب الشوف (جبل لبنان) (1951)

الحياة الأكاديمية
¶ عضو في مجلس أمناء الجامعة الأميركية
(1988-2002)، وعضو فخري (Emeritus)
¶ رئيس جامعة البلمند (1990-1993)
¶ شارك في تأسيس الأكاديمية اللبنانية للحقوق والعلوم السياسية ¶ درّس فيها فلسفة القانون وتاريخ الفكر السياسي (1951-1954)
¶ محاضر في العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت (1947-1948)
¶ ماجستير في العلوم السياسية
جامعة هارفرد (1947)
¶ بكالوريوس في الفلسفة
الجامعة الأميركية في بيروت (1945)

تكريمات وأوسمة
¶ دكتوراه فخرية في الانسانيات
الجامعة اللبنانية (2010)
¶ وسام الاستحقاق الذهبي اللبناني (2010)
¶ وسام الاستحقاق المدني الاسباني من رتبة كومندور (2009)
¶ وسام جوقة الشرف الفرنسية من رتبة فارس (2005)
¶ دكتورة فخرية في الانسانيات
الجامعة الاميركية في بيروت (2005)
¶ وسام الكوكب الاردني من الدرجة الاولى (1987)
¶ وسام الارز الوطني من رتبة ضابط أكبر (1984)

محطات في حياته
¶ 2006: انتخب نائباً عن بيروت للمقعد الذي شغر باستشهاد نجله جبران.
¶ 2001: ساهم في تأسيس "اليوم الوطني للتراث" بسعي من "المؤسسة الوطنية للتراث" التي ترأسها السيدة منى الياس الهراوي.
¶ 1988: عيّنته جامعة البلمند أول رئيس لها وهو الذي ساهم في تأسيسها.
¶ 1983: عيّنه الرئيس أمين الجميل مستشاره الخاص للسياسة الخارجية واستمر في هذه المهمة سنتين.
¶ 1977: عيّنه الرئيس الياس سركيس سفيراً للبنان في الامم المتحدة وكان الطبع الصحافي يغلب دائماً لديه على الطبع الديبلوماسي. وساهم في تلك الفترة (1977 – 1982) في استصدار القرارات 508 و509 و520، وخصوصاً 425 الذي ارتبط به اسمه.
¶ 1975: عيّن وزيراً للعمل والصناعة في حكومة ائتلافية برئاسة رشيد كرامي وعضوية فيليب تقلا، عادل عسيران، كميل شمعون ومجيد إرسلان. وبعد اسابيع من تشكيلها اعتصم مع رئيسها رشيد كرامي في السرايا الحكومية احتجاجاً على استمرار الحرب.
¶ 1972: ترشّح للانتخابات النيابية عن دائرة عاليه لكنه لم ينجح فأطلق "حركة الاتحاد الشعبي اللبناني" معلناً في مؤتمر صحافي أنه يتخطى الخلافات العقائدية والطائفية.
¶ 1970: "النهار" تشتري "الأوريان" (13 تشرين الأول) من جورج نقاش، ويعيّن غسان تويني وزيراً للتربية الوطنية والإعلام ونائباً لرئيس مجلس الوزراء في حكومة الشباب برئاسة صائب سلام، لكنه عاد فاستقال منها بعد 100 يوم في الحكم.
¶ 1967: عيّنه الرئيس شارل الحلو سفيراً لمهمة خاصة في الأمم المتحدة والولايات المتحدة.
1964: اشترى، مع مجموعة شركاء، امتياز جريدة "لوجور" وسلّم الصفحة الثقافية فيها الى زوجته الشاعرة ناديا.
¶ 1950: في طموحاته الكثيرة لتحسين "النهار"، حوّلها في تشرين الثاني صباحية (بعدما كانت تصدر ظهراً) ونقل تنضيدها الى "الإنترتيب" (بعدما كانت صفّ أحرف يدوياً) وجعل شعارها "الديك"، وعبارة "كلما صاح الديك... طلع النهار".
¶ 1949: حين أصبح رئيس تحرير "النهار" استهوته الصحافة، عكس ما كان يظن، فانغمس فيها، وانتقل الى جبهة فلسطين ودخل الأردن مع جيشه كـ"مراسل حربي" وراح يراسل "النهار" من هناك.
¶ 1948: عاد الى لبنان لحضور مأتم والده (توفي في 1947/11/11) وصدر العدد الأول من "النهار" حاملاً اسمه كـ"رئيس تحرير" (5 كانون الثاني) في عيد ميلاده الـ 22. وكانت "النهار" يومها في سوق الطويلة المطل على شارع طرابلس.
¶ 1947: تخرّج من جامعة هارفرد حاملاً شهادة الماجستير في العلوم السياسية وفلسفة التاريخ. وكتب الى والده يُفصح له عن ميله الى التدريس والتأليف الفلسفي، غير راغب في العودة الى "النهار" ولا الى لبنان، بل في البقاء هناك لتحضير أطروحة الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة نفسها.
¶ 1945: تخرّج من الجامعة الاميركية في بيروت، وسافر الى جامعة هارفرد حاملاً من "النهار" بطاقة "مراسل النهار في الولايات المتحدة الاميركية". كان يرسل من نيويورك الى "النهار" مقالات تحليلية عن مناقشات الجمعية العمومية ومداولات مجلس الأمن. وسعى لدى والده ان يلتحق بالوفد اللبناني الى الأمم المتحدة برئاسة وزير المال آنذاك كميل شمعون.

مؤلفات ومحاضرات
* المقالات المجموعة
¶ الجنوب 2006، المقاومة السلم والحرب الميثاق، سجالات دار النهار (2006)
¶ حوار مع الاستبداد، دار النهار (2003)
¶ الارهاب والعراق قبل الحرب وبعدها، دار النهار (2003)
¶ مسارات السلام ودبلوماسية الـ 425، أبحاث افتتاحية (1998-1999)، سجالات ("دار النهار"، 1999)
¶ قبل ان يدهمنا اليأس، مقالات الانتخابات 1992 (دار النهار)
(جمعت لاحقا الكتب الثلاثة السابقة في كتاب واحد)
¶ الجمهورية في اجازة، لبنان 1988-1990 (دار النهار)
¶ نزهة العقل 1983-1984، مجموعة مقالات (دار النهار)
¶ كتاب الحرب، 1975-1976 (دار النهار)
¶ الثورة الفلسطينية والحقائق اللبنانية، 1971-1974.
¶ خواطر انتخابية، آذار- نيسان 1972.
¶ فلسطينيات 1967-1971، ملف "النهار"1971.
¶ ثورة الطلاب (مقالات 1967-1968 وكلمات 1968-1970)، ملف "النهار" 1971.
¶ رئاسيات 1970، ملف "النهار"
¶ الخطر الاحمر... والعالم الحر؟ 1948-1959.
¶ الايام العصيبة أيار - آب 1958.
¶ منطق القوة أو فلسفة الانقلابات في الشرق العربي. دار بيروت (1954)

الوثائق والمراسلات والخطب
¶ 1982 عام الاجتياح، لبنان والقدس والجولان في مجلس الامن، القرار 508 والقرار 520، حققه وقدم له فارس ساسين (1998)
¶ القرار 425، المقدمات، الخلفيات، الوقائع، الابعاد. حققه وقدم له فارس ساسين، المراسلات الديبلوماسية 1977-1978 (1996)
¶ رسائل الى الرئيس الياس سركيس 1978-1982 (1995)
¶ اتركوا شعبي يعيش، لبنان في الامم المتحدة، مقدمة الرئيس شارل حلو. دار النهار (1984).
¶ ملف الجنوب (مع جوزف نصر وآخرين – 1973).
¶ آراء في السياسة والحكم آذار - نيسان (1972).
¶ 100 يوم في الحكم، ملف "النهار" (1971).
¶ من أجل مجلس حر. رصيد سنة في مجلس النواب 2 حزيران 1951 - 31 أيار 1952.

في الصحافة والتاريخ وبيروت
¶ البرج ساحة الحرية وبوابة المشرق (مع فارس ساسين وآخرين)، دار النهار (2000 - بالعربية والفرنسية)
¶ كتاب الاستقلال بالوثائق والصور (مع فارس ساسين ونواف سلام)، دار النهار (1998)
¶ سر المهنة وأسرار أخرى، دار النهار (1995)
¶ سر المهنة...وأصولها، النهار كتاب التسعينات. محاضرات في الصحافة ومقالات عن كبارها (1990)


المؤلفات بالفرنسية والانكليزية
¶ Enterrer la Haine et la Vengeance (Albin Michel) 2009
¶ Un siècle pour rien, (avec Gérard Khoury et Jean Lacouture) Albin Michel, 2002.
¶ 1981-1991 Conférences, Dar An-Nahar, 1992
¶ Une vieille poésie d’enfance, 1940-1943, Dar An-Nahar, 1990.
¶ Laissez vivre mon peuple, Le Liban a l’ONU, préface de Charles Helou, Jean Maisonneuve, Paris, 1984.(nouvelle edition et postface de l’auteur 2004, Dar An-Nahar)
¶ Une guerre pour les autres, préface de Dominique Chevallier, JC Lattes,
1985.
¶ Peace-Keeping Lebanon, 1979.


الرد على: غسان تويني - في ذمة الله ! - العلماني - 06-09-2012

قبل سبع سنوات كتبها بخط يده "جبران لم يمت... و"النهار" مستمرة". فماذا تراها تكتب "النهار" في لحظة رحيله؟ وكيف تراها تتجرأ على نعيه وهو قاهر الفناء وأسطورة الايمان أمام المصائب والشدائد؟
أسلم نزيل الغرفة 929 في مستشفى الجامعة الاميركية الروح بعد 38 يوماً من جولته الأخيرة في نزاع مضنٍ مع قدره، ولا نقول أمراضه.
عملاق الصحافة اللبنانية والعربية وعميد "النهار" ومعلّم أجيالها المتعاقبة منذ تولى مبكراً مسؤولياته فيها وباني مجدها وصانع ألق الكلمة والفكر. النائب والوزير والسفير والديبلوماسي وصانع الرؤساء والعهود والسياسات في زمن مجد لبنان ومجد الرجال، كما في زمن الاحداث الكبيرة وزمن الكبار الكبار.
الصارخ "اتركوا شعبي يعيش" أمام مجلس الامن، ومطلق حقيقة "حرب الآخرين على أرض لبنان"، غسان تويني رحل بعد ثلاث سنوات من اشتداد جلجلة أقعدته حتى عن قلمه الساحر وافتتاحيات صباحات الاثنين، ذاك القلم الذي كان الاقرب التصاقاً بصاحبه الكبير والأحب اليه بعد احبائه. المؤمن الاسطوري الذي ذاق من تجارب قدره ما يفوق قدرة البشر على الاحتمال... من موت طفلته نايلة الى مرض زوجته ناديا وموتها، الى مقتل ابنه الثاني مكرم في حادث سير مفجع، الى ذروة الذروة في استشهاد ابنه البكر جبران في اغتيال وحشي... هذا المؤمن لم تفارقه شجاعة مذهلة حتى مع انقضاض هذا القدر على جسده المتعب فسرق منه القدرة على النطق وحرمه الكتابة في سنواته الثلاث الاخيرة وهو المالىء لبنان ودنيا العرب بموسوعيته المعرفية والصحافية في "النهار" والدراسات والمؤلفات والكتب.
86 عاماً من ملحمة انسانية مذهلة هي مزيج من كيمياء المجد الذي صنعه غسان تويني، أحد آخر الكبار والعمالقة في زمن التصق باسمه وطبعه بتوقيعه في الصحافة والفكر والديبلوماسية والسياسة ذات المعايير الاستثنائية، مقترنة بتجربة انسانية وشخصية لا يقوى على مواجهتها الا غسان تويني وحده.
معلم "النهار" والصحافة لا تقوى "النهار" على نعيه، بل تعاهد روحه وكل الارث الذي تركه للأجيال اللبنانية والعربية وما يمثل من امانة في عنق "النهار" على ان تبقى وفية لكل القيم والمعايير المهنية والوطنية والانسانية التي تختزنها سيرة كبيرها الراحل كما لكل حرف كتبه وكلمة قالها. وستبقى "النهار" مستمرة مستمدة من كبيرها الايمان في الاستمرار والشجاعة في الدفاع عن كل ما تركه لها مع الشهداء الذين ستقر عيونهم لانضمامه اليهم كبير الشهداء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جدي غسان سلّم على جبران
بقلم نايلة تويني

جدي، هل تذكر عند استشهاد والدي وكنا بعد في باريس، انك قلت لي: "لا أطلب منك ان تكوني رجلاً، بل على مستوى ما ينتظره منك والدك". اليوم صارت المسؤولية أكثر والانتظارات أكبر. هكذا قبل صياح الديك رحلت، وفي وجداني ما تنتظره مني، فحملت وجعي وتوجهت إلى "النهار"، لأكتبك خبراً وداعياً.
جدي، لن أرثيك اليوم، ولن أبكيك. لا عبارات لديّ تفيك بعض حقك. أمامك وأنت سيد القلم، تسقط الحروف، وتعجز الكلمات عن التعبير، في الحضور او في حضرة الغياب.
جدي، كبير العائلة، ومن بقي لنا بعد جبران، أين تذهب اليوم؟ ولماذا تتركنا وحيدات، أخواتي وأنا؟ أتذهب للقيا جدتي ناديا، أم عمتي نايلة، أم عمي مكرم، أم أخر ابنائك جبران؟
أتذهب إليهم، فتجتمع العائلة هناك في أحضان القديسين؟ هل تتطلعون إلينا من فوق؟ هل اشتقت إليهم واشتاقوا إليك، ولم تحسبوا جميعاً حساباً لشوقنا إليكم نحن المتروكين هنا؟
جدي، التحية والحب لك، اليوم وفي كل نهار، وكلما صاح الديك والفقد لقلمك، لفكرك، لعقلك، ولأدبك، لقلبك الكبير، الذي انشطر مراراً.
تحية حب ووفاء لك من العائلة، من "النهار" عائلتك وعائلتنا، من الديبلوماسية التي كنت مثالها، من بلد الأرز الذي حملت لواءه، وبلد ثورة الأرز، وبلد الشهداء، وبلد القديسين.
جدي غسان، هل تعي ما تفعل بنا اليوم، تترك شادية وحيدة، اما انا واخواتي فتجعلنا يتيمات فعلاً، فلا أب لنا، ولا جد، ولا عم، ولا عمة...
جدي، الذي ترقد اليوم مرتاحاً غير مطمئن، لن أحمّلك شيئاً، ولا مسؤولية أمر، فما احتملته في حياتك لا يصمد حياله أحد، حتى الصخر تفتت، في حين كنت أنت الصخرة الجبل.
جدي، أحمّلك شوقي إليك، والى كل العائلة، قل لجبران، عندما تلتقيان، اننا نفتقده، وإننا اشتقنا إليه، سأزوركما معاً، انا وجبراني الصغير، في مار متر، في كل حين، سأصلي لكما، وصليا معي من اجل لبنان حتى تطلع عليه "النهار" كل صباح، ويعيش ملء القيامة.
تأكد دوماً اننا سنكون معاً وسنبقى معاً موحدين، اخواتي وأنا وشاديا وخالي مروان وكل الأسرة.
جدي غسان، سلم على جبران.

عن "النهار البيروتية"


الرد على: غسان تويني - في ذمة الله ! - العلماني - 06-09-2012

آخر العمالقة
الياس الديري

إذاً، اتخذت قرارك بالترجُّل والرحيل، مخلِّفاً لنا ولأجيال تأتي بعدنا كل هذا الإرث الراقي من النبل والكبرياء والشجاعة والبسالة، ومن غير أن تتيح لنا حتى لحظة للوداع.
سكبت الحبر كله فوق الأوراق كلها، وادخلت الكلمات الى أدراجك الناحبة الملتاعة، ومضيت.
كأنك أردتنا أن نكتفي منك بما عمّدتنا به من مناقبياتك، ومبادئك، وقيمك، ومتابعة المسيرة المرهقة على تلك الدروب العاقة.
لتقول لنا إنك لم تكن بطل الحرية والحقيقة وحدهما، بل المواجهة والمثابرة حتى خلف القضبان، وفي لحظات الامتحان الصعب، وحتى في وداع من نحبُّ.
لكنك نسيت، عمداً وقصداً ربما، أن تعلِّمنا كيف نودِّع استاذنا ومعلمنا وقدوتنا، وكيف نواجه عالماً مصحّراً خاوياً من آخر العمالقة، وآخر الكبار، وآخر الأكابر.
أيها الشامخ، المنتصب القامة والهامة، أيها الجزيل الاحترام في كل أيامك ومواقفك، وحالاتك وحالات الزمان عليك، كيف لنا أن نقتنع ونصدِّق أن مالئ الدنيا وشاغلها، مالئ "النهار" وعاشقها، مالئ السياسة ومرجعها، قد غادرنا في لحظة فاصلة بين عصرين، بين زمنين، مشرّعاً الأبواب والنوافذ والأدراج والجروح والأحزان المقيمة فوق مكتبك، في جوار صور أحّباء أبيت أن تبوح بلوعتك لفراقهم.
أبقيتهم مع الحشرجة، مع الحرقة، مع الغصَّة، في قلب أرقّ من النسمة، إلا أنه لا يبوح ولا يبيح.
أبقيتهم في عينيك، في تلك النظرات التي تكاد تزأر من تلقائها، وتهدم الهياكل كلها.
أبقيتهم في صوتك. في كلماتك. وفي صمتك أيضاً.
أستاذنا غسان، شئت أن تزرع فراقك في قلوبنا كجرح من المحبَّة والريحان والنسائم لتبقى في قلوبنا كما أنت دوماً فيها، وفي عقولنا، وفي أقلامنا، وفي كلماتنا، وفي "نهارنا".
أأقول لك في هذه اللحظة، التي لا قدرة لي على الاقتراب منها، شاء المسافر أن ينسى حقيبته، وفي الحقيبة جرح دائم السفر؟ أم أستعير من الأخطل الصغير نفحة مما قاله في وداع سعد زغلول: ... قلت ويحكم، أذاً مات غسان وانطوى العلم؟
لا شيء، لا أحد، لا فارس، لا رجل، يوازيك في هذه المسيرة الطويلة، بل هذه الجلجلة التي سرتها بجدارة وإباء وعناد وشجاعة، وعلى امتداد زمن بل عصر كنت أنت رمزه، وكنت أنت عنوانه.
كنت دائماً أرتوي رغبة في الكتابة عن معلّمي واستاذي، الذي شجَّعني ورعاني في أمبراطوريته التي كانت تقيم تحت قرميدة متواضعة في سوق الطويلة، وكنت أنا لا أزال ذلك الصبي الأزعر.
إلا أنني ههنا، أمامك وأنت تحزم حقائبك وتمضي. فمن أين لي في هذا الرحيل ما يؤهِّلني لأكتب ما يليق بك، وما تستحق، وما ينصفك، وما يجدر بنا أن نرفعه كبيرق تزينه ملامحك وكلماتك، ويكون في حجم هذا اللبنان الذي أحببته بلا حدود، ووهبته أحبَّ الاحباء.
إن أيّ كلام عن هذا الكبير، عن هذه القامة، عن هذا الجبل الذي هيهات أن تجود بمثله الأيام، إنما يحتاج الى صفحات وأيام وأقلام وذاكرات وحكايات... هيهات أن تتسع جميعها لقصة هذا الغسَّاني الذي غدا ينبوعاً موازياً للحرية والاستقامة والحياة.
أستاذنا غسان،
ترجَّلت بلياقة الفرسان، إنما لن تبارح قلعتك في قلوبنا. سنظل نحجُّ الى حكمتك كلّما دهت لبنان دهياء.


الرد على: غسان تويني - في ذمة الله ! - العلماني - 06-09-2012

رحل المستقل الأول والديموقراطي الأخير
سركيس نعوم

غسان تويني كان لي في اثناء دراستي الجامعية مثالاً. فهو الذي صنع مجد "النهار" يوم كان لبنان في عزّه. وطبعاً هو الذي صان هذا المجد عندما بدأ الوطن انحداره المستمر حتى الآن، رغم الآثار السلبية التي تركها الانحدار المذكور عليها. وهو الذي كان قدوة للشباب وللطلاب بل حتى للشيوخ وللذين دخلوا مرحلة الرجولة. أولاً بسبب محاولته، من موقع الوزارة وقبل ذلك من موقع النيابة، وإن غير الناجحة لأسباب يُسأل عنها النظام اللبناني لا هو، لتعميم نمط جديد من تعامل "الحكام" مع الشعب الذي صار في أثناء الحرب "شعوباً". ولا تزال. تعاملٌ يقوم على الحوار، وعلى الحرية، وعلى الديموقراطية، وعلى تداول السلطة، وعلى احترام حقوق الانسان وفي مقدمها حريات المعتقد والتعبير... والتغيير بواسطة الانتخابات الحرة، وليس بواسطة اجهزة الاستخبارات محلية كانت أو عربية، اقليمية أو دولية.
عندما عملت بعد تخرجي من الجامعة اللبنانية "مديراً او ادارياً" في دار الصياد كان عقلي مع غسان تويني وكان قلبي مع "النهار" رغم احترامي لتنافسهما. كان طموحي الانتقال الى الصحافة الفعلية صحافة الارض والاخبار التي كانت تجسّدها في حينه "النهار" والتي يسعى القيمون عليها اليوم، مثلما سعى الشهيد جبران تويني، الى ابقائها كذلك رغم الصعوبات والمعوقات المعروفة. تحقق الطموح المذكور وبأوراق اعتماد مهنية لا بوساطة سياسية او حزبية. وكان ذلك عام 1974. في السنوات العشر الأولى، وكانت كلها سنوات حرب، لمست متابعته اليومية لكل العاملين في "جريدته"، ورأيت حرصه على تشجيع اصحاب المبادرات منهم، والصحافي تشكل المبادرة نصف نجاحه، بغض النظر عن الأقدميات. المقياس كان العمل ليلاً ونهاراً، وكان "الانفراد" بالأخبار، وكان الدقّة وكان الابتعاد عن الارتهان وعن الدعاية، وكان الحرص على الشمول في التغطية. وكان وهذا أهم شيء الحريص من خلال "النهار" على أقانيم ثلاثة: حرية وديموقراطية وعلمانية. طبعاً قد تكون الحروب وما يلازمها، دفعت غسان تويني الى واقعية ما او الى حدة ما في مواقف معينة. لكن واقعيته لم تجعله يتخلى عن الأقانيم المذكورة، لا بل اضافت اليها اقنوماً رابعاً هو سيادة لبنان واستقلاله وأما الجدّة فكانت دفاعاً عن الأقانيم مجتمعة. طبعاً برز غسان تويني مفكراً ومثقفاً. وبرز سياسياً. لكن بروزه الأهم وهو مزدوج كان في الصحافة التي كانت في دمه والتي كرّس نفسه لها وللمحافظة على استقلاليتها. وقد تكون علاقته بي بعد السنوات العشر الأولى دليل بارز وثابت على تعلقه باستقلالية الصحافة والصحافي. اذ ساءت تلك العلاقة ثم تردّت. فحكمها أمران: ملكية الجريدة وسياستها عند غسان تويني، والتمسك البلا حدود بالاستقلالية عند صحافي صار له في المهنة 10 سنوات. تغلَّب الديموقراطي المتعلق بالاستقلال والحرية في عقل غسان تويني وقلبه، وازداد تعلق الصحافي الناشئ بجريدته ومُثلِها وصاحِبها. طبعاً لم يلغ ذلك غصة عند غسان تمثلت في مزاوجته بين موقفين، ثقة في الصحافي الناشئ ترجمها استمراراً في فتح منبرها له بل في اعتباره من الجيدين فيها. وعقاب له غير مهني. والعقاب مستمر حتى اليوم رغم العلاقة الطيبة التي عادت ومن زمان بين رئيس ومرؤوس في جريدة يومية. لكنه لم يدفعني يوماً الى التفكير في "التغيير" لأن "نهار" غسان تويني التي جعلها "نهاراً" لنا، أي للعاملين فيها، صارت بيتي وجزءاً من عائلتي واهلي.
غسان تويني اقول لك اليوم، وانت في طريقك الى جنة الخلد، انني افتخر بكوني تلميذاً في مدرستك الاعلامية، ومدرستك الوطنية القائمة على السيادة والاستقلال والحرية والديموقراطية والعلمانية أو اللاطائفية كما صارت تسمى اليوم والانتماء الى العروبة.


الرد على: غسان تويني - في ذمة الله ! - العلماني - 06-09-2012

في قاعة التحرير تلتمع عيناه
روزانا بومنصف

اذا كان لا مرد للموت يطاول كباراً مثل غسان تويني فالعزاء كل العزاء للبنان وكل لبناني عرف غسان تويني انه عايشه او عرفه او احبه او قرأ له. العزاء لأجيال اتيح لها ان تعرف قامة سياسية وطنية كغسان تويني وقيمة فكرية كغسان تويني وثروة ديبلوماسية وصحافية كغسان تويني ومقاوماً حتى اللحظات الاخيرة من حياته كغسان تويني في زمن عز فيه رجال الدولة والفكر والسياسة. ان تكون عرفت الاستاذ غسان او كنت من مدرسته المهنية والديبلوماسية فهو طموح راود كل انسان رغب في النجاح في لبنان وكان طموحه ان يكون من تلامذته وكثر كانوا من المحظوظين لانه كان يؤمن بقدرات الأفراد أياً كان موقعهم او طائفتهم، فتلمع عيونه لفكرة براقة يقولها شاب وسرعان ما يتبناه ويدعوه الى ان يكون من اسرة "النهار". حبه المبكر لناديا تويني الكاتبة والشاعرة جعله حساساً امام تفوق المرأة وقدرتها على ان تكون على سوية الرجل في الذكاء والعطاء، فكان سباقاً في الافساح في المجال امام المرأة الصحافية لأن تأخذ مكانها بسرعة من خلال "النهار" وعبرها وفيها، اذ كان معجباً بألمعيتها ومحفزاً لإعطائها أدواراً طليعية مفتخراً بها امام زوار "النهار" كي تكون وجهها، تماماً الى جانب تمثيلها وجه لبنان الحضاري والمثقف والتعددي والمنفتح. فالديموقراطية والحرية والمساواة لم تكن أبداً مبادىء غامضة او شعارات طنانة لدى الاستاذ غسان، بل كانت فعلاً ايمانياً يمارسه كما يمارس يومياته من دون ان يمنعه ذلك ان يكون متطلباً في المهنة الى حد لا يقبل اي مساومة في الموضوعية او في الدقة والاحتراف. فحين كان يطل على قاعة التحرير وهو كان يفعل يومياً حين عاد للاهتمام بـ "النهار" بعد اغتيال جبران، كان اول ما يبادرنا بالسؤال عما هناك من اخبار اليوم؟ فاذا كانت الاجابة ان لا اخبار اليوم والمقصود ان لا اخبار مميزة او بارزة فان حكم الاستاذ كان ليكون قاسيا لجهة ان محدثه ليس صحافياً وهو لو كان كذلك لما اجاب اجابة من هذا النوع لأن الخبر موجود دائماً في اي أمر.
كان هذا النوع من المسائل يقلقه ويزعجه كونه دليلا على تراجع الصحافة وكذلك الامر في حال رد صحافي على سؤال ما انه لم يقرأ بعد هذا الخبر او هذه المقالة لكي يناقشها. فعدم قراءة الصحف او متابعة الاخبار أمر لم يكن يتهاون الاستاذ غسان في شأنه ايضاً ايا كانت الذرائع، وكذلك الامر بالنسبة الى اخفاء معلومات او الاضطرار الى عدم نشرها كون الصحافي الذي ينام على خبر ليس صحافياً. لكنه اضطر الى التعديل في موقفه الاخير بعد الاغتيالات التي طاولت "النهار" خصوصاً مع اغتيال سمير قصير وجبران تويني، اذ ادرك بألم ان هناك محاولات قسرية لاسكات الكلمة وخصوصا كلمة "النهار" وما تمثله من حرية وديموقراطية وما تمثله في الدفاع عن سيادة لبنان واستقلاله بحيث لم يعد يضغط لأن تكتب "النهار" كل ما تعرف بعدما تغير الزمن بحيث لم تعد تحترم الكلمة كما في عز ادارته لـ "النهار ". ومع اقراره بأن "النهار" عرفت ضغوطات مؤذية لاسكاتها سابقاً قبل الحرب وخلالها، آلمه في العمق اغتيال سمير ثم جبران ولو كابر وعضّ على الجراح، فبدا أكثر تساهلاً وأبوياً حريصاً على صحافييه من دون التهاون في مهنيتهم وموضوعيتهم، علما ان صدور "النهار" في الاعوام الاخيرة وبعد اغتيال جبران خصوصاً بات في حد ذاته فعل ايمان مقترنا بسيادة لبنان ودفاعاً عنها وليس اقل من ذلك تماماً كما اقترن اسمها دائماً بحرية لبنان وتعدديته وحرية كلمته وديموقراطيته.
لم يزر اجنبي متنور لبنان من دون ان يبدأ زيارته بالتعريج على الاستاذ غسان في مكتبه في "النهار" لينهل منه ليس رؤيته لواقع لبنان السياسي حاضراً بل لاحاطة ماضيه وحاضره ومستقبله وكل محيطه العربي والاقليمي وصولا الى الرؤية الدولية التي كان نادرون في لبنان وعلى رأسهم غسان تويني قادرين على تقديمها. فهو بذلك كان المرجعية الديبلوماسية ووزيراً للخارجية بالاصالة والنيابة عن وزارة وعن سياسة خارجية لم تعد قائمة منذ اعوام طويلة. وهو كان المرجعية السياسية الحكيمة التي تحاول ان تنقل الى اجيال الحرب وما بعدها ثمار تجربة الاستقلال وبناء البلد من اجل اختصار المعاناة من دون طائل. وهو المرجعية الصحافية الذي حدد للصحافة عنواناً اصيلاً ومبادىء وأصول للمهنة هي جريدة "النهار" التي بقيت الأحب الى قلبه من بين كل المهن التي عشقها وقام بها كمفكر وسياسي وديبلوماسي.
العزاء لصحافيين وكتاب وسياسيين ان يكونوا عرفوا غسان تويني والعزاء الاكبر لمن عرفهم هو وقربهم منه وحادثهم وناقشهم وسألهم رأيه في مقالاته صباح كل يوم اثنين وما اذا كانوا يوافقونه الرأي ام لا او اكثر اذا ناقشهم في مقالاتهم او في افكار لكتابتها. قلة من الرجال كغسان تويني من يستمع لرأي الاخرين او يكون مستعداً لمناقشة افكاره واكثر ما كان يسعد اذا دخل عليه احدهم من اجل ان يعترض على فكرة او ان يقترح اخرى.
اختصرت الاعوام الاخيرة عصارة حياة غسان تويني فكان لنا شرف ان نستقي منها الكثير الذي يبقى لنا ذخراً لسنوات كثيرة مقبلة في "النهار" ويبقى حياً من خلالها. ظلمه القدر في حياته بمقدار ما أسبغ عليه نعمة وربما أكثر. لكنه لم يرحمه في الأعوام الأخيرة فحرمه الكلمة والتعبير اللذين كانا صنوان في حياته.


الرد على: غسان تويني - في ذمة الله ! - العلماني - 06-09-2012

المعلم الشمس وحده يرحل مرتين
نبيل بومنصف
قبل عقد كامل من استشهاد ابنه البكر جبران، سأله محاوره السري في احاديث المجلد الذي غدا دستور الصحافيين "سر المهنة واسرار اخرى": كيف قدرت ان تتغلب على المحن؟ وما هو سرك؟
اجاب: "لا اعرف. ما اعرفه هو اني كنت مدركا ضرورة ان اتغلب من اجل الذين تغلبت في سبيلهم، حيثما كانوا وصاروا. واكون مكابرا اذا قلت انني لم اتمن، في لحظات ضعف لعلها منتهى القوة، لو اذهب معهم، وان الاجمل ان اكون حيث سيكونون. ربما العزاء هو شعوري ببقائهم وحاجتي الى ابقائهم بكل وسائل الابقاء. السؤال الذي نطرحه دوما: هل يكبر الاموات ام يتأبدون في السن التي ذهبوا فيها؟ مثلا اذا اردت ان احكي مع عزيز او حبيب غاب هل اجده مضافاً الى سنيه كذا سنة (ولو استعادها من عمري!) ام انه لا يزال هو اياه كما كان يوم لم يكن كائناً، وانا صرت الشيخ الذي يخاطبه من شيخوخته؟ ولماذا لا يكبر معي (...)".
قطعاً لم يخطر ببال السائل، ولا اي قارىء، ان المعلم أعد مع "الاسرار الاخرى" السر الاخير الذي اخذ نفسه اليه في السنوات الثلاث الاخيرة من حياته. سر لن يقوى احد على كشفه لانه بدأ مع صمت قلم سيد الاقلام و"رحيله الاول" الى عالم الغيب وظل متمادياً الى رحيله الثاني وانتقاله الناجز الى عالم من سبقوه من الاحبة.
اعدنا المعلم، لكل شيء الا لهذه اللحظة. فكيف لنا نحن من حظينا بتفيؤ "شمس النهار" ان نجرؤ على رثاء؟ ثم ان الرثاء يكون للعاديين، فكيف يتعامل صحافي مع غياب المعلم الخالد قاهر كل العادي؟
هو على جاذبيته الآسرة وسخريته اللاذعة التي لم تفارقه لحظة حتى في عز المصائب الاسطورية التي ألمّت به، كان يثير فينا الرهبة حيا مشتعلا بالحياة. فكيف حين صار ايقونة تكاد تكون مقدسة لدينا، نحن التلامذة الذين نلهث منذ عقود لنظفر منه بعلامة، مجرد علامة، حسن سلوك في مسار "الصحافة الرسولية"؟
وما حاجتنا الى العودة الى كاتدرائيته الفكرية والصحافية ومقالاته وافتتاحياته التي كانت تملأ علينا صباحات الاثنين و"تقود " حياتنا كما حياة اللبنانيين الى كل ما يفوق معرفتنا الصغيرة الخجولة امام هول محيطه المعرفي؟ لنا جميعا في "النهار" في يومياتنا مع المعلم الشمس، دستور حياة لا يقف عند حدود "المدرسة " الدائمة بل يتجاوزها الى البعيد الأبعد.
معاناة مرعبة، لا اقل، كان المثول اليومي في حضرة الفاحص، عند صياغة الخبر وملاحقة الوقائع وكتابة التحقيق وجمع المعلومات وتدبيج المقال. كيف لك ان تقوى على الفحص وانت في حضرة اسطورة الكلمة والحضور، ذلك الذي يأسرك بصوته المغناطيسي الساحر قبل ان تقع فريسة ضعفك وجهلك امامه، مهما تراءى لك انك تبحر جيدا في سلم مواصفات استثنائية وأمام قامة بهذه السطوة والمهابة والسحر؟
أسوأ ما يصيبك ان تمثل امامه الان في هذا الاختبار الصارم القاسي مرغما على الكتابة عمن تعجز عن الكتابة عنه. كيف لنا ونحن لا نرى الصحافة و"النهار" الا عبر شمسها ان تحدق في غيابه ورحيله ونكتب عنه راحلاً وغائباً؟
لكنه علمنا ان الشمس حتى حين تغيب يصنع الصحافي من مغيبها الفجر الآتي. ألم يتحدث عن "الصحافي الشمسي" نسبة الى كتاباته ذات التعبير الشمسي الصارخ الذي لا يعكس الا الوضوح. هو القائل "كلما كتبت مقالة اشعر بانني ما كتبت الا نصف المقالة التي كنت اريد ان اكتبها. النصف الثاني هو "الليل". احس انه ليس للمقالة. يبقى لي انا، لذاتي المستترة. افترض ان ثمة بين القراء واحدا سيقرأ الشيء الاخر ويقول لي: انا فهمتك. وحين يقول لي ذلك افترض انه قرأ غير المكتوب ولو كان شرط "الليل" الا ينجلي (...)".
وفي ذلك الليل، ليل 24 ايار 2009، كان المقال الاخير. اي بداية الرحيل الاول. توقف قلمه مذذاك عن الكتابة، وجف الحبر، ولكن على الورق فقط. وان حيينا لن نحيى لنكنه سر السنوات الثلاث التي عاشها في عالم سره الاخير، كأنه في قرار اتخذه في غفلة منا جميعاً واستبق به الرحيل الاخير.
"في رأيي ان اول الصحافيين واعظمهم هم الانجيليون الاربعة. انهم اهم "مراسلين" او "ريبورتر" في التاريخ. لا يضاعيهم ربما الا افلاطون في حواراته، اذا صدقنا (ولكن كيف نصدق؟) انه يروي مناقشات سقراط مع اشخاص حقيقيين".
يقول ذلك بنزعته الفلسفية التي يضفيها على المهنة "الرسولية"، ولكن ماذا عن القليل المعبر من يومياتنا في حضرته؟
أبسط القواعد واشدها بلاغة كانت في قوله الدائم "لا احمل كل يوم علبة نياشين (اوسمة) لاوزعها على كل من جاء بخبر او كتب تحقيقا مجلا او مقالا براقا. هذا عملكم". ويقول مقرعا كسلنا البيروقراطي بنبرته المتهكمة اللاذعة "اذا كنت تكتب سياسة ومررت قرب حريق أفلا تتولى التغطية؟ وهل الصحافة مراتب ودرجات ام هي كل الحياة؟".
يأتي احدنا مزهوا بـ "سكوب" تصيده من مصدر مجهول ويطمح الى نيل اشادته او على الاقل ما يوازيها فيبدأ الاستجواب عن صدقية المصدر وهل حصل تقاطع مع كل صاحب علاقة في المعلومة (لم يكن يستعمل ابدا هذه اللفظة الطارئة بل يصر على الخبر). واذا لم تكن كل الاصول مستوفاة يصر على وجوب ان تنسب المعلومات الى مصدر واضح يكاد يكون معلوماً. كان يقول "هل كنت موجوداً بين المتحادثين لتزعم انك تكتب محضراً ؟ اذن كن صادقا مع القارىء وقدم الخبر منسوباً الى مصدره". كان التعقيد اللغوي في صياغة الخبر يغضبه فيتولى بنفسه اعادة الصياغة خصوصا في خبر "المانشيت". وبخطه الصغير المائل دوماً يملأ الورقة من فوق الى تحت بكم هائل من الجمل الاستدراكية حتى ليكاد النص الاصلي يضمحل تماماً امام روائعه التي تذكرك في كل لحظة انك محظوظ وانك ايضا أمام شيء استثنائي دوما عليك تحمل تبعته.
عشرون عاماً من زمنه فقط كنت من بين المحظوظين وسيستحيل علي كماً على جميع كبارنا وابناء جيلي والشباب الذين عشقوه الا نسقط في خوف عظيم من افول شمسه وغياب قامته ومعها اسطورة شجاعة مذهلة اختصرها ذاك الوجه الآسر بين حدي عظمة لم يجاره فيها الا عمالقة يفتقدهم لبنان والعالم ومآس لم يقو عليها الا من كان اسمه يصيبك برهبة التهيب.


الرد على: غسان تويني - في ذمة الله ! - العلماني - 06-09-2012

قصتي مع "المعلم" غسان تويني
غسان حجار

كانت تانت روز قريبتي، وأنا بعد صغيراً، تناديني غسان تويني، فأصحح لها "تانت أنا اسمي غسان حجار". لم أكن أعرف، وأنا الطفل، من هو غسان تويني. لكن الاسم علق في ذهني. وعندما عرفت هوية الرجل، حلمت بالوصول اليه. التعرف اليه هي المرحلة الأولى، أما بلوغ "النهار" نهاره فكان حلماً لا يرقى اليه شك، لكنه كان المرحلة الثانية. وكانت تانت روز، جارة سامية الشامي في رأس بيروت، أصابتها عدوى غسان تويني من القراءة، وأيضاً من أثر الشامي مديرة مكتبه في كل محيطها.
مرة وأنا بعد طالباً، التقيت الأستاذ غسان، في حفل اجتماعي، فسارعت لالتقاط صورة لي معه. شعرت بأنني تقدمت خطوة باتجاه الهدف. صورة واحدة تجمعنا غسان تويني وأنا. كم كنت مسروراً.
بعد حين أرسلتني الجامعة متدرباً الى "النهار". انه القدر الذي يؤمن به غسان تويني، ولا أجد له تفسيراً في فكري. أنا في "النهار". نعم. سألتقي غسان تويني، وسأتعرّف الى جبران أيضاً.
اللقاء الأول كان عند مدخل المصعد، فتح الباب ودعاني الى الدخول. رجوته ان يتقدم الخطى. فقال "أبداً، تفضلوا. من تقصدون هنا؟". أجبته "أنا متدرب في التربية والمدنيات". ولما كنا قد بلغنا الطبقة الثانية حيث من المفترض ان أنزل الى مكان تدربي، سألني ان أقصد مكتبه حاملاً معي أفكاراً جديدة خلاقة. غمرتني الغبطة، وصرت أدوّن فكرة، بل أفكاراً، وأتراجع عنها، لأنها ستبدو "بايخة" أمام خبرة غسان تويني الطويلة.
ولما فاتحت الزملاء بالأمر سخروا مني. وقال أحدهم "هل صدّقت انك ستلتقيه أكثر من المصعد؟ لا وقت لديه لك. لقد أعطاك دفعاً معنوياً وكفى". وأردف "ثم عليك ان تكلم سامية الشامي للمرور الى الأستاذ، وما أدراك ما سامية الشامي لتعبر من عندها؟".
في اليوم التالي حضرت باكراً، حتى لا يتنبه أحد الى فشلي المحتمل مع سامية الشامي. اتصلت بها، وأسمعتها طلبي فأجابت على الفور "لديه موعد يعد ربع ساعة. إصعد فوراً" (الى الطبقة التاسعة).
وصلت الى "مكتب التحقيقات الفيديرالي" حيث أشبعتني سامية الشامي أسئلة عما أريد، وعن ولادتي، وهويتي، وأهلي وفصلي، وعائلتي، حتى وصلت الى عمتي وعائلتها، والتانت روز. "إذاً أنت من مشغرة؟ أَلَم يحدثك آل أبو عراج عني؟ ألا تعلم عمتك انك تتدرب في "النهار"؟ ولماذا لم يتصل بي أحد منهم؟".
تفاءلت بالخير، وسريعاً فتح الباب، وأدخلتني سامية الشامي الى حضرة المعلم. أخذ يحادثني كصديقين، ثم اقترح عليّ ان تنتدبني "النهار" في رحلة للمشاركة في إطلاق مشروع لـ"أغفند" وهو البرنامج الذي أسسه الأمير طلال بن عبد العزيز. وقال "انه امتحان لي، يحدد مستقبلي المهني".
وذهبت لأجد نفسي بين أصحاب صحف ورؤساء تحرير يصرون على المشاركة بأنفسهم سعياً الى مصالح متوقعة، أو خوفاً من ان "يفتح" الصحافي المنتدب "على حسابه". فكرت ملياً بالأمر، هل هو استخفاف بالمناسبة (لا بالشخص بالتأكيد لأنه شرح لي انه صديق حميم)؟ أم تصرّف الواثق بالنفس وبالغير، والذي يعطي الناس فرصاً ويفتح لهم الآفاق الواسعة؟ في الواقع اكتشفت لاحقاً انها الثقة، والامتلاء.
لاحقاً لم أعد التقيه كثيراً، بل كلما دعت الحاجة. كان يدعونا من وقت الى آخر يناقشنا في مقالته صباح كل اثنين. كان يصغي الى الآخرين ويتأثر بآرائهم . صحيح انه كان ممتلئاً معرفة وعلماً وحكمة، لكنه أيضاً كان ممتلئاً تواضعاً وانسانية وعواطف غالباً ما كان يختبىء وراءها.
عادت العلاقة وتوثقت معه بعد استشهاد جبران، صرنا أقرب اليه، شعرنا بمزيد الحاجة اليه، صرنا نناقش معه، نايلة وأنا، أموراً كثيرة، وخططاً ومشاريع. كان همه الأوحد ان تستمر "النهار" فلا يقوى المجرمون الذين قتلوا جبران ليسكتوا "النهار". هو من كتب المانشيت الشهيرة "جبران لم يمت و"النهار" مستمرة".
قبل مدة من تسلمي مهماتي في إدارة التحرير، قدمنا له مشاريع عدة، وكنا نشبعها بحثاً ومناقشة. وكم كان يستفزني عندما يقول لي بعد قراءته مشروعاً سهرت ليلتين أو ثلاث لإعداده "وما الجديد فيه؟ لقد فكرنا به في أعوام الستينات والسبعينات!". كنت أغتاظ، وكانت نايلة تحرضني على إجراء تعديلات فيه.
هكذا نمت علاقة حميمة، تعرفت من خلالها الى غسان تويني من قرب. يومها صدّقت قول لور غريب له دوماً "يا معلمي". تعلمت منه الكثير. ومن كلامه ومن صمته، من جديته ومن سخريته، من حرصه ومن كرمه...
عام 2009، توافقنا على كل الأمور الضرورية للقيام بإصلاح إداري في "النهار". تجرأت وقلت له "لي طلب صغير، وهو ألا تكسر لي قراراً اتخذه. وعندما أخطىء ترسل في طلبي وتخبرني بوجهة نظرك، وتترك لي مسار التراجع على طريقتي". ضحك وقال لي: "وهل تقول لي ألا أتدخل في شيء مثلاً؟"، ارتبكت وحاولت تصحيح الموقف بشرح مبهم عما أطلب.
نظر إليّ وقال: "إذهب واكتب قرار تعيينك مديراً للتحرير بالصلاحيات التي تريد وأنا أوقع. أمام نايلة وأمامك فرصة تختبران فيها الإدارة اليوم في حياتي، وعليكما الإفادة منها. ولكن عندما تبلغان في قراراتكما الكبار في العمر ممن عايشتهم سنين طويلة فأخبراني، بل استشيراني. فمع هؤلاء أنا أقرر".
تأكدت للمرة الثانية، بل العاشرة، بل المرة المئة، ان الرجل زاهد في المناصب والمراكز. شبع منها بل من الحياة بكل زهوها. تأكدت للمرة الألف كم يثق هذا الرجل بنفسه وبالآخرين وكم يعطي الفرص الحقيقية للمحيطين به.
أيها الأستاذ، يا معلمي، عهداً، لك، ولجبران، ان نبقي "النهار" نهاراً، مهما ازداد سواد الليل من حولنا، ومهما تضاعف عدد الحاسدين والحاقدين، والمتربصين بنا، ومهما تكاثرت التحديات. كثيرون ممن عرفتهم، ومنحتهم ثقة كبيرة، وقعوا في أول الطريق، أو سقطوا في مراحل منها، لكننا نعدك بأننا سنكمل المشوار، والمسيرة، "بدنا نكمّل بلّي بقيو"، وهم كثيرون من حولنا، ومعهم سنمضي الى "النهار مستمرة".

ghassan.hajjar@annahar.com.lb


الرد على: غسان تويني - في ذمة الله ! - العلماني - 06-09-2012

غسان تويني حكيم لبنان الأخير
محمد أبي سمرا

من رحيق التراب والشمس والحرية صنع "النهار" ليكتب الجرح ويخفي جروحه
كيف لمَن عقد عهداً وميثاقاً مع الحرية والكرم – والكرم هو الحرية وفقاً للإمام الغزالي – وشرّع حياته كلها للأمل والرجاء، للقلق والحضور، لإقلاق الواقع بفيض حيويته وحضوره وأدواره وكلماته، أن يبلغه سأم العيش وقنوطه، وأن يعيش بعد وطنه وأولاده وزمنه وحياته المليئة بالصخب والأحلام التي لم يسأم من "نقش (ها) على حجارة الواقع مثل نحات لا تحضر له رؤيا إلا يريد تجسيدها فوراً" هنا والآن؟! على ما يشهد كثيرون من رفاق مسيرته في حقب مختلفة من تراجيديا حياته.

أحدهم يلخّص هذه التراجيديا متسائلا: أي قدر هذا الذي شاء "للحرّ الكريم"، واهب الآخرين نفسه ووقته وكل ما ملكت يده، أن يحيا بعد أحلامه وبلده الذي أراد، وبعد أبنائه الثلاثة، حتى بعد نفسه؟! من دون أن يتسنى له – على ما اعترف في ختام "سر المهنة... وأسرار أخرى" – التفرغ لليل، كي يكتب النصف الآخر لألوف مقالات كتبها في "نهاره". فـ"الصحافة سرقت مني الشيء الآخر الذي كنت أحب أن أعمله لو أعطيتُ خمسين عاماً كتابة. أقعُدُ أحياناً في الليل وأحلم كم كنت قادراً على كتابة روايات، مثلا (…) ناهيك بطموحي الدائم الذي فات زمانه الى كتاب يجمع عصارة تأملات فكرية لا علاقة لها بالسياسة ولا بالوطن ولا بالصحافة، فقط بالانسان في الانسان".
لكن "الخفر" الذي قال إنه "مفروض" عليه "بالطبيعة"، هو الذي جعله يأنف من "التعرية الذاتية (…) على ثمانية أعمدة في كل صفحة يومياً". والخفر صنوه أو توأمه السري العطاء الحقيقي، في الخفاء، ومن دون منّة ولا حساب.

***
لا، ليس في توق غسان تويني القديم الى تأمل فكري، حنين الى الفتوة والشباب، فتوته وشبابه الفلسفيين قبل أن ينتزعه رحيل والده المفاجئ من جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأميركية، ويعيده العام 1947 الى بيروت، وهو في الـ21 من عمره. فانصرافه مكرهاً عن الفلسفة، يقول إنه ترك في نفسه عزاء، لأن والده توفى قبل أن يقرأ آخر رسالة بعثها اليه إبنه المشغوف بالفلسفة والراغب في الانصراف اليها تأليفاً وتدريساً، متأثراً بأستاذه شارل مالك في الجامعة الأميركية في بيروت. أما في هارفرد فكان يحضّر أطروحته للدكتوراه عن عمانوئيل كانط ونظرته الى الحرية في فلسفة السياسة والأخلاق، مدفوعاً بإيمانه الذي جعله يسترشد بعبارة القديس يوحنا الدمشقي: "إحلال القلب في العقل". لكنه أضاف الى هذه العبارة شيئاً من حكمة شبابه المبكر: الخروج على "الكسل والجبن" اللذين نفر منهما طوال حياته، لأن شخصيته وطبعه مفطوران على الكرم والإقدام، من دون أي انقياد الى تضخيم ذاته المسكونة بالخفر حتى شجاعة السخرية من النفس. فالسخرية عنده "حماية من السخف ومظاهره، وأداة أساسية في ممارسة الديموقراطية والحرية"، لا أن نعبدهما كـ"تمثال" في الخطب الكلامية، إذ لا ممارسة للحرية من دون "حرية ارتكاب الخطأ" الذي لا ينفك منه الإقدام على الفعل ونقد الفعل والواقع الحي، بعيداً من "قهقهة الشيطان". فهذه ينبذها غسان تويني ويخافها كخوفه من فلسفة نيتشه ومن ضحكة "مفيستو" الشيطانية في "فاوست" غوته. الكريم الصاخب في علاقته بالبشر والواقع، "ثمة صخب" في علاقته الايمانية بالله. فالايمان الأصلي أو الأصيل والدائم، "يجب أن يكون (فيه) كفر يومي. فإذا لم تكفر أحياناً بالنعمة وبالله، فلا يكون لإيمانك قيمة". فجأةً يقول في تأملاته المتأخرة: "أؤمن بأمر... هو حضور، بل شيء من حياة الأموات معنا. أشعر بنفسي مكالماً (بفتح حرف الميم وكسره) لأناس فقدتهم. أحس أنهم معي... أكاد أقول يحرسونني". مفقودو غسان تويني أقرب اليه من حبل الوريد: أبناؤه الثلاثة، زوجته الشاعرة ناديا التي "لو كانت تقرأ الآن لقلت لها إن كتابي بالفرنسية "حرب من أجل الآخرين" الذي وضعته بعد وفاتها عام 1984، (متضمناً) عصارة آرائي ومواقفي واختباراتي في الحرب، إنما هو الترجمة النثرية لديوانها الأخير "محفوظات عاطفية لحرب في لبنان". ما من كاتب حقيقي إلا يكتب تحت أنظار آخرين غائبين، يستلهمهم، يحاورهم، يستنطقهم، يستنطقونه، ربما من فجوة خارج الزمن الذي لا يشعر صاحب "قرن من أجل لا شيء"، "بضيق حقيقي" حياله، برغم يقينه أن الزمن "أبدي"، وهو "زائل". في تأملاته المتأخرة مستوحداً، مسكوناً بقوة الحضور والغياب، أخذت "تنشأ صداقة" بينه وبين "الطبيعة: طريق جميلة أسلكها، أو جدار حجر أحبّه، أو شجرة غرستها وأتفقدها باستمرار، أو زهرة زرعتها وفرحت بها، أو حزنت لما يصيبها إن ذبلت". لكن أيّ ألم ذاك الذي كتمه غسان تويني في كيانه وتعالى عليه في سنوات عمره الأخيرة، بعدما وقف في مكاتب "النهار" قائلاً: "جبران تويني لم يمت والنهار مستمرة"؟ قال عبارته هذه ومضى الى عراكه المستمر مع قدره، كأنه لا يزال في بداية الطريق. وماذا تراه فكّر وأحسّ حين مروره في تلك الطريق الجهنمية التي نصب فيها شياطين الحقد والعتمة والقتل متفجراتهم ليتطاير جسم جبران تويني أشلاء في صبيحة 12 كانون الأول 2005؟
جبران قال في سيرته الافتراضية الناقصة "لم أشعر بشيء في تلك اللحظة (الصباحية...) التي صرت فجأةً بعدها، روحاً في اللامكان واللازمان. (…) الآن، كلما حاولت استعادة تلك اللحظة الحاسمة، الفاصلة بين الوجود واللاشيء، لا أتذكر سوى تلك الغابة الملوّنة من البشر في ساحة الأمل والحرية (…) غابة من الوجوه والأحلام، وأتذكرني بين الجموع، أقف أو أحثّ الخطى، أنظر، أبتسم، أضحك... ثم أبصرني فجأة في المنام أمشي وحيداً في خلاء الساحة، فألمح طيفاً لسمير قصير في خلائها، كأن كل واحد منا يبصر الآخر في منامه".
أما غسان تويني فمثل سيزيف جدّد قدره، فوقف في خريف عمره قرب تابوت ابنه الأخير في الكنيسة، قائلاً من أعماق إيمانه وآلامه: "قلّ أن أعطي لإنسان أن يقف في المكان ذاته على مدى ستين سنة يودع والده ثم ولده. أذكر عندما عاد جبران تويني من المنفى، من السفارة حيث سقط شهيداً في 11 تشرين الثاني عام 1947 وهو يلقي خطبة في الدفاع عن وحدة فلسطين وعروبتها وانتساب لبنان الى القضية العربية، كأنه يحمّلني تلك الرسالة (… التي) نشّأتُ ولدي جبران (عليها)، وهو ردّد صداها بالقسم الذي صار شعاراً لجيل من الشباب". ثم قال مخاطباً صديقه المطران جورج خضر، ومردداً قوله في عظته الجنائزية: "موتنا قيامة. المسيح قام من بين الأموات، (وجبران) ذهب يهيئ لنا مكاناً في وليمة العرس، فهل ألاقيه؟". ومَن هذه حاله ماذا يمكن أن يقول أيضاَ؟: "أدعو اليوم (…) لا الى إنتقام ولا الى حقد ولا الى دم. أدعو الى أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها والكلام الخلافي كله، وأن ننادي بصوت واحد ذلك القسم الذي أطلقه في ساحة الشهداء، يوم انتفاضة 2005 التي ذهب ضحيتها".
لكن ألم غسان تويني "الداخلي لا يوصف، وهو ملكه وحده"، بحسب من كلّفه كتابة سيرته (فارس ساسين) في أواسط التسعينات من القرن العشرين، ثم عزف عنها "متطيراً"، منصرفاً الى ممارسة الكرم – الحرية في سخاء جبه به "مصائب" الدهر، "فكان بذلك قدراً في وجه القدر، أو إنساناً نداً للدهر، يتماسك ويصفح ويجود"، خفراً في عطائه ووجوده، لأنه لا يطلب من زمانه سوى الحرية، لا لنفسه فحسب، بل للإنسان والبشر أجمعين، حتى الأعداء القتلة منهم.
و"الناظر متأملا بعمق في حياة غسان تويني وتراث أهل بيته" – على ما كتب فيكتور الكك في كتاب تكريمي له أصدرته "دار سعاد الصباح" – يجده محشوراً في مضيق يكتنفه بحران: "القدر ممثلاً بجبرية المأساة اليونانية، والعقلانية الصارمة الرافضة الانصياع لعبثه"، أي عبث الأقدار. وكيف لمن اجتمعت في شخصه الجبرية والعقلانية، ألا يتمثل "بالسيد المسيح، غافراً للذين رفعوه فوق الجلجة"؟

***

في مقدمته لكتابة الشهادة الوثائقية الموسوعية "سر المهنة... وأسرار أخرى" الذي أهداه الى حفيدته نايلة تويني، ممثلة "الجيل الرابع" من ملحمة "نهاره"، تحدث عن "ثقافة الحرف المكتوب" معتقداً أن "خطأ الصحافة الحديثة" هو أنها "سرقت من القارئ النزعة الجمالية" في الكتابة. وهي نزعة "عُرف بها كتاب صحافيون كبار" عندما كانت "الكتابة محراباً يطرح فيه المؤلف عصارة عقله وكل ذاته، بكل حرية". ومن أعطى لبنان وصحافته و"نهاره" عصارة حياته طوال أكثر من ستين سنة، يحار أيّ شعور ينتابه حين يتأمل أفعاله وحضوره. "ليس هو الندم لأنني صحافي – يقول – بل القهر لأنني لم أصبح إلا صحافياً". فهل حقق "في النهاية طموحه"، فكتب "كتاباً فرح به وأحسه عظيماً"؟ كتاباً أراحه من قهر الصحافي الذي فيه، وخلّصه مما قال إنه "عداء أساسي بين الكتابة للأجيال الآتية، والكتابة الصحافية" الأكولة الملتهمة. الأرجح أن طموح صاحب "حرب من أجل الاخرين" و"قرن من أجل لا شيء" و"سر المهنة..."، وصانع أجيال من الكتّاب والصحافيين، هو الأكول الذي لا يهدأ، وأبقى صاحبه تواقاً الى كتابة... "مسرحية" مثلاً، من دون ان يدري اذا كان لم يفعل "عن ضيق وقت ام ضيق صدر ام ضيق شجاعة". وحده التواضع على الارجح، ما دفعه الى اضافة الشجاعة الى تلك الاسباب القاهرة. اذ كيف لأحد مهندسي مسرح الحياة السياسية والثقافية في لبنان المعاصر، ولمن "يضع يده يوميا في عجين الاحداث" (علي أومليل)، أن يضيق عن كتابة مسرحية؟! ربما لأنه امضى حياته مستعجلاً الى ادواره على المسرح الذي، حين غادره كي يتفرغ للتأمل والتفكير في الحياة والكتابة والوجود، استدعاه قدره السيزيفي الى أدوار جديدة، فكتب: "التاريخ ان يختار المؤرخ زمناً لكتابته، كما يختار الزمن الذي يكتب فيه"، ونسب كتابه الموسوعي، عوداً على بدء كرمه المتواضع، الى اسرة "النهار" التي "في وسعها ان تعرف لك، بل عنك، كل (ما) عرفته "النهار" واختزنته منذ كانت".
والحق ان موسوعة "سر المهنة..." ليست اقل من عمل مسرحي كبير، يجمع فصولاً من تاريخ الصحافة اللبنانية والعربية وصناعتها، لتكون "النهار" قطب صناعة بيروت مسرحاً رحباً للحريات السياسية والثقافية في دنيا العرب. والمسرح، كما الحرية، يرفض "سكون المتكلم الوحيد". لذا "فضل غسان تويني ان يفضي بأسرار صحافته، واحيانا بعض شخصيته (...) مكملاً بذلك تقليده في الحوار والجدلية، رافضاً (...) كل نسق احادي جامد، من الروتين في الحياة اليومية الى الديكتاتورية في الحكم". ذلك ان "كل شيء (عنده) بداية جديدة. حتى النهاية. (...) لا موت ولا صمت، بل حياة تتفجر من كل شيء، ومرافعة مستمرة استمرار يقظة العقل (...) وفوقها وقبلها دويّ الحرية. حرية نرجسية عنيدة تكاد لا تهاب غير جمالها (...) وبعد نصف قرن من لبنان والعرب والعالم، لا يبقى من آلهة الزمان غيرها معبوداً، إن لم يكن بحدّة الشباب ذاتها، فبيأس النضج الأقوى من الامل. شخصية اغريقية بفكر اوروبي وبراغماتية اميركية ولغة عربية يضيق بها، فلا يني يوسّعها. شخصية عاقل يشبه منطقة الجنون وقد بات العقل شذوذاً. شخصية حكيم يسحره العقل حتى في الحب. (إنه) الضاحك المبطّن بالفواجع، (...والذي) صنع جريدة لتكون نهارا اكثر من النهار، ليجمع فيها ما لا يجتمع، هارباً بها وعبرها من ضجر النوع الواحد، وخالقاً فيها ومعها نهراً من التنوع والاختلاف، هو نهر الحياة"، على ما كتب أنسي الحاج مؤكداً ان "شاهد الكلمة يعلم" أن "الكلمة ليست دوماً هي الاقوى" في بلد صار "القتل (فيه) اسهل من تحية". لذا كتب صاحب مقولة "حروب الآخرين" افتتاحيته النهارية في 8 شباط 1990، تحت عنوان جنائزي: "خواطر من جمهورية المقابر"، متسائلاً: "اذا كنت تكتب وانت في وسط حريق، يرقص حوله المجانين، ففيم تفكر؟ لا، لا... تفكر وسط الحريق! ولا يمكنك ان تجد للذين اشعلوه عذراً"، يجيب. العنوان الجنائزي او المقابري هذا، استلّه تويني من افتتاحية قديمة له كتبها في بدايات الحريق والقتل الأسهل من تحية في لبنان، ساخراً سخرية سوداء من انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ففي 14 نيسان 1976 كتب: "... ولأنه كان لا بد لهذه المأساة من نهاية مفرحة، ضاحكة، فقد انتخب المجانين رئيسا وسلّموه مفاتيح القبور وشرائع القتل". وعلى طريقة قدامى الحواريين والحكماء في الفلسفة اليونانية، تساءل: "رئيس الاموات؟ جمهورية أم مقبرة؟"، فأتى جوابه كأنه نشيد النائحات في التراجيديا الاغريقية: "الاموات لا يحتلون الاموات. ارضنا باتت لها الآن حرمة الموت". ولأن عقل صاحب "قرن من اجل لا شيء" ومخيلته التاريخية والتعبيرية، يجوبان الازمنة والعصور، نراه ينتقل في جملة واحدة من ازمنة التراجيديا والملاحم الى الزمن الحديث، زمن التاريخ، فيكتب: "خطيئتنا التاريخية اننا ظننا انه يمكننا الدفاع عن الارض بالنار التي تحرقها. هكذا دمرنا "الوطن" ظانين اننا ندافع عنه وعن السيادة بطرحها في اسواق الحمايات الوهمية والضمانات الواهية!".

***

تبدأ مسيرة غسان تويني الصحافية من منعطف ألمَّ بحياته وحمله على تنكّب إرث والده الذي توفى فجأة في الأرجنتين، حيث كان سفيراً للبنان، بعد سنين كثيرة من بدئه حياته المهنية في الصحافة من الصفر في بيروت مطالع القرن العشرين. لكن ذلك الإرث لم يكن أكثر من خميرة مشروع جديد باشره غسان تويني الشاب، وأطلقه رائداً في خروجه على الموروث، وغير مسبوق في الصحافة اللبنانية والعربية في الخمسينات من القرن نفسه. قبل سنتين اثنتين من ولادة نجله البكر غسان في 5 كانون الثاني 1926، أسس جبران أندراوس تويني (1890-1947) صحيفة "الأحرار" عام 1924. كان تأسيسها حصيلة جهد وكفاح بدأه جبران تويني في العام 1901، بائع صحف الى جانب كونه تلميذاً مجانياً في مدرسة "الثلاثة أقمار" الأرثوذكسية في الاشرفية. كان يبيع الصحف في ساحة البرج قبل أن تسمّى ساحة الشهداء الذين أعدمهم جمال باشا العام 1914، وكان معظمهم من الكتّاب والصحافيين المناهضين للحكم العثماني منذ ما قبل الحرب العالمية الاولى.
مسيرة جبران تويني العصامية مع الصحف والصحافة منذ مطلع القرن العشرين، تشكل مرآة لمسيرة رعيل من عصاميي هذه المهنة المبتدئين بجهدهم وكفاحهم، بداية شخصية، فردية، وغير مسبوقة في هذا المضمار. رعيل نشأ وانطلق من الصفر وسط حراك وتحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية غيّرت القيم والأدوار والمفاهيم والنظرة الى النفس والعالم في المجتمع المحلي القديم المحافظ، ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر. حدث ذلك التغير بقوة في بيروت التي أصبحت ولاية عثمانية وبدأت تخرج من أسوارها وتوسع نشاط مرفئها، وشق منها طريق وصلها بدمشق، وتوسعت علاقاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمدن الفلسطينية، وبجبل لبنان الذي أصبح متصرفية تتمتع بحكم ذاتي. كان التحرر الاجتماعي والإقبال على التعليم ونشوء حيز أو فضاء عام جديد للتعارف والتداول، من أبرز علامات ذلك التغيير وملامحه في بيروت التي اتصلت إتصالاً وثيقاً بجبل لبنان. هكذا بدأت تنشأ مهنة الصحافة المرتبطة عضوياً بالطباعة والتعليم والكتابة. حال جبران أندراوس تويني، نموذجية في هذا المضمار الذي اختطّه رعيله. فالتلميذ المجاني وبائع الصحف الجوّال في فتوته، ترك المدرسة في العام 1907، كي يتعلم على نفسه ويعمل "صفّيف أحرف" في "المطبعة السورية".
بين العام 1908 والعام 1911، هاجر من لبنان الى باريس، حيث عمل في مهنته إياها، ومصحح "بروفات" في جريدة "نهضة العرب" الصادرة في عاصمة النور التي غادرها الى مصر ليعمل محرراً صحافياً في جريدة "البصير" بالاسكندرية، ثم خطّاطاً ومحرّراً في جريدة "الدلتا"، قبل أن يصير مراسلاً لـ"الأهرام" القاهرية من المنصورة، ليعود الى بيروت غداة ولادة دولة لبنان الكبير العام 1920. جريدة "الأحرار" التي أسسها العام 1924، كانت أول صحيفة تعتمد صيغة الشركة المساهمة في تاريخ الصحافة اللبنانية. كان لها مراسلون دائمون في القدس وحيفا ودمشق (نجيب الريس)، وحلب (سعيد فريحة)، اضافة الى بغداد والقاهرة. في العام 1933 أسس جريدة جديدة هي "النهار"، فحققت نجاحات مهنية كبيرة، وأصبحت من أبرز الصحف اللبنانية في موقفها ضد الفاشية والنازية والتوتاليتارية، وفي معارضتها عهد الرئيس بشارة الخوري، وخصوصاً بعد تزويره نتائج انتخابات 1947 النيابية. وبعد أربعة أشهر من توليه منصبه سفيراً للبنان في الأرجنتين، توفى جبران تويني هناك بنزف في الدماغ أثناء إلقائه محاضرة دفاعاً عن لبنان المستقل، وعن النضال العربي ضد قيام دولة إسرائيل.
هذه المسيرة العصامية الحافلة وغير المكتملة، تشكّل مرآة لرعيل لبناني ارتسمت ملامحه وأدواره الجديدة في نهايات الحكم العثماني وفي حقبة الانتداب الفرنسي السابقة على استقلال لبنان وفي خضم تكوّن دولته الحديثة.
أما مسيرة غسان جبران تويني البادئة بوفاة والده، والممتدة على مساحة أكثر من ستة عقود، فإن تشعبها وتشابكها من "نهاره" الى النشاط السياسي النيابي والحكومي والديبلوماسي، جعلها فريدة في كونها مرآة بانورامية لتاريخ لبنان الاستقلالي، وفي مساهمتها البارزة في صناعة أحداثه وصورته، وشاهدة عليه، على نجاحاته وعثراته، قبل أن تصير الصوت الصارخ ضد غرق لبنان في الحروب القاتلة والمدمرة، "حروب الآخرين" فيه وعليه وبأهله، أي "استحرابهم" كما يحب غسان تويني أن يقول، قبل صرخته في الأمم المتحدة "دعوا شعبي يعيش"، و"شعبي ليس للإيجار أو البيع". إنها مسيرة الفعل اليومي والصوت الصارخ لإرساء الديموقراطية والحياة الدستورية والحريات السياسية في بلد قلق صعب، قبل أن تعصف به الحروب، ولإخراجه من حروبه مجتمعاً ناهضاً ودولة مستقلة.
في الحالتين هاتين، كانت مسيرة غسان تويني الشخص وفي "نهاره"، قلقة ومقلقة دائماً، قدر ما هي صنيعة التجربة اللبنانية المعاصرة في حلوها ومرّها، هي ايضاً مساهمة أساسية في صناعة الوجه الحيوي والناجح لهذه التجربة، من دون أن تتورط للحظة واحدة في مساوئها. مسيرة لم يغادرها مرةً، القلق والخوف على لبنان ومصيره، كأنها من معدن الحلم اللبناني ومن مثاله وأسطورته، ضد واقعه وواقع أهله ومحيطه الإقليمي، في ضعف مقدرتهم على إنجاز مجتمعات حرة ودول ديموقراطية حديثة ومستقلة. لذا ظلت مسيرة غسان تويني و"نهاره" على قلق وخوف دائمين، فلم تعرفا الطمأنينة في بلد لا يهدأ قلقه، مشرّع على الاحتمالات، تصنعه ويصنعها، كأن عليه أن يبتكر مصيره في كل يوم ومرحلة وسط المطبات والمفاجآت العاصفة.

***

قلق الفتوة في مرحلة تعليمه الثانوي، نهايات ثلاثينات القرن العشرين، حمل غسان تويني على الانتماء العابر الى "حزب الكتائب اللبنانية". لكنه في الجامعة الاميركية في بيروت، انتمى الى "الحزب السوري القومي الاجتماعي"، مفتوناً بشخصية أنطون سعاده، معاكساً بذلك ميول والده العربي الهوى، أيام كانت الجامعة الاميركية مختبراً طالبياً لتجارب ولتيارات سياسية وايديولوجية كثيرة متباينة ومتصارعة في سبيل "النهضة" الثقافية، وحيث نشأت صداقة بين تويني الشاب ويوسف الخال. آنذاك أودع غسان تويني عبارات الشباب وأحلامه ورؤاه قصائد، أعاد نشرها بعد نصف قرن على كتابتها. في "الحزب السوري القومي" صار منفّذاً عاماً للطلبة، ووكيلاً لعميد الإذاعة والثقافة، قبل سفره للدراسة الجامعية العليا في الولايات المتحدة الاميركية.
هذه المرحلة من حياته انتهت بعودته الى لبنان في العام 1947، وبدئه بتطوير "النهار" وتسلمه رئاسة تحريرها، ودخوله القدس مع الجيش الأردني مراسلاً حربياً ميدانياً، محققاً ميله الى صحافة الميدان والريبورتاج الحي، التي جعلها أدباً خاصاً، مؤثراً مباشرة في سياق الأحداث في لبنان والبلدان العربية، الى جانب كتابته الافتتاحيات غير المقيّدة بزمان ومساحة. افتتاحيات تمزج بين أساليب كتابية متنوعة، بين الفكر والتأمل والتداعي الذهني وحوادث الواقع السياسي والثقافي والتأريخ. كأنما غزارة الافكار المعجونة بالتجربة الحية وخلاصاتها وبسعة المعلومات، تتدفق متسارعة الى قلمه، فيصوغها بلغة متوترة، حوارية، تفاجئ القارئ، تخاطبه، تدعوه الى التفكير، تحرّضه على تعميق فهمه الوقائع والحوادث وتوسيع آفاق إدراكها، وعلى عدم الإنغلاق والتعصب الأعمى الذي يفقر المعاني وملكة العقل.
مَن هذه حاله في الكتابة منذ بداياته، يصعب أن يستكين لعقيدة وحزب ودور وفكرة عن العالم والمجتمع والسياسة والثقافة. وإذا كان قلق الفتوة والشباب، وإرادة اختبار النفس والعالم والافكار خارج الدوائر التقليدية، قد دفعاه الى الانضواء في حزب وعقيدة، فإنه فعل ذلك عندما كان الحزب والعقيدة هذان، إطاراً جامعياً معاً لتواصل فئات واسعة من أبناء جيله من النخب الجديدة، وتخالطهم وتثاقفهم، تحت إلحاح غنائية الشباب المتمردة، الحالمة بالثورة والتغيير في أربعينات القرن العشرين. لكن تجربة إدارة فريق عمل صحافي من أهواء ومشارب متنازعة، والنظر الى الوقائع والحوادث والعالم بعينين تجوبان الآفاق، وذهن متّقد متفتح اختبر الأفكار الفلسفية وتعدّد الأدوار وتشابكها الملازمين لحرية الكائن البشري، قد تكون هي ما حمل غسان تويني الشاب على اعتبار فصله وخروجه من بوتقة الحزب الذي انتمى اليه، تحرراً من المحازبة. وذلك ليستمر "عدّاء مسافات طويلة" جديدة، حسبما وصف أحدهم سابقَهُ "فيلسوف الفريكة"، أمين الريحاني، باعتباره خارجاً على تجربة مجايليه من الكتّاب النهضويين من أصحاب "الانشاء اللفظي" الخالي من المعنى والتجربة، الى رحاب ابتكار نهج غير مسبوق في الكتابة الصحافية الميدانية الحية. غسان تويني "العدّاء" الذي لا يتعب، وجوّاب الآفاق بين الافكار المتباينة، المتشابكة، المتناضحة، المفتوحة على أمواج التاريخ والحاضر وتناقضاته، لم "يرُح للثمر (بل) هام بالشجر" (محمد مهدي الجواهري)، بتشابك أغصانه وجذوره، بنسغ حياته المصنوع من رحيق التراب والشمس والحرية، في "نهاره" وفي النيابة والوزارة والعمل الديبلوماسي وسواها من المحافل والمنتديات الثقافية والسياسية المحلية والدولية.
لا النيابة سجنته ولا الوزارة ولا الديبلوماسية، ولا مكتبه في "النهار"، حيث كان كثيراً ما يصنع النواب والوزراء ورؤساء الجمهورية. لكن جرأته في الخبر الصحافي الحر، قادته مرات الى السجن. افتتاحيته – الصرخة "بدنا ناكل جوعانين" ساهمت في إسقاط العهد الثاني للرئيس بشارة الخوري عام 1951، بعد "مؤتمر دير القمر" الذي شارك فيه نائباً الى جانب كميل شمعون وكمال جنبلاط وعادل عسيران وعلي بزي وبيار إده وأنور الخطيب وإميل بستاني... في ما سمّي "الجبهة الاشتراكية الوطنية". نفوره من اختصار الحرية والسياسة واجتزائهما، ومن تدخل جهاز المخابرات العسكرية في الحياة السياسية في العهد الشهابي، لم يمنعه من تقدير المحاولة الاصلاحية الشهابية، ومن التصدي لعجزها وقصورها في آن واحد. صلاته الواسعة بقادة المقاومة الفلسطينية، وتأييده الدائم لقضية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، لم يحملاه مرةً على عدم الجهر بقلقه الدائم من ظاهرة المقاومة على لبنان وتركيبه السياسي ونظامه الديموقراطي. لكنه ظل على اقتناع عميق بإمكان خروج لبنان من مأزقه المتناسل والكبير، إذا أمكن إخراجه من الصراعات والتجاذبات الاقليمية والدولية. لذا ظل "يسأل نفسه ومحاوريه: ماذا تريد سوريا من لبنان؟"، قبل اتفاق الطائف وبعده. قبل سنين عشر من بدء "حروب الآخرين"، غلب عليه الوعي القائل بأن "ضرورات المرحلة، اكبر من قدرات رجال السياسة والعمل السياسي" في لبنان، على ما يلاحظ الرئيس فؤاد السنيورة. لكن هذا القصور في الطبقة السياسية ظل واحداً من همومه الدائمة ومقولاته المتكررة. طوال سنوات ما بعد الحرب طغت على كتاباته وتأملاته الفكرية هموم بناء المواطنية واعادة بناء الدولة ومؤسساتها، ومسألة العلاقة بالدولة السورية.

***

طوال حياته لم يكن غسان تويني شخصاً واحداً يمكن حصر ادواره. انه شخص الادوار الكثيرة الصعبة على الحصر والاحصاء. فهو ابتكر تقليداً لـ"تنوع المواقف والآراء والاساليب الكتابية في الجريدة الواحدة"، ولم يتوقف عن "الاحتفاء بوجهات النظر المتباينة" (باتريك سيل). نادرا ما احب عبارة "الحرية المسؤولة"، ففضّل عليها كلمة "الحرية" من دون اضافة، وبقي "خصماً عنيدا للاستبداد" (علي أومليل)، الاستبداد الذي مرضت به معظم البلدان العربية طوال عهده في "النهار"، فدفعت ثمن حريتها دماً. في احلك الظروف والاوقات ظل "المايسترو الابرع في قيادة فريق صحافي من مواهب ونزاعات وافكار مختلفة" (رياض نجيب الريس). فـ"المتوتر الخلاق (ظل) على عكس النخبة المذعورة من اي تحول، والمقبل الدائم على كل مغاير" (غسان سلامة)، سالكاً دروب المغامرة من دون ان يكفّ عن "رصد الواقع بغضب رعد، وطمأنينة وردة" (ادونيس). وجوهه، خبراته، ادواره وتجاربه، جعلته "مزيجاً رائعا من المكوّنات المحلية والعربية والتطلعات الكونية. اصعب الجراح الشخصية والوطنية"، ضاعفت تعاليه على الجراح ومبادراته بحثاً عن "حلول للأزمات والمآزق" (عمرو موسى). اما حين "يتسنى وضع تاريخ (حقيقي) حديث للبنان"، فسيكون "بين قليلين" يمكن القول انهم "صنعوا بلدا" (عباس بيضون). في سنواته الاخيرة صار "حكيم لبنان الاخير في مواجهة العواصف" (الياس خوري). ومن اجتمعت في شخصيته "كل ما نريده للبطل من مزايا، يصرُّ على خلق البطل في سواه. بمثله يطلع النهار ويبقى" (سعاد الصباح). لكن كيف للذي قال عنه المطران جورج خضر إنه "بيزنطي – سوري ذو ارث عربي وولاء لبناني"، الاّ يرى فيه طارق متري "رجل الهويات المتصالحة في زمن يتهدده اختزال الناس في هوية واحدة، ولا يخشى على السياسة من الانحدار الى لهو الخناقة الخطير؟". وها هو أمين معلوف، صاحب "الهويات القاتلة" يبصر "هموم لبنان" ومآسيه، مصبّرة على كتفي غسان تويني الذي "كتب من جرح، ولو انه كثيراً ما اخفى جراحه ليكتب" الامل والرجاء ضد اليأس والخواء.

mohamad.abisamra@annahar.com.lb



الرد على: غسان تويني - في ذمة الله ! - العلماني - 06-09-2012

لو سألناه هذه الأسئلة فماذا كان ليجيب؟
جمانة حداد

حوار افتراضي حقيقي واقعي مع غسان تويني مستلّ من كلمات كتبه ومقالاته:
أنا رجل سلام محارب وليس عليَّ أن أدافع عن نفسي لأني رجل التناقضات والمفارقات
اذا ما اجتمعنا غداً لنتحاور فأية حضارة نضع أوراقها على الطاولة
ينبغي الخروج بالديموقراطية اللبنانية من بازار المحاصصات الى مختبر لثقافة السلام
اطردوا "تجار الهيكل" الذين يتاجرون بحياة اللبنانيين وأرزاقهم وأمنهم وراحة بالهم

أستاذي الحبيب،
ما همّ أن تكون قد رحلت؟ فأنت لم تغب حقاً. ولن.
مذ وعيتُ على عالم الصحافة والثقافة والأدب، ومذ بدأتُ، طفلةً، تجاربي الأولى في القراءة والكتابة الأدبيتين، بينما ألتهم "النهار" وآدابها وثقافاتها التهاماً، وأنا مسحورة بكَ. ثم زاد انسحاري بعد انضمامي إلى عائلة "النهار" لخمسة عشر عاماً خلت.
أعرف أن مديحي لكَ اليوم، بعد رحيلك، ربما لن يزيدكَ كرامةً وأهميةً في عيون الناس. لكني، ما دمتُ، وعائلتي، نمدحكَ في القلب والعقل، فلِمَ لا أمدحكَ أمام متابعيكَ، وإن من بيتكَ "النهاريّ" هذا، بيتي، وعلى إحدى صفحات جريدتكَ.
لن يجرؤ أحدٌ، من صغار القوم، على أن يصف تحيتي هذه بأنها مجاملة.
فليس ثمة مطلبٌ لي عندكَ، ولا خدمة. وهذا جليّ لا لبس فيه.
بل عندما كان هناك توقٌ الى شيءٍ، لم يحصل أن دفعني عامل الاضطرار الى بذل أيّ جهدٍ، ليكون لي ما هو كائن. ولا أنتَ أفسحتَ لي، أصلاً، أن أضطر. كفاكَ أنك رأيتَ. ولمستَ. فوثقتَ. وقرّرت. وأعطيت.
هكذا عند الرجال الرجال: كرامة الأشياء تتحقق بذاتها، والحقوق تُعطى الى مستحقيها، بدون طلبٍ من هنا، وبدون تلبيةٍ و"تربيح جميلة" من هناك.
لذا، ومن أجل وضع الأمور في نصابها، فإن تحيتي هذه إليكَ، حيثما أنت اليوم، إنما هي من فعل القلب الحرّ الذي يتصرف على مزاج هواه، وإعجابه، وحنانه، وصدقه، وإن بعد طول صمت، بحسب الإناء الذي ينضح بما فيه.
أستاذ غسان،
ليس التهيّب هو ما أنظر به إليك فحسب. ما أنظر به إليكَ هو الحبّ.
مشاعر الحب والتهيب هذه، مقرونة بالاعجاب والتقدير والاحترام، بدون زيادة هنا، وبدون نقصان هناك، بدون مبالغة هنا، وبدون إجحاف هناك، كم يصعب، كم من النادر، أن يكيلها إنسان لرجل مسؤول، بل لصاحب مؤسسة، بل لصاحب مؤسسة إعلامية، في عالمنا العربي هذا.
فلكَ الآن، كما كان لك في سرّ القلب والعقل، منذ تلك اللحظة الأولى،
لكَ الآن خصوصاً، حين لا مطمع، ولا طلب، ولا شبهة غاية،
لكَ شعوري المتهيّب، مقروناً بالأسطرة والإعجاب والتقدير والاحترام.
ولن أنسى العرفان. وهو، أولاً وأخيراً، فعل حبّ.

***
¶ أستاذي، لنبدأ من "الجار" قبل أهل الدار، ومن الوضع الراهن الذي تشهده المنطقة. ما تعليقك على الفظائع التي يرتكبها الأخطبوط البعثي يوميا ضد شعبه؟
- حبذا لو كان لا يزال في وسعنا ان نستمر نحلم بأن يكون "الحكم السوري" يوماً وارث زنوبيا بدل ان يحوّل عاصمتها سجناً صغيراً عاصفاً ضمن "السجن العربي الكبير"، بل مركز "مقابر جماعية".
¶ هل هناك من حوار ممكن في رأيك مع النظام؟
- أول التخلف جهل الحقوق والتكبّر على الحرية ومكابرة اوطان الاحرار. فكيف ينجح حوار في ظل ارهاب فكري يشلّ لا العقول فحسب، بل القلوب والارادات الحسنة؟ "لا" للاستباحة المخابراتية التي عبثت بالدستور وسيّدت الاقزام على كرامة الشعب واستباحت حقوق كل انسان ومرّغت حرياته في الرمال المجبولة بالدماء. لا حوار في ظل الارهاب. ولا حوار كذلك مع وكلاء التفليسة السورية في لبنان...
¶ لكن "وكلاء التفليسة" هؤلاء، كما سميتهم، هم الذين يتولون الحكم الآن... والبلد من "فارط" إلى مفروط ما شاء الله...
- سلطة مقزّمة واجلة تحاول تغطية رعبها بكبير الكلام المتعنتر... لا نريد ان نعيد البحث في كيف وقع بعضنا، إن لم نقل أكثرنا، اسرى في الشرك الاسرائيلي، فصار "حليفاً موضوعياً" لعدوه، بل صار بمنزلة عدو ذاته. الفادح هو أن ليس للبيت اللبناني الآن سقف، ولعل من كان قد اؤتمن على بناء السقف هو الذي هدمه، فهدم من حيث لا يدرك السقف فوق رأسه هو كذلك. السقف الذي كان يجب ان يكون هناك لنستوي بأمانٍ في ظله، هذا السقف قد زال، لا سامح الله الذين هدموه، ولم يتركوا حتى حيطاناً نسيّج بها وحدتنا، ونؤسس عليها سقفاً جديداً لبيت جديد. لا بل بلغ العهر بالبعض حد التبجح بمظاهر الثراء، قصوراً وسيارات وشركات وشققا سكنية فخمة ثمنها بالملايين الخ... مطمئنين الى ان احداً لن يسألهم "من أين لكم هذا؟" وقت السؤال والحساب قد حان... ولو رحمة بالمال العام وأموال المكلفين و... بمناقب الأوادم من اللبنانيين!

غلمان القضاء المخابراتي
¶ وما ردّك على من كان يزعم بأن سوريا هي التي كانت تحمينا، وان قواتها دخلت بطلب من الحكومة اللبنانية آنذاك؟
- من السذاجة الاستمرار في الظن أن الحروب اللبنانية كانت "اهلية". كيف كان يمكن تمويل هذه الحروب لو لم تتدفق لشراء الاسلحة والذخائر والميليشيات اموال لعلّها إلهية المصدر، إن لم تكن نفطية... وتنتهي الحروب والمحاربون اكثر ثراء مما كانوا قبل الحرب! من المستحيل الظن ان نزاعا يمكن ان يكون داخليا او وطنيا في اي بلد في العالم عندما تتواجه على ارضه ثلاثة جيوش غريبة. ولا يقتصر هذا الوجود على القوات المسلحة النظامية: كان هناك الالاف من المتطوعين المزعومين المزودين أسلحة ثقيلة وتجهيزات اوتي بها من بلدان بعيدة وهي على اتم الاستعداد للقتال في سبيل اهداف بعيدة كل البعد عن مطالب الاصلاح سواء في الدستور او في النظام كما يدعى وزعم كأسباب جوهرية للصراع الداخلي. من جهة أخرى، كلنا صار يعرف - ومن لا يعرف بعد، فلأنه يستطيب الجهل ولا يريد الحقيقة - كلنا صار يعرف ان الجيش السوري لم يدخل لبنان لمجرّد أن الحكم اللبناني طلب منه ذلك. بل كان دخوله بعد "استشارة" (كي لا نقول استئذان او الاستحصال على تكليف) اميركا، التي بدورها استشارت اسرائيل. والوثائق والمذكرات الرسمية المنشورة شواهد لمن يريد ان يقرأ.
¶ وماذا عن الذين يزعمون، عن جبن أو عن اقتناع، بأن لا علاقة لسوريا بجريمة اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري؟
- اذا سلّمنا جدلاً بأن سوريا ليست هي المسؤولة عن الجريمة، أفليست هي المسؤولة نعم، نقول "مسؤولة" ونؤكد، عن العجز عن العلم بها، حتى لا نقول العجز عن منعها؟... فيأتي غلمان قضائها المخابراتي يبتكرون لنا حكايات جاسوسية سخيفة يريدوننا ان نصدّقها؟ أغرب ما نستغربه بل ونستنكره، ان يتصرّف هؤلاء الغلمان ومن اليهم تصرف المرتكب الخائف من اكتشاف امره، في حين ان الاطمئنان الى براءة سوريا يجب ان يحدونا الى قبول تحقيق دولي موثوق به يثبت هذه البراءة.
¶ هل ترى سوريا ديموقراطية بعد انهيار النظام؟
- نعم، فالديمقراطية لا يحسن بناءها والدفاع عنها سوى المواطنين الأحرار، لا "رعايا" جاهلية متقوقعة في العقائديات... وبواسطة نظام ديموقراطي يطهّر المجتمع من رواسب الأنظمة الأمنية (بل الميليشيوية – المافيوية) ومثيلاتها في المعارضة الدائمة القلق التائهة بعيداً عن العقل الحرّ.
¶ لكن هناك أجيالا كبرت وهي ترضع الاستبداد، والتحول في عقليتها وسلوكياتها لا يمكن ان يتحقق بين ليلة وضحاها. فهل الديموقراطية ممكنة من دون ديموقراطيين؟
- ليس المهم الشكل انما الثقافة والقيم والمثل ورؤية الدولة الديموقراطية لأن الديموقراطية "لا تفرض من فوق".

المطلوب عروبة القرن الحادي والعشرين
¶ في الحديث عن "الشكل"، نحن اليوم لدينا، في الشكل، جامعة عربية لا تجمع بين اعضائها سوى الخطابة الفارغة. أما آن أوان لانتقال هذه المؤسسة إلى الجوهر، أي من حال "مكانك راوح" الى حال التقدم العملاني؟
- فعلاً، صارت الجامعة في حكم غير الموجودة، طالما عجزت عن اتخاذ قرار في حرب 2006 وتركت المقاومة اللبنانية تنتصر وحدها. وكذلك عند اجتياح لبنان عام 1982، كانت الجامعة بمثابة "شاهد الزور" ولجأ لبنان الى قلع اشواكه بنفسه وذهب الى الامم المتحدة من دون وفد عربي ولا من يحزنون! ينبغي ان تعترف الجامعة العربية أيضا بأنها صارت غير صالحة بميثاقها الحالي لانقاذ غزة، علما ان القضية الفلسطينية كانت شغلها الشاغل منذ تأسيسها... كنا كل مرة ننكبّ على المعالجة نتقهقر بسبب عجز اجهزة الجامعة، كاتفاق القيادة العربية الموحدة الذي لم يطبّق ولا مرة. على الدول العربية أن تثبت أنها قادرة على سلوك طريق "الاجراءات غير المسبوقة" وبسرعة لا سابق لها، من غير الغرق في الشكليات وما كان يعرف بالجدل البيزنطي وصار أحرى أن يوصف بـ"الجدل العروبي"!
¶ وما الحلّ؟
- أدعو الجامعة العربية الى مؤتمر "نقد ذاتي" وراء ابواب مقفلة من دون مزايدات، حتى اذا ما حددنا اسباب الفشل العربي تصدينا لمعالجتها بروح علمية وعملانية، بمن يوافق، ولو ادى ذلك الى تعديل ميثاق الجامعة وهكيلياتها. المطلوب الآن من الجامعة، وبحاجة ماسة، التخلي عن عروبة ادبيات القرن التاسع عشر. المطلوب عروبة القرن الحادي والعشرين، بكل ما تحقق في العالم خلال قرن ونصف قرن او قرنين، بما في ذلك الثورة الالكترونية، ومتطلبات الانماء المتكامل وحقوق الانسان والتحديث الاقتصادي الخ...
¶ ثمة حاجة الى ثورة ثقافية إذاً...
- طبعاً. ما لم نفعل ذلك بثورة ثقافية، فإن الارث العربي مهدد في اصوله، ما سيحول دون تقدم الانسان العربي الى مصاف المجتمعات التي نحن مدعوون للتعامل معها بمساواة في المعرفة والقدرات او تأكلنا وثرواتنا ولا يحمينا تاريخ ولا عقائد موروثة من عهود بالية. سيظلّ العرب نائمين في حالة سبات رومانسي ما لم يستيقظ العقل ويخرج من السجن العربي الكبير. وعندما نطلق الانسان العربي العاقل من الأسر الببغائي يصبح بإمكاننا أن نتجاوب مع العالم الذي ينتظر منا حلولا لأزماتنا لا بكاء على الأطلال.

العلمانية هي الحصن
¶ لننتقل الى موضوع الدين: أنت مؤمن كبير...
- نعم. وقد جئت إلى الإيمان من طريقين مختلفين. عبر الفلسفة التي درستها في هارفرد وقد حددها أرسطو بأنها البحث عن الأسباب الأولى والمبادئ الأولى. أما إدراك السبب الأول فيقوم على إطلاق الفكر الفلسفي لا ليجعل منك إنسان إيمان، لكن ليقولب فيك حالات مؤاتية. بصفتي طالب فلسفة كنت بثقافتي مقتنعا بوجود الله. كذلك رافقتني صور القدّيسين طوال حياتي، وكلما تقدّمت في السن أحسست بوجودها أكثر. أتحاور معها كلّ يوم كما أتحاور مع صور مرصوفة على مكتبي في جريدة "النهار"، لأحبة انتزعهم مني القدر، بطريقة بربرية أحيانا: والدي جبران ووالدتي، وصور ولديّ جبران ومكرم، ووالدتهما ناديا وابنتنا نايلة، أكلمهم عبر تلك الصور ويكلّمونني، وأكشف لهم عن مكنونات قلبي.
¶ لكنك ايضا من أشدّ المنادين بالعلمانية...
- من دون شك، لأني مقتنع بأن "فصل الدين عن الدولة" هو المبدأ الإنقاذي لبلادنا العربية كلها، بدءا من لبنان ووصولا إلى المغرب. وأفصّل: العلمانية هي الحصن ضد ترسخ الهويات الدينية - ولا أقول الطائفية فقط - على النحو الذي يهدد المجتمعات المتعددة الأديان بالتفجر، بل يهدد الأديان بالجاهلية، فضلا عن التوسّل بالطائفية للتستير على الفساد وكل الآفات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تستمر تتجذر في مجتمعاتنا بشكل سيؤدي حتما إلى الانهيار البنيوي، فضلا عن التقهقر الإنمائي. وهذا وضع "ينادي" الاستعمار و"يمهد" له الطريق.
¶ ماذا يحقق عمليا تطبيق فصل الدين عن الدولة؟
- هو يقيّم بداية الزواج المدني، فيصير يستحيل تقسيم "العائلات الروحية" التي يتألف مجتمعنا وتتألف دولنا من تعددها، إذا تزاوجت هذه العائلات. وتسقط باعتماده قواعد هيمنة السلطات الطائفية المتحصّنة بمنافع تشريعات صارت بالية. "فصل الدين عن الدولة"، ايضا، يمنع انتساب العصبية السياسية، عصبية حكم كانت أم عصبية مواطنة وتحزب، إلى الدين، ولو كان واحدا في الدولة، فتزول هكذا الأولويات الدينية والمزايدات في التحزب لله والإنفاق، اسميا ووجاهة، في سبيله، حتى على الإرهاب... إن هذا المفهوم لا يعلمن الدولة فحسب، بل تصير معه الكفاءات، لا المحاصصات الطائفية والمحسوبيات، هي قواعد الإدارة والتعليم والتنمية...
¶ وهكذا تنتفي بعض الحجج التي يستخدمها الغرب المتحيّز ضدنا...
- تماما، اذ تزول مسوغات تسلط إسرائيل، وتسقط "الصليبية" الأميركية كموقف "مدينة على جبل"، وفي آن معا، كاتهام مفتعل للحرب ضد الإرهاب والحرب المضادة لها... وقد يسود الاقتناع إذذاك بأن الله، ما دام واحدا أحدا، فليس ثمة ما يحلّل تعدد أحزابه، ولا ثمة ما يجيز للبعض احتكار إيمانه وتحزيبه، أو تسييس قدّيسيه، فيستحلّون الدفع بالآخرين إلى جهنم لأنهم منعوا من الإيمان أو قتلهم جهادٌ كان باطلاً فقاتلوه.

الأساطين والتفويض
¶ ما دمت أتيت على ذكر الله ومَن يحتكر تحزيبه، ما موقفك من إعلان "حزب الله" الحين بعد الحين أنه "ملتزم" الاستمرار في المقاومة حتى تحرير القدس وكل فلسطين؟
- هل في وسع أساطين "حزب الله" أن يقولوا لنا كيف يمكن الوصول إلى القدس ثم غزة من غير تحرير الجولان أولا، والجليل كذلك؟ ولو للمرور على الطرق؟ وما هو موقف الجمهورية العربية السورية من ذلك؟ والأردن؟ وما هو موقف السلطات الفلسطينية والمنظمات المعنية؟ أم أن "حزب الله" يعتبر أن له تفويضا "شرعيا" للتصرف بخريطة سوريا وفلسطين بمعزل عن أهل السلطة الشرعية فيهما؟ في هذا الاطار، نحن نؤكد وبإصرار ثقتنا بالجيش اللبناني، وقدرته على مواجهة العدو والتصدي له ببطولة والانتصار (لا على "حماية حدوده"!!!) عندما يعطى التعليمات وتهيئه قيادته لذلك لا بالتسليح فقط، بل بالعقيدة العسكرية والمناورات والثقة به، وحسن اختيار قياداته وخصوصاً عدم اخضاعه لما خضع له طوال فترة حراسة الجيش السوري لاستقرارنا...
¶ أصلاً، احزابنا معظمها أفلس، كي لا نقول كلّها...
- أفلست وأدت قسطها للعلى، وآن لها ان تنام على ماضيها. ليست ثمة هيكلية ديموقراطية في متناولنا لتأمين "تداول السلطة" اليوم، غير تجربة جيل انتفاضة "استقلال 2005". فلا تتركوا هذه التجربة تتحول سجنا عربيا آخر، تموت فيه احلام جيل طالع، في انتظار ان يأتي جيل آخر يكرر الاحلام ذاتها ويصطدم بديمومة، بل "ازلية" الاتجار بالسياسة على حساب الدين، وتحويل ثراء تنوعنا الديني بضاعة كاسدة في سوق عكاظ لا يبقى منها للتاريخ الا بلاغة السخافة وفكاهة السذاجة، أو تحوّل "اليقظة الدينية" العامة الى مظهر من مظاهر السأم واليأس، يسهل اذذاك توظيفها في اشكال الارهاب المتبرعمة في عالمنا العربي "من المحيط الى الخليج"!
¶ ذكرت جيل انتفاضة 2005: هل من حسرة حيال 14 آذار؟
- 14 آذار كان تجسيدا وتمثيلا لـ"الحالة الثورية" التي تمددت منذ 14 شباط وتجذّرت في مخيمات ساحة الشهداء. الحاجة الآن هي الى البحث في البديل. أي البحث عن استئناف مسيرة 14 آذار بصورة عملية و"تاريخية التطلّع"، تنظر الى التاريخ المقبل علينا وربما بمزيد من العواصف، إنما تتذكر كذلك ان "النظام" الذي اغتال الرئيس الشهيد رفيق الحريري هو اياه الذي كان قد اغتال، بامتداداته ومحالفاته الموضوعية، الشهيد الأول كمال جنبلاط، ثم نقيضه – حين الاعتدال – الرئيس بشير الجميل! ثم حاول هذا "النظام" الكثير من الاغتيالات التي احبطتها "العناية" او الصدف او انقذنا منها "المقدر" وكان ابرزها اعجوبة مروان حماده التي يجب ان تستمر في الذاكرة الوطنية، صورة تغلّب الاستشهاد على الموت!

فلنتحدَّ أنفسنا
¶ كل هذا القتل... أمعمّد بالدماء هو لبنان الغد؟
- لا... انما استذكار الشهادات هو محاولة غسل الانقسام الذي يبدو، الحين بعد الآخر، كأنه كامن ومستمر، باستذكار وتجاوز حمّامات الدم التي ندر ان غرق في مثل غزارتها شعب في مثل حجمنا الصغير. وفي نهاية مطاف الذاكرة، ربما اكتشفنا، من غير حاجة الى الاعتراف، ان طوني فرنجية وداني شمعون ورشيد كرامي والرئيس رينه معوّض والمفتي حسن خالد والشيخ صبحي الصالح وضباط صربا وسواهم... كانوا كلهم حلقات في السلسلة غير المنظورة وحدتها، وانهم كانوا بدائل معارك واجتياحات ضاقت بها خريطة لبنان، فتبدّلت وسائل الحروب باغتيالات.
¶ كيف يمكن أن ننقذ ثورتنا من تحولها "سجنا عربيا" آخر، على قولك؟
- فلنتحدَّ أنفسنا، ولنتَّحد الآخرين، ونرى ما اذا كنا نستحق القفزة الديموقراطية. الحاجة الآن ملحة الى الكثير من العقلانية والموضوعية، ليس فقط لاستخلاص العبر والمغازي، بل الاستعداد لبناء ديموقراطية جديدة. المليون متظاهر لم يكونوا فقط الشبان والشابات الذين اعتصموا في المخيمات، كانوا كذلك، بل كانوا خصوصا كل الذين لم ينتظروا جلاء جيش الحكم السوري المخابراتي للتظاهر والهتاف، وعناق بعضهم البعض في ظل علم واحد غير طائفي ولا حزبي، هو ذاته العلم اللبناني الذي رسمه جيل اجدادهم على ورقة دفتر مدرسة وعلقوه على مبنى البرلمان والسرايا بالقوة، مكان علم الانتداب الفرنسي... وهذا ما يبدو اننا عجزنا عن تدريسهم تاريخه حتى يفتخروا به ويفاخروا العالم بأن شروقهم الديموقراطي لم ينبت من العدم، ولا جاء "مجوقلا" مع جيش تحرير انقلب احتلالا... انما هو احياء لإرث هدره "الطائفيون" ومن مثلهم من مفسدي الحكم والوطن قبل ان يقمعه "البعثيون" وحلفاؤهم الميليشيويون المافيويّون من احزاب تحوّلت دكاكين متاجرة بمقدسات السياسة وعقائدياتها.
¶ ما المطلوب اليوم في سبيل تحقيق ذلك؟
- المطلوب هو حكومة تفهم حقيقة ما حصل في لبنان وما هو حاصل في المنطقة والعالم، فتخاطب "المواطن الجديد" بل "المجتمع السياسي الجديد" – كي لا نقول "الشعب الجديد" – الذي نشأ من الانتفاضة الاستقلالية مطالبا بدولة وبحكم جديد، يستعيد "الحرية والسيادة والاستقلال" حتى تستقيم المؤسسات التي كان قد مزّقها ودنّسها "الحكم الأمني" بل المخابراتي – المافيوي "الشقيق"! ثم ملاحقة هذا الحكم ومعاقبة المسؤولين عن فضائحه وارتكاباته وجرائمه. المطلوب ايضا ملاحقة المسؤولين، لا عن الجرائم الأمنية فحسب بل عن ارتكاب الفضائح المالية وتغطيتها ماليا ومصرفيا وقضائيا، وصولا الى تطبيق قانون "من أين لك هذا" الذي تكاثرت في وسائل الاعلام المعلومات والوثائق التي يصحّ اعتبارها "إخبارات" يمكن ان تنطلق منها الملاحقات القضائية، أيا تكن الرؤوس التي ستدحرجها هذه الملاحقات. إذا لم تثر البلاد اليوم فهي ستثور غدا، عندما يضعف القوي.
¶ هل ترى علاقة بين ثورة الأرز والثورات العربية الحالية؟
- طبعا. رسالة الحرية التي انطلقت من لبنان لا تتوقف عند حدود مكانية ولا "زمنية"... التاريخ، تاريخ الحرية بنوع أخصّ، كيان حيّ مستمر. والحبل على الجرار.
¶ لكن تلك الثورات تحمل معها خطر التطرف الإسلامي، ما يعزز بدوره حجج الصهيونية...
- ان الارهاب وليد "ثقافة اليأس" تشعلها النيهيلية. استقرار الكيان الحواري هو، لا جمهورية التطرّف الاسلامية، الوسيلة المنطقية لالغاء الصهيونية من الخريطة العقائدية والقومية، ومعها الارهاب الذي استحدثته لانشاء دولتها "العبرية" فاذا بالارهاب العربي – الاسلامي الذي نشأ لمحاربة اسرائيل يجيء خيال تقليدٍٍ دون الأصل الصهيوني فاعلية، باستثناء التخريب الذاتي الذي بلغنا نحن قمته، في حين تحاشاه الارهاب الاسرائيلي. لأجل ذلك ثمة حاجة الى نهضة اسلامية، الى حوزات تقول "نعم للحرية، للعدالة، للديموقراطية" وتدعو الى مشاركة ديموقراطية بين كل المسلمين والمسيحيين. وإن ننسَ فلا ننسى أن التفوق اللبناني، في المحيط الشرقي برمّته، هو في "ثقافة السلام" الخلاّقة، وليدة التعايش التعددي، وتعددية المناهل الفكرية والآفاق الاستشرافية. بينما الدول العربية الاخرى تحوّلها عقائديتها نسخاً اسلامية مشوّهة للدولة العبرية.

من جاهد في سبيل الشعب لا يستثمر الشعب
¶ لكننا لسنا بأفضل حالا... وضعنا اللبناني كارثي أيضا، وكثر يتحدثون عن طيف الحرب من جديد...
- ما اشبه اليوم بالبارحة! سوريا تريد، وقد أعلن ذلك رئيسها، خلق اضطرابات في لبنان تُضعف حكمه. ليس الاستقلال أن تجلو الجيوش الأجنبية عن أرض الوطن، وأن تقوم في البلاد سلطات تتستر وراء شكليات الشرع. ليس الاستقلال أن نقول للجماهير كلما استيقظت: لقد حلنا دون صيرورة هذه البلاد مقرا للاستعمار. وضعنا كارثي لأن البلد الذي يستعبد فيه الحكام الشعب، وتهدر فيه الحقوق وتداس القوانين ليس بالبلد الحر. من اضطُهد في سبيل الحرية لا يضطهد الأحرار. من جاهد في سبيل الشعب والوطن لا يستثمر الشعب والوطن، بل يحب الشعب ويتألم مع الشعب ويعمل جاهدا في سبيل إسعاد الوطن. مَن جاهد في سبيل الشعب وحريته يعرف تماما أن غضبة الشعب لا تداوى بالإرهاب، وثورته لا تقمع بالقوة! أما الذي يجعل الإرهاب سبيله إلى السيطرة فإنه يتنكر للحرية، يستعبد الشعب، ويوجد هوة بين الشعب وحكامه فلا يبقى بجانبه غير الخانعين الذين لا كرامة لهم ولا عزة...
¶ أشعر أنك تتقصد زعيما معينا في كلامك...
- بل أتقصد فئة في البلاد سكرت بالحرية والاستقلال، وهي لا تعرف لهما معنى. لقد اكتفت تلك الفئة بالتغني بالحرية وبتمجيدها. لكنها لم تفعل شيئا في سبيل حرية لبنان، بل تآمرت عليه مع الذين يريدون استعباد الشعب، لأنها خدرت هذا الشعب بالألفاظ الطنانة الرنانة، وبالأقوال والرموز الخلابة. كفى الشعب اللبناني سماع الكلام الخشبي الفارغ الذي لا يشبع العقول (ولا البطون الجائعة خصوصاً) والشعارات البلهاء التي تدعو الى السلام كلاماً وتنتهي بالحروب واقعاً!
¶ في ظل هذا التخدير المتزايد، هل يؤذن لنا بالحداد على الديموقراطية اللبنانية؟
- يجب ان نستمر نأمل في غير ذلك. يجب أن نأمل في انفتاح المجتمع الدولي على رؤية تحييد لبنان كمختبر لثقافة السلام القائمة على حوار الحضارات والاديان، بدل الاستمرار مع البعض في الحنين الى حروب عبثية نتمنى ألا تحدث، ولو كان حدوثها هو ثمن اقتناعنا مرة واحدة أخيرة بأنها كلها كانت وتبقى حروباً عبثية، ومن أجل الآخرين لا خير منها للبنان سوى البهورات التي لا تبني مجتمعاً متماسكاً ولا تستر عورات الأزمات الاقتصادية المطلّة إلا من حيث مردود حروب الآخرين على ممتهنيها... الذين قد يفرحون، كما الأولاد بألعاب الأعياد، بعدد الشهداء على جانبي الطريق!
¶ لا يسعني إلا أن اتساءل: أين لبنان الآن من رسالته في أن يكون مختبراً تلاقي الحضارات جيلاً بعد جيل، وتعايشها وتلاقحها وتناميها؟
- ينبغي الخروج بالديموقراطية اللبنانية من بازار المحاصصات الذي حوّل الوطن المستنير ودولة التميّز "سوق نخاسة" تباع فيها أرقى الطموحات واجمل الاحلام بارخص الاثمان. اذا ما اجتمعنا غداً لنتحاور، فأية حضارة نضع أوراقها على الطاولة، بينما نلف وندور ونمضي نستوحي مصادر الاستبداد ومدارسه والسيادات، وكأننا، لفقداننا الفة الحرية حيناً، صرنا عن حقوقها وجوهرها وكلمتها الفصل غرباء في كل حين! يتكلل فشلنا في اننا، بدل الحلم بالغد النيّر، نعبّد الطريق الى المستقبل بتبادل الاتهامات ونسج أحابيل المؤتمرات، وكأنها خيوط عنكبوت نهوى اسرها لنا، بل نستدرج هذا الأسر... بينما "الخليج" الذي كان اسير الرمال صارت رماله حدائق غناء وصحاريه معارض التعمير...

التغيير من الجيل الجديد
¶ كيف تتحقق نهضة هذه البلاد المرهقة إذاً؟ هل من أمل؟
- لا يمكن أن يكون التغيير تطلعا، كالحنين، إلى الوراء. إذا: التغيير من الجيل الجديد وإليه، آخذين في الاعتبار، في استقراء تطلعاته والتوجه إليه ثم توجيهه نحو النهضوية، تغيّر البنى المجتمعية نتيجة تراكمات سبعين سنة من الأحداث الجسام في بلادنا وعالمنا العربي، وأهمها الحروب والثورات والانقلابات، الحلال منها والحرام، الهدّام منها قبل البنّاء... فضلا عن المتغيرات العلمية والثقافية التي طوّرت كل شيء، من أساليب المعرفة وأدواتها إلى آفاق القدرات الإنسانية. نظرتنا إلى الماضي يمكن أن تكون جمالية تعبّدية، ولكن تطلعنا إلى المستقبل يجب أن يكون عقلانيا نقديا موضوعيا، يسرّع الحركة كسرعة التطوّر الذي يجرفنا، أقواما وجماعات وأفرادا. إن أي نهضة يجب، ولا شك، أن تستمر تحترم الأجيال والقيادات التاريخية والرجال التاريخيين، ولكنها لا يمكن أن تكون نهضة تغييرية إذا لم ينتقل زمامها إلى ذوي عقلية الجيل الجديد القادرين على التعامل مع بنيته النفسية.
¶ إلى أين من هنا إذاً؟
- الى لحظة تأمّل تاريخي، بل عقلانيّ ونقديّ، نعترف عندها بأن لبنان هو طوائف، ولكن تعددية طوائفه يجب الا تسلك طريق الحروب القبلية... فالطوائف ليست قبائل – ولا هي ميليشيات خصوصا – بل عائلات روحية يجب ان تظل تسكنها محبة الله الواحد الأحد، وان تثري واحدتها الأخرى بمثل روحانية القديس اوغسطينوس (الفينيقي) وشعر الصوفيين الاندلسيين. نعم، نريد ان يسكن الحب، بل المحبة قلوب وعقول العائلات الروحية التي تكوّن لبنان... المحبة، لا الغضب ولا العنف، فالحروب على اشكالها – وأبشعها "الطائفية" ولو تصنّعت المسالمة او الدفاع عن "الحقوق" التي هكذا تهدرها الحروب...
¶ كثر يقولون ان لا مستقبل للمسيحيين في الشرق...
- ينبغي لنا أن نتذكر أن كلمة العروبة هي عبارة ترمي إلى التمييز بين الإسلام والعرب. وهي تسمح بالتذكير بأنّ العرب ليسوا جميعا مسلمين. فالكثير من العرب كانوا في الأساس مسيحيين قبل أن يعتنق بعضهم الديانة الإسلامية. وهذا ما نوّه به القرآن الكريم. كما أنّ المسيحيين العرب لا يمكنهم الإحساس بأنّهم بعيدون عن إيمان إخوانهم المسلمين. وفي ذلك مشاركة تبدو جليّة. وكما ذكرت سابقا، لبنان هو تحديدا مكان التّعبير عن هذا الحوار الذي يتجاوز الانقسامات الطّائفيّة.

اتركونا وشأننا
¶ غسان تويني من أنت؟ مفكّر أم صحافي أم فيلسوف أم سياسي؟
- أنا رجل سلام محارب.
¶ كيف تفسّر هذا التناقض؟
- هل عليَّ ان ادافع عن نفسي لاني رجل تناقضات؟ ولدت في بلد هو في نظر العالم نقيض في حد ذاته. فلعل ذلك هو ما افعم حياتي وأفعالي وكتاباتي بهذه المفارقات.
¶ كثر فسروا كلامك في مأتم ابنك الشهيد جبران تويني بأنه تبرئة للقاتل، عندما قلت: "فلندفن الاحقاد والثأر. كفى دماً". ما ردّك؟ هل كنت في تلك اللحظة تغفر لهم لأنهم "لا يدرون ماذا يفعلون"؟ هل كان رجل السلام أقوى من المحارب آنذاك؟
- أنا لم أبرئ أحدا بل كنت أدفن ابني القتيل. هذا كل شيء. يعود الآن للمحكمة الدولية ان تكشف ظروف قتل ابني والفاعلين والمحرضين. هذا ما أريده، ويريده كل اللبنانيين.
¶ ماذا يريد اللبنانيون أيضا؟
- يريد اللبنانيون ان يتركوا وشأنهم، ان يستعيدوا وحدتهم، ان يعيشوا بسلام، ان يدفنوا موتاهم ومعهم خلافاتهم وان يكونوا احرارا في اقامة حكمهم.
¶ هل من وصية/ وصايا اليهم؟
- حذار الاستزلام وحذار الاستقواء بالمستزلمين. ان هذا كمن يبحث عن القوة عند الضعفاء، فيزيد بهم ضعفه ضعف. أضربوا الفلول بيد من حديد ولا تستأذنوا أحدا... اطردوا "تجار الهيكل" الذين يتاجرون بحياة اللبنانيين وارزاقهم وأمنهم وراحة بالهم...
¶ أترى هذا يكون حلم ليلة ربيع؟
- ربما... ولكن من قال انّ الاحلام ممنوعة؟ لا احلام ممنوعة حين تتوافر ارادة تحقيق الحلم وواقعية التصميم.

joumana.haddad@annahar.com.lb



الرد على: غسان تويني - في ذمة الله ! - العلماني - 06-09-2012

في وداع جبران

غالباً ما صار يقال لي إنّ الصورة التي حفظها اللبنانيّون عنّي هي صورة الرجل الذي وقف متكلّماً، في كاتدرائية القديس جاورجيوس، أمام جثمان ابنه الذي سقط اغتيالاً، ودعا إلى الصفح. أودّ أن أعلّق على هذه الصورة التي تلاحقني أو التي ألاحقها. فعندما دخل النواب رافعين النعش على سواعدهم سرعان ما عادت بي الذاكرة إلى يوم حُمِل جثمان والدي إلى هذه الكاتدرائيّة نفسها قبل عشرات السنوات، وقد مات للقضايا ذاتها إنما ليس اغتيالاً.
كان ذلك في العام 1947. فإذ كنت طالباً في جامعة هارفرد، التحقت بالوفد اللبناني إلى منظمة الأمم المتحدة عشية التصويت على قرار يبتّ مستقبل فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني عليها. وقد سألني كميل شمعون، رئيس الوفد اللبناني، أن أطلب إلى والدي، سفير لبنان آنذاك في الأرجنتين وفي شيلي، أن يزور سانتياغو من أجل إقناع الرئيس الشيليّ بالتصويت لصالح قضيّتنا. إلا أنّ والدي جبران لم يكن قد قدّم بعدُ أوراق اعتماده إلى الرئيس غبريال غونزاليس فيديلا. أضف أنه بسبب إقامته وقتها في بوينوس آيرس، كان عليه أن ينتقل إلى العاصمة الشيليّة في يومٍ واحد، في القطار أو بالطائرة، ما يعني القيام برحلة مُضنية. والحال أنّه كان ضعيف الصحّة ويعاني من ارتفاع الضغط. اتّصلت به من نيويورك وألححت عليه في الطلب. وبدا أن هذه الرحلة تفوق طاقته، لكنه قرّر القيام بالمحاولة مخالفاً رأي أطبائه ورأي والدتي التي رافقته. وعند وصولهما إلى سانتياغو في حالة من الإنهاك الشديد، وجدا في انتظارهما عربة خيل، هي صورة عن مجتمع أميركي جنوبي ما زال بالإجمال محافظاً ومتعلّقاً بالشكليّات، لتنقلهما للمشاركة في مأدبة أقامتها على شرف والدي الجالية العربية ذات الغالبية الفلسطينيّة. وصارت هذه العربة، إذ أستعيد صورتها فيما بعد، تذكّرني بالعربة التي تسير في طليعة المواكب الجنائزيّة. وإذ صعد أثناء السهرة إلى المنصّة ليلقي خطابه، صرعته سكتة دماغيّة. وكان، قبل عشر سنوات، قد نجا منها بـ"أعجوبة" بفضل تدخّل والدتي. لم تفلح الأمور هذه المرّة. وفي 11 تشرين الثاني، عشيّة وفاته، وجدتني أستفيق فجأة من نومي، ربما في حوالى الساعة الحادية عشرة ليلاً، وأفتح كتاب صلاة باللغة اللاتينية أهدته إليّ صديقة فأقع على صفحة صلاة الموتى. وفي الغداة، رأيت في المكتب جميع المندوبين مقطّبي الوجوه فبادرت إلى السؤال تلقائيّاً عمّا إذا كان والدي قد توفّي. فأُبلغت أنه فارق الحياة مساء الأمس وتحديداً في حوالى الساعة الحادية عشرة. ورافقني رئيس الوفد السوري، عادل إرسلان، بصفته صديق العائلة، إلى المطار حيث غادرت إلى بوينوس آيرس. وها أنا في الحادية والعشرين من عمري أجدني قد بتّ مسؤولاً، رغماً عنّي إلى حدٍ ما، عن صحيفة النهار التي يملكها والدي. وبعدها تشابكت الأحداث بشكلٍ متسارع. انضممت إلى والدتي ومعها أخوتي حيث أقيم قدّاسان الأوّل في سانتياغو والثاني أقامه اللبنانيون في ماندوزا، على الحدود الأرجنتينيّة الشيليّة، بعد أن أعيد جثمان والدي إلى بوينوس آيرس في القطار. وأخيراً تمّ إحياء قدّاس رسمي بإيعاز من الرئيس بيرون الذي شكرته بعدها على بادرته هذه. ثمّ نظّمت رحلة عودة الأسرة ورفات والدي إلى بيروت. وإذ كان السفر بالطائرة ما يزال خياراً قليل الاحتمال آنذاك، فقد فضّلت والدتي وأخوتي العودة بحراً. وبوصول الرفات إلى بيروت في 20 كانون الأوّل، نقل فوراً إلى كاتدرائيّة القديس جاورجيوس للروم الأورثوذوكس في ساحة النجمة، حيث أقيم له في اليوم التالي مأتم وطني.
ووجدتني الآن، في ذاك اليوم الواقع فيه 14 كانون الأوّل من العام 2005، واقفاً أمام جثمان ولدي الحامل اسم جدّه، وتنبّهت فجأة، أمام هذا الجمع الغفير المضخّم بعمليات النقل التلفزيوني، أنّه عليّ أن أقول شيئاً ما. فقد أنهى المطران جورج خضر كلمة التأبين وأشار إليّ بأن ألقي كلمة. وليس المطران خضر من أشهر علماء اللاهوت الأورثوذوكس في عصرنا هذا، وأحد الشخصيات العروبية المسيحية الرفيعة، بل هو رفيق شبابي، معه أنجزت دراساتي الثانوية واختصاصي في الفلسفة. وبالتأكيد لم أكن قد حضّرت شيئاً أقوله. ولم أعرف إن كان عليّ أن أتابع بلهجة المطران خضر اللاهوتية والفلسفية أم عليّ أن أجاري الحشود الصائحة معبّرة عن حزنها وغضبها. وإذ تقع كاتدرائية مار جاورجيوس في الجهة المقابلة لمجلس النواب، فقد طلب رئيسه أن ينقل إليه جثمان النائب عن الروم الأورثوذوكس جبران تويني، الذي اغتيل عشيّة ذاك اليوم مع اثنين من مرافقيه. وبعد التآم المجلس حمل النواب النعش على مناكبهم إلى الكاتدرائيّة، ولدى مرورهم رفع الحشد، هادراً مهدّداً، صور ولدي وصور سائر شهداء هذا البلد الذي سقط في سبيله الكثير منهم. ثمّ دخل الجثمان بيت الله وأنا أتساءل عمّا يمكن أن أفوه به في مثل هذه الظروف، وإلى مَنْ أتوجّه بالكلام؟ أإلى ابني الشهيد المسجّى على بعد أمتار مني؟ أم إلى رجال الدين؟ أم إلى الحضور المؤلّف من شخصيات الصفّ الأول في الحياة اللبنانية ومن أقرباء ومجهولين ومن مسحوقين مثلي؟ أم إلى الحشد الضخم في الخارج الذي تنقل إليه مكبّرات الصوت ما يجري في الداخل؟ أم إلى لبنان بأجمعه الذي يتابع الجنازة بواسطة النقل التلفزيوني؟ نظرت إلى ابنتَيْ جبران الصُغرَيَيْن، وهما توأمان ولدتا له من زواجه الثاني وليس لهما من العمر سوى أربعة أشهر. كنت في حالة غير طبيعية لا تسمح لي بمواصلة تساؤلاتي الصامتة، ومن دون أن أفكّر استندت على يد المطران وارتقيت درجات المذبح متوجّهاً إلى باب الهيكل. ومن الأعراف السائدة أن يصار قبل دفن الفقيد إلى فتح النعش مرّة أخيرة وأن يرشّ أقرب أقربائه حفنة من تراب على وجهه. لكن نظراً إلى الطريقة التي اعتمدها مدبّرو عمليّة الاغتيال، لم يعد هناك، بالمعنى الصحيح للكلمة، لا جثة ولا وجه، وفي النتيجة لم يعد من مسوّغ لفتح النعش. بدا كلّ هذا عملاً لا مثيل لوحشيته. مع ذلك، وفي لحظة توجّهي صوب النعش أوقفتني يد أحدهم. لبثت واقفاً هناك هنيهة، حائراً، عاجزاً وقد أُسقط في يدي. ثمّ عدت لألقي كلمة، بل لأطلق الكلام إذ لم أكن أعرف بعدُ بِما سأتفوّه، وقلت بصوت منخفض جدّاً، وبعكس كلّ التوقّعات، إنّني لا أدعو إلى الثأر، وهو ثأر لا قدرة لي عليه أساساً، كما أنني لا أؤمن به. وبطبيعة الحال طالبت بالعدالة كما أوصيت بالصفح: "فلندفن الحقد والثار". وأضفت أنني آمل أن تكون عملية الاغتيال هذه هي خاتمة سلسلة الاغتيالات وأن يجد لبنان سبيله إلى السلام. وددْت أن أصرخ: "كفانا دماً!"، لكن لا أظنّ أنني قلتها، أما الجمهور في الخارج فإنه، من جهته، تبلّغها بشكلٍ جليّ.
في تلك اللحظة سادت في الكاتدرائية حركة ذهول وعدم تفهّم ربما لما حصل. فلا أحد، أو تقريباً لا أحد، كان يتوقّع، في ظلّ هذه الظروف الفظيعة، أن أمنح عفوي، ومني أنا ربما أقل من أيّ شخصٍ آخر. فجوّ العنف الطاغي في البلاد كان يبرّر على الأرجح ردّاً بحجم ما أصابنا مؤخّراً، وربما ما كنت لأرفض ذلك قبل دقائق من دخولنا الكاتدرائيّة. فما من شيءٍ في الجرائم التي ارتكبت في الأشهر الأخيرة ضدّ العديد من شخصيات الصفّ الأوّل يمكن أن يبرّر أيّ حِلْم. لكن أنا نفسي فوجئت بهذا الكلام يصدر عنّي، وللتخفيف من وقعه رأيت من المناسب أن أضيف أنني آمل من كلّ قلبي أن تتحقّق العدالة. أحسست هنيهة بالحقد، وكانت تلك مناسبة لكي ألقي كلمة تأبينيّة في ذكرى ولدي القتيل، لكن شيئاً من هذا لم يحدث. فكيف دهمتني فكرة الصفح الطارئة هذه في لحظة أتأمل فيها، وأنا مديرٌ ظهري للجمهور، النعش الذي ترقد فيه جثّة ولدي الشهيد؟ ربما لأنني أمسكت لبرهة بيد المطران الذي تكلّم بالنفحة نفسها، إنما بمزيد من الغضب. فهو كصديق للعائلة رافق جبران في نشأته ويعرف تماماً ما كان يمثّله لي وللوطن. وفي الوقت نفسه أحسست أنّ هذه الجريمة التي طالت ابني، ومزّقت كامل جسده، هي تحديداً جريمة تطال صورة الله. الله الذي خلق الانسان على صورته تمّ الاعتداء عليه مباشرة. ووجدتني بذلك أفكر في أمورٍ متناقضة لا حصر لها. والرغبة في الغفران لم تحجب في أعماقي حالة من الغضب الشديد على أولئك الذين حرمونا حتّى من إتمام وداعنا، ومنعونا من طبع القبلة الأخيرة على جبين غابي. بطرقٍ متعدّدة قتلوه!
ما قلته قبل لحظات هزّ كياني هزّاً، وهو ما جعلني آخذ كامل وقتي، أثناء تقبّلي التعازي من المقرّبين الذين انضمّوا إليّ في قاعة استقبال خاصّة، لكي أصوّب معنى خطابي وأشدّد مرّة أخرى على ضرورة تحقيق العدالة. إلا أنّ هذه التصويبات لم تكفِ وظلّ هناك من يعاتبني لائماً إيّاي على تراخِيَّ. وقد أخذ عليّ بعض السياسيّين أنّني ألمحت إلى تبرئة سوريا المتّهمة مباشرة بمحاولات وعمليّات الاغتيال الأخيرة التي استَهدفتْ، ليس جبران وحسب، بل الصحافيّ سمير قصير، أحد أقرب معاونيَّ في الجريدة، وجورج حاوي، الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني، والياس المرّ، وزير الدفاع، وأخيراً الصحافيّة في تلفزيون الـ"إل.بي.سي." ميّ شدياق. وفي السنة السابقة كانت محاولة اغتيال بسيارة مفخّخة قد استهدفت ابن حمِيَّ، مروان حمادة، وهو صحافي ووزير وأحد مساعدي رفيق الحريريّ المقرّبين، ما اعتبر نذيراً بالقضاء على هذا الأخير بعد أشهر قليلة. وقد تبيّن أنّ هؤلاء الأشخاص الذين ساءهم بشكلٍ ما صفحي كانوا على حقّ، إذ إنّ سوريا أذاعت، غداة هذه الأحداث، بياناً قالت فيه إنّه كان من المتوقّع لأناس مثل جبران تويني أن يتعرّضوا للاغتيال كونهم كانوا يدعمون العدو، أي إسرائيل. لكنّني أجبت بأنّني لا أبرّئ أحداً، وبأنّ كلّ ما في الأمر أنني كنت في صدد دفن ابني المغدور. ولا أظنّ أنّ هذا كان تعبيراً عن ضعف من جانبي. وأضيف أنّ أناساً، أعرفهم ولا أعرفهم، قد حضروا مأخوذين بسورة حماس تركت أثرها فيّ، لكي يشكروني على ما قلته في ظرف على هذا المستوى من الشناعة. وأشكال التأييد هذه هي التي التقطتها الصحافتان اللبنانية والدوليّة ونقلَتَاها.
وليست هذه المرّة الأولى التي يتهدّدني فيها هذا الموت الفظيع، الذي لا يمكن وصفه، ليضيّق عليّ دائرته حتى أصابني في لحمي ودمي. فقد سبق أن فقدت في العام 1966 أحد أعزّ أصدقائي، كامل مروّه، وهو الأوّل في سلسلة طويلة من المعاونين والأصدقاء والشركاء، وحتّى المعارضين لي، الذين شهدتُ سقوطهم في ظروف مماثلة، حتى جاء حاليّاً دور ابني.
لاحَتْ بوادر هذه الفاجعة في باريس، مساء يوم سبت قبل يومين من هذا الموت المأساويّ. كان جبران ينزل مع زوجته في شقّة صغيرة ملاصقة لشقّة العائلة. عادا من السينما وقرعا بابنا. وكان جبران قد اشترى في طريقه ألواحاً من الشوكولا المرّ الذي أُحبّه كثيراً متذرّعاً بذلك لكي يزورنا. وقد استغربتُ منه هذه الهديّة التي تأتي في هذه الساعة المتأخّرة من الليل، وارتبت في أنّها تخبّئ وراءها طلباً ما. وأفهمتني زوجته أنه قرّر العودة إلى لبنان يوم الأحد، أي في اليوم التالي، وأنّ كلّ محاولاتها لثنيه عن ذلك قد ذهبت سدًى، وأنها هي التي بادرت إلى هذه الزيارة متخيّلة أنني ربما تمكّنت من حمله على تغيير رأيه. كان جبران يدرك تماماً أنّه مهدّد، فقد سبق للعديد من أجهزة الاستخبارات أن سرّبت أسماء أولئك الذين تنوي سوريا تصفيتهم، واسم جبران على رأس اللائحة. ويبدو أنّه لم يعبأ بذلك، فقد كان عليه أن يتكلّم في مجلس النواب صباح الثلاثاء، وتحديداً عن اللبنانيين المفقودين في سوريا، وهي قضيّة مرّة ولا يرقى اليها الشك، إلا أنّ قلّة من الناس تجرّأت على تناولها.وهذا الإيضاح هو الذي عزّز رأيي القائل بأنه يجب ألا يعود بأي شكل من الأشكال إلى لبنان في ظلّ هذه الظروف ولكي يلقي كلاماً من هذا النوع في مجلس النواب. إلا أنّه حاول طمأنتي قائلاً: "لن يحدث شيء". وتركتهما يغادران. وفي صبيحة يوم الاثنين كنت أتابع الأخبار على شاشة التلفزيون عندما علمت فجأة أنّ سيّارة مفخّخة قد انفجرت على الطريق من بيت مري إلى بيروت، في حوالى الساعة التاسعة والنصف، وأنّه لم يُعرف حتى الآن من هم الضحايا. سارعت إلى الاتّصال بلبنان لأعرف إن كان جبران قد غادر المنزل. وجاءني الردّ بأنّه غادر قبل دقائق. بدا كما ولو أنني أحضر عملية الاغتيال مباشرة.
وبات الأمر الآن على عاتق القضاة الذين عيّنتهم لجنة التحقيق الدوليّة لكي يجلوا الحقيقة في ظروف اغتيال ولدي.

من كتاب غسان تويني
"فلندفن الحقد والثأر" – دار النهار