حدثت التحذيرات التالية: | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
عن " أشواك " - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5) +--- المنتدى: قــــــرأت لـك (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=79) +--- الموضوع: عن " أشواك " (/showthread.php?tid=19658) الصفحات:
1
2
|
عن " أشواك " - قارع الأجراس - 04-05-2006 [CENTER]الصورة الهاربة تخلفت عنده صورة لم يردها إليها ... لم يكن ذلك عن عمد . كانت هذه الصورة أكبر حجما من أخواتها . وكن جميعا في ظرف صغير ، أما هي فكانت في ظرف آخر كبير ، وكان قد أهملها في مكانها لأنها صورة (( مهزوزة )) فلم يكن يراها كثيرا .. لأن الصور الأخرى أوضح وأدق وأجمل . ولكنه أراد أن يردها إليها كما رد رفيقاتها ، وبحث عنها فلم يجدها ، فأضمر أن يردها حين يعثر عليها . وحينما هدأت الثورة التي طغت على أحاسيسه ، وتكشفت الغمرة التي أغرقت عواطفه ، وسار الحنين إلى حوريته الهاربة التي تبدت أسطورة خالدة في حياته .... عندئذ أحس باللهفة والشوق إلى كل أثر من آثارها ، وشعر بالحنين المترقرق يهمس في جوانجه ؟ يا ليت شيئا من أشيائها يكون في متناوله ! وكان كل شيء يتصل بها من قريب أو بعيد قد بات حبيبا إلى نفسه ، ترف عليه روحه ويترقرق الوجد في حناياه وتحف به هالات مسحورة تتراءى خلالها الطيوف والأحلام ! ودب الندم والتمني إلى أحاسيسه في فترات كثيرة : لو أبقيت صورها ! إنها لم تطلبها مني ! لو أبقيت رسالتها إليّ ، وهي رسالة تنطق بنيل ضميرها ، ودقة حساسيتها ، وتصور حقيقة معدنها ، ويقظة شعورها ! .. لو أبقيت (( الشبكة )) وخاتم الخطوبة وهما يساويان – في الذكرى – أضعاف أضعاف ثمنهما ! .. لو أبقيت (( علبة الملبس )) إنها على كل حال أثر منها ! . لو عملت ، لو أبقيت ..... وتقلب يده ذات يوم في أوراقه ، فإذا هو يعثر على الصورة ... . قفز قلبه قفزة شديدة بين ضلوعه ، وبقى فترة طويلة يدق دقا متواصلا عنيفا ، وارتجفت يده وهي تتناول في قداسة وروعة ، فتقربها من عينيه ، فيتطلع إليها هنيهة في شغف واغل وفي صوفية مشرقة ، ثم يقربها من فمه فيقبلها قبلة طويلة عميقة ، تشترك فيها كل خالجة وكل ذرة فيه ، وتستنفد منه طاقة يحس بعدها بالهمود والاسترخاء ... وتترقرق في عينه دموع دموع حــارة ، فيستسلم بها في راحة لذيذة ، وتنقضي فترة طويلة وهو في شبه غيبوبة . ويفيق ، فلا يحاول النظر إلى الصورة مرة أخرى ، بل يدسها برفق بالغ في الظرف ، ويغلقه بحنان ! كما لو كان يلف وليداً لينام ! .. ويضع الظرف بعناية في درج مكتبه ويغلقه بهـدوء ، ويقوم فيمشي باحتراس حتى يغادر الحجرة ، ويغلق الباب في سكون . .. إن هناك وليـداً نائماً يخشى عليه الضوضاء !!! [CENTER]*** [/CENTER] ومضت أيام كثيرة يحاول أن يرى الصورة فيها . كان مطمئنا لوجود الذخيرة عنده ، وكان في نفسه شعور غريب آخر : إنه يشفق من رؤية هذه الصورة ، وإنه ليرتعش حين يفتح درج المكتبة ليتناول منه شيئا ، ثم هو يحس بشعور العابد الورع حينما يقترب من الهيكل ليناجي المعبود المقدس . وكل هذه الأحاسيس المجتمعة كانت تصده عن المحاولة ، تلك الأيام الطوال . وذات يوم يجد في نفسه لهفة تتيقظ للصورة ، ويفتح الدرج في عجل ، يتلمس الصورة في مكانها فلا يلقاها . وأحس بفزع ، فراح يعيد الفحص بين الأوراق في هـدوء ونظام أول الأمر ، ثم في عجلة واضطراب بعد ثوان . وعبثا يحاول أن يعثر عليها .. لقد قلب الأوراق رأسا على عقب ، ثم ترك الدرج وراح يقلب في الأوراق فوقه ، ثم ترك المكتب وراح يفحص في أدراك الكتب ، وفي كل مكان في الحجرة على غير جدوى ! .. يا للشيطان ! .. أين ذهبت الصورة ؟ راح يسأل أفراد الأسرة واحدا واحدا ، وراح يقلب كل ما في البيت ويبحث حتى في غير المظان .. ولكن جهوده كلها ضاعت سدى .. وجلس حائراً مكدوداً . أين ذهبت الصورة ؟ وقام يعاود البحث من جديد ! وتكرر هذا البحث أياما كثيرة ، حتى يئس من وجودها ، وفرض الفروض الكثيرة لضياعها ... وهنا أحس ما يحسه الوالد يفتقد الوليد ، يفتقده تائها خرج ولم يعد للدار . ويحز الألم في نفسه ، وتتغشاه لوعة عميقة ويعتاده لهـف شديد ... ولكنها ذهبت ضياعاً ! [CENTER]*** [/CENTER] ثم تمضي الأيام ، ويحس ذات يوم لهفة للحورية الهاربة من نوع جديد ، لهفة يجد لها في روحه رهقاً ، وفي حناياه التياعا ، ويشعر أنه نفسه تتذاوب حنينا . وأنه كله ذوب متهافت إليها ، وكانت هذه اللحظة أقسى على نفسه من كل لحظة سواها ، لا يستطيع أن يشفي لهفة ، وقد انقطع آخر خيوط الرجاء الضئيل في العودة . وفي هذه اللحظة يتناول كتابا يحاول أن يهرب إليه من نفسه ، ويقلب صفحاته على غير اهتمام . وهنا تبغته المفاجأة العجيبة : الصورة هنا بين طيات ذلك الكتاب ! وخانته قواه ، وأفلتت منه إرادته ، وبدا في هيئة مضحكة ساذجة غريبة : حدقتاه متسعتان ، ونفسه مضطربة ، وصدره يعلو ويهبط ، والصورة أمامه ضاحكة لا تمتد إليها يداه ! وبعد فترة هدأ اضطرابه ، وسكن جأشه ، وعاد إليه هدوؤه ، فتناولها وضمها إليه في فرح ضمة الوليد العائد بعد اليأس والقنوط ، وراح يربت عليها .. فلو رآه أحد في هذه اللحظة لظن بعقله الظنون ! ولم تحاول الصورة بعد ذلك أن تهرب ! وقد ألفته ! واطمأن قلبه إلى أن بين يديه منها أثراً . ولم تطاوعه نفسه أن يرد إليها صورتها الأخيرة على الرغم من هتفات ضميره أن يردها إليها . ووجد المعاذير لنفسه أمام إلحاح هذا الضمير : إنها لم تطلب منه صورها أبداً ، وإنها لتثق أن صورتها عنده كريمة ، وأنه لن يسيء إليها بهذه الصورة أبداً ، وإنه ليتوجه إلى الصورة بإحساس مقدس .. وشعور مطهر .......... ولو أنصف نفسه لقال : إنه لا يقوى على فراق صورتها ، فإنها آخر خيط منها ، وإنها وحدها تتمثل فيها كل خواطر الماضي العزيز ، وكل صوره وأطيافه ورؤاه ! [CENTER]الاسطورة الخالدة لم يخالج صاحبه شك في أنه يهذي أو يمزح حينما ضغط على يده في عرض الطريق وناداه : = ألم أقل لك : إنني سألقاها الآن ؟ ها هي ذي يا سيدي أمامك لتصدقني ! ونظر صاحبه فإذا فتاة مبهوتة مقيدة الخطوات ، تتوالى على سيماها في لحظة شتى الانفعالات . أما هو فقد تابع سيره ويده في يد صاحبه ، يضغط عليها كما ضغط عليها كما ضغط أول مرة . وإنه ليترنح فيتظاهر بالتماسك ، وتتلاحق أنفاسه فيتظاهر بالابتسام ، حتى يصلا إلى مفرق الطريق فإذا هما يقفان ! لم يكن أحدهما بأقدر من الآخر على تحديد الاتجاه . فأما صاحبه فكان ما يزال في دهشة المفاجأة : المفاجأة من تحقق النبوءة على هذا النحو الذي لا يعهد إلا في عالم الأساطير . وأما هو فكان ما يزال في هزة المفاجأة : المفاجأة التي تنبأ بها منذ لحظة ، ثم هو يتلقاها كمن لا ينتظرها بحال ! وحينما طال بهما الانتظار ، صحا صاحبه قبله من دهشته ، وحسب أنه يسدي إليه خيراً إذا هو عاد به أدراجهما في الطريق ليواجهها مرة أخرى ! ولم يكن هو زاهدا في محاولة هذا اللقاء ، ولكنه كان في هذه اللحظة يستطيع أن يواجه الشيطان ، ولا يواجه الفتاة التي تهتف به كل ذرة في كيانه أن يلقاها الآن ! لقد تنبهت فيه غريزة الخوف من الخطر حينما رأى نفسه يكاد يستسلم لمحاولة صاحبه ، فيمثل دور الفراشة التي تتهافت حتى تحترق على نور المصباح . فإذا هو يمرق بصاحبه إلى ممر يؤدي إلى شارع آخر نواز للشارع الخطر ، وهو يزعم لصاحبه أنه يقصد إلى مشرب هنالك خاص ، حتى إذا صارا في الشارع الأخير ، أحس انه يلتقط أنفاسه ، وأنه في مأمن من جاذبية التيار .... فوقفا يستريحان . [CENTER]*** [/CENTER] كان صاحبه يعلم قصته منذ نشأتها . بل كان يعيش معه القصة في كل فصولها ، وكان يعلم أنه قد مضى على آخر لقاء لهما عام كامل بعد أن وقع بينهما ما وقع ، مما يؤذن بانفصال لا رجعة فيه ، وبعد أن انتهى بينهما كل شيء ولم يبق إلا الذكريات . وكان صاحبه يعلم مرارة الذكريات وحلاوتها ، تلك المرارة وهذه الحلاوة اللتان يمزجهما في كأس واحدة ، يخشاها أبدا ، ويحن إليها أبدا ، ولا يفتأ يتشهاها مرة ، ويجفل من مسها مرة ، ويصوغ ذلك كله في قصائده وأغانيه ، بل يتخذ من ذلك كله مادة حياة . كان كل شيء قد انتهى ، وانتهى بالصورة التي يعييه أن يحاول بعدها وصل ما انقطع ، أو رجع ما فات ، كانت كبرياؤه تأبى عليه أن يعود ، وكانت مرارة الذكرى تطغى على حلاوتها في معظم الأحيان ، وكانت تجربته تذكره دائماً بالآلام . ولكن هذه التجربة وتلك الكبرياء لم تكن واحدة منها بمستطيعة أن تصرف طيفها عنه ، أو تمحو صورتها من نفسه ، أو تصرفه إلى حياة أخرى غير الحياة التي رسمها خياله معها . كانت قد استحالت في حياته إلى أسطورة خرافية تسيطر على هذه الحياة . وكان يزعم لنفسه أو تزعم له نفسه – حينما يسترجع مرارة الكأس المسمومة – أنه قد انصرف عنها ، وأن الأسطورة الخرافية قد تنحت عن مجرى حياته ، فهو يصرف هذه الحياة كيفما يشاء ! وتحدث بهذا الزعم لنفسه مرة ، وتحدث به لصاحبه مرات . ولكنه كان يحس في أعماقه ، وهن هذا الزعم وتهالكه ، فيزيده هذا الإحساس توكيداً لما يزعم ، ومجاهرة بما يدعي ! ، كالخائف يهتف بالقوة والتحدي ليتشجع في وجه أشباح الظلام ! وكثيراً ما راوده صاحبه على أن يحاول العودة والاتصال – وهو يعلم من دخيلة نفسه ما يعلم – فكان هذا يزيده إصرارا على كبريائه ، واستعادة لمرارة الذكرى ، وادعاء بأنها لم تعد شيئاً في حياته . وإن كان يتخاذل في بعض الأحيان ، فيعترف له بأنها أعمق في نفسه من هذا الادعاء ومن تلك الكبرياء ، وأن الذي يعصمه من محاولة العودة إنما هو مرارة الذكرى ووخز الأشكواك . ثم تلت ذلك فترة أحس فيها حقيقة بأن عالمه قد خلا من تلك الاسطورة اللعينة ، ولكنه لم يسترح لهذا الإحساس . لقد شعر بالفراغ والجفاف ، وانتابه ما ينتاب المؤمن بعد الإلحاد ، وما يصيب الصوفي بعد الضلال ! لقد خلا الهيكل من الصنم المعبود ، واستوحش الصوفي من سبحات الشهود ، وران على نفسه وعلى العالم كله ظلام وخمود لقد عادت الحياة تكلفا لا يطاق ، وراح يقطعها كما يقطع الأجير المسخر أيامه ولياليه في العمل المجهد الكريه ، وليس له منه إلا أجره الزهيد ! ألا ما أشقى الملحدين الحيارى الشاردين عن الهيكل ، ولو كانت تعمره الأصنام ! [CENTER]** *[/CENTER] واليوم – بعدما انقضى عام كامل – كان قد تناول الغداء مع صاحبه هذا وصديق ثالث لهما . وهم ثلاثتهم من أصدقاء الصبا ، ولكل منهم قصة في حياته تنتهي بالحرمان على نحو من الأنحاء ، ولكل منهم موسم يتحدث فيه عن قصته حينما تبدع يد القدر فيها فصلا جديداً ، فحيثما ضمهم مجلس تسللت إلى أحاديثهم قصة من قصصهم الثلاث ! وبعد الغداء ذهب الصديق الثالث لبعض شأنه ، بعدما قص على صديقيه فصلا من فصوله ، هاج صاحبه لأن يقص عليه بدوره فصلا من قصته : وما يكاد صاحبه ينتهي من هذا الفصل الأخير حتى تنبض في نفسه لهفة خاطفة ، وحتى ينسى كبرياءه وادعاءه ، وينسى مرارة تجاربه وذكرياته ، وحتى يفضي إلى صاحبه بهذه اللهفة العارمة : = كم أنا مشتاق إليها ! إن المصادفات التي كانت تبيح لي لقاءها مرة ومرة – أيام أن لم يكن لقاؤنا رهن المصادفات – عادت تضن بها اليوم على مدار العام ! قال له صاحبه : = إن الأقدار لحريصة على حبكة الرواية ! فمضى هو في لهفة حديثه : ترى كيف هي الآن ؟ أريد أن أعلم أي خبر عنها ، بل أريد فقط أن ألمحها من بعيد . ترى تغيرت ؟ أم ماتزال كعهدي بها منذ آخر لقاء ؟ ثم ينتفض واقفا من المقهى الذي كانا يستريحان فيه ، ويأخذ بيد صاحبه ، وإنه ليكاد يدفعه دفعا إلى السير في الطريق العام . وقال له صاحبه – بعد مسيرة خطوات : = إنني اهم أن أفترق عنك لشأن خاص فتمسك به وهو يقول : = كلا ! لن تتركني . فسنتسكع هنا ! ويسكت لحظة ليقول – وكأنما يستشرف لرؤيا من بعيد : = أحس انني سألقاها الآن . فيتهكم صاحبه ويجيبه مداعبا : = إذن أتركك تستمتع بهذا اللقاء ! وإنه ليخشى أن ينفذ صاحبه وعيده ، وأنه ليحس برعشة في كيانه كمن يواجه الخطر ، فيقول : = كلا ! لن تتركني . فإنني لأفضل إذا لقيتها أن تكون معي ، كما يحسن أن تكون معي لو كانت صدمة قطار أو صعقة تيار ، ثم يتلو أبياتا من إحدى قصائده في هذا السياق . وإنه ليمد بصره ، فإذا المفاجأة المنظورة ، وإذا الخطر المرتقب على بعد خطوات . يا للسماء ! بل يا للشيطان ! إنها الأسطورة الخالدة في صورة من صورها الكثيرة . وهل كانت القصة كلها إلا أسطورة في عالم الخرافات . [CENTER]*** [/CENTER] حينما هدأ روعه ، واستقرت قدماه في الشارع الموازي للشارع الخطر ، كان في حاجة ماسة إلى الوحدة والانفراد ، كان يحمل في وطابه ثروة مفاجئة ، يريد أن يستعرضها وحده في خفية عن الأنظار ! قال له صاحبه : = والآن إلى أين ؟ قال : = إلى الضاحية قال الصاحب : = وهو كذلك لتستريح ! وسار به مرة أخرى إلى الشارع ليركبه الترام ، فلم يحس هذه المرة بالرهبة من الشارع الخطر ، ولم يحس باللهفة عليه أيضا . لقد كان في وطابه من الثروة ما بشغله عن الرهبة واللهفة جميعاً . وحينما انفرد في الترام كان في غيبوبة حالمة . كانت الأشياء والمناظر والأشخاص تتوالى على عينه المفتوحة كما تتوالى الأطياف الغامضة والرؤى اللطيفة ، فلا تترك في حسه إلا ظلالا خفيفة . ومع هذا فقد كان يود الخلاص من هذه الظلال . كان يضم جوانحه في رفق على ومضة من عالم الخلود ، لا يجوز أن تخشاها ظلال الزحمة الفارغة في عالم الهالكين . ثم ركب قطار الضاحية ، وإنه ليركبه كل يوم في الصباح والمساء ، وإنه ليضيق به في الأيام الأخيرة وبما يثيره من الضجيج والغبار ، ولكنه اليوم لا يشعر بهذا الضجيج ، ولا يلتفت لهذا الغبار . >> وإن القطار ليخرج من العمار إلى الصحارى في ساعة الغروب ، وإنه ليرسل ببصره كالحالم في هذا الفضاء الجميل ، وكأنما يراه أول مرة في هذا الأوان ! [CENTER]***[/CENTER] في هذا المساء كان كالحالم المخدور ، فإذا صحا فليستعيد في خياله موكب الصور المتزاحمة في تلك اللحظة المليئة ، وليحاول أن يتخيل كيف كانت سحنته وملامحه بعدما لمح كالبرق سحنتها وملامحها وليسأل نفسه كالأطفال : أكان يبدو علي التماسك وعدم المبالاة ؟ أم كنت خائراً مضعضع القوى ؟ أكنت منفرج الملامح باش السمات ؟ أم كنت مقطب الوجه مغضن الجبين ؟ ترى أسأت إليها بجمودي وقلة مبالاتي ؟ أم ترى استشفت خواطري وانفعالاتي ؟ ما الذي كانت تفعله لو لم يكن معي صاحبي ؟ ما الذي كنت أفعل لو لاقيتها منفرداً ؟ وهكذا وهكذا من هذه الأسئلة الطفولية الساذجة ، التي لا يطمئن فيها إلى جواب ، والتي كانت تخطر له ببال ، لولا الأسطورة التي تظلل حياته ، وترده في كثير من الأحيان إلى خواطر الأطفال ، ولكنه مع هذا كله لم يكن قلقا ولا مهتاجا ، كان هادئ القلب ، رضي النفس ، نشوان الخيال . لقد أرضاه أنها لاتزال بعد هذا العهد الطويل تضطرب هذا الاضطراب حين تلقاه ، وأنه يستطيع أن يتظاهر بالتماسك في وجه هذا الاضطراب ! ولقد أرضاه أنه لا يزال يحمل الشعلة المقدسة بين جنبيه ، ويملك هذا السر الذي كان يحسبه قد تاه : سر التوجه إلى الصنم بمثل هذه الحرارة ومثل هذا الاختلاج ! ولقد طمأنه أن صاحبه يقرر – وقد رأى منهما ما راى – أن الستار لم يسدل بعد ، وأن الرواية لم تتم فصولا ، وأن في الجعبة مخبآت . لقد استمع إلى نبوءة صاحبه هذه في لهفة واشتياق كما يستمع إلى أسعد البشريات ! [CENTER]*** [/CENTER] وكان في الأيام الأخيرة قد ضاق بالعاصمة في حر الصيف ، وبرم بالعمل في وقدة الحر ، وتجاوز الضيق دائرة العمل ودائرة القاهرة ، فشمل الحياة كلها ، وشمل الناس والأشياء ، وكان قد اعتزم أن يرحل عن العاصمة الكريهة إلى جهة ما ، وأن ينجو بنفسه من هذا الضيق المحطم للأعصاب . ولو لبضعة أيام . فأين صارت منه العزيمة بعد ساعات ؟ إن القاهرة لحبيبة ، وإن الحياة في هذه الدنيا لجميلة ، وإن في الكون الواسع لفسحة للآمال ، وإنه لن يبرح القاهرة ، ولو لبضعة أيام . أبيس في القاهرة هذا الطريق العام ؟ أولم يلقها مصادفة في هذا الطريق العام ؟! ............... [CENTER]عارية بعد عام ونصف عام لاقاه الضابط الشاب – صاحب الماضي الحي – في الطريق العام ومعه فتاة ! ..لقد دهش أول الأمر ودفعه حب الاستطلاع لأن يعرف من تكون الفتاة .. لعلها أخته أو قريبته . إلا أن هاجسا كان يهتف في اعماقه : كلا كلا إنها شيء آخر في حياة هذا الشاب . كيف يعرف ؟ ليته يستطيع أن يسأل كائنا من كان ولم تطل به الأيام في هذا الشك والقلق ، فلقد لقى الشاب مرة أخرى وحيداً . لقيه في الترام فما لبث أن سلم عليه ، وأخذ معه في الحديث . قال : = لقد عدتَ من السودان ! = نعم من مدة ! = وكيف الحال الآن ؟ = الحمد لله . = ألا تزال تسكن هناك ! = نعم في نفس المنزل . وخاف أن يستمر الحديث هكذا حتى ينزل من الترام ، فعرج على المسألة التي تضطرب في نفسه من بعيد . = لقد شاهدتك منذ ايام في شارع فؤاد فلم أسلم عليك لأنك لم تكن وحدك . = آه .. كانت معي خطيبتي ! = خطيبتك ؟ وهل خطبت غير .... ؟ = ماذا أصنع ، إن أمي لم تقبل أبداً ، ثم هي . لقد قابلتها فلم تسلم علي ّ ! = معها حق ! ( قالها في راحة وفي حنق مكتوم ) . = إن أهلي جميعا شديدو الحنق عليها . إنهم يشيعون عنها إشاعات كثيرة ، ويشوهون سمعتها في كل مكان ، ويقولون عنك أنت : إنك تركتها لسوء سلوكها ، وقد ساءت سمعتها فعلا في الحي كله ! فتركوه إلى حي جديد . همّ أن يصفعه في هذه اللحظة . ولكنه أمسك نفسه وهو يقول : = أنا ؟ أنا تركتها لسوء سلوكها ؟ من قال ذلك ؟ إن الذي يقول هذا كذاب . إنها مسكينة . إنها ضحية الرجولة الناقصة في شبان الجيل ! وكان الترام قد وقف ، فاستأذن الشاب ونزل ، قبل أن يسمع بقية الشتائم التي كانت ستنفجر لو طال الحديث ! [CENTER]***[/CENTER] لم يستطع ان ينام ليلته . لقد كان يساوره القلق ويخز ضميره الندم. من يدري أن له يداً في تعطيلها عن الزواج ؟ إن خطبته لها كانت قد عرفت في وسطها كله ، فمن يستطيع أن يعرف الحقيقة ؟ من الذي لا يظن أن فصم الخطبة كان لشيء علمه عنها مما يسيء ؟ وهل الناس مستعدون أن يقدروا حقيقة الموقف ؟ وهل لديهم الوقت الكافي للبحث والمعرفة ؟ إنها كانت محسودة في أسرتها لجمالها وذكائها وزواجها ، وإنهم سيجدون في فصم الخطبة بعد عقدها مادة كاملة لشفاء أنفسهم من الحسد الكظيم . ثم ألم يكن هو الذي منعها من هذا الشاب ؟ حقيقة إنهم رفضوه أول مرة ، ولكن من يدري أنه لولا وجوده في المرة التالية .. لقبلوه ..... مسكينة . مسكينة . ليته يستطيع اليوم أن يصلح هذه الأخطاء ! وأدركته سنة من النوم ، فوجدها . وجدها عارية تتوارى في عينيه في انزواء . ودار بينهما حوار : هو يريد أن يلقي عليها رداءه ليسترها ، وهي تمتنع وتتوارى ... ثم ... ثم تعتذر له من دعوتها لمرافقته : = إنني كما ترى عارية ، لا أستطيع التعرض للأنظار ! ....... ثم إنني لست ......... عذراء ......! [CENTER]***[/CENTER] كان هذا الحلم من وحي الوساوس التي ساورته في اليقظة ، ولكنه ترك في نفسه أثراً عميقاً . لقد طبع في خياله حقيقة واضحة حتى لتحس . حقيقة أليمة مؤذية ، لا يقر له من بعدها قرار : أتكون حقيقة كما قالت في الحلم ؟ أيكون امتناعها عليه لهذا السبب ..... ؟ هي ؟ هي حوريته الهاربة ؟ هي عذراؤه الطهور ؟ هي ... هي ؟ وفي مساء اليوم التالي كان في منزلهم على غير انتظار . لقد دهشت حينما رأته دهشة شديدة ، ودهش كل من في البيت أيضاً . إن كل شيء قد انتهى إلى غير رجعة ، فما الذي يرجعه الآن ؟ وقال لهم في لهجة عميقة صادقة : = هل أستطيع أن أستأذنكم في أن أخلو بسميرة دقائق قليلة ؟ إن لي معها حديثاً للمرة الأخيرة ! .. وكانت الحواجز بينهما معدومة – على الرغم من كل ما وقع – فلم يجد ممانعة من أحد ، فكل من حولها يتمنون رجع ما فات . وجلس بجوارها على أريكة واحدة ، وأخذ يدها بين يديه في اضطراب ، ونظر في عينيها بشدة يريد أن يستجلي سر الحلم الرهيب . إنه ليهب نصف عمره لمن ينبئه بالسر المرهوب . قال : = اسمعي يا سميرة . لعلك تستغربين عودتي الآن ... قالت : = كلا . لقد كنت اتوقع في كل يوم أن تعود ! قال : = نعم هذا صحيح . أتذكرين يوم أن لقيتك بغتة في الطريق بعد الانقطاع ؟ قالت : = لقد كان منظرنا يومها غريباً ! قال : = والآن . باختصار . أريد أن أقول لك : إنني لقيت (( ضياء )) وعلمت منه حقيقة موقفك . قالت وهزت كتفها ساخرة : = ضياء ! ألا تزالان تلتقيان ؟ قال : = لا . لقد قابلته مصادفة ومعه خطيبته ! قالت بنفس اللهجة : = لقد علمت ! قال : = ولقد رأيت حلماً أزعجني فجئت لأستوثق ! قالت : = متشكرة . ولكن لندع هذا الحديث ، فما عاد يجدي بعد الآن . قال في حرارة : = إنك لا تدرين حلمي الرهيب . إنه رهيب حقاً . إنني أكاد أجن ! قالت في دهشة : = وما حلمك ذاك ؟ هنا تلعثم وبدا عليه الاضطراب . بأي حق يواجهها بهذه التهمة الكبيرة ؟ ألمجرد أنه رأى حلما من الأحلام ؟ وأحس في هذه اللحظة أنه ظالم لها ، ونظر فإذا عيناها تطل منهما البراءة ، فعادت إليه ثقته الوثيقة . قال في تلعثم : = على أي حال هبي ما قد حلمت به صحيحاً فإنني مستعد أن أغفر كل شيء . إنني أقبلك على كل وضع من الأوضاع ! .. قالها في صوت عميق النبرات ولم يدر إن كانت فهمت . ولكنها قالت في هدوء : = من الخير أن نبقى هكذا أصدقاء . من الخير لي ولك ، إنني في حاجة لأن أحس أن هناك صديقاً ، وأنت رجل شاعر فلتمض إلى عملك الأدبي كفنان ! قال ، وقد حسب انها تتجمل ولا تنوي ما تقول : = لا يا سيدتي . إن كان الشعر لا ينضجه إلا الحرمان ، فأنا سأطلق هذا الشعر من الآن ! قالت في لهجة جازمة : = كلا يا سامي .. إن عملك الأدبي أدوم وأخلد . إنك لا تزال مخدوعا في قيمتي ، إنني لا أساوي شيئاً ، ولكن لتظل هكذا مخدوعاً من بعيد لتستطيع أن تنشيء شعراً وقصصا . لقد سمعت قصصك الأخيرة في (( الراديو )) وهي قصص مؤثرة وجميلة ، إنك تتحدث فيها عن (( الحورية الهاربة )) فلتتحدث عن هذه الحورية ما استطعت . فلو أنك عرفتها على حقيقتها لما كتبت كلمة واحدة بعد الآن ! وأحس في تعبيرها نضوجا كاملا لم يعهده من قبل . نعم إنها كانت على استعداد لهذا النضوج ، وكانت بوادره تلوح في بعض تصرفاتها وبعض تعبيراتها ، ولكنها كانت أبداً الطفلة المرحة العابثة ، تفتن في وجوه الشيطنة لتغيظه وتحنقه ، ثم تنفجر ضاحكة في اللحظة المناسبة ، حتى سماها (( الطفلة الشقية )) مع ما يبدر منها في بعض الأحيان من بواكير النضج والاستواء . فقال : = أراك يا سميرة تتحدثين بلغة الروايات ، وأخشى ان تخلطي بين الحقائق والخيالات ، هذا الذي تقولينه يصلح للقصص ، ولكنه لا يصلح للحياة ! قالت : = كلا! إنني أعرف الحقيقة وأعيش فيها ، إنما أنت الغارق في الأحلام والخيالات ، وإنه لمن الخير لك ألا تعيش في الحقيقة وأن تبقى هكذا في الأحلام ! وارتفعت في عينه درجات وهي تقول هذه الكلمات الأخيرة ، وزاد حرصه عليها وشغفه بها ، ولم يبال الأشواك والأحلام ! قال : = ولكنني لن أترك كل هذه الثروة تفلت من يدي بعد الآن ! قالت : = يا لك من رجل طيب مخدوع .. لقد غرك البريق ! قال : = فليكن ، ولا بد أن ننتهي إلى قرار ، فقد طال الحديث . وهم ينتظروننا في الحجرة المجاورة . خفضت بصرها ، وألقت بالكلمات كأنها صادرة من بعيد : = اسمع يا أخي ، إنني لا أصلح لك . إن حياتنا لن تستقيم . إنني عارية ، عارية أمامك ، ولن أقف عارية أمام إنسان ! (( عارية ؟ )) قالتها بنفس اللهجة التي سمعها في الحلم ، وانتظر أن تكمل ما قالت ... ولكنها لم تقل شيئاً ، فظل يحدق فيها بشده وهو منصرف إلى صورتها الأخرى في المنام ! قالت : = مالك تنظر إلي هكذا ! قال : = أليس عندك ما تزيدين ؟ قالت : = كلا ! فهذا هو قراري الأخير . قال يغمغم : = والحلم ؟ قالت : = أي حلم تريد ؟ حلمك ! إنك لم تفصح لي عنه بالتفصيل . هنا عاوده اضطرابه ... أيفضي إليها بالحلم الفظيع ؟ قال : = اسمعي يا سميرة ( وضغط يدها بين يديه ) لقد قلت لك إنني على استعداد لأن أغفر كل شيء ، كل شيء ، أيا كان !!! حدقت في عينيه بشدة ، وانفجرت تبكي ! رباه ! ما دلالة هذا البكاء ؟ أهي الحقيقة المفزعة تواجهها فتبكي ؟ أم هي التهمة الأليمة تصيبها فتتلوى ؟ من ذا يعطيه اليقين ويسلبه الحياة ؟ ثم افاقت لتقول : = ألم أقل لك إن حياتنا لن تصلح بعد الآن ؟ قال : = ولم لا تصلح ؟ وماذا جد الآن ؟ قالت : = لا تغالط نفسك ، إنك لن تثق بي مرة أخرى ، لا يخدعنك أنك تشعر في لحظة ما بالتسامح الكبير . إن هذه اللحظة ستزول ، ستزول عندما يضمنا بيت واحد ، وعندما يطلب كلا من صاحبه تبعات الحياة المشتركة ... بربك تصور أنني كنت سائرة معك في الطريق فلقينا ضياء ! ألا تثور في نفسك المعركة من جديد ؟ ألا تتزاحم في خاطرك الصور من جديد ؟ ألا تهجم عليك هواجسك من جديد ؟ أيمكن أن تستقيم بعدها حياة ؟ ......... والأحلام ؟ من ذا يعصمك يا صديقي من هذه الأحلام ؟ ثم ابتسمت وبدا على وجهها حنان الأم للطفل المخدوع ! وقال هو في ذهول : = وأنت .. ما خط سيرك في الحياة قالت : = سأعيش راهبة . قال : = هذا يخيفني من أجلك قالت : = اطمئن إذن .. فسأقبل أول طارق من عرض الطريق دون سؤال أو استفهام ! وأحس بأن الموقف قد انتهى ، وأنه لا سبيل إلى زيادة كلمة واحدة . قالت وهي تنهض وتشدّ يده : = لنكن أصدقاء ! فأجاب في صوت خافت : = وهو كذلك . فلنكن أصدقاء ! [CENTER]أحلام كان يقول لها – أيام كانا يلقيان – إنني أستطيع أن أشم رائحتك وأميزها من بين ألف فتاة في الظلام ! وكان هذا يسرها ويستخفها ، فتحاول أن تخفي سرورها وخفتها بالتهكم وبالدعابة ، فتقول : (( إن حاسة الشم قوية جداً عند بعض المخلوقات )) فيضربها على يدها ويتضاحكان . [CENTER]*** [/CENTER] ولم يدر في ذات يوم – وهو يسير في شارع سليمان باشا نحو شارع فؤاد – ما الذي جعل هذه الذكرى تقفز إلى خاطره بعد اعوام .. ولكنه يدري أنه اندفع على الأثر يشق زحام الخارجين من السينما القريبة وهو يفتش في الزحام عن شيء لا يتبينه في ذهنه على وجه التحقيق .. ثم كانت المفاجأة عندما استدار احد هذه الوجوه ، وحين نظرت إليه – كما نظر إليها – وفمها مفغور وحدقتاها متسعتان ، وهي تقول في دهشة : = اوه .. أهذا أنت يا سامي ! قال في ابتسامة بلهاء : = نعم أنا ! ومدت إليه يدها في اندفاع وصافحته بحرارة ، وهو مستسلم لا يكاد يحرك أصابعه ، وحانت منها التفاتة خاطفة إلى أصابعه في كفها فراحت تقول : = ألا تزال وحيداً كما أنت ؟ قال : = هذا لا يهم على كل حال .. وأنت ؟ ثم التفت إلى الطفل الصغير الذي يمسك بطرف ثوبها وينط وهو يسير بخطوات قافزة صغيرة ، وقال : = أهذا ابنك ؟ قالت : = نعم ! وقبل أن تنطق لفظتها كان قد انحنى على الطفل فرفعه بين يديه وتفرس في وجهه ، ثم أهوى عليه بقبلة في أنس وألفة ، وفي حنان ولهفة .. إنه يعرف هذا الوجه ، يعرفه جيدا ، وإن لم يكن رآه قبل الآن وتابع حديثه معها : = أهو وحيد ؟ قالت : = نعم لم يأت سواه وما اسمه ؟ قالت : ( سمير ) كاد يصيح من الدهشة ولكنه تماسك ، وتظاهر بالسكون ورددت شفتاه في شبه همس : = سمير ؟ غريبة ! قالت : = أليس هو هذا اسمك المختار قال : = أي نعم ، ولكن .... ثم نظر إليها فإذا هي تنكس بصرها ، وتبدو في عينيها ظلال معركة ، فماتت على شفتيه الكلمات ، ومد يده فأخذ بيد الطفل الأخرى .. وساروا ثلاثتهم ، لا يشك أحد ممن يراهم في أنهم طفل ووالدان . [CENTER]***[/CENTER] كان قد جرب مرة ومرة – في أيام الفراغ – أن بعض الوجوه تلفته إليها . ثم كشف مرة أن في كل وجه يلفته شبها قريبا أو بعيدا بالوجه الخالد في ضميره ، فعرف سر هذا الالتفات ! وكان قد استيقظ لنفسه وميوله ، فعرف أنه يحب من الألوان ما رآه يوما عليها ، ويحب من السمات ما يقرب من سماتها ، ويحب من الطرقات ما سارت مرة فيه ، ويحب من الأماكن ما التقيا مرة هناك ، فآمن أنه مقيد مقود ، وأنه لا يستطيع أن يتجه إلى وجه جديد . ولم يحاول في أول الأمر أن يعرف من اخبارها شيئاً ، فاللقاء الأخير كان ينذر بالنهاية الأخيرة . وكان يرى في اهتمامه بها بعد ذلك نوعا من الضعف يستكبر عليه ولا يرضاه . ثم انقضت فترة أخرى ، فانقلب هذا الشعور ، وبات ملهوفا على خبر من أخبارها ، أو أثر من آثارها ، وكم مرة بعد مرة دافعته يده إلى القلم ليكتب إليها أو لأحد من أهلها . ولكنه كان يمسك نفسه من تلبيه هذا الخطر الداهم حتى يثوب إليه هدوؤه ، وحتى تذهب عنه سورته ، فبسكن إلى أن يعتاده هذا الخاطر بعد أيام . ثم انقضت هذه الفترة أيضاً . وعاد لا يريد أن يعلم من أخبارها شيئاً ، لا لأنه لا يريد أن يعلم ، ولا لأنه يستكبر على أن يعلم ، ولكن لأنه يشفق من شيء يتوقعه . ولا يتصور كيف يكون وقعه على نفسه إذا كان ! وكان له في كل يوم لقاء معها ، ولكن في الخيال ، وحوار يدور بينهما ، ولكن في الخيال . وكثيرا ما استيقظ لنفسه ، وهو يبسم أو يتجهم ، ويشير بيديه وقسماته ، بينما هو منفرد في البيت أو في الطريق ! كان يحس أنها له وحده ، ولا يمكن أن تكون لأحد سواه . وكان يشعر أنها اعطته وحده مالا تستطيع أن تعطيه أحدا سواه . وكان يتصور أنه ترك عليها ظله فلم تعد تصلح لأحد سواه . وكان يعتقد أنها ملكه وحده ، ولو لم يكونا رفيقي حياة , لقد بنى في أحلامه عشها المنتظر ، ولقد مضى بخياله يطوي الأيام ، ولقد عاش في هذه الأحلام عيشة الواقع ، واستغرق في هذا الخيال حتى لم يعد يفرق بينه وبين الحقيقة ! وما الفرق بين الخيال والواقع ، إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن ، ويترك آثاره في النفس والحياة ؟ وما الفرق بين الحلم والحقيقة ، وكلاهما طيف عابر ، يلقي ظله على النفس ثم يختفي منه من عالم الحس بعد لحظات ؟ على أية حال ، لقد عاش أحلامه ، وجسم خياله ، فكانت هذه المخلوقة رفيقة حياته ، ومعها عاش في العش الدافئ ، ومنها بلا شك كان له طفل ! طفل وحيد .... فما كان يتصور أن تلد له أكثر من طفل واسمه (( سمير )) ، فما كان يتصور أن يكون اسمه غير سمير . وهو طفل من لحم ودم ، حدثها عن شكله وسمته ، فهو طفل معروف السحنة واضح السمات ! هو سمير .. هذا بعينه الذي يراه الآن ! [CENTER]***[/CENTER] مر هذا الشريط كله في ذهنه ، وهما يدلفان إلى محطة الترام ، في غير انتباه . وجاء الترام ، فصعدت إليه في حركة آلية ، وهو يساعدها ، ويُصعد إليها (( سمير )) وعندما تحرك الترام أدركته صحوة مفاجئة ، ونظر فإذا هي كذلك تلوح له بمنديلها ، ثم تجفف به قطرات من الدموع ! وفيما يشبه الذهول وجد نفسه يعدو خلف الترام .. ثم ثقف فجأة كأنما سمر في مكانه : = ماذا ؟ إلى أين ؟ إنها ليست لك الآن ! إنها ذاهبة إلى هناك ! وأحس بالدوار .. ولكنه أفاق : = سمير ؟ غريبة ! ... أليس هذا هو اسمك المختار ؟ = كلا ! إنها لك . لك أنت وحدك برغم كل ما كان . لقد ألقيت عليها ظلك ، لقد طبعتها بطابعك ، لقد وسمت طفلها باسمك الذي اخترته ، إنها لك ، ولن تصلح لحد سواك ! = أحلام ! = أحلام ؟ وما الفرق بين الحلم والحقيقة إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن ويترك آثاره في النفس والحياة ؟ = خيالات ! = خيالات ! وما الفرق بين الخيال والواقع ، وكلاهما طيف عابر يلقي ظله على النفس ثم يختفي من عالم الحس بعد لحظات ؟ ............. . عن " أشواك " - قارع الأجراس - 04-05-2006 [CENTER]تمت شكر خاص للزميل أشواك الذي نقل هذه الرواية إلى الشبكة(f) عن " أشواك " - العاقل - 04-08-2006 وألف شكر لك انت عنوان الرواية : أشواك المؤلف : سيد قطـب دار النشر : دار سعد * لم تُطبع إلا مرة واحده فقط عام 1947 .. تحوي 148 صفحة .. مقسمة إلى ثلاثة عشر فصلا .. وذات حجم متوسّط . |