حدثت التحذيرات التالية: | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5) +--- المنتدى: لغـــــــة وأدب (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=78) +---- المنتدى: محمود درويش (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=23) +---- الموضوع: هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" (/showthread.php?tid=3174) |
هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-23-2009 لماذا أرى الطاووس العجوز يدبُ على عصا من عاج مدججاً بمسدسين مترعاً بالزهور،ثملاً بالهجاء،مفتوناً ببصاق مُتَّوج؟ لماذا أرى الطاووس العجوز سارق الريش الملون، يرشني بابتسامة حاقنة،ويغمد خنجرا في نخاعي؟؟ً لماذا أرى الطاووس العجوز،يريم عليَّ رائحة العرق والعرق ويحاول أن يُقبِّل حذائي،ليدس لي قبرا تحت الحذاء؟ لماذا أرى الطاووس العجوز،يشرئِّبُّ على المعقد والجدار، ليطلُّ على قلبي ويسرق حزن الليمون،ويهرِّبه الى قبطان سفينة لاتصل،ظنها سفينة نوح ولم تصل؟ لماذا أرى الطاووس العجوز،مزداناً بنعل حصان قتيل ظنًّها وسام شرف؟ لماذا ارى الطاوووس مدججا بمسدسين: واحدِ لقتلي وواحد لقفاه الجَشِع؟ لماذا ارى الطاووس العجوز؟ لماذا ارى الطاووس؟ لماذا أرى؟ لماذا؟ هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-23-2009 هنا أقف وأكمل مساء لأن التعب أنهكني ولاأستطيع المتابعة وبصراحة جمال النص"ذاكرة للنسيان"بالآخر يتبع.................................. هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-26-2009 إحترقَ المكتب،قذيفة بحرية جعلته مخزناً للفحم إحترق المكتب قبل وصولنا بساعات.أين نجد مكاناًآخر لنتابع الثرثرة، مهمتنا الخالدة في الحرب وفي الهدنة هي الثرثرة أين نتابعها:نخرج،أم لا نخرج؟ فقد حسب المثقفون المنصهرون في ورشة الصمود الرائعة انصهاراً مدهشاً أن هذا السؤال هو سؤالهم. وحسبوا أن لهم حقِّ الفيتو على القرار السياسي. وكان بعضهم يعتقد أن نشرة"المعركة"هي التي ستحدد مصير المعركة. وقرروا أن هذا المنبر الشجاع هو الذي سيشهد للتاريخ أن المثقفين هم الذين يقودون انعطاف التاريخ.ماأجملهم!ما أجملهم! الساعة الحادية عشرة وعشرون ألف قذيفة وثلاثون ثانية، خرجنا من المكتب المُحترِق الى فضضاء مشتعل. السماء تعانق الأرض عناقاً دخانياً،ـ تتدلى مُثقَلة بالرصاص المصهور، برمادي داكن لا يفتح انغلاقه العدمي سوى لون برتقالي تَبُولُه الطائرات الفضية المائلة الى البياض الوهج. طائرات خفيفة رشيقة تثب على هواء آمن كأن فيه أخاديد. ................................. قال"ز"هيا بنا.قلت:الى أين؟قال:نبحث عن أي شيئ عن غداء مثلاً،ما الحالة؟زفت. شروط الخروج مذلة،ونحن نناور،ونحاول أن نشتري الوقت بأي ثمن؟ بأي ثمن..بمدافع مضادة للطائرات نفدت ذخيرتها، ببطولة شباب حيَّروا العلَم العسكري وحيروا الجنون.إلى متى؟ الى أن يحدث شيئ ما لن يحدث. لم يحدث تغيير.مازلنا وحدنا.هل سيدخلون بيروت؟ لن يدخلوا بيروت،سيتكبدون خسائر لا يتحملون نتائجها. ولكنهم يحاولون قضم أطراف المدينة، حاولوا عند المتحف وفشلوا. معنويات الشباب عالية،عالية جداً. إنهم أشباه شياطين، يائسون من النجدة يائسون من تحرُّك العالم العربي يائسون من التوازن الاستراتيجي، ولذلك كله يُقاتلون بجنون. هل يبلغهم حديث الخروج؟ نعم يبلغهم ولا يصدقون.يقولون:تلك مناورة،ويقاتِلون ،ويعرفون أن هذا الصمت الذي يتوِّج العالم يعطيهم منصَّة الكلام. دمهم وحدهم هو الذي يتكلم في هذا الزمن. وماذا ستكتب في المعركة أمام حديث المفاوضات والخروج؟ ندعو الى القتال والصمود، ندعوا الى القتال والصمود: بيروت من الخارج: محاصرةبالدبابات الاسرائيلية وبالشلل العربي الرسمي بيروت غارقة في الظلام والابتزاز.بيروت تعطش. ولكن بيروت الداخل، بيروت من الداخل تُعِدُّ حقيقتها الأخرى، تمتلك ارادتها وترفع بنادقها لتحافظ على إشراقة معانيها:عاصمة الأمل العربي. بشعار إنقاذ بيروت الجهنمي السلس القاتل كالسم الناعم، يُراد لهذا الأمل أن ينتحر في مسادة عربية منقولة عن الذاهبين الى انتحارهم في أوج انتصارهم. واللفظ الوحيد الذي يضعه مبتكرو لفظة"إنقاذ"هو: الاستسلام،تاريخ من المعاني المُسقيَّة بالدم استسلام كامل الغضب استسلام كل السلاح.استسلام بلا تكاليف. ولكن هل يعرف خبراء صناعة الإبتزاز ما معنى هذا اليأس ؟ ما نتاج هذا اليأس؟ لا نقول إبتزازامضاداً، ولا نُهدّد بسقوط الهيكل علينا وعلى أعدائنا وعلى حلفائنا. ولكننا نَشهر: حريتنا الوحيدة وشرطنا الوحيدعلى مائدة المفاوضات:أن تُقاتل. ..................................... بيروت ليست رهينة،ونحن خلف متاريسنا لانُرهن حياتنا لغير المستقبل، ولتَجدُّد دورة الأيام كلها. إذ لا خيار لنا إلا الإحتفاظ بشرط حياتنا الحاضر:السلاح. السلاح الذي يعني تجريدنا منه تجريدنا من أداة الوجود، ومن حماية شعلة أوقدناها بغابة من أشجار دمائنا، ومن الاستمرار في إيقاظ القارة العربية النائمة تحت قمع الأنظمة. إن صمودنا في قلعة بيروت غير القابلة للتدمير هو الأداة الوحيدة لتحريك العملاق العربي المتمدِّد ما بين شاطئي محيطين. وهو الأفق الوحيد المطلُّ من: فوهة بندقية ومن ثقب جزمة مقاتل ومن جرح يضيئ هذا العصر الأسود. هكذا..هكذا نفك الحصار عن بيروت وعن غضب الملايين.. وهكذا تكون صورة بيروت من الداخل نقيض صورة بيروت من الخارج... وهكذا كنَّا نكتب،فماذا نكتب الآن؟ قال"ز"بلا تردد:الكلام إياه. وماهو رأي الناس،أهل بيروت؟ قال:مع الصمود، قلت:مع الصمود حتى الخروج...هل تستطيع أن تتجاهل ذلك؟ قال:لا نستطيع ان نتجاهل ذلك.ولكن ما العمل؟ما العمل؟ هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-26-2009 صوت يشذ عن المألوف،لا لأنه أقوى،بل لأنه مختلف وبعيد. صوت يسرق المكان ويهرول. صوت يقصُّ الفضاء ويُحدِث تجويفا في الضوء. هيَّا بنا..لم نعبر طريق الروشة منذ أيام. شارع عريض مهجور يتوسَّع في غياب الخطى، كأنه ملكية خاصة للبحر. بنايات تدخن.نار تهبط من أعلى إلى أسفل حريق مقلوب.نوافذ تشيخ وتتساقط على مهل. وتصل إلينا استغاثات الطوابق العليا واضحة جارحة. ناس تحاصرهم النار والإنهيارات التدريجية الخارجة من هول الصدمة الاولى. رجال الاسعاف المدني كانوا هناك، يحاولون إنقاذاللحم البشري المعجون بالحديد والاسمنت والزجاج ولاأستطيع ان أشيح بوجهي عن مشهد المكان المجروح، للدم على الأرض وعلى الجدران جاذبيَّة الوحشية. لا استطيع ان أنصرف ولاأستطيع أن أخمد إحساس العجز. الزحام شديد.يدعونا رجال الدفاع المدني الى الإنصراف لأننا نعرقل مهمتهم. ولأن الطائرالت ستعود لقصف هذا الحشد الشهيّ بلَّل وجهي ماء ساخن يبعثه إحتقان الغيظ، شدَّني صاحبي من ذراعي:هيا بنا،هيا بنا. أغاروا من جديد.من جديد أغاروا.ماهذا اليوم؟ هل هوأطول يوم في التاريخ؟ نظرات الى البناية المقابلة، نظرت الى مكتبي نظرة الوداع الأخير. ................................... موجة من بحر كنتُ أتابعها من هذه الشرفة وهي تنكسر على صخرة الروشة الشهيرة بانتحار العاشق.. موجة من بحر تحملُ بعض الرسائل الأخيرة، وتعود الى الشمال الغربي الأزرق،والجنوب الغربي اللازوردي، ترجع الى شواطئهاوقد طرَّزت انكساراتها بالقطن الأبيض.. موجة من بحر..أعرفها ألاحقها بشجن وأراها وهي تتعب قبل بلوغ حيفا أو الأندلس تتعب فترتاح على شواطئ جزيرة قبرص. موجة من بحر لن تكون أنا وأنا لن أكون موجة من بحر... ................................ كم أحببت هذا المكان المُهدَّد بالتلاشي منذ البداية، ماذا نُهديك؟نباتاًووردودا.زهوراً ونباتات. حولْتُه الى مايشبه العش. أردت له أن يكون نصَّاً من نصوص المجلة. حروف بُنيّة على ورق أصفر ويطلُّ على بحر. أردت له أن يكون مزهرية ثابتة على صهوة جواد جامح. أردت له شبها بالقصيدة. ولكن لا نكاد نُعلِّق لوحة حتى تنفجر سيارة مفخخة تحت، وتتطيح بكل ترتيب. وما كدتُ أسند رأسي على مرفق يدي اليسرى،في إنتظار فنجان القهوة حتى وجدت نفسي خارج المكتب. لقد رفعني دوي الانفجار،كما أنا بقلم الحبر والسيجارة ووضعني سالما أمام المصعد. وجدت وردة على قميصي.وبعد دقيقة حاولت العودة الى المكتب الذي إختفى بابه وتحوّل الى ساحة من زجاج مكسور وورق متطاير فتصدَّى لي الانفجار الثاني ليبقيني متجمدا قرب المصعد. ردَّ الحارس على الانفجار بطلقات من مسدسه.ماذا تفعل؟قلت. قال:أُطلق النار. قلت:علامَ تطلق الناروفي أي إتجاه؟. لعلَّ أحداً لم يسأله هذا السؤال من قبل، لذلك استهجنه،فهكذا يحدث دائماً. ردُّ الفعل الفوري والتلقائي وربما الغريزي على أي حدث أو إحساس عنيف أو خبر أو إصابة كروية هو:إطلاق النار. مجزرة جديدة على الروشة:عشرون قتيلاً آخر من هذه الحُمّى الجديدة حمّى السيارات المخخة التي أتقن الموساد صناعها مع عملائه المحليين. لقد مهدت هذه السيارة لعملية الغزو مهدت الأرض النفسية لتحويل هذا الحصار الى حادث طبيعي أحصنة طروادة معاصرة تصهل في الوعي:لاأمن ولاأمان في بيروت الغربية. وكل سيارة واقفة على رصيف هي وعد بالموت...فليدخل البرابرة!! موجة من بحر في يدي.تتسرب وتفلت تناور حول صخرة صدري ثم تقترب وتستسلم ،تستعين، لئلا تعود الى طبيعتها،بِشَعر الصدر حَرُ ورطوبة، موجة كالقطة تقضم تفّاحة.ثم تقبّلني بطيش العابث: يحق لي أن أحبك.يحق لك ان تحبني.ليس الحب حقاً،يا قطة وأنا الآن في تمام الأربعين.. تنزوي في ركن:وأنا نصف قمرِ أنثوي يتبع ذكراً.حَرُ ورطوبة. ولكن الجسد الصغير مُكيّف"دافئ في الشتاء.طريُّ في الصيف جسد طازج كشاطئ بحر جديد لم تلمس الحيوانات الصغيرة طحلبه بعد، ينزلق ويبتعد.يحترق ويقترب.وتفصلني عنه رائحة الحليب. لما لا نُعلِّق آب على كرسي ؟لما لا نسبح في بياض النوم؟ ونُغّطي عينين لامعتين ليلاً.لأنك صغيرة. تزأر:لست صغيرة.أنا نصف قمر أنثوي يتبع ذكراً!! يتبع رائحة الهال. ألا تحق لي السباحة؟ولكن،هذا البياض ليس بحراً، تغضب وتقضم تفاحة وأظافر يدها. أجمع الشفتين بإصبعي لتكبرا قليلاً...لتصيرا قُبلة هاأنت تحبني..إعترف أنك تحبني.قل لي إنك تحبني. فلماذا لاتشرب ملحي؟لأن العطش يكسر أناقة روحي.تغضب تعود الى الركن. تقرفص في الركن:لاأريد الشِعر..لاأحبه أريد الجسد..أريد قطعة من الجسد..جبان!! جبان من أجلِك لا من أجلي.ماشأنك أنت بما هو لي. أنا حرة ما أملك.تقف.تقترب. يُخشوشن مواؤها:أعطني شيئا ألعب به.. أعطني لعبة..أية لعبة... قطا صغيراً متونِّراً مشدوداً أمرِّر عليه يدي برفق الى أن يسيل لعابه على صدري... كانت الموجة توشك أن تغرق لولا انفجاؤ عنيف هزّ صخور البحر، فطارت الموجة الى الطريق.. وطرت أنا الى السرير. منذ ساعة،لم أتبادل الكلام مع صاحبي"ز". يقود سيارته بلا هدف:أين أنت؟يسأل كلانا الآخر. قلت:أنا أعرف أين كنت.قل الحقيقة أما كنت تفعل أمراً مشيناً مع زوجة الطيار؟ اندهشَ:كيف عرفت؟قلت:لأنني عائداً من أمر مشابه لهذا عرفت الى أين يأخذنا الموت.. قال:آن لنا أن نأكل.قلت:السردين مرة أخرى؟ قال:أي شيئ،لم يكن هذا ال"أي شيئ"أي شيئ. فجأة أوقف سيارته وصاح:خروف مذبوح. كنا في أول شارع الكومودور القادم من الروشة. عرفنا البائع.لم يكن جزارّاً.كان صانع جنازات. يلتصق بأي قائد في أية جنازة ليظهَر في المشهد والصورة. قلت:كم في ظاهرتنا من مفارقات. ومن حسن حظّي أني لست كاتبا مسرحيا لئلا أكتب عن الجانب الآخر للصورة. هل تعرف أن عين الكاتب سلبية،كما أن أذن القائد سلبية. تفتنهما المفارقة الجارحة هنا والنميمة هناك. لقد شاعت النميمة في حياتنا بشكل مدمر، وكانت مصاحبة لظاهرة التضخم الذاتي، لتمدُّد الجسد وانكماش السؤال. فُتحت مكاتب بأكملها مكيفة الهواء صالونات للنميمة وبثِّ الشائعات. وازدهرت تجارة الشهداء عند بعض التنظيمات الصغيرة: مازلنا في حاجة الى عشرين شهيد لنملأ القائمة، وصراع مسلح على شهيد مجهول التنظيم. وإعدام مقاتل رفض اطلاق الرصاص على صديق له ينتمي الى تنظيم آخر، فألقوا بجثته في بئر مهجورة الى أن عثرت عليها العرَّافة..و... ....................................... قاطعَني"ز"سأريك الليلة لعبة الكاميرا والظل..قلت لاأريد قال:أين سنأكل.نحتاج الى فحم والى بناية شبه آمنة. دُهِشنا حين رأينا السماء زرقاء صافية لاتعكرها أية طائرة. منذ دقيقة لم تمر الطائرات..تعبوا؟. امتلأت الشقة الآمنة في البناية شبه الآمنة في ساقية الجنزير بالأصدقاء الجياع. خرج الناس من الملاجئ ،لا طائرات..لاطائرات. قال أحدهم:أين كُتُبُ باختين؟ رد آخر:لقد حملها الناقد وهو ساكن الشقة ورحل. حاول البعض أن يُشّهِّر. قال آخر:كفى فنحن بحاجة الى فلسطيني حيّ يهتم بالماركسية وعلم اللغة، إعتَبروا ذلك فاتحة نميمة وتأهبوا.لكن عاصفة من الطائرات هبَّت علينا لتنقذ الناقد الغائب وترمينا الى الشارع. وهذا الصوت لا نعرفه من قبل،خفيض،بعيد،عميق،سري، كأنه صاعد من جوف الأرض،كأنه صوت القيامة المهيب. شعَرْنا جميعا وقد صرنا خبراء في علم الأصوات القاتلة بأن شيئا غير عادي في هذه الحرب غير العادية قد حدث. وبأن سلاحا جديداً قد جُرِّب. متى ينتهي هذا اليوم الطويل؟ متى ينتهي لنعرف إذا كنّا أحياء أم موتى!! قال الحامل فخذ الخروف:ماذا نفعل بفخذ الخروف؟ تجاهلنا سؤاله الجشع.لكنه ألحّّ بالسؤال السخيف، ونحن مشغولون بالعثور على ما يلُّم أشلاءنا.. ألح حتى قلتُ له:خذ هذه اللحمة الى أقرب ملجأ، إثقبها وانكحها،وخلصنا منها ومنك!! هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-26-2009 لكن ذلك الصوت البعيد حرَّك فينا قلق الغابات الاولى السحيقة. مشيت أنا و"ز"وراء مخاوفنا. كانت حديقة الصنايع تشهد أحد مظاهر يوم الحشر. مئات الخائفين يحيطون بتابوت حجري ضخم. الوجود يحمل ثقل المعادن تحت شمس محجبة بجميع ألوان الرماد. نندس بين الحشود لنجد مكانا للتطلُّع خلف الأكتاف المتزاحمة، خلف السياج البشري المشدود على خوف وغضب، فنرى: بناية اقلعها قاع الأرض اختطفتها أيدي الوحش الكوني المتربص بالعالم الذي ينشئه الانسان على أرض لا تطلُّ إلا على شمس وقمر وهاوية.. ليوقعه في حفرة لا قاع لها، حفرة ندرك أننا نتعلم المشي والقراءة واستعمال اليد، إلاّ لنصل الى نهاية ننساها،ننساها لنتابع البحث عن مبرر لهذه الملهاة، نكسر خيط العلاقة بين البداية والنهاية،لنتوهم أننا استثناء الحقيقة الواحدة ماإسم هذا الشيئ؟ قنبلة فراغية، تحفر ما تحت الهدف فراغاً هائلاً يُجرِّد الهدف من قاعدة يجلس عليها، فيمتصه الفراغ ويحوله الى مقبة مدفونة ،بلا تعديل ولا تغيير. وهناك تحت في الحيِّز الجديد يواصل الشكل الاحتفاظ بشكله. ويواصل سكان البناية الاحتفاظ بهيئاتهم السابقة. وبآخر أشكال حركتهم المختنقة هناك تحت،تحت ماكان تحتهم قبل ثانية يتحولون الى منحوتات من لحم. ولكن لا حياة فيه حتى للوداع: فمَن كان نائما يظل نائما. ومَن كان يجمل طبق القهوة يظلّ حاملا لطبق القهوة. ومن كان يفتح النافذةظلَّ يفتح النافذة. ومَن كان يرضع من ثدي أمه ظل يرضع من ثدي أمه. ومن كان نائما على زوجته ظل نائما على زوجته... ولكن الذي كان واقفا على سطح البناية بالمصادفة استطاع أن ينفض الغبار عن ثيابه وأن يهبط الى الشارع من غير حاجة الى استعمال المصعد فقدسُويّت البناية بمستوى سطح الأرض. لذلك بقيت العصافير حيَّةً في أقفاصها الجالسة على السطح. ..................................... لماذا فعلوا ذلك؟القائد كان هنا وغادر منذ قليل.. هل غادر حقا؟لقد نقله سؤالنا الخائف من أب الى إبن.. ولم نجد وقتاً لمحاكمة السؤال:وماذا لو كان هنا، فهل يبرِّر ذلك لهم إبادة مائة انسان؟ كان سؤال آخر يشغلنا: هل نجا القائد من محاولة اغتياله بالطائرات وبأحدث سلاح"القنبلة الفراغية"؟. كان أمس يلعب الشطرنج أمام الكاميرا الأمريكية ليدفع بيغن الى مزيد من الجنون، وليحرمه من لياقة الشتيمة السياسية واستبداله بالشتيمة الانسانية "هؤلاءالفلسطينيين ليسوا بشراً.إنهم حيوانات تدبُّ على أربع" كان عليه ان يُجرَّدنا من الصفة الانسانية ليبرر قتلنا، فإن قتل الحيوانات إذا لم تكن كلابا ليس محرم في الشريعة الغربية. كان بيغن يستعيد تاريخ جنونه وجرائمه، فقد ظنَّ أن جنوده صيادي الحيوانات يقومون بنزهة صيد، فأُلقيَت في وجهه مئات التوابت المرفوعة على آلاف صراخ: الى متى؟ولسنا بشراً لأننا لم نسمح له بدخول عاصمة عربية. وهو لايستطيع أن يصدق أن البشر هم الذين يحولون دون تحوُّل الخرافة الى محكمة مطلقة لمحاكمة كل القيم وكل البشر في كل زمان وكل مكان، محكمة أبدية وطلقة،الى طبيعة حيوانية ، بعدما أغلقت عليه خرافتهُ جميع منافذ سؤال ممكن:مَن الحيوان؟ لقد انقضت على أحلامه وعلى حلم يقظته أشباحُ من أبادهم في دير ياسين وغيَّبهم عن المكان والزمان، غيَّبهم ليشترط حضوره في المكان والزمان بذلك الغياب. ولكن تلك الأشباح تحاصره في بيروت وقد استعادت لحمها وعظمها وروحها استعادة بطولية. عاد الشبح من الضحية الى الظل. وبين الشبح والبطل حوصر نبي الكذب بهوس أقعده عن الاستعانة بفصول من التوراة كانت قادرة على أن تكتب وحدها تاريخ البشر ................................... وكان القائد يلعب الشطرنج. لقد أحسن التلاعب بأعصاب بيغن المُتدلية كأسلاك الكهرباء على مزبلة من الأوزاعي. كان الرجل المُحاصَر في بيروت يحاصرعلى رقعة الشطرنج مالايُفصَح عنه. كان يحاصر في قرائتنا الخاصة أكثر من ملك وقف خارج اللعبة ويحاصِر أكثر من رقعة. كان يخاطب الكناية ويؤجل خُطب التأبين المليئة بالدموع الملكية والجمهورية والجماهيرية المعدة منذ شهر، منذ طمأن التقدم الاسرائلي خطباءنا الرسميين الى مسافة الغزو المُقترَح المبارك بصمت جليل.لحماية أمن الجليل من مدى الشوق المسلح الذي يحميه أبناء الجليل الى أرض الجليل هل كان هنا منذ قليل؟ هل خرج من هنا؟ رأيت أحد مرافقيه الذين لايكذبون عليّ أبدا فازددت قلقا،همس في أذني إنه ليس هنا لقد غادر المكان وأضاف وعليك أيضا أن تغادر فورا، فهذا الزحام يُغري صيّادي الجو بغارة أخرى كان هذا الشاب هو الذي عثر عليّ قبل أيام في أحد المكاتب وهمس في أذني:تعال معي! فهمت الاشارة ولم أسال الى أين أنا ذاهب توقعت كل شيئ إلا أن أجد نفسي وجها لوجه أمام الرجل ذي الملامح الألمانية جالساً مع القائد. ......................................... قال لي:هل تتذكرني؟..أنا أوري.غضِبتُ. ولكنني قلت مازحاً:ماذا...هل دخلتم بيروت،أم وقعتُ في الأسر؟ قال:لا هذا ولا ذاك،جئت من الأشرفية لأُجري مقابلة صحفية مع السيد عرفات. غضبت أكثر ولم أُعلِّق. بيروت مليئة بمندوبي كل الصحف العالمية. أمِنَ الضروري أن يجري هذا الحوار مع هذا الصحفي في هذا الوقت؟ لكل مقام مقال.وهذا المقام ليس لهذا المقال. ولكن لعرفات نظرة أخرى الى الإعلان. فربما أراد أن يوصل رسالة مباشرة؟ ربما أراد أن يُمرِّغ بيغن في مزيد من الجنون. كان أبو عمار أهدأ من الرسالة التي أراد إبلاغها للرأي العام الاسرائيلي المضطرب. حين سأله الصحفي الى أين ستخرج حين يخرج من بيروت؟ أجاب ياسر بلا تردد:سأذهب الى بلادي، سأذهب الى القدس. لم أتأثر بهذه اللغة بقدر ما تأثّر بها الاسرائيلي واغرورقت عيناه بدموع الخجل. وأضاف أبو عمار:لمَ لا؟لمَ لاأذهب الى بلادي؟ لماذا يحق لك أن تذهب الى بلادي ولايحق لي الى بلادي؟ ساد صمت وانقطع الحوار. ازدادت المصورة ومساعِدَة الصحفي تحديقاً الى وجه العدو الاسطوري. سألتني إحداهما:أين كوفيته الشهيرة؟قلت لها:في كل مكان. ولكنه يرتدي القبعة العسكرية لأنه يحارب. ازدادت التصاقاً به فقلت لها:هل أعجبكي الرجل؟إنه عازب. قالت:أعجبني كثيراً.. أما أنا فلم تعجبني المقابلة،ولاخِفَّة صاحب الشقة الذي زوجّ بأفراد عائلته في عدسة الكاميرا الاسرائيلية لا لشيئ..إلا ليُري أهله هناك صورة سعادته هنا!! قلت لنفسي:من واجبنا أن نعرف لمن نشتاق : للبلاد أم لصورتنا خارج البلاد أم لصورة شوقنا للبلاد داخل البلاد!! أين"س"ديك الحي الفصيح؟عاشق المسدسات واللغة واللحم المُعلَن. لم أره منذ يومين.هل وجد طعاماوماء؟كان هذا هاجسي. ومنذ تبنّيّته كان نادرا ما يتكلم معي حين نكون وحيدين ، فلعلَّه صدّق أني أبوه . ترك الحي الذي كان يسكنه قبل الحصار وجاء الى هنا ليقيم مع شاب لبناني سيرياني الأصل. أين السيرياني وأين الكردي؟تصادقا منذ اليوم الأول للحصار. أحدهما متوّتِّر كعضلة وثانيهما بارد كقمر. كان"س"يبحث عن"ج"وكان"ج"يبحث عن إختفاء يوحي بأنه شهيد. وحين يلتقيان يشتم أحدهما الآخر،ثم يخرجان الى شوارع الحمراء. مدججَين بكامل السلاح والإمتلاء، كأنهما يحرسان الهواء من الإختراق ومن ثورة مضادة. أحببتُ"س"منذ التقيته من سنين، مُستنفرا ضد مجهول،يخجل من الكلام ولا يتدخل فيه إلا ليتوتر. حاسم صارم لا يساوم على شيئ أو رأي. لايقول إلا للورق الموضوع على وسادة مافيه من عالم عجائبي،فنتازي،مُترَع بالفصاحة. ولاأعرف حتى الآن متى يبدأ فيه الروائي السارد ومتى ينتهي الشاعر. صفعَ الحياة الثقافية البيروتية بانفجار مفاجئ. ولكنه يدافع عن كتابته بقبضته وشراسته، لأنه لايؤمن بالحوار بين المثقفين ويعتبره ثرثرة. يأخذ مسدسه وعضلاته المزهوة ويذهب الى المقهى المناسب ليتربص بصغار النقاد في الصفحات الثقافية ويؤدبهم على ما كتبوه ضده. قلت له ذات مرة: هكذا كان يفعل ماياكوفسكي بنقّاده في شارع غوركي. قال:هذا هوحد نقد النقد الوحيد. كان"س"مبتهجا بالحرب،ففيها يتجلّى مكبوت عنفه ويحالف الفوضى. فيها يُطلق أعنّة جياده ويشهر حوافر نشيد لا غبار حوله سوى الرصاص. وفيها يعود الى عصور الجبال البعيدة،والى نايات ترقِّص البعيد، والى الفرسان وقرقعةالخيلاء،وبهاء الفتوة الأولى، .................................... وباختصار:فيها يجد ميدان الرياح التي تمتشقه سيفا طازجا مع أعداء مرّوا. ولا يفهم..لايفهم...أبدا لماذا يكتب الكتّاب في الحرب. مَن يأبه بهم في لحظة القوة؟ يضرب على مسدسه ويتوعّد:سننتصر..سَنُعفِّر أنوفهم في التراب. لم يكن يعرف إن كان سينتصر حقا أم لا. فهو وَلد المعارك الخاسرة،وَلَدٌ ضد الحساب. مايهمه هو التحدي والمبارزة. كان"س"يقف في منطقة وسطى بين دون كيشوت وسانشو، يحيل الأعداء الى نماذج في متناول اليد. يمتلئ حماسة فيتكوّر ويستطيل ويتوتر ويضرب أي شيئ ثم يسلِّط على نفسه حكمة"ج"المتروي،الباحث عن الفلسفة في الشعر والمعادي للغنائية. ووجد"س"(ذات الجمال المنقطع النظير)في غياب الماء واللحم والنساء. احذر يا"س"فهي من صناعة جدك دون كيشوت، من سلالة السحالي التي تظهر في القيظ والهجير، في أخاديد النفس المتشققة من العطش. وصوتها صوت البنايات اليابس في برية الأطلال. لكنه قطع شوطا لا تراجُع عنه في عملية الإحالة الذاتية المقطوعة عن حقيقتها وتوغّلَ في الملهاة ليحقق ماينقص الفروسية:إمرأة!! أين"س"؟هل اصطادته الشظايا أم اصطاد دجاجة ليهديها إلى"ذات الجمال المنقطع النظير"؟ القنبلة الفراغية هيروشيما،مطاردة رجل بالطائرات. فلول الجيش للنازي في برلين. احتدام الخلاف الشخصي بين بيغن ونبوخذ نصر. عناوين تخلط الماضي بالحاضر وتدفع الحاضر الى الهرولة. غدٌ يباع في أوراق النصيب. قدر إغريقي يتربَّص بأبطال صغار. تاريخ مشاع لا أهل له مفتوح لِمَن يشاء أن يرِث . في هذا اليوم في ذكرى قنبلة هيروشيما يجرِّبون القنبلة الفراغية في لحمنا،تنجح التجربة. أتذكر من هيروشيما المحاولة الأمريكية لدفع هيروشيما الى نسيان اسمها. وأعرف هيروشيما زرتها منذ تسع سنين. وفي إحدى ساحاتها تكلمت عن ذاكرتها. مَن يُذّكِّر هيروشيما بأن هيروشيما كانت هنا سألتني المترجمة اليابانية إن كنت قد شاهدت الشريط السينمائي الشهير. قلت:وفي وسعي أن أحب امرأة من سدوم لأحب لألعب. وفي وسعي أن أحب جسدا يقتلني حُرّاسه خلف النافذة. قالت:لاأفهم،قلت:هي خواطر شعرية..ولكن أين هيروشيما؟ قالت:هيروشيما هنا.أنت في هيروشيما. قلت:لاأراها فكيف غطيتم اسم جسدها بالأزهار؟ ألأن الطيار الأمريكي بكى فيما بعد. ضغط على زر صغير ولم يرى إلا سحابة. وحين رأى الصورة فيما بعد بكى. قالت:تلك هي الحياة.قلت:ولكن أمريكا لم تبكِ ولم تغضب على نفسها. غضِبَت منن التوازن. هيروشيما غداً...هيروشيما في الغد. ............................. لاشيئ في متحف الجريمة يدل على اسم القاتل: من هنا جاءت الطائرة،من قاعدة ما في الباسفيك. تواطؤ أم خنوع؟ أما الضحية فلا تحتاج الى أسماء:هياكل بشرية مجرَّدة من ورق الشجر أغصان عظيمة الشكل،أشال للشكل. بعض الجدائل الدالة على إمرأة كانت هناك. كتابات على الجدران تشرح درجات التدرج في القتل: من الحريق الى الدخان الى السموم الى الإشعاع. تدريبات أولى على قتل كوني أشمل.تخطيط أولي بالنهاية. هكذا تبدو الآن"ثروة"قنبلة هيروشيما التدميرية، سلاحا ذريا بدائيا، يسمح للخيال العلمي بأن يكتب سيناريو لنهاية العالم: انفجار هائل انفجار عظيم، يشبه بداية تكوُّن الكرة الأرضية فوضاها المنظمة: جبال،أودية،سهول،صحارى،منحدرات،بحار،بحيرات،تجاعيد،صخور، وما يتبعه من تنوعات جميلة في أرض تمجدها المدائح الشعرية والصلوات الدينية. بعد الانفجار العظيم يشبُّ حريقا هائل يلتهم كل ما يستطيع التهامه من طعام النار: البشر والشجر والحجر والمواد القابلة للاحتراق، يُنتج دخانا كثيفا يحجب الشمس الى أيام فتبكي السماء مطرا أسود يسمِّم كل شيئ حي يسمونه"المطر النووي" تبرد الأرض وتعود الى عصرها الجليدي الأول، وفي مرحلة الانتقال السريع من هذا العصر الى العصر الجليدي لن يبقى حيا إلا الجرذان وبعض أنواع الحشرات، يصحو الجرذ ليجد نفسه انسانا يحكم الأرض،كافكا مقلوب. وأنا أسأل:أيهما أقسى:أن يصحو الانسان ليجد نفسه حشرة ضخمة أم أن تصحو الحشرة فتجد نفسها إنسانا يلعب بالقنبلة النووية وقد حسبها كرة قدم!!! هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-26-2009 سماء بيروت قُبَّة كبيرة من صفيح داكن. الظهيرة المطبقة تنشر رخاوتها في العظام. الأفق لوح من الرمادي الواضح لا يلونه سوى عبث الطائرات. سماء من هيروشيما.في وسعي أن أتناول طبشورة وأكتب على اللوح ماأشاء من أسماء وتعليقات.اجتذبتني الخاطرة: ماذا سأكتب لو صعدت الى سطح بناية عالية:لن يمروا؟ كتبوها.طاشت الحروف كلها من ذاكرتي ومن اصابعي. نسيت الأبجدية.لم أتذكرغير حروف خمسة: ب ي ر و ت ................................. جئت الى بيروت منذ أربع وثلاثين سنة. كنت في السادسة من عمري. وضعوا رأسي على قُبَّعة وتركوني في ساحة البرج. كان في الساحة ترام.ركبت فيه.سار على خطَيّ حديد متوازيين. صعد الى ما لا اعرف.صعد على خطي الحديد وسار.سار الترام. لم أعرف أيهما يُسيِّر اللعبة ذات الجلبة : خط الحديد الممدود على الأرض،أم العجلات على خط الحديد. نظرات من نافذة الترام. رأيت بنايات كثيرة،فيها نوافذ كثيرة تطل منها عيون كثيرة ورأيت أشجارا كثيرة. الترام يسير والبنايات تسير والأشجار تسير. كل شيئ حول الترام يسير عندما يسير الترام. عاد الترام الى المكان الذي وضعوا فيه قبّعة على رأسي، تلقفني جدّي بلهفة.وضعني قي سيارة وذهبنا الى الدامور. الدامور أصغر من بيروت وأجمل منها،لأن فيها الدامور بحرا أكبر، واكن ليس فيها ترام،خذوني الى الترام،فأخذوني الى الترام. ولاأذكر من الدامور غير البحروبساتين الموز، ما أكبر أوراق الموز ماأكبرها!! والزهور المتسلقة على جدران البيوت، وحين جئت الى بيروت مرة أخرى قبل عشر سنين، كان أول شيئ فعلته هو أنني أوقفت سيارة تاكسي وقلت للسائق: خذني الى الدامور.كنت قادما من القاهرة، وكنت أفتّش عن خُطى صغيرة لولد مشى خطى لا تليق بعمره. خطى أكبر منه ومن قدميه.عمَّ كنت أبحث؟ عن الخطى ام عن الولد؟ أم عن أهل البرية الوعرة ليصلوا الى ما لم يجدوا؟ كان البحر في مكانه.كان يدفع الدامور شرقا لتصير أكبر. وصرتُ أنا أكبر.صوت شاعر يبحث عن ولد كان فيبه،تركه في مكان ونسيه. الشاعر يكبر ولايسمح للولد المنسيِّ أن يكبر.هنا قطفتُ الصورالاولى. وهنا تعلَّمت الدروس الاولى. وهنا قبلّتني صاحبة البستان،وهنا سرقت الورد الاول. وهنا كان جدي ينتظر العودة من الجرائد ولايعود. جئنا من قرى الجليل ،نمنا ليلة قرب بركة رميش الذرة، قرب الأبقار والخنازير.وفي الصباح التالي سرنا شمالا. قطفت التوت من صور.ثم استقر بنا الرحيل في جزّين. لم أرَ الثلج من قبل.كانت جزين مزرعة للثلج، وكان فيها شلّال،لم أرَ الشلال من قبل. ولم اعرف من قبل أن التفاح يتدّلى من أغصان الشجر. كنت أحسبه ينبت في الصناديق، نحمل السلال القصيبة الصغيرة ونختار التفاح عن الشجر، أريد هذه الحَبّة،وأريد تلك الحَبّة، آخذها وأغسلها في جداول المياه الهابطة من سفح الجبل الى مجاريها الصغيرة من البيوت الصغيرة المتوجة بالقرميد. وفي الشتاء لم نتحمل برودة الرياح اللاذعة فرحلنا الى الدامور. غروب الشمس يسرق الوقت من الوقت. والبحر يتدلى كأجساد العاشقات ليرفع صرخته في الليل ولليل. ذهب الولد الى أهله هناك في البعيد في بعيد لم يجده هناك في البعيد مات جدي وهو يُحدِّق الى تراب محبوس خلف سياج، الى تراب غَيّروا جلده من قمح وسمسم وذرة وبطيخ الى تفاح خشن. مات جدي وهو يعُدّ الغياب والمواسم ودقات القلب على أصابع يدين يابستين. سقط كالثمر المحروم من غصن يُسنِد عليه عمره. لقد خرّبوا قلبه تعب من الانتظارهنا في الدامور. ودعَّ أصدقاءه وأبناءه واخذني وعاد ليجد مالم يجد هناك، وهنا كثر الغرباء واتسعت مخيماتهم مرت حرب ..حربان..ثلاث...وازداد الوطن ابتعادا عنهم. وازداد الأطفال ابتعادا عن حليب أمهاتهم بعدما شربوا حليب وكالة الغوث فاشتروا بنادق ليقربوا البلاد الهاربة من أيديدهم. أعادوا هويتهم وأعادوا تركيب الوطن من جديد وساروا على الطريق، فاعترضهم حرّاس الحروب الأهلية، فدافعوا عن خطاهم فخرج الطريق عن الطريق، وسكن اليتيم جلد اليتيم، ودخل المخَّيم في المخيم. لا أستطيع أن أحفر اسمي على حجر في الدامور، حتى لو كان متراسا لقنّاصة أرادوا روحي. لا أستطيعول أستطيع،فلتبعِدوا هذا المصوِّر عن وجه الحجر. أبعِدوا هذا الخطاب عن بحرٍ ما زال جالسا مكانه. ولاأستطيع أن أرفع شهيد على كتف جثّة معلقة على أغصان الموز.. لاأستطيع."الحرب هي الحرب"ليست لغتي. لن أقرأشعراً في الدامور.وما العمل تجاه مايقطع المخيم عن المخيم؟ ليس سؤالي..ليس سؤالي أبداً أن أحفر اسمي على حجر في الدامور، لأني أبحث عن ولد ولا أبحث عن بلد.. ................................ وفي أنقاض الدامور وجد أبناء الشهداء وأبناء الناجون من"تل الزعتر"ملجأ آخر في سلسلة الملاجئ المتنقلة. حملوا المتاعب والخيبة ومانسيَت أن تقطعه السكاكين من أجسادهم ، وجاؤوا الى الدامور. جاؤوا يبحثون للنوم عن متر مفتوح للريح والأناشيد. ولكن ما نسيَت ان تفعله الخناجير البدائية فعلته الطائرات الحديثة التي لاتتوقف عن قصف البقاء البشري. الى أين؟الى أين؟ من مذبجة الى مجزرة يُساق شعبي ويتناسل في محطات الأنقاض، ويرفع شارة النصر ويرفع الأعراس. أللقذيقة أحفاد؟..نحن أللشظية أجداد؟...نحن ومنذ عشر سنين أقيم في بيروت في مؤقت من اسمنت. أحاول أن أفهم بيروت فأزداد جهلاً بنفسي، أهي مدينة أم قناع؟منفى أم نشيد؟ سرعان ماتنتهي وسرعان ما تبدأ والعكس أيضا صحيح. في المدن الأخرى تستندالذاكرة الى ورقة تجلس في ساعات انتظار. في فراغ أبيض فتهبط عليك فكرة زائرة. تصطادها لئلا تهرب منك. وحين تمضي الأيام وتراهاتتعرف الى مصدرها، فتشكر المدينة التي وهبتك تلك الهدية، أمابيروت فإنك تسيل وتتبعثر. الإناء الوحيد هو الماء. تأخذ الذاكرة شكل فوضى المدينة وتدخل في كلام ينسيك الكلام السابق. ونادرا ما تلاحط أن بيروت جميلة.. ونادراً ما تحتاج الى التمييز بين المعنى والمبنى.. ولا تكون جديدة بقدر ما تكون قديمة.. وحين يسألوك:هل تحبها؟يفاجئك السؤال فتتساءل:لماذا لم أنتبه؟أأحبها؟ ثم تبحث عن عاطفة محددة لها،فتُصاب بدوار او خَدَر. ونادرا ماتحتاج التأكد من أنك في بيروت،لأنك موجود فيها بلادليل، وأنت موجود فيها بلا برهان، وتذكر أن مثل هذا السؤال في القاهرة ينتهي بالخروج الى الشرفة للتأكد من وجود النيل. إذا رأيت النيل فهذا يعني أنك في القاهرة. أمّا هنا فإن صوت الرصاص هو الذي يدلُّ على بيروت. صوت الرصاص أو صراخ الشعارات على الجدران. هل هي مدينة،أم مخيم شوارع عربية وُضِعت بلا ترتيب، أم هي شيئ آخر:حالة،فكرة،إحالة،زهرة،خارجة من نص،فتاة تُربك المخيلة؟ ألهذا السبب لا يستطيع أحد أن يؤلف أغنية بيروت؟ كم تبدو سهلة!! وكم تبدو مستعصية على تجانس المفردات المتجانسة والايقاع والقافية بيروت،ياقوت،تابوت. أم لأنها تقدم نفسها لعابر السبيل الذي وحده،يشعر بأنها بهجته الخاصة. ووحدهم أصحاب وأصحاب الأسماء المنسية هم المحرومون من دهش يدهش الآخرين. أنا لاأعرف بيروت ولاأعرف إن كنت أحبها ام لا أحبها.. للسياسي المهاجر كرسي لا يتغير ولايتبّدَّل..وبتعبير أدق:للكرسي سياسي مُهاجر لايغيِّره... وللتاجر المهاجر فرصةُ التأكد من أن ريح الخمسينات التي وعدت فقراء العرب بشيئ ما،لن تمرّ من هنا.. وللكاتب الذي ضاقت به بلاده أو ضاقت به الحرية في أن يعتقد أنه حر، دون أن يعلم في أي جبهة يحارب. وللشاعر السابق إمكانية الحصول على مسدس وحارس ومال. فيتحول الى زعيم عصابة يغتال ناقداً ويرشو آخر... وللفتاة المحافظة القدرةُ على إخفاء الحجاب في حقيبة يدهاعلى سُلَّم الطائرة والاختفاء مع عشيقها في فندق.. وللمهرب أن يهرِّب وللفقير أن يزداد فقراً. ولكلِّ قادم من بيروت بيروته الخاصة به، ولانعرف ولاأحديعرف إلى حد يُشكِّل مجموع هذه المدن مدينة بيروت التي لايبكي عليها الباكون،ولكنهم على ذكرياتهم أو مصالحهم الخاصة يبكون.. ربما في هذه الطريقة الطريقة التي بحث عنها العربي عما ينقصه في بلاده، تحوّل لقاء الأضداد الى هذه التسمية الغامضة،والى رئة يتنفس منها نفر من البشر، بينهم القاتل والقتيل،الأمر الذي جعل بيروت غناء الفوارق والفروق، ودون أن يسأل الكثيرون من العشّاق هل هم في بيروت أم في أحلامهم. أما في بيروت فلا أحد يعرفها،ولاأحديبحث عنها، ولعلها ليست هنا أبداً وفي الحرب فقط عرف الجميع أنهم لا يعرفونها. وعرفت بيروت أنها ليست مدينة واحدة ولا وطنا واحدا وأنها ليست بلاد متجاورة، وأن ما بين هذه المدينة والنافذة المقابلة من التناقض ما يفوق التناقض بين واشنطن وبيننا وأن التناحر بين هذا الشارع والشارع الموازي يفوق التناحربين الصهيوني والقومي العربي. وفي الحرب فقط أدرك المقاتلون أن سلام بيروت مع بيروت مستحيل. وفي الهدنة فقط ادرك المقاتلون والمراقبون أن هذه الحرب لا نهاية لها وأن النصر فيها خارج توازن الهزيمة مستحيل. ولعلّ الجميع أدركوا أن لابيروت في بيروت. فهذه السيدة الجالسة على حجر صورة لزهر عبَّاد الشمس تتبع ما ليس لها وتجرُّ عشاقها وأعداءها على السواء الى دورة خداع البصر. فتكون لهم أو عليهم ولا تكون لهم أو عليهم. إنها شكل لشكل لم يتشّكل.لأن الحرب فيها أعني حولها سجال. ولا الثابت فيها متغيِّر ولأن الدائم فيهاهو المؤقت. أو:خذ موجة أجلِسها على صخر الروشة فِّك عناصرها فلن تجد غير يديك غارقتين في لعبة سحر لاتنتهي ولا تبدأ. سؤال:هل هي مرآة، جواب:بقدر ماتصلح الموجة لأن تكون حجراً.. سؤال:هل هي طريق؟ جواب:بقدر ماتكون القصيدة شارعاً.. سؤال:هل تكذب؟ جواب:عندما يصدِّق المرأ ما لا يُصدَّق .. وفي الحرب الطويلة كانت واضحة، كان يبدو لي أن هذه الوجوه التي تدخل المرآة سترى ما لم ترى خارج الدم والحريق،وتغيِّر مصادر انعكاسها. وكان يبدو لي أن بيروت تستطيع أن تكون جزيرة في الماء أو الصخر.. وكان يبدو لي أن القبائل المتحلقة حول رقصة النار ستنتقل من السلالة الى الوطن. وأن الوطن سيدخل في الأمة. وأن الأمة ستكتشف بديهة شرط حياتها، كأن تعرف من هو العدو ,اين هو. وكان يبدو لي أن هؤلاء الشهداء،على ألأقل علامة. وأن بداية التغيير قد بدأت وأن الصدفة الاقليمية قد انكسرت وأطلَّت منها لؤلؤة الجوهر. وكان يبدو لي ..وكان يبدو لي...... ولكن العصفور الذي انبثق من دم بيروت ووعودها صار يتساءل:هل أنا في فضاء أم في قفص؟ أمرُّ الآن في بيروت في ربيع 1980،فأرى قفصاً مصنوعا من ريش جناَحيّ،غنائي يثيرالسخرية، وصرت الغريب الوحيد. هل أخطأت؟كثيرا،أُخرج من هنا هل انتهت الحرب؟عاد جميع الغزاة وولِد الوطن من جديد. الى أين أعود؟الى بلادك/الى بلادي؟في الأمَّة.. وفلسطين؟ابتلَعها السلام وصرتُ الغريب الوحيد،ماذاأفعل في باريس؟ ماذا تفعل في بيروت.الى متى أبقى في لندن؟الى متى تبقى في بيروت. قل لي:ماذا جرى لبيروت؟قال:صارت قوية قلت:هل انتصرت فيها العروبة أم..؟ قال:لاهذا ولاتلك،انتصرت فيها رياح المنطقة، لأنها لاتستطيع أن تكون جزيرة في الماء أو واحة في الصحراء. عُدْ من حيث أتيت لأن الشارع يرفضك., وصرتُ الغريب الوحيد.كم أكتم شكواي:لماذا يكون الوطن اللبناني منافيا لفلسطين؟ لماذا يصير الرغيف المصري منافيا لفلسطين؟ ولماذا يصبح السقف السوري منافياً لفلسطين؟ ولماذا تكون فلسطين منافية لفلسطين. كم أنا غريب في ربيع1980،الهواء ينذر بشيئ ما، وطريق المطار ينذر بشيئ ما،والبحر ينذر.وصرت الغريب الوحيد. ..وعلى الجدران،تقضم الأعلام الرسمية مزيداً من صور الشهداء ومن الكلمات التي تنشئ تماسك الوطن على علامات الطريق الجديدة. بيروت مرَّت من هنا،بيروت مرت من هنا. بحثتُ عن طفلة الجنوب التي أكلت بطاقة هويتها الرسمية، فوجدتُها تتدرب على النشيدالرسمي،وتنتظر المصفحة التي تحمل إليها العيد.. إنه الوطن.. بيروت مكللة بأدوات الزينة والخطابة والمراسيم التي تمردت من حقه أن يُصدَّق ما صدَّق. يقال إن حرب الوعود انتهت وبدأ بناء السلطة. ولم تعد المرآة تعكس إلا ماهو أمامها. وهذا الفضاء قفص... .......................................... وماذا أيضاً عليك أن تكون أبيض،فهنالك ما هو أغلى من الحرية،ومن الحياة..ماهو؟ "ويقول علماء التاريخ الطبيعي أن السمّور حيوان صغيرذو فراء أبيض بل وشديد البياض. وإذا أراد الصيّادون صيده يستخدمون هذه الحيلة: يلاحقون المسالك التي يعتاد المرور بها،ويضعون فيها الطين ثم يأخذون في مطاردته، وحين يصل السمّور الى المكان الذي وسخَّه الطين،يتوقف دفعة واحدة،ويُفضِّل أن يُصطاد ويُقتَل على أن يمر في الطين ويوسِّخ بياض فرائه،لأنه يُفضِّل البياض على الحرية والحياة...." هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-26-2009 أللقذيفة أحفاد؟نحن أللشظية أجداد؟نحن.. وانقلب الصمت صمتُ المتفرجين الى ملل. متى ينكسر البطل؟متى ينكسر ليكسرتتابع الخارق الى مألوف. البطولة أيضاًتدعو الى الضجر عندما يطول المشهد فتخفّ النشوة. ألم يُدفع موضوع هذه البطولة ذاته الى موقع الضجر ليكون هو ذاته مصدراً للضجر في سياق حياة تبحث عن حياتها العادية الخالية من الرسائل والهتاف، ليشهَر الحاكم أمامها أسباب التعاسة: فلسطين المسؤولة عن إنقراض القمح في الحقول، وعن ازدهار العمران المُكلَّل بالسجون،وتحويل الزراعة الى صناعة لاتنتج غير بطون الفئة الجديدة. محدثة النعمة،المُثقلة بهموم الاستهلاك الفردي الذي يُثقِل الدولة بديون يحتاج المواطن أن يعيش عمره مرتين ليُسدِّدها؟ لقد جربَّت مصر هذه الغبطة.وعدَها سراب السلام بتحريرالرغيف من ضرائب فلسطين،وبعودة الشهداء الى أهاليهم سالمين،وبوجبة فول أفضل. فازدهرت الكماليات،وامتدت سنوات الخطوبة الى أجل غير مسمّى ريثما يتم العثور المستحيل على عش زواج،وازداد الجوعى جوعاً. ووضع الرئيس "السادات"كل من تساءل:أين ثمن السلام؟في السجن حتى خرج من صفوف حرَّاسه فتى يطلق الرصاص على فرعون وعلى هذاالسلام وعلى هذا السراب.والآخرون؟ الآخرون استخلصوا العبرة واستغنوا عن شبق السادات وشيَّدوا بمنهجية ومثابرة سلام الأمر الواقع المشروط بِ ربط المعدة العربية بشروط الرضا الأمريكي وشهرواالحرب بالسلاح وبالصحف على موضوع البطولة. وانتظروا بقليل من الحرج أن يحرق الاسرائيليون نيابة عن الجميع مسرح هذه البطولة ومنصة هذا الخطاب البديل.البطولة أيضا تدعو للضجر.كفى. واختلفوا في طريقة تسويق الضجر: بعضهم يدعو الى انتظار مرحلة تاريخية تنقلب فيها موازين القوى بعصا سحرية خارجية، الى مصلحتنا مما يوفر لنا حقّ الكلام في الحرب او في السلام. وبعضهم يستعجل النهاية وينصحنا بالرحيل على سفن أمريكية بلا شروط وبلا مماطلة. وبعضهم يستعجل النهاية أيضاَ بدعوتنا الى الانتحار الجماعي ليستولي هو على مسرحه وعلى مسرحنا.كفى، الى متى يصمدون؟فإمّا أن يموتوا وإمّا أن يخرجوا!! الى متى يخدشون أمسيات العرب بجثث تقطع المسلسل الأمريكي؟ الى متى يحاربون ونحن في عزِّ الإجازةو المونديال وتربية الضفادع؟ فليفتحوا الطريق أمالم شهواتنا وعارنا.لتتوقف هذه الملهاة. أمّا حكماؤهم المجلَلون بلياقة التعاطف فإنهم يقدمون للضجر مظهراًأبهى: آن لهم أنْ يعرفوا أنَّ لا أمل..لاأمل يُرتجى من العرب.أمة لا تستحق الحياة.أمة على صورة حكّامها. وهذه معركة يائسة فليدخروا دمهم لتاريخ آخر. صمت مكلَّل بكلِّ مايفرغ التاريخ من أنخاب،أحصنة تزيينية على حقول ألِفت مواسم الغزو. وخطاب واحد يشتهي إغتراب الكلمات عمَّا وراءها. خطاب واحد يُعدِّد الصدأ المتراكم على الكلام منذ استوى الخطيب على عرش المنبر، خطاب واحد يلقيه المنقسمون على أنفسهم المقتتلون على خطاب. أمِن حق المدينة في هذا الجحيم وفي هذه الفوضى أن تمنح الوقت اسماً مختلفاً؟ أمن حقها أن تخربش فوق اللوحة المكتملة اللون؟ أمن حقها أن تقترب من سياج الصراع المُحكم التسييج؟ وتضع قواعد أخرى لجيران العدو ..هذه هي أسماؤهم وألقابهم: جيران العدو.إذ"الموت لبيروت"يُعَنْوَن:الموت لهذا الشارع الأخير الخارج عن هندسة الطاعة. ضجروا،ضجروا.لقد طالت المهلة المحددة لسقوط المعنى الأخير، المُتَدلّي كالثمرة الناضجة على نخلة العرب اليابسة، المتدلي لمن يرث ليُدفَن لاليعلن جدوى التراكم. متى يوقفون الجنون؟متى يرحلون؟ومتى يدخلون في تشابه الرسل؟ متى يسقطون مثلنا،مع الاحتفاظ بفارق معافى هو:أننا نسقط على عرش، من الهزائم المدوية الى العرش،وهم يسقطون على نعش من البطولة الى النعش. وفي جعبة الضجر ما يشبه الحكمة:نحن،نحن الذين نختار زمان المعركة ومكانها ونتائجها. ولن نستخدم هذا السلاح إلا وقت الشّدة. مَن يعرف وقت الشدة ومن أين تأتي الشدة في هذا الراخاء المرفَّه؟ هم يعرفون أكثر مما نعرف.قدتأتي من حي أو من شارع يغضب،ولكن مَن يُغضب الشارع الذي أدمنا هجاء حرَّاسه وتبرئته من غياب الحماسة لنبرئ الأمل من داء عُضال. أما مِن أحد في هذه القارة يقول:لا؟أما مِن أحد؟ ما من أحد.... وزراء الدفاع كانوا يتلهفون بفقاعات الشمبانيا مع القتلة، كلّما جاءهم خبر تضييق الخناق على تل الزعتر،فبماذا يتَّلهون الآن أثناء تضييق الخناق على بيروت؟ لقد رأينا صورهم على أحواض السباحة.أليس شهر آب حاراً.ورأينا تعب المحاربين المدججين بالبنادق وهم يرفعون ابتسامات أسيادهم السائلة حتى الركبتين في محاولة لإعادتها الى الأفواه المفتوحة سالمة.سالمة من عيون المارَّة ومن حصاربيروت... ولكنني لاأغضب كما يغضب غيري،من المظاهرات العربية الصاخبة التي خرجت تحتج على حكم منحاز في مباريات كرة القدم،لالأن كرة القدم تلهب الحماسة أكثر من هذا الصمود الطويل في بيروت، بل لأن المكبوت العربي المتعدِّد المصادر قد عثر على نقطة الانفجار في المُتاح العربي. ووجد فرصة التعبير الممكن عن غضب مزمن في حرب لاتُهدِّد الوطن مادياً في حرب معنويات تنتهي الى هدنة أكيدة بعد خمس وأربعين دقيقة يعيد خلالها المتحاربون توزيع صفوفهم وتعديل خططهم الهجومية والدفاعية، ويتزوَّدون بما يحتاجون اليه من ذخيرة معنوية ونجدة شعبية، ثم يعودون الى القتال تحت إشراف قوات دولية لا تسمح باستخدام الأسلحة المحرّمة دولياً. وتنتهي الحرب المحدودة المسيطر عليها في ساحة المعركة وخارجها ولاتتجاوزها الى حدود البلدين، باستثناء حالات نادرة كما حدث بين السلفادور وهندوراس. ولكن التوازن الدولي الدقيق الممثَل في مجلس الأمن تمكن من إصدار قرار قابل للتنفيذ. ولأني أحب كرة القدم لم أغضب كما غضب غيري من المفارقة. لا مظاهرة واحدة يثيرها حصاربيروت،بينما تثيركرة القدم هذه المظاهرات أثناء حصاربيروت. لما لا؟إن كرة القدم هي ساحة التعبير التي يوفرها تواطؤ الحاكم والمحكوم في زنزانة الديمقراطية العربية المهددة بخنق سجنائها وسجَّانيها معاً،هي فسحة تنفُس تتيح للوطن المفتَّت أن يلتئم حول مُشتَرك ما. حول إجماع ما حول شيئ ما تُضبُط فيه حدود الأطراف وشروط العلاقة مهما تسرّبت منها إيماءات ذكية، ومهما أَسقط فيها المشاهد على اللعبة مافيه المعاني المضغوطة،وطن، أوشكل من تجليات روح الوطن يدافع عن كرامته أو تفوقه أمام الآخرين، فلا يخسر توزيع القوى الداخلي شيثا من تماسكه الظاهري. المتفرجون يستولون على أدوارهم الغائبة في السياسة، يستحضرونها بإحالتها على ذكاء العضلات ومناورات الللاعبين واندفاعهم نحو هدف واحد هو تصويب الهدف. والحاكم الذي عيَّن نفسه مُعبَِّرا عن روح الأمة يعبِّرعن نصر هو نتاج سياسته الحكيمة وتنشيط الإرادة والطاقات. لعله وليس اللاعب هو الأقدر على التأويل لأنه هو صاحب الأمةوراعيها وهو الذي ينفق من ماله الخاص على تشجيع الرياضة. ولكن الأمر ينقلب الى عكسه حين ينهزم الوطن اللاعب أمام الآخر. عندها يتنصل الحاكم من الهزيمة ويحمِّلها للأجهزة، لتاريخ التقاليد مرة للمدرب مرة ثانية،لانتكاسة اللاعبين المحاربين مرة ثالثة، ولانحياز عوامل خارجية متمثلة بالحكم مرة رابعة. لا ليس للهزيمة أب واحد ،وفي السياسة ليس من التقاليد العربية الحديثة معاقبة القائد على الهزيمة. إنه يدعو الشارع للعطف عليه،ولمواساته الجماعية المعبَّرعنها في دعوته الى البقاء على العرش ليكيد الأعداء. أليس مايريد الأعداء هوإسقاط الحاكم،ولتخليصنا من هذه النعمة؟فلننتصر عليهم بالانتصار على أنفسنا وإبقاء الحاكم المهزوم جلّادا لنا. ولكن الأمر يختلف في كرة القدم: في وسع الشارع أن يغضب على اللاعبين وعلى المدرب وعلى الحكم الأجنبي. اللاعبون خانوا روح الأمة والمدرب أساء وضع الخطة.والحَكَم منحاز. أما الحاكم فهو بريئ من الهزيمة،لأنه مشغول بقضايا أكثر جدية لذلك يرفع الشارع الغاضب صوورة الحاكم عالية عالية وينفذ من تحتها الى حرية التعبير: يشتم الغرب كما يشاء ويومئ الى الداخل كما يشاء. هذا ما تبقى لنا من حرية،فهل نُفرِّط بها؟ وهذا ما تبقى لنا من متعة،فلنصفِّق لمايشير الى العافية. الأمةفي خير مادامت قادرة على الحماسة.كرة القدم تقول لنا ذلك، تقول الكرة المذكورة:إن العاطفة الجماعية لم تتبلَّد. وان في مقدور الشارع أن يتحرك بلعبة لا تثير الضجر. ألم تحتل فلسطين في ما مضى من حاضرنا ،هذه المكانة العاطفيةالحماسية. ألم يتحرك كل شيئ باسمها ولها ومن أجلها؟ كان ما يصيب فلسطين يصيب الشارع العربي بعدوى الحزن والغضب والصخب. كان الشارع العربي يُسقط الحاكم لأي مساس بهذا القلب الجماعي. الآن يتسابق الحكام ليرشوا الشارع،ليدفعوه الى التخلّي عن هذا الإجماع. السلاح العربي الرسمي يتصدّى علانية للخطوة والفكرة الفلسطينيين ويحملِّهما مسؤولية بؤس الأمة وعبوديتها. لولا فلسطين البعيدة المنال الوهميةالمتخيلة المبكرة الى موعدها البعيد،المتقدمة على الوحدة العربية، لولاها لكنّا أكثر حرية وأوفر ورخاء ورفاهية!!هكذا كان يذيع الخطاب الرسمي شائعات الضجر. ولكن الشارع يعرف كيف يناور ويؤول ويستخدم الكناية،فإن السجون ليست شرطا لتحرير فلسطين.. "ولاصوت يعلو فوق صوت المعركة"لم يقدم غير معنى واحد: لا فلسطين،ولا معركة،ولا صوت.عاش السوط!! لذلك كان سؤال الخبز والحرية يتسلّل الى سؤال التحرير المعصوم عن العقاب. الى أن فضح الحاكم اللعبة المؤَّولة فحرم فلسطين وأخرجها من الملعب الوطني ليخرج السؤال الاجتماعي من كلمة سر الأمة... هامش كرة القدم هو الهامش الفلسطيني السابق.. فليغضب الشارع،ولُيهرِّب سؤاله المكبوت الى لعبة لا تثير الضجر،ولاتتيح للحاكم حتى هذه اللحظة أن يُغلِق الملعب. صمت متوَّج بأوهام القادرين الى الآن على تقسيم الجهات الى جهتيتن والألوان الى لونين. صمت مكلَّل بأوهام القادرين على انتظار النجدة. صمت مُرصَّع بذهب الأمل القادم من خارج هذه الساحة صمت الذين يقودون الجملة الثورية الى خارج مصادرها بتبعية محكمة ومستحكمة استبدلت الشارع بالعاصمة ونطقت باسم الشارع ضد العاصمة الأخرى لأنها استثنت عاصمتها...سياج وعيها....من طبيعتها. وعيَّنت للشر المطلق عاصمة،وللخير المطلق عاصمة. واستطاعت في كل منعطف ان تستبدل عاصمتها بعاصمة أخرى دون أن تتخلّى عن تدفُّق الجملة الثورية المرادفة للعاصمة. لابدّ من عاصمة...لابدَّ من عاصمة!!.. لماذايرتجف الصنم الى هذا الحد،لماذا يرتجف الصنم؟ سيقوب عكس ما هو،سيقول عكس الصمت الذي يُطبِق عليه.. سيواصل تلاوة دراسة البداية، سيمجِّد امتثال التاريخ والمذابح والعذاب الى برهانه: ألم أقل لكم:ولكنك لاتقول شيئا يا سيدي الصنم.. يندَّس في السلطة ليكون معارضاً. ويندس في المعارضة ليكون هو السلطة. ويحارب السلطو بسلطة أخرى. ولايتبعه احد من فرط ما هو تابع. هذه هي لحظتك يا سيدي الصنم،قل شيئا لتبقى صنما من صنم. سيقول كلاماً آخربعد أي شيئ آخر سيقول إنه لم يوافق على الخروج سيقول إنه قال لنا ولكنه لم يقل لنا شيئا لماذا أرى الصنم،للمرة العاشرة،لماذا أرى الصنم؟ ...................................... صمت من ذهب،صمت من شماتة. لذلك أعجبتني غضبةُالأمة على التآمر الغربي العنصري على المشاركة العربية الصاعدة في المونديال. كانت العلامة الوحيدة على وجود شيئ يتحرك خارج أسوارنا الصاروخية، كانت الدليل على أن الأمة لا تسمح للأجنبي بأن يخدش روحها. وكانت تحمل رداً ساخراً على وزراء الخارجية العرب الذين تنادوا للاجتماع في تونس لبحث امكانية عقد مؤتمرقمة عربي لبحث الاجتياح الاسرئيلي، وردّاً ساخراً عبى عدم إحتجاج الدولة اللبنانيةعلى هذا الاجتياح واكتغائها بدور الوسيط بين المبعوث الأمريكي وقيادة المقاومة. فتساءلنا:لماذا يحرق أصحاب قمة الحضيض العربي ثومهم وبصلهم وأصابعهم. أليس في الوقت متسّعا للمزيد من الاجتياح وابتلاع الأرض والناس، إذ لم يمضِ على الغزو غير شهر واحد فقط... شهر واحد لايزيد عن لحظة عابرة في تاريخ الحكم العربي الخالد. ولاتكفي لصياغة ردّ الدول العربية على افتراءات المبعوث الأمريكي عليها. الذي قال:إن هناك قرارا عربيا دوليا بتصفية المقاومة!!خسِئ! فلماذا تكون الدول العربية على عجلة من أمرها والعجلة من الشيطان الرجيم، ليقضي وزراء خارجيتها ساعات صعبة في تونس،يختلفون فيها على تحليل أهداف الاجتياح ومداه: هل هو ضد الفلسطينيين واللبنانيين أم ضد سائر العرب؟ هل سيتجاوز الإعلان الاسرئيلي مداه.. وسيختلفون على تعريف مادة البترول:هل هو سلعة تجارية أم سلاح سياسي؟ لقد شعروا،ثانية بالضجر.فإن الخبر المشتهى لم يُعلَن بعد. المقاومة لم تمت.وما زال في خزانات الطائرات الإسرائيلية من البنزين والقذائف ما يكفي لإحراق خمسين ألف طفل لبناني وفلسطيني. ومازال في مستودعات الأسلحة الأمريكية التقليدية ما يكفي لتدمير كل المدن. ومازال في بيروت بعض الماء والعلبات والأوكسجين الكافية لمواصلة المقاومة. ومازال في سماء العرب المفتوحة ممرات كثيرة للمزيد من قاذفات القنابل. ومازال في البحر الأبيض المتوسط مكان للمزيد من الغواصات وحاملات الطائرات والمعاهدات الدولية. ومازال في بيروت أهداف مدنية كثيرة لم تُقصَف .فلماذا العجلة فلماذا العجلة؟ ............................................. ونحن أيضاً نحب كرة القدم ونحن أيضاً يحق لنا أن نحب كرة القدم، ويحق لنا أن ندخل المباراة.لم لا؟ لم لا نخرج قليلاً من روتين الموت. في أحد الملاجئ استطعنا استيراد الطاقة الكهربائية من بطارية سيارة. وسرعان ما نَقَلنا باولو روسّي الى ماليس فينا من روح. رجلٌ لايرى في الملعب إلا حيث أن يُرى. شيطان نحيل لا تراه إلا بعد تسجيل الهدف. تماما كالطائرة القاذفة لاتُرى إلا بعد انفجار أهدافها. وحيث يكون باولو روسي يكون الجوول يكون الهتاف ثم يختفي أو يتلاشى ليفتح مسارب الهواء من أجل قدميه المشغولتين بطهو الفرص وإنضاجها وإيصالها الى أوج الرغبة المُحققة. لاتعرف إن كان يلعب الكرة أم يلعب الحب مع الشبكة. الشبكة تتمنَّع فيغويها ويغاويها بفروسية إيطاليّة أنيقة على ملعب اسباني حّار. ويُغريها بانزلاق القطط الهائجة المائجة على صراخ الشهوة. وعلى مرأى من حُرّاس العِرض المصون الذين يعيدون إغلاق بكارة الشبكة بغشاء من عشرة رجال. يتقدم باولو روسي بكامل الشبق يتقدم لاختراق شبكة قابلة للنيل من عضلة الهواء مرتخية عجزت عن المقاومة،فاستسلمت لاغتصاب جميل.... كرة القدم، ماهذا الجنون الساحر،القادر على إعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟ ماهذا الجنون القادر على تخفيف بطش الحرب وتحويل الصواريخ الى ذباب مزعج وما هذا الجنون الذي يعطل الخوف ساعة ونصف الساعة، ويسري في الجسد والنفس كما لاتسري حماسة الشعر والنبيذ واللقاء الأول مع امرأة مجهولة.. وكرة القدم هي التي حققت المعجزة،خلف الحصار، حين حركت الحركة في شارع حسبناه مات من الخوف ومن الضجر. ولم أفرح بتظاهرات تل أبيب التي تسرق منّا كل الأدوار. فمنهم القاتل ومنهم الضحية. منهم الوجع ومنهم الصرخة. منهم السيف ومنهم الوردة. منهم النصر ومنهم الهزيمة، لأنها تشي بتغييب ابطال المسرح. لقد اعتادوا الحرب السهلة وتعودوا على الانتصارات السهلة، وقد سهلَّ التنافس الانتخابي بين الحزبين الكبيرين عملية انفتاح شوارع تل أبيب على عشرات الآلاف من المتظاهرين. واستنهضتهم ضحاياهم الى درجة دفعت ضابطا كبيرا الى الاستقالة. كنت أستمع الى إذاعتهم ولاأفهم سر البكاء.المنتصر مهزوم من الداخل. المنتصر يخشى على فقدان هويته:الضحية. لا حق لأحد في أن يحرز هذا الإنجاب :أن يكون الضحية،لأن انقلاب هذا الدور على أصحابه يقلب ميزان العدل الرملي. وبالنيابة عنّا كانوا يصرخون،وبالنيابة عنا كانوا يبكون،وبالنيابة عن جدارتهم كانوا ينتصرون. أهنالك ما هو أقسى من هذا الغياب: ألا تكون معبِّراً ع ن النصر،وألا تكون معبِّرا عن الهزيمة.أن تكون خارج المسرح. ولا تحضر عليه إلا بوصفك موضوعا يقوم الآخرون بالتعبير عنه كما يريدون. "إن أردتم فليست تلك خرافة"هكذا أطلق هرتزل شعارالصهيونية الداعي الى تأسيس دولة لشعب لاأرض له على أرض لا شعب لها!! وفي حصاربيروت الذي يشهد على وجود شعب له أرض محتلة مع غزاة سرقوا تلك الأرض قام ناتان زاخ أحد شعراء الحداثة العبرية بتعديل شعار هرتزل بسخرية لامعة: "إن أردتم فليست تلك بخرافة:نصر اسرائيل لن يخيِّب،ولكن لن يدوم لكي يخيِّب" عشرات القصائد العبرية تحاول التعبير بدلاً من القصائد العربية عن حصار بيروت، والاحتجاج على المذبحة. منهم الخطيئة ومنهم الغفران. منهم القتل ومنهم الدموع. منهم المجازر ومنهم عدالة القضاء. ساعات من بعد الظهر،رماد من بخار،وبخار من رماد. المعدن سيد الوقت.لايفلُّ المعدن غير معدن آخر يصنع تاريخا آخر القصف يطال كل شيئ ولا يبدو أن لهذا اليوم نهاية.آب أقسى الشهور آب أطول الشهور. وهذا اليوم أقسى أيام آب وأطولها.أما لهذا اليوم نهاية؟ لا أعرف ماذا يحدث في ضواحي المدينة،لأن هدير المعدن حجب عنّا صمت الملوك والرؤساءووزراء الدفاع المشغولين بقراءة مالايقرأون. ولم يبق أمامنا سوى سلاح الجنون.نكون أو لا نكون.نكون أو نكون.لانكون أو لانكون. ليس لنا غير الجنون.تاريخ يتغيَّر شكله ومؤرِخوه.تاريخ يكتب صورة النهر، فمن يؤرِخ القاع ومَن يؤرخ الطحلب ومن يؤرخ خروج العدو من الأخ ودخول الأخ في العدو؟ ومَن أطلع في وجهي ثانية هذا الحلزون؟ حلزون يحمل عبء لعابه الأخضر. حلزون يسوِّد حائطا ويمنعنا من الاقتراب من حائط نسقيه بالدم من أجل أن يستولي هو ، الحلزون على العرش نحن المتْخمين موتا بما ليس لنا ندافع عمَّا ليس لنا. وليس لنا هذا الطريق المؤدي الى الجبل.وليس لنا خطاب المنصة التي سيعتليها الحلزون. ويفاخرالأمم بتارخ ليس له،بتاريخ مسروق من حاجة البطل الى موطئ للكعب. لماذا يطلع الحلزون في وجهي مرة أخرى ،في نهار واحد؟تبّاَ لهذا النهار تبّاً لهذا النهار..تبا......... ............................................... جالسا في ركن قصيّ، قصي عن الآخرين وعن نفسي أفكِّر فيما يرد عليَّ من منام يخرج من منام: هل أنت حيّ؟متى حدث ذلك؟هل تحميني الذاكرة من هذا التهديد؟ هل تستطيع سوسنة الماضي أن تكسر هذا السيف المرصَّع بالقذائف؟ ولماذا هي..لماذا هي؟ لماذا تطلع السوسنة من نشيد الأناشيدوقد أُوقِفَت الشمس والقمر على اسوار أريحا ليمتد زمن القتل؟ ..حصَّة للطفولة وحصة للشبق.جسد لللمغفرة جسد للشهوات. يذوب رخام الكلام ليصقل مدائح الساق التي تشقُّ المقبرة الى حديقتين:حديقة للماضي وحديقة للحلم. ويلمع البرق الأول في العظام اليافعة. كم إمرأة فيك لأسقط زحام روحي وأنجو على توالد اللحظة. كم امرأة أنت ليدخل الوقت في الوقت ويخرُج خيطاً من حرير يصطفيني لاختيار مشانق الدم. كم امرأة فيك لتتقمّص البرهة تاريخ الصلاة والمجون على قدمين هما ختم جهنم والجنة!! كم امراة أنت لتكون سيرة هذا البطن المعجون من رائحة الفل ومن لونه التائه بين الضوء والحليب سيرةً لحروب الدفاع عن الصبا والأربعين. كم امرأة أنت لأسترِّد الشتاء السابق من كل مايأتي من مطر أختار قطراته شبهاً لما عرفت؟ ولأقارن اللذة باللذة ،هل كنّا معاً حقّاً على صوف تلك الأرض؟ أقلِّد ما لايتبدد من رعشة تهزّ الغرف حين يوحِّد ما يتجدَّد فينا ظني بأني معك. ولم أقل إني أحبك،لأني لاأعرف إن كنت أحبك مادمتُ أخبِّئ دمي تحت جِلدك وفي شعيرات السر المقدس أذرف عسل النحل الأحمق، السرالذي امتصني لأجد جسدي يتوالد بلا انقطاع. ولم تقولي أحبكَ لأني لن أصدق أن جميع النساء اللائي ولدنَ على جبل جلعاد وفي سومر وفي وادي الملوك يجتمعنَ علي الليلة. كم امرأة فيك لتنوح أحلامي على ما تفقد الأمم من شتاء يستحق أن تكوني أمَّه وسيدته. في كلِّ امرأة جميلة هِبةَ من وصايا قدميك للأرض، وإرث لاينقطع عن تزويد الغابات بهستيريا العشب. وليت واحداً منّا يمقت الآخر ليصاب الحب بالحب، وليت واحداًمنّا ينسى الآخر ليصاب النسيان بالذكرى. وليت واحداً منّا يموت قبل الآخر ليصاب الجنون بالجنون. خذني الى استراليا قالت لأُدرِكَ أنه آن لنا أن نبتعد عن الفارق والحرب. خذني الى استراليا لأنني كنت عاجزا عن الوصول الى القدس. كنت خارجاً من حزيران بعناد لم يرحمني: للجيوش أن تُهزَم وللنحلة في قلبي أن تصمد، وللروح أن تنتصر عليّ وعلى أعدائي. كانت الفتوة والغنائية تحفران لي مساراًآخر على جبل يطل على ساحات تاريخ: عظام أحصنة،ودروع مثقوبة وأعشاب من تلك الإطلالة يتضاءل الراهن ، ولاتعود الموجة عنواناً للبحر ، فأحمي نفسي وربما غيري من هيجان اللحظة بانتقالي من شهيد الى شاهد. ولكن لماذا أتذكرها في الجحيم في هذه الساعة من ساعات بعد الظهر في هذا البار الملجأ؟ ألأنّ امرأة أخرى جالسة قبالتي تعيد مشهد الصرخة،أم لأنَّ منام أخرجها من منام هذا الفجر؟ لاأعرف كما لااعرف تماماً لماذا أتذكر أمي؟ ودرس القراءة الأول وفتاتي الأولى تحت شجرة الصنوبر وعقدة الناي التي لاحقتني خمسة وعشرين عاماً؟ تعود الدائرة الى نقطتها الأولى... وكلانا يقتل الآخَر خلف النافذة... لا تقضمني كتفاحة،فلَنا هذا الليل كله. خذني الى استراليا حيث لاأحد منّا هناك،لاأنت ولاأنا... كانت تضع الحطب في الموقد وكانت الأغنية تُعيدالأغنية ذاتها: سوزان تأخذك الى النهر. الكلمات جميلة.والصوت لايغنّي بقدر مايقرأ شعرا لا يصل الى أي مكان. إنسان وحيد في البراري إنسان يقول تماسك ليحمي نفسه من العزلة، ليدل نفسه على نفسه. متى تقبلني ؟ عندما أصدق أن في وسعي أن أصدِّق أن هاتين الشفتين مفتوحتين لأجلي.. إذن لِمَن؟ لصوت قادم من كوكب بعيد.أتعرفين أن في وسع عينيك أن تُلَوّنا أي ليل بأي لون تريدين؟ قبّلْني!! مطر خلف الزجاج وجمر داخل الزجاج.لماذا تُمطِر الى هذا الحد؟ لكي تبقى فيّ/ تتوالد الشهوة من الشهوة، مطر لايتوقف، نارلاتنطفئ، جسد لا ينتهي، ورغبة تضيئ الظلام والعظام. ولا ننام إلا ليوقظنا عطش الملح الى العسل،ورائحة البن المحروق قليلا على اشتعال الرخام. بارد وساخن هذا الليل،ساخن وبارد هذا الأنين. ويكويني حرير لايتجعد بل يشتد كلما احتّكَّ بمسام جلدي وصاح: الهواء إبر من لعاب دافئ بين أصابع قدميّ وعلى كتفي أفعى من الكهرباءتزحف وتشرئِّب على الجمر. وفم يلتهم هبات الجسد،ولايُبقي من اللغة غير صراخ الغُرف الموصدة على حرب الحيوانات الأليفة. وعرَقٌ يُبرِّد الهواء ويجفل.. وكلانا يقتل الآخر خلف النافذة.. هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-26-2009 الساعة الخامسة بعد الظهر هنا.ناديت النادل:أعطني من مزيدا من البيرة هل مرّ"س"؟لم أره من يومين.والسحلية؟سألَت عنه وذهبت. وأستاذ اللغات السامية القديمة؟لم يأت بعدوالشاعر الممتلئ بفراغ فصيح؟ ذهب منذ قليل.وأستاذ الأدب الانجليزي في الجامعةالأمريكية؟ مرّ في الصباح.والقائد المتقاعد؟لم يأت. ووفد الهلال الأحمرالدولي؟يأتي ويذهب. أعطني مزيدا من البيرة.أين النادل الباكستاني ؟يأتي في الليل. لعلّ المرأة الجالسة قبالتي لاحظَت ما أسرق من ساقيها،فمدّدتهما، سلَّطتهما على عطش رغبتي وطلبتُ مزيدا من البيرة الساعة الخامسة صباحا يا عزيزتي قالت بدعابة:وهل ينعس العربي؟أما أنا فلاأريد أن أنام. قالت:نَم.وسأحرس نومك. قلت:سيوقظني لَيلَكُ نظرتك الصافية. هل تعرفين أن عينيك تدفعان أي ولد شقي الى عبادة الهواء؟ قالت:وماذا تفعلان بالرجل؟/قلت:تدفعانه الى الفروسية. قالت:نَمْ/قلت:هل تعرف الشرطة عنوان هذا البيت. قالت:لاأظن ذلك لكن الأمن العسكري يعرفه.هل تكره اليهود؟ قلت:أحبُّك الآن.../قالت:ليس هذا جوابا واضحا. قلت:وليس السؤال واضحا،كأن أسألك:هل تحبين العرب؟ قالت:ليس هذا سؤالا/قلت:ولماذا كان سؤالك سؤالا؟ قالت:لأن فينا عقدة ونحتاج الى إجابة أكثر من حاجتكم إليها. قلت:هل أنت حمقاء؟ قالت:قليلا،ولكن لم تقل لي إن كنتَ تحب اليهودأم تكرههم؟ قلت:لاأعرف لاولاأريد أن أعرف ولكنني أعرف أني أحب مسرحيات يوربيدوس وشكسبير وأحب السمك المقلي والبطاطا المسلوقة وموسيقى موزارت ومدينة حيفا وأحب العنب والمحاورات الذكية وفصل الخريف ومرحلة بيكاسو الزرقاء وأحب النبيذ وغموض الشعر الناضج. أمّا اليهود فليسوا سؤالا للحب أو المقت. قالت:هل أنت أحمق/قلت:قليلا قالت:هل تحب القهوة/قلت:أحب القهوة وأحب رائحة القهوة.. نهضَت عارية حتى مني فأحسستُ بوجع مَن خلعوا عضواً من أعضائه. صِحتُ:تعالي فورا،عودي من رائحة القهوة،فأنا ناقص،ولاأستطيع لاأستطيع... ماذا دهاك؟هل انتهى كل شيئ ماذا دهاك؟لاأستطيع العودة الى نفسي [وكلانا يقتل الآخر خلف النافذة] خذني الى استراليا/خذيني الى القدس لاأستطيع /ولاأستطيع الرجوع الى حيفا بماذا تحلمين عادة؟عادة لاأحلم.وأنت بماذا تحلم؟ بأن أتوقف عن حبك./هل تحبني؟ لا...لاأحبك..هل تعلمين أن أمك سارة قد شرّدت أمي هاجر في الصحراء. وماذنبي أنا ألهذا لا تحبني؟ لاذنب لك ولهذا لاأحبك أو أحبك... عزيزتي ملكتي جميلتي الآن الساعة الخامسة والنصف صباحاً،وعلي أن أعود إليهم، لمَن؟الى شرطة حيفا لأثبت لهم وجودي في الثامنة صباحا. تثبت وجودك؟وفي الرابعة بعد الظهر وفي الليل؟يأتون في أي وقت بلا موعد ليتأكدوا من وجودي .. وإذا لم يجدوك في البيت؟سأكون مسؤولاًعن أي حادثة تقع في هذه البلاد من مرتفعات الجولان حتى قناة السويس. وما هي العقوبة؟ مجرد غيابي عن البيت ليلاً يساوي إعتقال لمدة خمس سنوات على الأقل. أما إذا وقع حادث أكبر فإن العقوبة هي السجن المؤبد على الأقل وماذا ستقول في المحكمة؟ ساقول:كنت هنا أحيا نشيد الأناشيد. مجنون؟مجنون..أعرف ذلك ولا تحبني؟لا أعرف [وكلانا يقتل الآخر خلف النافذة] وهناك في الركن القصيّ أرى الفروسية الطالعة من مدائح العرب. فرس تشاكس المجهول ،فرس تشاكس اللغة، فرس تنبثق من قطرة الضوء المتلألئة على حقل تفتحه ذبذبة جيتار ينادي أعراس الفرسان القتلى.القباب والمآذن والأبراج والمدى تتبع ظلَّ العاشقة الذي يتبع جهة الرمح المتوتِّر. سأدير ظهري للخناجر كي ألامس طحلب المايخا وأسقط في علوّ الموت الشاهق محروس بالنعناع والشظايا التي لاتسمح لأحد بالاقتراب من الفضاء المفتوح لخطوتين..الحب أن تترددي. والحب أن أسخى بمزيد من حيوانات الروح.والحب أن لا أسمع منك غير الأنين. للهواء أن يتحوَّل الى مادة صلبة.وللبحر أن يُهدِّد. ولك أن تلقي بعتاد الجسد الخائف الى أقصى الخوف لنأمن هذا الباب الخشبي الهش. إصعدي مائة واثنتي عشرة درجة كي يتصبَّب لهاثك صهيلا يتعب وكي أمسح العرق بجلدي المنذور لهذذا الواجب. سأدعوك"ج"لأنك مطلع الجنون ومطلع جهنم ومطلع الجنة ومطلع جميع الشهوات المنتصرة على حرب بجماع لايتحقَّق إلا في الخوف من الموت. دعي ابنتك تلعب مع أستاذ الكيمياء وتعالي الى مرصد الصواريخ لنرصد ما في الجسدين من قطط. قدمُك مصقولة كحجر في شتاء الجبال، حجر يندس في خاصرتي لأصرخ نبيذا من خوابي الأديرة. ولاأصرخ كي لا تظني شيئا غير الحصاريوجع.ولا أردُّ التحية لأني تواطأت مع قصتي على رغبتي من أول خصلة شعركسرتني. فللشهوة أيضا قناع،لتطول اللعبة عاما آخر. تعبت من قناعي ومن لعبتي ومن تعبك. فلا تدقي بلاط الشارع أكثر بصهيل يحفرني.تعبت من حوادث سير لا تليق بهذه الحرب كأن ترتطم كتفي اليسرى بكتفك اليسرى في تقاطعٍ صبياني المشهَد. ومن العارأن نموت حُبّا في زمن الحرب ،هل أحبك؟ لاأحبك إذا كان الحب يستغرق وقتاً اطول من إطلاقة رصاصة على نخاع شوكي. وأحبك إذا كان الحب امتثالا لصاعقة برق تضربني الساعة. تعالي لنعرف الجواب.تعالي لنسأل السؤال. فما على المحاصَرين في هذا الركن الأخير من العالم غير أن يَعتِقا جنِّ الشبق من سجن الكلام والذهب. ومن الظلم أن نهاجر بلا إلتصاق. من الظلم أن نُرجِع النظرة من منتصف الطريق الى عيون تصبُّ العسل على النار. عيناك تجرحان الحجر وتذيعان في دمي دبيب النمل، فمتى أجمع هذا النمل وأعيده اليك الى بيت النمل لأتوقف عن حكِّ دمي بنظرات الساق الى الساق. اخرجي من هذا الباب الى اليسار،ثم انعطفي يمينا... وامشي عشرين متراً ثم انعطفي الى اليسار ومنه الى اليمين ثلاثين متراً بعدها انعطفي الى يمين آخر.هناك شجرة زنزلخت كبيرة،شجرة وحيدة ستدلُّكِ على ساحة صغيرة.. اقطعيها واتبعي رائحة الهال الى مدخل البناية كما يتبع كلب البحر رائحةالدم اتبعي صوت دمي واصعدي مائة واثنتي عشرة درجة.ستجدين الباب مفتوحا وستجديني خلف الباب مشويا من الانتظار،جاهزا للموت واقفا معك واقفا فيك حتى يفصلنا صاروخ لنجلس. دقّي حجرالسلالم كما يدق كعبكي العالي طرف القلب ويترك قطعة صغيرة منه لكلاب الشارع. كم أحبُّ الحذاء العالي لأنه يشد الساقين في كلية الأنوثة المتأهبة للاندلاع، والحذاء العالي يختصر البطن ويفتح انحناءة لبطن ينكمش من عطش. والحذاء العالي يدفع النهدين ليتكورا ويشرئَّبا على المارة المحرومين مما يهتفون. والحذاء العالي يُعّب ُّ القدمين في أهبة الرقص فوق الدخان المتصاعد من رغبة محروقة. والحذاء العالي يتلع الجيد كلحظة انقضاض الخيول على هاوية. والحذاء العالي يوقف الرمح على منبر من هواء صلب. دقّي بلاط الشارع بنفور غزال لا تتلقَّفهُ ذراعان ولا كلمات. واتضحي رويدا رويدا خلف الباب المُغلَق. أمام هذا الباب مقعد جلدي صغير يحملنا ويتّسع لنا. سأجلس أولا وتجلسين.فغرفة النوم مكشوفة من جهة البحرالذي يرانا، ويتوعد ويقصف.وغرفة الاستقبال مكشوفة من جهة البحر. وغرفة المكتب مكشوفة من جهة البحر.لم يبق لنا غير هذا المقعد الصغير، ارتجفي وانتفضي وانقصفي،ولاتنزعي ثيابك لئلايرانا الموت عاريين.فرس على حضن رجل. لا وقت لغير الحب السريع ونزوة الخلود العابر. لا وقت للحب في حرب لا نسرق منها غير امتصاص مصادر الحياة. أمِن طبيعة الحرب أن تخلِق هذا الشبق؟ أمن طبيعة الموت أن يتوتَّر هذا التوتُّر؟ يدان تخرمشان الحائط لمنع القطط من الرحيل. وفم مفتوح لأصوات البراري الموحشة لإغراء الذئاب. وأحبُّ هذا الحب الذي لا ثرثرة فيه ولاأناقة كلام وارتداء ثياب على مهل وعلى مهل. لا وقت لذلك الطقس الذي يُبدِع الغربة وتباطؤ الخروج من العناق. فنهرب الى سيجارة ندعي تأمُّل ما ترسمه دوائر الدخان الأزرق. وننظر الى الساعة لا لنرى الوقت بل لنعرف ما يتسلل أحدنا من الآخر. وأحب هذا الحب الذي لايترك وجعاً في الذكريات ولاندبة في الروح. حبٌّ يزوِّد الروح بهبوب الفراش على وردة الروح. لحظة عابرة أبقى وأنقى جمالا من بيروقراطية الحب الطويل المحتاج الى إدارة شؤون المواعيد وصيانة الحنين من العطب. نزوة هي مجال الشاعر في التباس التشابه بين المرأة والأغنية. نزوة هي حرية الصمت المتحرر من آخر ينقلب الصمت معه الى غربة. عالمان لا يتداخلان بغير القمع.لا مساواة في العاطفة. عالمان يعودان حين يصمتان الى ماكان من ذكريات لا تتصالح بقدر ما تتصادم وأحب الحب على هذا المقعد الذي لا يحتاج الى إعادة ترتيب لأنه لا يتجعلك، كما كنت أحبه على ظلام صخرة على شاطئ البحر، أو في سيارة تختبئ في غابة صفصاف،أو في قطار ليلي لا نعرف فيه الأسماء، أو في رحلة طيران ليلي طويلة،أو على سياج ملعب يصفِّق فيه الجمهور لخطاب يشارك فيه العاشق العابر العاشقة العابرة الرقص والهتاف على نداء أوجِ آخر. أحب هذه اللحظات النوزات المتحررة من الكلمات والواجبات. ولكن الحرب تُضفي تصوّفاً شهوانياً على هذا الاختلاس الرائع. فما أجمل أن يموت الانسان على ضفّة نهر العسل الحامض بلا فضيحةو بلا عُريِ وبلا أولاد.ماأجمل أن نتغلَّب على الحرب فينا بهذا الخوف الذي يوحِّد الجسدين. وماأجمل أن نودِّع أيامنا على إنفتاح وردة تعرق وتشهق وتتمزّق من احتكاك الندى والملح، تحت قصف جوي وبري وبحري نسوس فيه مسار اللذة المستقيم صعوداَ، ساخرين من عواء الحديد بعواء اللحم والدم والعصب المشدود. فلا تسأليني إن كنت أحبك أيتها الفرس التي تترجل عن حضن فارسها لتذهب الى مهرتها الصغيرة، التي ترعى بين الصواريخ وأقداح البيرة واستاذ الكيمياء والممرضات النبيلات القادمات من اسكندنافيا لاستبدال الموت إحباطاً وغماً بالموت في قضية. لاتسأليني إن كنت أحبك لأنك تعرفين كم يعبدك جسدي الباحث عن سلامته في جسد، خذي خبزا وزجاجة ماء لتقولي إنك كنت تنبحثين من ساعة عن خبز وماء. ستزورين قصيدتي يا"ج"لأنك لم تذهبي معي كما ذهبت السوسنة الطالعة من نشيد الأناشيد. ستزورين قصيدتي يا"ج"لأنك اختفيت كما اختفت،وستخرجين من منام يخر من منام يا"ج" كما خرجت السوسنة من هذا الفجر. هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-26-2009 والقصف يقصف كل شيء يقصف حتى الخوف. أفكر في هذا الركن القصيّ بهذا الشاب الباكستاني الغائب. ما الذي جاء به الى هذه المدينة من آسيا البعيدة. كان يطارد الرغيف فاصطاده الرغيف في هذا الحصار. استدرجه الرغيف من لاهور،جعله يلهث آلاف الكيلو مترات كي يلامس هذه المعجزة الانسانية: رغيف الخبز،رغيف الخبز الذي يقتله في حرب لاشأن له فيها، فلا يعود حيَّاً أو ميتاّ الى أي مكان.لايعود الى أي قبر. باطل الأباطيل الكل باطل. وأفكِّر في الطرائق المعقدة لنهاية جسد كافح حتى النضج ليحترق أو يختنق. باطل الأباطيل والكلُّ باطل. وقد علَّمَتنا معاشرة الموت أن الموت لاصوت له. فإذا سمعت صوت الصاروخ فذلك يعني أنك حي، ذلك يعني الصاروخ قدأخطأك وأصاب غيرك،أصاب العامل الباكستاني على سبيل المثال. الصاروخ يسبق صوته.إن لم تسمع صوته فاعرف أنك مُت. باطل الأباطيل والكل باطل. ولكن ماسرُّ هذه المناعة؟أشعر بنعاس لايقاوَم...نعاس أقوى من أية قوة..نعاس سلطان.. ولكن"س"يوقظني.أراه مدججا بمسدس طويل،ومتكئِّاً على لعبته العاطفية. أين كنت؟أين كنت؟إجلِس معي إن استطعت أن توقف ثرثرةالسيدة،أو ارسلها الى أي جحيم. أين اختفت؟على إحدى الجبهات ، ماهي أخبار الشباب؟صامدون ولا يهتمون بنتائج المعركة. إنهم صامدون ويقاتِلون.ولكن الناس تعبت ويقال إن صمودهم مرتبط بخروجنا. هل صحيح أننا سنخرج؟طبعا سنخرج ألن تعرف أننا سنخرج؟ كنت أظن أن الخروج مناورة.هل سنخرج حقا؟سنخرج حقّاَ الى أين؟الى أي مكان عربي يقبل بنا ألا يقبلون حتى باستقبالنا خارجين؟ بعضهم لايقبل حتى جثثنا وأمريكا تطلب من بعضهم الموافقة على استقبالنا. أمريكا؟نعم...أمريكا هل تعني أن البعض يريدنا أن ننتحر ونبقى في بيروت؟ هذا البعض لايتحمَّل صمودنا.ولايدعونا الى الانتحار أسوة بالكولونيل الليبي. ولا يريد لنا أن نبقى في بيروت،أو في أي مكان على الأرض. يريد لنا أن نخرج ..أن نخرج من العروبة ومن الحياة. الى أين؟الى العدم ومتى سنخرج؟بعدما نحصل على عناوين الخروج. وبعدما نحصل على ضمانات بحماية المدنيين الباقين هنا.وبحماية المخيمات. أهناك ضمانات؟ هناك ضمانات وقوات دولية ستصل لحماية المخيمات، ولكن السفير الإيطالي قال لي البارحةكلاما مثيرا للقلق. قال:لا أحد يضمن ألا يدخل الاسرائيليون بيروت بعد خروج المقاومة. ألا يمكن إخفاء فكرة الخروج لأنها تؤثِّر على معنويات المقاتلين؟ هذا صعب لأن المفاوِضين يذيعونها والدولة اللبنانية متلهفة بحجة أنها تُطمئِن المواطنين. ولكن،لماذا نخرج؟ لاأحد يوافق على بقائنا،لاالداخل ولا الخارج،ولاتنس أنَّ البلد ليس بلدنا. انتهت مُدِّة الضيافةوبعض أطراف الحركة الوطنية يُهدِّدنا ولم يبقَ ما نعتمد عليه: لا مقومات داخلية ولا مَدد خارجي. كان"س"أشد الناس قلقا من هاجس الخروج،فهويُخشى اليُتم الجديد، ويَخشى أن ننساه في زحام هذه النهايات. كان واحدا من مئات الكتّاب المهاجرين الى مشروع الثورة المتحول الى بيت وهوية. لا يملك ما يدل عليه،لابطاقة ولاهوية ولاجواز سغر ولاشهادة ميلاد. ولهذا وجَد فينا أهله ووطنه،نحن الذين لاأهل لنا ولا وطن. وكان مع المهاجرين السوريين والعراقيين والمصريين والفلسطينيين قد أنزل على بيروت معاني نهائية تمنح التباس العلاقة بها شرعية حق المواطنة الى درجة أجفلت الكثيرين من اللبنانيين الذين لايعرفون مدينتهم ومجتمعهم أكثر منّا. ويعرفون أنها لاتتحمل هذا الاسقاط،وقدلاحظ بعضهم أن السهولة التي يُوحي بها التعامل مع بيروت، نصّاً مفتوحا للصراع والكتابة،قد بلغت هامشا من الرهافة يستحق الحذر. ولكن بيروت هي المكان الذي شهد ازدهار التعبير السياسي و الاعلامي الفلسطيني. وبيروت هي مهد آلاف من الفلسطينيين الذين لم يعرفوا مهدا آخر. وبيروت هي الجزيرة التي طفا عليها المهاجرون العرب الحالمون بعالم جديد، وهي حاضنة ميثولوجيا البطولة القادرة على تقديم آخر وعد للعرب غير وعد حزيران. فكان كل واحد يُمسِك بما يعنيه من اسم بيروت الذي فتن الجميع الى حد ارتكاب الأخطاء التي لم ينجُ منها أحد. ودون أن يتمكن أحد من تحديد المعنى الشامل لهذا الافتتان. وهكذا تحولت العلاقة ببيروت الى إدمان جعلَ اللغة مجازية الى درجة المواطنة. في غياب الدولة التي قهرت مواطنيها في كل مكان آخر، مما جعل استباحة الدولة أي دولة في هذه الدولة، أحد أشكال التدريب العربي على ديمقراطية متخيلة. فصارت بيروت مُلك مَن يحلم بنظام آخر في مكان آخر. واتسعت لصياغة فوضى ذات جانب تعويضي حلَّت في كل مكان غريب عقدة الغربة. وصارت شرعية الانتماء الى بيروت انعكاسا لشرعية المعارضة لنظام البطش العربي، فلم يعد على اللاجئ الى بيروت واجب مراعاة نظامها المُفكَّك،بل أباح لنفسه حق التحالف الداخلي لمواصلة تفكيكه خدمة لمشروع ديمقراطي أكبر يُخاطب خارج بيروت أكثر مما يخاطب داخلها. ومن هنا أحسَّ المقيمون في بيروت في تحالفهم مع أطراف قواها المتصارعة بمقاييس أخرى للغربة والمواطنة حُدِّد فيها للبنانيين أنفسهم وبمساعدتهم مقدار حقِّهم في وطنهم،لأن الوطن تحوَّل من جمهورية الى مواقف. وفي الشِعر أيضا لم يكن عشَّاق بيروت لبنانيين. وحين أنشد الرحابنة للوطن لم ينشدوا لبيروت كانت أغنية الحب الطالعة من الحرب"بحبك يا لبنان". لقد تمَّ استثناء بيروت لأنها لم تعد بيروت لبنان.ليست بيروت في الاعتبارات الطائفية لبنان. بيروت صارت عربية يُغنّي لها العرب وصار في مقدور شاعر لبنان سعيد عقل أن ينأى بلبنانه الجمالي الى أقصى غابات العنصرية، ليرى أن الحرب لا تدور بين جيش لبنان وجيش فلسطين فحسب بل إنها حرب ضد شعب بأسره..."الطفل الفسطيني عدو" "س"وآخرون كونّوا بيروتهم صاغوها على صورتهم. وبلا مجاملة دخلوا في النسيج الداخلي للصراع الثقافي. وحين انفضَّ عنهم حلفاء الثقافة وجدوا أنفسهم تحت العراء. لقد سبقت الغزو الاسرائيلي عودة الكثيرين من المثقفين الى أصدافهم الإقليمية. تعبيراَ عن انهيار المشروع العلماني،وعن نزعة المثقف الى الاحتماء بالطائفة في عراء الهزيمة الملوحة في الأفق...جرَت إعادة إصطفاف طائفي احتلت فيه الطائفة الممتازة مكانة النموذج وقفز بطل الطائفة الخارج من قاع الجريمة الى بطل منذور لسائر المعبرين عن طوائف أخرى تحتذي استلابها، فتسابق شعراء البديل السابق الى إيواء الشرقية للحصول على صك غفران في محبة لبنان ممّن أتقنوا ارتداء القناع الفاتن"تحريرلبنان من الغرباء". لقداحتاج الخراب الى دولة واحتاج الخائفون الى أية دولة فازدهرت الحياة الثقافية في المنطقة الشرقية المرشحة لتوحيد الوطن، وازدهر كازينو لبنان بعروضه الفنية التي لم ينقصها غير فرقةالرقص الليبي المُحاطة بدويّ إعلامي صاخب. ولم يتساءل أحد عن المغزى السياسي للهفة الكتائب على الرقصات الليبية،فقد كان المغزى شديد السخرية والوضوح. وحين سجَّل"س"ملاحظة الكرمل على عودة بعض المثقفين من المشروع الديمقراطي الى الصَدَفة الطائفية حوَّلونا الى"سُّنة"وانهالت علينا الحملات والتهديدات من الشعراء والرَّسامين والمسلحين الذين اعتبروا نقد عودة المثقَّف الى الطائفة تشهيرا منّا،كمعبرين عن طائفة،بطائفتهم.وحين كنت أقسم بأنني لاأعرف ماهي طائفتي لم يصدقني أحد.لأن الوباء كان قد استشرى، ولأن أي فهم لما يجري في لبنان خارج حدود الفهم الطائفي هو فهم قاصر. كان"س"يحمي كتاباته بعضلاته فقد واصل زيارة مقاهي شارع الحمراء ومقارعة الحجة بتحسُّس المسدس. أما أنا المشاع للحملات الصحفية فلم أنجح في تبرئة نفسي من جريمة القول إننا"جزء....لاجزيرة": (التجربة مفتوحة على حوارالإبداع والأفكار،فنحن مازلنا نحاول ملامسة التطبيق العملي لخيارنا الوحيد: الإبداع في الثورة والثورة في الإبداع لنتجاوز التجَّني الذي يرتكبه الميل العام الى المناداة بالاختلاف أو الخلاف بين مفهومي الثورة والإبداع، حيث يحاول أحد أطراف هذا الميل تحقيق الطلاق بين اللغة الأدبية وبين الواقع لبلوغ"الأدب الصافي". ويحاول الطرف الآخرجرِّ الأدب الى تقديم الخدمات اليومية المباشرة للبرنامج السياسي. نحن نتاج هذا الواقع وهذا الزمن الذي تختلط فيه الانهيارات الواضحةبالولادات الغامضة، ولانتوب عن أحلامنا مهما تكرر انكسارها. ولانواجه الأزمات التي تلتفُّ حولنا باسقاط الفكرة وبالنزهة بين الماضي والتراث. لأننا لا نكتفي فقط بتحديد المساحة بين الدم والنفط. فقد إخترنا أن نعتقد أن المستقبل يولد من هذا الحاضر بالطريقة التي ننخرط فيها في عملية التغير ولايأتي من ماض يتحول من الأزمات الى سيِّد الأيام. وحين نلاحظ أن الثورة لم تكتُب بّعْد أدبها إلا بالجسد فإننا ندرك أن معادلة الفعل_القول المترابطة في سياق التجربة تنضج لتنتج الأدب الجديد. وندرك أننا جزء من الثقافة العربية الوطنية لاجزيرة فيها، لذلك لم نقبل أن يكون صوتنا هو صوت الهوية الضيِّقة بل ميدان العلاقة الأعمق بين الكاتب العربي وزمنه الذي تتخذ فيه العملية الثورية الفلسطينية شكل كلمة السر العلنية حتى الانفجار العام. إننا لا نؤسِّس تياراً في الأدب بقدرما نشيرالى سياق أو مجرى كبير يعطي مفهوم وحدة الثقافة العربية الوطنية شكلاً من الأشكال في وقت يتعرض فيه الى أكثر من محاولة تفتيت أو وأد. وهي الثقافة المفتوحة على تاريخها في تعدُّد مصادره. وهكذا لاتقول إن الشرق شرقي كله ثقافياً وأن الغرب غربي كلُّه. فنحن لانعرف شرقاً واحداً ولا نعرف غرباً واحداً ولا نريد أن نُحبَس في معنىً لم نختره بحرية. وهكذا لا نتعامل مع حملة التصدي للغزو الثقافي الغربي الرائجة في هذه الأيام بعدما أطلقها كرَّاس أو كرَّاسان إلا بقدر ما تستطيع هذه الحملة التمييز بين المصطلحات وتحاشي الوقوع في بئر تغلِق علينا الأفق كله وبقدر ما توضع في سياق البحث عن استقلال يرفض التبعية ويرفض التآكل معاً. وحين نرى إنحطاط بعض مستويات الثقافة وهيمنة الطفيليات الطائفية عديمة الكفاءة والموهبة على غذاء الناس اليومي أو الأسبوعي أو الشهري،فإننا لا نعلِّق:هنا الأزمة فاهربوا..... بل نضع الظاهرة في عنوانها السياسي وننتبه.....وننتبه الى أسلحة الأدب القادرة على إخفاء خيانتها وادعاء القداسة وهشاشة الأحلام تحت غطاء الاشمئزاز من السياسة أي من الصراع. لالسناغرباء على أي أرض عربية.الغرباء هم الذين يشيرون الى غربتنا بأصابع الاتهام لأنهم غرباء عن تاريخهم وعن معاني وجودهم.غرباء في موجة عابرةلايرى فيها اللِّص غير وجوه اللصوص. وإذا كنا لا نستطيع مجاملة السلفية فإننا لا نرضى الاستقرار في فوضى التجريبية التي لا تريد أن تقول أكثرمن تجريبيتها. وإذاكنَّا نشكو التقصير من القدرة عى إتقان لغة الناس في العملية الإبداعية فإن ذلك لا يمنعنا من الإصرار على التعبير عنهم لنصل الى لحظة يُحقِّق فيه الأدب عرسه الكبير حين يصبح الصوت الخاص هو الصوت العام.. نعم،إن للأدب دوراً..وإن انقطاع التفاعل بين النص وبين الذي يتحول النص فيهم الى قو ة: هو إغتراب الأدب الذي يصفق له الآن المبشرون بالهزيمة النهائية لكلِ شيئ. وهنا نستصرخ النقد،نستصرخه ليسترِّد الإيمان بشجاعته وجدارته، نستصرخه ليدخل الساحة المُستباحة نستصرخه ليُرسي المعايير التي أباح غيابها للجهل وللثورة المضّادة أن يتبطّنا في إدعاء الحداثة. ندعو النقد الى إعادة النظر على سبيل المثال في حركة الشعرالعربي الحديث التي اتسعت لشن الحروب كلها ووصلت الى مفترق طرق أَعلنَ على الأقل وهْمَ وحدتها السابقة. وندعوه الى تمزيق حصانة النص الشعري الذي لايقبل أداة النظر فيه خارج أدواته،فيما يحمِّل نفسه بكل ما هو خارج إدعائه من حمولة أيديولوجية يحتكر إخفاءها.ويحرم القارئ والناقد من حقِّ إعلانها. ولنسأل عن ديكتاتورية النص: لقد أوصلنا الحياء والخجل الى درجة صارمعها التقدُّم يخشى الاعلان عن نفسه.وأدنى من ذلك صارت سلامة اللغة تخلُّفاً واستقامة الوزن رجعية.وصار الوضوح عورة.وصار القول ووصول القول همجية. باختصار:تقدَّمت الرجعية القادرة على الوقوف يساراً بكامل عدة الحداثة الشكلية حافلة بمعاني السلفية. واستطاعت أن تستدرج الآخرين الى أسئلتها في مرحلة انتكاس المعاني العربية الكبيرة، وعودة أبناء الطوائف الضاليّن الى طوائفهم أو تصوفهم أو رموزهم.. معلنين التوبة عن عمر أضاعته حركات التحرر الي لم تُسفر إلا عن صعوبات لم تكن متوقعة، وأضاعته الثورة التي دلَّت على أنها باهظة التكاليف في مرحلة إجتياح الثقافة النفطية أغلبية المنابر والمؤسسات الثقافية والإعلامية غير مكترثة بإعلان فارق جوهري بين مستوياتها وأيديولوجية مصادرها، لأن تدمير الثقافة والمثقفين هو النتيجة الواضحة لظاهرة"رعاية"النفط للثقافة. هكذا تّتحدد صعوة المعركة التي نخوضها في سؤال الأدب وهي انعكاس مباشر أو مُحَوَّر لهجوم الرجعية السياسي والفكري التي لاتفتقر الى أسباب الإفادة من فشل رجعيات التقدُّم وحين نكتب ونستكتب تحت شعار حرية الابداع فإننا لا نستقطب غير نقاط الضوء والبدايات التي بعثرها الإنقسام حول فكرة أبسط مقوِّماتها: أننا نريد أن نحرِّر أنفسنا وبلادنا وعقولنا وأن نعيش عصرنا بجدارة وكبرياء. ومادمنا نكتب فإننا نعبّر إيماننا بفاعلية الكتابة من هنا لا نشعر أننا أقلية،لنعلن أننا الأقلية الأغالبية ونُعلِن أننا قادمون من هذا الزمن ..لامن الماضي..لا من المستقبل). لماذا أصابهم هذا الكلام بالهيستيريا؟ لأنهم يريدون لنا أن نكون جزيرة محاصرة سألني"س"للمرة العاشرة:الى أين سنذهب؟ قلت:لاأعرف.إن هناك ضابطاً في غرفة العمليات لتحديد العناوين وأسماء المهاجرين. قال:ربما ينسونني/قلت:ربما.. خاف،خاف الى درجة نَهَرَ معها إمرأته الثرثارةالتي تعرف كل شيئ وتمتلك جوابا لأي سؤال:إخرسي!! قالها بانكليزية كردية جعلتها تصمت لمدة عشرين ثانية كاملة،واصلَت بعدها الثرثرة. إنها راديو مفتوح لا يكترث بالمستمعين إنها أقسى من حصار. كان يطفئ أسئلة ضياعه في وهم غرابتها.كان يستوطنها قارباً أو ملجأً كان ينتمي فيها اليها الى ما يسند الغربة بالغربة ريثما يعرف أين هو. وجدتُ له حلاً:ابق معي/استبشرَ خيراً:أين؟ قلت:هنا في بيروت/صاح:هل أنتَ باق/ قلت:نعم..باق قال:ولكنني لاأحمل جواز سفر ولابطاقة هوية. مزورّة كل أوراقي مزورة فكيف أبقى والى أين أذهب؟ قلت:أين تريد أن تذهب:السودان،اليمن،سوريا،الجزائر؟ اختارَ:الجزائر/قلت:سترحل الى الجزائر قال:هل تعلم أنني لم أسافر مرة واحدة في حياتي؟ قلت:ستسافر كثيرا،يايني،ستسافر كثيرا في هذا البار الصغير شربنا في السنين الفائتة وفي هذا الحصار شربنا من عصير الشعير مايجعل الحمير تنطق شعراً بالمناسبة أين المثقفون الغاضبون منّا.لم نسمع أصواتهم منذ بدأ الغزو؟ لقد ذهبوا الى الجنوب ليقاتلوا الغزاة؟ لقد اشتاقوا الى عائلاتهم وقد يصبح بعضهم شعراءأرض محتلة أو شعراء مقاومة. ألا يزالون يخافون من هذه العقدة؟ولن يخلصوا منها إذن،لماذا يحذفون المثال؟ ليكبروا،ليقتلوا الأب ويستقلُّوا هل تتوقَّع تحوُّلا في كتاباتهم؟ لا أتوقع شيئاً ولكنهم أبرياء وطيبون/وأسرى نموذجين متناقضين سيكبرون في التجربة/في الطائفية لايكبر أحد ليسوا طائفيين هم يتامى وخائفون والطائفية موجة حماية عابرة إذن؟لماذا يستقوون علينا؟ لأننا غرباء ولأن الدولة بدأت عملية تكونُّها سينتخب الاسرائيليون بشير الجميل رئيساً للدولة. .................................. يا سيدة لبنان احفظيه لكلِّ لبنان-الدعاء الخافت ينتشر كالخيمة النبوية كالسقف مرفوعا على أبراج الدبابات الاسرائيلية. والعادة الاسرائيلية السرية تتحول الى زواج علني. والاسرائيليون يتمددون على شاطئ جونيه. وبيغن يلتهم في عيد ميلاده دبابة"مركاباه"مصنوعة من الحلوى ويدعو الى توقيع معاهدة سلام أو تجديد المعاهدة القديمة بين لبنان واسرائيل ويعاتب أمريكا:لقد أهديناك لبنان.. ما هي هذه المعاهدة القديمة المرشحة للتجديد؟ إن بيغن لا يعيش في زماننا ولايتكلم لغتنا.إنه شَبَحٌ قادم من عهد الملك سليمان وهو العهد الذهبي في التاريخ اليهودي العابر على أرض فلسطين، حيث جعل النقد عادياً في أورشليم كالحجارة وبنى الهيكل الباذخ على هضبة وزيَّنه بخشب الأرز والصندل والفضة والذهب والحجارة المنحوتة، وصنع العرش الملكي من العاج المطلي بالذهب. وأبرم معاهدة مع حيرام ملك صور أمدَّه بالمعادن والعمَّال الاختصاصيين، واصطاد معه السمك في البحر الأبيض المتوسط. سليمان يبني المراكب وحيران يقدم له الملاحين. سليمان يبني الهيكل ويحكم بعدما دان له المُلك،وتعلَّم شعبه من الفلسطينيين صهر المعادن وصكِّ الأسلحة وتعلَّم طرق الزراعة وبناء البيوت والقراءة والكتابة من الكنعانيين". بيغن يتقمَّص سليمان.يتخلّى عن مزايا سليمان عن حكمته عن أناشديده ومصادره الثقافية ولايأخذمنه غير العصر الذهبي المرفوع على دبابة. لايتعلَّم منه عبرة سقوط المملكة حيث ازداد الفقراء فقراً وازداد الأغنياءغنى.. لايعنيه منه غير البحث عن ملك صور لتوقيع معاهدة سلام.أين ملِك صور؟ أين ملك الأشرفية؟بيغن يُجمِّد التاريخ عند هذه اللحظة ولايصل الى نهاية الهيكل الذي لم يبق منه سوى حائط للدموع،حائط لا يدُّل علم التنقيب عن الآثار عن أنه أحد أبنية سليمان. ولكن ما لنا ولتاريخ ما خرج من التاريخ؟فكل شيئ بقي على حاله في وعي ملك الخرافة.. ومنذ ذلك الوقت لم يفعل التاريخ شيئا في فلسطين وعلى شواطئ البحر المتوسط الشرقية غير اتنظار ملك الخرافة الجديد: مناحيم بن سارة بن بيغن الذي سيحمي الهيكل الثالث من الغضب الداخلي ومن الغضب الخارجي بالتحالُف مع ملك الأشرفية بشير بن بيير بن جميل.. فدائيون من حَبَقٍ ومن حريَّة ومنذورون للجمرة على قرميد أغنية وشَهوْة شارعٍ صاعد على أسطورة حُرَّة هي الثورة هي الثورة.... خنادقهم هواء البحر وظّلَّهم يشقُّ الصخر نشيد نشيدهم واحد: فإما النصر وإما النصر ومنهم تولد الفكرة هي الثورة هي الثورة... وُلِدنا فوق أيديهم كما تتفتَّح الزهرة فكم مرة وكم مرة سيولد في ابنه الوالد؟ وتحمل غابة بذرة هي الثورة.. هي الثورة.. .............. وفي ساعات العصر هذه تتدلَّى السماءأكثر مُثقلة بالرطوبة والدخان والحديد سماء تصير الى يابسة. ولاتستطيع المباريات الاذاعية على صوت فيروز الأثر الوحيدعلى وطن مشترك أن تشير الى شيئ والى مشترك لأن الصوت انفصل تماماً عن مصدره رحل عن أرضه الى تجريد أزرق لايخاطب العاطفة في وقت تحوِّل الحرب فيه كل شيئ الى تفاصيل. "أحبك يا لبنان "إعلان لاتُصفِّق له بيروت المشغولة بشوارعها المقصوفة، المكثفة في ثلاثة شوارع.وبيروت لاتُبدِع غنائها، فذئاب الحديد المتوحشة تنبح من كل ناحية والجَمالُ المُغنَّى له المعبود ينتقل الى ذاكرة تشتبك الساعة فيها بأنياب النسيان الفولاذية، الذاكرة لا تتذكربل تستقبل ما ينهال عليها من تاريخ. أهكذا يصير الجمال السابق الجمال المستعاد في غناء لايناسب مقام الساعة جمالاًمأسوياً؟ وطن ينهار ويرمَّم في حوار الإرادة البشرية والحديد، وطن يرتفع على حنجرة تطل علينا من السماء، حنجرة وحيدة توحِّد ما لايتوحَّد وتؤلف مالايتآلف. هرب الكلام الى البعيد.أخذ الكلام كلماته وطار. فليس هذا الصوت صوت عذابنا ليس صوت الجنون وفي ساعات العصر هذه يعجز البدن عن حمل أعضائه وتعجز الروح عن الطيران، تتكوم فوق مقاعد الخوف واللامبالاة عاجزة عن الكلام. ونحن نجلس عاجزين حتى عن تبادل النظرات. آب بيروت لاتنقصه نار جديدة خلفنا مدرسة تحولَّت الى مستشفى،تحوم الطائرات بكثافة حول المستشفى. قال أستاذ العلوم السياسية القادم من الولايات المتحدة:سنصاب حتماً،فلنهبِط الى الطابق الأول. كان من الصعب إيقاظ"غ"فهي نائمة منذ شهر،ظننت أنها مريضة في الكبد. ولكنهم قالوا إن الخوف الشديد يدفع الخائفين الى النوم العميق،النوم المتواصل، إنها تنام وهي نائمة تصحو وهي نائمة تمشي وهي نائمة وتأكل وهي نائمة. غبطناها على نظام الوقاية الذاتي. ولم يكن الطابق الأول أكثر أمانا من الطابق السادس فلو قُصِفَت البناية لبقينا تحت الأنقاض. تزايدت وتيرة الطائرات وازداد انخفاضها. قلت لأستاذ العلوم السياسية لكي نخرج مما نحن فيه:أظن يادكتور ان الجدل حول الجامعة المفتوحة قد انتهى الآن. قال:وانتهت مرحلة كاملة من مراحل العمل الفلسطيني واللبناني الوطني وأوشكت تجربة المجتمع الفلسطيني في لبنان على الانتهاء. قلت:ومن أين تبدأ المرحلة الجديدة؟ قال حاسماً:ليس من الصفر كما قد يُقال،ليس من البياض بل من التراكم، لقدأنجزنا الكثير وعلينا أن نواصل تطوير ماهو صالح للتطوير، لم يعد في مقدورنا تركيب جملة كاملة ،وكان علينا أن نُعيد تركيب عناصر تجربة تتعرض للانهيار. لم يكن الرجل موحِشاً كان يعتني بأصوله القديمة ويفاخر بجذور تعرضَّت للاقتلاع منذ أربعين عاماً. يأتي من شيكاغو كل عام ليتدفأ بانبعاث شعبه. وقد ملَّ الغربة الطويلة في كلية العلوم السياسية هناك، وسكنه هاجس إنشاء جامعة مفتوحة للطلبة الفلسطينيين في الشرق الأوسط يكون مقرها لبنان. أن تطعن في جدوى الفكرة وقابليتها للتطبيق معناه أن تعتدي على أغلى أحلامه، فيتحول الى كتلة من الأعصاب للدفاع عن مشروعه. كان المستوى التعليمي ينخفض في الجامعات.ولم يتورَّع بعض الطلبة عن تهديد الأساتذة بالسلاح للحصول على علامات أفضل. كانوا يدخلون قاعات الامتحان مدججين بالمسدسات. كم من شكوى تلقيناها دون أن يتمكن أحد من معالجة المشكلة بسبب اختلاط الهوية التنظيمية. وقبل ذلك كان الخناق يضيق حول الطلبة الذين لم يجدوا جامعات عربية لاستيعابهم وكنت أمازح الدكتور:أفي مثل هذا المناخ الذي نعجز فيه عن ضبط شروط الامتحان تؤسِّس جامعة مفتوحة تحتاج الى استقرار اجتماعي ومستوى تربوي آخر؟؟ ولكن الدكتور كان شديد الايمان بنجاح الفكرة وبالأداة .كان ينظر الى واقعنا من بعيد. ومن بعيد تُخفي الظواهر تفاصيلها وتُقدِّم السطوع . ماهو مشروعك الآن؟سأعود الى شيكاغو. والجامعة المفتوحة؟أغلِقت... دخل علينا الأمريكي الذي يظهر حين ينبغي له أن يختفي،الأمريكي السعيد بما يرى . الشاهد على ما يتوافرلسواه من نعمة التجربة.حرب وحصار، أهنالك ما هو أكثر إثارة لأمريكي يلهث وراء أية مأساة بكاميرا ودفتر وزوجة في هذا الموت؟ سميته"الكوسمان"لأنه عاشق القضايا الساخنة.ولم أطمئن الى ما يبدي من افتتان بحرب تمدُّه بثروة اعلامية. كان علينا أن نموت أكثر ليعمل أكثر ولينتشي بمعايشة الضحايا.جاء من نيويورك خصيصا ليتفرَّج علينا. لم يكن صحافيا محترفا يركض وراء الخبر لخدمة المهنة.كان هاويا يصور المآسي بعدسة كاميرا تلفزيونية وعلى أشرطة تسجيل. ماهو شعورك؟عكس شعورك ماذا تقصد؟ ماذا لاتقصد؟ هل ستعترفون باسرائيل؟ لا.. كان الدكنور قد استدعي الى القيادة ليشارك في صياغة عبارات قانونية غامضة تداور حول السؤال الذي كان يشارك في القصف...عبارات غامضة حول قرارات مجلس الأمن. كانت الضحية مطالَبة بالاعتراف بحقِّ قاتلها في قتلها. كان المطمورون تحت الأنقاض مطالَبين بإعلان شرعية قاتلهم. لم تكن الفرصة مواتية لمثل هذا الاغتصاب السياسي،بقدر ماكانت السادية أسرابا من الطائرات. لأول مرة يُطالَب غيابنا بالحضور الكامل: الحضور من أجل تغييب الذات من أجل الاعتذار عن فكر الحرية من أجل القول إن غيابنا حق من أجل تزويد حق الآخر بحق تقرير مصيرنا. الآخر الحاضر في كامل أجهزة القتل يطالبنا بالحضور قليلامن أجل إعلان حقِّه في دفعنا الى الغياب النهائي.. لماذا نُطالَب الآن بالاعتراف؟ من أجل سلامتكم ومن أجل سلامة العالم. الغريق لايحرص على جريان النهر المحترق لا يحرص على بقاء النار مشتعلة والمشنوق لايحرص على متانة حبل المشنقة............ كنت أحمل عنقود عنب وجريدتين حين انقضَّ علي حرف"الهاء"الخائف أبداً في السلم والحرب ،الخائف من أي شيئ: من ليلة بلا عاشق من عام بالكتاب جديد من بيت بلا بيانو من شهر بلا نقود من طريق بلاغزل انقضَّ علي كما تنقضُّ التهم6ة على لص:متى تخرجون...متى ؟ لقد دمرتم بيروت بهذا العبث البطولي. قلت:تعنين البطولة العبثية قالت:لافرق،أمازلتم تصدقون؟ قلت:نصدِّق ماذا؟ قالت:أي شيئ.أخرجوا ...أخرجوا كي تعود المياه الى أنابيب البيوت. هي دائماَ هكذا:عصبية شقية ذكية غبية وجذابة كعصفور الدوري. نقدِّس الماء والعطر.وهي الأولى لكل عاشق من فرط رهافتها ودعتها المتجدِّدة. عذراء البدايات من عشرين عاماَ،وتُربّي تموجات بطنها لإغراء أسراب الحمام. تندفع وتتراجع،تلعق بلسانها قدم العاشق،تغسل جواربه وقفاه،تحلق له ذقنه تقدم له النهار على طبق من كستناء وتقدم له الليل على سرير من فُلّ. وسرعان ما تسخر من اندفاعها وأوهامها:أخطأت. إنه لايساوي شيئاً.كنا نداعبها أنا وأهلها،ونُّسمي طباع خيبتها جورج. هل تذكرين جورج؟فتقفز من وجهها الطفولي لتَعضّنا واحدا واحداً. نحن نواصل الضحك وهي تواصل كسر الأطباق. أحببتُ مروحة عواطفها وبراءة الشيطان فيها.وخوفها من الطائرات حين تجعلها تقفز كجندب فوقث الأثاث وتصرخ:بس ...بس . أبوها يبكي على أي انسان يموت في أي مكان. أمهاتصلّي لسيدة لبنان ليحمي بطلها لكلِّ لبنان. وأختها تعد الطعام لولد لايشبع، وننتظر خط الهاتف للاطمئنان على الشاتب الفرنسي.وأنا أواصل الاعتذار عن وجودنا في بيروت. متى تخرجون؟ حين يوقفون القصف،ويصبح طريق الميناء آمنا ً. إهدئي يا"ه"فلسنا نحن الذين نملك هذه الطائرات. الى متى تمضون في شيئ لايوصل الى أي شيئ؟ خذي عنقود العنب وابحثي في الجريدة عمَّن مات. إنهم يقصفون حتى بيوت العجزة،ويقصفون الشهداء ليعيدوا انتاج موتنا. هل ستذهبون وتتركون لنا شهدائكم؟ إذا استطعت أن تعيد إليَّ ما في دمك من دمي فسنأخذ معنا شهداءنا الى البحر. لاأقصد لاأقصد أن أجرحكم وسنأخذ معنا دخاّن المرايا وأحلام منتصف الصيف وأغاني فيروز عن بيسان لاأقصد لاأقصد أن أجرحكم وسنأخذ معنا خبز الكلام لاأقصد أن أجرحكم وسنأخذ معنا دخان القلوب المحترقة لاأقصد أن أجرحكم وسنأخذ معنا الصمت الذي يسبق غايات القصائد لاأقصد أن... وسنأخذ معنا آثار المطر المتجعِّد على خطى حاولت أن تُسمّي الوقت. لاأقصد أن أجرحكم وسنأخذ معنا ما استطعنا أن نراه من هذا البحر،وسنأخذه معناالى البحر. لاأقصد أن.. وسنأخذ معنا رائحة القهوة وغبار الحبق المعزول وهاجس الحبر. لاأقصد أن أجرحكم. وسنأخذ معنا ظلال الطائرات وصوت المدافع في أكياس مثقوبة... لاأقصد أن أجرحكم... وسنأخذ معنا ما خفَّ حِمْله من الذكريات،وعناوين أسطورة ومطالع الصلاة. لاأقصد أن أجرحكم. ولن نأخذ معا شيئا لن نأخذ معنا شيئاً لاأقصد أن أجرحكم. لن نأخذ معنا شيئا. خذي سريري ومكتبتي وحبوب نومي خذي غيابي كله خذي غيابي عن المقعد الجالس خلف الباب،خذي الغياب... هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-26-2009 هل بكيت؟لقد نزفت الملح السائل.ملح السردين الذي كان غذائي الوحيد منذ أيام. ولم يعد في مقدور الطائرات أن تخيفني ولم يعد في مقدور البطولة أن تطربني. لاأحب أحداً وولا أكره أحداً ولاأريد أحداً ولاأحس بأحد لا ماضي ولا مستقبل لا جذور ولا فروع. وحيد كتلك الشجرة المهجورة في العاصفة الكبرى على سهل مفتوح. ولم يعد في وسعي أن أخجل من دمعة أمي ولا أرتعش من تقاطع حلمين وُلِدا في لحظة واحدة عند الفجر.... لتكن بيروت ماشاءت،فهذا دمُنا العالي لها شجرٌ لا ينحني.يا ليتني ..ياليتني أعرف الساعة من أين يطير القلب كي أرمي لها طائرَ القلب لكي ينقذني من بدني لم أمُت بعد،ولا أعرف هل أكبر يوما واحداً كي أرى ما لايُرى من مُدُني لتكن بيروت ماشاءت،فهذا دمُنا العالي لها حائط يُبعدني عن شجني ولنا البحر إذا شاءت،وإذا شاءت فلا بحر في البحر.هنا أسكن فيها رايةً من كفني وهنا أخرج مما ليس لي وهنا أدخل في روحي لكي يبدأ منّي زمني ولتكن بيروت ما شاءت.ستنساني لأنساها أأنسى؟ليتني..يا ليتني!! أستطيع الآن أن أرجع مني وطني ليتني أعرف مذا أشتهي. يا ليتني!! ليتني. ................................... غروب للغروب تندفع كُتل الغيوم السوداء المعبأة بالبارود نحو حافة البحر. تحمل الطيور تعبها وتُحوِّم باحثة عن بقعة آمنة لا تطالها أجنحة الطائرات. غروب يدلنا على مافينا من تعب. ينهال علينا الظلام والفحم والقنابل ليشتاق الجسد الى جسد يضيئ شوقا لا لهفة فيه ولا موت شوقاً معدنيا آليا لا تخترقه عصافير سرية ولا نغم بعيد، شوقاً مقطوعا من شجرة الطارئ كما يشتاق الوقت الميت الى حبَّة فستق مالحة أو الى صوت صادر من راديو... الى أين أذهب في هذا الغروب؟ لقد سئمت الدرج.سئمت تلك الثرثرة هناك. وهناك شرفة الشاعر الذي رأى سقوط كل شيئ،فاختار موعد نهاتيته. أمسك خليل حاوي بندقية اليد واصطاد نفسه،لا ليشهد على شيئ، بل لكي لا يشهد شيئا ولا يشهد على شيئ. لقد سئم هذا الحضيض،سئم الأطلال على هاوية لا قاع لها. وما الشعر؟الشعر أن يكتب هذا الصمت الكوني النهائي الكلي كان وحيدا بلا فكرة ولا امرأة ولا قصيدة ولا وعد ماذا بعد وقوع بيروت في الحصار؟أيُّ أُفق، أي نشيد.لعبتُ معه"طاولة الزهر"منذ أكثر من شهر لم يقل لي شيئاً. جلسنا ولعبنا لعبة لاذكاء فيها ولاومناورة،الحظ هو الذي يلعب وعلى الحظ أن يطيع خليل حاوي وإلا غضب على الحظ وعلى شريك اللعب كان يعنيه كثيراً أن ينتصر عكس الشاعر"أ"الذي ينتصر ويبتسم وينهزم ويبتسم، لأن ما يعنيه وما يراهن عليه يقع خارج هذا اللعب. لذلك يفتقر اللعب معه الى شيئ من الحماسة عكس خليل حاوي المتحمِّس المتوتِّر اللاعب الطاعن في الهجاء.لاأريد أن أطلُّ على شرفته.لاأريد أن أرى ما فعله نيابة عني. لقدخطرت الفكرة إيَّاها على بالي وتراجعَت وقريبا من هذه الشرفة بعد أربعة شوارع تحت، سقط شاعر آخر منذ قليل شاعر سمَّى نفسه الذئب و الغجري وسيِّد الرصيف،كان يوزِّع هويته الشعرية"الرصيف" عندما أصيب بقذيفة،كان عدو المؤسسة أية مؤسسة. وكان يُنشِئ مؤسسة الرصيف كان ينشئ مؤسسته ولكن منافسه على الرصيف خصمه العنيد"ر"يقول باعتزاز: أنا قتلت علي فودة ،كيف قتلته سألناه.؟ قال في هدوء عقلاني:سلَّطت عليه كراهيتي.كراهيتي هي التي قادت القذيفة الى بطنه أنا الذي قتلته،ألست نادماً؟سألناه قال:لاإنني أكرهه حيا أو ميتا وأستحقُّ التهنئة. ............................................. الى أين أذهب في هذا الغروب؟قادتني خُطاي في ضوء الطائرات والقذائف الى منزل"ب". يبدو لِمَن لا يعرف"ب"أنه يقود هذه الحرب كلها،من الجبهة العسكرية الى المفاوضات الى الاعلام. حيوي.فتيّ،شقي.وجد في هذه الحرب لعبته الضائعة. إحدى يديه على الهاتف يصرِّح بما يعرف وبما لايعرف. ويده الأخرى تكتب الأوامر والتعليمات والتوصيات. ينظِّم عشرين موعداً في الساعة ولا يتعب. خليَّة نحل في رجُلٍ كرَّسته الأقدار للطنين. صديق بلا شروط،مرح،ذكي،معطاء، وفي منزله صنم لا يتكلم،صنم يُهتَف له ويُسجَد له. كلما صمت أكثر أثارت حكمة صمته عاصفة من التصفيق. وفي منزله صديق اسمه"أ"قادر على تصوّر شكل العالم بعد نصف قرن من الزمان. أفكاره المبنية على منطق شكلي سينمائية الإثارة. يتكلم عن الدول الكبرى والصغرى كما يتكلم عن شوارع بيروت،بلا كلفة وبلاتردُّد. وإذا صدقت آماله فهذا يعني أن هذا الشرق سُيحاصر بعد قليل بين نوعين من كهنة الظلام. أوافق على هذا الاحتمال باعتباره حدّاً أقصى لتطور التدهور،باعتباره أحد أشكال الكارثة القادمة. ونختلف الى مالا نهاية حين يرى أن ذلك هو طوق النجاة الوحيد، وأن في وسع ظلام أن ينتصر على ظلام.ويكون الفجر لنا . وأنا لاأصدِّق ولاأريد أن أصدق أن تاريخ الشرق سيكرر نفسه بطريقة ميكانيكية أو حتى إبداعية، مهما انفصلت شعارات السياسة الحديثة عن مبادئها،ومهما تخلَّص الخطاب من مضمونه، فلن أتوقع تغيير العربر وتطوير العرب من غير العرب. ولاأرى ذلك النموذج المُعَد لإغراء اليائسين من العصر بالايمان قد يَعِدُنا بما هو دون العودة الى الصراع على أسئلةلم تعد أسئلتنا. مالي وأخطاء عثمان بن عفان؟إذ ليس هذا التاريخ وحده تاريخي.. يصرُّ"أ"و"ب"أننا لن نخرج،لالأنهما يفتقران الى المعلومات وخبايا المفاوضات، بل لأن فكرة الخروج من بيروت تشبه فكرة الخروج من الجنة أو من الوطن. كان يصعب على مَن شارك في صياغة التجربة وشهد نمو بدايتها المرافق لنموه الشخصي أن يلقى نفسه خارجها وهو يلامس نهاية بدت له صاعقة. لم يكن أحَد قد أعدَّ نفسه ولو في الخيال لمثل هذه الفرضية. لنفترض أن موازين القوى أخرجتنا من هذا المكان فماذا أعددنا للرد على الاحتمال؟ماذا أعددنا لما هو أسوأ؟ ماذا أعددنا من بدائل لهذا التركز المؤسساتي الكثيف؟ هل أصابنا نوع من القدرية ومحالفة الحظ؟ألم ننجُ أكثر من مرّة، الى متى نعتمد على النجاة؟. و"م"صامت بعيد عنّا وبعيد عن السحالي. منكفئ،يرى البحر،يرانا في البحر كأنه خارج للتو من كابوس. لايراه أحد وهو يدثر بالصمت ويردُّ عنا أمواج البحر المتلاطمة في الغرفة. هل ترى ما لانرى يا"ميم"؟يرد:وهل ترى ما لا أرى يا "ميم". خفت:هل رأيت حلمي.لم تكن أنت في منامي. قال:لم أكن في منامك،ولكن هل ترى ما لا أرى؟ هدأت أصواتهم ليتأكدوا من أننا أصبنا بالجنون.. أخذني الى الشرفة:هل شقتُّك"منزلك" آمنة؟سألت:ماذا تعني؟ قال:هل تصلح لنوم القائد.هل جيرانك معنا أم ضدنا؟ قلت:البحر ضدنا.قال:هل تعني أنك تخشى على سفينته؟ قلت:أعني أن واجهة شقتي زجاجية ومفتوحة على قذائف البحر. قال:لا تصلح.ومن الفضل أن ينام الليلة أيضا في كراج للسيارات أو على الطريق. هبَّت رياح الجنة،لقد استعدَّ لكل شيئ وأبطل توقيعه. لم يبق على المسرح احتمال لدخول شخصيات جديدة. ووقف وجهاً لوجه أمام القضاء والقدر.هل كانت التراجيديا إغريقية أم شكسبيرية؟ لقد زُجَّ بكل عناصر الدراما في المشهد الطويل. فهل يضحي بالطفلة الرهينة بيروت أم يخرج الى ما لايعرف؟ هل يموت هنا في انفجار عظيم لِتُشهر الفكرة نبوّتها،أم ينقذ هذا البناء على السفن؟ لم يبق هنا شيئ يُحرِّك ما هو خارج البحر والسور. وانفضَّ العالم من حول المشهد.وحيد...وحيدالى مالا نهاية. هل كان وحيدا منذ البداية دون أن يدري. هل جاء متأخرا أم جاء مبكرا هذا الحامل عود الثقاب في حقول البترول؟ وحيد كمقطع في نشيد لا مطلع له ولا ختام،وحيد كصرخة القلب في برية.. بعض الجمعيات الدولية تَعدُّ لنا الخيام لمواجهة الشتاء القادم،فنحن مازلنا في وعيهم لا جئين يستدرون العطف ويخافون الشتاء. وامريكا تحتاج الينا قليلا،تحتاج إلينا لنعترف بشرعية ذبحنا،تحتاج إلينا لننتحر لها،أمامها،من أجلها، والقبائل العربية تقدم لنا الدعاء الصامت بدلاً من السيوف.وبعض العواصم تُمجِّد بطولاته فينا وينكر دمنا، فلا اسم لمَن يقاتل حول المطار!!وبعض العواصم تعد لنا خطاب الوداع الجنائزي.. هبَّت رياح الجنة.فهل سيقول الحقيقة.هل سيقول الحقيقة؟لن يقول.. سألت"م":أي بحر سنسلك؟قال:البحر الأبيض،ثم البحر الأحمر. قلت:لماذا أنت بعيد.هل كنت في منامي أمس؟ قال:لاأعرف،أي منام؟ قلت:كنا هنا.الغرفة ذاتها الكلام نفسه.الصنم إيَّاه والغارات هي الغارات. دخل حارس البناية يبلغنا أن شخصاً غريباً يدّعي أنه صديق جاء لزيارتنا. فوضع كل رجل يده على مسدسه لاستقبال ما قد يسفر عنه الباب من غموض. وخبَّأنا الصنم في الحمَّام.ولكن الزائر عز الدين قلق بتوتره الضاحك. سألناه:كيف وصلت؟قال:كما وصلتم أنتم.لم يتغيَّر فيه شيئ. بعيد وأليف.ولكنه كان ينظر إليك بريبة مَن يقابل غريباً لا يعرفه. قلنا له:اطمئن يا عز:فإن"ميم"في غرفة العمليات. كنا نتكلم معه بلا دهشة كأنه مسافر عادي قادم من باريس كان يواصل حضوره بيننا ويشاركنا عملية الانسلاخ الجماعي الكبير عن هذا المكان. نسينا أنه غادرنا الى الأبد منذ عشر سنين،وأن الموتى لايزورون الأحياء إلا لإثارة التآويل. ولكن عز الدين بيننا بلا جلبة وبلا فزع. سألته عن أحواله هناك في الآخرة.قال إنها عادية ولاجديد تحت الشمس. قلت:هل هناك شمس؟قال:نعم. سألته عن المناخ فقال إنه حار ورطب لأن المناخ في آب حار ورطب. سألته عمَّا إذا كانوا هناك يعرفون أخبارنا ومايحدث في هذا الحصار؟ فقال إنهم يتابعون الأخبار ساعة بساعة على شاشة التلفاز. ويتألمون من الغيظ لعجزهم عن تقديم أي عون لنا. سألته عمّن وصل إليهم منَّا لعلَّهم قدموا لهم شهادة حيَّة عما يجري. قال:لم يصل إلينا أحد. قلت:وقد نسفوا مقبرة الشهداء فهل نجا أحد من الشهداء وجاء إليكم؟ قال:لم نقابل أحداً منهم،وسألته أين تقيم؟في الجنة أم في النار؟ قال مستغرباً:ماذا تعني؟قلت:من أين جئت:من الجنة أم من جهنم؟ قال:جئت من هناك...من الآخرة. حدَّقتُ اليه ملياً لأتأكد من آثار عنوانه على جسده فوجدته طبيعيا وعاديا،كما غادرنا لاآثار للجحيم ولا علامات للنعيم.أهذا كل شيئ يا عز الدين..أهذا كل شيئ؟.. هل تزوجت؟قال لم أجدها بعد.مَن لا حظَّ له في الدنيا لا نصيب له في الآخرة. سألت:وكيف تقضي وقتك هناك؟ قال:كالمعتاد..من المكتب الى غرفتي في الحي الجامعي ومن قاعات المحاضرات الى بيوت الطلبة. وأتذكرك حين أسافر في القطار من باريس واقفاً وحين أطل على منزل بيكاسو وعنزته الشهيرة وحين أدخل المطعم ذا الجدران الممتلئة بجميع أشكال الخبز، وأتذكر الطلبة التونسيين الذين صاحوا بنا في عيد الثورة: سُحقاً سحقاً بالأقدام لدعاة الاستسلام،فرددنا عليهم: سحقاً سحقاً بالأقدام لدعاة الاستسلام. التفتنا الى "ب"فلم نجده..كان مشغولا بحماية الصنم من القصف.. قلنا لعز:أما زلنا قبل التكوّن في حاجة الى الأوهام لنتكوّن؟ قال:يبدو ذلك قلت:ومازلنا في مرحلة التكون في حاجة الى أصنام يعبدها بحثنا عن المثال؟ قال:يبدو ذلك.. قلت:ومازلنا في مرحلة سباق الدم مع الفكرةوسباق الفكرة مع الإطار في حاجة الى حبر فاسد والى أدب مبتذل لنقول إننا مؤهلون؟ قال:يبدو ذلك قلت:إذا كالن الجواب عن ذلك هو يبدو ذلك،فلماذا نخرج من بيروت الى الفضيحة..ودواليك؟ قال:لاأعرف/قلت:كيف تفكرون هناك؟/قال:مثلكم كما تفكرون هنا. قلت:يا عز الدين ماذا تفعل هنا،ألم تُقتَل؟ألم أكتب فيك رثاء.ألم نمشي في جنازتك في دمشق، هل أنت حي أم ميت؟ قال:مثلكم!! قلت:ياعز الدين،لنفترض أنني قلت أننا أحياء،فهل أنت ميت؟ قال مثلكم قلت:يا عز الدين لنفترض أنني قلت إننا موتى،فهل أنت حي؟ قال:مثلكم صحيح يا عز الدين ماذا تريد مني؟ قال:لاشيئ/قلت:إذن دعني وشأني قال:آن لي أن أذهب؟/قلت:الى أين؟ قال:من حيث جئت قلت:ابقى معنا قليلا...سنخرج معاً قال:انتهت جنازتي،وعليَّ أن أعود قلت:من أين جئت/قال:لاأعرف.. صافحنا واحداً واحداً ولكنه خصَّك يا"م"بنظرةخاصة سحبتك منَّا قليلاً. عانقناه على الباب...حيث تلاشى كخاطرة شاردة.نظرت الى الدرج فلم أجده. نظرت الى الشارع فلم أجده.اختلط بأمطار القذائف. لم أجده في أي مكان.نظرت الى شظايا الصواريخ فلم أجد أحداً.لم أجد أحداً...عزالدين اختفى. قلت:لهم:هل كان مضطراً للعودة؟ قالوا:مَن هو الذي كان مضطراً للعودة./قلت :عزالدين قالوا باستهجان:من هو عز الدين؟ صرخت:الرجل الذي كان معنا هنا الآن،ومازالت خطوته تدقُّ الدرَج نظروا إلي كما ينظرون الى ممسوس. أشرت الى مقعده المسكون بطيفه:هنا..هنا..كنتم تتحدثون اليه.كنتم تعانقونه. لم يصدقوني.قدموا لي كاساً من الماء وفنجان قهوة.. هل يحلم المرء وهو جالس مع الآخرين؟ هل يحلم المرء وهو يحاور؟ |