حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$archive_pages - Line: 2 - File: printthread.php(287) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(287) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 287 eval
/printthread.php 117 printthread_multipage
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5)
+--- المنتدى: لغـــــــة وأدب (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=78)
+---- المنتدى: محمود درويش (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=23)
+---- الموضوع: هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" (/showthread.php?tid=3174)

الصفحات: 1 2 3 4 5


هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-26-2009

البجر يقترب منّا.الخريف يقترب من البحر.
آب يسلِّمنا الى الخريف.فالى أين يأخذنا البحر؟
القصة إيّاها لا أكتبها ولا أنساها.غصَّة الكتابة وحرمانها الأبدي.
قصة الرجل الذي جلس سبعاً وعشرين عاما فوق صخرة على شاطئ صور.
أمَا آن لها أن تعتقني؟أما آن لها أن تأخذني معها الى البحر.
ولكن مَن يفُكِّر بالكتابة في هذا اليوم.سأنسخها مرة أخرى لأتدرَّب على الكتابة.
سأنسخها لأجد طريقي الى البحر.
تعبتُ من كثرة ما سألتُ هاني:كيف نسمّي الرجل الذي نسينا اسمه!
ومتى تأخذني الى الصخرة التي هبط منها كمال الى البحر؟
تساءل هاني مَن هو كمال؟
قلت:هو الرجل الذي أسألك عن إسمه منذ ثلاث سنوات،
الرجل الذي كان جالسا فوق صخرة على شاطئ صور في انتظار حمامة تظهر
من الجنوب الغربي حين تكون الرؤية واضحة وحين يكون البحر عاقلاً.
ولم يكن يعرف شيئا لاشيئ غير تلك الحمامة التي لايعرفها أحد.كانت سرَّه الباقي.
وحين كان أصدقاؤه في المخيم يجتازون الحدود ويعودون أو يموتون لم يكن يكترث
هو بأخبارهم أوبطولاتهم.
كان يجلس على الصخرة في انتظار الوقت المناسب الذي سيأخذه على البحر الى الحمامة.
ولم يكن بإمكان الطائرات المغيرة أو جنازات الشهداء أن تسلخه عن الصخرة.
كان الضباب والغروب وحدهما يعيدان كمال الى العائلة.
سألت هاني:هل تعيش حمامة سبعاً وعشرين سنة؟
قال:إن كمال يعتقد أنها تعيش من الأزل الى الأبد.
سألت:ولماذا لا يصطادها.
قال:لأنها لا تطير،ولأنه لا يستطيع الوصول الى بُرجها.
وأخيراً وضع يديه على الطاولة وفتحهما لسكب السر دفعةً واحدة:لماذا أُتعِبكَ وأُتعب صدري؟
فالمسألة لاتحتاج الى كل هذه الأسئلة :
الحمامة هي حيفا...
..لأن جبل الكرمل المنبثق عن صعود البحر الى السماء وعن هبوط السماء الى البحر،يرسم معجزة:
أعني عنقاً مُطوَّقة بقبلةٍ مجبولة من حجر وشجر،أعني حيفا،تتقدَّمُها شهوة حارة في شكل منقار مُلوَّن
يشهد على أنَّ في مقدور موجة جامحة أن تتحجَّر من الأزل الى الأبد.
لأن الامر كذلك فإن حيفا تشبه الحمامة.وكل حمامة تشبه حيفا.
ولكن ما لايدركه كمال هو أن المدينة تطير ..تطير في دمه.
وكمال ينطوي على سرِّه.يلتف بذكريات صارت أحلاماً يتعبَّد ،
يزيح عن نفسه زمناً لا يستهويه فلا يعترف به.
كلُّ ما يجري في هذا الزمن هو همُّ الآخرين أو صغائرهم.
اندلعت حروب أربع دون أن تعنيه أو تكون حروبه،طالما لم تأخذه شظية واحدة من شظاياها الى..الحمامة.
أعطني مزيدا من التفاصيل عن كمال يا هاني.هل عرفته شخصياً،هل رأيتَه في صور؟
يتردَّد هاني في الإجابة فأعرف أنه لا يعرف ولكنه يقول:
لا يعرف البحر مَن يراقب البحر.لايعرف البحر من يجلس على الشاطئ.
ولايعرف البحر إلا مَن يغوص.يجازف.وينسى البحر في البحر.
يتلاشى في المجهول كما يتلاشى في إمرأة الحب.لا فاصل بين الزرقة والماء.
هناك تعثر على عالم لاتقبض عليه الكلمات.لايُرى لا يُلمَس إلافي أعماق البحر..البحر هو البحر..
لا أحبُّ شعرك ياهاني ،حدِّثني عن كمال،لا تحدثني عن نفسك!
لا يستطيع منذ ثلاث سنين وهو يروي قصته مع بحر صور،ولاشيئ عن كمال،لاشيئ عدا العنوان.
قُل لي ما هي سيرة كمال؟
قلت لك إنه يسمّي حيفا حمامة.وهوأيضاً صيَّاد سمك يصطاد في الليل وفي النهار يتطلَّع الى الحمامة.
لايستطيع أحد ملاحقة موجة غرقت في البحر.
حين يخرج العاشق السيئ من تجربة الحب الأول ومن محاولة الانتحار الأولى
يصعب عليه وعلى قاضي المحكمة التوصل الى إثبات البراءة أو نفيها فيدخل في السجن الأول ويخرج الى طريق آخر.
لأن العاشق السيئ الحظ يؤثِر العقوبة على الاعتراف المثير للسخرية.
ماذا لو قلت:حين قطعت الشارع هناك لم أكن أحمل قنبلة ولم أنتبه الى لافتة"منطقة مغلقة"؟؟
كنت أحمل أشواك القلب لأرميها في البحر لأن حبيبتي كانت تُزَفُّ في تلك الليلة.
وماذا لو قالت أيضاً:سيدي القاضي كنت أريد الانتحار في المجهول المائي الذي لا ينذر بالوجع.
ولكن القمر أطلُّ قويا فرأيت الحجارة المدبَّبة تحت سطح الماء الصافي فخفتُ الموت وعدت،
لأنه سيكون موتاًمؤلماً،موتاً صخرياً واضحاً جارحاً.فتبّاً للذين عينوا موعد الزفاف في ليلة مُقمرة!!
ولكن لو قلتُ ماكان ينبغي عليّ أن أقول لأنجو من السجن،
فهل كان القاضي سيقبل المسألة على هذا النحو.هل يصدق؟
هل يُصدِّق أني إجتزت هذا الطريق لأنتحر من أجل فتاة لا من أجل بلاد؟
وهكذا دلَّني القاضي على أن للبحر طريق آخر،أو أن في البحر سِرّاً آخر.
ومن يومها وأنا أذهب الى البحر ولاأراه.
هل تعرف لماذا لاتراه؟لأنك تذهب الى الشاطئ
ولكنني لاأرى البحر
لاأحد يعرف البحر كالآخر
وماذا حدث لكمال.أما زال يرنو الى الحمامة؟
عاد الى البحر...عاد ليلقى الحمامة.
كان كمال قليل الكلام أو شبه أخرس ربما كان يعتقد أن الكلام يفسد عليه الرؤية ويزعج الحمامة
ومع ذلك قال مرَّة:
في هذا المخيم
تُولد وردة
إذا عاشت طويلاً
ضاعت الحمامة
ماذا كان يعني؟
لاأعرف كان غامضاً كأنه ليس منّا .كأنه لا يشاركنا العودة...
في الخريف لا يكون البحر بحرياً،يكون سجادة من ماء،ويكون الضوء قصباً..
وفي الخريف تسكت أجراس البحر،وتقرع أجراس الدم..
وفي الخريف تذبل الحمامة..
وفي الخريف يتحول القلب الى تفّاحة ناضجة..
وفي الخريف تنكسر الذاكرة فيسيل الخمر من النسيان...
وفي الخريف ينطق الأخرس:
ياليتني أرمي خُطايَ
عى طريق من زَبَدٍ!!
يا ليتني أرمي خُطايَ لكي أنام
على سريرٍ من زبد
حيفا!لماذا لم تطيري كالحمام
حيفا!لماذا لاأطير ولاأنام؟
حيفا!لماذا لا تقولين الحقيقة؟
أنتِ طير أم بلد
ياليتني أرمي خطاي
وأستريح الى الأبد..
وسرق كمال زورقاً..
ظلَّ يُجذِّف في اتجاه الحمامة ولما اقترب منها كانت الظهير ساطعة.
وكان ريش الحمامة المطرَّز من الحور والغيم واضحاً.وكان حرس الشواطئ واضحين.
فأدار المجذاف عائداً الى عرض البحر وتظاهر بصيد السمك،
ريثما يهبط الغروب ويقفز الى طوق الحمامة النائمة بعد دقيقتين من الموج.
رأى موجته الضائعة فتعرَّف عليها:
حين صحا قبل سبعة وعشرين عاماً على صوت الرصاص القادم من منطقة البلدية فتح النافذة
فرأى الناس تندفع الى الميناء،فهبط من شارع عباس وأبحر مع المبحرين الى ميناء عكا
التي لم تكن محتلة.وعلى هذه الموجة وصل الى صور....
يبدو أن كمال فرح للطريقة التي استولى بها على مصيره الكامل.
فقد التقط اللحظة الفاصلة بين زمنين لا يلتقيان.
وسيطر على الموجة التي شرَّدته لتعيده الآن.
كأنَّ حالماً قد استطاع أن يصحو في اللحظة الماسبة،وأن يُسجِّل حلمه كاملاً على ورقة.
هل حدث من قبل أن عاد بحّار على الموجة التي شرّدته وضاعت؟
هل حدث من قبل أن قتل قتيل قاتله بضربة الخنجر ذاتها؟
هل حدث أن عاد أحد على طريق الرحيل؟.
لم يتمكن أحد من إخفاء سخريته من الطريق التي مشى عليها الآخرون كي يصلوا.
لم يكن يحجّ.كان ينزل من أقسى العقوبات بزمان كسره.سيجدف في هدوء.
سيرسو عند أول صخرة.سيُمسك بالزورق بكلتا يديه ليغرقه في رمل البحر بكلِّ مافيه
من حمامات رآها في سماء أخرى.سيبوِّّس هذه اليابسة ويغرف منها رائحة صبار تكسَّر وتبعثَر.
سيتحسَّس مفتاح أمه الذي استرده من قبرها.
سيمشي في شارع الملوك المحاذي للشاطئ ويتذكر عهده الأول في بيع السمك.
سيصعد الدرج الحجريّ العتيق الذي يبدأ من درج الموارنة وينتهي عند شارع الخوري.
سيلتفت الى شبابيك تعلَّم أمامها داء التدخين والصفير الأول،
ثم ينعطف يساراً الى الساحة المليئة المليئة بالقطط،
ثم يهبط خمس درجات ضيقة وزقاقاً أضيق ليفتح أمامه وادي النسناس بشرفاته المتدلية على كنيسة الروم.
سيتحاشى النظر الى الزاوية الشرقية المطلة على درج عريض يؤدي الى حيّ اليهود.
سيشتري رغيف خبز طازجاً من الفرن الواقع على رأس الوادي.سيصعد درجاً طويلاً على اليمين.
سيحيي السكان الجالسين على شرفات تجلس على الأرض عند مدخل شارع حدّاد.
ويصل الى تقاطع الدرج مع ثلاثة شوارع صاعدة يأخذها أحدها الى شارع عبّاس.
سيصعد ويصعد ويصعد ولن يلهث.سيقف طويلاً أمام القنطرة ليملأ رئتيه برائحة السنديان والطيُّون.
ثم يمشي سبع خطوات فيطلع عليه البحر والميناء.
يجلس على المقعد الخشبي العتيق ويداعب صور التي يراها من بعيد لأول مرّة فيحبها لأول مرّة أيضاً.
سيضع المفتاح في مزلاج الباب فلا ينفتح من شدّة الصدأ ،
سيدق على باب الجيران ويسلِّم عليهم ويشاركهم فرحتهم بعودته سالماً ويعتذر عن الرحيل.
سيفتح باب بيته ويُسرِع الى حنفيَّة الماء ليسقي النباتات التي عطشت.
سيتمدد على بلاط البيت وينام ساعات...ساعات..ساعات.سينام الى الأبد.
صحا كمال من غفوته القصيرة.الفرح يملأ البحر.
ومن فرط إحساسه بالحرية شعر أنه حبَّة قمح،
وأن البحر تربة خصبة وأن الموج سنابل.
نظر الى ساحل يمتدُّ في يده الممدودة فرأى قطعة ألماس تخرط الجبل لتنحت له مهداً سريعاً.
سينام أعلى من البحر قليلاً..أعلى من النوم.
سيشتهيه البحر.سيحوله الى عصفور من الحجر.سينام بعد قليل..
وحين هبط الغروب جذَّف كمال بحماسة لم يعرفها من قبل.
وحين اقترب من الشاطئ سلَّطت عليه الحمامة أضوائها الكاشفة.
لقد احتاج الأمر الى وقت ليعرف كمال أنه محاصر بزوارق حربية،
وأن البنادق مُصوَّبة عليه من جهات البحر كلّها،وأنّ الحمامة لست هي التي تبهر عينيه...
تجعَّّّّدت الموجة...
تجعَّدَ القلب..
هل معك أسلحة للقتل؟
معي حنين يقتلني
مِن أين انت؟
من الحمامة
الى أين تمضي ؟
الى الحمامة
ماهي هذه الحمامة؟
حيفا
مَن أرسلك؟
خيط الدم
كم عمرك؟
موجة تأتي وتضيع
أين كنت تقيم؟
في صور
ماذا كنت تعمل هناك؟
أصنع آلهة
ما أسماء آلهتك؟
الحمامة
هل أنت فدائي؟
لا
وماذا تريد؟
أريد أن أَدفن جُثتّي بيديّ تحت طوق الحمامة
لم يُصدِّقه رجال الشرطة البحرية ولم يفهموه.ظنّوه يناور.
صعدوا الى زورقه بحذر شديد.قيدوه،
نزعوا ثيابه،ولم يجدوا شيئاً.لا سلاحاً ولاهوية.
سألوه إن كان صيّاداً ضلَّ الطريق في البحر.
قال:لا،أنا لااضل الطريق،أنا أعرف الحمامة جيداً..وجئت لأراها..
لم يفهموه.هم أيضاً من حيفا ولكنهم لايعرفون أن حيفا حمامة.
هل كل مافي الأمر أنك تريد أن ترى الحمامة؟
نعم...
إذن سترى الحمامة!!
دقوّا يديه وقدميه وكتفيه بالمسامير على خشب الزورق،وقالوا:
إبق هنا.وأنظر الى الحمامة.الحمامة أمامك...
كان ينزف،وكانت الحمامة تكبر وتصغر...
وبعد أسبوع،أعاد البحر جثته الى شاطئ صور،
الى الصخرة التي كان ينظر منها الى الحمامة...
أهذا هو البحر؟
هذه هو البحر...

دخاتُ في ليل المدينة الكحليّ مثقلاً بالتعب وكوابيس اليقظة.
دارت بي حياتي دورات حادّة.لاأستطيع أن أواصل هذا التقاطع في الزمن،
ولا أستطيع أن أتوغّل في ماهو أكثر من أوّلِّ الليل.
مَن أوصلني الى الزقاق الفاصل بين"ماي فلور"و"نابليون"؟
لن أدخل الى هذا المكان فقد حفظتُ ما سأسمع.
كانت قنابل الطائرات المضيئة تفتح ظلام الزقاق واسعاً لخطىً أجرُّها جرَّاً ،
هنا لم أمُت.هنا لم أمت بعد.من عشر سنين وأنا أسحب ظِلَّي على هذا الرصيف،
وأوقِّع غربتي وأعرف أنني لن أبقى اكثر من عام.تكدَّس العام على العام.
منذ عشر سنين وأنا أقرع البوابة وأتلافى البحر.
كنت أُوثر الطريق البري الطريق الأول الذي مشيته منذ ثلاثين سنة ،
وسلكتُه ثانية الى هناك.
هل نسيت أن أرجع،أم نسيت أن أتذكر؟
كيف كان كل شيئ أي شيئ منذ عشر سنين؟
تمشي أيامي أمامي كقطيع من ماعز لا يأتلف .
تمشي أيامي ورائي كرائحة الوردة الواقفة عكس الريح.
وتمشي أيامي حولي كما أمشي حولها الآن في لعبة الكراسي الموسيقية الصادرة عن آلات معدنية.
هنا لم أمت.هنا لم أمت حتى الآن.
ولكن هذا الصراخ الهابط من السماء،والصاعد من الأرض لا ينقطع،
ولايتيح لأية صورة من صور أيامي أن ترسو على شكلها،
ولا يأذن لخوفي بأن يتكامل ولايسمح لطيشي أن يتغافل.كفى!
حرَّكتُ يدي في ظلام الزقاق المضيئ لأطرد عن رؤياي سحابة الطائرات كما يطرد المرءُ الذباب.كفى!
قلتُها بصوت أعلى فردَّت بصوت أعلى وأعلى...
وبصقَتْ كُتَلاً من لهيب أعادتني من رحلة القطار المسافر من حيفا الى يافا لأعرف أني أسير على طريق آخر.كفى!!
فهمتُ..وماذا لو كنت هناك؟هنا لم أمت...لم أمت بعد.كفى...سنخرج،قلنا سنخرج،
فلماذا تواصلون هذا الهراء الجهنمي.كفى ياأولاد الكلبة،
أيها المفتونون بالعضلات الحديد واشعة الليزر والقنابل العنقودية والقنابل الفراغية..كفى!!!
استعراض قوة مترف .قضم المدينة والأعصاب.والظلام سريع الانتشار في مدينة لا كهرباء فيها.
قطعة فحم واحدة تُنجِب هذا الظلام كله في أقل من نصف ساعة.
ولأول الليل مذاق مرٌّ..حامض..رخو.
مذاق يخلق في النفس بلاداً غريبة الغربة،
ويخلق في عطش الجسد الرطب شوقاً خاملاً الى عطش جسد رطب آخر.
ويسوق النسيان الى مجرى آخر:
كلانا يقتل الآخر خلف النافذة.
قطار الساحل يُسابِق البحر على اليمين ويسابق الشجر على اليسار.
مطر،مطر وشجر،مطر وشجر وحديد.مطر وشجر وحديد وحرية.
.........................................
وصديقي الشقي ّ يداعب صديقي الناحل المكفهر بلا نهاية.
لأول مرّة يأذنون لنا أن نغادر حيفا شريطة أن نعود في الليل،
لنذهب الى محطة الشرطة الواقعة على طرف الحديقة،
حديقة البلدية،ليقول كل واحد منّا طريقته:سجِّل أنا موجود.سجِّل!!
إيقاع جديد قديم أعرفه.سجِّل أنا،
أعرف هذا الصوت البالغ من العمر خمساً وعشرين سنة.
يا للزمن الحي،يا للزمن الميت،يا للزمن الحي الخارج مِن الزمن الميت.
سجِّل أنا عربي،قلتث ذلم لموظف قد يقود ابنه إحدى هذه الطائرات
قلتُها باللغة العبرية لأستثيره.
وحين قُلتها باللغة العربية مسَّ الجمهور العربي في الناصرة تيَّار كهربائي سِرِّي
أفلت المكبوت من قمقمه.لم أفهم سرّ هذا الاكتشاف،
كأنني نزعت الصاعق عن ساحة ملغومة ببارود الهوية،
حتى صارت الصرخة هي هويتي الشعرية التي لا تكتفي بأن تشير إليَّ بل تطاردني.
لم أدرِك أنني كنت في حاجة لأن أقولها هنا في بيروت:
سجِّل أنا عربي،
هل يقول العربي للعرب إنه عربي؟
ياللزمن الميت، ياللزمن الحي!!
نظرتُ الى ساعة يدي لأعرف ما هو عمري الآن.
خجلتُ من هذه النظرة:هل ينظرالمرء الى ساعة يده ليرى عمره.
منذ أسابيع نصب لي الصديق"أ"كمين الأربعين.
صرخ معين في الحفلة مُقَهقِهاً:لم تعد فتى.الحمد لله تخلَّصنا من فتى آخر.
لم تعد فتى.لقد صرتَ في الأربعين!!
قلت له:وماذا يبهجك يا عجوز؟/قال:يبهجني أنَّك في الأربعين.
وقلت:أنسيت أنك تقترب من الستين؟/قال:ليس هذا مهمّاً.
الأعمار كلها تتشابه بعد عتبة الأربعين.لقد أدركتني الآن.
منذ عشرين سنة وأنا أنتظرك هنا على عتبة الأربعين،وها أنت وصلت.
أهلاً وسهلاً.لم تعد فتى،لم تعد فتى.لقد سكر معين حدّ الهذيان،
حد الظن بأني أكبر وهو يتوقف عن الكِبَر.فتنتهُ المساواة.
قلنا:عاشت المساواة.واحتفلنا به...ياللزمن؟
القطار يقصُّ البحر والشجر.الشجر والبحر يهربان من القطار.
قطار الزمن على حديد العمر.
هل كنّا حقاً في العشرين عندما أخذتني هوينتي الى ذاك النشيد المصكوك
بحوافر خيل يلتهمها الأفق المفتوح على أفق مفتوح على أفق لا نعرف إن كان مفتوحاً أم مغلقاً؟
وهل كنتُ حقاً في السابعة والعشرين حين احتكَّ نشيد الهوية بنشيد الأناشيد وشبَّ حريقٌ في السوسن،
وسمعتُ آخر صرخات الحصان الهاوي من جبل الكرمل الى البحر الأبيض المتوسط؟
الى متى يتذكر الوجع أفعاه الساحرة...
والى متى نواصل الذهاب الى الأربعين؟
مصادفة....ليس أكثر من مصادفة أن يكون الخروج من الجسدخروجاً من البلد.
ولم أتذكر المصادفة إلا الآن.قطار ومطر وشجر،ومدفأة،
وقدمان حافيتان بيضاوان على جلود عشرين خروفاً في نشيد الأناشيد.
والمغني يغني لسوزان التي أخذته الى النهر.وهي تقول لي:
خذني الى أستراليا،وأنا أقول لها:خذيني الى القدس.
لا لم أتذكر شيئاً ولكنني كنت أحلم،فهل الحلم هو إختيار النسيان.
ومن المنام يخرج منام آخر:هل أنت حي.يا للزمن الحي،ياللزمن الميت.
لقد اكتملت الدائرة.أمّي البعيدة تفتح باب غرفتي وتقدِّم لي القهوة على طبق من قلبها.
أداعبها:لماذا أذنتِ لي أن أضع ركبتي على السكين وأضغط لتبقى معي هذه الندبة؟
ولماذا أذنتِ لي أن أمتطي الحصان مادام سرجه سيسقط ليسقطني تحته ولتبقى على جبيني هذه الندبة؟
الظلام الكحليّ يتفتَّح،ينفرج،يصير أبيض.الظلام أبيض حالك البياض.
وجدتُ نفسي جالساً على مقعد جلديّ مريح أستمعُ الى ثلاثي القتل المتناغم:
الطيران،والبحرية،والمدفعية.
أشعلتث قنديل الغاز ذا الشخير الأيف ومشيتُ الى غرفة المكتبة لأكتب وصيتي.
لم أجد ما أوصي به.لا سِرَّ في حياتي.لا مخطوطة سرية،ولارسائل خاصةأحتفِظ بها.
وناشري معروف.وحياتي فضيحةُ شِعري،وشِعري فضيحة حياتي.
رفَّ على بالي مطلع قادم من سطوح بيوت الجيران:
يطير الحمام،يحطُّ الحمام.يطير الحمام.
أعجبني أن أموت في الأربعين،لا قبل ولا بعد....






هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-26-2009

سمعتُ نقرتين على الباب.هي،هي كالمشدودة كنداء أخير.
هي المهووسة بلإطفاء الملح المشتعل في دمها.
ناديتُها بإسم آخر.قالت:مَن هذه؟/قلت:لاأحد.
حملتْ مصباح الغاز وراحت تبحث عن الاسم الآخر في كل مكان وعلى الشرفة.لم تجدأحداً.
هل تهذي،أم تحلم؟
شيئ من هذا،شيئ من ذاك.
مَن هي؟
لاأحد...
هل تهذي؟
أحياناً..
اقترَبَتْ مني وأشعلت نار بطنها الناعمة..ناراً زرقاء بيضاء،فحيح.
هسهسة ملح.أنين قطط مكبوت.ورغبة في موت مختلف.
أفي كلّ يوم؟قلت
في كل يوم الى أن ينتهي الحصار.أعود الى بيتي...
وتخرج من هنا.كن تابوتي لأكون تابوتك.
على الشرفة،أريد أن أرفع تابوتي على الشرفة،
على مرأى من طائراتهم وبوارجهم ومدافعهم على مرأى من أضواء الأشرفية.
مجنون؟
مجنون في الحياة
لا....
على الشرفة سترفعين تابوتك.الشرفة هي إعتداء الحياة على الموت.
هي مقاومة الخوف من الحرب.لاأريد أن أخاف.لاأريد أن أخجل.
ولكن،كيف اصرخ على الشرفة؟
أمِن الضروري أن تصرخي دائماً؟
الرجل لايفهم المرأة
المرأة لاتفهم الرجل...
وهنا لم أمت.هنا لم أمت.منذ عشر سنين وانا أعيش هنا.
لم أعش في أي مكان عشر سنين.
لم اتآلف مع رائحة الخضروات ونداء الباعة وضجيج البار المسلَّح
ومشاكل الماء والمصعد كما تآلفتُ هنا.هنا لم أمت.
شرفات كثيرة تطلُّ على شرفات كثيرة مفتوحة في الربيع والصيف والخريف وبدايات الشتاء
ونهايات الشتاء لتتبادل الأسرار والفضائح الصغيرة وأجهزة التلفزيون العالية الصوت
وروائح الثوم والشِّواء وأصوات إهتزاز الأسرة في ساعات بعد الظهر وفي الليل.
شارع صغير/صغير اسمه شارع"يموت"وهنا لم أمُت.
وهنا منذ قليل في موسم السيارات المفخخة كنت أمشي مع أحد الجيران في أول المساء
حين استمعنا الى خشخشة في سيارة،فنبَّهْنا سكان الشارع الى ضرورة مغادرة بيوتهم ريثما يصل الخبير العسكري،
فإن انفجار سيارة واحدة يقضي على سكان الحي الذين جاؤوا بحثاً عن الأمان حول الجامعة الأمريكية
من كل أنحاء المجازر والطوائف.
وحين جاء الخبير العسكري وعاين السيارة لم يعثر على مائة كيلو غرام من الديناميت،كما توقعنا،
بل عثر على جرذ جائع يقضم أمعاء سيارة.
ضحك الحي كلّه حين عرف أنَّ في وسع جرذ واحد أن يُهجِّر حيّاً بأكمله.
نعم،في وسع جرذ واحد أن يُُهجِّر مدينة،وأن يحكم دولة!!!
وهنا لم أمت.لم أمت بعد.كلَّما كانت تحطَ الطائرة في مطار بيروت
كنت أشم رائحة المجهول وعبق الرحيل القادم.
كان الضباب الصاعد من رطوبة الصيف وجفاف الربيع القاسي اللاذع السريع يوقظ فيَّ حاسة
المؤقت:هل سنبقى هنا؟لن نبقى هنا.
يبدو أن لنهايات الأشياء شكلا محدّداً،شكلاً من الغموض المحدد،
شكلاًمن أشكال تواطؤ الطبيعة مع الهاجس،أي هاجس،وخاصة في آب.
آب الشهر الدنيئ السافل العدواني الحاقد الخائن...
آب القادر على تزويد الرمز بما يحتاج اليه من جثث،
وعلى مدِّ تراخي الجسد بما تبول الطبيعة من عبوس البخار ونذير الرطوبة المحتقن.
وجه آب وجه حاقن لا يجد مرحاضاً ولا حائطاً مجهولاً.
آي شهر قَذر ضجر قاحل قاتل ،مائل الى نهايات تطول مقدماتها،نهايات لاتبدأ ولا تنتهي،
كأنَّ آب طائفية الفصول التي لم تجد أتباعها بعد.
آب قادر على استفزاز البحر،البحر الذي يحيل الى الأفق زفير الرصاص.

قل لي يا أخ محمود ماذا تقصد بالبحر،ما معنى البحر،البحر طلقتك الأخيرة؟
من أين أنت يا أخ؟
من حيفا
من حيفا ولاتعرف البحر؟
لم أولد هناك،ولدتُ هنا في المخيم
ولدتَ هنا في المخيم،ولا تعرف البحر؟
نعم أعرف البحر،ولكني أعني:ما معنى البحر في القصائد؟
معنى البحر في القصائد هو معناه على حافة البر.
هل البحر في الشِعرهو البحر في البحر؟
نعم البحر هو البحر.في الشعر والنثر وعلى حافة البر.
ولكنهم قالوا لي:
إنك شاعر رمزي مغرق في الرمزية لذلك ظننتُ أن بحرك غير البحر الذي نعرف،غير بحرنا.
لا ياأخ،خدعوك.بحري هوبحرك،وبحرك هو بحري.نحن من بحر واحد والى بحر واحد...
البحر هو البحر..
يتعجب المقاتل من عجز الشاعر عن تفسير شعره.
أو يتعجب من سهولة الشعرمادام البحر هو البحر،
أو يتعجَّب من حق الواقع البسيط في الكلام.
ألستَ أنت يا أخ مَن يُدخِل البحر الى الشعر،
حين تحمل البحر على كتفيك وتُثَبِّتُهُ أين تشاء.
ألست أنت يا أخ مَن يفتح فينا بحر الكلام على مصراعيه؟
ألست أنت بحر الشعر،وشعر البحر.
أنا برئ.أنا أدافع عن حقِّي وعن ذاكرة أبي وأحارب الصحراء.
وأنا أيضاً،ولكن البحر يااخي هو البحر.
واليه سنمضي بعد قليل في سفن نوح الحديثة،
في أزرق يسفر عن أبيض لا نهائي،ولا يُسفر عن ساحل.
الى أين...الى أين يأخذنا البحر في البحر؟.وهنا لم أمت.
لم أمت بعد.سأنام.
ما النوم؟
ما هذا الموت السحري المفروش بأسماء العنب!!
جسد ثقيل كالرصاصة يرميه النوم في سحابة من قطن.
جسد يتشرَّبُ النوم كما يتشرَّب النبات المهجور رائحة الندى.
أدخل في النوم رويداً رويداً على أصوات بعيدة
اصوات قادمة من ماض مبعثر على تجعُّد السريرو الأيام.
أقرع باب النوم من عضلات ترتخي وتتوتر.فيفتح لي ذراعه.
أستأذنه في الدخول فيأذن لي.أدخل.أشكره.أمدحه.أحمده.
النوم يناديني وأنا أنادي النوم.النوم سواد يتفكَّك تدريجيا الى رمادي وابيض.
النوم أبيض ،انفصال وأبيض.استقلال وأبيض.ناعم وقوي وأبيض.
النوم صحوة التعب وأنينه الأخير...وأبيض.
للنوم أرض بيضاء وسماء بيضاء وبحر أبيض،وعضلاته قوية،
عضلات من زهر الياسمين.النوم سيِّدٌ،ملك،سلطان،وإله.
استسلم إليه كما يستسلم العاشق لمدائح المرأة الأولى.
النوم جواد أبيض يطير على سحاب أبيض.
النوم سلام.النوم منامُ يخرج من منام:
هل أنت حيّ؟
في منطقة وسطى بين الحياة والموت
هل أنت حي؟
كيف عرفت أني أضع رأسي على ركبتيك وأنام؟
لأنك أقيظتني حين تحرَّكتَ في بطني.هل أنت حي؟
لاأعرف،لاأريد أن أعرف.
ولكن هل يحدث كثيراً أن يوقظنا من المنام منام آخر هو تفسير المنام؟
هذا ما يحدث الآن...هل أنت حي؟
مادمت أحلم،فأنا حيّ.لأن الموتى لا يحلمون.
هل تحلم كثيراً؟
حين أقتربُ من الموت..
هل أنت حيّ؟
تقريباً،ولكن في الوقت مُتَسعاً للموت.
لا تمت
سأحاول
هل أحببتَني؟
لا أعرف
هل تحبني الآن؟
لا
الرجل لا يفهم المرأة
والمرأة لا تفهم الرجل
لاأحد يفهم أحداً
ولاأحد يفهم أحداً
ولاأحد يفهم.
لاأحد..
لاأحد....
البحر يمشي في الشوارع.
البحر يتدلّى من النوافذ وأغصان الشجر اليابس.
البحر يهبط من السماء ويدخل الغرفة.أزرق..أبيض...زبد..موج.
لاأحب البحر....لاأريد البحر،لأنني لاأرى ساحلاً،ولاحمامة....
لاأرى في البحر غير البحر..لاأرى ساحلاً.لا أرى حمامة.....


هدية لكم"محمود درويش"ذاكرة للنسيان" - الإله ميثرا - 02-26-2009

هنا تكون هديتي لك قد إكتملت
أتمنى أن تستمتعوا بهذا النص الهذياني الرائع مثلكم
أسلوب يجعلك تنتشي بالقراءة تستمتع بالمحتوى
بإختصار تشرذم الأنا الفلسطينية وشقيقتها اللبنانية في ايام الحرب

تحياتي لكم والى لقاء