نادي الفكر العربي
صدمة الحداثة . - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3)
+--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57)
+--- الموضوع: صدمة الحداثة . (/showthread.php?tid=3539)

الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10


تأملات حرة . - هاله - 10-21-2008

راااائع كالعادة يا أستاذ بهجت

:redrose:


تأملات حرة . - بهجت - 10-23-2008

الأخت المحترمة هالة .
أشكر لك تقديرك و اهتمامك .
تابعت أيضا مشاركاتك في شريط دبي ، و لأني عشت هناك 15 عام متصلة ، هي أجمل سنوات عمري ، لهذا تشغل تجربة دبي اهتمامي و إعجابي ، و لكن لا يمكننا فهم التجربة دون أن نراها في سياقها الحضاري ، تجربة دبي كما أراها هي تجربة للتحديث و ليس الحداثة ، كما انها ليست تجربة للنهضة العربية ، و لكنها تنتمي للتجارب الميتروبوليتانية مثل هونج كونج ، وهذه المراكز العالمية تنتمي بعضها البعض و ليس لمحيطها الديموجرافي .
يقود دبي شيخ عربي متميز هو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ، و هناك أيضا بعض المواطنين يحيطون به ، و لكنهم لا يتجاوزون ال20 % ، معظمهم من أصول إيرانية ، و الباقي من جنسيات مختلفة ، منهم أكثر من النصف آسيويين ، أي أن الهنود و الباكستانيون و البنجال يمثلون 45 -50 % من السكان .
و كثير من الهنود يرون دبي مدينة هندية مثل بومباي مثلا ، و من الطبيعي ان نجد في الأفلام و الروايات الهندية أحدهم يرحل من دبي إلى حيدر أباد ثم لندن كما ننتقل في مصر من القاهرة للجيزة و الفيوم ، أكثر من ذلك فهنود دبي يمثلون شريحة خاصة جدا ليس كسكان دبي بل كهنود ، فيقدمون أحدهم كهندي من دبي !.هذا لا أدينه ولا أقيمه بل مجرد توضيح للصورة لا غير ، فبعض الهنود كانوا من جيراني و أصدقائي و ما زلت أفتقد تهذيبهم العالي .
نحن إذا أمام ( تجربة خاصة جدا ) ، و بالتالي تحكمها قوانين خاصة أيضا ، تجربة دبي في التحديث غير قابلة للتعميم ، هناك بالطبع بعض من الدروس القابلة للإستفادة منها ، و لكن كما نستفيد من تجربة هونج كونج و سنغافورة و ماكاو .
كل التقدير .


تأملات حرة . - خالق محجوب - 10-24-2008

قرأت الموضوع ولاحظت ان الزميل بهجت يحاول تقديم رؤية " وسطية" تراعي عدم الاشارة الى الدين بشكل مباشر على انه المذنب الحقيقي، من خلال الادعاء بأن " الثقافة التي تقرأ الاسلام" هي التي تقودنا الى المشكلة. ولكن، ماهي " الثقافة" التي تقرأ الاسلام ومن اين جاءت؟

بالتأكيد من الصحيح ان مجتمع يعتنق الاسلام سيقوم بإعادة صياغته مع موروثه الثقافي الخاص كما فعل السيخ قبل الف سنة، وكما فعل الافارقة السنغال، غير ان الوصول الى عصر العولمة، عندها سيبدأ الاسلام السلفي بالحلول محل الاسلام الثقافي في السنغال ونيجيريا والسودان الخ.
عندما يشير الاخ بهجت في تعليق لاحق الى اننا نسال " هل هذا مايجيزه ابن تيمية او ابو حنيفة"؟ يكون قد اشار الى الثقافة التي تتحكم بنا اليوم، وليس الثقافة التي صغنا الاسلام بها عندما قبلناه دينا. تلك الثقافة اصبحت في خبر كان ولم تعد هي التي تتحكم في سلوكنا اليوم، وثقافتنا اليوم منتزعة من " الاسلام النصي"، وبالتالي " فالنص" يتقاسم المسؤولية المباشرة مع بقية العوامل.

بالتأكيد يلعب قبولنا بسلوك " الالتجاء" الى النص كمرجع، دورا هاما، ولكن هذا السلوك جرى اقتباسه من النص ذاته وليس سلوك نشأ من منشأ عقلي خاص بنا. ان طريقة قبول التشريع، وقبول سلطته جرى غرسها وتشذيبها من " النص". بالتاكيد قامت قوى اجتماعية تاريخية متنفذة بتهيئة التربة للقبول بخلق هذا السلوك الثقافي المناسب لتسلطها، ولكن " وجود" النص كان حاسما، بإعتبار ان جميع القوى تبحث عن ادواتها، والمنتصر هو الذي يستخدم " افضل الادوات المتوفرة".

بالتأكيد، لايعني ذلك ان توجيه النار على النص هو امر مفيد في الظروف الحالية، من وجهة نظر بعض الاطراف، ولكن ذلك لايعني اننا تمكنا من اخفاء مسؤولية النص، او اننا سننجح بدون توجيه النقد لمصدر الازمة...

ليس صدفة على الاطلاق ان " معطم البلدان الفاشلة هي دول اسلامية"، وليس صدفة ان وجود " تناقض ملموس بين المسلم المعاصر والعالم حوله" ، وليس صدفة ان المسلمين يعارضون حقوق الانسان على نطاق واسع وليس صدفة ان " تعاني المجتمعات الإسلامية من ظاهرة تعارض نموذج الدولة مع الثقافات المحلية القوية"...

ليس من المعقول ان تكون كل هذه الصفات المشتركة قد ظهرت بنتيجة الصدفة في جميع المجتمعات الاسلامية، على اختلاف انتماءتها القومية والثقافية والجغرافية، لذلك لابد ان يكون الاصل المشترك لها هو "النص"... والنص وحده. رضينا ام ابينا..


تأملات حرة . - بهجت - 10-25-2008

الزميل المحترم محجوب .
تحية طيبة و شكرا على المساهمة القيمة ،و يسعدني أن أعلق عما جاء في تلك المساهمة .
أولآ : أريد بداية أن أضع الزملاء معنا في الصورة في القضية المطروحة ، وهي مشكلة العرب – و المسلمين - مع الحداثة ، هناك أكثر من إتجاه فكري تناول هذه القضية سواء بشكل مباشر أو بشكل ضمني ، هذه الإتجاهات يسهل تلمسها في الجدل العربي العام أو داخل نادي الفكر ، و يمكن أن أوجز تلك الإتجاهات بشكل عام في مجموعات .
1- الإسلاميون : وهؤلاء أيضا يمكن تقسيمهم في مجموعتين .
أ . الأصوليون : مثل الجهاديين و الإخوان المسلمين و الوهابيين والشيعة المحافظين ، و يشكلون الأغلبية الساحقة من الإسلاميين ، خاصة بين شعوب مثل السعودية و فلسطين و مصر و السودان و اليمن .... الخ ،وهم لا يرون مشكلة الحداثة إبتداء ،و يرفضون فكرة أن على المسلمين اللحاق بالحضارة الإنسانية المعاصرة ، لأنهم يعارضونها جملة و تفصيلا ، وعلى النقيض من ذلك يرون أن على العالم كله اللحاق بهم في عالمهم الإفتراضي .
ب . الإصلاحيون : وهم قلة بين الإسلاميين ، و أوضح نماذجهم هم جماعة العدالة في تركيا ،و الشيعة الإصلاحيين في إيران ، و بعض الإسلاميين المستقلين في دول مثل مصر و باكستان و سوريا ... الخ ،و هؤلاء يطرحون صيغا للتحديث تحت مظلة الإسلام ،و يرون أن الإسلام قابل للتطوير ليلائم متطلبات العصر ،و يمكن توليد صيغة تتجانس فيها الحداثة مع الدين ، بفرض أن الإسلام دين تقدمي متطور .
2- الحداثيون : وهؤلاء أيضا يمكن تقسيمهم في مجموعتين .
أ . الراديكاليون : هؤلاء يشكلون الأغلبية بين فريق الحداثة ، وهم يرون ألا فرصة للتقدم بدون التناطح مع الدين الإسلامي نصا و ممارسة ، و يمكن أن أستعير شعارا لهم ما قاله برنارد شو يوما :" لو لم نقض على التوراة ستقضي علينا " ، فيصبح المقابل " لو لم نقض على القرآن سيقضي علينا " ، وهم يخلطون بين الدين الإسلامي كعقيدة و كدور ، ويرتبون على عدم عقلانية النص الديني ضرورة التخلص منه ، و يمكن أن نميز هنا الماركسيين ، وهؤلاء الراديكاليون يشبهون في موقفهم من الدين موقف كثير من المفكرين في عصر التنوير و بداية عصر الحداثة في الغرب الحداثة ، أمثال كارل ماركس و بول هولباخ و توماس بين و كاي نلسن .... الخ .
ب . التعدديون : هذا اسم مؤقت .. مثل غيرها من الأفكار التأسيسية للحداثة ، هناك تنوعات على الفكرة المحورية (الدين قضية شخصية ) ، تتدرج هذه التنوعات من الطرح المذهبي (الدوجمائي) ، إلى النماذج الاسترشادية ( الباراديم ) المركبة ، هذا الطيف الواسع من الطرح العلماني لقضية الدين يمكنك أن تلاحظه بوضوح في الغرب ، فالموقف من الدين مختلف بشدة سواء من حيث المنهج أو الموضوع بين مادي ملحد ينتمي للثورة الصناعية مثل فولباخ أو كارل ماركس ، و ليبرالي معاصر ينتمي إلى عصر ما بعد الحداثة مثل نيكلاس لوهمان ، وكي نوضح الفكرة السابقة يمكننا أن نقارن بين نموذج توماس بين الرافض للمسيحية و نموذج نيكلاس لومان Niklas Luhmann لدين العولمة ، ليس فقط لتباينهما بل لأن الأخير يتناول بعمق ظاهرة الدين من رؤية ليبرالية ، و لأنه يتعرض مباشرة لمستقبل الدين في المجتمع العالمي المعاصر، أنصار هذه المدرسة لا يميلون للحكم على النص الديني ، و لكن لقبول الدين ( أي دين ) في نسقه الوظيفي الخاص ، طالما ظل محصورا في هذا النسق دون أن يتمدد على الأنساق الوظيفية الأخرى .
طارح هذا الشريط ينتمي للمدرسة الأخيرة ، وربما أعطى هذا الإنتماء الإنطباع بأني أسعى لموقف وسطي أو تصالحي ،وهذا ليس صحيحا ، فموقفي الثابت منذ البداية هو موقف علماني بلا ظلال .
و لنا عودة إستكمال باقي النقاط .
خالص المودة لك و لكافة الزملاء .


تأملات حرة . - بهجت - 10-25-2008

الزميل المحترم محجوب .
تحياتي .
ثانيا : أريد أن يكون واضحا أن عبارة ( الثقافة هي التي تقرأ النص ) ليست محاولة لتبرئة الإسلام من وصمة التخلف ، ووضع التخلف في رقبة ما يسمى الثقافة ،و اعتبارها كيانا منفصلا عن جوهر الدين و نصوصه ، هذا أبعد ما أهدف إليه ، و لكن هذه العبارة تعبر عن قضية ثقافية عامة ، و ليس فقط حالة خاصة مثل قراءة النص الإسلامي ، و بالتالي فتوظيف تلك الفكرة في تناول مشكلة الحداثة في العالم الإسلامي ، هي محاولة لفهم ما يحدث في ضوء إنجازات مدرسة هامة ( البنيوية ) في نظرية المعرفة ، هذه المدرسة هي التي أنتجت كتابات نصر حامد أبو زيد حول تاريخية النص ، وما يماثلها سواء محليا أو عالميا ، إن تركيزي على هذه القضية هي محاولة لفهم أسباب تخلف المسلم المعاصر و دور النص الديني في هذا التخلف ، ذلك رغم أنه وارث لحضارة كونية تاريخية كبيرة بكل المقاييس.
أرى أن القضية صادقة بنيويا و منطقيا و تاريخيا ، و هذه قضية يمكن مناقشتها بشكل منفرد لأن الأمثلة عديدة ، ربما أهمها تجربة العلمانية الأوروبية ذاتها ، رغم ذلك فالموضوعية تدعوني إلى الإقرار بوجاهة الرأي الذي أبديته حول ما يمثله النص الإسلامي من عوائق في مسار الحداثة ، وهذا ما يتفق معك فيه الشريط بلا تحفظات ، أما الشطر الثاني فهو تأثير النص على صياغة النسق الثقافي في المجتمعات الإسلامية ، و هذا الرأي أبداه أيضا صديقنا العزيز جعفر علي في نفس هذا الشريط ( المداخلة 14 ) ، و قد أبديت وجهة نظري في المداخلة (20 ) ، و بالطبع نتيجة طول الشريط الذي يعادل كتابا من حوالي 75 صفحة من القطع المتوسط ، فمن المستحيل قرائته كله دفعة واحدة ، لهذا أرشح المداخلة( 20 ) فقط لتوضيح وجهة نظري حيال هذه الفرعية ، بالقطع لا أتصور أن تلك المداخلة هي القول الفصل في القضية ، بل ربما كانت نوعا من الأماني لا أكثر ، أو كما قال المتنبي ( طوى الجزيرة حتى جائني خبر .. هربت فيه بأحلامي إلى الكذب ) ، لهذا يسعدني أن أسمع المزيد حول هذه القضية منك و من الزملاء .


تأملات حرة . - بهجت - 11-02-2008

الحداثة في مصر .

...........................................................
يداية لابد أن أشكر الزملاء المشرفين الذين ثبتوا هذا الشريط ، و أشكر أيضا و بالأساس الذين تفضلوا بالمرور و قراءة الشريط .
خلال بعض المداخلات سوف نتأمل سويا مصر كنموذج لتجربة الحداثة العربية ، و قد اخترت مصر لسبب بسيط هو أني كمصري أعلم عن مصر مالا أعلمه عن مجتمعات عربية أخرى ، و لسبب آخر هو أن معظم الزملاء العرب يعلمون أيضا الكثير عن مصر ، أو على الأقل يعتقدون ذلك و بعضهم يمارس هذا الإعتقاد بالفعل ، حتى أن هناك زملاء عرب يستفتون عربا آخرين عن الشأن المصري رغم أن خبرائهم هؤلاء لم (يعتبوا) مصر أبدا ! . من أهم خصائص الحداثة المصرية كما أراها .
1- تحديث اضطراري أو سلطوي . و هو التحديث الذي يصب على المجتمع من أعلى لأسفل ، و ينمو على جذور تم استيرادها من الخارج و استزراعها في غير مجتمعها ، و مصر في ذلك لا تختلف عن معظم مجتمعات المحيط ، هذه المجتمعات لجأت للتحديث استجابة لضرورات التعايش مع المجتمع الدولي ، و بالتالي فالتحديث يتم بشكل قسري بعيدا عن الإختيار الحر ، ففي مصر كغيرها من المجتمعات العربية و المحيطية المشابهة ، سعت النخب الحاكمة إلى محاكاة النظم الغربية في السياسة و القانون و الإقتصاد و حتى في الفنون ووسائل الترفيه ، هذا التحديث القسري هو تحديث سلطوي أيضا ، و بالتالي يخضع لإرادة و تصورات الحاكم الفرد أو النخب الحاكمة ، و أبرز خصائص هذا النوع من التحديث أنه قد ينجح في زرع الجديد في المجتمع ، و لكنه لا ينجح غالبا في التخلص من القديم ، و هكذا يتواجد الجديد و القديم داخل نفس المجتمع ، مما يؤدي إلى تناقضات ضخمة قد تنفجر أحيانا مسببة كوارث كبيرة ، مثل إنتفاضة الأصولية الإسلامية في مصر منذ نهاية السبعينات و خلال عقدي الثمانينات و التسعينات ، هذا النوع من التحديث القسري كان شديد الوضوح الفترة التي تلت إنقلاب 1952 ، فبسبب رغبة النخبة العسكرية الحاكمة في الإسراع في وتيرة التغيير ، تم إحداث تغيرات كبيرة في بنية المجتمع دون تمهيد كاف .
2- التحديث العشوائي . أكثر ما يميز التحديث المصري هو عدم الإنتظام ، و أنه يقوم على التجريب العشوائي لمجموعة متناقضة من النظريات و الأفكار ، قام محمد علي بالتركيز على بناء القوة العسكرية اللازمة لتأسيس إمبراطورية لخلافة الدولة العثمانية ، يكون مقرها مصر و يقودها هو و أبنائه ، و عندما فشل مشروعه أو مغامرته الشخصية ، إنقلب خليفته عباس حلمي الأول على سياسة والده ، و أخذ يدمر أدوات التحديث التي تبناها الباشا الكبير الراحل ، و كان التعليم على رأس تلك الأدوات ، سعي إسماعيل باشا إلى جعل مصر قطعة من أوروبا ، و من أجل ذلك بذل جهودا جبارة لتحديث مصر ، و ما زالت إنجازاته المعمارية هي الأرقى الذي تم تحقيقه في هذا المجال ، في المقابل كانت تجربة إسماعيل مثال واضح عن التحديث المنبت الصلة بالحداثة كما وضحناها في هذا الشريط ، فقام إسماعيل باستيراد منتجات الحداثة من الخارج بأسعار باهظة نائت بها موارد مصر مما أغرقها في الديون ،و انتهى الأمر بوضع مصر تحت الرقابة الأجنبية ،و أخيرا السقوط في براثن الإستعمار الإنجليزي ، جائت أفكار رجال 1952 إنقلابا تاما على الفترة السابقة لها ، فانتهت التجربة الليبرالية القائمة على رأسمالية السوق الحرة ، لتدخل مصر عصر الشمولية الإشتراكية بصورها المختلفة ، مما كان يعني إنقلابا كاملا على كل الأفكار السائدة ، و لم يستمر الأمر طويلا ففي منتصف السبعينات ، بدأ المجتمع في التحول مرة أخرى إلى الرأسمالية و التعددية السياسية ، وصاحب ذلك عودة المقدس إلى الخطاب السياسي ، مما كان يعني الإنقلاب على كل منجزات الحداثة العلمانية ، و التحول إلى عمليات تحديث شكلية تشبه ما يحدث في مجتمعات الخليج .
3- التحديث الشكلي ( المباينة المظهرية ) .وهذه الخاصية مرتبطة أساسا بالقاعدة الجماهرية الأوسع ، وتتمثل بالإستهلاكية العالية لمنتجات الحداثة ، دون مساهمة مناظرة في إنتاجها ، و في هذه الحالة يسعى الأفراد الداخلين في دائرة التحديث سواء بالتعليم أو الإنتماء الطبقي إلى تمييز أنفسهم عبر سلوكيات تمثل قشرة حضارية تخفي غالبا عقلية تقليدية تراثية ، و تكون عادة مصاحبة لنمط عالي من الإستهلاك و تقليد سلوك الغربيين كالإنتظام في شرب الخمور – بالإضافة إلى الحشيش الوطني - و التوسع في الحريات الجنسية ، و استخدام الكلمات و التعبيرات الأجنبية دون دراية كافية بتلك اللغات ، و فهم الحداثة أنها ترتبط بالفهلوة و الإسراف في الإستهلاك ، إن المباينة السلوكية المرتبطة بالحداثة هي تلك التي تتمثل في العقلانية و الثقة بالنفس و الإتفاق العام الحر و التمثيل النيابي و ... ،و لكن ما تحقق من مباينة في المجتمع المصري لا علاقة له بكل ذلك غالبا ، فالتحديث كما تفهمه النخب القائدة هو الإستهلاك و الشكليات الجوفاء ،وهذه القيم تترسخ باستمرار بحكم التعليم و بقوة الإعلام و المحاكاة الإجتماعية .
4- إنتفاضة الأصولية . ربما يكون هناك تناقض ما عندما نتحدث عن الأصولية كمظهر لعصر الحداثة ، فالأصولية هي نقيض الحداثة الحقيقية ، و لكن موازيا للتحديث الشكلي و المباينة المظهرية تفجر في المجتمع المصري نوع جديد من المباينة هي المباينة السلفية ، و كرد فعل لحداثة مظهرية تفجر التدين الشكلي أيضا ،و هكذا غرق الجميع في بحار من الغوغائية المدمرة ، تحديث شكلي في جانب و تراثية أكثر شكلية في جانب آخر ،و هكذا موازيا لإنتشار أحدث الأزياء الغربية في قطاع من المجتمع ، عاد الحجاب و النقاب ليكتسح الشارع المصري ، في تناقض تام مع كل التوقعات لحداثة حقيقية ، حداثة تحرر الإنسان من الخوف و الإستيلاب و من أزياء الخوف و الإستيلاب أيضا . مما هو جدير بالملاحظة أن أفكار و مفاهيم الحداثة تنتشر ببطء خلال الأفكار الوافدة من الخارج ، و أيضا بلا رعاية أو دعم من أي جهة ، في نفس الوقت نجد هناك العديد من النخب التراثية واسعة النفوذ و الممولة بسخاء من دول الخليج ، هذه النخب تتبادل الأدوار ما بين مؤسسات دينية سلطوية كالأزهر و دار الإفتاء ووزارة الوقاف ... الخ ، إلى معارضين ينتهجون الأساليب السياسية (الإخوان المسلمين) و حتى شيوخ الحزب الوطني !، وهناك أيضا الراديكاليين الثوريين ( جماعات الجهاد الإسلامي ) .
للموضوع بقية .


تأملات حرة . - بهجت - 11-06-2008

البناء الإجتماعي الحداثي في مصر .

...................................................................

في المداخلة السابقة حاولت استعراض آليات الحداثة في مصر من وجهة نظر إجتماعية ( سوسيولوجية ) ، و الأفكار التي عرضتها ليست من تأملاتي الخاصة ، و لكنها حصيلة قراءات مختلفة نتيجة إهتمامي بموضوع الحداثة و الفكر الذي قاد إليها ، و لأني غير معني بالجانب الأكاديمي البحت ، فقد قرأت الموضوع كله من الجانب الفكري الذي أهتم به ،و أيضا عرضتها من نفس الجانب ، و أوجز تلك الآليات لمن لم يقرأ المداخلة السابقة في : التحديث القصري induced modernity، و التحديث العشوائي indiscriminate modernity، و التحديث الشكلي أو السطحي superficial modernity ، و العودة إلى التقليدية revivification of conventionality ، و في هذه المداخلة سأقترح مجموعة من خصائص البناء الإجتماعي المصري الذي أفرزته آليات الحداثة السابقة ، هذه الخصائص هي إجتهادية بالطبع ، و يمكن لأي منا أن يقترح مجموعة بديلة أو يضيف و يخصم منها ، و يبقى الفيصل في ملائمة تلك الخصائص او عدم موائمتها هي القدرة التفسيرية ، فنحن نلمس في حياتنا اليومية و العامة مجموعة متنوعة من المظاهر و المشاهد ، و أحاول هنا هو تجميعها في مجموعات رئيسية ، هذه الخصائص المقترحة هي التي نحاول خلالها الوصول إلى الكيفية التي يتكون بها النظام الإجتماعي ، و كيف يعيد إنتاج نفسه خلال الأجيال المتعاقبة . سوف أهم خصائص البناء الإجتماعي في مصر من وجهة نظري ، هذه الخصائص هي نفسها خصائص الحداثة في مختلف المجتمعات العربية بشكل ما ، خاصة في المجتمعات المدنية مثل سوريا و لبنان و العراق و تونس و الجزائر و غيرها ، مع استبعاد المجتمعات التقليدية في الخليج لخصوصيتها ، هذه الخصائص هي :
1- النماذج الإجتماعية المتناقضة : أنتج التحديث في مصر عددا من نماذج الحياة الإجتماعية المتنافرة ، هذه النماذج تتجاور داخل المجتمع كالأبنية المتراصة بشكل عشوائي ، فكل منها ينتمي إلى جذور تاريخية و جغرافية متفاوتة ، هذه النماذج تتفاعل بين بعضها البعض ، و دون أن يلغي أحدها الآخر ، و لكنها أيضا لا تندمج بشكل يصهرها جميعا في سبيكة واحدة ، هذه الحالة من التجاور بين المتناقضات ، تعبرعن نفسها في الحقول الإجتماعية و الإقتصادية على السواء ، ففي المجال الإقتصادي نشاهد التكنولوجيا الحديثة المتطورة تتجاور مع الصور البدائية من الحرف اليدوية ، ونجد خريجي كليات الهندسة الذين يستخدمون المعدات الإليكترونية ، يعملون مع الأسطى حنفي و صبيه ( الواد بيلية ) في نشاط واحد هو إصلاح السيارات مثلا ، نفس الظاهرة نلمسها في العلاقات الإجتماعية ، فنجد لدينا نماذج متعددة للتفاعل الأسري تتفارق في كل التفاصيل ،و لكنها تتجاور في نفس المنطقة ، ففي مدينة نصر حيث أسكن توجد أسر أشبه بالأسر السعودية ، حيث قضت تلك الأسر هناك فترات طويلة ، فالمرأة ترتدي النقاب و تسير في الشوارع كالأشباح المرعبة ، و الزوج يحتفظ بلحية مرسلة معتقدا أنه بذلك يصبح صحابيا جليلا و رفيقا للنبي في الجنة !، و هناك أسر لا تدري عن هؤلاء شيئا و تعيش كنظرائها في الولايات المتحدة أو أوروبا ، حيث تقضي بالفعل فترات طويلة كل عام ، بينما لا تجد في الشوارع سوى أسر (البوابين) و العمال التي تعيش كما كانت تفعل في الريف أو في أكثر الأحياء الشعبية تخلفا ، و هكذا نجد الصيغ الجديدة تتواجد مع الصيغ القديمة و تتعايش معها ، و الجميع يكيفون أنفسهم كل بأسلوبه الخاص ، و هكذا يجدل المصريون حياتهم على أنماط متباينة ، هذا التناقض يسبب أيضا إحساسا بعدم الأمان ، و الخوف من المستقبل ، وهو ما يعبر عنه الإعلاميون بل و كل المتعلمين بشكل يكاد يكون هستيري ، هذه الظاهرة قد تكون موجودة في كل المجتمعات العربية بشكل ما ، و لكن من النادر أن تكون بنفس الحدة كما في مصر ، فهناك تناقضات إجتماعية في مصر لا يمكن تصورها ، هناك الطالب الجامعي الذي يذهب إلى الجامعة بجلباب تراثي كالمتسول ، مدعيا أن دينه الحنيف يدعوه لذلك ، وهو أيضا يتلقى تعليما شكليا لا جدوى منه ، و عندما يتزوج فهو يتزوج عرفيا ،و يمارس الجنس في جحر كالفئران ، بينما هناك من يذهب إلى جامعته الخاصة في أحدث السيارات ، حيث يتلقى تعليما متميزا ، و يقضي وقت فراغه مشاهدا نفس البرامج ، و مستمعا لنفس الأغاني مثل زميله في الولايات المتحدة ،و يتزوج في أفخم قاعات الفنادق ،و يعيش في أحدث الشقق أو الفيلات ، بينما ينتظره العمل العام او في مشروعه العائلي براتب مغري .
2- الإحتواء بديلا عن الإرادة الحرة . هذا التنوع الإجتماعي لا يعني أنه الثراء الثقافي الناتج من الإختلاف بين نماذج متعادلة ، فالمبدأ الحاكم لهذا التنوع الإجتماعي هو الإحتواء لا التكافئ ، الدوائر الكبيرة تحتوي الدوائر الصغيرة ، و كل حقل يتم إحتوائه بواسطة حقل آخر ،و هكذا تتسع الدوائر صعودا إلى أعلى ، فتقوم الدولة باحتواء كل الدوائر داخلها ،و في النهاية يتم احتواء الدولة نفسها في النظام العالمي السائد ، و الإحتواء قد لا يعني أن يعمل النشاط الأصغر ضمن النشاط الأكبر ، بل قد يعني أيضا الحماية و إفساح المجال للعمل ، فالأنشطة السياسية غير الرسمية يتم احتوائها في النشاط السياسي الرسمي للدولة ، هكذا نجد أن أحزاب المعارضة تعمل في دائرة محددة سلفا ،و صحف المعارضة تخدم عملية التنفيس عن الإحتقانات الطبقية و الطائفية ، ظاهرة الإحتواء تلك تفسر لنا روح الرعاية الأبوية التي تفرضها السلطة على الجميع من الموالين و المعارضين على السواء ، فكل يد تمسك باليد الأخرى ، و هكذا صعودا حتى أعلى درجات الهرم ، و تفسر لنا أيضا استحالة تحقيق الطموح الفردي سواء الإقتصادي أو السياسي خارج رعاية الدولة ، و انتشار صور الوساطة و الشفاعة في الحياة الإجتماعية ، و غياب تام لمفاهيم المساواة ،و تطوير قيم و معايير عامة يحتكم إليها الجميع ، كما يحدث في مجتمعات الحداثة الغربية .
3- الاستمرار و الإنقطاع . تعمل آليات الحداثة المستوردة في مصر على أن يستمر كل شيء و ينقطع كل شيء ،و يبدوا الأمر كله كتوزيع الأدوار في مسرحية ، وهذا يبدوا واضحا بشكل خاص في الأنشطة الاقتصادية ، فتبرز أنشطة بعينها في مرحلة من المراحل ، ثم تنكمش تلك الأنشطة في مرحلة تالية ،و يتصدر المشهد أنشطة أخرى ، و لكن الأنشطة الأولى لا تختفي بل تتقلص فقط ، وهذا يبدوا واضحا في التغيرات التي تظهر على تركيب الطبقات في مصر ، فقد احتلت طبقة كبار الملاك دور الريادة ،و استمر ذلك حتى منتصف الخمسينات ، بعد ذلك أسلمت القيادة للطبقة المتوسطة الصغرى ، التي قادت النشاط الإقتصادي بأسلوب رأسمالية الدولة ، مع بعض الإصلاحات الإشتراكية التقليدية ، و استمر ذلك خلال الستينات و السبعينات ، و في نهاية السبعينات ظهرت الطبقة الجديدة التي استلمت زمام القيادة ،وهي تقود البلاد خلال شبكة تحالفات واسعة و معقدة ، و هذه الآلية أدت إلى عدم وجود استمرارية في قيادة عملية التطور الإجتماعي ، تلك لظاهرة التي يطلق عليها البعض ظاهرة ( الإجهاض المستمر ) ، فهناك دائما حركة صعود و هبوط في التاريخ المصري الحديث ، ولا شيء يستمر طويلا في طريقه ، هذا كله أدى إلى نتيجة خطيرة للغاية هي إنقطاع الأفكار و المبادئ التي تشكل المرتكزات التي تقوم عليها عملية التحديث و التطور ، و فشل المجتمع في تطوير مجموعة من المعايير الضرورية للحكم على السلوك ، وهذه الظاهرة هي ما أطلق عليها العالم الفرنسي إميل دوركايم anomie ، أي افتقاد المعايير للحكم الأخلاقي على السلوك ، هذا التخبط في القيم و المعايير يؤدي تلقائيا إلى تفجر صور من العنف الفردي و الجماعي ، بشكل فجائي و غير متوقع ، و يمكننا أن نفكر الآن في ظواهر عنيفة غير مفهومة ، مثل حوادث التحرش الجماعي ،و الإغتصاب و السرقة بالإكراه ،و الجرائم داخل الأسرة ،و البلطجة و القتل العشوائي ، و عدم الإتفاق على تجريم حتى أوضح الجرائم التي يجرمها العالم أجمع ، مثل التحرش الجنسي و إضطهاد الأقليات و العنف ضدها ، حتى أبسط المعايير الأخلاقية لا تلقى القبول العام ، فهناك رجل الدين الذي يدعو الرجل إلى ضرب زوجته كنوع من العقاب الرباني ، بينما هناك زميل له يدعوا الزوجة في الوقت ذاته إلى الدفاع عن نفسها ، و تعلم فنون القتال لمواجهة الزوج العنيف !، و كلاهما يستمد سلوكياته المتناقضة من الدين و نصوصه ! ، إن قيما تحتفي بها الحضارة المعاصرة كالفن ، تشكل واحدة من تناقضات المصريين الهزلية ، فالدولة تحتفي بالفن و تكرم نجومه ،و تنشأ له المعاهد و تخصص الجوائز ، و لكن رجال الدين العاملين لنفس الدولة ، يحرمون الفن و يجعلونه من الكبائر ، و الفنانة التي تعتزل الفن تسمى ذلك توبة كما لو كانت عاهرة ، هذه مجرد عينات ملموسة من ظاهرة إفتقاد المعايير القيمية ، فكل قضية تقريبا نبدأ فيها من الصفر ، كما لو كان المصريين قادمون من كواكب مختلفة ، نقل الأعضاء و عمل المرأة و إثبات البنوة و .... كلها قضايا بلا معايير ثابتة ،وكلها تخضع لإستمزاج الحاكم أو النخب الحاكمة .
4- مركزية السلطة . هناك من يعزي مركزية السلطة في مصر إلى أسباب تاريخية ، و يكون ذلك دائما بسبب الحاجة للسيطرة على ماء النيل و توزيعه ، و بالطبع تلك الأسباب التاريخية صحيحة ، و لكنها وحدها غير كافية لتبرير استمرارية المركزية في مصر بهذا الشكل الحاد ، و يمكن فهم تلك المركزية بشكل أوضح كحاجة ملحة لتأمين الظروف اللازمة للتطور ، هذه المركزية تعمل بديلا عن فشل المجتمع في الوصول إلى صيغة تعاقدية جماعية ( العقد الإجتماعي ) ، كي تلائم عملية الحداثة و تأسيس الدولة الوطنية (كما نادى بها هوبز و شرحها روسو) ، و بالتالي أصبح ضروريا فرض ذلك العقد و حمايته من أعلى ،وهذا العقد القسري يتم وفقا لرغبة و تصور النخبة الحاكمة ، و يتغير بالتالي وفقا لتغير تلك النخبة ، فمصر ورثت نظاما ملكيا حتى الخمسينات ، ثم بدلته إلى نظام جمهوري إشتراكي ، ثم تحول إلى الصيغة الليبرالية الرأسمالية ،رغم ذلك فإن كل تلك النظم اشتركت في طابعها المركزي الواضح ،و هذا يفسر لماذا كانت هناك دائما حاجة إلى إطار للشرعية بديلا عن الإتفاق العام الذي لم يتحقق أبدا ، فنظام عبد الناصر قام على الشرعية الثورية ،و نظام السادات قام على حرب أكتوبر، و نظام مبارك يقوم على الإنجازات في التنمية .


تأملات حرة . - المعتزلي - 11-19-2008

أكثر من رائع استاذ بهجت خصوصا الجزء الأخير المتعلق بمصر و المصريين، بالتأكيد هناك بقية ننتظرها بتلهف..

تحياتي


تأملات حرة . - بهجت - 11-22-2008

Array
أكثر من رائع استاذ بهجت خصوصا الجزء الأخير المتعلق بمصر و المصريين، بالتأكيد هناك بقية ننتظرها بتلهف..

تحياتي
[/quote]
تحية رقيقة تليق بك .
سأشرع في استكمال هذه الفرعية عن تجربة مصر مع الحداثة .
مبتدئا بتشوهات الحداثة .
خالص التقدير .:98:


تأملات حرة . - بهجت - 11-23-2008

تشوهات الحداثة في مصر 1.
الحنين إلى الماضي ( نوستولوجيا ) .

...................................................
تأسست الدولة الوطنية في مصر منذ 200 عام تقريبا ،وحتى مع استبعاد الفترة التي خضعت فيها مصر لإحتلال أجنبي سافر ، سيكون أمامنا حوالي 160 عام في مشروع الدولة الوطنية ،و هي فترة كافية لتأسيس هذه الدولة و إنطلاقها ، و لكن ما حدث كان عكس ذلك ، لن ننكر أن هناك مجالات حققت تقدما ملموسا ، مثل الخدمات العامة و التعليم و التكنولوجيا ، و لكن العلاقات المجتمعية و الثقافة الشعبية ظلت كما هي ، بل على النقيض ربما تكون قد غرقت في التناقضات ، مما بدا معه المجتمع و كأنه يسير عكس إتجاه التطور العالمي في مجتمعات مناظرة ، و من أبرز مظاهر هذه الحركة الإرتدادية المعاكسة لإتجاه التطور المأمول وفقا لمعايير الحضارة المعاصرة .
1- إتخاذ مواقف متطرفة معادية لمنتجات الحداثة ، و بصفة خاصة تجاه الدولة الوطنية ، و التي تمثل قمة إنجازات الحداثة و مقياس تمكنها في المجتمع ، وحتى المتعلمون تعليما جامعيا لا يستطيعون التمييز بين الدولة و النظام و الحكومة ، و غالبا ما يتحول رفض السلطة القائمة ، إلى محاولات غوغائية لتدمير الدولة رغم أنها الإطار الوحيد الحافظ للجتمع .
2- إعادة بناء الماضي بمتلازماته التراثية من البني الإجتماعية و الثقافية ، فالأزياء الفولكلورية الخليجية تغزو شوارع القاهرة ، و إن كان بشكل أكثر قبحا و تنفيرا ، و الهيئة العامة للرجال و النساء تشبه دمى قفزت من متاحف الحضارة القديمة ، كذلك تنتكس علاقة الرجل بالمرأة إلى نماذج كانت شائعة من 200أو 300 سنة ، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الطلاق إلى 45 % من الزيجات الحديثة ،و هي تعادل أكثر من 15 ضعفا مقارنة بالنسبة السائدة منذ 30 سنة ماضية ، و ذلك يعود للتشوهات الحادثة في عقول و مشاعر الجنسين في ظل ثقافة أصولية مفارقة للعصر .
3- دخول شرائح متزايدة من السكان إلى الدوائر المظلمة للخرافة ، فهناك إصرار على تجاوز آلية السببية المميزة للحداثة ، و أن تعزى حتى الظواهر الطبيعية إلى الغيبيات التراثية ، فالسبب دائما لكل ما يحدث حولنا هو الغضب الإلهي أو شفاعة الأنبياء و بركة الأولياء !، و المصريون يعيشون غالبا واقعا ميثولوجيا بديلا ، فهم مشغولون إما بمشاهدة العذراء وهي تطل من فوق الكنيسة في الزيتون ، أو يتسامرون مع الشيخ الشعراوي بعد وفاته في مسجد الحسين !، بينما مفتي الديار المصرية يؤكد أن الصحابة كانوا يتباركون بمخرجات النبي ، لأنه خلق من نور ، ودون أن يفسر كيف مات متحولا إلى مواد عضوية !، و يرتبط ذلك كله بتفسيرات خرافية لأحداث معاصرة ، وربطها بنبؤات قديمة ، كذلك نشر روايات تؤكد على وجود أحداث غرائبية لا تفسير علمي لها ، مثل الخرافات التي ينشرها أنيس منصور و نظائره في كتب واسعة الإنتشار .
4- إنتشار الممارسات السياسية ذات الأيديولوجية الدينية ، و كلما كانت الأفكار أكثر تطرفا و عنفا ، كلما لاقت مزيدا من الإقبال و القبول ، وهذه الممارسات السياسية الأصولية لا تقتصر على الأحزاب السياسية المشروع منها و المحظور ،و لكنها تمتد و بقوة إلى النقابات المهنية ، حتى أن نقابة الأطباء تمارس السياسة كما لو كانت خلية للقاعدة في مصر ، و أخيرا امتدت الممارسات السياسية الأصولية إلى الهيئات القضائية ، احيث كشفت مجلة روز اليوسف ، أن كثيرا من كبار القضاة ينتمون إلى عائلات إخوانية ،و أن أحد نجوم نادي القضاة شقيق قيادة إخوانية بارزة ، وحتى التنظيمات التي تدعي الوسطية و الإعتدال مثل الإخوان المسلمين ، تتجه باستمرار إلى تبني الأفكار الأصولية و تبرير الإرهاب .
5- تؤكد الدراسات الإجتماعية الميدانية أن الماضي يشغل حيزا كبيرا من إهتمامات و أحاديث الناس ،و أن النوستولوجيا ( الحنين إلى الماضي ) يمثل عاملآ مشتركا بين الأغلبية العظمى من المصريين ، هذا الحنين يلمسه المراقب في كل الأدبيات التي تصدر في المحروسة ، فهناك زمن ما و بالضرورة أن يكون زمنا ماضيا يملأ قلوب المصريين و عقولهم ، البعض يعيش في زمن الملكية الديمقراطي السعيد ، و آخرون يعيشون في الزمن الناصري ، حيث العدالة الإجتماعية و القومية العربية و المكانة الدولية المحترمة ،و آخرون يعيشون في زمن المسيحية و رهبانها قبل غزو ابن العاص ،و لكن الغالبية العظمى تعيش في المدينة زمن النبي و خلفائه .
من المدهش أن هذا الحنين الجارف للماضي لا تدعمه الحقائق بل تشير إلى نقيضه ، و تؤكد أن ذلك الماضي لم يكن أبدا سعيدا للمصريين ، فالماضي القريب ليس هو الماضي الباهر الذي نتحسر عليه ، فالفقر كان صفة مرادفة للمصري ، و نذكر أن الحكومات الملكية كانت دائما تتحدث عن مكافحة الفقر و المرض و مقاومة الحفاء ! ، و كان عبد الناصر يشكو من وجود 3 مليون عامل تراحيل أي أكثر من 10% من الشعب ، يجوبون البلاد بلا مأوى سوى مكان العمل ، أما عن الديمقراطية التي نتحسر عليها ، فلا ينهض على هشاشاتها مثل تغلب مجموعة من الضباط الصغار -محددوي الذكاء و الكفاءة - على تلك الديمقراطية بمجهود بسيط ، و خروج المصريين ( الديمقراطيين ) إلى الشوارع يهتفون للإنقلاب العسكري !.
أما لو ذهبنا إلى التاريخ الإسلامي في مصر سنجده بائسا كلية ، فمن 10 مليون مصري كانوا سكان مصر عند الغزو العربي ، لم يتبق سوى 3 مليون عند دخول الفرنسيين ، و انحسار الخلافة الإسلامية عن مصر ، ومن 5 فروع لمصب نهر النيل لم يتبق سوى فرعين ، أي أن 1100 سنة من الحكم الإسلامي الجائر المتعسف ، كادت أن تفني الحياة فوق أرض مصر كلها !، و يمكن القول بأعلى درجة من الموضوعية أن المصريين لا يملكون تاريخا حقيقيا منذ أفول دولتهم الخاصة ، قبل الميلاد ب 500 سنة و إلى اليوم ، و على المصري المعاصر أن يبني تاريخه من جديد ، بدلآ من العيش في ماضي خيالي ، فهو لا يمتلك أي تاريخ حقيقي منذ 2500 سنة .
هذا الحنين إلى الماضي إذا لا يعكس روعة الماضي ، و لكنه يعكس الإحباط الذي يعيشه الإنسان المصري المعاصر ، و إنعدام بواعث الأمل لديه في يومه أو مستقبله ، و هو أيضا يعكس الهروب من صيغ الحداثة التي فرضت عليه فرضا ، دون أن يستوعبها أو يتجاوب معها ، و أننا كما عبر نزار قباني بصدق في هوامشه على دفتر النكسة ( لبسنا ثوب الحضارة و الروح جاهلية ) ، و يعكس هذا الحنين أيضا إلحاح الخطاب السلفي المخادع الذي تعرض له المصريين أكثر من 40 سنة متصلة ، بلا أي جهد تنويري مقاوم يعتد به .
في المحصلة هناك بالفعل حالة إنسحابية عامة تشكل الملمح الأساسي للمجتمع المصري ، فالمصري المعاصر يقوم بعملية خروج كبرى ، لا تقل أهمية عن الخروج الأسطوري لبني إسرائيل من مصر ،و لكن هذا الخروج ليس فقط من المجتمع المصري ، بل من العالم المعاصر كله ، فالمصري يدير ظهره للمجتمع و للمستقبل ، و يعيش لنفسه و لنفسه فقط ، و غالبا ما يكون ذلك في الماضي الذي يتصور أنه كان ، تاركا المجتمع يسير كيفما يراد به ، بينما هو يسير في الإتجاه المعاكس ، ماضيا بهمة لا يلوي عن شيء .
للموضوع بقية .