حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
الروائي والأديب العالمي (الطيب صالح).. المنسي!, شبح السيرة الذاتية .. - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3) +--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57) +--- الموضوع: الروائي والأديب العالمي (الطيب صالح).. المنسي!, شبح السيرة الذاتية .. (/showthread.php?tid=14173) |
الروائي والأديب العالمي (الطيب صالح).. المنسي!, شبح السيرة الذاتية .. - الاعصار - 10-29-2006 هدوء (الطيب صالح) -الكاتب السوداني العالمي- وإبتعاده عن الأضواء، بإلاضافة الي عدم إحترافه الكتابة كـ "مهنة"، مسح عليه شبهة التواضع، فأصبح ما أن يتعلق النقاش بأمره، إلا وينحرف النقاش حول كم هو متواضع.. وبما ان التواضع في العقلية السائدة صفة إيجابية ومحببة، فإن (الطيب صالح) نفسه إستكان لهذه "الشبهة" - متناسياً أن المفردة المعاكسة لتواضع الكاتب ليست هي غروره أو تكبره -، حتى صار أمر كتابته عن نفسه فيه خيانه للجمهور الذي أعجب به واصبح يتناقل أعماله كأغاني وطنية مقدسة! في روايته "موسم الهجرة الي الشمال".. (( التي توصف بأنها ساهمت في تعريف الرواية العربية للمحافل الثقافية الدولية ))، تم إتهام (الطيب صالح) بأنه إنما يكتب عن نفسه، وهو الإتهام الذي كثيراً ما أغضبه.. والإتهام في حد ذاته كفيل بأن يكتب عن سيرته. أصدر (الطيب صالح) مؤخراً عن (دار رياض الريس للنشر) مجموعة من خمسة أجزاء معنونة بمختارات بدأها بـ "المنسي"، وختمها بـ "المتنبِـي".. أغلبها كان مجموعة عن مقالاته التي كان كتبها بالصفحة الأخيرة بمجلة "المجلة". (المنسي)، هو صديق مقرًب للطيب صالح، يقول: " لكننا أصبحنا صديقين حميمين بعد ذلك. بل إنني من سائر أصدقائنا المشتركين، أصبحت بمثابة أب روحي له. " [ص/ 12-13]. المنسي شخصية عادية.. يقول عنه في بداية الكتاب: " مثًل على مسرح الحياة أدواراً عدة.. حمَـالاً، وممرضاً، ومدرساً، وممثلاً، ومترجماً، وكاتباً، وأستاذاً جامعياً، ورجل أعمال، ومهرجاً.. ولد على ملَة، ومات على ملَة. ترك أبناء مسلمين وأبناء مسيحيين وأرملة!! حينما عرفته أول مرة كان فقيراً معدماً، ولما مات ترك مزرعة من مائتي فدان من أجود الأراضي في جنوب إنجلترا،وقصراً ذا أجنحة، وحمام سباحة، واسطبلات خيل، وسيارات.. وخلًف أيضاً مزرعة من مائة فدان في ولاية (فرجينيا). " [ص/ 9-10]. يقول الكاتب المغربي الراحل (محمد شكري) في كتابه النقدي الموسوعي "غواية الشحرور الأبيض": " الأدب هو أن تصنع من أشخاص عاديين نماذج اسطورية كما يفعل (جابريال ماركيز) و(الطيب صالح). ". وهو بالفعل ما قام به الطيب صالح في "المنسي"، رغم أن الكتاب (مخنوق) بالواقع ولا يسمح هذا النوع من الكتابة للخيال بإلاندياح.. إلا أن الطيب صالح ببذرته الأبداعية ضخً عليه نفسه الأبداعي فأصبح المنسي هذه الشخصية العادية الذي وصفه بـ "يخطف الأدوار من مسرح الحياة دون أن يوكله أحد بعملها".. هذا (المنسي) الذي ليس له دور واضح على الحياة أصبح يخرج من قلم الطيب صالح كشخصية فخمة جديرة بالقراءة، وهو تدريجياً تحرك في الكتاب من مجرد صديق للطيب صالح إلي بطل لكتاب (المنسي) يتتبعه القاري بنفس مضطرب.. كما أن الطيب صالح - وهو الأهم - التف حول المنسي، فقد وجد فيه فرصة مناسبة لكتابة سيرته وإشهار بطاقته الشخصية. " عرفته العام 53، أول عهدي بهئية الإذاعة البريطانية (BBC)، فكنا نعطيه أشياء يكتبها أو يترجمها وأدواراً صغيرة في التمثيليات الإذاعية تعينه على العيش والدراسة. " [ص/ 11].. " كان يسكن عني غير بعيد في حي (فولهام) وأنا في حي (ساوث كنزنجنتون). ". [ص/ 12].. " كان بيتنا في (ثيروليبليس) قبالة متحف فكتوريا وألبرت. ". [ص/ 27].. هكذا حمل صدر الكتاب تفاصيل دقيقة عن سيرة الطيب صالح في ادوار متبادلة بين المنسي والطيب صالح يجعل الكاتب من نفسه احياناً (خلفية) للعرض وكثيراً ما يكون (بطل) الكتاب خلفية للعرض ويكون الكاتب هو (بطل) الكتاب، كتب الطيب صالح عن نفسه تفاصيل ظلً يتناقلها الناس بين مؤيد ومعارض رغم انه كان ببساطة يمكنه نفيها أوتأكيدها بـ (جرة قلم)، لكنه ظل يتعامل مع الكتابة عن نفسه كـ(تابو) لا يستقيم وسيرته. إلا أنه في المنسي خط خطوط عرضية عن سيرته يمر احياناً علي تفاصيل غير مهمة بتفصيل دقيق فيكتب -مثلاً- عن الترزي الذي يخيط عنده.. " كذلك اكتشف (منسي) بقدرته الخارقة على الإكتشاف ترزياً ماهراً في منطقة الـ (إيست إند) الفقيرة يتقاضى نصف الأسعار التي يتقاضاها الترزية. ". [ص/ 16].. وأحياناً عن الجزار الذي يشتري منه اللحمة.. " أول مرة رافقت منسي الي محل ذلك الجزار أعطاني كمية عظيمة من اللحم..الخ. ". [ص/ 22].. وهكذا يتدرج بإحداث الكتاب ليسلط الضوء علي أركان سيرته.. يحكي عن بدايته بلندن حيث كان يعمل بإذاعة الـ (بي.بي.سي)، وأنه وهو دون الثلاثين وصل الي وظيفة (مساعد مدير) قبل أن يدخل المنسي ليعكر عليه إنسياب حياته المهنية، فيظهر المنسي كـ(كومبارس) للكاتب في سيرته الملتفة حوله، الا أن الكاتب يواصل على إنتهاج هذا الرصد الملتف من سيرته.. يحكي عن فترته العملية الثرًة بدولة قطر.. وعن رحلاته العملية الي بعض العواصم العالمية.. وعن بعض المهام التي قام بها في هذه الرحلات.. كما حكي عن الفترة التي عمل بها بمنظمة الـ (يونسكو) بطريقة تحمل في ظاهرها رصد لسيرة صديقه المنسي وفي باطنها هي رصد لسيرة الكاتب. كتابة السيرة الذاتية أمر يقوم به الكاتب لا للإضاءة على تفاصيل حياته فحسب، بل هي - ايضاً - تضئ على جمهور الكاتب ومعجبيه بعض تفاصيل أعماله الأدبية، وهو - مثلاً- ما كان يدركه الكاتب الكولمبي الكبير (جابريال ماركيز) الذي أصدر مؤخراً سيرته علي صفحات "نعيش لنحكيها" أو "نعيش لنرويها" - في ترجمة مختلفة-، والتي أدرك من خلالها الجمهور كيف أن جابريال ماركيز صنع من أحداث واقعية أعمالاً صارت مرايا عاكسة للواقع الكولمبي وفتحت منافذ الحياة الكولمبية على العالم. وعلى المستوى العربي قام بكتابة السيرة الذاتية وبأشكال مختلفة أدباء سلطت الضوء على أعمالهم كـ (حنا مينا) - الكاتب السوري الكبير -، الذي كتبها في شكل روايات، و(محمد شكرى) - الكاتب المغربي -، الذي أيضاً كتبها علي صيغة رواية، والكاتب الراحل الكبير (عبد الرحمن منيف)، الذي كتبها اثناء رصد ذاكرته للأمكنة. وجميعهم كان جمهورهم في حوجة لإضاءة بعض اركان عاتمة في رواياتهم ما كانت لتكون لولا رصدهم لسيرتهم الذاتية.. فالكاتب لا يمكن أن يكتب إلا بذاكرته الخاصة وذاكرة الكاتب تتشكل من تجربته الشخصية إذ لا يمكن أن يستلف تجربة وذاكرة يكتب بها. هذا بالأضافة الي ان بعض الأعمال تصيب صاحبها بلعنة وإتهام انه يكتب عن نفسه هذا الإتهام يصيب العمل الفني بالضعف فيهبط به من مقام الفن الي درك الرصد العادي لتفاصيل حياته وهذا الرصد لا يحتاج لأديب للقيام به وهذه اللعنة -لعنة هذا الإتهام - لا فكاك عنه إلا بكتابة السيرة الذاتية.. هذا بإلاضافة الي أن أعمال بعينها تحتاج الي سيرة الكاتب، يدخل من بينها كتابات (الطيب صالح)، فيكفي انه كما اسلفنا كان في مقام الإتهام بإنه من خلال رواياته يكتب عن نفسه فحسب. يقول الطيب صالح أنه حينما اتصل بـ (باربرا) -المرأة التي وصفها بأنها تمثل الأم الروحية للـ (المنسي)-، يقول: " حينما اتصلت بها قالت لي في نهاية المكالمة: - طبعاً سوف تكتب عن منسي؟.. كنا قد اتفقنا ان نكتب قصة حياته معاً.. كان سيكون كتاباً مهماً.. سوف أفكر لعلني أكتب عنه ولو بعد حين!!!. ". [ص/ 57]. ويضع القارئ في حيرة عظيمة.. يقول أنه قد يكتب عن (المنسي) والكتاب عن المنسي بين يدي القاريء، لكن الطيب صالح يبدو أنه لا يعتبر ذلك كافياً.. أم أنه يقصد أنه يكتب عن نفسه حالياً، وسيكتب عن (المنسي) عندما "يفكِـر"!! الروائي والأديب العالمي (الطيب صالح).. المنسي!, شبح السيرة الذاتية .. - إبراهيم - 10-29-2006 ابن البلد الحبيب أخي الإعصار: أشكرك على تذكرتك لي من جديد على حتمية قراءة جميع أعمال هذا الأديب العالمي الطيب صالح الذي رفع لنا مجد إفريقيتنا الناطقة بلسان عربي أنيق جزل العبارة جميلها. سأحرص على قراءة هذا العمل الذي ذكرت هنا تحديداً؛ ومكانك يا عزيزي بكل هذه القراءات الشائقة هو ساحة قرأت لك. نحب أن نتعلم منك أكثر. :redrose: الروائي والأديب العالمي (الطيب صالح).. المنسي!, شبح السيرة الذاتية .. - Romeo - 10-29-2006 الزميل الاعصار تحية شوق لك و لك اهل السودان سعيد بوجودك في النادي صراحة انا من أشد المعجبين بالطيب صالح و دائما اقتبس من روايته موسم الهجرة إلى الشمال و عرس الزين (لا اعرف لماذا اغفلت الأشارة إلى الاخيرة في المقال) يؤسفني انني لم اقرا المقالات التي ذكرت المنسي و غيره و لكن انا ممتن لك لذكر التحليل يا ليت نستمر بالنقاش في هذا الموضوع ساعود الروائي والأديب العالمي (الطيب صالح).. المنسي!, شبح السيرة الذاتية .. - الاعصار - 10-30-2006 اقتباس: إبراهيم كتب/كتبت ابن مصر -أخت بلادي-.. أخي (ابراهيم)... بعد التحية، سررت بمرورك ومشاركتك المقدرة.. وأتمنى لك المتعة رحلة السفر في عالم الطيب صالح، الذي يبرع في تصويره للقاريء. عموما.. أعتذر عن بعض "الشطحات"، فقد يكون لقب "الاعصار" مسجلا منذ فترة طويلة، إلا إنني بدأت في المواظبة على المشاركة والزيارة للمنتدى منذ فترة بسيطة، ولم يتسنى لي بعد معرفة مواضع الكلم بالتحديد الدقيق.. :D أعتذر أخي، وأرجو أن تتحملني بعض الوقت!! ودمتـــم........ الروائي والأديب العالمي (الطيب صالح).. المنسي!, شبح السيرة الذاتية .. - الاعصار - 10-30-2006 اقتباس: Romeo كتب/كتبت [SIZE=4]أخي Romeo... بعد التحية، لك الشكر والتقدير والعرفان والاعتزاز بتحيتك الرقيقة.. سلمت اخي. وأعدك بالتأكيد الإستمرار في النقاش بشأن هذا الموضوع، كما أحببت أخي. ودمتـــم....... الروائي والأديب العالمي (الطيب صالح).. المنسي!, شبح السيرة الذاتية .. - إبراهيم - 10-30-2006 دائما أتابع كتاباتك بتقدير حيث لم أقابل أخوة جدد لي من السودان منذ تركت كلية الأداب لكن أفضل أوقاتي كنت أقضيها وقتئذ مع أصدقائي السودانيين ونجلس ونتحدث بنفوس صافية فأشعر بأني مع أخ لي لم تلده أمي وكثيرا ما كان مثل أخي أبن أبي وأمي تماما. نحب أن نتعرف بك أكثر. أفرح صدقاً عندما أرى أصدقاء لي من القارة الغالية.. من خلال المنتدى هنا تعرفت بأخت صديقة من إريتريا! هل تصدق ذلك؟! من أروع الناس فعلا. وأنا سعيد بوجودك معنا هنا وستجدني مشارك بالأكثر في ساحة قرأت لك ولو قرأت أي كتب ستجدني أول من يشارك في ملاحظاتك عليها هناك. كما تلاحظ أحباؤك هنا كثيرون والكل يريد أن يتعرف بك من روميو وغيره. نهارك سعيد أخونا الحبيب. صديقك الجديد: إبراهيم عرفات الروائي والأديب العالمي (الطيب صالح).. المنسي!, شبح السيرة الذاتية .. - jafar_ali60 - 10-30-2006 (f) ثم (f) للزميل إعصار كاتب بحجم الطيب الصالح يستحق الانحناء له والانحناء لما أنتج ، وخاصة رائعته الاولى موسم الهجرة الي الشمال تشرفت في عام 2000 على ما أذكر انني قابلته وجالسته في مهرجان الجنادرية ، ووجدته أكثر روعة مما يكتب وأكثر تواضعاً مما يقال عنه له الف (f) الروائي والأديب العالمي (الطيب صالح).. المنسي!, شبح السيرة الذاتية .. - skeptic - 10-30-2006 [CENTER]موسم الهجرة إلى الشمال [/CENTER] كانت رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) الرواية الأولى التي قرأتها له, والتي جعلت اسمه على كل لسان, خصوصًا بعد أن طبعت في كتاب للمرة الأولى سنة 1967, ومنذ ذلك الوقت, والرواية لاتزال تحدث استجابات نقدية, لا نهاية لها فيما يبدو. كتب الطيب صالح روايته (عرس الزين) قبل (موسم الهجرة) بأعوام قليلة - سنة 1962 - ولكن الرواية لم تلفت الانتباه إليها, وكان عليها أن تنتظر إلى أن تصدر (موسم الهجرة إلى الشمال) وتقيم الدنيا ولا تقعدها, وتستقطب الانتباه إلى صاحبها الذي نعته البعض بأنه (عبقري الرواية العربية الحديثة). ولاأزال أذكر مشاعر الإعجاب الغامرة التي انتابتني عندما قرأت (موسم الهجرة إلى الشمال) للمرة الأولى, فقد كانت حدثًا استثنائيًا في تاريخ الرواية العربية, وانطلاقًا في آفاق جسورة لإنطاق المسكوت عنه في الثقافة العربية التي لاتزال تقليدية في مجملها, فموسم الهجرة رواية بعيدة عن التقليد أو التصنع أو التزمت أو الخوف, فالجسارة الكتابية التي تنطوي عليها فتحت لها قلوب وعقول القراء المتعطشين إلى عوالم جديدة والمتلهفين على من يقتحم المناطق التي ظلت مغلقة, لم تجد من يفتحها إلا مع أمثال (موسم الهجرة) التي تظل رواية كاشفة عن كثير مما لم تكن الرواية العربية تعودت الكشف عنه. لقد طرحت قضايا الهوية والعلاقة بالآخر والأصالة والمعاصرة ومكانة المرأة على نحو صريح. وأتصور أن هذه الصراحة - بالإضافة إلى أهمية وحيوية القضايا التي طرحتها - هي المسئولة - أولاً - عن الإعجاب الاستثنائي الذي لقيته هذه الرواية التي أنتجت - في رد الفعل عليها - عشرات من المقالات والدراسات على امتداد الوطن العربي, وظلت الرواية منطوية على نوع مغاير من الفتنة التي لاتزال تجذب إليها اهتمامات النقاد, وأحسب أننا لو جمعنا النقد الذي أنتجته (موسم الهجرة إلى الشمال) وقمنا بتصنيفه لوجدنا أمامنا المشهد الشامل لخرائط النقد العربي الحديث والمعاصر, في تنوع تياراته وتعددها, وفي تعاقب نظرياته وتجددها, فكما استقطبت الرواية نقاد الأيديولوجيا بألوان أطيافهم المتعددة, في البحث عن الأبعاد القومية والفكرية للرواية, استقطبت اهتمام نقاد البنيوية - التيار الذي وجد في الرواية الجديدة المؤثرة فرصة لإثبات حضوره. هكذا, اقترنت الرواية بمصطلح (البنية) - مثلا - في دراسات مشابهة وموازية لما قامت به يمنى العيد عندما كتبت عن (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي) واقترنت الرواية بمصطلح (الخطاب) الذي كان علامة على نوع أجد من النقد الذي يسعى إلى مجاوزة البنيوية. وكان ذلك في دراسات من عينة الدراسة التي كتبها محمد برادة عن (الرواية أفقًا للشكل والخطاب المتعددين). ولاتزال الرواية - إلى اليوم - تستقطب الاتجاهات والتيارات النقدية المتجددة التي تريد تأكيد حضورها بالكشف عن جوانب جديدة من الدلالات التي لم تكشفها الاتجاهات والتيارات السابقة. وكما انضمت نظريات التحليل النفسي الحديثة إلى غيرها من النظريات في تحليل الشخصيات المركبة في الرواية, كما حدث في دراسة رجاء نعمة التي حصلت بها على درجة الدكتوراه من إحدى الجامعات الفرنسية, لاتزال دراسات ما بعد الاستعمار تناوش (موسم الهجرة إلى الشمال) وتسعى إلى إنطاقها ما لم تسبق إلى نطقه في خطابات النقاد المهتمة بالبنية أو الشخصية, أو الصراع بين الشرق والغرب, الشمال والجنوب. وأتصور أن الدراسات المنتسبة إلى خطاب ما بعد الاستعمار هي الموجة الأخيرة في الأمواج التي لاتزال تثيرها (موسم الهجرة إلى الشمال). وقد فرغت أخيرًا من دراسة قيمة أعدّها زميلي الشاب د. خيري دومة عن الرواية من منظور خطاب ما بعد الاستعمار, بعنوان (عدوى الرحيل: موسم الهجرة إلى الشمال ونظرية ما بعد الاستعمار). وهي دراسة ممتعة, خصوصًا من الزاوية التي تتراصف بها الدراسة مع غيرها من الدراسات التي أنتجها (خطاب ما بعد الاستعمار), الذي ينبني على رد المستعمَر (بفتح الميم) بالكتابة على المستعمِر (بكسر الميم) في علاقة التابع بالمتبوع, التي لايزال لها توتراتها, القائمة على التراتب القمعي المفروض من الشمال على الجنوب. وعلى مقاومة الجنوب للشمال. وهي دراسة تقوم بتسليط الضوء على رد المقموع, وما يتصل بذلك من معضلات الهوية, والتمزق بين ثنائيات الأنا والآخر, خصوصًا في علاقة أبناء المستعمرات بالدول المستعمرة. ثراء الرواية وعندما أسأل نفسي - الآن - عن سر هذا الثراء الاستثنائي في الكتابة النقدية عن (موسم الهجرة إلى الشمال) أجد هذا الثراء راجعًا إلى ثراء هذه الرواية الفريدة التي لم تفقد جدتها ولا عمق تأثيرها بعد السنوات العديدة التي مضت على نشرها كتابًا منذ ما يقرب من أربعين عامًا. ولقد أعدت قراءتها في هذه الأيام بمناسبة حصول الطيب صالح - بجدارة - على جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي فوجدت في قراءتها من اللذة والمتعة والثراء ما يوازي ما وجدته في المرة الأولى, وأحسبني وجدت جوانب لم أكن ألتفت إليها قديمًا, خصوصًا بعد تسليط الضوء عليها بالمناهج والأدوات النقدية المعاصرة. وأتصور أن أول ما يلفت الانتباه في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) هو كثافتها, فالرواية صغيرة الحجم بالقياس إلى روايات نجيب محفوظ مثلاً, أقل من مائتي صفحة من القطع المتوسط, ولكنها مع صغر الحجم تنطوي على قدر لافت من الغنى والعمق والتعدد في الدلالة والمستويات. وما لفت انتباهي - ثانيًا - بعد هذه السنوات - هو الحيوية السردية التي تتميز بها الرواية. وهي الحيوية التي تقترن بآليات من التشويق الذي يشد انتباه القارئ منذ الصفحة الأولى للسرد. والتشويق يأتي - في الرواية - من طرحها سؤالاً تظل تجيب عنه إلى أن تكتمل الإجابة فتنتهي الرواية, والسؤال هو عن مصطفى سعيد, الغريب الذي رآه الراوي في مجلس القرية التي عاد إليها, بعد غربة عنها في بلاد الإنجليز لسبع سنوات, ويلاحظ أن كل شيء على حاله ما عدا مصطفى سعيد الذي لم يره من قبل. وهو رجل ربعة القامة, في نحو الخمسين أو يزيد قليلاً, شعر رأسه كثيف مبيض, ليس له لحية, وشاربه أصغر قليلاً من شوارب الرجال في البلد. رجل وسيم, ويسأل أباه عنه, ويعرف من أبيه أن مصطفى ليس من أهل القرية. لكنه غريب جاء منذ خمسة أعوام, واشترى مزرعة وبنى بيتًا وتزوج بنت محمود, وهو رجل في حاله, لا يعلمون عنه الكثير. وكانت إجابة الأب مثيرة للفضول, وذلك في السياق الذي يتذكر فيه الراوي أن أحدًا لم يتوقف عن سؤاله - يوم وصوله إلى قريته, عائدًا من غربة سبع سنوات - إلا مصطفى سعيد الذي لم يقل شيئًا, وظل يستمع في صمت. يبتسم أحيانًا, ابتسامة غامضة, لا تخلو من سخرية شخص يحدِّث نفسه. ولا يتوقف الفضول في معرفة المزيد عن مصطفى سعيد منذ هذه اللحظة التي تبتدئ بها الرواية, طارحة سؤالها الذي أثار فضول الراوي وفضول القراء فمضوا في قراءة الرواية, مدفوعين بلهفة إشباع الفضول ومعرفة اللغز الذي يكمن وراء مصطفى سعيد, والذي يبدو أنه - منذ اللحظة الأولى لمشاهدته في مجلس أهل القرية - يخفي أكثر مما يعلن, وينطوي على سر يثير فضولنا. وتمضي الرواية في هذه التقنية التي لجأ إليها روائيون عالميون قبل الطيب صالح , ومنهم جوزيف كونراد في روايته (قلب الظلمات) المبنية على ازدواج مشابه, يتمثل في ثنائية الراوي والمرويّ عنه: اللغز, أو السؤال الذي يظل مفتوحًا, لا نتوقف عن الانجذاب إليه بفضل الراوي. والراوي في (قلب الظلمات) هو مارلو البحار الشاب الذي تقوده أسفاره إلى إفريقيا, ويبحر في النهر إلى قلب الكونغو في وسط إفريقيا, ونسمع معه - على امتداد الرحلة - عن شخصية كيرتز الذي يثير فضولنا لمعرفته, ولكننا لا نراه إلا قرب النهاية, وبعد حيل تشويق ممتعة تستغرق أغلب الرواية. ويتجاوب الراوي- مارلو - والمروي عنه - كيرتز - في النهاية - في علاقة من نوع فريد. الجنس والموت هذه البنية الثنائية هي بنية (موسم الهجرة) التي يتقاسمها راو نألفه ومروي عنه نظل في شوق إليه وتلهف على معرفة الغامض من أحواله, فنندفع مع السرد على نحو لا تكتمل معه الإجابة عن أسئلتنا, أو إشباع فضولنا عن المرويّ عنه إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية, حيث تتصاعد التفاعلات السياقية إلى الذروة, وتتركنا في لحظة متوترة, هي قمة الأحداث التي يمتزج فيها الجنس بالموت, ويتحدد المصير الأخير لمصطفى سعيد, والمسار الذي لابد أن يمضي فيه الراوي في الوقت نفسه. ولكن من خلال تشابكات اللحظة الملتبسة التي تدني بطرفيها إلى حال من الاتحاد, وتوقع التشابه بين المختلفات, وتجعل من الراوي الوجه الآخر من مصطفى سعيد, كأنه النقيض الذي يلتقي بنقيضه, وذلك في مدى الثنائية الضدية السردية التي أبدع فيها روبرت ستيفنسون (1850 - 1894) روايته الدكتور جيكل والمستر هايد, حيث يظهر التضاد المطلق بين شخصين في كائن واحد, ينطوي على النقيضين, أو تدفعه خبراته العلمية إلى اكتشاف النقيض الذي ينطوي عليه, فلا يتخلص منه إلا بالدمار الكامل للاثنين معًا. وما يجمع بين الراوي ومصطفى سعيد هو هذا التضاد الذي يذكرنا بدكتور جيكل ومستر هايد, فالراوي مواطن سوداني, مسالم, ذهب إلى إنجلترا, في موسم الرحلة من الجنوب (المتخلف?!) إلى الشمال (المتقدم?!) طلبًا للعلم, وقضى سبع سنوات عاد منها إلى موطنه - القرية النائمة في حضن النيل, فشعر بأنه يعود إلى الرحم الذي خرج منه, وإلى العناصر الثابتة التي تزيده ثباتًا, فيبدو, لنفسه, وسط محيطه الطبيعي مثل النخلة, مخلوق له أصل, له جذور, له هدف, مخلوق فارق أرضه ليعود إليها أكثر قدرة على حبها ومساعدتها, متسلحًا بشهادة الدكتوراه التي نالها. ونعرف - من تفاعلات السرد - أنه متزوج من سودانية, لم يتزوج إنجليزية, فظل زواجه جانبًا من تمسكه بالأصل الراسخ والهوية الثابتة, ولذلك نراه في حياته الهادئة منذ اللحظة الأولى, وتظل علاقته بالقرية متجذرة رغم عمله في الخرطوم, فهو واحد من الناس الذين لا ينسون أصلهم, والذي يتوسط في الحكم على الأمور, ويعتدل في التعامل مع النفس والآخرين, عارفًا قدراته وإمكاناته, خصوصًا في العلاقة مع واقعه المتخلف والواقع المتقدم الذي عاد منه. ولذلك, ظلت نظرته متسمة بالاعتدال في كل الأحوال, فالواقع المتخلف هو التحدي الذي لابد من مواجهته بالبحث عن إمكانات التقدم الكامنة فيه, والمقترنة بخصوصيته التي يتناغم فيها العلم والدين, الروحي والجسدي, الأصالة والمعاصرة. والواقع المتقدم في الغرب هو المكان الذي يمكن الإفادة منه والنقل عنه فيما لا يتعارض مع أصول الهوية الراسخة أو يقضي عليها. الإنسان المتوحد وعلى النقيض من كل هذه الأفكار, كانت أفكار مصطفى سعيد العاصفة, الحديّة, تمامًا كشخصيته التي كان لابد أن تنتهي إلى ما انتهت إليه. والبداية هي مولده في السادس عشر من أغسطس سنة 1898, الأب متوفى, الأم فاطمة عبدالصادق. مات الأب قبل الولادة بأشهر. وكفلته الأم التي تركته حرًا, وظل كذلك يعارك أعوام النشأة الأولى وتعاركه, فقد كان مثل كرة المطاط, تلقيه في الماء فلا يبتل أو يغوص, ترميه على الأرض فيقفز, ويعرف المدرسة التي يذهب إليها بقدميه في الوقت الذي كان الأهالي يفرون بأولادهم من المدارس, ويتعلم في المدرسة الإنجليزية التي أظهر فيها نباهة استثنائية فدفعت الأساتذة الإنجليز إلى مساعدته. وكان يتقبل هذه المساعدات كأنها واجب يقومون به نحوه, فقد ظل باردًا كحقل من الجليد, سواء في علاقته بأقرانه الطلاب, أو بأساتذته الإنجليز, منطويًا على نفسه, متوحدًا, كما لو كان يعيش في غير عالمه, لكن عقله ظل كمدية حادة لا يستعصي عليه شيء, يقطع في برود وفعالية, غير مبالٍ بدهشة المعلمين أو إعجاب الرفاق وحسدهم, فقد كان المعلمون ينظرون إليه كأنه معجزة, ورفاقه يطلبون وده, لكنه ظل في حال من النأي, والتباعد, والبرود, كأنه حقل جليد, لا يوجد في العالم شيء يهزّه, ويترك موطنه, ويركب القطار في طريقه إلى القاهرة لطلب المزيد من العلم هناك, لم يلوّح له أحد بيده, ولم تنهمر دموعه لفراق أحد, وعندما ضرب القطار في الصحراء, فكّر قليلاً في البلد, الذي خلفه وراءه, فكان مثل جبل ضرب خيمته عنده, وفي الصباح, قلع الأوتاد, وأسرج بعيره, وسيظل على ذلك بقية حياته, متوحّدًا, مغتربًا, ظامئًا إلى إشباع لا يتحقق, متطلعًا إلى حلم مستحيل, لا يكف عن قلع الأوتاد, وإسراج البعير ومواصلة الرحلة. وعندما وصل إلى إنجلترا, أدرك أن لندن هي جبل آخر مثل القاهرة, لا يدري كم يمكث فيها, لكنه سيرحل عنها في النهاية, كما ظل يرحل بين أجساد نسائها, بلا عاطفة حقيقية, بلا حب, أو تعاطف, أو شفقة, أو سعي للاقتراب, فالآخرون هم الآخرون المختلفون, الذين لا يربطنا بهم شيء, وكان الفشل نتيجة مشروع العلاقة الأولى مع زميلة له, سرعان ما كرهته, قائلة له: (أنت لست إنسانًا. أنت آلة صماء), وظل وتر القوس الذي ينطوي عليه مشدودًا, ينتظر انطلاق سهم جديد في موقف جديد إلى ما لا نهاية. ونجح في إنجلترا, وتفوّق, ولكنه ظل في علاقته بالإنجليز منطويًا على كره دفين, أو احتقار راسخ, لا يخلو من الشعور برغبة الثأر, التي ظلت قائمة كإرادة الانتقام الذي لا يهدأ. وعرف النساء اللائي كان يعبر عليهن لإشباع رغبته المستحيلة الإشباع, كان يواجه مدينة لندن, كما لو كانت المدينة امرأة عجيبة, لها رموز ونداءات غامضة, ونساؤها وسيلة للانتقام والثأر من كل ما فعله الاستعمار الإنجليزي في إفريقيا السوداء. ولذلك, ظل مصطفى سعيد في إنجلترا, جنوبًا يحن إلى الشمال والصقيع, ينطوي في أعماقه على النقائض في علاقته بالآخر الإنجليزي, الذي يظل محبوبًا ومكروهًا بالقدر نفسه. كما ظل مصطفى سعيد, صحراء ظمأى لا يكسر ظمأها شيء, ومتاهة من الرغائب الجنوبية المحمومة. كل امرأة إنجليزية هي فريسة ممكنة تستحق المطاردة, والصياد مستعد دائمًا, قربة مملوءة هواء ساخنًا, وقوافله ظمأى دائمًا, والسراب يلمع أمامه في متاهات شوق لا تنتهي, والعقل كالنفس, وتر مشدود بين نقائض, يتأهب لانطلاق لا يتوقف في حركة لا تصل إلى غايتها النهائية إلا مع الدمار الكامل, (أنا مثل عطيل...عربي إفريقي), يمسك بيده رمحًا, وبالأخرى نشابًا), هذا ما يقوله مصطفى سعيد لإيزابيل سيمور, التي شعر إزاءها بأنه مخلوق بدائي عار, بيده رمح, وبالأخرى نشاب, تمامًا كما شعر مع غيرها من النساء, ومع الإنجليز الذين تخيل نفسه بينهم غازيًا, ينتقم لكل ثارات الماضي وإحنه, التي تركها الاستعمار البريطاني في نفوس أبناء المستعمرات. وكما كان الجسد الأرستقراطي للمرأة وسيلة للصعود الطبقي في رواية نجيب محفوظ (بداية ونهاية), تحول الجسد الأنثوي للمرأة الإنجليزية إلى ساحة للصراع والغزو, كالمرأة التي تحوّلت إلى فريسة, والصائد الذي تحوّل إلى قطرة من السم, التي نتجت عن العنف الأوربي الأكبر, الذي لم يشهد العالم مثيله, العنف الذي حقن به الاستعمار الأوربي القارة الإفريقية بالسم, الذي تسلل إلى عروق مصطفى سعيد في علاقته بأوربا بوجه عام, وإنجلترا التي استعمرت بلده بوجه خاص, فذهب إليها ليغزوها جنسيًا, مؤكدًا المعنى نفسه, الذي أتصور أنه علق بذهن الطيب صالح - على نحو لاشعوري فيما أحسب - من قراءة نجيب محفوظ, وكما قاد حسنين - بطل بداية ونهاية - نفسه إلى الدمار في النهاية, فإن مصطفى سعيد, قاد نفسه إلى دمار مواز, ولكن أكثر عنفًا ودموية, فظل ينتقل من امرأة إلى أخرى, إلى أن وقع على جين مورس, التي أطاحت بما بقي في عقله الحدِّي, ودفعته إلى طرادها كالمحموم لثلاثة أعوام, ظلت قوافله ظمأى, والسراب يلمع أمامه في متاهة الشوق, إلى أن تعبت هي من المطاردة, وتزوجته. ولكنها - حتى بعد أن تزوجته - لم تمنحه نفسها, ولم تستسلم له إلا في اللحظة التي اندفع هو والسكين إلى داخل جسدها, الذي اتحد به في اللحظة التي يتحد فيها الإيروس بالثناتوس, وتصل السفن في بحر الرغبة إلى الشاطئ المهلك, الذي ليس بعده رجوع, فهو شاطئ الفناء, الذي تتحول فيه رغبة الحياة إلى رغبة في الموت, الذي يغدو ذروة العدم, التي يصل إليها الوجود الذي انطلق من عقاله كالمحموم. غربة في الوطن وبعد أن قتل مصطفى سعيد جين مورس, في ذروة الوصل, التي كانت ذروة الفصل, وتمت محاكمته, قضى سبع سنوات في السجن, إلى أن خرج منه, متنقلاً بين أقطار القارة الأوربية, إلى أن قرر العودة إلى بلده, مرتحلاً فيه, كما لو كان يعيد اكتشافه أو البحث عن نقطة أمان فيه, إلى أن وصل إلى قرية الراوي, التي لا يعرفه فيها أحد, واستقر فيها, متزوجًا إحدى بناتها, التي نقلها إلى عالم مغاير, أحالها إلى غريبة عن عالمها الأول, غير قادرة على استعادة علاقاتها معه, فبدت كما لو كانت قطرات السم التي انطوى عليها مصطفى سعيد قد اخترقتها, وظلت كامنة فيها إلى أن انفجرت فيها رغبة القتل التي اجتاحتها, دفاعًا عن نفسها في مواجهة اقتحام عجوز يكبرها بأربعين سنة, فرض عليها نفسه بحكم التقاليد والمال, فقتلته وقتلت نفسها في دوامة جنون العنف, التي ترك مصطفى سعيد بذرتها في كل من اتصل به. وواضح من كل ما سبق, أن مصطفى سعيد هو النقيض الكامل للراوي, الذي لا نعرف اسمه, والذي تصلنا به تفاصيل السرد وصلاً حميمًا, فنتذكر الكثير عنه, حتى لو نسي تتابع السرد المتوتر اسمه, في حركته المندفعة. أقصد إلى الحركة التي تنبني على التقابل في علاقة التضاد بين الراوي ونقيضه مصطفى سعيد. ولكن المفارقة التي تنطوي عليها هذه الحركة, أن النقيض يشبه نقيضه في صفات دالة, لافتة, فكلاهما سافر إلى إنجلترا, وحصل منها على الدكتوراه, مصطفى سعيد في الاقتصاد, والراوي في الشعر الإنجليزي, وكلاهما شاعر يحب الشعر, وينظمه, وكلاهما ارتبط بالمرأة السودانية نفسها, وكلاهما يعاني الاغتراب في المكان, ويشعر بالحاجة إلى الركون إلى شيء راسخ, ثابت, وكلاهما يحكي بضمير المتكلم, وفي خطاب لا يختلف بين الاثنين, في توجهه إلينا - نحن القرّاء, خصوصًا حين نرى علامات لغوية انتباهية من مثل كلمة (سادتي), وكلاهما يفكر بأنه أكذوبة, ويردد هذا الأمر, وأخيرًا, كلاهما لا يخلو تكوينه من عنصر السخرية, ولا يكف عن ممارستها مع النفس أو الآخرين, وفي موازاة ذلك كله, يشبه الراوي مصطفى سعيد على نحو دال, إلى الدرجة التي تدفع أحد زملاء مصطفى سعيد - في إنجلترا - إلى أن يسأل الراوي: (هل أنت ابنه?), مع أنه كان يعرف أنه لا قرابة بين الاثنين. ويكتمل هذا السياق من التشابه بالتحوّل الدلالي المتكرر, الذي يقترن بتحوّل المرأة إلى مدينة ووطن. عند الشخصيتين, والعكس صحيح بالقدر نفسه, وكما تحوّلت لندن إلى امرأة غاوية مغوية, في تجاوب التوازيات الرمزية, تحول الوطن المستعاد(الذي يعود إليه الراوي كما لو كان يعود إلى صدر أمه), إلى امرأة حانية حاضنة, هي حسنة بنت محمود, الوطن الذي استراح إليه مصطفى سعيد بعد رحلة العذاب والعنف, والسكن الذي استراح إليه الراوي بعد أن انجذب إلى شراك مصطفى سعيد. ولكن بقدر ما تغدو حسنة بنت محمود نقيض جين مورس, في المستويات الرمزية للأمان والسكينة, تنتهي حياتها في فعل من أفعال العنف, الذي تضطر إلى أن تمارسه دفاعًا عن حرمة جسدها, فينتهي بها الأمر إلى الموت الفاجع. وكان ذلك حين قتلت (ود الريس), الذي أراد أن يجعلها من ممتلكاته, فقتلها كما قتلته, أو قتلت هي نفسها بعد أن قتلته, فلا نعرف على وجه اليقين, كل ما نعرفه هو أنها هددت بأنها ستقتل نفسها وتقتله إن أجبرها أهلها على الزواج منه, خصوصًا بعد أن أحبت الراوي وأرادته أن يتزوجها كما تزوجها مصطفى سعيد, ليكون امتدادًا له, ووجهًا آخر من وجوهه. نهر النيل ويبدو أن اكتشاف الراوي لدرجة تشابهه مع مصطفى سعيد, في لحظة التوحد, التي هي لحظة تكشف ذاتي, كانت مقدمة النهاية, التي تعود بنا إلى نهر النيل, المنبع الذي عاد إليه مصطفى سعيد, والراوي معًا, والذي قيل إن مصطفى سعيد قد غرق فيه. أما الراوي فإنه - بعد أن اكتشف تشابهه مع مصطفى سعيد - يمضي إلى النيل في خطى موازية لخطوات مصطفى سعيد السابقة, وفي لحظة غسقية من الوعي بالذات, التي تغدو غيرها, ويدخل الماء عاريًا, كما ولدته أمه بما يؤكد فكرة العودة إلى الرحم, ويترك جسده للماء, الذي يحمله إلى منتصف النهر, والشاطئ يعلو ويهبط, ودوي النهر يغور ويطفو, والعائد إلى قلب النهر - قلب الظلمة التي ليس بعدها سوى النور - يصبح بين العمى والبصر, يعي ولا يعي, كأنه في لحظة ما بين النوم واليقظة, الحياة والموت, مقبضًا على خيط رفيع واهن: الإحساس بأن الهدف أمامه لا تحته, وأنه يجب أن يتحرك إلى الأمام, ويعاني نوعًا من الصحو المفاجئ كأنه لحظة اليقظة من الكابوس, ويدرك للمرة الأولى في وضوح غريب, أنه طوال حياته لم يختر ولم يقرر, وأن عليه الآن أن يختار الحياة, لأن ثمة أناسًا قليلين يجب أن يبقى بينهم أطول وقت ممكن, ولأن عليه واجبات يجب أن يؤديها, لا يعنيه إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها. وإذا كان يستطيع أن يغفر, فسيحاول أن ينسى, ويحيا بالقوة والمكر. هكذا, اندفع فوق الماء بكل ما في جسده من طاقة حتى صارت قامته كلها فوق الماء, وبكل ما بقي له من طاقة صرخ: (النجدة, النجدة). جابر عصفور الروائي والأديب العالمي (الطيب صالح).. المنسي!, شبح السيرة الذاتية .. - skeptic - 10-30-2006 ولى صالح.. دون عمامة ! إذا كان الروائيون العرب قد بايعوا الطيب صالح في مؤتمرهم الأخير بالقاهرة أميرًا من أمراء الرواية العربية المعاصرة, فقد سبقهم إلى مثل هذه المبايعة نقاد وباحثون ومثقفون كثيرون, أشادوا أيما إشادة بالطيب صالح إنسانًا وروائيًا متميزًا. ويحمل كتاب صدر أخيرًا في العاصمة اللبنانية باسم ( الطيب صالح دراسات نقدية) حرّره د.حسن أبشر الطيب, آراء عدد وافر من المثقفين العرب, في سيرة الطيب صالح وأعماله الروائية والأدبية الأخرى. هذا مع الإشارة إلى أن سيرة الطيب صالح لا تقل إبداعًا لا عن (موسم الهجرة إلى الشمال), ولا عن أي موسم هجرة آخر إلى أي جهة من جهات الأرض. في هذا الكتاب يصف محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب وولي أمر (أصيلة), الطيب صالح (بالولي الصالح, حتى من دون عمامته. كلّ كامل يقاسمك كل أحاسيسه. كلّ كامل لا ينافق ولا يحابي. ولا يعادي ولا يحاسب ولا يلوم. قنوع لدرجة إهمال حقوقه, دعوب بقهقهته وتقاسيم وجهه وشرود نظراته. كل شيء عنده ملفوف بالحشمة والتقشف ونكران الذات. حكايته عن أيام مناسك الحج في مكة المكرمة, وزيارته بالدموع والخشوع والتسليم على قبر النبي (صلى الله عليه وسلم) هي حكاية الشاعر والمؤمن والصوفي, بسبابته مرفوعة دائمًا لتوحيد الله. ومنذ حجته وهو غارق في بحر الوحدانية كما يقول شيخه أبو الحسن الشاذلي). وبعد أن يصفه بن عيسى برمز الاعتدال في كل الأمور, يضيف أنه ذاكرة السودان المتنقلة يحفظ لكتابه وشعرائه وزجاليه على الخصوص, ويحنّ لوطنه الأم, ويحسّ بأحشائه تتمزق وهو يتحدث عن السودان. ويرى إبراهيم الصلحي أن المحبة هي المدخل الحقيقي النافذ مباشرة إلى لب شخصه وأدبه, وقد عبّر عنها كثيرًا, في كل ما كتب. كلمة أصلها ثابت في الأرض, وفرعها يعانق الهواء والإنسان والسماء. والواقع أن الطيب صالح يفيض بالمحبة التي نوه بها إبراهيم الصلحي حتى في الدراسات الأدبية التي كتبها عن نخبة من شعراء التراث الكبار كالمتنبي. وهو يبشّر دائمًا بالنقد القائم على الحب. فهو يؤمن بأن الحب يفتح البصيرة على عكس الكراهية. ومن أطرف الأمثلة التي يسوقها على صحة نظريته, مثل طه حسين في كتابه الشهير عن المتنبي. فهو كتاب سيئ إلى أبعد حدود السوء, لسبب بسيط هو أن طه حسين دخل على المتنبي بكراهية مسبقة, فلم يفهم شعره ولم يفهم شخصيته ونفسيته, وتوصل إلى نتائج خاطئة بمجملها, بعكس ناقد آخر هو محمود محمد شاكر الذي أسرف في حبه للمتنبي. والإسراف في الحب هو بنظر الطيب صالح خير من الإسراف في الكراهية. ولأن للطيب صالح من اسمه نصيبًا, فإن محمد الحسن أحمد يقدّم صورة أخرى للطيب صالح يعرفها فيه كل من خبره وعايشه عن قرب: هو لا يتصدّر المجالس, ولا يتصدّر المآدب سواء كانت على شرفه أو كان من أبرز الضيوف. يجلس دائمًا في الأطراف لأن ذلك يريحه ويحقق له في كثير من الأحايين مآرب أخرى لا يعلمها إلا من كان لصيقًا به). إنه إنسان عجيب يجعلك طوال الوقت وأنت إلى جانبه, تتأمل في سلوكه وتصرفاته, كأنه يلقي عليك من غير استشعار محاضرات في أدب النفس وأدب الدرس. لم أسمعه يومًا يشكو إلا من مرض, هو يتعايش مع نفسه ومع الآخرين في تراضٍ مشبع بالقناعة والتعامل النبيل. وتتجلّى إنسانيته في قمة تسامحه عندما ينقل إليه أحد رأيًا سلبيًا كُتب عنه أو قيل عنه. فهو لا ينفعل ولا يغضب, إنما يحاول أن يجد الأعذار لمن فعل, كأنه يعتذر عما سبّب له من تكدير, إذا جاز التعبير! ويروي محمد الحسن أحمد حكاية عن الطيب صالح تدل على طيبته وصلاحه وإيمانه: عندما خضعت لجراحة كبيرة قبل عامين اعتذر عن السفر للمشاركة في مؤتمر وادي النيل بالقاهرة. ثم أمضى شطرًا من الليل السابق للجراحة معي في المستشفى. واعتذر لي لأنه لن يكون بوسعه حضور الجراحة في الصباح دون أن يفصح بشيء من دون أن أسأله, وهو الذي اعتذر عن السفر لهذا السبب, لأني أعرف رقته وشفافية عاطفته. لكنه قبل أن يذهب, أخرج من جيبه ورقة مكتوبة بخطه فيها دعاء لله رب العالمين, أوصاني أن أقرأه وأردّده عندما أُنقل إلى غرفة العمليات. وقال لي وهو في حالة من التصوف العجيب: (أبشر بالسلامة ونجاح الجراحة, وغدًا ألقاك في أمن وأمان). ويرى فيه عبدالواحد عبدالله يوسف (إنسانًا رائعًا زكي الفؤاد واسع الصدر عزيز النفس معتدل المزاج والتفكير لا يجنح شرقًا أو غربًا. يتحدث ببساطة وعمق, وفي أدب جم ودماثة خلق أشبه بسلوك أولياء الله الصالحين. فيه من تصوف ابن عربي وحذق الغزالي الشيء الكثير. وفيه من إباء المتنبي وشممه وجرأته وقدرته على الإبداع الشيء الكثير أيضًا. وكان المتنبي ولايزال أحب الشعراء إلى نفسه. ولكنه بعيد عن صلف المتنبي وطموحه إلى السلطة والجاه. الطيب إنسان بسيط غاية في التواضع). ويقول بلند الحيدري إن غربة الطيب صالح عن سودانه عمّقت شعوره بالانتماء إليه, فزاد التصاقًا حميمًا بجلده وغار أعمق فأعمق في دكنة بشرته. كما منحته الغربة المسافة الكافية لإعادة استقراء دقائق الحياة على أرضه في شمال السودان, وكرمز لكل السودان بعطائها الخيّر وناسها الطيبين, وعبر موازنة مرهفة ما بين طبيعة هذه الحياة وأبطالها, وطبيعة الأرض التي يعيشون على ظهرانيها, وكأن كلاً منهما يكمّل صورة الآخر. وتبدو هذه الموازنة بين الطبيعتين بأجلى صورها في صفحتين آثر أن يبعد عنهما تسلسل الأحداث في (عرس الزين) ليحدثنا فيهما عن (انتفاخ صدر النيل) و(الليالي المقمرة), ورائحة الخصوبة ونقيق الضفادع, إلى جانب أفراح القرية وزغاريد الأعراس التي تُسمع من مسافة ميلين منها, لينتهي من هاتين الصفحتين المملوءتين بشاعرية أخاذة إلى إيجاز تلك العلاقة بين طبيعتين جغرافيتين, يستمر بهما عطاء الأرض الدائم وعطاء المرأة الدائم, وتستمر بعطائها الحياة: (الأرض ساكنة مبتلة, ولكنك تحسّ أن بطنها ينطوي على سر عظيم, كأنها امرأة عارمة الشهوة تستعدّ لملاقاة بعلها). ويعتبره صلاح فضل هدية الجنوب إلى الشمال, هدية السودان بكل أصالته وعمقه وتراثه وامتداده في قلب القارة الإفريقية, إلى الوطن العربي بأكمله. فالإنسان العربي في السودان, هو جوهر ما تلتقطه أعماله في البداية, بكل غليانها الفكري. لكنها تطرحه على العالم وتحتكّ به مع الإنسان الآخر, والأفق الآخر, والثقافة الأخرى, حتى تتولد تلك الشرارة التي تجعل أعماله نقلة حقيقية في الرواية العربية. استنادًا إلى (الشهادات) التي يضمها الكتاب التذكاري عن الطيب صالح , وقد نقلنا بعضها فيما تقدم, يبدو الحديث عن صاحب (موسم الهجرة) و(مريود) و(عرس الزين) و(المنسي), حديثًا شعريًا في جوهره, ولكنه يتحول إلى ما يتجاوز الشعر على يد الكثيرين من عشّاق الطيب, وبخاصة على يد الكتاب السودانيين المفتونين بكاتبهم الكبير. ومادامت المناسبة هي مناسبة منح الطيب جائزة الرواية العربية, فلا بأس بإيراد (شطحة) من شطحات العشق في شهادة لمحمد صالح خضر. فبعد أن تحدث عن بعض كتابات صديقه الطيب صالح طرح سؤالاً مشروعًا إذ قال: إذا كان الإبداع بهذا الحجم, والرجل بهذه القامة, والطيب صالح يجري ولا يُجرى معه, ويجمع بين الاثنين, فيغرف من بحر, وينحت من صخر, فلابد للسؤال المشروع أن يطرح نفسه: لماذا تأخرت جائزة نوبل حتى الآن? ولماذا ضلّت طريقها إلى آخرين? وإذا كانوا أحيانًا يمنحونها بسبب كتاب, ألا تكفيهم صفحات من (مريود)? ربما تأتي التكنولوجيا في المستقبل بمقياس كمّي للأعمال الأدبية, وتخترع جهازًا إلكترونيًا حسّاسًا توصل أقطابه برأس القارئ لرصد الحفز العصبي ومعدل الاستغراق, حينها سوف تكون كمية الإثارة النظيفة الناتجة من (موسم الهجرة) تعادل 8.5 بمقياس ريختر الأدبي, فيقتنع أهل نوبل لذلك, ولو كان الأمر بيدي - والكلام لايزال للكاتب السوداني - لأعلنت على الملأ: (يُمنح الطيب صالح جائزة نوبل بسبب سطر واحد كتبه عن أكرم صالح, إذ قال: (وأكرم صالح صوته مفعم باحتمالات الأفراح والأحزان, كأن أحدًا يريد أن يبكي ويضحك في الوقت نفسه). وسوف يؤيدني في ذلك كل مَن سمع صوت أكرم صالح رحمه الله)? بالإضافة إلى (الشهادات) في الطيب صالح , ورواياته وأدبه, يضم الكتاب دراسات نقدية لنخبة من النقاد والباحثين, منهم: رجاء النقاش وأحمد عبدالمعطي حجازي, وروجر ألن ومحمد إبراهيم الشوش وحسن أبشر الطيب ومحمد المكي إبراهيم. وإذا كان ما لا يُدرك كلّه - كما تقول مجلة الأحكام العدلية - لا يترك جلّه, فمن الممكن إيراد بعض أحكام هؤلاء النقاد على أعمال الطيب صالح الروائية. فتحت عنوان (مريود قصيدة في العشق والمحبة), يلحظ رجاء النقاش أن مريود التي تستعصي على التلخيص, تقترب من الموسيقى. (فلا يمكن والحال هذه تلخيص الأنغام والسيمفونيات, ولكن الصحيح هو أن نسمعها كلها, أو نسمع أجزاء منها, فلكل جزء سحره وجماله. هكذا نجد أنفسنا مع مريود. فهي من الأعمال الروائية القليلة جدًا في أدبنا العربي, والتي يحنّ الإنسان, بعد أن يطوي صفحتها الأخيرة, إلى إعادة القراءة لصفحة معينة منها, أو سطور محددة. فما تعطيه لنا الرواية من متعة روحية وفكرية في معناها العام, لا يلغي المتعة الأخرى التي تنبع من (الجزئيات) فيها, سواء أكانت هذه الجزئيات جملة أم عبارة, أم مقطعًا كاملاً, أم أسطورة, أم وصفًا لمنظر من المناظر, أم تأملاً في لحظة من لحظات النفس والحياة). ومن ملاحظات رجاء النقاش على هذه الرواية, أن الطيب صالح قد نسجها في قماش سوداني إفريقي عربي. وفي هذا القماش المحلي القومي, استطاع الطيب صالح , أن يكتب أدبًا إنسانيًا عالميًا يمكن لأي إنسان أن يقرأه في أي مكان في الأرض, فيطرب له ويتأثر به. ويدرس المستعرب الأمريكي روجر ألن رواية (عرس الزين) دراسة مستفيضة, كما يدرس أعمال الطيب الأخرى, فيرى أن الروائي السوداني الكبير قد نجح في أن يخلق بأعماله سلسلة من العوالم الروائية الحية المشرقة, عوالم حملت للقرّاء, عربًا وغير عرب, وبأعلى مستويات الرمز في الخرافة, من حيث انعكاس للوعي القومي أو الوعي الإقليمي, رؤية بالغة الخصوصية لتأثيرات عملية التغيير الدائمة العنيدة في ثقافات إفريقيا, وفي أي مكان آخر بفعل التسرب والامتداد. (لقد استطاع الطيب صالح بمثل هذا الاتصال والتواصل بين الأعمال الروائية المختلفة, أن يكشف عمّا تتمتع به أجناس القصّ المتنوعة من ثراء وغنى, وكيف أنها تتطابق بطرائقها المختلفة مع طبيعة المجتمع الذي يعرف ويعشق). وعند حسن أبشر الطيب, تتمثل رواية (بندر شاه) في العبارة التي تكررت في (ضو البيت): لقينا شيئًا وضاع شيء. ذلك النهار لا ندري البكاء على إيش والاّ إيش? على اللقيناه ولاّ على الضاع? ولعل القصد هو استكناه إشكاليات الصدام الحضاري, وأطروحات التغيير, وما يترتب عليها من نتائج إيجابية وسلبية. لقد حاول الطيب صالح في (بندرشاه) أن يقوم بعملية استكشاف لعالم وهمي, مكوّن قطعًا من تفاصيل تمثل ملامح سودانية, هي ملامح اكتشاف لوضعنا في الماضي والحاضر والمستقبل. إننا نعيش في عالم متغير دومًا, وفي تشبثنا بالحضارة الحديثة نستفيد كثيرًا, ولكن تضيع منا أشياء كثيرة وجميلة. إن طرائق الطيب صالح في السرد غير التقليدي, ومزجه بين الواقع الماثل والأسطورة والخرافة في سياقات وأزمنة متداخلة, واستشراف مضامين متنوعة ومتجددة وغير مسبوقة, والتعبير عن كل ذلك في لغة شاعرية أنيقة مترعة بالإيقاعات والأنغام الداخلية يضعه موضعًا متميزًا في خريطة الرواية العربية المعاصرة. والكتاب الذي قدمنا ملامح محدودة منه, يشكل في الواقع تحية حب من كتّاب ونقاد ومثقفين, عرب وأجانب, لروائي عربي كبير, أحبّ الناس فبادلوه حبّا بحب. جهاد فاضل |