حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
فى الذكرى الستين لتأسيسه: الحزب الشيوعى السودانى والعمل النظرى: لذكرى احمد شامى ويوسف عبد المجيد - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3) +--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57) +--- الموضوع: فى الذكرى الستين لتأسيسه: الحزب الشيوعى السودانى والعمل النظرى: لذكرى احمد شامى ويوسف عبد المجيد (/showthread.php?tid=14484) |
فى الذكرى الستين لتأسيسه: الحزب الشيوعى السودانى والعمل النظرى: لذكرى احمد شامى ويوسف عبد المجيد - الاعصار - 10-10-2006 مقدمة:- بمناسبة الاخبار التى تفيد بقرب انعقاد المؤتمر العام الخامس للحزب الشيوعى السودانى، وبمناسبة ستين عاما على تاسيسه عند نهاية اربعينات القرن الماضى نعالج فى هذا العرض الاساس النظرى الذى ظل يرتكز عليه هذا الحزب وذلك بهدف اجلاء حقيقة منافاة ذلك الأساس لـ "الماركسية".. عقد الحزب مؤتمره الاول عام 1949، والثاني في عام 1952، والثالث في عام 1956، والرابع في 1967.. تعاقب على قيادته أربعة قادة (عبد الوهاب زين العابدين عبد التام: 1946-1947: وكان يسمى الحزب فى هذه الفترة "الحركة السودانية للتحرر الوطنى")، و(عوض عبد الرازق:1947 -1949)، و(عبد الخالق محجوب: 1949–1971)، ثم (محمد ابراهيم نُقد -السكرتير العام الحالى للحزب الشيوعى السودانى، والذى انتخب لقيادة الحزب بعد إعدام عبد الخالق محجوب فى 1971-)... كان لظهور حركة الشيوعيين السودانيين فى الاربعينات من القرن الماضى عندما كان النضال ضد الاستعمار البريطانى فى البلاد فى اوجّه، وتحديدا بعد تكوينها كحركة مستقلة بعد ان كانت تعمل بشكل مسستتر داخل الاحزاب الاتحادية الوطنية، كان لظهورها وقع المفاجأة عند الشعب للقفزة النوعية التى احدثتها فى الحركة الوطنية. ولم تكن القفزة نابعة فقط من ان التنظيم الشيوعى الجديد لم يرتم فى احضان الطائفية كما فعلت احزاب الحركة الوطنية البرجوازية لكسب الجماهير اليها؛ تلك الجماهير التى كانت تسيطر عليها وتسوقها الطائفية بكل وسائل التضليل والتدليس والغش وتدفعهم بالقهر و"بالاشارة" لتحقيق اهدافها ومراميها الدنيوية؛ فهناك سياسيون ومفكرون آخرون ابتعدوا عن الطائفية فى ذلك الوقت، بل بتعريتهم لمراميها كانوا من اؤائل الذين نادوا بابعادها وعزلها عن الحياة السياسية. فالمفكر (محمود محمد طه) وقف ضد الطائفية، كما هاجمها (الأخوان المسلمون) فى ذلك الوقت. ولكن عنصر المفاجاة الذى واكب انبثاق الحزب الشيوعى السودانى كان يكمن، بعكس الشعارات الفضفاضة السائدة آنذاك مثل الدعوة لتحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة، فى تحديد الشيوعيين للتغيير كعملية موضوعية تاتى متسقة مع التطور الطبيعى للمجتمع- وليست مسألة ذاتية تحفزها الاحلام والتمنيات. فقد حدد الشيوعيون ان الهدف النهائى لنضالهم هو تحرير البلاد من القبضة الاستعمارية واحداث التغيير الاجتماعى بطرح علاقات الانتاج القديمة، وابانوا انه من بين كل شرائح المجتمع فان العبء الاكبر للاضطلاع بهذه المهمة يقع على عاتق الطبقات الشعبية بقيادة العمال الذين يمثلهم الحزب الشيوعى. وهكذا مضى الشيوعيون فى تنظيم العمال والمزارعين، وكان لهم الدور الاكبر فى خلق حركة نقابية بشقيها العمالى والفلاحى لعبت دورا مقدرا فى الدفاع عن مصالح وحقوق اعضائها وتحسين شروط عملهم وتوعيتهم السياسية. كما بنوا حركات وروابط تقدمية للنساء والشباب والطلاب والادباء والفنانين، كذلك حازوا قصب السبق فى المناداة فى وقت مبكر يعود للعام 1954 بحق الحكم الذاتى الاقليمى لكل القوميات التى يتشكل منها نسيج المجتمع السودانى. وتمشيا مع طبيعة ومتطلبات المرحلة الوطنية الديمقراطية تحالف الشيوعيون مع شرائح المجتمع الوطنية الديمقراطية وانشأوا تنظيما وطنيا ديمقرطيا في عام 1953 باسم "الجبهة المعادية للاستعمار"، استمر نشاطه حتى بعد استقلال البلاد السياسى فى عام 1956. ارتكز الحزب فى دعوته للحفاظ على الجبهة المعادية للاستعمار على موقف صحيح هو ان السيطرة الاجنبية لم تزل موجودة بالسودان بعد رحيل القوات البريطانية فى شكل هيمنة اقتصادية وثقافية. منذ حوالى مطلع ستينات القرن الماضى اخذ الحزب يهمل الاستراتيجية، ولانعدام الرؤى الاستراتيجية فقد البوصلة (الهادية) التى تهدى نشاطه وتجعله فى المقدمة. لم يعد الحزب يستبين حقيقة الظروف العامة التي يمارس فيها العمل السياسى و كيفية الوصول للشرائح الاجتماعية، صاحبة الاهداف المشتركة فى مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ، والتحالف معها من اجل تحقيق تلك الاهداف. وتاه نشاطه فى تفاصيل العمل اليومى بحيث أصبحت الاشجار تحجب عنه رؤية الغابه؛ فمنذ ان حل الحزب "الجبهة المعادية للاستعمار" فى1958، لم يقم باى تحالف جاد مع القوى الوطنية والديمقراطية على حسب ما تقتضى ضرورات المرحلة. كما سار فى مسارات خاطئة انتهت به بعد ستين عاما من انشائه الى ذرائعية تبرر وتسوغ تحالف حزب الطبقة العاملة مع القوى الطائفية والتقليدية وهو ما عبر عنه السكرتير العام للحزب بقوله: "إن الحديث عن وحدة القوى التعددية او تحالف اليسار نفهمه ونتفهم دواعيه ولكن ما هو السبب الذي يدفعنا للعزلة عن اليمين والاكتفاء بتحالف ضيق، و حتى على مستوى اليمين هناك حزب "الأمة" مثلا هو حزب محترم وبه قيادات متميزة وله جماهير واسعة لماذا لا اتحالف معه وانعزل عن هذه الجماهير الواسعة، نحن ندعو لتحالف واسع، نعرف حجمنا ونقبل به، ونحترم حجم الاخرين، وهم نفوذهم اكبر سواء حققوه عبر الطائفية او غيرها هو نفوذ في نهاية المطاف، ونحن نعمل كحزب بشكل دؤوب ونصل عبر الحوار مع الناس لتوافق، وعلى المستوى السياسي نريد ان نصل لاتفاق حد ادنى لتشكيل هذه الجبهة، او التحالف الواسع." [1].. وكذلك تزامنا مع ذكرى ميلاده الستين تعلن قيادة الحزب بلا مواربة تاييدها لتدخل الدول الكبرى فى السودان عبر الامم المتحده، بزريعة ان التدخل أصبح مهما لحل ازمات البلاد السياسية ولا مناص منه " في قضايا سياسية كبيرة ومصيرية مثل الحرب الأهلية في الجنوب وفي جبال النوبة وفي دارفور. ودور الأمم المتحدة لا ينتهي بتوفير الحماية لأهل دارفور، بل من الضروري أن يتواصل لفرض الحل السياسي للأزمة" [2]. وهكذا، بهذا الموقف اللا مبدئى؛ تنفض قيادة الحزب يدها تماما عن المهمة الاساسية لمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية المتمثلة حاليا فى كشف الاهداف الحقيقية للدول العظمى من وراء التدخل المزمع فى السودان والنضال لاخراج كل القوات الاجنبية الموجودة الآن بالسودان. # العامل النظرى هو الحاسم:- الاساس الحقيقى للتغيير الاجتماعى يكمن فى وقائع الحياة المعاشة (الاقتصادية-الاجتماعية). ولهذا فالاشتراكية فى شكلها العملى والسياسى هى انعكاس فى رؤوس الناس فى شكل افكار لواقع موضوعى هو النزاع بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج. وهذا النزاع لم يكن وليد افكار الناس، بل شيئا مستقلا عن افكار البشر. اما فى الجانب النظرى، فلم تكن الاشتراكية الا امتدادا للفلسفة المادية. فالاشتراكية الحديثة بدات بالمحاولات الطوبائية فى مطلع القرن التاسع عشر وجاءت كامتداد للفلسفة المادية الفرنسية للقرن الثامن عشر. والفلسفة المادية الجدلية والمادية التاريخية، التى تناسلت من الفلسفة الكلاسكية الالمانية، شكلت الاساس النظرى للاشتراكية العلمية. نقض ماركس كل الفلسفات السابقة (بما فيها المادية الفرنسية الجبرية والمادية الالمانية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر على التوالى)، وانزل الفلسفة من سماوات التامل الى ارض الواقع بوضعه الفلسفة المادية الجدلية والمادية التاريخية كنظرية نقدية-علمية. و تنبع اهمية هذه النظرية العلمية من نظرتها الى ان الاشتراكية لا يمكن ان تتحقق من علاقات متمناه او مرغوب فيها، بل من العلاقات الواقعية، ولهذا فمهمة العمل النظرى تكمن فى دراسة الواقع كما هو بلا اضافات وذلك لادراك كنه العلاقات الاجتماعية الواقعية وما يوحيه تطورها المنطقى لانجاز الاشتراكية. وهكذا صار العمل النظرى المرتكز على الطريقة الديالكتيكية المادية لاغنى عنه لتوجيه الممارسة العملية اذا ما اريد لها ان تكون ثورية. والقوانين التى تشملها هذه الطريقة ليست قوانين اخترعت اختراعا، بل هى قوانين تم اكتشافها بوسطة مؤسسا النظرية ماركس وانجلز من خلال الممارسة العملية التى لها اليد الطولى على العمل النظرى. فاستنادا على مبدأ الفلسفة المادية الاساسى القائل ان الفكر نتاج للواقع، فان النظريات التى توصل لها مؤسسا الماركسية هى انعكاس لواقع موضوعي، ولهذا فمن شان العمل النظرى القادر على استيعاب المضمون الحقيقى لحركة الواقع الموضوعى المتطور ان يؤدى الى تطوير النظرية نفسها لتتلاءم مع ما يجد من ظروف. وهكذا، فان تطوير الماركسية يتم انطلاقا من المقولات الاساسية للماركسية . وكمثال نجد ان الينينية جاءت كبناء نظرى هائل جديد لمواجهة القضايا والمهام التى طرحتها الظروف الموضوعية العالمية السائده فى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. فقد طور لينين الماركسية بمقولات جديده، كامتداد للموضوعات الاساسية التى وضعها ماركس عندما كانت الراسمالية فى مرحلة "المزاحمة الحرة"، لمقابلة المرحلة الجديده لتى دخلتها الراسمالية بانتقالها من المزاحمة الحرة الى تمركز رؤوس الاموال لدى الاحتكارات الراسمالة الكبرى الساعية لفتح الاسواق بتصدير رؤوس الاموال "مرحلة الامبربالية". العمل النظرى ليس فانتازيا فكرية او ترفا محضا، بل هو دليل لتوجيه عملية التحليل الملموس للواقع الملموس التى تمثل جوهر الطريقة المادية الجدلية. فمثلا، مؤلف لينين الفلسفى "المادية والنقد التجريبى، 1908" استهدف به كاتبه تطوير النشاط السياسى بربطه اكثر بالمادية الجدلية؛ فرغما عن ان الكتاب يتناول قضايا فلسفية صرفة، الا ان الاسباب التى استدعت اصداره- على حسب راى المؤلف- لا تكمن وراء "دوافع ادبية وحسب، بل اعتبارات سياسية ملحة كذلك" [3]. # البراقماتيه (pragmatism)، والانتقائية (eclecticism) فى عمل الحزب:- الاساس النظرى الذى ظل يتبناه الحزب الشيوعى لأكثر من اربع عقود منذ تاسيسيه فى 1946 اتسم بالبراقماتيه والانتقائية. وبالرغم من ان البراقماتيه كنزعة تجريبية (empiricism) تنطلق، بصورة عامة، من موقف مادى فى تحليل الظواهر، الا انها وفى كل الاحوال تنتهى الى موقف دوقمائى(dogmatic)؛ فالتجريبية تتجمد عند المعطيات الظاهرية للتجربة ونتائجها وتحولها لتعاليم لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. والبراقماتية والانتقائية هما اللتان ادتا بقيادة الحزب الى الجمود وليس التمسك بافكار لينين وستالين كلما يحاول السكرتير الحالى للحزب الشيوعى السودانى ان يوهم الناس. فهاتان النزعتان، اللتان تناقضان الطريقة الديالكتيكية المادية، قادتا الى افتقاد الحزب الشيوعى السودانى لاستراتيجية واضحة يستهدى بها عمله الذى تحول بفعلهما الى نشاط يتسم بالقفز هنا وهناك فى حركة لا قرار لها على هدى المبدا الانتهازى الخالد: "الحركة كل شىء، والهدف النهائى لا يساوى شيئا" للقائد البارز فى الحزب الاشتراكى الديمقراطى الالمانى والاممية الثانية ادوارد بيرنشتاين. وكذلك نتيجة للانتقائية اللامبدئية لم يعد الحزب يميز بين المهام الاستراتيجية (المهام الاساسية والحاجات الدائمة التى تجابه الحركة بكليتها) وبين مقتضيات التكتيك الذى يخدم الاستراتيجية؛ وكنا كثيرا ما نسمع من قيادة الحزب بانها تقف مع وجوب تغيير التكتيك لان الاحوال فى حالة دائمة من التغير. ولكن تغيير التكتيك عندما ينطلق من الانتقائية يقود الى اللامبدئية فى العمل. فهناك فرق بين من يغيرون آرءهم ومواقفهم بشكل مبدئ وممنهج، وبين من يتحولون من موقف الى آخر ومن فكرة الى فكرة بصورة لا مبدئية. ففى الحالة الاولى توضع التكتيكات المختلفة لتحقيق الاستراتيجية؛ ففى هذه الحالة يكون النشاط فى شكل مشروع للعمل متكامل ومتماسك الاجزاء يرتكز على مبادئ ثابته وينفذ بجدية واستقامة تحت شعار التكتيك يخدم الاستراتيجية. اما فى الحالة الثانية فالنشاط يأتى فى شكل مواقف منعزلة (رزق اليوم باليوم) بحيث لا يمكن بان يوصف بانه تكتيك لان لا احد يعرف الى ماذا واين تقود. اذن ضرورة تغيير التكتيك تفترض وجود تكتيك فى المقام الاول!! وهكذا ظلت التجريبية والانتقائية تنخر فى جسم الحزب حتى اصبح يرتكز على منسأة خاوية ومهترئة، وما تمسك قيادة الحزب الشيوعى السودانى بالماركسية الا من باب رفع العتب على منوال: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال وفى الفقرات التالية نتناول بالنقد الخط النظرى للحزب بوصفه العامل الرئيسى وراء الحالة التى آل اليها، من خلال تقديم امثلة محددة لافكار بعض قادته وردت هنا وهناك فى فترات ومناسبات مختلفة. # الحزب والمنطلق الفكرى:- الشيء الذى مهد الطريق الى الضعف النظرى فى عمل الحزب الشيوعى السودانى هو اهمال المنطلق الفكرى واللجوء او الميل لاخفاء الافكار الماركسية وعدم ابرازها وتوضيحها كمصوغ لتجريد روح الفلسفة الماركسية من حسها النقدي والثورى وبالتالى تجنب كشف تناقضات المجتمع. قال (الاستاذ/ التجاني الطيب) -عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني (وأحد مؤسسي الحزب الشيوعي)- لأحد الصحفيين شارحا الفلسفة الماركسية: "...... الفلسفة الماركسية وسياساتها واستراتيجياتها هذه أشياء مختلفة ومتباينة. أولاً هناك فلسفة ماركسية وهناك منهج ماركسي لفهم العالم، وهذا المنهج هو الذي يستخدمه الماركسيون لقراءة الواقع وفهمه، والماركسية لا تعني فقط قراءة وفهم الواقع وإنما تعني العمل على تغيير هذا الواقع نحو الأفضل، فالفلسفة الماركسية ليست فلسفة تأملية أو تسجيلية، فهي فلسفة أساساً تعنى بتغيير الوضع القائم نحو الأحسن والأفضل، وهي عملية مرتبطة بفهم هذا الواقع وكيفية العمل على تغييره، ولا استطيع وضع هذه المفاهيم في عبارة أو عبارتين تحدد مفهوم ومعنى الفلسفة الماركسية.". [4] هل معقول ان يكون ما ورد فى هذا الكلام هو شرح لفلسفة (اى فلسفة) ناهيك عن الفلسفة الماركسية؟ فاين الماركسية، بل اين الفلسفة عموما، فيه؟ ان محاولة شرح الماركسية بالجوء الى الكلام المنمق، والشطارة والبهلوانيات برص التعابيرالجوفاء والمفردات الفارغة، هو تسويق لبضاعة بائرة. من المفهوم تماما ان يروّج الماركسيون، فى ظروف التخلف السياسى والاجتماعى والثقافى التى يمر بها بلد مثل السودان، لشتى الافكار المستنيرة التى لاعلاقة لها بالماركسية طالما كانت تصب فى النهاية فى اتجاه توعية الشعب- ولكن من غير المقبول ان يلجأ هؤلاء الى طمس جوهر مفهوم المادية الجدلية والمادية التاريخية. فضرورة الوضوح الفكرى تنبع من أن التغيير لا يتم من وراء ونيابة عن الشعب، فالتتغير يتم بشكل ثورى وليس بشيء آخر؛ والنقطة المهمة هى ان التغيير يتم بواسطة فئات اجتماعية يكون هذا قدرها المفروض عليها تاريخيا. وعليه فان المفهوم المادى للتاريخ، الذى يستهدف دراسة الواقع الموضوعى بغرض كشف تناقضاته الطبقية والعلاقات الحقيقية المستورة بتلك التناحرات، يمثل الطريقة العلمية التى من شانها اكساب الجماهير وعيا رفيعا اذا ما نشرت بينهم. فهذا الوعى يقود الجماهير ليس فقط الى التخلص من الافكار البالية وفك اسارها من كل اشكال الموروثات الخرافية، بل لادراك اهمية تنظيم نفسها وضرورة ربط نضالها المطلبى والاصلاحى عموما بحركة ثورية اكبر تخرجها من نطاق العمل المحلى الضيق الى فضاء العمل السياسى الواسع الذى يستهدف التغيير الجذرى. # النظرة الاصلاحية:- ان التغيير الاجتماعى فى بلد مثل السودان (انجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية) عملية موضوعية وليست ذاتية، وموضوعية التغيير تعنى، فى هذه الحالة، ان الهدف لا يمكن ان يكون اى شيء غير تحقيق سلطة وسيطة ديمقراطية-وطنية تهييء للتحول الاشتراكى الشامل. والايمان بموضوعية التغيير تعنى رفض الاتجاهات التى ترمى لاحداث التغيير بوسائل ذاتية كالمزايدة اليسارية التى تطمح الى انجاز الهدف بالقفز فوق الظروف الموضوعية واستعجال التغيير قبل نضوج كل العوامل الضرورية اللازمة لذلك الامر، والمزايدة اليمينية التى تراهن على امكانية التغيير بالاجراءت الاصلاحية على هدى مفهوم الاقتصادوية economism) ) الداعى لتحقيق التنمية بحلول اقتصادية صرفة. وهذه المزايده اليمينية هى ما وقعت فيه قيادة الحزب الشيوعى السودانى. فى وثيقة (الأستاذ/ عبد الخالق محجوب) -السكرتير العام السابق للحزب الشيوعى السودانى- المعنونة "حول البرنامج- المؤتمر الخامس"، التى الفها فى يونيو1971 مباشرة قبل الانقلاب الفاشل الذى قاده عسكريون تابعون للحزب الشيوعى السودانى فى 19 يوليو1971، ذكر عبد الخالق محجوب فى تلك الوثيقة: "إن قضايا الثورة الوطنية الديمقراطية تمثل عملية اجتماعية – سياسية – اقتصادية شاملة ومعقدة ومتشابكة."... ثم قام، بمقاربة انتقائية للتغيير، بفرز ما اعتقد انه الحلقة الاساسية لتلك الثورة وحددها فيما اسماه بالثورة الاقتصادية، فهو يقول: "نبدأ بتحديد القضية الاساسية فى الثورة الديمقراطية، والتى تتفرع منها كل القضايا الاخرى لتلك الثورة – اعتقد ان قضية الثورة الاقتصادية (التنمية) هى تلك الحلقة.". [5] الشئ المدهش فى هذه الوثيقة انها لا تضع برنامجا لقوى الثورة الوطنية الديمقراطية فى تلك الفترة يتعلق بالعمل السياسى واساليبه وبكيفية ربط هذا البرنامج واخضاعه لتحقيق الهدف الاستراتيجى الخاص باستهداف السلطة السياسية كهدف مركزى لأى حزب شيوعى، بل تتحدث الوثيقة- التى اعتبرت ان مهمة انجاز الثورة الوطنية الديمقراطية فى ذلك الوقت " كانت فى مرحلة متقدمة"[6] - عن مهام السلطة (ادارة الاقتصاد، السياسة المالية، الضرائب، السياسة التعليمية، الخ.) وكأن مسألة احرازهذه السلطة كانت امر محسوما. وربما تزول الدهشة من ان الوثيقة جاءت وكانها برنامج (اقتصادى) للحكومة، اذا ما علمنا انه وبعد كتابتها مباشرة حدث الانقلاب- السابق ذكره- الذى قاده بعض ضباط القوات المسلحة السودانية من اعضاء الحزب الشيوعى والذى دحر بعد حوالى 72 ساعة من حدوثه واعدم عبد الخالق محجوب على اثره؛ وباعتراف قيادة الحزب، التى اعقبت رحيل عبدالخالق بعد ان آلت الامور للسلطة العسكرية التى كان الانقلاب موجها ضدها، فقد " صيغت الوثيقة فى ظروف كانت تتوفر للقوى الديمقراطية والثورية فيها فرص تجاوز سيطرة شريحة البرجوازية الصغيرة اليمينية وهى تصارعها وترفض تجميدها للثورة."[7] المهم؛ باعتباره ان الحلقة الاساسية هى الاقتصاد، ركن عبد الخالق محجوب الى النظرة الاقتصادية الاصلاحية (economic reformism)، ومن ثم تجاهل الشروط السياسية الضرورية لتحقيق النظام الوطنى الديمقراطى. فمن ناحية، فان القوى الذاتية- التى يمكنها احداث التغيير- لم تكن بذلك القدر من النمؤ الذى يؤهلها لانجاز تلك المهمة؛ ومن ناحية اخرى، لم تكن القوى المعادية لاطروحات التحرر الوطنى والتغيير الاجتماعى معزولة تماما. وهكذا، فان النظرة الاقتصادوية، التى وسمت الوثيقة المذكورة تناقض ابجديات الماركسية بنفيها ان السياسة تقود الاقتصاد وابدال نظرية الصراع الطبقى بنظرية تطوير القوى المنتجة؛ فبالرغم من ان الوثيقة اشارت الى ضرورة الثورة فى علاقات الانتاج بحيث تتم تصفية الطبقات المستغلة، الا ان الكاتب يعود الى نظريتة الخاصة بالثورة الاقتصادية ويكتب قائلا انه بالنهوض الاقتصادى وبناء مجتمع صناعى زراعى " تنسف القوى الداخلية التى يتوسل بها الاستعمار لهدم سيادتنا الوطنية ولذلك فالثورة الاقتصادية ، والطرق التى تسلكها، والاشكال التى تخلقها، والقوى الاجتماعية التى تستنهضها....امور لا تقتصر على التطور الاقتصادى الخاص، بل تشكل العوامل الحاسمة: سيادة وطنية او عودة الاستعمار الحديث."[8] وهذا لا يمثل الا نظرية تطوير القوى المنتجة فى اسطع صورها؛ تلك النظرية التى يرجع ظهورها، فى تاريخ الاشتراكية، الى عهد الاممية الثانية عندما صاغها ادوارد بيرنشتاين بهدف معارضة المادية التاريخية التى ترى ان الصراع الطبقى هو ما يدفع التاريخ الى الامام وفق قوانينه التى تشكل المصلحة الاقتصادية والتفاعل بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج جوهرها. الذى نود ايضاحه هنا هو ان لا جدال فى ان اليد الطولى فى التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج، الذى يؤدى الى تعاقب الانظمة الاجتماعية-الاقتصادية المختلفة، هى لقوى الانتاج وبالذات وسائل الانتاج. الا ان علاقات الانتاج تؤثر بدورها فى قوى الانتاج وذلك بتسريع نموئها او اعاقة تطورها. فقوى الانتاج تنمو اسرع من علاقات الانتاج، ولكن تطورها بشكل شامل- فى مرحلة معينة- قد يتوقف اذا لم تتطابق علاقات انتاج جديده معها. وهذا يعنى ان علاقات الانتاج اذا لم تتغير لتواكب النمؤ الذى يحدث فى القوى المنتجة، فسوف تواجه الانتاج ازمة لا يمكن الخروج منها الا عن طريق الثورة التى تحطم علاقات الانتاج القديمة فاتحة الطريق امام علاقات انتاج جديده تتناسب مع قوى الانتاج. وبهذا فان المنهج الذى اتبعته وثيقة عبد الخالق جاء هكذا: التنمية الاقتصادية هى الحلقة الرئيسية فى عملية التغيير؛ والعوامل الاخرى كالتغيير الاجتماعى، والتحالف بين العمال والمزاراعين، والنشاط النقابى،الخ، هى ايضا مهمة ويجب اخذها بالحسبان، فى هذا الصدد. وبالطبع هذا المنهج يعكس انتقائية تنزع الى تركيب تلك العلاقات فى كشكول (patchwork) من المختارات بطريقة: هذه العوامل مهمة وتلك مهمة كذلك، مما يجعله يتناقض تناقضا جذريا مع الطريقة الديالكتيكية التى تتطلب تناولا شاملا وكليا للعلاقات فى حركتها الواقعية وتطورها والتاثيرات المتبادلة بينها. ولا يفوتنا ان نقر هنا انه رغما عن اقرار الدياكتيك بنسبية الاشياء وبالتالى اهمية معرفة الحلقة الاساسية (الصحيحة!) التى تكمن ضمن كل الحلقات المكونة لظاهرة ما، الا ان الماركسية ليست نظرية نسبية الشيئ الذى يتطلب عدم اغفال كل الاجزاء، المكونة لظاهرة ما، التى تحدد حركتها الجدلية وترابطاتها ابعاد الصورة الكلية للظاهرة؛ فالمادية الجدلية تؤكد على نسبية المعرفة، ولكن حدود معرفة الانسان (النسبية) تحددها الظروف التاريخية. فالواقع الموضوعى هو الحقيقة المطلقة التى تكشف عنها المعرفة بشكل متواصل ولا نهائى؛ والحقيقة المطلقة لا تعنى واقعا موضوعيا خالدا وثابتا وغير متطور، بل فقط تعنى ان الواقع الموضوعى موجود بصورة مطلقة خارج وعى الناس. # محاربة الجمود العقائدى ام الابتعاد عن الاسس النظرية؟!:- دفعت القيادة الحالية للحزب الشيوعى السودانى بالخط الاصلاحى الى مداه واستدارت به استدارة كاملة نحو الهجوم على النظرية الماركسية نفسها واستبدال المفهوم المادى للتاريخ بمنهج نظرى مبتذل لتكريس النظرة الاصلاحية تحت دعوى محاربة الجمود العقائدى. واستخدام شعار دحض الجمود العقائدى لهدم الماركسية، وبالتحديد المفهوم المادى للتاريخ، اسلوب قديم ومن كثرة ترداده على مر تاريخ الاشتراكية صار بمثابة كلمة السر (watchword)لذلك الغرض. فى مقالة له بعنوان "كيف حاصر الجمود العقائدى اطروحات ماركس وانجلز عن الاشتراكية؟" [9]، كتب (الأستاذ/ محمد ابراهيم نُقد) -السكرتير العام للحزب الشيوعى السودانى- يقول: "طرح ماركس وأنجلز أطروحة صوغ نظرية علمية للاشتراكية.. ولم يدعيا طوال حياتهما ونضالهما المشترك أنهما صاغا نظرية علمية شاملة مكتملة ونهائية للاشتراكية.. وعندما احتدم الصراع في الحركة الاشتراكية الألمانية والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، طالب أحد قادة ذلك الحزب (ف. لاسال) في ستينات القرن الماضي بوضع برنامج تفصيلي للمستقبل الاشتراكي.. فاعترض ماركس وأسس اعتراضه على سببين: الأول، العلم كفيل بإنجاز هذه المهمة في المستقبل استناداً إلى الواقع الملموس والمعطيات الملموسة؛ والثاني، إن وضع برنامج تفصيلي سيدفع الفكر الاشتراكي للانزلاق في مأزق مفكري الاشتراكية الخيالية.". [10] نشير بادئ ذى بدء الى ان كل اعتراضات ماركس على افكار لاسال فى حياة الاخير اوعلى آراء اتباعه بعد رحيله فى 1864 ، لم تكن تتركز حول محاولة اللاساليين وضع برنامج تفصيلى للمجتمع الاشتراكى كما ذكر الاستاذ نُقد.. فوثيقة "نقد برنامج غوتا، 1875" التى تعتبر اهم ما كتبه ماركس حول تصوره للملامح العامة لمرحلة الاشتراكية، حملت نقدا حادا على واضعى برنامج غوتا، الذى وضعه اللاساليون للحزب الاشتراكى الديمقراطى الالمانى المؤسس حديثا، ليس لانهم استفاضوا فى رسم صورة المجتمع الاشتراكى القادم؛ بل بالعكس لانهم لم يمتلكوا تصورا علميا لهذا المجتمع، او بدقة اكثر لانهم لم يدركوا ان المجتمع الاشتراكى يختلف اختلافا جوهريا عن النظام الراسمالى رغم انبثاقه بالضرورة من ذلك النظام. فاتباع لاسال الذين ساروا على نهج افكار زعيمهم لجأوا للتعابير المجرده فى وضع البرنامج مثل القضاء على الاستغلال والمساواة والتوزيع العادل والحقوق الديمقراطية المتساوية للجميع، وحوّلوها لمفاهيم وعقائد جامده. وحقيقة قد سخر ماركس من هؤلاء واشار لحماقتهم الرامية لتضمين برنامج غوتا تفاصيل محددة حول التوزيع والحقوق المتساوية،الخ، فى المجتمع الاشتراكى المستقبلى بناء على تلك المفاهيم الجامده. ولكن لم يكن لا لاسال ولا أتباعه طوبائيين بمعنى جنوحهم لخلق تصميم خيالى لنظام اشتراكى آت يحل مكان المجتمع القائم. فبالرغم من ان خطابهم احتوى على بعض التعابير الطوبائية، الا ان اعتقادهم الراسخ كان هو ان الدولة الالمانية شكلت واقعا مستقلا عن صراعات المجتمع الشيء الذى يتيح تحت ما اسموه "رقابة الشعب الديمقراطية" القضاء "على كل تفاوت اجتماعى".؛ فقد كانوا اصلاحيين. ولهذا كان برنامج غوتا، رغم تضمينه تعابير طوبائية، أدنى من مشاريع الاشتراكيين الخياليين فى مطلع القرن التاسع عشر. فافكار الاشتراكيين الطوبائيين العباقرة: شارل فورييه، وروبرت أوين، وسان سيمون جاءت تعبيرا لمرحلتهم المتسمة بعدم نضوج نظام الانتاج الراسمالى؛ وتمثل قصورهم الاساسى فى فصلهم الميكانيكى بين الحاضر والمستقبل لتأثرهم لحد بعيد بالفلسفة المادية الميكانيكية التى سادت اوربا آنذاك. فهؤلاء الاشتراكيون لم يتمكنوا من ادراك الكنه الحقيقى للواقع. ولهذا لم ينظروا للمستقبل كامتداد عضوى للحاضر، بل كانت تصوراتهم له تقديرية وذاتية. فالمجتمع الاشتراكى للطوبائيين جاء يحمل رغباتهم وتمنياتهم واحلامهم الشخصية، وتم تصميمه كمخطط (blueprint) فى غياب تام لتحليل الواقع الحياتى وكمثل اعلى يوجد فى الخيال خارج سياق التاريخ وفوق قوانين تطور المجتمع. وكذلك لفصل الحاضر عن المستقبل لم يفهم الطوبائيون على عاتق اى الفئات الاجتماعية تقع مهمة تحقيق الاشتراكية، وراحوا يخاطبون كل طبقات المجتمع ويدعونها الى تشجيع مشروعاتهم المستقبلية. ولكن من ناحية تاريخية كانت اضافة اؤلئك الاشتراكيين كبيرة اذ انهم اول من انتقل من مفهوم "العقد الاجتماعى"، لتوماس هوبس وجون لوك وجان جاك روسو لكبح جماح الراسمالية وتحقيق العدالة الخالده، الى فكرة الاشتراكية التى عنت لهم ان التخلص من شرور الراسمالية يكمن فى القضاء على النظام الراسمالى نفسه واقامة الاشتراكية. فقد ربطوا قيام مجتمع المستقبل الاكثر عدالة (كما تصوروها!) بزوال المكونات الاقتصادية (economic categories) للراسمالية مثل الربح والمنافسة وحتى الملكية الخاصة كما فى حالة سان سيمون. وهكذا حملت افكارهم بذور جميع النظريات التى جاءت بعدهم. واذا جاءت افكارهم مشوهة، الا انه لم يكن فى الامكان ان تكون غير ذلك لانها عكست الواقع المشوه عندما كانت الراسمالية ضعيفة وتشّكل وتكّون الطبقة العاملة فى بداياته. فهذا الواقع أدى لعدم ادراكهم لكنه وطبيعة الصراع الطبقى فى ذلك النظام كصراع مبنى على المصلحة الاقتصادية، وفشلهم فى استنتاج الدور التاريخى لللطبقة العاملة. فلنرجع مرة اخرى الى لاسال واتباعه لنرى مكانتهم التاريخية فى ضوء عرضنا لافكار الاشتراكيين الخياليين. ان برنامج غوتا لم يرتق الى مستوى التصور الطوبائى؛ فقد دعا ذلك البرنامج الى التغيير الاجتماعى مع المحافظة على نظام الدولة كما هو، ولم يدرك مؤلفوه ان الاشتراكية تتحقق عندما يزول النظام الراسمالى الذى تنبثق منه. وهكذا لم يكن الا برنامجا لتكريس الاوضاع القائمة من خلال التوفيق بين التناقضات فى المجتمع. وبهذا كان دعاة هذا البرنامج من اللاساليين رجعيين، ليس بالمعنى العادى لهذه الكلمة اذ انه لم يكن هدفهم العودة بالمانيا للعصور المظلمة، بل بالمعنى الفلسفى التاريخى. كانوا رجعيين لانهم، بعكس الاشتراكيين الطوبائيين الذين استبقوا المستقبل، تجمدوا فى الواقع واستنجدوا بالدولة وبالمفاهيم المجردة - التى ظنوا انها خالدة - لتحقيق المجتمع الاشتراكى. وبالتالى لم تكن افكارهم ترضى الا حماة النظام القائم. ونختتم هذه الفقرة بالقول ان الدعوة التى نادى بها سكرتير عام الحزب الشيوعى السودانى كما وردت فى المقتطف السابق، اذا لم يربطها الماركسيون بالنظرية الاساسية التى تمثل حجر الزاوية فى الماركسية وهى ان الصراع الطبقى فى المجتمع الراسمالى يقود بالضرورة لسلطة العمال التى تاخذ اشكالا مختلفة على حسب مستوى التطور الاقتصادى/الاجتماعى للبلدان المختلفة، تكون مجرد حيلة للتخلى عن تلك النظرية نفسها. ويجدر بنا ان نذكر ان هذه النظرية تمثل الاضافة التى قدمها ماركس والتى حولت الاشتركية من تصور خيالى الى علم. كما ذكرنا سابقا، لم يكن نقد ماركس لللاساليين لانهم استهدفوا تحقيق الاشتراكية بتصميم مجتمع اشتراكي خيالي، بل انصب هجومه على الاساس النظرى المثالى لعملهم ومنهجهم الانتقائى، والذى كانت نتيجته عدم تمكن واضعيه من ادراك الملامح الاساسية للنظام الاشتراكى المستقبلى المنبثق ليس كتطور على اسسه الخاصة، بل بالعكس كما يخرج من الرأسمالية ويحمل علاماتها. فقد عرض ماركس فى وثيقة "نقد برنامج غوتا" الملامح العامة، او ان شئت الشروط الاساسية للنظام الاشتراكى، ولم يصغ نظاما اشتراكيا صوغا خياليا، ولا وضع ماجنا كارتا (Magna Carta) اشتراكية؛ ولهذا فقد ذكر فى "نقد برنامج غوتا" ان طبيعة الاشكال الادارية المماثلة لوظائف الدولة البرجوازية فى الدولة الاشتراكية لا يمكن ان يدرك كنهها احد، لان "العلم وحده يستطيع الجواب عن هذا السؤال"[11]. الا ان ماركس انتقد تجاهل برنامج غوتا لشكل الدولة الاشتراكية، وحدد وبشكل قاطع شكل الدولة فى فترة الاشتراكية. فالصراع الطبقى فى المجتمع الراسمالى يقود بالضرورة، فى نهاية المطاف، الى المجتمع الاشتراكى الذى يزيل التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج الراسمالية (بين العمل المأجور وراس المال) ويحقق الانسجام بينهما. فالاشتراكية مرحلة انتقالية حتى زوال الطبقات ولا " يمكن ان تكون الدولة فيها سوى الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا."[12]، لكن برنامج غوتا " لا يعالج قضية هذه الديكتاتورية ولا طبيعة الدولة المقبلة"[13] التى تمثل الملمح الاساسى للنظام الاشتراكى. كذلك لم يفهم مؤلفى برنامج غوتا تاريخية الرأسمالية وان مكوناتها الاقتصادية ليست خالدة وموجوده منذ الازل، بل هى مكونات ظهرت مع بزوق فجر الراسمالية؛ وبهذا فهى مكونات تعمل وفق قوانين طبيعية لا تتوقف على ارادة الناس. وبالتالى فان تحقيق المجتمع الاشتراكى لا يتم بالغاء هذه القوانين، اذ انها مثلها مثل قوانين العلوم الطبيعية لا تلغى او تعدل، بل بالقضاء على الراسمالية نفسها. فالغاء النظام الراسمالى ينهى القوانين وليس العكس. وانطلاقا من هذا، وبما ان الراسمالية هى نظام انتاج السلع فى اعلى مراحل تطوره، فان الاشتراكية تعنى "فى جوهرها ازالة اقتصاد الانتاج السلعى"[14]. والمقصود بهذا هو القضاء (بالوتيرة التى تحددها الظروف الموضوعية) على نظام انتاج السلع الاستعمالية بهدف تحويلها لسلع تبادلية لتحقيق فائض القيمة (جوهر الراسمالية )؛ ومن ثم يكون التركيز فى الاشتراكية على انتاج السلع الاستعمالية التى تلبى احتياجات المواطنين؛ وهكذا فان الاشتراكية هى" مجتمع قائم على المبادىء الجماعية، قائم على الملكية العامة لوسائل الانتاج، لا يتبادل فيه المنتجون منتجاتهم ؛ ان العمل المبذول على المنتجات لا يظهر في هذا النظام الاجتماعي على انه قيمة هذه المنتجات، على انه صفة مادية تنطوي عليها المنتجات، اذ انه خلافاً لما يجري في المجتمع الرأسمالي، يغدو عمل الفرد بصورة مباشرة، لا بصورة غير مباشرة، جزءاً لا يتجزأ من عمل المجتمع". [15] نواصل النظر فى مقالة الاستاذ نُقد ونجده فى موقع آخر منها، وتحت دعوى محاربة ما اسماه بالجمود الذى قال انه حمل تصورا "خاطئاً، فحواه أن الماركسية حولت الاشتراكية إلى نظرية علمية شاملة مكتملة"[16]، نجده يدعو الى مراجعة النظرية الماركسية. فهو يقول " فالتحرر من إسار الجمود والصراع ضده في كافة أشكاله التقليدية أو المستحدثة ليس عملية فرز شكلية تستبعد الستالينية "والعودة للأصول" – أي لأفكار ماركس وانجلز أو لينين، واعتبارها النظرية العلمية الشاملة والمكتملة للاشتراكية "والكلمة الأخيرة" في كتابها. هذا جمود في ثوب جديد. الانعتاق من قيد الجمود يعني الدراسة الناقدة للفكر الاشتراكي منذ نشأته – قبل الماركسية وما عاصرها وما تلاها من إسهام مفكرين كثر، كان أبرزهم لينين كمفكر وقائد ثورة ورجل دولة، وما تسهم به مدارس اشتراكية معاصرة متعددة المشارب والرؤى."[17] بالطبع هذا الراى يستهدف انكار ان مذهب ماركس يشمل مفاهيم نظرية اساسية لاتمثل قوانين موضوعية عامة فحسب، بل لانها ولاول مرة قدمت مقياسا علميا وموضوعيا لتحليل الظواهر الاجتماعية، تمثل فى المفهوم المادى للتاريخ. وهذا المفهوم المادى للتاريخ نسف كليا الطريقة الذاتية فى علم الاجتماع التى افلست تماما حتى بعد "المحسنات" التى ادخلت عليها من بعد. وبعكس اصحاب الجمود الذى يعترف الاستاذ نُقد فى نفس المقال انه " تاثر به، واخذ ببعض مسلماته"، فان موضوعات المفهوم المادى للتاريخ ليست قوانين ثابته وجامده، بل هى فقط مرشد للعمل. فهذه النظريات الاساسية (mainstays) التى وضعها ماركس، ما هى الا تعميما للمعرفة المكتسبه من تحليل نظام الانتاج الراسمالى فى مرحلة معينة من تطوره (مرحلة المزاحمة الحرة). واهمية هذه المعرفة النظرية تمليها عدة اسباب. اولا، اصبحت هذه المعرفة نقطة الارتكاز والاساس الذى ينطلق منه عمل المنهج لدراسة ظاهرة او موضوع ما، واكتشاف القوانين الموضوعية التى تتحكم فى حركة مجتمع ما، او بلد ما لحظة دراستها. ولهذا، فان النظرية الماركسية نظرية متطورة دائما الى الاعلى والارقى، فالمكتشفات العلمية لا تتوقف وهى تضيف على الدوام الى النظريات المحققة قبلا- فتغنيها وتوسع من نطاق شموليتها. ثانيا، تمنح النظرية الادوات الضرورية لمتابعة البحث بصورة متماسكة(consistent) . ثالثا، تقوم النظرية بانارة الطريق امام البحث وذلك ليس بتحديد القضايا (issues)المتعلقة بالموضوع تحت الدراسة فحسب، بل باعطاء المؤشرات لحلها- اذ كيف تحل تلك المسائل اذا لم يمتلك الباحث نظرية؟. ولكن هذه القضايا لا تحل فلسفيا او نظريا- بل عن طريق الممارسة التى ترتبط بالنظرية فى كل واحد بعلاقة عضوية وجدلية. ولهذا صار المفهوم المادى للتاريخ سلاحا فى يد العمال لاستيضاح القوانين الطبيعية التى يخضع لها وجود وتطور وزوال النظام الراسمالى ، وشروط تغييره والاستعاضة عنه بالنظام الاشتراكى. ان الدعوة لمراجعة الماركسية، كما طرحها الاستاذ نُقد، لا تقود الا الى التجريبية، الى موقف النقد التجريبى (empirio-criticism) الذى ساد فى القرن العشرين مستهدفا خلط المادية والمثالية تحت دعاوى خلق تيار فلسفى جديد يتلآءم مع متغيرات العصر. ظهر النقد التجريبى بنشر بعض الفلاسفة الروس، على نطاق واسع، لافكار ارنست ماش الوضعية فى روسيا فى مطلع القرن العشرين. وتم تكريس الافكار التجريبية فى شكل الوضعية الجديدة (neo-positivism) التى اسست لها حلقة فينا الفلسفية (Vienna circle) فى 1922. ولقد كان الهدف الحقيقى للنقد التجريبى هو اخفاء وتجاوز الخطين الاساسين فى الفلسفة الذين تمثلهما المادية والمثالية؛ فمنذ بدايات القرن العشرين كان هدف هذاالتيار محاربة المادية الجدلية والمادية التاريخية والترويج لتجريبية مبتذلة وبرقماتيه فجة تتيه فى عوالم النظريات المبنية على التجريد الخالص، والمنعزلة عن الواقع، والتى تنزع لاخفاء تناقاضات المجتمع. ان المزج بين المادية والمثالية يقود فى النهاية الى خليط آراء فلسفية(hotchpotch philosophy) منتهيا الى موقف المثالية. وكمثال لفجاجة هذا الخلط نجد بعض المفكرين والفلاسفة الذين يتبنونه يراهنون على ثبات النظام الراسمالى، بل ان بعضهم خلص الى خرافة أن هذا النظام هو نهاية التاريخ كما فعل فوكوياما، وازمة هؤلاء تنبع من انكارهم للنظرة التاريخية ووقوفهم عند حدود المنطق الشكلى والجدل المثالى "الهيجلى" - وبالتالى عدم مقدرتهم على فهم حقيقة الظواهر التى يدرسونها. وما هدف منطقهم هذا الا خدمة الأهداف العسكرية والاقتصادية لفئات معينة. فى ختام مقالته، يقدم الاستاذ نُقد تصورا عاما لعملية تجديد رؤى الفكر الاشتراكي وترقية مناهجه وذلك بتاكيده على " العلاقة العضوية الوثيقة بين الفكر الاشتراكي وحركة العاملين والدفاع عن مصالح العاملين والكادحين والمسحوقين في النضال السياسي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ومن أجل أن يتحرر الإنسان من الاستغلال والعوز والحاجة والاستلاب، وأن ما يحقق ذاته وانسانيته، إنتاجاً وإبداعاً ومسئولية تضامنية عن مصير المجتمع الإنساني."[18] هذا الراى يدعوا للتساؤل عن ماهو الجديد الذى يحمله؟ واليس يعكس شيئا غير تلك النزعة الاصلاحية القديمة؟ واليس، فى ضوء ما ذكرنا، يقدم مشروعا ادنى من تصورات الاشتراكية الطوبائية؟ اليست تعابيره المجرده، مثل تحرير الانسان من الاستغلال والعوز والحاجة والاستلاب، ما هى الا تابوات (taboos) تنطوى على آيدولوجية شائخة وجامده؟ واليس مفرداته مفردات مبهمة ورطانة لا تعنى شيئا لجماهير الكادحين مقارنة بالخطاب الصحيح الذى يستهدف طبيعة الاستغلال والحلول الموضوعية للقضاء عليه؟ # الحزب ليس تنظيما للتقديس او ناديا للجدل النظرى:- حولت قيادة الحزب الشيوعي السوداني الحزب الى منتدى لمناقشة عامة مستمرة منذ 1990وحتى الآن تحت شعار تجديد فكر وبرنامج ولائحة الحزب؛ مناقشة لمدة ستة عشر عاما!! وشعار تجديد الحزب يخفى فى ثناياه ما يخفى؛ فالحزب الماركسى الجاد يستهدف تطوير (ونعتقد ان كلمة تطوير أنسب من تجديد) افكاره على حسب المعارف التى يكتسبها فى مجرى النشاط العملى ومن دراسة الواقع المادى المستهدى بالمفهوم المادى للتاريخ، وليس فى ضوء التنظير الاجوف والجدال الفارغ الذى لا طائل من ورائه. ولا يمكن ان يكون هدف هذه المناقشة طويلة الاجل غير تحويل الحزب الى جسم لا حياة فيه. ان معظم اعضاء الحزب مناضلين مخلصين ولجوا صفوف الحزب لايمانهم فى الماركسية وهم جزء اساسى من جماهير اليسار فى السودان، و تحدوهم رغبة اكيدة فى احداث التغيير. ولكن خط الحزب المتسم بالاضطراب الفكرى والخواء النظرى، الذى ادى للجمود والمواقف الخاطئة، جعل تلك العضوية بلا فعالية تذكر؛ ولهذا فان دحر هذا الخط الذى يغل يدهم لا بواكى له. يجب ان لا يحول الاعضاء المخلصين الحزب الى ايقونة مقدسة، فقط لانه يرفع شعار الماركسية. ان ظهور التيارات اليمينية واليسارية فى داخل الاحزاب الشيوعية مسالة موضوعية ما يجعل الاحتراس لها امرا لامفر منه. فالموزاييك الطبقى الذى تتشكل منه المجتمعات، بما يحمله من مصالح متناقضة للشرائح الاجتماعية المختلفة، ينعكس على تلك الاحزاب ويجد له تعبيرا داخلها فى شكل افكار تتناقض مع خطها الثورى. والتاريخ يشهد على ان ما اصابته الاشتراكية من تقدم وتطور ونجاحات ارتبط بمحاربة تلك الاتجاهات الانتهازية. فماركس هاجم علنا اول حزب اشتراكى فى العالم وهو الحزب الاشتراكى-الديمقراطى الالمانى، الذى اسسه لاسال فى 1863، عندما تاكد من انتهازية الخط الذى دعى له قادة ذلك الحزب فى برنامج غوتا الذى ورد ذكره فى هذا المقال؛ وكانت النتيجة العملية لهذا الموقف وضوح الرؤية فى المحاولات اللاحقة لتاسيس احزاب اشتراكية عمالية. ومن ناحيته، وقف لينين ضد الاممية الثانية التى كان يقودها قادة بارزين مثل المنظر الاشتراكى الكبير كارل كاوتسكى الذى كان يلقب ب "بابا الاشتراكية" والوصى الادبى (literary legatee) على نشر مؤلفات ماركس وانجلز التى لم تر النور فى حياتهما. وكان نداء لينين للاشتراكيين في احزاب الاممية الثانية الانسلاخ عنها بعد ان وقف قادتها بجانب حكوماتهم الاستعمارية فى الحرب العالمية الاولى بزريعة الدفاع عن الوطن الام، ودعوته لهم بتكوين احزاب ماركسية حقيقية. ادى موقف لينين المناهض للاممية الثانية الى دفع قضية الاشتراكية الى آفاق سامقة وذلك بقيام ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى وتاسيس اول دولة اشتراكية فى العالم. وفى الصين انتصرت الثورة فى 1949 بفضل النضال الذى قاده اعضاء الحزب، بمبادرة ماو تسى تونج، على شتى الاتجاهات الانتهازية التى سيطرت على قيادة الحزب منذ تاسيسه فى 1921 وحتى صعود ماو لمركز القيادة فى1943. ----------------------------------------------------------- م. ابراهيم نقد "حوار مع صحيفة الايام السودانية-2/6/2005" [1]. بيان سكريارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني- الخرطوم 1/7/2006 [2] لينين "المادية والنقد التجريبى" ص 378 [3] جريدة السودانى، 3-8-2006 [4] عبدالخالق محجوب "حول البرنامج-المؤتمر الخامس" 1971، ص 7 [5] المرجع السابق، ص2 [6] المرجع السابق، ص 4 [7] المرجع السابق، ص 8،7 [8] نقد "كيف حاصر الجمود العقائدى اطروحات ماركس وانجلز؟" قضايا سودانية، 24 اكتوبر 2000 [9] السابق [10] ماركس "نقد برنامج غوتا"، الحوار المتمدن –العدد1515-2006 [11] السابق [12] السابق [13] Lenin, “The Agrarian Question in Russia towards the Close of the Nineteenth Century" [14] "نقد برنامج غوتا" سابق ذكره، ص 7 [15] "كيف حاصر الجمود العقائدى اطروحات ماركس وانجلز؟"، سابق ذكره [16] السابق [17] السابق [18] |