حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
الوجبة الفكرية - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: عـــــــــلــــــــــوم (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=6)
+--- المنتدى: فلسفة وعلم نفس (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=84)
+--- الموضوع: الوجبة الفكرية (/showthread.php?tid=15726)



الوجبة الفكرية - نبيل حاجي نائف - 08-09-2006



الوجبة الفكرية

الوجبة الفكرية هي التي تكون مؤلفة من منتج فكري واع محسوس معرفي أو ثقافي أو فني .
إن هذه الأنواع من الوجبات كانت وما زالت من الوجبات المطلوبة بشكل كبير, ويعمل الكثيرون في إنتاجها وتسويقها لأن لها زبائنها .
وإنتاج وتسويق هذه الوجبات أصبح يشمل مجالات وأنواع كثيرة وكل نوع من الوجبات يساعد في نمو نوع معين من البنيات الفكرية أو الاجتماعية,أو الاقتصادية أو السياسية , ويحدث أحاسيس مرغوبة لدى متناوله( متلقيه ).
لقد نمت واتسعت وتنوعت بشكل كبير هذه الوجبات الفكرية التي تتعامل مع الفكر.
فهناك الوجبات الفكرية الشائعة والمنتشرة مثل انتشار الأكلات أو الأزياء الشعبية , وهي تنتشر في مجموعات معينة, وتختلف من مجموعة لأخرى , ويحدث ما يشبه توارثها وانتقالها بالمحاكاة والتقليد .
وهناك الوجبات الفكرية- شبه الموروثة وهي تقريباً مفروضة - وهي تابعة لبنيات فكرية معينة, دينية ,أو عقائدية ,أو ثقافي.... .
وهناك كافة الفنون التي تقدم وجباتها عن طريق الأفكار و اللغة أو بواسطة الصوت والصورة والمواد الأخرى .
ويراعى في الوجبة الفكرية أن تكون ممتعة ومفيدة وتتلاءم مع طرق تناول وتذوق وهضم مستهلكها.
وتقييم الوجبات الفكرية يكون بناء على نوعية وكمية وجدة الأحاسيس والإفادة التي تحدثها, ويجب أن تراعي الدوافع والأحاسيس الموروثة والعادات المكتسبة للشخص المقدمة إليه , فمرجع تقييم الوجبة الفكرية هو الأفكار والأحاسيس التي تحدثها, وهذا له علاقة مع ما هو موجود سابقاً من أفكار وعقائد وعادات , ولا يمكن إحداث أحاسيس لدى إنسان ما إذا لم تتوفر لديه عناصر وآليات حدوثها, فالشعر مثلاً لا يمكن لكل إنسان تذوقه والشعور بالأحاسيس التي ينتجها , وكذلك الكثير من فنون الموسيقى والأدب.....
تناول الوجبات الفكرية
إن لكل إنسان قدراته الخاصة على تناول الوجبات أكانت المادية منها أو الفكرية, وبالنسبة للوجبات الفكرية والثقافية, فهناك من يتناول الأفكار المروية – المسموعة- فقط , وهناك من يتناول الأفكارالمكتوبة والمحكية, ولكل إنسان قدراته التي تسمح له بتناول وجبات فكرية ذات أنواع وخصائص معينة, ولكل إنسان قدراته علي هضم وتمثل الوجبات الفكرية, وله دوافعه لتناولها.
وقدرات الذين يتناولون الوجبات الثقافية المقروءة هي خاصة بكل منهم, فهناك من يقرأ الممتع فقط أو يقرأ المفيد فقط , أو يقرأ في كل مجال , وكل من يقرأ, يقرأ بما يناسب دوافعه وقدراته , وكذلك يكون هضمه وتمثله لما يقرأ متناسباً مع مقدراته ودوافعه, فمنهم من يقرأ في الدين والعقائد فقط , أوالشعر أوالقصة القصيرة , ومنهم من يقرأ الروايات والمسرحيات , ومنهم من يقرأ في السياسة, ومنهم من يقرأ في العلوم أو الفلسفة وعلم النفس ..., ومنهم قارئ الصحف فقط . وهناك قارئوا الكتب المميزون, فقراءة الكتب - وليس القصص والروايات وباقي فنون الأدب , ودون أن يكون ذلك مفروضاً- ليست بالأمر السهل فهي تستلزم قدرات ودوافع مميزة معينة.
فقرٌاء الكتب هم في طليعة المثقفين وهم الذين يدخلون عالم الفكر بشكل واسع وهم من يعرفون تذوق الوجبات الفكرية الدسمة التي لا يستطيع الكثيرون تذوقها أو تناولها, فالدخول إلى عالم الفكر يكون بقراءة الكتب والمقالات الثقافية والعلمية وبهضم وتمثل ما يقرأ.
ونحن نعلم أن بقراءة أي كتاب يتم استيعاب جزء صغير أو كبير من الأفكار المتضمنة فيه , ويكون ذلك حسب قدرات القارئ, وحسب مستوى و صعوبة الكتاب, فبعض الكتب تحتاج إلى أكثر من قراءة لاستيعاب الأفكار الأساسيسة المتضمنة فيها, ودوماً القراءة الثانية تزيد كمية الفهم والتمثل . فالكتب المدرسية والجامعية تحتاج لعدة قراءات لاستيعاب أكبر كمية من الأفكار الموجودة فيها, والقدرة على الاستيعاب الأفكار المقروءة تزداد وتنمو بالقرءة المستمرة .
" هضم الكتاب" , " تمثله", " التهمه": ليست هذه الاستعارة التي تلجأ لها اللغة اليومية( ومنذ أقدم الأزمنة) استعارات بريئة. فتكرارها يوحي , كما الترجمة, بأن التهام كتاب ينطوي على أبعاد, كتملك النص المقروء وتهديمه وتحويله. والقراءة, كالترجمة " أكل لحوم البشر"( (anthropophagie , بمعنى أنها تمثل نص آخر أو أجنبي وإكماله معاً.
ولقد أوضح أندريه جيد ذلك قرأت هذا الكتاب , وبعد أن قرأته طويته , ووضعته فوق رف المكتبة. ولكن في هذا الكتاب كلام لا يمكنني أن أنساه. لقد دخل في نفسي عميقاً إلى حد أنني لا أميزه عن ذاتي. بعده ما عدت كما كنت قبل أن أعرفه_ .والقراءة ليست قراءة الكتب فقط , فهي استقبال الرسالة وفك رموزها والتعرف على مضمونها أو فهمها حسب قدرات القارئ , ونحن نقول قرأ في السماء في النجوم (قرأ الطالع) , ونقول قرأ خطوط اليد قرأفي الفنجان , ونقول قرأ في الزهور أي عرف لغة الزهور, ونقول قرأ الشيفرة أي فك رموزها, ونقول قرأ تعابير الوجه وحركات الجسم , ونقول قرأ جيولوجية الأرض وفك رموزها وعرف دلالاتها. . . الخ , أننا نقرأ الرسائل أو الدلالات التي تؤثر بنا والتي تهمنا ويستطيع عقلنا إنارتها بفك رموزها, ونفهم أو نفسر ما نقرأ حسب ميولنا وقدراتنا الحسية والعقلية, لذلك لكل منا قراءاته الخاصة به لهذا الوجود.
ونحن نسعى لتأويل الرموز المقروءة عندما تتناقض أو تختلط مع بعضها, ولكي نستطيع توفيق ودمج ما نقرأه مع مااكتسبناه من معارف ومفاهيم ومعاني " من كتاب قضايا أدبية عامة - سلسلة عالم المعرفة
دخول عالم الفكر
أن كل إنسان يدخل عالم الفكر ولكن دخولاً جزئياً محدوداً, فالذي لا يقرأ ويتعامل مع المحكي فقط يطلع أو يدخل عالم الفكر ولكن بشكل جزئي وغير دقيق, فهو يأخذه من الذي قرأ أي بعد أن تحول المقروء إلى مسموع وأصبح منتشراً, وبذلك يكون إطلاعه على عالم الفكرمتأخراً و محدوداً .
إن قراءة قصة أو مقال أو قصيدة أو رواية أو مسرحية أو كتاب كما قلنا هو بمثابة تناول وجبة فكرية, والوجبة لها عناصرها وخصائصها : نوعها, وحجمها , وطبيعتها, والقدرة على تناولها, وطريقة تناولها, والقدرة على هضمها وتمثلها, والدافع أو الرغبة في تناولها. . , وإننا نلاحظ أن الأولاد الصغار لا يستطيعون قراءة إلا القصص التي من نوع معين وذات خصائص معينة- ذات الرسوم والصور- وهذا راجع لرغباتهم ودوافعهم, وقدراتهم ونضج هذه القدرات بما يسمح بتناول وهضم هذه القراءات, وهذا يجعل القدرة على القراءة وفهم وتمثل مضمون هذه القراءة مرتبط بعمر الولد وبنضج القدرات المتوفرة لديه.
والعادات التي تكتسب أثناء الحياة تجعل قدرات كل إنسان على تناول وتمثل الوجبات تابع لما اكتسبه من عادات , تمكنه من تناول هذه الوجبات.
وبالنسبة للوجبات الفكرية فكما ذكرنا هناك من يقرأ الأدب فقط , شعر أو قصص ومسرحيات وروايات..., وهناك من يقرا الصحف والمجلات فقط, وهناك من يقرأ الكتب السياسية أو الدينية أو العلمية فقط, أو يقرأ في مجالين أو أكثر..., والقليلون الذين يستطيعون القراءة في أغلب المجالات ويفهمون أو يتمثلون أغلب ما يقرأون , وهذا لا يتم الوصول إليه إلا بعد وقت طويل بالإضافة لتوفر قدرات مناسبة لذلك.
والإنسان في مراحل حياته يمكن أن يمارس قراءة أنواع متعددة من المعارف والفنون , ويبقى المطلوب الأكثر هو الممتع , أماقراءة المفيد فغالباً ما يكون مفروضاً لا تتم قراءته برغبة ذاتية , فتذوق المفيد وتحويله إلى ممتع ليس بالأمر السهل ولا يتم الوصول لذلك إلا بعد البدء بقراءة الممتع واكتساب عادة القراءة ثم الانتقال بعد ذلك إلى المفيد, فالمفيد غالباً يصعب هضمه وتمثله .
تناول وهضم وتمثل الأفكار, وانتشارها
كما قلنا إن نقل ونشر الأفكار في العقول يخضع لقوانين تناول وهضم وتمثل الوجبة, فعندما تكون هذه الأفكار غير واضحة أو معقدة وإن كانت عالية الصحة والدقة والفائدة يكون نقلها إلى العقول تابعاً لقدرة هذه العقول على تناولها وهضمها وتمثلها وليس لمقدار دقتها أو فائدتها, وبالتالي يصبح نشرها مرتبطاً بالقدرة على هضمها وتمثلها.
فأستاذ الجامعة مثلاً لا يستطيع نقل أفكاره المتطورة إلى أي كان مع أنها دقيقة وهامة, فيجب أن تقدم هذه الأفكار لمتناوليها بطريقة تمكنهم من هضمها وتمثلها , ويجب أن تقدم إلى من يستطيع هضمها إذا أريد نشرها " خاطب الناس على قدر عقولهم".
لذا كان دور تبسيط وتوضيح وتصنيف وتنسيق الأفكار الجديدة وربطها مع باقي الأفكار المنتشرة بالغ الأهمية في تسويقها أو نشرها .
التعليم الوجبة الذاتية والوجبة المفروضة
إن جعل اكتساب المعارف وجبة مرغوبة يسهل كثيراً عملية هضمها وتمثلها وبالتالي انتشارها, فالتعليم المفروض أو الإجباري غالباً غير فعال , بعكس التعلم برغبة ذاتية أي نتيجة دافع ذاتي داخلي, فهو يكون أسهل وأكثر فاعلية , إن إدخال أو خلق المنافسة بين المتدربين و جعلهم يتنافسون على تحصيلها هو بمثابة دفع ذاتي أو داخلي لكل منهم, وهو يحقق فاعلية كبيرة, ونجد مثالاً على ذلك دفعنا أولادنا للتعلم, فدفعنا لهم وحثهم لا يكافئ اندفاعهم الناجم عن المنافسة مع رفاقهم في المدرسة, ونحن نلاحظ أن الرغبة الذاتية أو الدوافع الذاتية لديهم تستنفر أكبر كمية من القدرات والطاقات عندهم .
الوجبات التي يقدمها التلفزيون
لقد أخذ التلفزيون الآن - أي نقل الأفكار والأحاسيس بالصوت والصورة- الدور الأول في تقديم الوجبات سواء كانت ثقافية أو فنية, وأصبح التلفزيون وبمساعدة الفيديو والكومبيوتروالإنترنيت المصدر الأول لنقل وتقديم الوجبات الفكرية والثقافية والفنية , فالقدرات الهائلة المتاحة لنقل المعلومات والأفكار والأحاسيس بواسطة الصوت والصورة , والمترافقة مع القدرات التكنولوجية والفكرية والعلمية والفنية التي مكنت من انتاج البرامج المتنوعة , سمحت بتمثيل وتصوير ونقل كم هائل من الأفكار والأحاسيس وفي كافة المجالات الثقافية والعلمية والفنية, وقد تم ذلك بسهولة وسرعة كبيرة, فهذه القدرات سمحت بتمثيل ونقل أعقد وأصعب البنيات الفكرية والحسية , وقد ترافق ذلك مع اتساع وعمومية النشر لأكبر عدد من الناس , وللصغار والكبار, وللرجال والنساء, والمتعلم والأمي .
إن هذا قلص كثيراً من دور الكتاب وكان تأثيره كبيراً عليه, فوجبة الكتاب أصبحت ثقيلة جداً مقارنة بالوجبات التي تقدم عن طريق الصوت والصورة, وقل عدد الذين يتناولونها, بينما بقي الإقبال على الصحف والمجلات كما هو لأنها من الوجبات السهلة والبسيطة والتي تلبي رغبة آنية- وهذا راجع للعمل والتكنولوجيا المبذولين في تحضيرها- وهي تستخدم الصورة بشكل كبير.
وقد دخل التلفزيون في كافة المجالات بما فيها مجال الكتاب فهناك برامج تقدم مضمون الكتب وتناقشها, وكذلك تقدم المدارس الفكرية والمذاهب الفلسفية , وتقدم بشكل خاص الأفكار والتعاليم الدينية والسياسية والعلمية والثقافية, وبفاعلية وجودة عالية.
لقد أصبح ما ينقل بالصوت والصورة هو الذي يكون الرأي العام المتشابه وشبه الموحد , فهو ينقل ويسجل أو يصور في أذهان كافة المتلقين , لقد صار التلفزيون يقدم تغذية فكرية وحسية شبه موحدة لكافة المتلقين وهذا ما وحد كثيراً الرأي لديهم, وبالتالي قام بتوحيد الأهداف والغايات الأساسية لأغلب المتلقين, فقد أصبحت التغذية الفكرية والحسية متشابهة وهذا يفرض تشابه التوجهات والنمو لدى المتلقين.
ولكن ما يبث وينشر يشكل كماً هائلاً وكل متلق يتلقى جزءاً يسيراً مما يبث وهذا يبقي الفروق واسعة بين المتلقين, صحيح أن هناك الكثير من الأخبار الهامة تكون متشابهة وشبه موحدة ولكن يظل الكثير مما ينشر مختلفاً ومتنوعاً بشكل هائل فيظل أمام المتلقي خيارات كثيرة متاحة فيما يريد أن يتلقاه.
ومثلما أن هناك خلف كل كتاب يصدر يوجد المؤلف والناشر والموزع والقدرات التجارية والتكنولوجية والسياسية, كذلك هناك خلف ما يحضر وما يبث بالصوت والصورة توجد القدرات الفكرية الفنية والتجارية والسياسية والتكنولوجية, فالسينما والبرامج والكومبيوتر والإنترنيت, والقوى والقدرات العلمية والتكنولوجية والسياسية والتجارية والعقائدية , كلها خلف ما يقدمه التلفزيون , وهذا أكبر بشكل كبير مما يقدم للمقروء- للكتاب-, فوراء التلفزيون الحكومات والشركات الكبيرة..., فهي تقرر ما يقدم من توجيهات سياسية وعقائدية وتجارية وعلمية وثقافية وفنية, فهناك بعض البرامج التي فاقت الكتاب فيما تقدمه من وجبات دسمة وهامة ومفيدة, مثل برنامج الكون, وتاريخ الطيران , وتاريخ البترول, وكان يا ما كان الحياة, وأفريقيا, والأرض, ....., والكثير الكثير من البرامج الوثائقية و غيرها , وأصبحت المدارس والجامعات وغيرها تستخدم الصوت والصورة بشكل أساسي في التعليم والتوجيه .
وكما ذكرنا للصورة قدرات على ترميز ونقل المعلومات أكثر من قدرات الصوت واللغة بآلاف المرات وهذا الذي أعطى للنقل بالصوت واللغة والصورة مجتمعة هذه القدرات الهائلة في ترميز ونقل المعلومات والتأثيرات وتحقيق تقديم الوجبات الفكرية والحسية , وفي كافة المجالات .
إننا بواسطة الصوت والصورة نستطيع ترميز ونقل كم هائل من الأفكار والأحاسيس , وذلك نتيجة الإشراط القوي الذي نملكه و باقي آليات عمل الدماغ , فالكثير من الأفكار والأحاسيس والانفعالات نستطيع ترميزها ونقلها للآخرين بواسطة الصوت واللغة والصورة .
فقد كانت اللغة المحكية والإشارات والتعبيرات تقوم بذلك, ثم قامت اللغة المكتوبة بذلك وكانت أقل كفاءة , والآن نقوم بذلك بالصوت والصورة واللغة بالإضافة إلى القدرات الفنية والتكنولوجية المتطورة
الوجبة الثقافية وتمثلها
إن أي نص- كلام- مقروء أو مسموع مقدم هو بمثابة وجبة ثقافية- فكرية أو فنية-, وتمثل وهضم هذه الوجبة مثله مثل تمثل أي وجبة أخرى , فهناك:
أولاً : الرغبة والدافع لتناولها.
وثانياً : القدرة على فهم و استيعاب- هضم وتمثل - هذه الوجبة.
وثالثاً : نتائج هذا الهضم وكميته, النتائج الفكرية والحسية والمادية- أي النتائج الفزيولوجية والعصبية التي حدثت في الدماغ-.
وكما في كل وجبة يجب أن تقدم بشكل مناسب يشجع على تناولها, وأن تكون مقدمة للذين يستطيعون تناولها وهضمها ويرغبون بذلك, وكل نص لغوي مقروء أو مسموع يؤثر بمتلقيه حسب خصائص وطبيعة هذا المتلقي, بالإضافة لخصائص هذا النص, أي أن كل نص لا يؤثر بكافة متلقيه بنفس الطريقة, بل حسب خصائص كل منهم, فيمكن أن يفيد البعض ولا يفيد البعض الآخر ويمكن أن يمتع البعض ولا يمتع البعض الآخر, ويمكن أن يعجب البعض ولا يعجب البعض الآخر.
وكذلك يمكن أن نعتبر تقديم أي نص هو بمثابة تواصل مع المقدم لهم وتأثير باتجاه واحد, أو باتجاهين إذا كان هناك رد ونقاش, وتقديم أي نص يخضع لنظرية و قوانين وآليات الاتصال كما ذكرنا .
والفرق الهام بين النص الفكري العلمي والنص الأدبي الفني هو نتيجة الهضم والتمثل لكل منهما, ففي النص العلمي أو الفلسفي يجب أن يتطابق أو يتشابه ما يتم تمثله من قبل المتلقي مع ما يفكر فيه ويقصده مقدم النص , أما في النص الأدبي الفني فالمهم هو الأحاسيس والانفعالات والأفكار التي يحدثها النص لدى متلقيه ولا يهم كثيراً التطابق بين ما يفكر به ويقصده منتج النص , وما يحدثه لدى متلقي النص, فالمهم هو ما يعزفه النص من أفكار وأحاسيس ومشاعر لدى المتلقي , فالتذوق الجمالي والفني والحسي هو الهدف الأساسي للنص الأدبي , وفي النص العلمي والفلسفي والعقائدي الأحاسيس والمشاعر أيضاً لها دور, فالتذوق الفكري والفلسفي مطلوب أيضاً لما يحدث من أحاسيس , والأفكار العلمية والفلسفية والعقائدية إن لم تعزف أحاسيس ومعاني مرغوبة في النهاية لا تحقق تقبلاً وانتشاراً بين متلقيها, فالمطلوب هو المفيد والممتع معاً.
الكتاب
إن ظاهرة الكتاب تعتبر من أهم الظواهر الفكرية في رأي الكثيرين , فقد كان الكتاب ظاهرة خارقة فتأليفه أو صنعه فوق طاقة البشر, لذلك اعتبرت كتابة الكتاب عملاً فكرياً مميزاً جداً.
لقد بدأت تتشكل بنية الكتاب بالتسلسل فقد سبقته القصص والأساطير والأمثال والمواعظ والإرشادات والتعليمات والتشريعات والقوانين, وكانت تتناقل في أول الأمر بشكل أساسي شفهياً ثم أصبحت مكتوبة, ثم تشكلت الملاحم المكتوبة والتي هي بمثابة كتاب, وتبعتها الكتب الدينية والفلسفية وباقي الكتب.
فتعاليم بوذا وكونفوشيوس وزرادشت وكذلك كتب أفلاطون وأرسطو وغيرهم هي بداية الكتب الشاملة لكل مناحي الحياة الأساسية, فكل منها يعطي جواباً وبالتالي منهجاً لأصل وسبب وغاية حياة الإنسان والوجود.
وتطور الكتاب ونما وتنوع , وازداد تأثيره وانتشاره باستمرار, مترافقاً مع تعدد وكثرة وتنوع الكتب, وكذلك تعدد وتنوع مستويات ودرجات صحتها وأهميتها, فبعد أن كان عدد الكتب بضعة كتب وأغلبها في مجال العقائد والتشريعات أصبحت الآن بعشرات ومئات الملايين- نعم مئات الملايين- وفي كافة المجالات وبلغات كثيرة.
والكتب تتنافس فيما بينها على التأثير وانتشار مضمونها في العقول, وعبر المكان وعبر الزمان, فهناك كتب مازالت تؤثر وتؤثر في عقول الناس ومنذ مئات وآلاف السنين, والكتب الآن في تنافس وصراع شديد فيما بينها على الانتشار والبقاء والاستمرار, وتتدخل في هذا الصراع عدة عوامل منها العوامل الدينية والعقائدية والاجتماعية والاقتصادية...
والكتب تتشكل وتولد وتنمو وتتطور, وتضعف وتقوى, ويتسع انتشارها أو يقل, وكذلك تموت أيضاً.
وفي رأيي أن أهم عمل يقوم به الإنسان خلال حياته ويمكن أن يبقى بعد موته هو إنتاج كتاب جيد, أو اختراع مفيد , وهذا أعظم - في رأيي - من أن يصبح مليونيراً أو ملكاً, فالأسكندر عظيم ولكن الأعظم منه والأكثر تأثيراً في الحضارات والشعوب والأفكار - في رأي الكثيرين- هو أرسطو أو أفلاطون... وذلك بسبب أفكارهم المبثوثة في الكتب, فأغلب الأعمال والإنشاءات المادية العظيمة لا تداني إنتاج كتاب جيد.
فن الأدب المقروء والمسموع
إذاً الأدب يقدم أمتع وأعمق وأوسع الوجبات الفكرية والحسية, وإنه يحقق الفهم العميق للحياة , وكذلك الإحساس بها, بالإضافة إلى أنه يسهل فهم الوجود بكافة أشكاله.
فهذا الفن يعزف غالبية الأحاسيس والعواطف والانفعالات والأفكار وبأفضل وأسهل طريقة وبحدود واسعة جداً, ويقدم وجبات لا تخضع كثيراً للإشباع السريع كوجبات الطعام والشراب والجنس وغيرها, وهذا يفسر الإقبال الذي ليس له نظير على وجبات هذا الفن.
مثال على تذوق الأدب .
لقد تذوق أحد القراء, " فاوست " لغوته, فوجدها كما يلي:
خفة الدم والفكاهة
الشجن والحزن والإحباط والمأساة
الحكمة والفكر النير
الهزل وعدم الجدية
الإلغاز
الإيقاع النغمي والوزن الشعري
الوفاء والجد
الشك
السحر والخيال والرومانسية
السخرية
لذلك كانت بالنسبة له وجبة فنية أدبية رائعة لأنها استطاعت أن تعزف مشاعراً وأفكاراً وانفعالات كثيرة ومتنوعة وفي تناغم وانسجام .
إن لكل فرد قدراته الذاتية على تذوق الوجبات الأدبية , و يجب توفر قدرات خاصة فكرية وحسية وانفعالية لتذوق الأعمال الفنية الأدبية مثل "فاوست ". _وغوته في حياته تبنى: الحياة الذاتية أولاً وقبل العلم_ .
تذوق الرياضيات
أننا جميعاً نتذوق الطعام والشراب وكافة الأحاسيس الجسدية اللذيذة والجميلة, وكذلك جميعنا يتذوق الموسيقى والكثير من الفنون الأخرى وأغلبنا يتذوق الأدب, ولكن القليل منا من يتذوق الأحاسيس واللذات الفكرية والفلسفية والروحية, والقليل القليل من يتذوق اللذات الفكرية الرياضية, وهذا راجع إلى التعامل مع الرياضيات على أنها أفكار مجردة ضعيفة الاتصال مع الواقع العيني الحسي الملموس المعاش , لقد أهمل السعي إلى ربط الرياضيات بالواقع بشكل واضح وجلي وأهمل تحميلها الأحاسيس الجمالية والأحاسيس اللذيذة, وكان إذا تم ذلك وصفت الرياضيات بالتناسق والتناظر اللذين هما أسس الجمال, ولكن ظل الإحساس بهذا التناظر والتناسق ضعيفاً وصعب التذوق وغير واضح للأغلبية.
إن الذين استطاعوا تذوق اللذات الفكرية الرياضية وخبروا وعرفوا هذه اللذات غالبيتهم لم يسعوا إلى تعليم أو تعريف غيرهم بهذه اللذات الفكرية , فقد كان هذا صعباً في أغلب الأحيان لأنه يتطلب قدرات ورغبات غير متوفرة لدى غالبيتهم لكي يستطيعوا تعليم تذوق الرياضيات, وهذه القدرات هي التمكٌن من التفكير الرياضي وتذوقه والقدرة على إيجاد الروابط التي تسمح بربط التفكير الرياضي المجرد بالواقع والأحاسيس, أي القدرة على نقل و شرح الأفكار الرياضية وجعلها قابلة للإحساس والتذوق.
فالسعادة أو اللذة التي يشعر بها من يبرهن على نظرية هندسية باكتشافه التناظر والدقة المطلقة عندما يجد أن الحل مبني على ترابط واقع فكري مطلق الدقة والصحة ولا يمكن أن يكون إلا كذلك وأي حل آخر غير صحيح بشكل واضح وحتمي, فهذه الدهشة والتعجب- وهي لذة من نوع خاص- التي يشعر بها هي نتيجة هذه الرابطات والدقة والحتمية التي اكتشفها, ويمكن أن نشبه هذا بما يشعر به أغلبنا عند سماعه نكتة جميلة- مع ملاحظة أن تذوق النكتة يحتاج إلى قدرات عقلية متطورة- , فالتعجب و المفاجأة والإدهاش بالإضافة للدقة وحتمية الصحة أو حتمية الخطأ هو ما يميز الأحاسيس الناتجة عن التفكير الرياضي .
عندما كان عشاق الرياضيات و متذوقيها يتنافسون ويتراهنون على الوصول إلى حل "المعادلة من الدرجة الثالثة "المستعصي , ويبذل كل منهم مئات وآلاف الساعات في التفكير للوصول إلى الحل ويجد دوما الطرق مسدودة, ثم يتوصل أحدهم إلى الحل , فهذا الذي توصل إلى الحل شعر وأحس حتماً بشعور هائل بنشوة الفوز وبالتالي السعادة والرضا , إنه تذوق التفكير الرياضي في أعلى مستوياته وهو الوصول إلى الحل الصعب - و من الحلول الصعبة التي تم الوصول إلى حلها حساب محيط الدائرة ومساحة الدائرة والكثير غيرها , لقد طلب الرياضي" فيرما" أن يضع على قبره أنه أوجد الرقم 34 بعد الفاصلة لحساب (البي), لقد كان يعتبر ما أنجزه عملاً خارقاً يعتز به ويستحق إعلانه بفخر لأنه بذلك استطاع الوصول إلى دقة عالية جداً لحساب (البي) التي يحسب محيط أو مساحة الدائرة وحجم الكرة بناء عليها.
لقد كان الفيثاغوريون من متذوقي الرياضيات وقد قدسوا الرياضيات لأنهم عرفوها و تذوقوها.
فتذوق الأفكار الفلسفية والروحية والعلمية والرياضية هو من ألذ وأقوى وأمتع الأحاسيس .
يجب أن يسعى متذوقوا من الرياضيات والمتمكنين منها , لتعليم غيرهم تذوقها فهم وحدهم القادرون على فعل ذلك بسهولة وجدارة .
إن الكثير منا يتعلم الرياضيات ويتقنها ولكنه لا يعشقها في غالب الأحيان, لأنه لم يتوصل إلى تذوق لذاتها فهو لا يملك القدرة على تذوقها أو لم يتعلم تذوقها.
عند التعامل مع الرياضيات هناك فرق كبير بين أن تقرأ حل النظرية أو المسألة وتتعلم هذا الحل وتحفظه , وبين أن تعمل على إيجاد هذا الحل بنفسك وبذلك تتعلم طريقة الحل وتحفظها , ففي الحالة الأولى على الأغلب لن تتعرف وتتذوق لذة إيجاد واكتشاف الحل وبالتالي لن تتذوق الرياضيات, وأكثرنا يتعامل مع الرياضيات وفق هذه الحالة وهذا يبعده عن تذوق الرياضيات.
إن طرق ومناهج تعليم الرياضيات غالباً لا تهتم بتعليم تذوقها مما جعل تعلمها صعباً , والمطلوب هو تعليم تذوقها لأنها أصبحت عسيرة على التناول و على الهضم عند تعلمها.
لذلك يجب السعي لتعليم تذوقها كما نسعى لتعليم تذوق الأدب والفنون إذا أريد تعليمها بسهولة وزيادة الطلب على تعلمها وانتشارها, صحيح أن تعليم تذوق الرياضيات أصعب من تعليم تذوق الآداب والفنون ولكنه يظل ممكناً مثل تعليم أي تذوق فكري.
تسويق وجبات الأفكار
إن الأفكار في تداولها وانتقالها من فكر لآخر يمكن أن تطبق عليها خصائص السلعة, فالعرض والطلب و السعر أو القيمة, والجودة , والموثوقية أوالضمان , و الانتشار...., كل هذا ينطبق على تداول الأفكار والمعارف والمعلومات كما ينطبق على تداول أي سلعة.
أي أن للأفكار قيمة استعمالية وقيمة تداولية أو تبادلية - قيمة عامة- وقيمتها الاستعمالية هي قيمتها الذاتية أو قيمتها عند من يتبناها, وقيمتها التبادلية هي قيمتها العامة أي قيمتها لدى الجماعة التي تتبناها .
والمعارف والأحكام تنتقل وينتشر تداولها حسب خصائصها وخصائص مصدرها ومرجعها , فكما ذكرنا المصدر الموثوق يسوق وينشر المعلومات والأفكار التي يصدرها بسهولة وسرعة, مثله مثل التاجر أو الشركة الموثوقة بجودة إنتاجها.
وتقبل أو عدم تقبل أفكار معينة مثله مثل تقبل أو عدم تقبل أي سلعة أخرى.
وللتقليد والمحاكاة تأثير كبير على تقبل و انتشار الأفكار, وبالنسبة للأفكار ذات المصدر الموثوق يكون تسويقها وانتشارها ليس بالأمر الصعب, ويمكن للمصادر الموثوقة أن تسوق وتنشر حتى الأفكار الجديدة- والتي يصعب نشرها غالباً- بسهولة وسرعة.
فخصائص مصدر الأفكار له التأثير الأكبر في نشر هذه الأفكار, فخصائص المفكر أو المدرسة أو العقيدة ....الخ بالنسبة للمتلقي لها الدور الأكبر في تقبل أو عدم تقبل تلك الأفكار .
ويستخدم أغلب المفكرين- إن لم يكن كلهم- في نشر وتسويق أفكارهم- بضاعتهم أو سلعهم الفكرية- عبارة قال فلان أو المصدر كذا كإثبات لجودة أو موثوقية ودقة أفكارهم , فيقولون : حسب ما قال فرويد أو حسب ما قال بافلوف أو حسب ما قال كانت أو حسب ما قال ماركس أو حسب ما قال أرسطو أو حسب الشرائع أو العقائد كذا وكذا...... أو حسب المدرسة كذا أو المنهج كذا, وهم بذلك يوثقون ويدعمون ما يقولونه.
وأيضاً الذي يقرر تسويق وانتشار الأفكار بشكل أساسي هو المتلقي وخصائصه كما ذكرنا, فدوافعه الفكرية و النفسية والاجتماعية والمادية .. الخ هي التي تحدد وتقرر ما يقبل وما لا يقبل مما يقدم إليه.
فمثلاً : الأفكار والعقائد البوذية تسوق وتنشر في المجتمع البوذي بسهولة ويصعب نشرها في مجتمع مسيحي, والأفكار الماركسية يصعب نشرها في أمريكا, والأفكار الفلسفية لا يمكن نشرها بسهولة.
وكذلك القدرة على تقبل وهضم وتمثل الأفكار, بالنسبة للمتلقي لها دورها أيضاً.
فالأفكار التي تناقض أو تعيق تحقيق أهدافي أو مصالحي غالباً ما أجد مبرراً لرفضها, وأجد صعوبة في تناولها وهضمها, فأنا غالباً أسعى لتناول الوجبات الفكرية التي تمتعني وأتوقع أن تفيدني , وأستطيع هضمها وتمثلها- فهمها , وضمها, وانسجامها مع باقي أفكاري- .
من هذا نجد أن الصحة أو الدقة الموضوعية للأفكار أو المعلومات لا تقرر جودتها في التسويق والانتشار, فكما الكثير من وجبات الطعام المثبت فائدتها لا يتقبلها الكثيرون و يرفضونها ولعدة أسباب منها صعوبة تناولها أو عدم استساغة مذاقها أو عدم جودة مظهرها أو رائحتها أو عدم التعود عليها أو بسبب ارتفاع سعرها....الخ, كذلك الوجبات الفكرية.
وكثير من الوجبات السيئة والضارة ينتشر تناولها نتيجة العادات والتقليد - التدخين مثال على ذلك - أو نتيجة الظروف التي تفرض تناولها وهي كثيرة جداً , ويجب أن نذكر أن عرض الأفكار- الإعلان عنها- يأتي في المقدمة من حيث أهميته في تسويقها وانتشارها
إن صانع أو منتج أي وجبة بحاجة إلى مستهلك هذه الوجبة , فأكبر عبقري في الأدب أو في الموسيقى أو في الرسم أو في الطبخ أو أي فن آخر هو بحاجة إلى الذي يتناول وجبته ويستطيع هضمها وتذوقها, ولن تطلب وجبته إذا لم يوجد من يسعى لاستهلاكها ويكون قادراً على هضمها و تذوقها ويشعر ويدرك عبقرية إنتاجه .
لذلك فإن انواع وطبيعة المتلقين أو المستهلكين هي التي تحدد و تقرر أي الوجبات تسوق وتنتشر, فالفنان مهما كان مبدعاً ولكن لا يسوق إنتاجه هو مبدع غير مؤثر ويبقى مهملاً- يمكن أن يأتي من يتذوق إنتاجه بعد زمن , أو يسوق إنتاجه في مكان آخر- .
لذلك يجب على أي مبدع إذا أراد أن لا يهمل إنتاجه , وأن ينجح في تسويقه ونشره , أن يقدم ما يمكن أن يقبل ويهضم ويتم تذوقه من قبل المقدم لهم.
وهناك تشابه كبير بين مبادئ وآليات الاتصال وآليات تسويق الوجبات , فالوجبة هي بمثابة رسالة إلى الزبون أو المستهلك ولا يكفي تقديمها له فيجب:
أولاً : أن يريدها أو يقبل بتناولها, وأن يعتبر نفسه قادر على تناوله.
وثانياً : يجب أن يكون قادر على دفع الجهد والمال مقابل تناولها.
وبالنسبة للرسالة إن كانت نص أدبي أو علمي يكون الدفع مقابلها نقود أوشيء آخر إذا كانت مرغوبة لما تحدث من لذة الفكرية , وكذلك بذل الجهد والوقت في تناولها وهضمها , وهذا دفع من نوع آخر.
وهذا معناه أنه يجب تحضير متلقي الرسالة - أو الوجبة- لكي يقبل باستلامها ويدفع مقابلها, وهنا يظهر دورالإعلان والدعاية, ويظهر تأثير المعرفة التي تسمح لنا بتحديد إلى من نوجه رسائلنا أو وجباتنا ويقبلوا باستلامها والدفع مقابل ذلك.
لذلك إن أي رسالة أو نص أو وجبة مهما كانوا مفيدين أو ممتعين لا يمكن تسويقهم إذا لم يقبل المرسل لهم باستلامهم ويقبل أن يدفع مقابلهم
والآن أصبح هناك من يملك المهارة والقدرة التي تمكنه من تسويق أغلب الوجبات الفكرية والفنية وبغض النظر عن طبيعتها, فقد أصبح الآن للتسويق علم يتحكم به وبغض النظر عن قيمة أو نوع السلعة المراد تسويقها, فالتأثير الإعلامي المتاح الآن في التسويق يمكٌن مستخدميه من تسويق أغلب السلع سواء كانت فكرية أو فنية أو مادية.
وصار بالامكان خلق أو تكوين دوافع ورغبات وحاجات لأغلب السلع التي نريد تسويقها, أي بالإمكان تسويق أي نوع من الوجبات مهما كانت مناسبة أو غير مناسبة لمستهلكيها أو مشتريها, وذلك بخلق الدافع أو الحاجة إلى هذه الوجبات بطريق من الطرق الكثيرة المتاحة في التحكم بدوافع المستهلكين وجذبهم إليها, وهذا صار له تأثيراته الكبيرة على الكثير من البنيات الاجتماعية .
يتكلمون عن الصراع العقائدي والفكري سواء كان دينياً أو سياسياً أو حتى أدبياً أو علمياً, وعن تأثير الفكر الغربي أو تأثير الفكر العلمي أو المادي أو السياسي أو الفلسفي أو الرأسمالي......الخ, إن كل ذلك هو بمثابة سوق للأفكار.
فالأفكار والمعلومات تتفاعل وتتنافس وتتصارع فتموت أفكار- وموت الأفكار هو عدم تداولها- وتولد وتسيطر وتنتشر أفكار, وهذا مثل أي سوق أخرى .
والأفكار والمعارف لها قيمتها وثمنها , وارتفاع أو انخفاض الطلب عليها , وصارت تنافس بقوة باقي أنواع السلع المادية.
وجبة الأفكار والمعلومات التي يستطيع عقل الإنسان تناولها وهضمها.
إننا ننظر إلى الانفجار الإعلامي نظرة غير واقعية فنتكلم عن كم المعلومات والمعارف الهائل ودقة بعضها العالية جداً وتوفرها في أي مجال نظري أم عملي , ولكننا ننسى قدراتنا الجسمية والعقلية التي تسمح لنا بالتناول والهضم والتمثل - المحدود جداً- لهذا الكم الهائل من المعلومات.
إن استطاعتنا للتعامل مع هذا الكم من المعارف والأفكار هزيلة جداً , فنحن نظن أننا قادرين على التعامل مع هذه المعارف, ولا ننتبه إلى قدرات جسمنا وعقلنا وذاكرته المحدودة جداً, وغير الدقيقة.
لذا فإن أصعب مهمة تواجهنا هي اختيار المجال الذي سوف يمتص أو يستهلك قدراتنا الفكرية- أي استطاعتنا على التناول والهضم والتمثل الفكري- .
فنحن كأفراد لن ولا نستطيع التعامل إلا مع كمية صغيرة جداً جداً مما هو موجود من معارف, وبقول آخر إننا نملك القليل من القدرات التي نستطيع بها تناول وامتلاك كمية المعارف.
فالمشكلة الأساسية هي ماذا نختار وكيف نختار صرف قدراتنا للحصول على أفضل وأمتع ما يمكن لنا.
ملاحظة على الدور الهام للفكر
يتكلمون عن السير عبر الزمن- آلة الزمن- إلى المستقبل أو إلى الماضي, ويتكلمون عن التقمص وتعدد الحيوات- تكرار العودة للحياة بشكل إنسان أو حيوان آخر- , ويتكلمون عن العوالم المتوازية والعوالم المتعددة, ويتكلمون عن الخلق للوجود إن كان للأشياء, أو للأحياء, ......الخ. إن كل ما يتكلمون عنه ويعتبرون في حكم المستحيل تحقيقه واقعياً ومادياً- فيزيائياً-, هو ممكن, فهو يمكن أن يحدث ولكن في عالم الأفكار.
فالمفكرون والأدباء يخلقون الأشياء والكائنات الحية والناس والمجتمعات والعوالم والأزمان بشكل أفكار, ويحركونها كأنها موجودة فعلاً, فهم يتجولون عبر الأزمان, أو يخلقون الأزمان ويتجولون فيها, ويخلقون كل ما يريدون, كل ذلك يخلقونه كأفكار, وهذه الأفكار لا تختلف بشيء عن الأفكار الأخرى الناتجة عن الواقع الفعلي .
إن قدرات وخصائص الفكر البشري غير المحدودة تمنحهم تلك القدرات بما يتميز به البشر عن باقي الكائنات الحية.
وعالم الفكر كما قلنا لا تنطبق عليه القوانين الفيزيائية وله قوانينه وآلياته وعناصره الخاصة به والمختلفة والمتميزة عن العالم الفيزيائي - والذي هوأيضاً جزء ممثل في عالم الفكر-, وعالم الفكر هو أيضاً جزء وتابع للعالم الفيزيائي , كيف يحدث هذا؟؟
إن هذا يمتنع فهمه والتعامل معه فكرياً, لأنه بنيات فكرية متحركة, والعقل البشري أو حتى الكومبيوتر لا يستطيع التعامل إلا مع البنيات الفكرية الثابتة المحددة المعينة .
إننا في تواصلنا الفكري موجودون في عالم الفكر فقط وليس لنا إلا التعامل بالأفكار, وحسب قوانين وخصائص عالم الفكر, صحيح أننا نعيش في العالم الفيزيائي وفي عالم الفكر معاً, ولكن في تواصلنا ليس لنا سوى الأفكار المنقولة برموز ومؤثرات فيزيائية.
فكل شيء ممكن في عالم الفكر, فالمستحيل في العالم الفيزيائي ممكن في عالم الفكر.
والأدب هو الجزء الأكثر حرية في عالم الفكر, فالأديب يخلق الشخصيات والأماكن والحوادث ويحركها كلها بالطريقة التي يريد, إنه يخلق عالماً أو وجوداً, حسبما يريد, وبما تسمح له قدراته الفكرية والأدبية واللغوية.
لذلك كان هذا الاهتمام والتأثيرالكبير والواسع للأدب , وكذلك السينما .

الإبداع والوجبة
لابد لكل مبدع – في أيٌ مجال كان إبداعه - من تغذية مناسبة لإبداعه , فالإبداع لا يأتي إلا من تغذية سابقة تم هضمها وتمثلها , ففي مجال الفكر والفلسفة نجد كافة المفكرين المبدعين قد تلقوا - أو تناولوا- الأفكار من الذين سبقوهم فهضموها وتمثلوها وأنتجوا أفكارهم الجديدة فسقراط , وأفلاطون , وأرسطو , وديكارت , وكانت , و هيوم ... , كل هؤلاء ما كان لهم أن ينتجوا أفكارهم إلا بعد أن تلقوا أفكار من سبقوهم.
وكذلك الإبداع في الموسيقى , فشوبان , وموتزارت , وبتهوفن , .... أبدعوا بعد تلقيهم وهضمهم موسيقى الذين سبقوهم , وكذلك الرسامين , وكافة الفنانين , وكل الأدباء ما كان لهم أن يبدعوا أدبهم إلا بعد أن تناولوا وهضموا الكثير من الأفكار , وامتلكوا قدرات فهم واستيعاب مشاعر و نفسيات الناس الذين تعاملوا معهم , وفهموا العلاقات والظروف المتحكمة فيهم .
فالإبداع والتجديد لا ينتج إلا من تغذية سابقة تم تناولها وهضمها وتمثلها , فالعقل والجسم لا يمكنهما الإنتاج من ذاتهم فقط , لابد من الاتصال والتغذية, أي يجب أن يزودا بالمدخلات المناسبة ويتم هضمها بشكل مناسب حتى يستطيعا تحقيق أنتاجهما .
فالإلهام والوحي والإبداع هم حصيلة اكتساب وتحصيل ومعالجة مناسبة- شعورية أو لا شعورية- أي هم نتيجة تغذية وهضم مناسب لما يتم تمثله .