دعاني صديقي إلى زيارة خاطفة ، هاتفني يوم الخميس الفائت وقال : عندك شيء ؟
قلت : لا ..
قال : تأتي .. ؟
قلت : ولمَ لا ؟

قال : هل شاهدت فيلم " الكيف وهم " ؟
ابتسمت اللحظة إذ اندهشت قبلي فأجبت :
منذ زمن ..!
قال : وأنت في الطريق حاول أن تسترجع تفاصيله ..
قلت : ليكن ..
في الطريق إليه أرّقتني تلكم " اليكن " إذ كيف بي أن أنفض عن ذاكرتي غبار تحول إلى كلس .. ؟
حاولت آن أتذكر .. وما تذكرته كان فكرة الفيلم .. التي ربما ستكون مُنقذتي لدى هذا الصديق النزق المثقل بالوهم ..

كان كعادته حينما يدعو ضيوفاً .. يدور قرب الباب وكأن الطير على رأسه .. سمع محرك سيارتي ففتح الباب وشاهدت ابتسامته وثوب نومه " المغربي " الرث ، الذي يخيّل إليّ أنه لا يملك غيره رغم كونه ميسورا ..

مرحبتين ..
هلا .. ادخل .. ادخل ..
دخلنا سويةً ..
نقعد هنا ( فناء المنزل الذي يزيّنه حديقة صغيرة باهتة ) .. ؟
لا .. لا .. تعال إلى مكتبي ..
!!!

لم أعهد أنه أدخلني مكتبه ..!
دخلنا .. ووجدت غرفةً بطول ثمانية أمتار وعرض ستة أمتار – تقريباً – مكتب يشبه مكتب سكرتير وزير خائب .. ومكتبة تعج بالكتب المغبرّة والجديدة نسبياً ، ثم هناك زاوية جعلها جلسة عربية تتسع لأربعة أشخاص .. وعلى مقربةً منها طاولة تشبه طاولات المقاهي المصرية .. على سطحها نصف زجاجة ويسكي .. وزجاجة عرق ( الله أعلم من وين جايبها ) .. وربع زجاجة فودكا ، وعلبة سجائر " لف " ، و " كرز " مالبورو أبيض يلاحظ للوهلة الأولى أن جديد ولم ينقص منه إلا علبة واحدة كانت بيده .. ..



وش هذا كله ؟!

هذه خلطة الاصلاح ..
أي اصلاح ؟
كأنه استفز بهذا السؤال ، وكأنه ندم أنه دعاني ..!
أنت تعلم ماذا اعني .. ؟
ربما إلى حد قريب .. لكن ما علاقة هذه الطاولة الرثة وما عليها بالاصلاح .. ؟

استمهلني وقال دقيقة .. قام وأحضر علبة السجائر " اللف " وفتحها وقال : تعرف ما هذا ؟
قلت : دخان لف حق الأولين ..
قال لا .. هذا حشيش وهو خلطة بذاته ..
استرسل كثيراً بعد تلك العبارة واستفاض ..
قال : تعرف أن تجّار المخدرات في بعض الدول - وقد سمعتُ أن ذلك يحدث في مصر – تعرف ماذا يفعلون ؟
لم أجب بكلمة ، بل استحثه صمتي واصغائي .. وكأنه شعر بجدية انصاتي ..

هؤلاء التجار يتاجرون بجماجم الأطفال فهم يجمعونها بطرق شرعية أو غير شرعية ، ليس هذا المهم ، ويطحنونها ويسوقونها على أساس أنها مخدرات .. وقد قرأت في أكثر من مصدر أن تلكم الجماجم لها تأثير يشبه تأثير المخدرات المتعارف على كيفية استخلاصها ..

بدأ يحتد ويتحول ليصبح نزقاً ، وفي هذه الحالة ليس بيدي إلا أن أنصت ، إذ بعد أن يوصل فكرته يتحول إلى كائن pure ..

حينما انتهى .. سألته : وما علاقة ذلك بالإصلاح .. ؟!
قال : دقيقة .. أخذ علبة سجائر " اللف " وحشا ورقة بالتبغ المطحون الذي ظنتته أول وهلة حينما دخلت أنه دخان ، وقال : أشعلها ..

مررتُ قداحتي قرب شفتيه المرتجفتين واللتان تحملان السيجارة .. أخذ نفساً عميقاً كأنه يستنشق هواءً تحمله ريحاً أتية إلى رئتين بائستين ..

قال : أنت تعرف أني لا أشرب إلا الكحول ، لكن لأجل أن أفهم ما يدور قررت أن أتعاطى الحشيش ، إذ يقولون أن ما لا تفهمه دونه ستفهمه بواسطته .. فالبارحة دخنّتُ سيجارة ظننت أني بعدها ساتحول إلى جمجمة يسهل على تجّار المخدرات طحنها وتحويلها إلى مخدر يُصرف في أي صيدلية في المدينة ..
تعرف بماذا أحسست ساعتها ؟

أدركت قوانين اللعبة .. وعرفت أن سيجارة الحشيش يجب أن يُطلق عليها سيجارة " اصلاح " ، إذ بعدما زحف مفعول السيجارة إلى خلايا مخي بدأ ادراكي للأشياء وللا أشياء يتضح .. يا رجل تصدق أني عرفت سبب اعتقال من يسمون بالإصلاحيين .. وعرفت مالإصلاح الذي يريده النظام .. وعرفت متى وكيف سيفرج عنهم .. وعرفت ما الخطوات القادمة للإصلاح .. عرفت أشياء يُراد لها أن تكون سرّية ..

لكني للأسف لا أستطيع أن أخبرك بها الآن .. لأني لا أستطيع .. حتى أخذ نفس الجرعة التي أخذتها البارحة ..فما رأيك اتشاركني ؟ …


قلت له : لا أدخنه .. لكن لا بأس بكأس ويفضل أن يكون عرقاً ، تيمناً بالوطن ..

مدَّ لي واحداً .. وأضاف .. ما رأيك أن تتابعني وأن أشرب السيجارة لعلك تكون شاهداً على ما نسيته ليلة البارحة ؟
قلت : وهل تثق بالكأس ؟

فتح عينين مندهشتين ، وجلجلت ضحكة كبيرة وقال : لا تكثّر أجل .. ثم أضاف : ما رأيك أن نسجّل الجلسة لعل جهاز التسجيل يكون شاهداً على ما سوف استحضره الليلة ؟
قلت : وهل تضمن الاّ يشي بك ؟
قال : لعنة الله عليك ، وعلى سيجارة الحشيش ، وعلى الوشائين .. وعلى أجهزة التسجيل ما ظهر منها وما بطن .. ..