حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
الحرية، أيضا وأيضا ..... - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3) +--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57) +--- الموضوع: الحرية، أيضا وأيضا ..... (/showthread.php?tid=19479) |
الحرية، أيضا وأيضا ..... - فرج - 03-25-2006 الحرية، أيضا وأيضاً ... ما هي الحرية؟ لعلّه السؤال الأكثر إلحاحا في عصرنا هذا! وكم من تعريف وكم من مجلد كُتب وما زال يُكتب في الحرية، عن الحرية، مع الحرية وحتى ضد الحرية؟ وقد لا يتفق اثنان على تعريف واحد لهذا المفهوم. وليس في ذلك انتقاص من أهمية وقيمة هذا المفهوم وتعدد أبعاده وتنوع مضامينه. بل على العكس من ذلك، فكل هذا إن دلّ على شيء فهو يدل على أن الحرية غير قابلة للتحديد فهي تمرد على كل الحدود. ما إن تضع لها حداً حتى تكون قد تجاوزته في اندفاعها وفي حركتها الدائبة على كل المستويات والأبعاد الممكنة، المحتملة وغير المحتملة، متوقعة أو غير متوقعة. هذا لا يمنع أن نقترح تعريفا مفتوحا على أي مضمون إضافي، تعريفا يتماشى مع رؤيتنا للموضوع في الآن والمكان الذي نحن فيه ضمن السياق الموضوعي المحدد. وبشكل عام، لو قلنا إن "الحرية هي الإنسان" أو "الإنسان هو الحرية" فهل نخطئ؟ لا نخطئ إذا ما انطلقنا من المسلّمة الإغريقية التي تضع الإنسان في مركز الظاهرة الإنسانية "الإنسان مقياس كل شيء"، وفي الوقت نفسه إنه مقياس ذاته وبالتالي إنه الكائن الوحيد، في هذا العالم الحسي الملموس، القادر على أن يكون مقياس ذاته ومقياس كل شيء في آن معاً. هنا تكمن فرادة الإنسان في قدرته على تجاوز مجال الحتمية (الفيزيائية والبيولوجية ...وحتى "الحتمية التاريخية") ليصل إلى حتمية الحرية. وبتعبير آخر، على لسان هايدغر إذ يقول: "حقيقة الإنسان في انفتاحه على الحقيقة"، وأكثر من ذلك، نقول إنه محل الحقيقة ومصدر القيمة وثالثة الأثافي الحرية. فلا حرية خارج وعي الإنسان. هل العكس صحيح؟ أي ماذا عن الإنسان بدون حرية ؟ إذا ما فقد الإنسان حريته وسلم زمام أمره ومصيره لغيره فهو كالذي تخلّى عن إنسانيته ونزل إلى الدرك الأسفل حيث يباع ويشترى في سوق النخاسة. للمزيد من التوضيح نقول إن الحرية تعني أول ما تعني مسؤولية الإنسان، فردا أو جماعة، عن مصيره ومصير إنسانيته منذ أن يستيقظ وعيه قائلاً "أنا"، أريد كذا! ولا أريد كذا! ونخطئ كل الخطأ في نظر من يضع الإنسان، وهو إنسان آخر مثله، في مكان ما بعيداً عن المركز لأنه هو يشغل المركز والمركز لا يتسع لأكثر من شخصه بصفته وكيلا لصاحب المُلك أو نائب الوكيل، أو نائب النائب لكائن مفترض فوق الكائنات كلها متعال عليها ومتسام عنها وكأنه هو في عالم (العالم الأول اصطلاحا) والكائنات الأخرى كلها في عالم آخر (العالم الثاني) على النقيض من العالم الأول... (وماذا عن العالم الثالث، البرزخ، بين العالمين؟) ما بين العالم الأول والعالم الثاني يقوم عالم الوسطاء والوكلاء على اختلاف مذاهبهم. فيجيز الوكيل لنفسه ما لا يسمح به لغيره معتبرا، متوهما أو مدعيا، أنّ الوكالة تخوله التمتع بامتيازات خاصة به دون غيره من البشر. وإذا ما استطاع أن يفرض امتيازاته يكون قد زرع بذور التمييز التعسفي، كل أشكال التمييز التعسفي بأحكامه المسبقة الخاطئة المستندة إلى جهل بالشخص في ذاته والاقتصار على صفاته الخارجية الخارجة عن إرادته مثل لون بشرته أو انتمائه العرقي أو الجنسي أو الديني أو العقائدي، أو أي اعتبار آخر معطى لا يمت بصلة إلى حقيقة الشخص بذاته كما يريدها هو بملء إرادته واختياره الواعي. ولكن ما هي هذه الخاصية التي تدفع بالإنسان، فردا أو جماعة، إلى تخصيص نفسه وتمييزها عن الآخرين وكأنه من طينة غير طينة الآخرين؟ هل هي ملازمة للإنسان في كل مراحل حياته؟ أم إنّها تخص درجة معينة من درجات وعي الإنسان ذاته؟ إذا ما اعتبرنا أن الدرجة صفر للوعي هي تلك اللحظة التي نزل فيها جدنا الأول، جد البشرية الأول، من على شجرة تاركا فيها أبناء عم له، ومعه عشيرته الأقربون، حاملا عصا مهذبة وحجرا مثقفا كالفأس، معلنا بداية المشوار، بداية المغامرة الإنسانية، بداية المسيرة الثقافية، مسيرة الوعي اللامتناهية في معرفة العالم واكتشاف قوانينه والتكيف معها وتدجينها بشتى الوسائل والإمكانات المتاحة. بين الدرجة صفر والدرجة 1 تمتد حقبة طويلة من الزمن الفلكي، ولكن في مسيرة الذات الواعية تقتصر هذه الحقبة على وعي الذات للعالم الخارجي وتراكم التصورات من معارف علمية وغير علمية. بفضل هذا التراكم تحقق الذات نقلة نوعية من وعيها لموضوعها القائم خارج الذات إلى وعيها لذاتها كوعي، وعي يرى في كل ما هو غيره موضوعاً له، ولا يرى أي ذات في غيره، كائنا من كان هذا الغير. هذه الحالة أو هذه الدرجة من وعي الذات تذكّر بحالة طفولية يعيشها الطفل في بداية مرحلة المراهقة. الطفل، صبيا كان أو صبية، في مراحل نموه الأولى يتلقى تأثير محيطه وإرادة غيره دون أن يرفض شيئا منها فهو يعيش حالة وحدة وانسجام مع محيطه المباشر. قد تطول هذه الفترة، فترة ما قبل المراهقة، أو تقصر حسب كل شخص، وتتكون خلال هذه الفترة معالم بلوغ جسدي ينعكس على نفسية الطفل الذي لم يعد يروق له أن يظل طفلا. فالمراهق ليس طفلا، لم تعد تكفيه هذه العلاقة مع محيطه، فهو ينزع إلى الانفصال عن هذا المحيط. وغالبا ما يدخل المراهق في صراع عنيف مع الوسط الذي نشأ فيه. وقد يصل هذا الصراع إلى نتائج، أقل ما يقال فيها إنها غير مرضية لأحد. خلال فترة الصراع هذا ومرحلة المراهقة عموماً يبلغ المراهق جسديا، ويبدو للعيان، وخاصة لنفسه، وكأن تكوينه الجسماني قد اكتمل. أمّا على صعيد الوعي فماذا يحصل؟ على صعيد الوعي تتضخم "الأنا" عند المراهق بشكل ملحوظ وربما أكثر من تضخم الجسد (أنظر أدناه ملاحظة حول الموقف من الجسد) أو بعض أعضائه، إلى درجة أنه لا يرى أي ذات غير ذاته الفردية الطاغية على كل ساحات وعيه. وإذا كان يملك شيئاً من السلطة على الآخرين فلا شيء يحد من تماديه إلاّ سلطة أقوى منه. قد تطول هذه المرحلة أو تقصر، قد يخرج منها المراهق بجهد كبير يبذله في تثقيف نفسه وتوطينها على الاعتراف بذات غيره المختلف عنه في الصفات ولكنه مثيل له من حيث الذات الإنسانية المشتركة بين بني البشر، القابعة في عمق أعماق النفس البشرية. وقد لا يخرج من هذه المرحلة أبدا ويمضي عمره في الاعتقاد بأنه مركز الكون وأنه فريد من نوعه. وهكذا كانت وما زالت حال المتمسكين بسلطة فردية مطلقة حيث صاحب السلطة يتسلط ويتغطرس كما يشاء حتى الرمق الأخير ويحرص على توريث سلطانه لأقرب الناس إليه، لولده المدلل وكأنه استمرار لشخصه. وهذه هي بداية التصنيف والتمييز القائم في أساس كل أشكال التمييز التعسفي بما يعنيه من أحكام مسبقة وفي الغالب خاطئة لا أساس علمياً لها من الصحة لأنها تنطلق من صفات خارجية موروثة طبيعياً فلا فضل ولا ذنب لحاملها إذا ما التصقت به من حيث لا يدري ولا يريد! وبموازاة الفرد يمكن الحديث عن الجماعة، حيث "نحن" هي الأنا الجماعية. والزعيم الناطق باسم الجماعة، يتماهى مع جماعته فلا يقول "أنا"، بل "نحن"، وإذا ما خاطب جماعته يقول "أنتم خير شعب" أو "خير أمة"... وتردد الجماعة: " أنت خير الناس " وأننت "أشرف المبعوثين" والمتنبي يقول: "سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ............ بأنني خير من تسعى به قدم". في ما يتعلق بالجماعة التابعة لزعيم ما عن اقتناع أو عن تقليد أو عن إكراه، يتماهى الزعيم مع جماعته من جهة، ويتماهى مع القضية التي يدعو إليها من جهة أخرى. فالقضية التي يدعو إليها يمليها عليه أمر واجب ملزم ومطلق لا يعادله واجب آخر، وكل ما يصدر عن الزعيم ما هو إلاّ استجابة لهذا الأمر المطلق. (كانط يعتبره الأمر القاطع المانع الواجب أخلاقيا، القائم في أساس الوعي/ الضمير الشخصي ( Impératif catégorique )؛ النظرة الدينية تعتبره أمرا إلهيا؛ وبالنسبة للبعض هو صوت الأمّة وضميرها وللبعض الآخر هو قانون الحتمية التاريخية). هذه الذات، "الأنا" أو "نحن"، ما هي إلاّ قبس من الذات المطلقة، بل هي ذاتها: "هي هي" صيغة المؤنث من "هو هو". ولكن كيف الوصول إليها؟ كيف الوصول إليها وهي مغطاة بحجب كثيفة؟ هذه الحجب أسماؤها: الأنا الفردية تليها "نحن" العائلية، وبعدها العشائرية وبعدها الطائفية، المذهبية، والعقائدية الحزبية وغيرها من أشكال الطائفية و"الهويات القاتلة" (بالإذن من أمين معلوف). للوصول إلى "الأنا"، الذات المطلقة المشتركة لكل من يقول أنا والحالة هذه، لا بد من هتك الحجب واحداً واحداً، وتدمير هذه الأطر المحيطة بالفرد والتي تكاد تخنقه. وبعد الهدم يجب إعادة البناء، إعادة بناء هذه الأطر التي لا بد منها من أجل نمو الفرد وتفتح شخصيته في بيئة ملائمة. فلذلك إنّ إعادة البناء هذه يجب أن تتم على أسس من الشفافية وأن تنطلق من الإنسان غاية ووسيلة في آن معا، مما يسمح للفرد أن يطل على إنسانيته، الإنسانية قاطبة، عبر هذه الأطر الشفافة العاملة على تنشئة الفرد وتمتعه بالمزيد من الإنسانية، بدلا من زرع الكراهية للآخر المختلف، وبالمزيد من الحرية بتعريفها كمسؤولية الإنسان، فردا وجماعة، عن مصيره ومصير إنسانيته، أي مصير الإنسانية جمعاء. وهكذا من الأنانية الفردية الضيقة إلى العصبية العائلية والعشائرية الأقل ضيقا ... إلى الأوسع فالأوسع وصولا إلى أنانية إنسانية كونية، نوع من أنانية حيث "الأنا" تشمل الكون بأسره، ولم لا؟ ألسنا من مكونات هذا الكون؟ أوليس هذا الكون كوننا؟ لا حدود ولا سقف ولا شيء يمنعنا أن نكون كونيين بدلا من قوميين، أو عشائريين، قبائليين، أو طائفيين مذاهبيين! أ"أنانية مطلقة" هذه، أم "إنسانية مطلقة"؟ في كل الأحوال إنها صراط مستقيم مؤد إلى إنسانية أكثر إنسانية. هذا في ما يتعلق بالفرد العادي. في ما يخص الأفراد غير العاديين من أصحاب الرسالات الإنساية العظيمة (أرضية أو سماوية) الذين كان وما زال لهم دور كبير في صناعة التاريخ وتشييد الحضارات وساهموا في بناء صرح الحضارة العالمية الراهنة، مهما عظُم دورهم فلم ولن تتوقف المسيرة الكونية عند أبواب دورهم وكأنها نهاية المطاف. ولا شك أن هؤلاء العظماء أكثر ذكاءً من أتباعهم وأذكى من أن يقولوا بنهاية التاريخ عند اكتمال دعوتهم، اكتمال ما بعده اكتمال، وكأنهم يقولون لأتباعهم: أذهبوا أنّى شئتم ولكن فلتكن أنظاركم مشدودة دائما إلى الوراء، إلى هذه النقطة النهائية في "فرض الإملاء". وفي الواقع ما هي إلاّ "نقطة! على السطر"، نهاية فقرة وبداية فقرة جديدة في "وظيفة الإنشاء". يبدأ التمييز التعسفي، على صعيد الفرد أو الجماعة، في طور المراهقة عندما يعتقد الفرد المراهق أنه هو وحده يشغل مركز الكون ولو أُتيح له أن يسيطر على الكون بمن فيه وأن يجعلهم جميعا في خدمته لما تأخر عن ذلك لحظة. وقد يصل به الأمر إلى السيطرة على جماعة معينة ويفرض نفسه زعيما بلا منازع وهو بذلك يؤسس للتمييز بين شخصه والآخرين وعليه تقوم كل أشكال التمييز. " أنا ابن السيدة الوحيد وكل من هو غيري أو من هم أغياري فكلهم أبناء جوار". و"أنا وكيل السماء على الأرض". أو في صيغة أخرى "أنا ربكم الأعلى" وصولا إلى الوصية الأولى: ""أنا" هو الرب إلهك، لا يكون لك إله غيري (أو غيره)". هذه الأنا من تلك الأنا أو تلك من هذه فلا فرق. إنها هي هي. التمييز الأول في التاريخ، كنظام اجتماعي سياسي، هو التمييز بين السيد والعبد. مع بداية انقسام المجتمع إلى أسياد وعبيد ظهر مفهوم الحرية بمعنى الانعتاق من حالة العبودية. والحرية هذه لها ثمن محدد وقابل للنقاش، إذ كان بإمكان العبد أن يشتري حريته بمبلغ من المال إذا ما توفر له المبلغ المرقوم، وإلاّ في سوق النخاسة يباع ويشترى. وظهر أيضاً مفهوم المساواة بأبسط معانيه أي بمعنى المساواة بين العبد والعبد والمساواة بين السيد والسيد (أو بين الحر والحر) ضمن الانقسام الكبير أسياد /عبيد. ولم يكن ليخطر ببال أحد من أصحاب الرأي من فلاسفة وغيرهم أن يرفع شعار " تحرير العبيد" مثلاً أو "إلغاء العبودية". وكأن العبودية، بالنسبة لأهل ذاك الزمان وحتى الأمس القريب، أمر إلهي طبيعي لا رد له، أو حتمية مطلقة. أيضاً وأيضاً نكرر: إن أصحاب الرسالات الإنسانية العظيمة مهما بلغت حدة ذكائهم الأمر الذي لا ينكره حتى ألد خصومهم ومهما كانت عبقريتهم خارجة عن المألوف وخارقة للعادة فلم يتجاوز أحد منهم حدوده التاريخية، وكل منهم كان ابن عصره ومقيد بمفاهيم عصره ولا يجوز تحميله أكثر مما يحتمل. في مجتمع العبيد والأسياد، مفهوم "الحرية" والإنسان الحر يقتصر على هذا البعد الطبقي وحسب، إذ يكاد لا يربطه بمفهوم الحرية، كما هو متناول في عصرنا هذا (مطلع القرن الحادي والعشرين)، غير الاسم. المفردة هي نفسها ولكنها تغتني يوميا بمضامين جديدة وأبعاد عديدة لا نهاية لها، من البعد الاقتصادي إلى السياسي والاجتماعي، إلى الثقافي والروحي ... لننظر، ولو باختصار سريع، إلى أين وصل مفهوم الحرية في بعده الاقتصادي! من المعروف أنّ إنجلترا هي البلد الرائد في مضمار الديموقراطية بالمعنى الحديث للكلمة بما في ذلك الحريات الشخصية والعامة القائمة على احترام الشخص الإنساني ومفهوم المواطن مع أنه في الوقت نفسه رعية من رعايا صاحب (أو صاحبة) الجلالة. ظهرت في إنجلترا في القرن السابع عشر تيار باسم "الليبرالية" (من "حرية") كنظرية ونظام في الاقتصاد. شعار الليبرالية "دعه يفعل"، دعه يمرّ" يعبّر عن حرية المبادرة، حرية المنافسة، حرية الحركة والتنقل للأشخاص وللبضائع، عدم تدخل الدولة في الاقتصاد وترك الأمور لقوانين السوق مثل قانون العرض والطلب وقانون القيمة (قيمة البضاعة = الشغل أو الطاقة الضرورية لإنتاجها) وغير ذلك من مؤثرات المجالات الأخرى على السوق. ولكن عدم تدخل الدولة كان يسبب ظهور الاحتكارات الكبيرة على حساب المنتجين الصغار إلى درجة أن الاحتكارات تصبح أقوى من الدولة بالتالي تتحكم لا يالسلطة الاقتصادية وحسب بل وبالسلطة السياسية أيضا. هذا الشكل من أشكال الليبرالية في الاقتصاد يطلق عليه البعض تسمية "الرأسمالية المتوحشة" وأدّى إلى أزمات حادة مما أضطرّ الدولة إلى التدخل بقوانين تضبط عملية المنافسة وتحد من سلطة الاحتكارات حماية للمنتجين الصغار، وهكذا راح مفهوم الليبرالية يتسع شيئا فشيئاً ليشمل أبعادا اجتماعية وسياسية. البعد السياسي لمفهوم الحرية يتجسد في النظام الديموقراطي بما يعنيه من "حكم الشعب بواسطة الشعب ومن أجل الشعب" وفصل السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، واستقلالية الواحدة عن الأخرى. في المراحل الأولى لظهور الديموقراطية، اقتصرت المشاركة في الحياة السياسية على فئات البرجوازية والطبقات الوسطى من المنتجين القادرين على دفع الرسوم لاكتساب حق الترشح وحق الانتخاب. وتطلب الأمر نضالات وتضحيات قبل أن تصل الديموقراطية في البلدان التي انتصرت فيها الثورة الديموقراطية (إنجلترا ، الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، ...) إلى إقرار حق الانتخاب مجاناً نصا وفعلا لجميع المواطنين بالغي سن الرشد. ذلك أنّ الديموقراطية كبعد من أبعاد الحرية عموما، البعد السياسي، تغتني باستمرار بمضامين جديدة مع كل إنجاز علمي ـ تكنولوجي أو اقتصادي يؤثر في البنية الاجتماعية. فالحرية هي حريات. والحريات منها فردية، شخصية ومنها جماعية، عامة. الحريات الأساسية نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (عام 1948 ، منظمة الأمم المتحدة) . الحرية ليست معطى طبيعيا، ليست معطاة من الطبيعة ولكن هذا لا يعني أنها تتعارض مع الطبيعة. هي معطى كامن في الطبيعة وبشكل خاص في الطبيعة الإنسانية. هذا الكمون هو كالوجود بالقوة حسب تعبير أرسطو. فالإنسان بطبيعته توّاق إلى الحرية. وطالما فيه رمق من الحياة، طالما هو يسعى لاكتساب المزيد من الحرية. الحرية هي حتمية الإنسان وقدره . أو كما يقول سارتر: "الإنسان محكوم عليه أن يكون حراً". في تعبير للغزالي، يقول أبو حامد في مسألة الإنسان "أمسيّر هو أم مخيّر؟): " إنّه جبر على اختيار"! "جبر على اختيار" تحتمل هذه المقولة معنيين، أحدهما مطابق لمقولة سارتر والثاني أقرب إلى القول إنه مسير في أمور ومخير في أمور أخرى. ولكن من وجهة نظر دينية كيف يمكن التوفيق بين إرادتين، بين حريتين في نفس واحدة؟ إذا كان الإنسان الفرد حرا في بعض الأمور فهل يعني ذلك أن هذه الأمور تخرج عن نطاق نفوذ الإرادة الإلهية؟ "طبعا لا"، يأتي رد النظرة الدينية مستنكرا هذا الانتقاص من الإرادة الإلهية وهي المطلقة الشاملة لكل الموجودات، حيث لا شيء يحدث إلاّ بالمشيئة الإلهية!!! لو كان حيز ما من الكون وما يدور فيه يقع خارج دائرة المطلق، مهما صغر هذا الحيز، لما كان "المطلق" مطلقاً بل كان محدودا بهذا الحيز الخارج على طاعته. وهذا أمر مستحيل، ويتعارض مع تعريف المطلق اللانهائي اللامحدود... لا محل للشيطان في مملكة الإله ومملكة الإله تشمل المحدود واللامحدود، النهائي واللانهائي، النسبي والمطلق! أمّا النظرة الدينية السلطوية الدوغمائية المتمسكة بصنمية الحرف والمعنى الحسي لظاهر النص فتصطدم بهذه المعضلة وتعجز عن حلها بغير التدابير السلطوية مثل منع السؤال والتساؤل وفرض الطاعة والولاء لأصحاب الأمر. ما العمل، إذن؟ من داخل الإطار الديني العقائدي السلطوي لا حل لهذه المعضلة إلاّ بانتهاج نهج الصوفية التأويلي المؤدي إلى تجاوز المعنى الحسي الظاهر للنص بحرفيته نحو المعاني الروحية للنص بكل ما في عبارة "روح النص" من معاني الحرية الداخلية خلافا للعبودية الطقوسية المفروضة من الخارج. هذا النهج يصل بصاحبه إلى رؤية المطلق متجليا في النسبي على قدر ما يستطيع النسبي تقبله. ولا يرى المطلق إلاّ في النسبي. وبالتالي يسقط التناقض الظاهر بين الحريتين وتبقى حرية واحدة، وتبقى إرادة كونية واحدة تتجلى في أشكال ومستويات مختلفة، أرقاها المستوى البشري الأقرب إلى صورة ومثال الكائن الأصل. قد يقول قائل: إذا ما كانت الموجودات أو الكائنات كلها تنضوي تحت لواء إرادة واحدة، إرادة الكائن الواحد، فكيف يمكن تفسير الصراعات والحروب الطاحنة بين البشر؟ صحيح أنّ الكائنات ما هي إلاّ تجليات الكائن الواحد، ولكن كل كائن حسب قدرته على استيعاب الكائن، وبالتالي إنّ تجلي الكائن يكون دائماً متناسباً مع المتلقي. على مستوى الكائنات الواعية هناك درجات للوعي مفتوحة على اللانهاية. وكلما ارتقى المرء في سلّم الوعي، كلما اقترب من الكائن المطلق في ذاته وعند أمثاله إلى حد التماهي والتوحد مع كل ذات، حسب مبدأ "وحدة الوجود" لدى المتصوفة، حيث العالم الأول يتطابق مع العالم الثاني في عالم واحد خال من الوسطاء والوكلاء... وكلما هبط المرء درجة درجة في هذا السلّم كلما ابتعد عن حالة التماهي والتوحّد هذه وغرق في عالم الفرقة والتنافر، حيث كل فرد هو فرقة بحالها، بل هو الفرقة الناجية والآخرون في ضلال مبين، "فالآخرون هم الجحيم". ملاحظة حول الموقف من الجسد نشير هنا إلى أن ما ينطبق على الصبيّ يصح أيضاً على الصبية رغم محاولات التعتيم والقمع والكبت والحرمان لكل ما له علاقة بالجسد بالنسبة للصبيان كما بالنسبة للبنات علما بأن البنات يعانين أكثر من الصبيان من ظلم تجاه الجسد في المجتمعات التقليدية ّ التي تسودها "أخلاق" معادية للجسد علانية وجهرا باسم الروح البريء مما يدّعون . وكأن الروح، في نظر القائمين على هذه "الأخلاق" الرسمية، تكتمل على حساب الجسد، وكأن الجسد دنس وملطخ بالخطيئة قبل أن يولد، ناسين، أو متناسين، أو عن جهل من نوع آخر، أن الروح مفهوم معنوي ليس له وجود حسي ملموس إلاّ في جسد حسي ملموس. في كل يوم نرى أن الجسد بدون روح ما هو إلاّ جثة هامدة ولكن الروح بدون جسد، شيء لم يره أحد، محض خرافة. كما قال الشاعر في حينه: " حديث خرافة يا أم عمرو". |