حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
أصل وأصول التاريخ بين فوكو ودريدا - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: عـــــــــلــــــــــوم (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=6) +--- المنتدى: فلسفة وعلم نفس (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=84) +--- الموضوع: أصل وأصول التاريخ بين فوكو ودريدا (/showthread.php?tid=20264) |
أصل وأصول التاريخ بين فوكو ودريدا - محارب النور - 02-24-2006 أصل وأصول التاريخ بين فوكو ودريدا بقلم: هيو سلفرمان، ترجمة: د. حسن ناظم مثلت موضوعة الأصول مصدر إزعاج للتاريخ والمؤرخين منذ عصر سحيق. وفي الحقيقة، يشير العصر السحيق إلى ما قبل الذاكرة. فماذا يمكن أن تكون الذاكرة قبل بدء الزمن؟ لا يمكن لتلك الذاكرة التي تقع قبل بدء الزمن أن تكون ذاكرة إنسانية. وقد كان للقديس أوجسطين نظرة للذاكرة الإلهية تتلخص بكونها ذاكرة مكونة قبل الزمن بطريقة معينة، وهي خارج الزمن، ومختلفة عنه. ولكن ماذا كان ذلك الزمن الذي يقع «قبل الذاكرة»، أي الزمن الذي يقع قبل الذاكرة الإنسانية، وقبل الزمن، عندما كان بالإمكان وسم الزمن بالذاكرة، وفي الذاكرة؟ وهل هناك الكثير من مثل هذه الأزمان الأصلية، أم هناك زمن واحد فقط؟ وهل هناك أية غاية من الحديث عن أصل يسم بداية الزمن نفسه؟ أم هناك أزمان مختلفة ذات أصول مختلفة؟ فلقد ميزت موضوعة الأصول هذه خطاب كل من فوكو ودريدا بطرائق مختلفة، وبأزمان مختلفة. وعلى أية حال، فإن معنى الأصل بالنسبة لفوكو ودريدا، وبالنسبة لنظرية في التاريخ، وبالنسبة لممارساتهما النصية، إن هذا المعنى هو نفسه يعمل في ذات المكان الذي أضحت فيه نظرية الأصول أكثر وضوحا. فلنبدأ، إذن، بنظرية الأصول. لقد حددت قراءة فوكو للممارسات الخطابية قراءته للأصول. وكما يوضح هو، في كتابه الكلمات والأشياء (1966)، فإن التاريخ لا يبدأ في لحظة معينة ثم يستمر ـ في شكل خطي ـ بدءا من تلك اللحظة، بل بالأحرى، إن ممارسات خطابية معينة لها لحظات هيمنة هي التي تسود في زمن ثم تتبعها مجموعة جديدة من الممارسات الخطابية. وحيثما تنتهي ممارسة معينة تكون ممارسة جديدة على وشك البدء. إذن، سيظهر الأصل في المكان الذي تحدث فيه ممارسة خطابية جديدة. ولكن أين ومتى تحدث مثل هذه الممارسات الجديدة؟ من الواضح انها لا تحدث في لحظة بعينها من الزمن مثل عصر محدد أو سنة محددة. إن ممارسات خطابية معينة مرتبطة بفضاء ابستيمولوجي ـ بحسب تسمية فوكو ـ تستمر في فضاء ابستيمولوجي جديد، في حين تنقرض ممارسات أخرى. ولكن ما الممارسة الخطابية؟ إن الممارسة الخطابية، بالنسبة لفوكو، هي مجموعة كاملة من الوثائق تنتج ضمن حقبة زمنية عامة بشكل واسع، تظهر فيها موضوعات وأفكار مشتركة عبر تلك الحقبة، في الفروع البحثية، ومجالات إنتاج المعرفة الإنسانية المتنوعة. ففي القرن التاسع عشر، مثلا، تبدو العلاقات بين البيولوجيا، وعلم الاقتصاد، وفقه اللغة متقطعة تماما. وعلى الرغم من ذلك، فقد بين فوكو انها متحدة بموجب وحدة تصورية واحدة نسبيا، أو بموجب ما دعاه فوكو الابستيم. وبالنسبة لفضاء القرن التاسع عشر الواسع، يحدد فوكو الموضوعة الراهنة بما دعاه «أنثروبولوجيا»، أي نظرية عن «الإنسان» كما هي محددة من طرف «ثنائية التجريبي ـ المتعالي». ويفيد المفهوم الكانطي الخاص بأن الاعتبارات الامبريقية (الموضوعية) لابد من أن تفهم دائما في ضوء علاقتها بمجموعة من الشرائط المتعالية (الذاتية) تتخلل الممارسات الخطابية في القرن التاسع عشر. وإن موضوعة الذاتية في ضوء علاقتها بالموضوعية تستشري في قضية فهم الحياة، والعمل الإنساني، واللغة في القرن التاسع عشر. وهكذا، فإن الممارسات الخطابية، في القرن التاسع عشر، تكرر نفسها في سياقات متنوعة، وهذه السياقات منفصلة عن بعضها انفصالا واضحا. وهذه الاختلافات تشكل، من ثم، ابتسيم. إن ابستيم القرن التاسع عشر يتبع ابستيم «العصر الكلاسيكي». وقد ميّزت مجموعة من الممارسات الخطابية هذا الفضاء الابستيمولوجي السابق. وتتضمن هذه الممارسات تصنيف الجنس البشري، وتحليل الثروة، وقواعد اللغة الطبيعية. وما سيعدّه المرء اهتمامات منفصلة تماما إنما تُضَمُّ هنا في علاقة أحدها بالآخر، بحيث ان كلّ واحد منها يُظهر سمات ابستيم «العصر الكلاسيكي»، وهذا الابستيم هو «التمثيل representation». وحينما قرأ فوكو حقبة القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر، فإن مفهوم «التمثيل» ـ بمعنى انعكاس المفاهيم أمام العقل، أو التسليم بها ـ شكل الاطار للطريقة «الكلاسيكية» المتميزة في التفكير. والعلاقة بين هذا الابستيم الكلاسيكي وابستيم القرن التاسع عشر هي علاقة أقل دلالة من العلاقة القائمة بين الممارسات المتنوعة في كلّ لحظة من لحظات هاتين الحقبتين كل على حدة. والآن، ما الأصول؟ فأصل الابستيم هو مكان أصل الابستيم. ومكان الهيمنة بالنسبة لثنائية التجريبي ـ المتعالي هو مكان الأصل ضمن ذلك الاطار الابستيمولوجي. وعلى نحو مماثل، فإن مكان هيمنة التمثيل، في العصر الكلاسيكي، هو مكان الأصل ضمن ذلك الاطار الابستيمولوجي. وبأيّ حال، أين يقع مكان الأصل هذا في كلّ حالة؟ إن مكان الأصل، بانتشاره خلل المكان الابستيمولوجي، يظهر حيثما تعرضه هناك ممارسة خطابية معينة. ومن هنا يكون الأصل في أمكنة عديدة: فهو يعاود الظهور في مواضع عديدة خلل المكان الابستيمولوجي نفسه. وفي القرن التاسع عشر، يمكن للمرء أن يجد ثنائية التجريبي ـ المتعالي ليس فقط عند هيجل وهولدرلين، ولكن عند البيولوجيين مثل كوفيه (الذي وضع مبدؤه عن «نزعات الثبات fixism». بمقابل تاريخية تطوّر النوع الإنساني)، وعلماء الاقتصاد مثل ريكاردو (الذي كان التاريخ بالنسبة إليه أوالية متوازنة وضخمة)، وفقهاء اللغة مثل شليجل (في مقالته في العام 1808 عن اللغة والفلسفة عند الهنود). إن جميع هذه الأمكنة تؤسس نفسها أصلا، وموضوعا يندرج فيه مفهوم «الإنسان» بوصفه ذاتاً وموضوعاً في انتاج الخطاب نفسه. فاللغة، مثلا، لم تعد تعمل بين الكلمات والأشياء لتؤدي إلى عملية التمثيل. ففي القرن التاسع عشر كانت الكلمات هي الموضوعات نفسها، موضوعات تفحص وتدرس بموجب ممارسة علمية تأمل في تقييمها وتقييم علاقاتها المتبادلة. إذن، ليس الأصل، بالنسبة لفوكو، المصدر الذي تصدر عنه الأحداث التاريخية. وليس الأصل هو البداية التي يبدأ منها التاريخ بالظهور. وليس الأصل هو الابتداء الذي ينشأ منه التطور. ولا يؤسس الأصل اللحظة التي لم يكن ليحدث قبلها أي شيء. بل إن الأصل، في الحقيقة، ينبثق في أمكنة عديدة ضمن إطار زمني تاريخي عام وواسع. يظهر الأصل في خطابات متنوعة واسما إياها بعلامات ممارسة مشتركة، ممارسة لا تعي صفة الاشتراك هذه. يعالج جاك دريدا قضية الأصول في أول منشوراته المهمة مقدمة لأصل الهندسة، وهو مقدمة لترجمته كتاب هوسيرل أصل الهندسة (1936). ويراجع دريدا، في توصيفه مشروع هوسيرل، ثلاث مسائل أساسية تتعلق بالتاريخ (كما فهم ضمن الرؤية الهوسيرلية). وتتضمن هذه المسائل النظرات الآتية: ـ إن التاريخ كعلم امبريقي ـ مثل العلوم الامبريقية كلها ـ يعتمد على الظاهراتية. ـ ان التاريخ ـ الذي كان مضمونه الخاص، بموجب فهمه للكينونة، موسوما دائما بالواحدية، وبعدم قابليته على القلب ـ مازال يضفي على نفسه تنويعات خيالية وحدوسا ماهوية. ـ إنه ـ فضلا عن مضمون التاريخ الامبريقي المتغير ـ ثمة مضمون ماهوي معين (الهندسة على سبيل المثال بوصفها تحليلا ماهويا لطبيعة المكان) قد انتج، أو كشف عنه في تاريخ يضم معناها على نحو لا يمكن اختزاله. ويسترد دريدا: (لأنه) إذا كان تاريخ الماهية الهندسية، كما يؤكد هوسيرل، تاريخ نموذج، فعندئذ لا يعود التاريخ يخاطر في أن يكون قطاعا متميزا ومستقلا عن ظاهراتية أكثر جذرية. وببقاء التاريخ كاملا ضمن نسبية محددة، فإنه، مع ذلك، يستخدم الظاهراتية بكل امكانياتها ومسئولياتها، وتقنياتها ومواقفها الأصلية. يتحدث دريدا عن هذه الاعتبارات الثلاثة بوصفها «طموحات تبعث الحياة» في كتاب هوسيرل المعنون أزمة العلوم الأوروبية والظاهراتية المتعالية، وهو كتاب لم ينشر إلا في العام 1954، بعد سنوات من رحيل هوسيرل في اواخر الثلاثينيات، وعلى أية حال، فان زمن كتابته مناظر لزمن كتاب أصل الهندسة، وما انشغل به دريدا في العام 1962 هو امكانية «تاريخ ظاهراتي»، وما يعنيه مثل هذا المشروع، وكيفية تحققه، سيؤسس ذاته بموجب «تطور» التاريخ نفسه، يعني دريدا بالمعنى الذي ينشغل به التاريخ، بوصفه علما تجريبيا، بالاصول، وينشغل بمشكلات الاصول كموضوعات للدراسة. وفي الوقت نفسه يعتمد على ظاهراتية سوف تكون معنى لها. ومشكلة هوسيرل هي الآتية: فمع ان التاريخ فريد وغير قابل للقلب، لكنه، ايضا، ملائم «للتنويعات الخيالية» و«الحدوس الماهوية»، بما في ذلك الوسائل الظاهراتية التي تتيح للفيلسوف الظاهراتي ان يدرس التاريخ ككل، يدرسه كظاهرة محددة يمكن وصف معناها بشكل متعال. وعلاوة على ذلك، حين تضع ظاهراتية هوسيرل على عاتقها دراسة التاريخ كظاهرة، فلا مناص لها من ان تتحقق، بالتأكيد، او ان تنتج ضمن ذلك التاريخ. فالمشكلة، عندئذ، هي ان الاصول يمكن دراستها كجزء من التاريخ، مع ان التاريخ نفسه (فضلا عن الظاهراتية التي تدرسه) يتموضع، ايضا، في علاقة بمجموعة كاملة من الاصول. يكتب دريدا:« ان نتأمل معنى الأصول او ان نبحث فيه هو ان نجعل انفسنا، في الوقت نفسه، مسئولين عن معنى العلم الفلسفة هذا». فبأي معنى يكون الفيلسوف الظاهراتي «مطالبا» او «مسئولا» عن «معنى» العلم والفلسفة؟ ان الظاهراتية تقدم نفسها كعلم دقيق. ومع ذلك، فالظاهراتية هي فلسفة ايضا. ويطور هوسيرل ما يتبناه كمعنى للظاهراتية بوصفها فلسفة وعلما دقيقا ايضا. ومعناها لا يموقع نفسه في زمن تاريخي معين. فمن المسلم به انه موجود دائما. انه ببساطة يستهل حالا في كل فعل من افعال الحدس الذي يصف ظاهرة ما. وعلى أية حال، توجد الظاهراتية نفسها، ومن الناحية التاريخية، في زمن محدد: فهي موجودة اولا في الشكل المتلون في فلسفة هيجل، ومن ثم تطورت عبر صلتها بنظرية القصدية في فلسفة فرانز برنتانو. واخيرا انتشرت ايما انتشار في بداية القرن العشرين في كتابات هوسيرل ودروسه التعليمية. ومن هنا، عندما تحاول الظاهراتية ان تقدم وصفا للتاريخ، فلابد لها من ان تضع في اعتبارها انها هي نفسها متموقعة في التاريخ. عندئذ تتلخص المسألة فيما يأتي: كيف يفسر علم للتاريخ نفسه باعتباره هو نفسه يحدث في التاريخ؟ وهل يمكنه ان يفسر الاصول التي حدثت قبل بدايته؟ واذا كان الأمر كذلك، فما مكانة اصوله الخاصة فيما يتصل بالتاريخ، لاسيما ان التاريخ نفسه يفهم على انه ظاهرة يجب ان توصف ظاهراتيا. وبتعبير ظاهراتي، يجب ان يجري الوصف المتعالي بعد ان يكون ما يجب ان يدرس (اي التاريخ) قد تم تعليقه (اي وضع بين قوسين) واختزل الى شرائطه الماهوية. ولكن اذا كان التاريخ نفسه مايجب ان يعلق ويختزل الى شراطه الماهوية، فما السمات التي توحي بأن التاريخ لايجعل فقط الظاهراتية ممكنة، بل تؤشر حقيقة ان معنى التاريخ (المفهوم ظاهراتيا) يتضمن أصل الظاهراتية نفسها؟ ان فهم «معنى» الظاهراتية، كونها مشغولة بالتاريخ وموسومة تاريخيا، ان هذا الفهم يتخلى عن المشكلة القائلة ان مكان تلك الأصول يشتغل في نقطة تقاطع ظاهراتية التاريخ وتاريخ الظاهراتية. وفيما يتعلق بأصل الهندسة، فإن المناقشة تنصب على بداية علم يعالج موضوعات أبدية سابقة في وجودها على بداية ذلك العلم. وعلى نحو شبيه بذلك، سيتوجب على الظاهراتية ايضا ـ عندما تعنى بالتاريخ ـ ان تجابه مشكلة الاصول. ولكن مااصل مثل هذه الاصول؟ ان مثل هذه الاصول هي ذاتها متموضعة في التاريخ. وهذه الاصول تفرز ماله صلة بما كان قد حدث قبل زمنها (اي زمن الاصول). ومن هنا، فإن ما سيكون تاريخيا، وزمنيا، و «يحدث في الزمن»، يفرز ماهو لاتاريخي، ولازمني، و «يحدث خارج الزمن» وبالنسبة لدريدا، فإن الأصل الذي يشطر البداية التاريخية والنقش اللازمني هو الاصل الذي بحاجة لأن يبحث فيه. ومع ذلك فأننا نبحث في مثل هذه الاصول ـ التي هي اصول عديدة وسوف تظهر في أيما مكان يجابه فيه علم ما تاريخه الخاص ـ اقول ان بحث هذه الاصول يعني نقش وسم لا يمكن حسمه، الوسم المشتت في الاطار الواسع للبحوث العلمية وتاريخياتها. اذن، ما العلاقة بين أصول فوكو المتعددة (المشتتة خلل ممارسة خطابية) وأصول دريدا (المتعددة كذلك والمشتتة ايضا خلل ممارسات علمية، ولكنها تحتكم بشكل خاص الى موضوعات بحثية أبدية وكلية)؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال، لابد من ان ننظر مليا الى وصف الأصول لدى فوكو و «حفريات» دريدا. لقد نشرت دراسة دريدا مقدمة لاصل الهندسة في العام 1962، بعد ثلاثة عقود تقريبا من كتابة هوسيرل اصل الهندسة، وقد نشرت مقالة فوكو «نيتشة، الجينالوجيا، التاريخ» بتشجيع من الفيلسوف جان هيبوليت في العام 1971، بعد سنتين فقط من اصدار كتاب فوكو حفريات المعرفة، ويمكن ان تقوم مقالة فوكو المعنونة «نيتشة، الجينالوجيا، التاريخ» مقام مقدمة لكتابه حفريات المعرفة، بذات الطريقة التي قدمت فيها محاضرة فوكو الافتتاحية في الكوليج دي فرانس المعنونة «خطاب في اللغة» كخاتمة لكتاب حفريات المعرفة، وعلاوة على ذلك، فان مقالة فوكو «نيتشة، الجينالوجيا، التاريخ» 1971 هي ايضا مقدمة نوعا ما لكتاب نيتشة جينالوجيا الاخلاق، ما دامت تناقش ذلك النص وصياغته لمشكلة الاصول. وطبقا لذلك، ورغم ان فوكو جد معروف بمنهج «الحفريات» ومرتبط به، فان دريدا نشر في العام 1973 مقدمة لنص اخر ـ ليس نصا المانيا هذه المرة، وانما فرنسي، وليس من القرن التاسع عشر، وانما من القرن الثامن عشر ـ هو نص حفريات العابث الذي هو قراءة لنص كوندياك مقالة في اصل المعرفة الانسانية. فكيف نفهم جميع هذه المقالات، والمقدمات، والخاتمات، كيف نفهم هذه المعابر والمراسلات؟ وكيف تسعفنا في فرز مشكلة الاصول وهي مشتتة الآن في نصوص فوكو ودريدا؟ أولا، سيكون واضحا ان مقدمة دريدا لكتاب اصل الهندسة 1962 هي مقدمة متأخرة عنه، وهي دراسة لمشكلة الاصول، وكذلك الامر بالنسبة لفوكو في مقالته «نيتشة، الجينالوجيا، التاريخ»، فهي مقدمة متأخرة عن كتاب نيتشه جينالوجيا الاخلاق 1887. وعندما يعرض كتاب فوكو حفريات المعرفة كوصف لمنهجه في الحفريات، فانه يسير سلفا صوب جينالوجيا. وعلى نحو مشابه، فان كتاب دريدا حفريات العابث (نشر بعد اربعة اعوام من كتاب فوكو في العام 1973) هو قراءة لدراسة كوندياك لاصل المعرفة، وهو نظير لكتاب فوكو حفريات المعرفة، وعلاوة على ذلك، فانه يصف تحول دريدا من علم الكتابة 1967 الى التفكيكية 1974، اذن ما الذي يقال عن هذه المناهج المختلفة، وعن مزاعم المعرفة هذه، وعن هذه الابحاث الأصلية؟ وبالرجوع الى الاقتران بين مقالة فوكو عن الاصول «نيتشة، الجينالوجيا، التاريخ» ومقالة دريدا عن الاصول «مقدمة لاصل الهندسة» نجد ان الاصول نفسها كانت قد نُحيت في عملية البحث عن الاصول. فالحاجة الى تأصيل مفرد هي حاجة شاذة، ومنحرفة، ومتجاوزة كونها لا تتموقع في أي مكان، لا في التاريخ، ولا في تأويل التاريخ. ان ما يبقى مسكوتا عنه في وصف الاصول، في وصف الاصل بمظاهره المتعددة، هو نص اخر، هو نص متناص، نص كان معاصرا تقريبا لكتاب هوسيرل اصل الهندسة. هذا النص ـ المحدد تاريخيا في العام 1935 ـ 1936 ـ هو مقالة هيدجر اصل العمل الفني، تقدم مقالة هيدجر صياغة اخرى لـ «الاصل» ـ الاصل فيما يتعلق بالعمل الفني ـ ومع ذلك فهي، في النهاية، تقدم الفهم نفسه للأصل. فبحسب هيدجر، تخفق محاولة تجلية الاصل كأصل مفرد وموحد، ومتموقع في مكان وزمان محددين. ومن الواضح ان في كل مرة ينوه المرء بالاصل اصلا مفردا وجزئيا، يثبت، في النهاية، انه اصل متعدد وقابل للتكرار. يبدأ هيدجر مقالته بالتساؤل عن اصل العمل الفني. ومن ثم يفترض ـ طبقا لنظرة سائدة ـ ان الفنان هو اصل العمل الفني. فالفنان هو الذي يولد العمل الفني، والفنان ينتج اللوحة، والرواية، والتمثال، فلماذا لا نقول ان الفنان هو اصل العمل الفني؟ لكن هيدجر يلاحظ، من بعد، ان للفنان اصلا ايضا. ثم ينتهي الى ان اصل الفنان هو العمل الفني نفسه. بمعنى انه لن يكون هناك فنان اذا لم يبدع المرء اعمالا او ينتج موضوعات بهدف المتعة، والفحص الدقيق، والنقد. فالفنان يكتسب مكانته الخاصة كفنان من الاعمال التي يمكن ان تعزى لذلك الفنان. وعلى نحو مشابه، فان لكل من الفنان والعمل الفني معا اصلا اخر. هذا الاصل الاخر ليس هو الفنان ولا العمل الفني، بل هو، بالاحرى، «الفن» نفسه الذي يحتل الميدان العام الذي يشتغل فيه الفنان والعمل الفني. ومن هنا، لن يكون الفنان فنانا عندما لا يكون هناك تصور عام عن الفن، او في الاقل فهم عام على الشيء الذي يشكل الفن، او الشيء الذي لا يشكله. لو سلم المرء ان فكرة الاصل نفسها قد انقسمت على ثلاثة اصول: اي الفنان، والعمل الفني، والفن، فقد يظن ان هيدجر سيتوقف عند هذا الحد. لكنه لن يتوقف. ففي الحقيقة، يواصل هيدجر التساؤل عن اصل الفن. وفي هذه الحالة، تكون الاجابة ان اصل الفن هو العمل الفني نفسه، وهذا يعني ان هيدرجر قد عاد الى المكان الذي بدأ منه. والعودة الى البداية تعني ان البداية هي المكان الذي يتموضع فيه احد الاصول. وبأي حال، فان تلك البداية هي (وقد كانت) بداية زمنية ما دامت عملية البحث كلها الناشئة من تلك البداية تبين فقط انها ليست بداية حقيقية، بل بالاحرى هي خطوة على امتداد طريق دائرة البحث المتقدمة باستمرار. يدعو هيدجر هذه الحركة «دائرة». وان تكون هذه الحركة دائرة، فهذا ليس امرا مهما، فما هو مهم هو انها تكاثر مفهوم الاصل نفسه. وعلاوة على ذلك، يبين تكاثر الاصول بجلاء ان الاصل، بالنسبة لهيدجر، ليس في مكان واحد بل في أمكنة متعددة. ومما له دلالة ان هذا التأصيل المتعدد او تكاثر الاصول يقيم، رغم ذلك، ميدانا تتحقق فيه عملية التأصيل. هذا الميدان او الفضاء هو فضاء التكشف، والوضوح، ولكنه فضاء الانكشاف، واظهار المتحجب، والحقيقة. وما هو خطأ عند نيتشة هو، عند هيدجر، مظهر لما يبدو أساسيا، ومع ذلك، اذا اتبع المرء صياغة هيدجر بعناية، يصبح واضحا ان الحقيقة، بالنسبة له، ليست مجرد ارضية، او مجرد اساس، او مجرد مكان تستمد منه معرفة اخرى، او فهم اخر. فالحقيقة ليست ذلك الشيء الذي يتوجه اليه البحث كغاية. بل بالاحرى، تتكشف الحقيقة في فضاء تمييزي، وفي انفتاح، وفي وضوح، في مكان لا يمكن ان يوجد فيه لا العمل الفني، ولا الفنان، ولا الفن نفسه، وبالمقابل، فان الحقيقة توجد بالضبط حيثما لا يكون هناك اصل، ولا اساس، ولا مصدر، ولا قاعدة للفهم. وهذا يعني ان الحقيقة تتكشف عبر الاختلاف فقط، وعبر السلب فقط، وعبر كونها لا تمثل أصلا فقط. او لنعبر عن ذلك بصيغة اخرى، الحقيقة هي ذلك الفضاء، او المكان الذي ينشأ من تعدد الاصول وتكاثرها، ومن هنا، تعتمد الحقيقة على التأصيل المتعدد، وعلى انتشار الاصل تماما مثلما يحدث مع خطاب تكشف الشعر، او تكشف العمل الفني، وفيما يتعلق بالقضايا الجمالية، فإن الفهم الفني أو الخطاب الذي تكون فيه الجمالية والنصية الجمالية موضع تساؤل انما هو فهم وخطاب ينشأ عن تكاثر الاصول وتكرارها. ان وضع هذا التصور الهيدجري للأصل في علاقة بفوكو ودريدا معا سيفضي الى اعادة صياغة التصور نفسه عن الاصل، وان ما تكشفه الحفريات هو تعدد الممارسات الخطابية. وما ينتجه تفكيك الاصل هو اعادة وتكرار لمثل ذلك الاصل، وهو ليس بداية، ولا حتى بداية سلالة. بل بالاحرى هو حد فقط، هو هامش غير متحقق، وغير مندرج بحد ذاته في التاريخ، ان ما ينتجه اكتشاف هيدجر هو نقش للفضاء التمييزي، المحدد بمتتالية كلية من الاصول، فضاء يكون ماهو متكشف فيه انكارا للأصل في الفن، وفي الادب، وفي الفلسفة، وفي التاريخ. وفي ذلك الفضاء التمييزي، فإن تتخيم الاصول، ذلك التتخيم الذي لا يؤصل، ينتج تعددية في الخطابات، وكل واحد من هذه الخطابات يقع في زمن معين تاريخيا، وكل واحد منها يعين الجانب التاريخي بوصفه جانب ما يقرأ في امكنة متنوعة، وبوسوم متنوعة، وبموجب سلسلة محددة او مجموعة غير مترابطة من الحوادث، والنصوص، والمواقف المروية. اذ لا يمكن استبدال حدث، او نص، او موقف بآخر، ومع ذلك لا يمكن لتركيب مكتشف من الممارسات الخطابية ان يحقق سيطرة على ما تم استبداله، ان القيام بنقش مجموعة او تركيب من الحوادث المنطوقة يتبع ازمة ما. فهذه المجموعة من الحوادث ليس لها، بحد ذاتها، اصل آخر غير تكشفها الخاص، وليس لها مهمة اخرى غير سيادتها الخاصة في سياق محددة، وفي لحظة زمنية محددة. |