حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
محاورات مورفيوس - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: عـــــــــلــــــــــوم (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=6) +--- المنتدى: فلسفة وعلم نفس (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=84) +--- الموضوع: محاورات مورفيوس (/showthread.php?tid=20712) |
محاورات مورفيوس - محارب النور - 02-07-2006 (1-3) هناك أغنية شهيرة للمغنّي الإنجليزي جون لينون إسمها "مُراقباً الدولاب Watching The Wheels"، يقول فيها: يقولُ الناسُ إنّي كسولٌ، أهدرُ بالأحلام حياتي يقدّمون لي كلّ نصيحةٍ، خصوصاً لإرشادي وحين أقولُ "إنّي بخير، أراقبُ الظلالَ على الجدار" يقولون: أفلتَ منك الزمنُ يا غلام، فلم تعدْ هنا على الأرض. فعن أيّ جدار يتحدث جون لينون، والى أيّة ظلال يشير!؟ ما وراء الظلال: رحلة إلى كهف أفلاطون في الفصل السابع من كتاب "الجمهورية" يحاول أفلاطون أن يشرح لمحاوره مقولةً لسقراط تهدف إلى تبيان ما للتهذيب الحقيقيّ من خطورة وأهمية في تنشئة الجيل. إنه يتصوّر طائفة من الناس مكبّلين بالسلاسل منذ ولادتهم ويقيمون في كهف، ظهورهم مقابلة لمدخلهِ ووراءهم نار مشتعلة ذات لهب. بين النار والناس هنالك طريق يمرّ عليه الناس، وأمام هؤلاء الناس جدار يصل إلى مستوى رؤوسهم فيخفيها، إلاّ أنه يسمح فقط برؤية ما يحملونه فوقها من أشياء، فتلقي تلك الأشياءُ، بسبب اللهب، ظلالَها على جدران الكهوف أمام أعين السجناء، فتتراءى تلك الظلال لهم على أنها هي اليقينيات الوحيدة. ثم يفترض أفلاطون أنّ أحد السجناء قد حلّ أغلاله وخرج إلى ضوء النهار فألِفَ، بالتدريج، رؤيةَ ما حوله فتسنّى له إدراك حقيقتها. يقول أفلاطون أنّ نسبة هذا الرجل إلى السجناء السفليين كنسبة الفيلسوف إلى العامة المهذّبين تهذيباً ناقصاً. فإذا ما عاد إلى الكهف واستأنف مركزه وعمله السابق فإنه سيكون أول الأمر عرضةً لهزء رفاقه فيما لو حاول تبيان "حقيقة" تلك الظلال لهم، بالضبط كما أن الفيلسوف الحقيقي هو موضوع لهزء الناس وسخريتهم، لأنّ معرفته ـ حسب أفلاطون ـ ستكون فائقةً على معرفة رفقائه باعتبار الظلال والحقائق التي وراءها. غمائم على عينيّ الحصان : يسمّي البروفسور علي الورديّ هذه الحالة:"التنويم الاجتماعي"، والمعارف المحدودة التي يتلقاها الناس تلقيناً منذ الصغر:"الإطار الفكريّ". والإطار الفكري الذي يقصده الورديّ هو الإطار الذي اعتاد الإنسان أن ينظر إلى الكون من خلاله، وهو إطار يحدد مجال نظره ويقولب تأويلاته ويحكم تفسيراته وفهمه للأشياء، ويشبّهه هنا بالإطار الجلديّ الذي يوضع على جانبي عينيّ الحصان "الغمامتان"، لكي يتوجّه ببصره إلى أمام بشكل دائم، فلا يرتبك أو يتطوّح في سيره. يقول علي الورديّ في كتابه "خوارق اللاشعور": إنّ الإطار الفكريّ الذي ينظر الإنسان من خلاله إلى الكون، مؤلَّفٌ جزؤه الأكبر من المصطلحات والمألوفات والمفترضات التي يوحي بها المجتمع إليه ويغرزها في أعماق عقله الباطن. فالإنسان متأثّر بها من حيث لا يشعر. فهو حين ينظر إلى ما حوله لا يدرك أنّ نظرته مقيدة ومحدودة. وكلّ يقينه أنه حرّ في تفكيره! ويحدد لنا الورديّ ثلاثة أنواع من القيود التي يرسف فيها عقل الإنسان، وهي هنا تشاكل القيود التي يرسف فيها السجناء الذين تحدثتْ عنهم أمثولة الكهف في كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، وهي حسب تصنيف الورديّ: القيود النفسية: وهي مجموعة معقّدة من الرغبات المكبوتة والعواطف المشبوبة والاتجاهات الدفينة في داخل كل إنسان. القيود الاجتماعية: وهي علاقات التعصب الوطني، الطبقي أو الطائفيّ للجماعة التي ينتمي إليها الإنسان. القيود الحضارية: وهي القيم الثقافية والأهداف الاجتماعية التي يتربّى عليها الإنسان منذ الصغر وينشأ في أحضانها، والتي تتغلغل عميقاً في لا شعوره حتى تصبح جزءاً لا يتجزّأ من منطقهِ وأسلوب تفكيره. إذنْ، فالإنسان الذي يولد حرّاً في "كهف الماتريكس" فإنما يولد والقيود مهيّأة له منذ الولادة لتكبيل عقله في سجن فكريّ لن يستطيع الخروج منه إلاّ بمقاومة ذاتية رهيبة لتلك القيود التي تكبّله وتشلّ حركة مقاومته تجاه كل ما هو مختلف ولا يتفق مع "حقيقة" الجماعة التي ولد في كهفها، لذا فمن النادر أن نرى إنسلاخات فكرية لأفراد ينتمون إلى مجموعة بشرية معينة تعتنق ديناً أو مذهباً بعينه والانضمام لجماعة أخرى لا تشاكل منظومتها الفكرية والاجتماعية تلك التي نشأ عليها، كتحوّل السيخيّ إلى مُسلم، أو المسلم إلى بوذيّ مثلاً. فكل فرد من هؤلاء يعتقد أنه وحده الذي يستأثر بحقيقة الوجود التي تمثلها طائفته ويحملها دينه، ومن الممكن أن يستميت من أجل فكرها أو يبيد المخالفين لها، ويشكل التأريخ بمجمله وثائق حيّة تدعم هذا الأمر، ومن يقرأ تاريخ الإبادات الجماعية يستنتج أنها تأريخ لصراع الأفكار والقيم بين كهفين مختلفين لا أكثر، فلكل أمريء من دهره ما تعوّدا، وكلّ حزبٍ بما لديهم فرحون. إذنْ فإنّ "الثقافةَ" إنما هي محضُ وهمٍ، و"العقل" هو عادة فكرية لا أكثر، فالإنسان الذي يتربّى في أحضان جماعة معينة وينشأ بين ظهرانيهم يخضع لما يسميه الورديّ بـ "التنويم الاجتماعي"، فالقيم والأفكار والسلوكيات التي يتطبّع بها إنما هي القيم والأفكار والسلوكيات السائدة لتلك الجماعة، والتي يزعم الإنسان، حين يدافع عنها، أنها هي الحقيقة العليا التي توصّل إليها بعقله وأن كل الأدلّة العقلية والنقلية تؤيد ذلك "الوهم الجماعيّ" الذي يؤمن به. ولذلك فأن حركة تفكير الإنسان هنا تخضع للجاذبية الأرضية، وقد ندر وجود مَن أفلت من منطقة الجذب أو الشدّ الفكري هذه وانطلق محلقاً في فلك الأفكار الكونيّ، خارقاً منطقة الجذب تلك، بعيداً عن جماعته التي ترسف في تلك الأغلال، أغلال الوهم التي كبّلها بها أسلافها، والتي سيكبلون بها أبناءهم بعد ذلك، وهكذا دواليك. وفي حديث نبويّ يقول "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه"، أي أنّ الإنسان يولد كصفحةٍ بيضاء يتولى الكتابة عليها أهله ومجتمعه فيجعلونه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً. لذلك لا يستغربنّ أحد أن ينكر الإنسانُ المفاهيمَ والأفكارَ التي تعارض ما نشأ عليها عقلُه الباطن، بل المستغرب أن ينكر ما هو وأهله عليه، فمن الأقوال التي كان يرددها الإمام الغزالي في كتبه "أنّ الإنسان يستغرب ما لم يعهده، حتى لو حدّثه أحَدٌ أنه لو حكّ خشبة بخشبة ليُخرجَ منها شيئاً أحمر، بمقدار عدسةٍ، يأكل هذه البلدة وأهلها، ولم يكن رأى النار قطّ، لاستغربَ ذلك وأنكره"، فدعونا الآن ننهض مع السيد توماس أندرسن "نيو" من غفوته على طاولة الكومبيوتر... مع "نيو" في جحر الأرنب : "إنهض يا نيو فالماتركس إمتلكك!". في لحظات البرزخ الذي تتلاشى فيه الحدود بين الحلم والحقيقة، لحظات التحرر من قيد العقل والإطار الفكريّ، يجيؤه هذا النداء من الماوراء، نداء يصيبه بالرجفة ويجعله يغيّر كل حياته ويصعقه، تماماً كما صعق النبي محمد حين جاءه نداء الوحيّ في غار حراء وجعله مذهولاً يرتجف طوال يومه ليغير حياته وحياة قومه كلها فيما بعد. فـ"نيو" الغافي على طاولته أمام كومبيوتره الذي تركه في حالة "بحث Searching" ونام مربوط العقل به عبر أسلاك جهاز الإنصات يصحو فجأة مذعوراً على صوت هذا الهتاف الذي أتاه من وراء عالم الماتركس كأنه إشارة استغاثة من بعيد.. وحين يتساءل عن كنه هذا النداء يجيبه الهتاف ثانيةً: "إتبعْ الأرنب الأبيض!"، إنه صدى للنداء الذي تلقّاه ملوك المجوس من اللاوراء لتتبع النجم الذي سيدلّهم إلى الحظيرة التي ولد فيها المسيح، حيث بداية تأريخ وعهد جديد. إنّ الإشارات التي أعطيت لنيو تضمّنت إجابة قبل سؤال، وهي تقوم هنا مقام الإشارات النبوئيّة للمخلّصين، إنّها ذات الإشارات التي وصلت إلى بوذا العظيم وموسى وعيسى للخروج من الدائرة الماتركسية لمجتمعاتهم المقنّنة، لذلك فإن بشارة المسيح كانت بشارة هدمٍ تدمير "جئتُ لأنقض لا لكي أبني"، وهذا النداء نفسه سيردّده نبيّ نيتشة الزرادشتيّ فيما بعد. ولا يقطع هذا الحوار المفزع بين "نيو" وما وراء الغيب إلاّ صوت طارقٍ على الباب... فنيو، كما يتكشّف لنا هنا، إسم مستعار لقرصان ألكتروني Haker، ينتحله السيد توماس أندرسن، الموظف المدنيّ في شركة للبرمجيات، يمارس من خلاله هوايته المفضّلة: إختراق النظام والإستحواذ على الملفات الرسمية ومن ثم بيعها لمن يرغب من الزبائن والفضوليين. ـ "هل شعرت يوماً أنك تجهل إنْ كنتَ مستيقظاً أم حالماً؟"، يساءل "نيو" أحد زبائنه كما يساءل المرء نفسه، أو كمن لا ينتظر جواباً، فيجيبه الزبون كأنّه يتحدّث في حلم "طوال الوقت، يسمونه مخدّر مسكلين mescaline". إنهم ضحايا العالم الماتركسي، حيث يختلط الشيء باللاشيء، والواقع بالوهم، والحياة بالعدم، والصورة بمجازها. وقبل أن يرحل الزوّار يدعونه للخروج إلى المرح مثلهم، وهنا تظهر العلامة: أرنب أبيض موشوم على الكتف اليسار لإحدى الفتيات اللواتي بصحبة ذلك الزبون (اليسار أيضاً لتوكيد هويّة المجموعة المتمرّدة على النظام)، هذا الأرنب ستتكرّر الإشارة إليه فيما بعد، لذا فإنّي أرى من الضروري أن نعرف، باختصار، شيئاً عن حكايته قبل أن نلج في ثنايا المحاورة الأولى لمورفيوس. من ابداع جمال جمعة الرسام العراقي محارب النور أبدي محاورات مورفيوس - محارب النور - 02-07-2006 (2-3) هناك أغنية شهيرة للمغنّي الإنجليزي جون لينون إسمها "مُراقباً الدولاب Watching The Wheels"، يقول فيها: يقولُ الناسُ إنّي كسولٌ، أهدرُ بالأحلام حياتي يقدّمون لي كلّ نصيحةٍ، خصوصاً لإرشادي وحين أقولُ "إنّي بخير، أراقبُ الظلالَ على الجدار" يقولون: أفلتَ منك الزمنُ يا غلام، فلم تعدْ هنا على الأرض. فعن أيّ جدار يتحدث جون لينون، والى أيّة ظلال يشير!؟ ما وراء الظلال: رحلة إلى كهف أفلاطون في الفصل السابع من كتاب "الجمهورية" يحاول أفلاطون أن يشرح لمحاوره مقولةً لسقراط تهدف إلى تبيان ما للتهذيب الحقيقيّ من خطورة وأهمية في تنشئة الجيل. إنه يتصوّر طائفة من الناس مكبّلين بالسلاسل منذ ولادتهم ويقيمون في كهف، ظهورهم مقابلة لمدخلهِ ووراءهم نار مشتعلة ذات لهب. بين النار والناس هنالك طريق يمرّ عليه الناس، وأمام هؤلاء الناس جدار يصل إلى مستوى رؤوسهم فيخفيها، إلاّ أنه يسمح فقط برؤية ما يحملونه فوقها من أشياء، فتلقي تلك الأشياءُ، بسبب اللهب، ظلالَها على جدران الكهوف أمام أعين السجناء، فتتراءى تلك الظلال لهم على أنها هي اليقينيات الوحيدة. ثم يفترض أفلاطون أنّ أحد السجناء قد حلّ أغلاله وخرج إلى ضوء النهار فألِفَ، بالتدريج، رؤيةَ ما حوله فتسنّى له إدراك حقيقتها. يقول أفلاطون أنّ نسبة هذا الرجل إلى السجناء السفليين كنسبة الفيلسوف إلى العامة المهذّبين تهذيباً ناقصاً. فإذا ما عاد إلى الكهف واستأنف مركزه وعمله السابق فإنه سيكون أول الأمر عرضةً لهزء رفاقه فيما لو حاول تبيان "حقيقة" تلك الظلال لهم، بالضبط كما أن الفيلسوف الحقيقي هو موضوع لهزء الناس وسخريتهم، لأنّ معرفته ـ حسب أفلاطون ـ ستكون فائقةً على معرفة رفقائه باعتبار الظلال والحقائق التي وراءها. غمائم على عينيّ الحصان : يسمّي البروفسور علي الورديّ هذه الحالة:"التنويم الاجتماعي"، والمعارف المحدودة التي يتلقاها الناس تلقيناً منذ الصغر:"الإطار الفكريّ". والإطار الفكري الذي يقصده الورديّ هو الإطار الذي اعتاد الإنسان أن ينظر إلى الكون من خلاله، وهو إطار يحدد مجال نظره ويقولب تأويلاته ويحكم تفسيراته وفهمه للأشياء، ويشبّهه هنا بالإطار الجلديّ الذي يوضع على جانبي عينيّ الحصان "الغمامتان"، لكي يتوجّه ببصره إلى أمام بشكل دائم، فلا يرتبك أو يتطوّح في سيره. يقول علي الورديّ في كتابه "خوارق اللاشعور": إنّ الإطار الفكريّ الذي ينظر الإنسان من خلاله إلى الكون، مؤلَّفٌ جزؤه الأكبر من المصطلحات والمألوفات والمفترضات التي يوحي بها المجتمع إليه ويغرزها في أعماق عقله الباطن. فالإنسان متأثّر بها من حيث لا يشعر. فهو حين ينظر إلى ما حوله لا يدرك أنّ نظرته مقيدة ومحدودة. وكلّ يقينه أنه حرّ في تفكيره! ويحدد لنا الورديّ ثلاثة أنواع من القيود التي يرسف فيها عقل الإنسان، وهي هنا تشاكل القيود التي يرسف فيها السجناء الذين تحدثتْ عنهم أمثولة الكهف في كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، وهي حسب تصنيف الورديّ: القيود النفسية: وهي مجموعة معقّدة من الرغبات المكبوتة والعواطف المشبوبة والاتجاهات الدفينة في داخل كل إنسان. القيود الاجتماعية: وهي علاقات التعصب الوطني، الطبقي أو الطائفيّ للجماعة التي ينتمي إليها الإنسان. القيود الحضارية: وهي القيم الثقافية والأهداف الاجتماعية التي يتربّى عليها الإنسان منذ الصغر وينشأ في أحضانها، والتي تتغلغل عميقاً في لا شعوره حتى تصبح جزءاً لا يتجزّأ من منطقهِ وأسلوب تفكيره. إذنْ، فالإنسان الذي يولد حرّاً في "كهف الماتريكس" فإنما يولد والقيود مهيّأة له منذ الولادة لتكبيل عقله في سجن فكريّ لن يستطيع الخروج منه إلاّ بمقاومة ذاتية رهيبة لتلك القيود التي تكبّله وتشلّ حركة مقاومته تجاه كل ما هو مختلف ولا يتفق مع "حقيقة" الجماعة التي ولد في كهفها، لذا فمن النادر أن نرى إنسلاخات فكرية لأفراد ينتمون إلى مجموعة بشرية معينة تعتنق ديناً أو مذهباً بعينه والانضمام لجماعة أخرى لا تشاكل منظومتها الفكرية والاجتماعية تلك التي نشأ عليها، كتحوّل السيخيّ إلى مُسلم، أو المسلم إلى بوذيّ مثلاً. فكل فرد من هؤلاء يعتقد أنه وحده الذي يستأثر بحقيقة الوجود التي تمثلها طائفته ويحملها دينه، ومن الممكن أن يستميت من أجل فكرها أو يبيد المخالفين لها، ويشكل التأريخ بمجمله وثائق حيّة تدعم هذا الأمر، ومن يقرأ تاريخ الإبادات الجماعية يستنتج أنها تأريخ لصراع الأفكار والقيم بين كهفين مختلفين لا أكثر، فلكل أمريء من دهره ما تعوّدا، وكلّ حزبٍ بما لديهم فرحون. إذنْ فإنّ "الثقافةَ" إنما هي محضُ وهمٍ، و"العقل" هو عادة فكرية لا أكثر، فالإنسان الذي يتربّى في أحضان جماعة معينة وينشأ بين ظهرانيهم يخضع لما يسميه الورديّ بـ "التنويم الاجتماعي"، فالقيم والأفكار والسلوكيات التي يتطبّع بها إنما هي القيم والأفكار والسلوكيات السائدة لتلك الجماعة، والتي يزعم الإنسان، حين يدافع عنها، أنها هي الحقيقة العليا التي توصّل إليها بعقله وأن كل الأدلّة العقلية والنقلية تؤيد ذلك "الوهم الجماعيّ" الذي يؤمن به. ولذلك فأن حركة تفكير الإنسان هنا تخضع للجاذبية الأرضية، وقد ندر وجود مَن أفلت من منطقة الجذب أو الشدّ الفكري هذه وانطلق محلقاً في فلك الأفكار الكونيّ، خارقاً منطقة الجذب تلك، بعيداً عن جماعته التي ترسف في تلك الأغلال، أغلال الوهم التي كبّلها بها أسلافها، والتي سيكبلون بها أبناءهم بعد ذلك، وهكذا دواليك. وفي حديث نبويّ يقول "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه"، أي أنّ الإنسان يولد كصفحةٍ بيضاء يتولى الكتابة عليها أهله ومجتمعه فيجعلونه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً. لذلك لا يستغربنّ أحد أن ينكر الإنسانُ المفاهيمَ والأفكارَ التي تعارض ما نشأ عليها عقلُه الباطن، بل المستغرب أن ينكر ما هو وأهله عليه، فمن الأقوال التي كان يرددها الإمام الغزالي في كتبه "أنّ الإنسان يستغرب ما لم يعهده، حتى لو حدّثه أحَدٌ أنه لو حكّ خشبة بخشبة ليُخرجَ منها شيئاً أحمر، بمقدار عدسةٍ، يأكل هذه البلدة وأهلها، ولم يكن رأى النار قطّ، لاستغربَ ذلك وأنكره"، فدعونا الآن ننهض مع السيد توماس أندرسن "نيو" من غفوته على طاولة الكومبيوتر... مع "نيو" في جحر الأرنب : "إنهض يا نيو فالماتركس إمتلكك!". في لحظات البرزخ الذي تتلاشى فيه الحدود بين الحلم والحقيقة، لحظات التحرر من قيد العقل والإطار الفكريّ، يجيؤه هذا النداء من الماوراء، نداء يصيبه بالرجفة ويجعله يغيّر كل حياته ويصعقه، تماماً كما صعق النبي محمد حين جاءه نداء الوحيّ في غار حراء وجعله مذهولاً يرتجف طوال يومه ليغير حياته وحياة قومه كلها فيما بعد. فـ"نيو" الغافي على طاولته أمام كومبيوتره الذي تركه في حالة "بحث Searching" ونام مربوط العقل به عبر أسلاك جهاز الإنصات يصحو فجأة مذعوراً على صوت هذا الهتاف الذي أتاه من وراء عالم الماتركس كأنه إشارة استغاثة من بعيد.. وحين يتساءل عن كنه هذا النداء يجيبه الهتاف ثانيةً: "إتبعْ الأرنب الأبيض!"، إنه صدى للنداء الذي تلقّاه ملوك المجوس من اللاوراء لتتبع النجم الذي سيدلّهم إلى الحظيرة التي ولد فيها المسيح، حيث بداية تأريخ وعهد جديد. إنّ الإشارات التي أعطيت لنيو تضمّنت إجابة قبل سؤال، وهي تقوم هنا مقام الإشارات النبوئيّة للمخلّصين، إنّها ذات الإشارات التي وصلت إلى بوذا العظيم وموسى وعيسى للخروج من الدائرة الماتركسية لمجتمعاتهم المقنّنة، لذلك فإن بشارة المسيح كانت بشارة هدمٍ تدمير "جئتُ لأنقض لا لكي أبني"، وهذا النداء نفسه سيردّده نبيّ نيتشة الزرادشتيّ فيما بعد. ولا يقطع هذا الحوار المفزع بين "نيو" وما وراء الغيب إلاّ صوت طارقٍ على الباب... فنيو، كما يتكشّف لنا هنا، إسم مستعار لقرصان ألكتروني Haker، ينتحله السيد توماس أندرسن، الموظف المدنيّ في شركة للبرمجيات، يمارس من خلاله هوايته المفضّلة: إختراق النظام والإستحواذ على الملفات الرسمية ومن ثم بيعها لمن يرغب من الزبائن والفضوليين. ـ "هل شعرت يوماً أنك تجهل إنْ كنتَ مستيقظاً أم حالماً؟"، يساءل "نيو" أحد زبائنه كما يساءل المرء نفسه، أو كمن لا ينتظر جواباً، فيجيبه الزبون كأنّه يتحدّث في حلم "طوال الوقت، يسمونه مخدّر مسكلين mescaline". إنهم ضحايا العالم الماتركسي، حيث يختلط الشيء باللاشيء، والواقع بالوهم، والحياة بالعدم، والصورة بمجازها. وقبل أن يرحل الزوّار يدعونه للخروج إلى المرح مثلهم، وهنا تظهر العلامة: أرنب أبيض موشوم على الكتف اليسار لإحدى الفتيات اللواتي بصحبة ذلك الزبون (اليسار أيضاً لتوكيد هويّة المجموعة المتمرّدة على النظام)، هذا الأرنب ستتكرّر الإشارة إليه فيما بعد، لذا فإنّي أرى من الضروري أن نعرف، باختصار، شيئاً عن حكايته قبل أن نلج في ثنايا المحاورة الأولى لمورفيوس. يذكر مدوّنو سيرة كارول أنه كان منطقيّاً صارماً جداً في حياته، يبتكر دائماً أكثر الطرق فاعلية لإتمام مهمته. وبسبب صعوبات النوم لديه (مثل نيو) فقد إخترع ما يُعرف بالنيكتوغراف Nyctograph، وهي أداة لأخذ الملاحظات في السرير أثناء الليل أو تحت تأثير تبدلات الذهن، مستنبطاً طريقةً فذّة لدعم الذاكرة وتنظيف رأسه من الأفكار التي تراوده أثناء محاولته النوم. كتب رسالة إلى عالم الإحصاء الانجليزي، أو "أبو الإحصاء" كما يُدعى، تشارلز باباج Charles Babbage، مقدماً له نصائح ثمينة تتمحور حول كيفية تطوير آلته الحاسبة. طوّر كارول كذلك الناسخة الهلامية Hectograph، وآلة الطباعة اليدوية التي تعرف بطابعة هاموند Hammond Type-Writer، إضافة إلى أداة تصوير الوثائق البدائية المعروفة بإسم قلم أديسون الكهربائي Edison's electric pen. أما على صعيد الاكتشافات الظريفة فقد ابتكر كارول قاعدة لإيجاد اليوم من كل أسبوع في أيّ تاريخ وقوانين للفوز في المراهنات وقواعد لتنظيم التحكيم في دورات التنس. كما أبتكر مقياساً لقياس نسبة المشروب الكحوليّ Liquor. وبسبب ولعه الشديد بلعب الشطرنج إخترع رقعة شطرنج خاصة للسفر، كما برع كذلك في إنشاء الألعاب التي تعتمد على المنطق والكلمات المترادفة ومزدوجة المعنى، وهذه البراعة تتجلى كثيراً في أعماله التي كتبها إلى أليس مثل "مغامرات أليس1865 " و "عبر المرآة1871 " التي كانت بطلتها أليس أيضاً، وقد مارسها حتى على شخصه، فحين أصدر شارلز لوتويدج دودجسن Charles Lutwidge Dodgson حكايته الشهيرة عن مغامرات أليس لم يمهرها باسمه الحقيقيّ، بل قام بلعبة لغوية، أشبه ما تكون بالخدع السحرية التي كان يقوم بها في طفولته، لتغيير اسمه وإبقائه كما هو في نفس الوقت، إنه مزيف وحقيقيّ أيضاً (هنا تجسيد للتشبيه والمحاكاة طبقاً لبودريارد ـ راجع المقال الأول)، إذ قام بترجمة اسميه الأولين Charles Lutwidge إلى اللغة اللاتينية ليصبح اسمه "Carolus Lodovicus"، ثم قام بأنْجَلزَتِه (أي جعله إنجليزياً صرفاً) وقلبه، ليتحوّل إلى لويس كارول "Lewis Carroll". هذه الألعاب اللغوية واحدة من براعات كارول التي يُشهد له بها في لغته الأمّ، فغالباً ما كان يقوم بتوليفات لغوية جديدة من خلال دمج كلمتين مع بعضهما للخروج بكلمة جيدة تحمل معنى مزدوجاً في الانجليزية. هذه البراعة متأتية له طبعاً من خلال ذهنيته كعالم بالمنطق وأستاذ للرياضيات وعلينا أخذها بالحسبان حينما نمرّ فيما بعد على أسماء الشخوص الذين سنصادفهم في عالم الماتركس، فغالباً ما تحمل أسماء الشخوص عند كارول وفي فلم الماتركس معاني مزدوجة، فهي ليست مسمّيات عابرة لتحديد هويّة أشخاص أو كائنات افتراضية فقط بل إحالات ثقافية غالباً ما تحمل أبعاداً دينية أو سياسية تقتضي استدعائها إذا أردنا فهم النصّ الماتركسيّ. إنها الصورة والمعنى، الرنين والدلالة، والنسخة والمحاكاة في الوقت ذاته. محارب النور أبدي محاورات مورفيوس - محارب النور - 02-07-2006 (3-3) السقوط إلى الأعلى : في مقال سيكلوجي للكاتب السويديّ جيري ماتّا Jerry Maatta، حاول فيه تحليل سيكلوجية أليس داخل الهوّة واستبطان ردود فعلها مطابقاً بين السقوط في الهوّة وبين الدخول في مرحلة المراهقة بالنسبة للفتيات اللواتي بعمر أليس، حيث تنضج تجربتها خارج البيت وتشعرها الأحداث بانفلات الزمام من ترتيبها المنطقيّ البسيط لعقلها الطفوليّ الذي يتعرض لتلك الرجّة النفسية بعد السقوط في الهوّة، وهي مسافة تحولها من طفلة بريئة إلى امرأة ناضجة، فمشاعر أليس تتحوّل بشكل فجائيّ من المرح إلى الضيق والتبرّم في الفصول التي تلي فصل السقوط في هاوية الأرنب، وغالباً ما يدفعها اضطرارها لإطاعة قوانين بلاد العجائب إلى البكاء والغضب. تشاكل هذه التجربة، برأيي، تجربة السيد توماس أندرسن بعد تناوله الكبسولة الحمراء وانكشاف حقيقة "العالم الواقعي" له، فالرعب والقلق والرفض لما انكشف لعينيه من جديد رجّ نفسية السيد أندرسن بشكل كاد يدفع به إلى الجنون، إلاّ أنها كانت تجربة جعلته أكثر وعياً واشدّ إصراراً على مواجهة العالم الجديد المزيف، فقد جعلته صدمة التجربة تلك، والتي تشابه صدمة أليس في بلاد العجائب، أكثر نضجاً وأشدّ وعياً للعالم الذي هو فيه، فقد بدأ يرى الأحداث بعين أخرى. دعونا الآن نعود إلى حكاية أخرى من الحكايات الخرافية التي كتبها كارول، وكانت بطلتها أليس طبعاً، لنطابق بينها وبين أحد مشاهد الماتركس. في حكايته "عَبْر المرآة Through the Looking Glass " التي كتبها عام 1871، أي بعد ستة أعوام من صدور "أليس في بلاد العجائب"، يطلب الملكُ من "أليس" أن تراقب الطريق لترى مَن القادم، فيدور الحوار التالي بينهما: ـ "أنظري فقط باتجاه الطريق واخبريني إن كنتِ تستطيعين رؤية أحداً منهم". ـ " أرى لا أحد على الطريق"، تقول أليس. ـ أتمنّى فقط أن تكون لي مثل هاتين العينين لرؤية لا أحد! ومن مثل هذه المسافة أيضاً. يذكّر هذا الحوار الذي يغلب عليه المنطق بالمشهد الذي تلي إعادة تهيئة جسد نيو بعد الولادة الجديدة، حيث دار حوار صغير بين مورفيوس وبينه حين كان مسجّى على طاولة العمليات: نيو: ماذا أنتم فاعلون؟ مورفيوس: عضلاتك خامدة. نحن نعيد بناءها. نيو: لماذا تؤلمني عيناي؟ مورفيوس: لأنك لم تستخدمهما من قبل. فالعين تفتح لأول مرّة لترى حقيقة العالم والبصيرة تنسحب من الخيال لتشاهد الواقع وتتأمله، ليس كما يتوهّمه العقل بل كما تراه العين. إنّ العالم الماتركسي يستند بقوة على الصور التي يقوم الوهم بإنتاجها، ولا يمكن لهذه الصور أن تفعل فعلها بقوّة إلا للنائم أو لمغمض العينين، فالبصر يشتّت الوهم، وصورة العين تطرد صورة الخيال، فالناس في العالم الماتركسيّ كما وصفهم الحديث النبويّ "الناسُ نيام، فإذا ماتوا انتبهوا"، لأنّ موت العالم الماتركسي الوهميّ سيكون بمثابة صحوة جديدة للعقل وللعين من عالم الأحلام. إنّ نصوص كارول ترتبط بكثير من العلاقات المتشابكة والوشائج المشتركة مع فلم ماتركس، وتتداخل عوالم "أليس" مع عالم "نيو". ومن جملة تلك الوشائج هي ترينيتيTrinity (الثالوث)، ومورفيوس Morpheus. ففي المقال المذكور للكاتب السويديّ تُقدّم لنا إلماحة عابرة، لكنها ذكية تصلح لأن نجعلها هنا كعيّنة للعبة تبادل الهويات التي تدور في أعمال كارول الأدبية وفلم الماتركس، ففي القصيدة التمهيدية لمغامرات أليس إشارة واضحة لبنات السيد ليدل Liddell الثلاث، أليس Alice ، إيديث Edith، ولورينا Lorina ، حيث أسماهن: Prima، Secunda، Tertia، أي باللاتينية: الأول، الثاني والثالث، وذلك بصيغة المؤنث. وبديهي أنّ اللاوعي الديني الرهبوتيّ قد لعب دوراً كبيراً في هذه الصياغة للإشارة إلى صديقاته الصغيرات اللواتي كان يقرأ لهن مغامراته أثناء نزهاته معهن. لكننا في محاولتنا لتقريب فكرة تناصّ الأفكار بين عالم كارول وفلم الماتركس لا نستطيع إغفال فكرة الثالوث المهيمنة في فكرة الماتركس والتي تتجلى في الثلاثي: نيو، مورفيوس وترينيتي. فلدينا نيو Neo، الذي يتداخل بتبادل حروفه مع The One (الأوّل)، ومورفيوس Morpheus (الأب الروحيّ)، ثمّ ترينيتيTrinity (الثالوث)، وهؤلاء الثلاثة يشكلون بنية القوة التي تقود المواجهة مع عالم الماتركس وأدواته البوليسية، أشباه المستر سميث Smith، أو "العميل" كما يطلق عليه. إنها الأقانيم الثلاثة التي تشكّل بُنية القوّة الواحدة المناهضة، كما تشكّل عناصر النيوترون Neutron، البروتون Proton، والإلكترون Electron، بُنية الذرّة Atom، التي ستدمّر نظام الماتركس. فلدينا نيو Neo، الذي يتداخل بتبادل حروفه مع The One (الأوّل)، ومورفيوس Morpheus (الأب الروحيّ)، ثمّ ترينيتيTrinity (الثالوث)، وهؤلاء الثلاثة يشكلون بنية القوة التي تقود المواجهة مع عالم الماتركس وأدواته البوليسية، أشباه المستر سميث Smith، أو "العميل" كما يطلق عليه. إنها الأقانيم الثلاثة التي تشكّل بُنية القوّة الواحدة المناهضة، كما تشكّل عناصر النيوترون Neutron، البروتون Proton، والإلكترون Electron، بُنية الذرّة Atom، التي ستدمّر نظام الماتركس. بل يمكنني القول أنّ نيو هو النيوترون (لاحظ هنا تقارب الأسمين)، ومورفيوس (معادله الروحي) هو البروتون. أما ترينني فهي الإلكترون. إنه نمط متكرر ومتوراث من أنماط النماذج البدئيةArchetypes ، حسب تعبير يونغ Jung . شطرنج أليس: في مشهد ارتقاء السلالم نحو مورفيوس تواجهنا لقطة ذات مغزى، إنّ نيو وترينيتي يرتقيان سلالم تحيط بها جدران وأرضية تماثل رقعة شطرنج. إنّ الخدعة البصرية للكاميرا في هذه اللقطة توقع المشاهد في حيرةٍ وتساؤل فيما إذا كان ينظر إليهم من فوق السلالم أم من أسفلها؟ إنهما يرتقيان ويهبطان في الوقت ذاته. إنّ هذا المشهد يحيل بالتأكيد إلى بلاد العجائب التي دارت فيها مغامرات أليس، حيث تصادف في مغامراتها مخلوقات على شكل قطع شطرنجية تتحرك على أرضية تشابه رقعة الشطرنج وتشترك معها في ذلك العالم الغرائبي. ويذكّر تداخل الصعود والهبوط بتفكير أليس الطريف، حين ظلت تهوي لساعات في جحر الأرنب، بأنها ستخرج "صاعدة" من الجانب الآخر من الأرض "حيث الناس يمشون على رؤوسهم بالمقلوب!". ويتأكد العالم الشطرنجيّ أكثر فأكثر في كتاب "عَبر المرآة Through the Looking Glass" الذي كتبه كارول فيما بعد، الفصل الثاني تحديداً، حيث تهتف أليس مندهشة وهي تتطلع إلى أحد حقول القرية المقسّمة إلى مربعات، بأنها "تشبه رقعة شطرنج عملاقة". ولكن دعونا نسأل: ما علاقة كل ذلك بعالم الماتركس الافتراضي؟ إنّ الإجابة على هذا السؤال الاعتراضي المشروع يحتّم علينا الرجوع قليلاً إلى زمن كارول وقبل ذلك أخذ فكرة موجزة عن رواية "عبر المرآة" التي لم تترجم إلى العربية كما أعتقد. تدور رواية "عَبر المرآة" حول فتاة صغيرة (إسمها أليس أيضاً) تدخل من خلال مرآةٍ فوق الموقد لتجد نفسها في عالمٍ شبيه بعالمها الأول الذي اكتشفته أليس الأولى في بلاد العجائب وذلك بعد سقوطها في جحر الأرنب، إلاّ أنّ الدخول إختياريّ هذه المرّة وبمحض إرادتها، حيث تلتقي بشخوصٍ طريفة مثل الملك الأبيض (شطرنج) والشخصيتان المتناقضتان تويدلدوم Tweedledum وتويدلدي Tweedledee، اللذان رغم تشابههما في كلّ شيء إلاّ أنهما يناقضان بعضهما بعضاً، وعلينا هنا أن نتذكرهما جيداً حينما يحين وقت الحديث عن الهويّات الثنائية المتعارضة في كلٍّ من عالم كارول والماتركس. يبقى أن نشير إلى ميزة إختلاف جوهرية في روايتي كارول، فبينما تستند "مغامرات أليس في بلاد العجائب" على لعبة الكوتشينة وتستقي أغلب شخوصها من صورها، فإن رواية "عَبر المرأة" تستند على لعبة الشطرنج وأحجارها، لكن بقوانين بالغة الغرابة سنوضّحها لاحقاً. يذكر إ. غراهام Graham E في مقدمته لكتاب "عبر المرآة" التي خصصها عن لويس كارول وكتابته لهذا الكتاب، أنّ لويس كارول بعد سبع سنوات من إصداره "أليس في بلاد العجائب" قد انهمك في تلقين أليس ألغاز لعبة الشطرنج وصنع لأجل ذلك قصصاً لتوضيح حركات الأحجار وقوانين اللعبة، ثم قرّر فيما بعد أن يحوّل تلك القصص إلى رواية واحدة بعد أن التقى بفتاة أخرى في لندن، وكانت ـ ويا للمصادفة!ـ تحمل إسم "أليس" أيضاً، فأخضعها لتجربة طريفة لا أرى بأساً في سردها هنا لأنها ستؤدي بنا في نهاية المطاف إلى التعرّف على دستٍ خاصّ للشطرنج سيفيدنا جداً في فهم عملية انتقال الأجساد من العالم الواقعي إلى عالم الماتركس الافتراضي، إلا وهو المعروف بإسم: "دست أليس" أو "شطرنج أليس" Alice Chess. في يوم ما، بعد تدوينه للقصص الشطرنجية المتناثرة، التقى لويس بكارول أثناء زيارته للندن بصبية صغيرة في الثامنة، تُدعى أليس رايكس Alice Raikes، فدعاها للدخول إلى البيت ووضعَ في يدها اليمنى برتقالة ثم سألها في أيّة يد تمسك بها، فأجابته بأنّها في يدها اليمنى. بعد ذلك جعلها تقف أمام المرآة وسألها "في أيّة يد يحمل الطفلُ الذي في المرآة البرتقالةَ؟"، فأخبرته أليس أنها في اليد اليسرى، وحين طلب منها توضيح الأمر قالت "إذا كنتُ على الجانب الآخر من المرآة فهل ستظل البرتقالة في يدي اليمنى؟". ويبدو أنّ الإجابة التي أدهشت كارول قد جعلته يعقد العزم على أن يكون كتابه القادم عن العالم الذي يقع في الجانب الآخر من المرآة! في عام 1953 ابتكر في. ر. بارتونV. R. Parton ، وهو أحد عباقرة الشطرنج في العالم، دستاً غريباً استوحاه من عالم كارول في حكايته "عبر المرآة". تقام المباراة فيه على رقعتين وليس رقعة واحدة كما هو معهود، وبين فيلقين من أحجار الشطرنج التقليدية، لكن لونيهما لن يكون هذه المرّة بالأبيض والأسود كالعادة، بل بالأبيض والأحمر. لهذه اللعبة قوانين ثلاث هي في غاية البساطة والغرابة أيضاً: 1. أيّ حركة للقطعة يجب أن تكون قانونية على الرقعة التي تحركت منها. 2. أيّ قطعة يمكنها أن تتحرك أو تأسر قطعة معادية إذا كان مربع الاتجاه في الرقعة الثانية شاغراً. 3. بعد الحركة تنتقل القطعة إلى المكان المطابق لمكانها في الرقعة الثانية. أي أنّ القطعة التي تتحرك في أيّ من الرقعتين، تنتقل إلى موقعها الافتراضي في الرقعة المجاورة وهكذا بالتبادل، فما تحركه هنا ينتهي هناك، وما تحرّكه هناك يتمركز هنا، وهكذا دواليك حتى نهاية آخر قطعة شطرنج على الرقعتين. إنها أشبه بلعبة النظر إلى المرايا المتقابلة، فما تراه هنا، موجود هناك، وما تراه هناك هو أنت لا غير.. رسمة من حكاية "عَبْر المرآة" حيث تدخل أليس من المرآة لتخرج من الجانب المقابل مع نموذج لشطرنج أليس أنّ الوجود الواقعيّ في الرقعة الأولى يقابله وجود افتراضي على الرقعة الثانية، والصراع والتداخل على رقعتي شطرنج أليس يقابله التداخل والتعارض بين عالمي الماتركس الافتراضي والعالم الحقيقيّ الذي تعيش فيه عصبة مورفيوس، ولذا فأنّ النزالات والمعارك التي تدور بين صفّي فيالق الشطرنج التي تحتّم انتقالها على الرقعتين تشابه النزالات والمعارك في عالم الماتركس، فبينما أجسادهم ثابتة على كراسيّهم في العالم الحقيقيّ (مركبة نبوخذ نصر) تنتقل أجسادهم الافتراضية إلى العالم الافتراضي لتدير الصراع ضد القوّة البوليسية التي تحكم الماتركس الافتراضي، وكلّ لطمة هناك أو رصاصة، يقابلها نزيف دمٍ في موضع الجسد الواقعيّ الساكن في مركز الاتصال الرئيسيّ، حيث أجسادهم مثبتة على كراسيّ توصل أدمغتهم بعالم الماتركس. وكلّ موت هنا يساويه موت مقابل هناك في عالم الماتركس القائم على تصورات العقل، لأنّ لا حياة للجسد بعد موت العقل، على حدّ تعبير مورفيوس. إن الصراع البشريّ مع عقل الماتركس الرقميّ ينبغي أن ينظر إليه على أنه امتداد لكلّ النزالات التاريخية البشرية في مباريات الشطرنج ضد عقل الكومبيوتر الجبّار التي قام بها عمالقة الشطرنج أمثال ميخائيل كاربوف وبوريس سباسكي وبوبي فيشر وغيرهم من مهرة الشطرنج العظام، وأن يُنظر أيضاً إلى هذه النزالات الآن على أنها تمرين مستقبليّ للقتال ضد الماتركس والانتصار عليه. مرايا الأسماء وتضادّ الصور : أنّ العديد من سمات شخصية لويس كاورل وإعماله تتجلى بقوة في تفاصيل فلم الماتركس، فخلفيته الرياضية والمنطقية واهتمامه الشطرنجي واللعب بالمترادف من الكلمات وتضادّ المعاني تركت كلها بصماتها بقوة على نسيج الفلم، فالمخلوقات الغريبة التي تملأ حكاياته، على سبيل المثال، جميعها مختلقة من مفردات حقيقية إنجليزية، فرنسية ولاتينية. من جملة هذه المخلوقات الفأر Dormire، الذي تلتقي به أليس. فهو مقبوس من مفردة لاتينية معناها "النوم"، وهذا يحيلنا إلى شخص مورفيوسMorpheus ، الذي حسب المثيولوجيا اليونانية، هو "أمير الأحلام". ومن نماذج الترادف اللغوي لدينا كذلك إسم الفلم نفسه، فالماتركس The Matrix مشحون بمعنيين مترادفين: معنى واقعيّ: "الرّحم"، وافتراضيّ: "لائحة من العناصر الرياضيّة تُعامل ككيان واحد". وينطبق الأمر نفسه على جميع الشخوص التي ظهرت في الفلم تقريباً، وسنقدّم مسرداً عنها فيما بعد. إنّ صورة اللاهوتي والعالم الرياضيّ للويس كارول تبدو واضحة بقوة في طاقم الماتركس، وخصوصاً توماس أندرسن "نيو"، فصعوبة النوم، المزاج العصبيّ الخجول، عدم استمرائه للطعام، كلها صفات سلوكية مشتركة بين الاثنين. يضاف إليها الولع بالثنائيات، انفصام الشخصيتين بهويتين مختلفتين وباسمين مختلفين أيضاً. فمما باحت به أليس بذكرياتها عن لويس كارول أنّه كان يلبس رداء الكهنة الأسود حينما يكون في وأكسفورد، أما حين يصحبها في نزهة على النهر، فقد كان يرتدي بنطالاً أبيض ويبدل قبعته السوداء بقبعة من قش، ويمكنني هنا أن أجزم بأن ثياب مورفيوس (ونيو بعد انضمامه إليهم) هي نفسها ثياب الرهبانية وبدلة القسّ التي كان يرتديها لويس كارول في أوكسفورد. لقد تجنب الأخوان فاشوفسكي، صانعا الفيلم، الإجابة عن الأسئلة التي تحاول نبش دماغيهما، فغالباًً ما كانا يردّدان أنهما "ولدا وترعرعا في المجلات المصوّرة"، إلى أن شطحا ذات يوم وذكرا أنهما يهتمّان باللاّهوت، بشكل خاصّ، والرياضيات. نعم!، إنّ الرياضيات واللاهوت هما جوهر الماتركس، فالرياضيات أساس العالم الرقميّ الافتراضي، واللاهوت هو دعامة الإيمان بالمخلّص القادم... اللهُ رياضيٌّ، يقول سبينوزا. لم يكن بدّ من هذه المقدمة المملّة واستطرادها لفهمٍ أفضل للمحاورة الأولى من محاورات مورفيوس، ومع ذلك فقد اختصرت قدر الإمكان، فلفهم جيولوجيا "ماتركس" بكل تفاصيلها الثقافية والفكرية سنحتاج مجلدات عديدة لاكتشاف كلّ طبقاتها الفكريّة والثقافية. إنّ الإحالات الثقافية التي يقدمها فلم الماتركس تذكر بمتاهة مكتبة بابل التي تخيلها بورخيس، فكل دهليز يقودك إلى دهليز آخر، وكل كتاب يوصلك إلى غيره بمتاهة معرفية لا تنتهي، إنها ضياع واكتشاف يقودك إلى ضياع آخر. ـ المحاورة الأولى ـ مورفيوس: أتصوّر .. بأنك حالياً تشعر مثلما شعرت "أليس" وهي تهوي في جحر الأرنب. نيو: تستطيع أن تقول ذلك. مورفيوس: يمكنني مشاهدة ذلك في عينيك. شكلك يدلّ على أنك تقبل بما تراه لأنك تتوقع أن تستيقظ. الطريف أنّ هذا ليس بعيداً عن الحقيقة. هل تؤمن بالقدَر يا "نيو"؟ نيو: كلا! مورفيوس: لمَ لا؟ نيو: لا أحبّ فكرةَ أنّي لا أستطيع السيطرة على حياتي. مورفيوس: أعرف بالضبط ما تعنيه. دعني أقلْ لك لماذا أنت هنا. لأنك تعرف شيئاً، وما تعرفه لا تستطيع شرحه. إلاّ أنك تشعر به. بل شعرتَ به طوال حياتك: هنالك شيء خطأ في هذا العالم، لا تعرف ما هو إلاّ أنه موجود. كشظيةٍ في ذهنك تقودك إلى الجنون. هذا الشعور هو الذي قادك إليّ. هل تعرف عمّا أتحدّث؟ نيو: الماتركس! مورفيوس: هل تريد أن تعرف.. ما هو؟ نيو: (يهزّ رأسه موافقاً). مورفيوس: الماتركس في كل مكان حولنا، حتى حالياً في هذه الغرفة. يمكنك رؤيته من نافذتك، أو عندما تشغّل تلفزيونك. تشعر به عندما تذهب إلى العمل..عندما تذهب إلى الكنيسة..عندما تدفع ضرائبك. إنه العالم الذي غطّى عينيك ليحجب عنك الحقيقة. نيو: أيّة حقيقة؟ مورفيوس: بإنّك عبدٌ رقيق، كالآخرين وُلِدتَ عبداً في سجنٍ لا تستطيع أن تشمّه أو تذوقه أو تلمسه.. سجنٌ لعقلك |