حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
اهداء لابراهيم وحسينو ... قصة حب مجوسيه - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5)
+--- المنتدى: قــــــرأت لـك (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=79)
+--- الموضوع: اهداء لابراهيم وحسينو ... قصة حب مجوسيه (/showthread.php?tid=22220)



اهداء لابراهيم وحسينو ... قصة حب مجوسيه - الباحثة عن الحرية - 12-12-2005

[size=4]رواية عبدالرحمن منيف

--------------------------------------------------------------------------------


من روائع عبدالرحمن منيف هذه الرواية ، الى جانب بالطبع مدن الملح ، وأرض السواد ، شرق المتوسط ، الان هنا .. الخ

قبل البدء أود التنويه ، انني لست من يقوم بطباعة النص ، بل هو منقول عن احد الزملاء .. له الشكر والتقدير ..


فلنبدأ :

قصة حب مجوسية- عبدالرحمن منيف]

العتبــــة
لا أطلب منكم الرحمة، ولا أريد عطفكم. أذا كنتم محسنين فامنحوا صدقاتكم للمتسولين. أنا لست متسولاً ولا مسكيناً، كما لا أعتبر لصاً او قاطع طريق. ومع ذلك فان لي مشكلة. ومشكلتي ، دون كلمات كبيرة، ان الألم يعتصر قلبي ، ليس هذا جديدا بالنسبة للحياة التي أعيشها ، لكن الأمر ، في لحظات معينة، يبلغ حداً لا أستطيع أحتمالهز ومادام الأمر هكذا ، فأن الكلمات ـ في بعض الأحيان، وسيلة لانقاذي. لست متأكداَ. أتصور ذلك ، ويحتمل أن يكون الحديث ، خاصة معكم، ألماً جديداً ، أتلقاه من عيونكم الميتة الساخرة ، لا يهم ، قولوا أي شيء ، ومع ذلك يجب أن أتكلم.
تقولون أحلام؟ مراهقة؟ حرمان؟ يمكن ان تقولو أي شيء . ما أحسه ، حباً حقيقياً. اذا تذكّرت أرتعش ، أحزن ، تدوي في رأسي أفكار لا حصر لها. وبعض الأحيان تجتاحني رغبة للبكاء.
ذات مرة ، أخذت أروي القصة لصديق. قبل أن أنتهي
ابتسم. ابتسامة بين الاشفاق والسخرية. ولما قلت له بتأكيد
أخرق((أني أحبها)) أجابني بهدوء لزج مدمر ، وهو يطبطب على يدي:
- احرص على أن لا تتحدث عن ذلك ، مرة أخرى خاصة مع غيري.
صرخت وقد تملكني الغضب:
- ولكني أحبها0
وظلّت نظراته الباردة تخترقني . شعرت بنفسي عارياً ذليلاً.
دهشت أول الأمر، فقد كنت أتصوره الأنسان الذي أبحث عنه لأبوح له بهذا العذاب، لكن ماكدت أرى هدوءه، ثم أبتسامته الساخرة، حتى با لأنسحاق . صمت . عندما رآني طعيناً مهزوماً استدرك . أخذ يحاول الابتسام بطريقة مختلفة، لكن كل شيئ قد أنتهى.
وبطريقة حكيمة وباردة انزلقت من فمه كلمات جديدة:
- تمر على الانسان حوادث كثيرة، والعاقل من يتخلص من الأوهام بسرعة!
صرخت وقد عاودني الغضب مرة أخرى:
- ولكن ما أحس به ليس وهماً. انه الحقيقة، أنه أكثر واقعية من وجودنا ، نحن الأثنين.
وفجأة شعرت بنفسي أمتليء تحدياً وأنا أضيف:
- تأكد أني سأراها0
وأصاب لهاثي عطب مفاجىء . خرج صوتي مسكيناً وأنا أقول:
- وقد نعيش الأيام الأخيرة من العمر معاً!
تنفست بصعوبة لما قلت هذه الكلمات ، تطلعت اليه لأرى وقعها. اعتكر وجهه وكأنه رأى في عينيّ بريقاً ملوناً من الخوف والشك ورغبة النتحاب.
قال وابتسامة السخرية والشفقة تترافقان:
- اذا كنت تفكر بهذا فأنت لست حالماً فقط، بل وتحب ان تعيش في الأوهام!
وبدأ يتكلم في موضوع آخر لكي لا أعاود ذكرها من جديد.
***
هل يمكن اعتبار ماحدث قصة ؟ هل يمكن اعتباره قدراً ساخراً؟ لا أريد الضياع في غياهب الكلمات العمياء، فالمشاعر التي تسطير عليّ حين أتذكرها تجعلني أقرب الى المجنون والأوقات التي يمر فيها طيفها كثيرة لدرجة لا أستطيع أن أفكر بغيرها.
ومثلما قلت لكم، لا أطلب الرحمة ، فأنا أحتقر هذه العاطفة الذليلة. ولا أريد أن آخذ رأيكم ، فهذا الرأي ، اذا انزلق من شفاهكم الرخوة ، لن يكون ، في أحسن الأحوال، أكثر رأفة بقلبي من رأي صديقي.
ومادام الأمر هكذا ، وما دام ضني بكم سيئاً لدرجة كبيرة ، قد تسألون : لماذا اذن أقص عليكم هذا الذي حصل؟ وما أريد منكم؟
لكي أقطع عليكم الطريق، وأسد أفوهكم أقول:
أن الكنيسة الكاثوليكية ، الرحيمة القلب، جعلت للأنسان طريقاً للخلاص ، عندما كلفت الأباء المقدسين بتلقي الاعتراف.
كما ان علم النفس المعاصر ، بالضوء الخافت في غرفة الطبيب ، والمقعد الوثير الذي يستلقي عليه المريض، أوجد طريقاً لاذابة العذاب ، تمهيدا للشفاء ، وأنتم ، هل أنتم آباء الكنيسة أو أطباء نفسيون تتلقون الا عتراف؟
مرة أخرى لا يهمني . أريد أن أقول ما حصل . سأقول ما حصل حتى ولو.... وانتم، أذا شئتم أقرأوا، وأذا شئتم كفوا عن القراءة ، حتى لو قرأتم فلن تضيفوا أية صفة جديدة للصفات الكثيرة التي أعرفها عن نفسي!

الجبـــــل

حدث ذلك في الصيف.. أواخر الصيف 0
بعد ريح هوجاء نلبدت السماء بسرعة ، وهطلت أمطار غزيرة . كنت في ذلك الوقت على ضفاف البحيرة. كنت أفكّر، بغموض ، بذلك الهم الصغير الذي بدأ يغزو قلبي.
بعد الزخات الأولى شعرت بالنشوة، لكن لما رأيت المطر يشتد ركضت لأصل الى شرفة الفندق. تبلّلت وأنا أركص ، وما كدت أقف تحت الشرفة ، وأخرج منديلاً لا أمسح رقبتي ورأسي ، حتى شعرت بلذة المطر من جديد. كانت برودته الناعمة اللذيذة تنزلق من رأسي مباشرة لتدغدغ كل خلية في جسدي، ثم تستقر في العظام . تركت قطرات المطر والبرودة تتسرب . كنت بجاجة الى ذلك. لكن في لحظة ما (كانت لحظة غامضة وغريبة) أحسست ان عيوناً من وراء الزجاج تراني ، وان منظري يثير السخرية . التفت لأرى ، لأعتذر (ويخيل الي ان صورتها كانت تطفو في ذاكرتي) واذا بعيوننا تلتقي.
المرة الثانية تلتقي عيوننا خلال نفس اليوم.
كانت المرة الأولى قبل الظهر . كان الجو حاراً ثقيلاً . نزلاء
الفندق على شاطىء البحيرة . نساء أقرب الى العري ، رجال بكروش صغيرة مرتاحة وظهور محروقة ، أما الأطفال فكانوا يبنون بيوتاً ثم يهدمونها ، دون تعب



2) تابع للرواية من الصفحة12 الى الصفحة 16

------------

كنت في ذلك الوقت أمتلىء ضجراً. الكتاب بين يدي أصبح عدواً بعد ان تحولت حروفه الى غيوم سوداء بلا معنى 0لم أستطع القراءة، ولم أستطع أن أفعل شيئاً، خاصة بعد ان شعرت ببرودة مياه البحيرة ، والتي لم أقو على احتمالها أكثر من بضع دقائق . كان الناس حولي عوالم منغلقة، او هكذا كانت الصورة ، وانا أمر على الأجساج والوجوه.
في لحظة ، لا أعرف أية لحظة، التفت عيوننا . كانت قريبة ومضطجعة على بطنها أول الأمر. كانت تعبث بعصا صغيرة على الرمل ، لكن ماكادت نظراتي تزحف على ظهرها ، حتى أرتعشت ، أنقلبت بسرعة ونظرت نحوي مباشرة ، وفي تلك اللحظه التقت نظراتنا0
يجب أن تصدقوا أن في الانسان شيئاً غامضا وحيراً ، اذ ما أقوله لكم ، انه الحقيقة. الحقيقة المطلقة والوحيدة0
عينان تترجاجان بالحزن . شفاه رقيقة والسفلى مرتخية باثارة موجعة ، أما الوجه فقد لوّحته الشمس ، فبدا غامضاً ومجبولاً باللذة والفجيعة وملعوناً. عند الوجه توقفت . لم أر جسدها العاري. ولا أدري لماذا سولت عليّ مشاعر قاسية أقنعتني أني لا أملك حق النظر الى جسدها. وفي لحظة أخرى أستبد بي شعور أقوى بأن نظرتي لو امتدت الى ذلك الجسد يمكن أن تلوثه . أتذكر أنها كانت تلبس مايهاً أصفر ، ولا أتذكر شيئاً أكثر من ذلك.
دامت النظرة دهراً . كانت نظرتها حنونة وعابثة. نظرة طفلة شقية ونظرة أو . رأيت في عينيها عالماً من الخصب والرعونة ، عالماً لا نهاية له . فرحت. كدت أقفز من الفرح. لم أعد أرى غيرها . وددت أت أصرخ . أن أرقص . أية أفكار أخرى عبرت رأسي ؟ ثقوا ، حتى هذا الوقت المتأخر ، لا أعرف! شعرت بالجنون. شعرت برغبة الحياة تتدفق في جسدي . تأكدت في تلك اللحظة ان الضجر أكذوبة أختلقها الوجوديون والناس المترفون. قلت في نفسي : ((لا يمكن أن أتنازل عن هذا الفرح)) كان الفرح يزلزني . يتفجر في داخلي كطوفان. هل طالت النظرة ؟ هل رآها غيرنا؟ ثقوا أني لا أعرف.
عندما وقف نظر حواليه . كانت نظرته عجولة ولا تحمل تساؤلا من أي نوع . نفض عن بطنه حبات الرمل بسأم، وسحب كرسياً صغيراً من القماش كان يرتكي عليه ، ولما طال وقوفه قال لها بطريقة ميته:
- ألا تفكرين بالنهوض؟
أمالتت برأسها موافقة ، ثم هزته بتسليم ، ووقفت . لم يتكلما . سارا ببطء ، لكن في لحظة (لا أدري لم حصل ذلك)
التفتت . كانت تنظر اليّ تماما. أغرقتني نظرتها . شعرت بقلبي ينقبض لما رأيتها تسير مبتعدة.
لما اختفيا في الزحام تلفت حولي ، ومن جديد رأيت الناس . كان الناس مثل علب معدنية محكمة الاغلاق: عيون مغمضة . ذقون مرتخية وملامسة للصدور ، ثم شفاه متهدلة، وصمت.
لما أصبحا بعيدين ، مثل أشباح ، وهما يتسلقان السفح باتجاه الفندق ، أحسست بالوحدة والألم.
في صالة الطعام جلست قريباً (الصدفة العمياء هي التي دفعتني الى تلك الزاوية) ظننت ان لزوجها عيوناً من الخلف تتابعني في هذه الرحلة الخطرة.تملكني الخوف والاضطراب. كانت تجلس مقابلي تماماً، أما هو فقد جلس بمواجهتها ، وظهره نحوي ، وجلس الولدان الغيران في ناحيتين متقابلتين.
وطوال فترة الغداء لم أجرؤ على أن أنظر اليها.
وهاهي النظرة الثانية ، وأنا أقف تحت الشرفة ، مبلولاً مثل كلب . مجنوناً بنظرة البحيرة التي خضت دمائي ، وجعلتني أفكر كثيرا ، ولم افطن للمطر!
تجرأت ، وأنا أقف في الشرفة ، أن أنظر اليها . كانت شجرة من اشجار الصالون تشكل حاجزا بيني وبين زوجها . أما تجاهها فكان المدى رحباً منتعشاً ، مما ساعدني على أن أنهش من هذه اللذة دون توقف (الطبيعة كنز يفجر في الانسان قوى غير منظورة)
كنت أريد أن أكتشفها ، وتراءت لي أفكار كثيرة لاأجرؤ على أن أقولها.
قلت لكم ان في الأنسان شيئا ً غامضاً ، لا سبيل الى فهمه. وهذا ماحصل بالضبط.
بشكل ما تأكدت ان لها عالماً خاصا ً . وان عالمها ليس بعيداً عن عالم زوجها فحسب ، بل ومختلف عنه تماما ً. كان يبدو مرتاح الوجه ، ومليئاً بالصحة والرضا . كانت تبدو قلقة ، متعبة ، وفيها مقدار من الحزن يجعلك تقتنع به وتحبه . كانت ملامحها رقيقة ، ناعمة ، وجسدها أقرب الى الصغر. لم تكن قصيرة ، لكن هناك نوعا من النساء تشعر بأنوثته تفيض الى الخارج بقوة ، من جسد أقرب الى النحول والشفافية.
عبر الزجاج ، المعتم قليلاً ، تكلمت عيناها . تكلمت بنداء صغير أقرب الى همسة نائحة . وفجأة استولى عليّ الرعب . كانت الكلمات والافكار تتقاطع في رأسي مثل البروق : من أنت؟ أية رحلة خطرة تدفعنا اليها الرياح ؟ البياض الساكن في عينيك يفتش عن مرفأ : وأنا المتعب الملقى في هذا الركن البعيد عن العالم وهل أكون هذا المرفأ؟ أريد يداً صغيرة ودافئة تسندني . أحس شيئاً في داخلي يتدمر بسرعة ويفني.
صرخت دون صوت وأنا أنتفض مثل ديك مبلول : الزجاج بيننا يحصد خفقة القلب ثم يعجنها كتلة نار ويدحرجها ، ثم يأتي المطر ليذيب لذة الحلم.
هززن رأسي قليلاً ، تساقطت قطرات عجولة من المطر . شعرت بلذة . امتلأ قلبي بالحزن . قلت لها بعيني : اغفري لي . اتركيني . أنت مقدسة لدرجة لايمكن ان اقترب منك . هزت يد ولد مشاكس الشجرة . اضطربت لما رأيت وجه زوجها . التفت للحظة صغيرة . قلت في نفسي: لو رآني أتطلع اليها هكذا لاقتلع عيني . لوضع فأراً في ظهري ، تحت الثياب ، ودفعني بقوة لأسير ، لأركض ، في أودية الخنازير . قلت للنبته الخضراء التي عادت لتستقر : أيتها الشجرة المباركة في كل الأوقات ، ارتفعي سدا بيني وبين الذين يريدون قتلي . كانت النبتة الخضراء تنفرد مثل مرواح صغير بمساحة راحة اليد . وفي لحظات تبدو عملاقة كجبال عالية ،وفي لحظات أخرى سوداء قائمة كغابة السنديان ، لكن في كل اللحظات ، ومن الفجوات الضيقة كانت تشع قطرات مضيئة، كانت عيناها تشعان.




3) تابع للرواية من ص16الى ص18

-------------------------------------------

لم يعد ماينزل من الغيوم الثقيلة المطر . كان الفرح الملون . شعرت بالأصوات المتداخلة حولي وكأنها الأناشيد تأتي من مكان بعيد . وفي لحظات أخرى شعرت بالكون وكأنه يد أم.
وظللت أترك عينيّ تسافران .. لكن ما تكاد تعودان لتستقرا في عينيها حتى أحس أني أولد من جديد . كانت نظراتها عالماً طفلاً يركض برعونة نحو الفرح والحزن معاً.
قلت لنفسي بتحد أخرق : سأقتل الكراهية والحقد . سأقتل الخيبة والكبت . أمّا التأملات البلهاء التي تسرقني من كل ما حولي فسوف أدفنها في اقرب مزبلة . وفي لحظة أخرى قلت بتصميم : أنا أحترق الآن ، احترق بلهفة شيء لم أكن أحس بمثله من قبل . ومرت تساؤلات عربيدة في رأسي: أين كنت أعيش؟ كيف يمكن للانسان أن يعيش دون أن يحس؟ هل يمكن لا مرأة أن تولّلد في القلب هذا المقدار كله من الفرح والاغنيات المجوسية؟
كانت الدماء والأفكار تنفجر في رأسي بسرعة مذهلة ، ولم أعد قادراً على الوقوف تجاة أية كلمة أو أية فكرة . قلت لنفسي بتسليم : كنت فيما مضى أقرأ مايقولونه عن هذا الشيء الذي يسمونه اللهفة ، فأضحك . كنت أتساءل هل يمكن للانسان أن يتحول الى بندول لا يتوقف ولا يهدأ؟ أن يتحرك دون معنى ؟ ان يتلهف لامرأة؟ ان ينتظرها؟ أجبت نفسي :
انّني أقع الآن في ذلك الشيء الغامض.
آه ، يمكن أن تضحكوا . اضحكوا مثل بغال تفتح أفواهها حتى النهاية . لقد سقطت!
شعرت بقلبي يتموج في صدري مثل زورق . قلت : بداية الحماقة. سحبت عينيّ من جديد واطلقتهما في الغيوم والأشجار البعيدة ، لكن وجدت نفسي أضطرب ،ثم بعد لحظة سمعت شيئاً في داخلي يتمزّق وينوح.
تحركت قليلاً وقد شعرت بضرورة فعل شيء، لكن شعوراً آخر انتابني في نفس اللحظة : فجأة اصابتني برودة قاتلة. أحسست أني مدفون في أعماق كثبان جليدية ، واني مسمّر وراء الزجاج ولا أستطيع الحركة . وباستسلام أبله أردت أن أكذب. أن أخطىء. لكن عينيها وهما ترتميان عليّ كانتا تجرحانني . تجعلانني أكثر احساساً بوقع خطاها وهي تسير في دمي. كنت أسحب عيني. أرميهما بعيداً، لكن دون ان ادري أكتشفت نفسي وقد بدأت أتسلل في الفجوات الصغيرة ، بين أوراق النبتة الخضراء ، أرتمي هناك . وأنظر، وأنظر ، وأنظر الى عينيها . آه ، ما أشد رعب العيون التي أراها. ما أشد فتنتها . كانت تقول لي بهمس : أيّها الغــريـــب الذي لا مــأوى له ، مأواك في عينيّ . كانت تقول لي هاتين العينين سأجعل لك أرجوحة ، وفي هذه الأرجوحة تقضي ما تبقى لك من العمر، ولن تندم.
الآن..بعد السنين الطويلة أريد أن أبكي . لماذا لم أهرب؟ لماذا تصورت أني لم أرها ، وأني رأيتها آلاف المرات ؟ كنت أحلم بها طوال عمري . وكنت أراها مستحيلة . وفي لحظة مليئة بالعذوبة ، بدا لي كل شيء قريباً، ناعماً ، جارحاً ، وقررت البقاء0
في وقت ما أنقطع المطر . هل مضى وقت طويل ؟ قصير ؟ لا أدري . لما جرجرت نظراتي الى البعيد كانت الجبال الخضراء ماتزال تعصر دموعها ، وتحولها الى جداول صغيرة تتفلّت بعناد صبياني نحو السفوح . وكانت الأوراق الخضراء بعد ان فردت نفسها مثل أجنحة طيور قوية ، قد تراخت وتهدّلت بعد المطر . والحصى ، كان الحصى يلمع كقطع الزجاج الملون . وأرتد الزجاج مازال بيننا شاهقاً قاسياً أبدياً. وعيناها حمامتان اغتسلتا بالأسى ، لكنهما تركضان وراء فرح ما.
قلت لنفسي بحقد ودون صوت : يا حزن الأيام المشؤومة ، سوف أصرعك كذبابة ، لن أحزن بعد اليوم . أمّا الحيوان الصغير ، والمعصوب العينين ، والذي يسمونه الجبن ، فسوف أقتله.
الحيوان الصغير يفرك في دمي ، داخل العروق . كنت أندم على كل فعل . كنت أندم على كل فعل لم أفعله . أتحول فجأة الى طير . أطير بعيداً بعيداً. أطير وأرجع . والزجاج بمقدار ما كان يقيني من الجنون ، كان ينغل في صدري بجنون آخر . قلت في نفسي بسخرية: مرة واحدة نولد ، ومرة واحدة نموت . وأنا ، أولد الآن ، أولد في عينيها.
وتظل عيناها تضحكان . أحسّ الضحكات الصغيرة تفترش دمي ، توقده بالعذاب . تطفئة . ودون تعب أتساءل : ماهذا ؟ هل يمكن أت تكون اللهفة؟ وهل قرأت ذلك في كتاب؟
ولا أصدق شيئاً . تظل العينان تخترقني . وأصعد وأهبط ، ثم أنفجر وأتلاشى0



4) تابع للرواية من ص19 الى ص23

-------------------------------------------------------

لما توقف المطر وأمتلأ الجو بتلك الرائحة التي لا تعبّر عنها أية كلمة في الكون ، انتفضت ، ثم وجدت نفسي أمشي دون ارادة. درت حول الفندق . توقفت عند شجرة الصنوبر الكبيرة كانت القطرات الأخيرة المتجمعة على أوراقها الابرية تنسكب بنعومة حادة . رفعت وجهي لأتلقى حبات المطر ، وكدت أبكي.
في وقت ما سمعت لغطاً ينمو حولي بسرعة . انتبهت فجأة ، وقرّرت بغموض شيئاً,
انزلقت الى صالة الفندق الواسعة ، ودون تردّد أندفعت الى الركن البعيد وجلست . كانت ثلاث أو أربع موائد بيننا ، أثنان يجلسان على المائدة المحاذية لها . كان أحدهما يحجب قسماً كبيراً من جسدها، أما رأسها ، أذا رفعته الى أعلى قليلاً ، فكان يظهر كجبل الثلج : ساطعاً متورداً.
هل كانت تتابعني لما دخلت ؟ غيّرت جلستها وأصبحت بمواجهتي الآن ؟ اجتاحني دبيب أصم ، وبعد ذلك شعرت بالرغبة في أن ألمس شيئاً مّرت عليه يداها، وفي النهاية سيطرت عليّ حالة من التلاشي والحزن.
أختلطت أصوات موسيقى قديمة بالدخان ، بأقداح فارغة ومتروكة . لم أعد قادراً أن أفعل شيئاً ، أمّا كأس الكونياك الذي وضعه الجرسون أمامي ، فكان نتيجة بلاهة ورغبة آلية ان لا أظل هكذا.
كنت أتألم . لا ، ان شيئاً آخر يموج في صدري ، ربما رغبة البكاء . اضحكوا لا يهمني.
كان زوجها يجلس الى جانبها ، أمّا الصغيران فكانا يلعبان حولهما .. كان الزوج صامتاً ، ينظر حواليه بتثاقل وسأم . قلت في نفسي : لماذا يرتمي هكذا ؟ ألا يقول لها كلمة؟ ألا يتمطّى؟
وبحقد مجنون أضفت: أيها الرجل الذي لا يقوى على السعادة، اشتمها ، أمسك يدها ، تطلع في عينيها.. اما ان تبقى مصلوباً كالجثة ، فهذا لايغافره أحد .
لا أعرف لماذا لم أحتمل . وجدت نفسي أغادر القاعة بعصبية . عند الباب الدوّار اصطدمت برجل . امتلأت خجلاً. تصورت البلاهة التي تنزف من وجهي أكثر من أن يحتملها أحد ، وتصورت عيونها خيوطاً حريرية تشّدني . هربت من نظراتها . لما رفعت وجهي لأعتذر ، كانت تضحك تلك الضحكة الصغيرة التي تشبه المغفرة.
اضحكوا . تقولون مراهقة؟ ربما.
كنت في الثلاثين . كنت في المائة . كنت كبيراً ، وكنت صغيراً ، وكانت لي علاقات.
منذ ثلاث سنين أنا وميرا لا نفترق . تخاصمنا كثيراً ، ولكن رضينا بعدد المرات التي تخاصمنا . غفرت لميرا الكثير ، لكنها غفرت لي أكثر . وميرا التي أحدثكم عنها شقراء ، طويلة ، لها عينان بلون الكستناء . أمّا جسمها فكان ساحراً لدرجة ان أي انسان رأها تسير معي حسدني ، وربما شتمها في سره ، لكن ميرا لم تعبأ بشيء . كانت عالماً غريباً ، وكنت أحبها لغرابتها . كانت تحب الرياضة والشعر ، ولم تكن تتحدث الاّ عن ذلك . وقد لامتني مرات كثيرة لأّني أهمل نفسي هكذا ، وتنبأت أني سأموت قبل الأربعين ، ولما مرضت ذات مرة ، خشيت عليّ كثيراً وظلّت تبكي فوق رأسي ، حتى داخلني الشك ان موتي أصبح وشيكاً، لكن لما شفيت وتبين ان ماكنت اشكو منه مجرد عارض يصيب معظم الناس ، لم تسلم ، وظلت تلومني ، ولا تتوقف عن توجيه الكلمات القاسية ، مشيرة الى الصفرة في عيني والى بروز عضلات الرقبة وأكّدت اني "مصاب بالغدد والطبيب لا يدرك ذلك" أمّا عندما قرّرت السفر الى الجبل للراحة ، فلم أر في عينيها ضجراً او احتجاجاً ، ولا أخطيء اذا قلت انها فرحت لهذا القرار الذي "سيكون له تأثير مفيد على صحّتي ، خاصة اذا مارست الرياضة ، أية رياضة ، وكنت بعيداً عن جو المدينة الخانق ، الذي يسبّب السرطان بكل تأكيد"
لم تكتف ميرا بذلك ، حضّرت لي أنواعاً من الأغذية ((المفيدة والضرورية)). وفي طريقنا الى محطة القطار أصّرت أن تشتري لي بطيخة خضراء كبيرة ، قالت : وهي تشير اليها : قلبي كبير هكذا ، وقد تعبت كثيراً بنقل هذه البطيخة من قطار لآخر ، ثم بنقلها الى الباص ، لا تستغربوا اذا قلت لكم ان البطيخة اللعينة انزلقت من بين يدي وانفلقت عند باب الفندق تماماً وسبّبت لي احراجاً ، ورأيت ضحكاً مكتوماً في عيون الذين كانوا حولي .
كنت خارجاً لتوي من المرض . وفكرة السفر الى الجبل عنت لي هكذا ، أمّا ميرا فقد أصّرت ان "النقاهة ضرورية ، أنهّا من العلاج" واستغربت كثيراً أن الطبيب لم يشر عليّ بذلك.
لم أكن أعرف ميرا وحدها . كنت في نفس الوقت على علاقة مع باولا . وباولا امرأة من نوع آخر : بسيطة ، صريحة ، تكره الموسيقى الحزينةوتكره الفلسفة (باولا تدرس الفلسفة).
تدخن بشراهة ، ويظهر ذلك بوضوح من أعقاب السجائر الملوثة بالروج في جميع أنحاء الغرفة والحمام . كانت باولا تهوى الشرب لدرجة السكر ثم البكاء ، وكنا دائماً نقضي وقتاً شديد الروعة والجمال والحزن.
وقبل ميرا وقبل باولا ، باولا ذات الصدر الكبير والأثداء الصلبة ، والتي لايمكن ان انسى رائحتها اللذيذة . قبل هاتين المرأتين ، وبعدهما عرفت نساء . لكن في ذلك الصيف الملعون تحوّلت الى أنسان آخر . ولو ان احد رآني أقف تحت الشرفة وأرقب ، من وراء الزجاج ، العالم السحري الذي تدفق عليّ فجأة ، لو ان أحداً رآني ، وقد تهدلت عضلاتي وتحولت الى بندول ، لقال ان جنوناً من نوع ما يسيطر عليّ.
مراهق ؟ نعم . أتحداكم ان تقولوا أني لم أكن كذلك . واذا أردتم ان تقولوا شيئاً آخر عن الحرمان فسوف اخطئون كثيراً. لم أكن أتنقل بين النساء كفراشة ، لكن لم أكن محروماً. كنت أمسك الفخذ ، بثقله الزاهي ، بين يدي وأعزه لتمتللىء روحي بنشوة الامتلاك والظفر , وكانت يداي تتسللان ، مثل أفعى ، الى الصدر ، ، وهناك أترك اليدين تحومان فوق النهدين ، وراء الظهر ، أتركهما تهطبطان الى الارداف وأصرخ في داخلي بصوت يشبه فحيح الحية :
أشبع ، يجب أن تشبع حتى التخمة.
ولكن اذا وجدت بينكم حكيم أعور ، له لحية تشبه خيوط العنكبوت ، فسوف يقول: أن حالة مثل هذه تعود بأصولها الى أيام الطفولة ، أنه الحرمان ، الحرمان من عطف الأم . نعم ماتت أمي لما كنت صغيراً، ولكن هذا الحكيم الذي يفتح فمه كضفدعة ليغرق الناس بكلمات كبيرة وغامضة يفتقر الى شيء أساسي يكون جوهر الانسان والعلاقة الجنسية ، يفتقر الى الحب.
الحنان . ان أفقد أمي ولم يتجاوز عمري السادسة . أن أهيم في الدنيا لاأعرف لماذا والى متى، وأعيش على كل شيء ماض ، حتى لو كان مجرد زمن أعمى ، وفي حالات معينة مجرد أحلام.



تابع.. من ص 23 الى ص28

-----------------------
يمكن لأي تحليل ان يسرف في دراسة حالتي ، بحيث ينتهي الى أشياء كثيرة ، لكن الأمر الأكيد ان وجدت نفسي فيه لا يجد مأوى في الكلمات القاتمة والبلهاء التي تموج في رؤوسكم الآن
كنت وأنا أخرج من قاعة الفندق قد قرّرت ان أذهب لرادميلا "وأنت يا رادميلا لماذا كنت في تلك اللحظة تعطين شفتيك لأيفان؟ لماذا؟ قولي بحق السماء ، قولي كلمة لأستريح ".
لو ان شيئاً آخر حصل لكنت الآن بنظركم انساناً سوياً ، لكن اسمعوا ماحدث :
في الليلة السابقة تخاصمنا ، دون كلمات ودون أن نستعمل الأيدي أو الأدوات الجارحة . تخاصمت وايفان عدداً من المرات يوازي عدد الرقصات . كنا أربعة رجال وثلاث نساء ، نجلس في وسط قاعة الرقص ، وكان على واحد منا أن يتحمل ، أن يدفع ثمناً ما . لا أعرف لماذا اختارتني رادميلا مرات كثيرة لمراقصتها . قبل انتهاء الرقص اتفقنا . وعندما سمعنا فالس فينا كنا نلهث في الفراش . أمّا الصباح التالي فقد كنت حزيناً لدرجة منفرة . وعند الظهر كنت أفكّر بالناموس الطبيعي وأصل الحياة ، أمّا الكلمات التي أجبت بها رادميلا فأعترف انها كانت بائسة ومهينة ، وغادرتني رادميلا بعصبية بعد الغداء ، وقرّرت أن تنتقم منّي بسرعة .
كنت أعرف رادميلا منذ وقت طويل . وقد بانت الشهوة في عيني منذ ان التقينا في قاعة الفندق . هّزت رأسها كفرس وقالت:
"ابتعد من طريقي، ولا أريد متاعب من أي نوع " لكن الضحكة التي انفجرت وراء هذه الكلمات ، كانت مسعورة لدرجة لم أحتملها ، أمسكت يدها عند الزند ، وضغطت . تركتني أفعل ذلك لأتمتع ولأختبر اللحم المشبع الهني . ثم قرصت يدي بدلال وقالت : " مازال لدينا وقت طويل، هنا وفي المدينة".
لما تركتني رادميلا شعرت بالراحة..
وفي اليوم التالي ، لما ارتمت على الرمل الناعم ، على ضفاف البحيرة ، أصابتني حالة اللاجدوى والحزن . أمّا الرغبات التي كانت تنتابني وأنا أنظر الى أعماق البحيرة فكانت غامضة ومتداخلة.
وفي تلك الحالة من اللاجدوى والغموض الشديد .التبدّد واجهت تلك النظرة ، وبدأت حياتي تتفتّت ثم تتدمّر ، وأصبحت ملعوناً.
لو ان رادميلا ، في ذلك الغروب ، بعد المطر ، أعطتني نفسها لأنقذتني . لكن رادميلا لم تنتظر . هربت بسرعة . وشفاه ايفان وهي تطبق على عنقها تحت شجرة الصنوبر ، قرب الباب الخلفي للمطعم ، جعلتني أركض نحو البحيرة .
كانت البحيرة بعد المطر معتكرة ـ وكانت السيول الصغيرة المتأخرة لا تزال تتدفق اليها بكسل . أمّا الزورق الذي أمسكته ، كتعزية رخيصة ، فقد انزلق بين يدي ، كأنه يهرب . وعندما جلست على أحد الحجارة ، قرب القنظرة ، ناحية الشمال ، شعرت من جديد بالحزن يغطيني كأنه الثياب الثقيلة،والتمعت
في ذاكرتي عيناها . كانت عيناها مثل فوهات الجحيم المتورد ، لا يمكن ان تنسى. قلت لنفسي بصوت لا أكاد اسمعه : " أيّها ارب الذي يرتكز على يد واحدة ، وينظر الى البشر التعساء ، لماذا تركت كل شيء يسير في الدرب الخطرة؟" وتصورت الرب... أخرى تصورته... وأردته أن ... لكنه لم..
وأنتم ، أية كلمات تندلق الآن من الذاكرة الى الشفاه المرتخية ، وتريدون أن تقذفوها في وجهي؟
نحن نزلاء الفندق سجناء صالة الرقص والمطعم في أغلب الليالي . فاذا خرج القمر من مغارته المتربة ، وتدحرج ككرة خضراء في المدى الرحب الذي يسمونه السماء ، اذا حصل ذلك ، وكان الدفء ينتشر في ذرات الهواء وينعشها ، يصيب عروق الرجال والنساء سعار أصفر بلون الصديد ، وكان أغلب النزلاء يخرجون الى الطرقات الضيقة في الحديقة الكبيرة للفندق ، والتي تصل أطراف الوادي ، وهناك كانوا يشبكون أيديهم بقسوة ، ويقبلون بعضهم بشهوة الكلاب ، حتى تحركت الدماء ، قذفوا في سراويلهم أو ركضوا مثل قطط مذعورة الى الفراش.
سجناء الفندق كثيرون ، في الصالات ، تحت الأشجار ، وفي الليل يتوارون في ضوء القمر في الزوايا أو في الغرف المزهوة بصور بحيرات ملوثة الألوان وحولها رجال ونساء يضحكون ، ولا يعرفون معنى الألم.
لو لم يسقط المطر في اليوم التالي لدمرت ذلك الحيوان الصغير الذي رفع رأسه فجأة . لكنت حصلت على رادميلا مرة أخرى، نعم ان أحصل عليها مرة أخرى وبطريقة ما ، ان أنتزعها من أيفان . وفي أحضانها يمكن ان أنسى هذا الشهيق المتسرب الى دمائي . يمكن أن أغمض عينيّ فلا أرى تلك العينين المخضبتين بالنداء واللهفة والحزن ، هذا الشيء الغامض الذي لا أعرف اسمه ، والذي ربما كان الحب . في أحضان رادميلا ، مثل أول مرة ، يمكن ان أنسى . وقبل أن أستيقظ حزيناً ونادماً ، ينتهي الأمر ، تنطفىء العيون وتتلاشى من رأسي . لكن شهوة النسيان التي تمنيتها أصبحت مثل ذاكرة ..: واسعة ، هاربة ودائماً يغادرها الألم.
والآن ، نعم الآن . وبعد مرور السنين ، اذا سقط المطر يتملكني حنين لا يوصف لأن أبكي . أحس بالدنيا صغيرة ، محاصرة ، وتوشك ان تنتهي .
وهناك لم يكن مطر الصيف فقط ، كان مطراً كثيفاً متواصلاً ينبش من الذاكرة الأحوان والذكريات . وأنتم تعرفون أن الأحزان الملعونة لا تريد جوقة من المهرجين لكي تنتزع نفسها من أكفانها ، أنها تنتظر ، وفي لحظة تقف شامخة مزدرية ، كأنها تترصد لتفجر.
مطر الصيف اللعين جمع السجناء مرة أخرى. جمعهم أوّل الأمر في صالة الطعام ، ثم في المقهى ، وفي المقهى ضجّ الصغار ، وقفوا وجباههم على الزجاج يتطلعون بحقد الى المطر ، وقفوا عند الأبواب بانتظار لحظة الهروب الى مكان ما . أمّا الرجال فقد أستخرجوا من محافظ جلدية (سوداء أغلب الأحيان)
جرائد مضت عليها أيام ، وبدأوا ينظرون الى الحروف بملل ، وبين فترة وأخرى ينظرون الى المطر ، وعندما يتعبون يلعبون الورق . وقبل أن ينتصف النهار تدور كؤوس البيرة بسرعة أكبر ، أمّا النساء فقد تشاغلن بأمور كثيرة : ملاحقة الأطفال ، الذهاب الى الغرف وتبديل الثياب ، ثم الجلوس بصمت والمراقبة النشيطة لكل شيء!
ومعبودتي .
كانت هناك : بنطال أسود ضيق وكنزة رمادية ، ولا أدري لماذا وضعت شالاً على كتفيها!
ألقت معبودتي مجلة مصورة على الطاولة ، وجانت نظراتها الصالة ، تفتش .. هل كانت تفتش عنّي ؟ أتوهم ؟ أحلم ؟ أي شيء آخر يمكن أن تقولوا؟
كان المطر يتساقط عزيراً مشبعاً. وبين يدي كتاب لا أستطيع أن أطويه ،ولا أستطيع ان أقرأ فيه سطراً واحداً. رادميلا؟كانت هناك تجلس متكورة الى جانب أيفان ، وقد تقاربا لدرجة الألتصاق . كان يتهامسان كعاشقين . لم ينظرا نحوي ، وحتى التحية ألقيتها عليهما أثناء الافطار سبّبت لهما ازعاجاً، أيفان بشكل خاص .
فكرّت ان ألعب الشطرنج لأغتال الضجر ، لكن رقع اللعب الثلاث كانت محجوزة ، وكان التى الواسع الفم يصرع الرجال ، وهو يدور حولهم كقط . أما عندما جلست قريباً ارقب اللاعبين ، فقد استولا علي الخوف. جلست مستسلماً ، وهزمت بعد المرات التي امتلأت القاعة بضحكة ذلك الفتى الواسع الفم ، والذي يدور كقط ، عندما ينتهي من اولئك المسنين الواثقين.
وفجأة وأنا أستدير ، بعد لعبة ماكرة ، حاول الفتى الواسع الفم في نهايتها ان يتظاهر بالهزيمة ، لكنه ، في النقلة الأخيرة ، أنتصر ، وجلجت ضحكته الواثقة ، وأنا أستدير لأغير جلستي ، رأيتها . كانت قريبة لدرجة مذهلة . شعرت اني أختنق صرخت في أعماقي وأنا أتلوى من الألم : " يا أم الأرض الخصبة ، يالهباً يشعل الحجر ، اذهبي ، لا أحتمل أن اراك قريبة هكذا لا أستحق". وبخوف حزين سحبت نفسي من الرعب.




من الصفحة 28-31

---------------------------------------------------------

تنفست بجموح ، وقرّرت لأن أتطلع الى عينيها. شعرت بعناق مجنون يزدحم في دمي ، يدفعه ويوقفه ثم بعد لحظة شعرت بذلك الدفء الناعم يغطيني . أغمضت عيني . شممت رائحتها تملأني . كانت كخيمة خضراء فوقي ، ولما بدأت أتذكّر متى جاءت ، أحسست ان المدى حولي ، في لحظة معينة ، بدأ يزداد اتساعاً وبياضاً، حتى غطّى الأرض كلها ، ثم أحسست بشيء أقرب الى الدفء يتساقط ليصبح حاداً ومسيطراً كالألم وتأكدت انها جاءت في تلك اللحظة.
لما حركت كرسي قليلاً لأعتذر ، لأفسح لها، مسّت قدمها قدمي . سحبت قدمي. نظرت اليّ وعبرت وجهها ابتسامة صغيرة شاحبة ، ثم استدارت بعبقرية ومشت.
الآن أراها، أراها قريبة كجفن العين . كانت هالة من الضياء ، من الفرح . ما أشد بؤس الكلمات . ليتني أصاب بالخرس الكلي وأختنق ، وليت أن رادميلا ظلّت وفيّة لي بضعة أيام أخرى . لو أن الحزن لم يهزمني ذلك الصباح ، لظّلت رادميلا معي. كنت الآن بنظركم ظافراً ، لكن ، وايفان ثعلب ، لا يكّل ولا يتعب، أذ ما كاد يراها تخرج من حزني ، حتى حاصرها، واستسلمت له بسرعة لتقتلني ، ثم هربا معاً. عندما هربت رادميلا رأيت بعيني هوة ساحقة تمتصني ، لم أستطع ان أقاوم، ثم أصابني الهلع.
أمّا تلك الأبتسامة الصغيرة الحزينة التي ارتمت عليّ ، فقد جعلت الأرض تغور ، آه ما أشد عذاب تلك الأبتسامة . كانت متشجنة ومذعورة . وأنا ، سموا أفكاري أي شيء ، لأن الأرض لم تحمل على ظهرها من هو أجبن مني . كنت في تلك اللحظة أرنباً مقوس الظهر وملعوناً. كنت أخاف من ظلال الأشجار، من صوت الريح . وأنتم أيّها الناس ، يجب ان تجلدوني مئات الجلدات . لا تكونوا رحماء معي ، وأنا لا أستحق الرحمة أبداً، أبصقوا عليّ ، لو أن كلمة قلتها ، لوان مسّة قدم أخرى ، أبنسامة شجاعة، آه اتركوني ، لقد تعذبت أكثر مما أطيق ، والآن ، وبعد مرور السنين ، اذا سقط المطر ، اذا لم يسقط المطر ، أتعذّب.
نقر على كتفها ، أرتجفت ، تلفتت بذعر . كان وجهه جافاً ، وشعيرات حمراء ، من اثر نزيف داخلي لاينتهي يغطّي وجنتيه، لم تكن تحمل رغبة او علامة تعبّر عن شيء ما . صلابة واثقة، ورضى ، ثم أوامر مختصرة.
مشت الى جانبه بهدوء قطة. احتواني كون أخضر . كنت أرشح جبناً . نحوّلت الى حيوان مذعور محاصر ولا يقوى ان ينظر في العيون خوف ان يصعق . كنت ألهث وأنا أحاول التنفس ، اما الأصوات ، غير المسموعة ، التي ماجت داخلي ، فكانت ترتطم بجدار صدري ، ويصبح لها دوي هائل موجع . قلت لنفسي بعد ان غابت : "آه لو استعطت ان أرد عليها بابتسامة واحدة"
تصوروا ، كنت أتظاهر بمتابعة اللاعبين ، لم أرّ شيئاً. أما وهي تبعد فتملكني جرأة مذهلة ، بدأت أنظر اليها، أتابعها كانت تسير في الوسط ، زوجها ناحية اليمين ، والولدان ناحية اليسار ، كانت قدمها الصغيرة ، وهي تنتقل تدوس على قلبي في كل خطوة ، كانت خطوتها تزحف في دمي ، تركض . شعرت بالنقمة والحزن. صرخت من العذاب : "أيّها الرب الكي القدرة اريد قليلاً من الهواء لكي لا أختنق". ومع كل نقلة قدم ، في الساحة الفارعة ، أحس دمائي تنفر كأن ضغط القدم يجز رقبتي وعيني. وأتذكر رادميلا ، وأتذكر ايفان . وأخاطبهما بصوت مبحوح : لم أنسى لكما هذه الأساءة.
لو أن رادميلا لمست مدى العذاب الذي يركض في صدري لغفرت لي حزني . لكنها قالت لي بتعالٍ وهي تتركني :
-احمل معك التوراة مرة أخرى ، وأقرأ على قبور القرية المجاورة.
" أكره الحزن يارادميلا . لا أحبه أبداً . وهل تتصورين رجلا على ظهر الأرض كلها يحب ان يكون حزينا"؟ كدت اقول لها هذه الكلمات التي عبرت رأسي ، لكني لم أفعل . ظللت صامتاً.
نظرت رادميلا اليّ وهزت راسها لما رأتني صامتاً، ثم قالت:
- عشرة أيام في الجبل ، الى جانب البحيرة ، وبعدها نعود الى الدراسة والعمل. يجب ان ننسى . وأنت ، لماذا لا تريد أن تنسى؟
لم أقل لها شيئاً ابداً. وأنتم لا تستطيعون ان تقولوا اي شيء. أضحكوا بسخرية ، ولكن دون ان ارى . واذا علت قهقماتكم فسوف أشتم مثل ابليس ن سوف اقول لكم : أيّها الخنازير ، يا مّن تفتقرون الى القلوب . يامن بالت عليكم أمهاتكم لكي تشفى الدمامل المنتشرى فوق صدوركم ووجوهكم ، لن أقول هذا فقط، سوف أقول أكثر : أنتم ، يا أربطة العنق ، سوف أشنقكم بهذه الأربطة ذات يوم. لن أكون رحيماً. الرحمة لا تعرف طريقها الى قلبي. ومن تريدون ان ارحم؟ الصدور المجوفة ؟ الصدور المليئة بالقيح، أنتم؟ لا تخافوا ، سوف أتصرف كوحش.
وأنت يارادميلا ، آه لو ان تلك الليلة لم تنته. لو كانت لي قدرة ثور او رغبة كلب ، لكنت الآن تلبدين الى جانبي مثل قطة مقطوعة الذيل. كانت تلك الليلة قصيرة ، فاجعة الحزن . وكنت ثوراً هرماً مهزوماً. تعبت بسرعة . ارتميت . وفي الصباح أصابني الحزن والندم . ولم تحتملني ـ تركتني رادميلا ، والآن ، وأنا أرى الباب يبتلع قدسيتي ولا أعود اراها، أضع اصبعي في عيني واضغط . لم أكن أريد ان أرى شيئاً. لم تعد موجودة ، ذهبت .
أين ذهبت؟ هل تخلع ملابسها الآن؟ هل تقف أمام المرآة لكي تختار ملابس جديدة ؟ وهو هل يقوى ان يحّول نظره عنها لحظة واحدة؟ كيف يستطيع ان يترك ثانية تمر دون ان يزحف تحت عطرها ، دون أن يمرغ وجهه عند قدميها؟
وأنت أيها -"أستغفرالله"، يامن أوكلت الآباء المقدّسين تلقي الاعترافات ، كان أولى بك ان تفعل شيئاً آخر.. شيئاً أفضل. ان تأمر هولاء الذين لا يكفون لحظة، حتى أثناء القداديس ، عن الخطيئة ، أن تأمرهم بالصمت المطلق ، وأن تقف لحظات خشوع لكي تتجلى قدرتك أكثر ، أن تقول لرادميلا : " شيء من الحزن غذاء القلب". أو أن تقول للشعيرات المنتشرة على الوجه الصلب الراضي : " أترك هذه الفراشة ، الموجعة القلب ، أتركها تلوّن الحياة بموسيقى الفرح". لكنك أيها الرب ، لم تعطني قلباً شجاعاً. لماذا لم تقبل لقلبي أن يكون باسلاً مرة واحدة فقط؟
هل كانت في غرفتها تبكي ؟ تفّكر ؟ لماذا تبدو حزينة هكذا؟
قلت لها بيأس : "لماذا الحزن أيتها القدسية المتوجة في قلبي الى الأبد؟"0





شعرت بلفحة الكآبة تخنقني لما رأيتها هكذا حزينة ، وتمطت كآبة سودا في قلبي لما تصوّرت ان الانسان يمكن ان يحزن هكذا!
في وقت ما، (لا أدري أي وقت ، لأن اموراُ كثيرة عبرت رأسي دون روية) جاءت الى الصالة وحدها . كنا وحيدين في الصالة . تصورا ، كنا وحيدين . شعرت بالخوف . بدأت أرتجف . انقذفت الى ذاكرتي كلمات قرأتها ذات يوم على قبر . نظرت اليها . كانت حزينة بشموخ ، قالت لي عيناها وهما تنسكان عليّ : ماذا تريد؟ نعم قالت ذلك عيناها . قالته بطريقة آسرة ومدمرة أصابني الخوف أكثر من قبل . تكّومت . أستندت الى الكرسي لكي لا أتمزق . سقط كرسي آخر من الحركة البلهاء تموجت في داخلي . كان لسقوطه دوي يخض الدم ، لكن ابتسامتها التي حاولت أن تلملمها بثني رأسها ، جعلت كل شيء متفجراً.
جلست . أخذت مكاناً بعيداً وجلست . نظرت اليها بارتباك . هزّت رأسها وكأّنها تصمّم على شيء أو تغني . كنت أريد أن أجمعها بطريقة ما لأضمها في عيني . كانت تنظر عبر الجاج وتفكّر . أخرجت سجارة من حقيبتها ، شمّت رائحة التبغ بتلذذ . آه ، لو أن الشمس تحّولت في يدي الى جمرة . لو ان ذلك حصل مرة واحدة لأوقدت لها السجارة واحترقت . كنت أريد ان أفنى .
أن اذوب . لماذا لم اقترب ؟ لماذا تركتها تشعل السجارة والقداحة الذليلة تنام في جيبي كأّنها حثة حمامة ؟ تطلعت اليّ أكثر من مرة قبل أن تشعلها . بدا لي انها لا تجد كبريتاً ، كنت أعمى . كنت جباناً . وأنتم أيهّا الآباء المقدّسون ، هل تحاسبون رجلاً جباناً ، ولا يحمل في قلبة رغبة شريرة ، ويريد ان يشعل سيجارة امرأة حزينة ولا يستطيع ؟ يجب ان تقولوا شيئاً . ان الاعترافات التي ارتمت في ذاكرتكم لا تستطيع ان تهز شعرة في عرش الرب.
بدا لي كل شيء دون معنى .
فجأة نهضت . لم استطع أن انظر اليها. أحسست بنظراتها تحاصرني ، تلاحقني . لكن برعونة يائسة تصلّبت عضلاتي . أصبحت لا أنطر الاّ الى أمام .. وفي لحظة لم أعد أرى شيئاً.
وفي المرحاض ، الذي ذهبت اليه دون أن أدري ، لم أفعل فيه شيئاً ، سوى اني قذفت القداحة بازدراء ، وخرجت.
كان مطر الصيف ، لكنه هذه المرة فقد قسوته وكثافته وبدا مزدهراً عابثاً وأقرب الى الرذاذ.
ابتعدت كثيراً عن الفندق . استندت الى شجرة وبكيت . لأول مرة أجد نفسي بعد سنوات طويلة أبكي . قولوا أقسى الكلمات . أبشعها . قلبي الذي بكى . كان قلبي كطفل يبكي دون أن يدري ، ولا يعرف لماذا؟ وأنتم ، الكبار ، المسنّون ، الوقورون ، المزهوون ، تسخرون من قلبي الذي بكى ؟ لا يهمني ، سوف انتقم منكم ذات يوم.
وفي وقت ما ( لا أدري أي وقت ، ان ذلك شيء غريب للغاية) مرّ ثلاثة فلاحين . قلت لأحدهم ، وكان يضع غليوناً في فمه:
- لديّ تبغ . تبغ جيد ، وأريد نبيذاً جيداً بدل التبغ.
- كانت طريقتي في الكلام لذيذة ، أو هذا ما بدا لهم .
ضحكوا . نظروا اليّ بحب. قال لي واحد منهم:
- امش معنا وخذ زجاجة كبيرة من النبيذ ، ولا نريد التبغ .
- التبغ أو لا أريد شيئاً.
هزوا رؤوسهم بصمت ومشينا معاً . كنا أغلب الوقت صامتين . لكن قبل أن نصل القرية ، انفجر واحد منهم بضحكة عالية، دون سبب . نظر الآخران اليه باستغراب ، ثم شاركاه الضحك . قال الذي ضحك أولاً وهو يغرق من الضحك اكثر من قبل:
- رأيت مرة رجلاً أسود قرب السوق . كان حزيناً أكثر مما ينبغي ، طلب الي أن أعطيه نبيداً مقابل حذائه ، رفضت . رجا نبيذاً مقابل شيء أهم من ذلك بكثير.
وبلهفة سأله أحد الرجلين :
- ماذا أخذت منه؟
- قال:
- في الليل أخذت أفكاره ، كان يفكّر بالانتحار من اجل امرأة ، لكن في الليل بعد ان شربنا وغنينا وضحكنا كثيراً ، بدا الرجل يبكي ويشتم نفسه ، وفي الصباح لم يفكر بشيء سوى أن يهرب منا !
عندما سمعت القصة توقفت ، وتوقف الرجال . نظروا اليّ بأستغراب . قلت :
- لا أريد شيئاً!
ولما ابتعدت قلت كلمات أضنهم لم يسمعوها .قلت لهم :
" انتم رجال ماتت قلوبهم ، ولا تعرفون معنى الحب "
ركض ورائي احد الرجال الثلاثة ، قال والمسافة بيننا لا تزال خطوات كثيرة :
- تعال يابني ، عندنا كل ماتريد ، النبيذ والحب.
توقفت حتى وصل ، نظرت في وجهه . بدا حزيناَ . قلت :
- كنت أمزح ، لا أريد شيئاً!
- لم يفهم أوّل المر ، ظلّ ينظر اليّ ، لكن لا يراني . تأكدت ان هماً في قلبه يعذبه . استخرجت سيجارة ، وأولعتها ، ثم قدمتها اليه . تناولها بصمت وهزّ رأسه . قلت وأنا استعد للرحيل :
- الأفضل أن أعود ، والأفضل أن تعود أنت.
هزّ رأسه بأسى ، ورفع يديه بتحية صغيرة وأسف.
قلت لنفسي وأنا اتجه الى الفندق : ايّها الآباء المقدسون ، تعالوا واسمعوا اعترافات رجل حزين . الأرض مليئة بالرجال الحزانى . وحتى الآن لم تسمعوا سوى اعترافات المخطئين ، اما الذين يموتون كل لحظة ، فأنتم لا تعرفونهم ، حتى الذي في السماء، يسند على يد ويعبث باليد الأخرى ، لا يعرف الآلالم التي يعاني منها الحزانى ، واذا كان يعرف فلماذا خلق هذا المقدار كله من الحزن!
لما وصلت وصلت قريباً من الفندق نظرت الى الخلف . لم أر الرجال . كانت أضواء القرية تبدو باهته متعبة ، كأنها تسحب نفسها من أعماق مغارة الكراهية!
حتى التاسعة نمت . في السهرة لم أجد مكاناً في الصالة الاّ بصعوبة . كان الغرباء قد اتوا ، أماّ هي فلم أرها. هل أتت ؟ هل ذهبت مبكرة؟ ألا تزال حزينة ؟ وهل يحتمل أن تكون قد آوت الى فراشها جائعة ؟ وهو.. أين هو ؟


36-37

---------------------------------------------

كان الغرباء ، وكانت رادميلا وأيفان . شربت كثيراً تلك الليلة . وقلت لفتاة ارادت ان تراقصني عندما حان دور النساء في طلب الرقص:
- قلبي يطفح بالحزن . قد أرقص ، لكن لو أن راقصاً آخر كان بدلاً عنّي لقضيت ليلة هانئة.
نظرت ٌإليّ ياحتقار ولم تجب . لم أكن أنا الذي نطقت بهذا القول المأثور ، فكؤوس الكونياك ملأت رأسي بشجاعة نادرة‍!
طوال صباح اليوم التالي لم تظهر. رأيته ورأيت الأولاد. أما هي فلم تظهر . هل كانت تنام؟ هل أنتحرت؟ وعيناها، القنديلان اللذان يربض فيهما عبث الاله ، قوته وجبروته، وجوده ونفيه، أين هما؟ قلت لنفسي بنزق : أيتها العيون التي انفجرت في ظلمة الحياة التي أعيش فيها . سوف أعبدك . انا مجوسي أكثر من مجوس الأرض كلهم.
وأنا أغرق في أفكار متشائمة، تذكّرت قصص العشاق الصغار الذين انتحروا ، الذين شربوا السم، الذين علقوا أنفسهم بحبال على أشجار الزيتون ، وماتوا . الكتب القديمة تحكي عنهم ، تحكي عنهم بأسى . أنا ، لا أريد ان انتحر. لا أجرؤ على التفكير بهذه الجسارة . هل أصبحت كبيراً؟ وقلت لكم ولا أزال مراهقاً، والكبار ؟ كيف انتهى الكبار المسنّون؟ الشعرات البيضاء تتوغل في رؤوسهم ، الغصون تربض بهناءة حول الفم والعينين ، كانوا كباراً، ولكنهم أحبوا ، هل انتحروا؟ هل قرأت هذا في كتاب؟ سمعته؟ توهمته؟ ليس من حقكم ان تستجوبوني . ما أقوله لكم حق ، وعليكم أن تصدّقوا !
زانا ، الدبيب الزاحف عليّ، والذي يلعق قلبي بنعومة موجعة ، ماذا أسميه؟ اللهفة؟ الحب ؟ لنترك كلمة الحب ، انها خطيرة لدرجة لا احتملها ، انها شديدة القسوة ، قد اخطىء في استعمالها ، وربما تحوّلت على لساني الى انشودة لا يجدر ان اتركها طليقة هكذا . ان ما أحسّه أقرب الى رغبة البكاء .
حكيمكم الأعور يصرخ الآن : قلت لكم ما يحتاجه هذا الرجل الحنان!
وأنا أصرخ في وجه هذا الحكيم ، أصرخ بجسارة ترعبه ، حتى يبول في ثيابه: الانسان المنسي في هذا الجبل ، مطر الصيف ، الوحدة ، الشوق الجارج لانسان ، لامرأة ، لا ، لا أكذب عليكم ، أكذب ، ولكن بمقدار حبة الدواء الصغيرة . كنت في ذلك المنفى الجبلي اشتاق لعناق رحيم ، ليد صغيرة دافئة تقبض على يدي . كنت أريد عينين أذوب فيهماا حتى أتلاشي ، وكانت هي .
لو قلت لكم ان أفكاري نظيفة مثل أوراق اشجار الصنوبر المغسولة بمطر الصيف ، لكذبت . لكن لم أكن أفكّر بالمضاجعة . لم أفكّر ان تتحول هذه المرأة بين يدي إلى راداميلا ، كنت أريد أن ألمس يديها . ان أَقبّلها . أن أضع رأسي على حضنها وأغفو .اذا فكّرت أكثر من ذلك أقطعوار رأسي واعهطوه للكلاب ، وأنتم أيهّا الشديدو التزمت ، ماذا تستطيعون أن تقولوا عن الأفكار الصغيرة التي تحركت في رأسي؟ الخطيئة ؟ ولكن أين هي الخطيئة؟ حتى اللحظة لا أشتهيها . ووصية المسيح التي تستندون إليها لا يمكن أن تجعلوها مقصلة لتنتزع رأسي بكل هذه البساطة . لم اشته أمرأة غيري ، كل ما أردته أن أغفوا في تلك الجنة لحظة واحدة ثم أموت‍!




رادميلا . شعر متطاير في عتمة المساء على كتف ايفان . شفتان غليظتان شهيتان . عندما كنت أقبلها لم تكن شفتاها مثيرتين كما رأيتهما فيما بعد وهي تقبل ايفان، " أين ستهربين منّي يارادميلا!" المدينة تنظرنا وايام الشتاء الطويلة . وفي المدينة سوف اكتشف شفتيها مرة أخرى ."أرفعي رأسك يا رادميلا . أنظري إليّ . لا تتحركي ، أريد ان أرى الشفتين".
لا اريدك ابداً يارادميلا ، هنا . لو كنت بعيدة لشعرت بالراحة، القطة الماكرة التي تنام بين ثيابك لا تكف لحظة عن الخرمشة . تبتعد الآن وايفان ، لكن إلى المقدار الذي يسمح لي ان اراها . على شاطىء البحيرة تدور ، حتى اذا رأت وجهي أبعدت وجهها بسرعة مثيرة وجلست . تعطيني ظهرها ، ولكن لا تكف عن النظر ، ونحت الصنوبرة الكبيرة قرب التبغ تختار مقعداً بذاته لكي أرى "ايفان ، لا تصدّق أن قطتك ستفلت مني". لكن شكراً لشيء ما ، لإيفان ، للشهوة للجبل والبحيرة ، شكراً لشيء ما هو الذي انتزع رادميلا منّي.
بقيت وحيداً. أحساس الانسان بالوحدة في أماكن معينة ، في أوقات معينة ، أحساس بالغرق . يحس انه محاصر بالمياه من كل ناحية ، وحجارة كبيرة في رجلية تشده ، تجره الى أسفل ، وفي الأعماق احساس بالغرق كثيف ، عام مليء بالوحدة . فإذا سقط المطر أصبح الشعور بالغرق شديد الطغيان واليأس .
صحت السماء في اليوم الثالث . جلست في الشرفة ، ذات الشرفة الملعونة التي كتبت شهادة نهايتي . الشمس مليئة بالدفء والروعة والبحيرة ساكنة مثل سمكة شديدة الصلابة والثقل، والأشجار تولد مرة أخرى ، تولد : اكثر خضرة . أكثر طفولة.
كانت تضحك وهي تتقدّم . دفعت الباب بكتفها الأيسر ، والسيجارة في يدها ،


اهداء لابراهيم وحسينو ... قصة حب مجوسيه - الباحثة عن الحرية - 12-12-2005






:no::no: