حدثت التحذيرات التالية: | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5) +--- المنتدى: المدونــــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=83) +--- الموضوع: تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... (/showthread.php?tid=22744) الصفحات:
1
2
|
تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... - ابن سوريا - 11-22-2005 هذه المدونة، مخصصة لتفاصيل الحب الفاشل و/أو العابر في حياتي. ذلك أن تفاصيل الحب الناجح يحتاج لمدونة أخرى، ولشجاعة أكبر لدي لكي أتحدث عنه بجرأة. من ناحية أخرى فالقصص المذكورة هنا لا تحترم الترتيب التاريخي لمجريات الأحداث، ويمكن أن أذهب لتاريخ معين ثم أعود لحقبة سابقة لها. تحذير: التفاصيل العربية ليست صحيحة كلها. لاعتبارات لا تخفى على أحد. فلقد حاولت معها تمويهاً وابتعدت عن المباشرة فيها. التفاصيل الفرنسية حاولت فيها قدر الإمكان الحفاظ على صدقيتها بحسب ما تسمح به الذاكرة بالطبع، ومسودات كتبتها قديماً. هذا لا يمنع أني نسيت بعض الأسماء لشخصيات ثانوية، ولا يسمح لي وقتي البحث عنها، وهي لا تؤثر على مجريات الأحداث. وسأبدأ بعد قليل. تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... - ابن سوريا - 11-22-2005 1. لا يوجد ما يكفي من الحب في قلبي لم أكن أدري حين التقيت بها في ذلك الصيف وجرى ما جرى بيننا أنه سيكون آخر صيف في عمر حبنا القصير والذي لم يتجاوز عدة سنوات. كنت عاشقاً، وكان يظهر ذلك في عيوني التي لا تعرف تخبئة أي سر، فطالما قلت لنفسي : عيونك "فضائحيّة" . وعبثاً حاولت إخفاء ذلك الحب، فسيرته تعدّت حدود مدينتي الصغيرة الهادئة الآمنة. ما زلت أذكر كلمات "الحجة" رحمها الله: "هذه الفتاة أجمل فتيات العائلة"، ولكم كنت راضياً عن نفسي أنها تحبني. وكأي مراهق عربي كانت تعبيراتنا عن الحب تتجسد بالأغاني التي نسمعها، ببعض القبلات، وبكثير من تأوهات و"خناقات" بين حين وحين، كنا نسميها بهارات الحب التي لا بد منها. كانت هي تحب "ميادة الحناوي" وترتعش حين أكون معها ويطلع علينا التلفاز بأغنية "أنا بعشقك" وتنتظر ذلك المقطع لكي تنظر إلي بعينيها الواسعتين البراقتين وتغني مع ميادة "بتحبني ولا الهوا عمرو ما زارك". أما أنا فكنت أحمر وأخضر وأصفر وأتطلع حولي لئلا يرانا أحدٌ هنا فيكتشف ما نكنه لبعضنا البعض في قلوبنا الغضة الغريرة. وكنت من ناحيتي أعشق "عبد الحليم" وأحفظ نصف أغانيه عن ظهر قلب، وأمتلك معظمها وأقضي أوقات فراغي بالاستماع لأغانيه، عدا عن شراء الكتب التي تحكي سيرته، وتحتوي كلمات أغانيه، لدرجة أنني قمت بإنشاء نادي عشاق عبد الحليم مع أصدقاء شلتي في الثانوية وكنا نتبارى بمعرفتنا لأغانيه ونراسل محطات التلفزة والراديو وخصوصاً إذاعة عمان وبرنامجها الليلي الذي لم أعد أذكر اسمه، لقد أصبحت المذيعة صديقتنا "المتخيلة" من كثرة ما راسلناها وصرعنا رأسها، كان لي صديق يقول لي – ولا أعرف مدى صحة كلامه- أن من يستمع لأبي سمرة (هكذا كنا نسمي عبد الحليم) لا بد أنه عاشق و"وقعان" و"مدهول" على عينه، بينما من يستمع لأم كلثوم هو شخص عاش العشق قديماً. صدقت هذا الكلام واستنتجت منه أني "وقعان". كانت رائعة الجمال فعلاً، حنطية اللون تنحو للبياض، بعينين واسعتين سوداوين ولديها بريق فيهما يزيدهما ألقاً وجمالاً وروعة، شعرها منساب غزير طويل كشلال حرير يهبط على ظهرها وتعتني به بكل أناقة، كنت أتسلى أحياناً بطلبي لها أن تقص هذه الجدائل، فتحمر وتغضب مني وتقول "هذا الشعر ما بيقصه غير اللي خلقه، فهمت"، كنت أبتسم ثم أضحك، فتغضب مجدداً، ولكي أتفادى غضبتها أمسك يدها وأقبلها معتذراً، فتبتسم أكثر فأكثر لتظهر شفتين مكتنزتين عسلاً مبدية أسناناً بيضاء ناصعة. كان لنظرتها فعل السحر علي، ولضحكتها موسيقى أنقى من سمفونيات بتهوفن وموزارت مجتمعة عندي. أحد أصدقائي المقربين والذي كان يعرفها جيداً هو الآخر، كثيراً ما كان يقول لي: "مو عارف على شو بتحبك، إي أنا أحلى منك وأطول منك ليش ما تحبني أنا"، كنت أبتسم من غيرته المازحة هذه وأرد عليه : "أنت واحد جلف، ليس لديك رقتي وحناني، أنت لا تستطيع أن تقدم لها ما أقدمه أنا لها"، كنت كثيراً ما أفاجئ نفسي بوقاحتي وتكبري، ولا أصدق أنني من يقول هذه العبارة الآن بالذات. كان بيننا الكثير من ذكريات طفولية، درج جعلته بكتاباتي درج الأسطورة، حيث كنا نلتقي بين بيتين لنختفي عن تطفل الفضوليين، وكانت ذكية جداً ككل النساء لتدبير لقاء بيننا بعيداً عن عيون البشر. لكني كنت بخيلاً، بخيلاً جداً بكلمات الحب والعشق، بل لا أكاد أذكر مرة قلت لها بها صراحة : "أحبك". ولست أدري لليوم لماذا كانت تصعب علي هذه الكلمة ولا تخرج مني إلا بطلوع الروح. في الصيف الأخير، حين التقيت بها كانت مصممة على استخراج درة الحب من فمي، وكنت بدوري في مرحلة انتقالية لست أدري فيها ما الذي أريده وأبتغيه، كان يوماً عاصفاً رغم حر الطقس، كان داخلي يعصف فيه شتاء ورعد وثلوج، أريتها أولاً مذكراتي وخواطري وشعري، فقرأت متململة، وأغلقت دفتر مذكراتي بعد قراءة خاطرة أو اثنتين وهي مطمئنة للمعاني التي أردت نقلها إليها منها، وفاجأتني هكذا ودون سابق إنذار بسؤال مباشر قاتل : "أتحبني". وهنا خمد شيء في وأجبت : "لا". أحسست بها بكل جسدها الذي خمد هو الآخر بلحظة واحدة، ارتعش في البداية، عصف ثم انكمش في لحظات، أحسست بكل الدموع التي تحبسها وأكاد أراها في زاوية عينها. أحسست بجبني وفشلي وبصغاري وحقارتي كلها، فاجأت نفسي كالعادة. وكلمة واحدة غيرت كل الحب السابق الذي كنت أحياه وحولته ولسنين قادمة إلى رحلةٍ من الطيش والندم والحزن والفراغ. هربت من أمامي، وتغير كل شيء، لم أرها لساعات وأعرف أنها كانت تبكي في مكان ما لوحدها .. بكيت بعد ذلك، دمعاً ودماً وألما، لسنين طوال حسبتها لن تنتهي. قلت لنفسي : "لا تملك في قلبك ما يكفي من الحب" فتحجرت طوعاً، وغلفت قلبي بقسوة مفتعلة. ومرت سنين وأنا أردد: لا لست أملك ما يكفي من الحب لأجلها، لا يملك قلبي ما يكفي من الحب لأحد. تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... - ابن سوريا - 11-22-2005 2. لا يوجد ما يكفي من الوقت ... "لن نذهب للسينما إذاً هذا المساء"، كان وقتي لا يسمح، ورغم رغبتي الجامحة لكي أذهب معها في موعدنا الحقيقي الأول ولكني كنت أحضر ترتيبات سفري لفرنسا. وقلما وجدت وقتاً لعمل شيء غير تلك الترتيبات. لن نذهب للسينما، وسأندم كثيراً لأني لم أحاول كل ما بوسعي. فمنذ ثلاث سنوات لم أعش أي حبٍّ كان، والحياة بدون حب غاية في الحزن والتعاسة. سنواتي الثلاث تلك عشتها في الدراسة وبين أصدقائي في "مركز البحوث" (المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا)، بعيداً عن الجامعة وضوضائها، كنا نحن نعيش في عزلة جميلة ورفاهية لا بأس بها، وكرمز لتلك العزلة المفروضة والمرغوب بها في ذلك المركز فلقد كان هو وكان سكننا في مكان يسمى "فيحاء الجبل"، وهو عبارة عن تلة بالأحرى تطل على دمشق وتقع بين جبل قاسيون و "مساكن برزة". كنت أشعر بكثير من الانشغال ولكن السعادة بنفس الوقت في هذا المركز، فلقد كنت طالباً ناجحاً وكانت آمال إيفادي لفرنسا بعد سنواتي الثلاث تتأكد يوماً بعد يوم. كما كان لدي شلة جميلة جداً من الأصدقاء، وفي هذا المركز عشت أجمل سنين حياتي من الناحيتين الفكرية والعلمية، ساهمت كثيراً بزيادة نضجي، كما كنا كثيراً ما نجتمع لنسهر في عطلة نهاية الأسبوع بغرفتي أو غرفة صديقنا ميشيل أو فايز، لنسكر تارة أو نتحدث حول كأس "متة" عن الدين والسياسة والجنس والحب وكل ما يمكن أن يخطر على بالنا. كنا نشترك بالفكر الإلحادي، ولأول مرة عشت تجربة رؤية مؤمن يتحول للإلحاد. كان الأمر طريفاً وغريباً بآن معاً. كان لي الكثير من الأقرباء الذين يسكنون في قاسيون بجانب المركز، ولكني توقفت عن زيارتهم بشكل دوري سريعاً، بعد أن استقريت وتعرفت على ما يكفيني بعلاقاتي، رغم حبي الشديد لخالاتي وأخوالي، كنت دائماً ما أقول لهم "ليس لدي ما يكفي من الوقت"، وفعلاً كانت الدراسة في هذا المركز الصعب تأخذ الكثير من وقتي. لكن خالي الأصغر لم يكن يقتنع بهذا التفسير وكثيراً ما يقول لأمي: "ابنك هذا يا فاطمة براوي"، وبراوي تعني الذي يحب العزلة. من ناحية فهو محق بعض الشيء، إذ أني ومنذ صغري أحب كثيراً أن أبقى لساعات وحدي، لأفكر وحدي وأعيد ترتيب عالمي الداخلي، والذي يحقق لي توازناً مهماً.. لقد وجدت لاحقاً بفرنسا وضمن الفردية المتحققة فيه كثيراً مما كان ينقصني ببلدي الأصلي. وحدتي عندما أريد أن أكون وحيداً كانت شرطاً من شروط حريتي.. هي الأوكسجين النفسي والفكري لعقلي. كان موعد رحيلي لفرنسا يقترب، وكانت المشاعر مختلطة في ذهني وكياني، بين التخوف الشديد والأمل الكبير، بين غصة لا أستطيع تفسيرها، ورغبة كبيرة لدرجة لا توصف باكتشاف عالم جديد، كنت أحس بالاختناق هنا، علي أن أرحل. وبنفس الوقت فإني أحب أهلي ولم أكن أعرف كيف سأتحمل كل هذا البعد ولكل تلك الفترة الطويلة. لكن تفاعل أهلي مع اقتراب الموعد هو أكثر ما فاجأني، فأنا من عائلة تقدمية، لا تؤمن بالزيجات المدبرة، ولا بالتعرف على هذه وتلك، ولكني صدمت بيوم من أيام صيفي الأخير بسوريا، بعرضٍ لزيارة أحد أصدقاء العائلة وحديثهم معي عن ابنته الصغيرة، ولكي يخففوا من أثر الصدمة راحوا يمدحون بتقدمية عائلتها، وتفتح البنت وما إلى ذلك.. وافقت على مضض، وذهبت وزرتهم ضمن زيارة "روتينية" للتعرف على صديق قديم أعاد أبي علاقاته به بعد طول غياب للأب بدولة من دول الخليج على ما أعتقد. كان يوماً جميلاً، وتكررت الزيارة مرتين قبل رحيلي، ولكني تأثرت أكثر وأعجبت بالأخت الكبيرة والتي كانت محجبة رغم عائلتها لا سيما أنه سنحت لي الفرصة أن أتـحدث إليها مطولاً بما أني قمت بإعطائها درساً باللغة الفرنسية التي اختارتها في مدرستها، كانت في مرحلة إعادة تفكير وهذا ما جعلني أحترمها أكثر. ولكن بكل الأحوال لم يكن لدي الوقت الكافي لأي شيء. في نفس الفترة، صادف تعرفي على فتاة لم أكن قد رأيتها منذ طفولتي، غاية في الجمال، بشوشة ضاحكة الثغر. ذات شخصية مستقلة وقوية، وحنان رائع. قضيت برفقتها ليلة نتحدث فيها عن كل شيء في هذه الحياة، كان التيار بيننا يمر مر النسيم، والتلاؤم والتفاهم على أشده، اتفقنا آخر مرة قبل أن أراها على موعد في السينما ولكني كنت مشغولاً. لم يكن لدي الوقت الكافي ... لأحب. تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... - ابن سوريا - 11-22-2005 3. لا يوجد ما يكفي من التحرر لدي لذات العينين المتألقتين (1/2) "المرأة يمكن أن تسامح من يتسرع باغتنام الفرصة، ولكنها لا تسامح أبداً من يضيعها" ، كانت هذه المقولة لـ"تاليراند" تتكرر في ذهني خلال الساعات التي أعقبت لقاءنا الأخير في سيارتها، كان قلبي يتقطع، وجسدي يتذمر وكياني وذاكرتي تتمزق بين عقلي وقلبي. ما الذي كان علي أن أقرره؟ هل اتخذت القرار المناسب؟ ربما لن أعلم ذلك أبداً. مدينة "كليرمون فيران" هي مركز منطقة بوسط فرنسا، مسقط رأس الفيلسوف والرياضي "باسكال"، والرئيس الفرنسي السابق "جيسكار ديستان"، وكنت أدرس فيها منذ سنة الآن؛ سنتي الأخير في الجامعة قبل الذهاب لباريس حيث سأعمل. ولكني الآن أعمل "ستاج" أي دورة تأهيلية منذ ستة أشهر في شركة محلية في المعلوميات، ورغم أنهم عرضوا علي عرضاً سخياً للبقاء في الشركة، فلقد فضلت الصعود لباريس لاكتساب الخبرات اللازمة في التقنيات الحديثة. كانت الشركة متوسطة الحجم، ولكن كان يطغى فيها جوٌّ جميلٌ وشكلت بها علاقات زمالة متميزة، ضمن روح المرح والتعاون واللطف والتواضع الذي يتميز به أهل المدن الصغيرة عادة. كما كنت مسؤولاً ضمن فترة عملي عن بداية مشروع تجزئة نمذجية للبرامج لأقسام، وهي تقنية مفهومية حديثة في "السوفت وير"، وكنت تقريباً لوحدي في عمل مضني بالإضافة لمدير مشروع يساندني لشرح القسم المهني، ولتهيئتي في الجزء النمذجي. كان العمل مضنياً ولكني كنت أشعر بمتعة كبيرة في أول تجربة لي في المجال العملي لتطبيق ما درسته. كنت في بداية الأمر في مكتب مع زميلة تقوم بنفس الشيء ولكن لسنتها الرابعة في الجامعة بينما كنت في السنة الخامسة والأخيرة، توطدت العلاقة بيني وبينها وكنا نقضي فترة الغداء يومياً سويا، وكانت فتاة جميلة قصيرة ومهضومة، غاية في اللطف ويبدو عليها الكثير من البراءة والحيوية، ولقد حاول مباشرة بعيد وصولها للشركة أحد العاملين هناك أن يغازلها فرفضته، ولكن لسوء حظه فلقد قام بإرسال الرسالة لجميع أعضاء الشركة بدلاً من إرسالها لها وحدها. لشرح هذه الطرفة، فلقد كان لدينا في الشركة، برنامج للحديث المباشر يستطيع الجميع استخدامه للحوار الداخلي، ويضم خصائصَ متعددة منها إرسال الرسالة لشخص ومنها إرسال الرسالة للجميع، وهذا البرنامج مخصص لتسهيل العمل داخلياً. صاحبنا أرسل الرسالة للجميع بدلاً من اختيار الفتاة تلك فقط. صاحبنا هذا ولنسمه "برنار" كان في المكتب المقابل لي وبمحاذاة مكتبه مكتب المديرة عن قسمنا واسمها "مارتين" (مارتين ما زالت في الشركة وهي من قامت بمقابلة العمل معي وقررت قبولي، وأخبرتني فيما بعد أن زوجها تركي) ، خرجت مارتين ووقفت أمام مكتبه وأنا أنظر إليها مبتسماً ثم صرخت ضاحكة : "إن كنت أردت أن يمر الأمر بحذر فلقد فشلت هذه المرة". كنت أعمل في الطابق الثالث من بناية مخصصة بكاملها للشركة، وكانت آلة القهوة في الطابق الثاني، وبما أني من محبي القهوة فكانت زياراتي للطابق الثاني وهو الطابق الرئيسي كثيرة، تبدأ من الساعة الثامنة والنصف صباحاً وتتكرر عدة مرات في النهار، ولكن زياراتي ستكرر بعد شهر من بدء عملي لأسباب أخرى مختلفة تماماً. كان الطابق الثاني يفتح مباشرة على قسم السكريتارية، ما أن تفتح الباب فإنك ستطل على بهو وعلى يمينك مكتب تعمل به سكرتيرة أو اثنتين، بينهن "فلورنس"، فتاة شقراء ذات عينين لن أنساهما طيلة حياتي، وابتسامة غاية في الجمال، وطبيعة غاية في الطيبة والمرح. "لـفلورنس" عينان خصوصاً لا تتركان من يراهما من حجر ولا صوان ولا جلمدا، بل لا بد أن تأخذك وتسلبك كل دفاعاتك وتحطم كل حصونك، هناك شيء ما لا أستطيع تفسيره، لا سيما حين كانت تنظر إلي. كنت أحس أنها تريد أن تبلعني كلي أن تلتهمني دفعة واحدة. وهي ليست بقصيرة ولا طويلة أقصر مني بخمسة سانتي تقريباً، جميلة جداً، ذات جسم متناسق وكأن آلهة الجمال "فينوس" بحد ذاتها من اشتغل ليالي بكاملها لصقل جسمها. كانت مكتنزة الشفتين كحبتي لوز، وعدا عن ذلك فإنها مثيرة بحركاتها كل شيء بها مثير بدءاً من رائحتها وانتهاء بصوتها، ولكن ولا سيما نظرتها، تلك النظرة .. نعم تلك النظرة .. كيف لإنسان أن يلغي من ذهنه تلك النظرة؟ كثيراً ما تمنيت أن تنمحي من ذاكرتي صورة عينيها ولكن عبثاً. انتبهت سريعاً لنظراتها نحوي وصرت أُكثر من ترددي على صالة القهوة، لأنظر إليها، لم يكن بعد بيننا وخلال شهر كامل غير "البونجور"، ولكن وذات يوم دخلت للطابق الثاني لشراء قهوتي الصباحية، دخلت على أطراف أصابعي كالعادة لكي لا أزعج أحداً، لا سيما أن الباب يطبق طبقاً ويخرج منه صوتاً مزعجاً إذا تركناه دون انتباه ولا سيما أن فلورنس أرسلت تحذيراً لنا جميعاً بالرسائل الداخلية بأنه علينا أن ننتبه جيداً لهذا الباب وأنها لم تعد تحتمل جلف الجلفين، لذلك كنت آخذ وقتي وأسكر الباب دون أن نسمع له "حساً"، نظرت إلى يمين البهو فلم أرَ "فلورنس"، تابعت المشي في الصالة وإذ بي فجأة أسمع صوتاً من اليسار يناديني : "طارق .. ممكن أن تأتي إلى هنا لحظة"، نظرت إلى اليسار فرأيت فلورنس جالسة في مكتب رئاسة السكريتارية، سألت نفسي : "هل كانت تنتظرني بالمكتب الخاص لتختلي بي يا هل ترى"؟، هذه أول مرة تتحدث لي بها بشكل مباشر، ثم كيف عرفت اسمي؟ هل عملت تحقيقاتها النسائية؟. فاجأت نفسي وأنا أرغب بها، وتذكرت أني أعيش مع صديقتي منذ ثلاث سنوات، أزعجتني هذه الخيانة الفكرية الذهنية لصاحبتي للمرة الثالثة خلال ثلاث سنوات. وطمأنت نفسي بعد ذلك: أنت كلما ابتسمت لك فتاة تعتقد أنها تحبك أو تقع بحبها، اذهب هيا وتكلم معها بشكل عادي وطبيعي، فمن يحب كل النساء ربما لا يحب أي منهن، كما يقول المثل. دخلت إلى المكتب المقابل للبهو، وطلبت مني فلورنس أن أجلس، جلست وبدأت تحدثني وأنا أركز نظري على يديها تارة وعلى عينيها تارة أخرى، ثم لاحظت أني أزاوغ النظر إلى نهديها، هذه أول مرة أرى نهديها من هذه المسافة القريبة، قلت لعيوني، هل استمتعن بما فيه الكفاية؟ يكفي الآن إذاً، اتركاني أركز مع ما تقوله. كانت تحدثني عن صديقها المغربي، أو بالأحرى عشيقها، ولقد تفاجأت فهذه أول مرة نتحدث بها ولكنها تحدثني كما لو أنها تعرفني منذ قرون، قصت لي خلال دقائق معدودات قصة حياتها، فهي شبه متزوجة وتعيش مع صديقها الفرنسي منذ 6 سنوات، وأنجبت طفلة صغيرة جميلة منذ أكثر من سنة ستريني لاحقاً صورتها من مكتبها . ولكنها كانت على علاقة جنسية حميمية مع عشيق مغربي تعرفت عليه في هذه الشركة بالذات السنة الماضية، ولكن المغربي غادر الشركة، وهو أيضاً متزوج ولديه طفلة مع زوجته. وبدأت تحدثني عن تعقيد هكذا علاقات ولكنها كانت بحاجة لجديد وكيف أن هذه العلاقة قدمت لها الكثير من المتعة وأشياء لم تكن تعرفها من قبل، فصديقها الذي أنجبت منه كان أول علاقة لها بحياتها لم تعرف غيره ولم تكن قادرة على المقارنة، كما ستحدثني لاحقاً عن الهرمونات التي تزيد خلال الحمل وبعده وتغير جسد المرأة خلاله وبعده وكيف أنها ازدادت جمالاً بعد ولادة طفلتها وأحست ذلك بنظرات الآخرين. بعد تلك المقدمة الجريئة والصريحة، قالت لي أنت تعرف اللغة العربية أليس كذلك؟ أجبت بالإيماء بأن نعم، فقدمت لي بطاقة باللغة الفرنسية، وطلبت مني ترجمتها للعربي لترسلها لعشيقها السابق لتفاجئه بها. خرجت من مكتب فلورنس منشرح القلب، فعلى ما يبدو فإنها لا تخطط علي، ولقد سررت بحديثها لي، فأنا من النوع الذي يحب الاستماع للنساء، وتلامسني عفويتهن وروعتهن التي لا نملكها.. ذلك الوضوح بالرؤية لدى أغلبيتهن، وتلك التلقائية الأريحية المطمئنة. ترجمت لها بطاقتها وشعرت بحرارة هذه المرة وهي تتلقى مني الترجمة، وصرت أتردد كثيراً على مكتبها الآخر والذي يقع بعيد البهو بقليل. حيث كانت تغلق الباب متذرعة بعدم رغبتها بأن يسمع أحد ما تحدثني به. يتبع لاحقاً فهذه القصة طويلة. تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... - ابن سوريا - 11-23-2005 3. لا يوجد ما يكفي من التحرر لدي لذات العينين المتألقتين (2/2) مكتب "فلورنس" جميل مرتب، ومريح كذلك ولست أدري لماذا، كانت تضع على يمينها وبمحاذاة جهاز الكمبيوتر صورة لطفلتها الصغيرة. خلال الأشهر الخمسة التي تلت تعرفي على فلورنس، فإنها أرتني صوراً لها لابنتها لصديقها، وبطاقات تحتفظ بها من عشيقها السابق. كانت تتحدث بطلاقة، بسرعة وبعفوية، تحدثني عن تفاصيل حياتها الجنسية وكأنها تتحدث عما طبخته مساء البارحة. تعلمت مع فلورنس ما لم أتعلمه من امرأة أخرى قبلها، اهتمامها بالتفاصيل أذهلني. أخبرتني كيف لاحظت من طريقة مشيي وإغلاقي الهادئ للباب حساسيتي المرهفة، ولاحظت أني أبدو بعيداً ممتنعاً حصيناً عن الإمساك والإدراك، وكيف أنها كانت تفكر بأي طريقة ستبادرني بالحديث دون أن تخدشني أو تجفلني، كنت أبتسم وهي تشرح وتشرح دون توقف، بكل طبيعية وكنت من ناحيتي سعيداً بحديثي معها. لم أعد أطيق يوماً ألا آتي لمكتبها، وحين أكون مشغولاً جداً كانت تراسلني بالرسائل الداخلية، وحتى هنا كانت تكتب أربع رسائل ونيف قبل أن أستطيع الرد مرة واحدة. في الرسائل الداخلية أحسست بحرية أكبر، فأمام الكم الهائل من التفاصيل التي شاطرتني إياها، كنت أشعر في اللاوعي أنه علي أن أبوح لها ببعض أسراري أيضاً، ولقد نجحت بذلك بصعوبة بالغة، ذلك أني من النوع الكتوم عادة وأشعر أني حين أتكلم عن نفسي أعري ذاتي. بدأنا إذاً وبفضل الرسائل، نتقدم أكثر في البوح، وتشجعت وصرت أسألها بدوري بفضول عن بعض التفاصيل، عن الأمكنة التي تمارس بها الجنس مع عشيقها، وتجيبني أنهم غالباً ما يذهبون للفندق، وأحياناً عنده حين تكون زوجته مسافرة، أخبرتني عن الأشياء التي تعلمتها ولم تكن تخطر ببالها ولم تكن تصدق أنه ممكن أن تقوم بها هي، عن الوضعيات في السرير. صرت أحدثها من ناحيتي عن الروتين الذي بدأ يعصف بحياتي الحميمية، وهنا فاجأتني بقولها : أنا متأكدة أنه يمكنك قضاء الليل كاملاً وأنت تمارس الجنس، ثم ابتسمت ابتسامة ماكرة أصابتني بدوار خفيف. لست أعلم من أين أتت بهذا التأكيد، ولكني أخمن أن عيوني تخونني من جديد وتبوح برغبتي العارمة بها والتي كانت تجتاح كياني حين ألتقي بها. ابتسمت بدوري وأجبت: هذا مما لا شك به. وانفجرنا ضاحكين. في اليوم التالي لحديثنا الأخير، أو بعده بيومين، التقيت بفلورنس أمام آلة القهوة تماماً، وكانت تتحدث لزميلتين في قسم آخر في الشركة، لم أكن أراهنّ كثيراً من قبل، واحدة منهن لم أعد أذكر شكلها وكان عمرها في الأربعينيات والثانية في نهاية الثلاثينيات قصيرة نسبياً شعرها قصير وأسود، وجهها منمنم التقاسيم وتنحو للسمار، عيونها صغيرة ولها ابتسامة ساحرة، سلمت عليهن مع بعض كلمات مجاملة معتادة. أخذت قهوتي والتفت للمضي في الممر الذي يؤدي للبهو لأعود للطابق الثالث ولكن فلورنس عاجلتني قائلة : "طارق .. أرجو أن تنتظرني بمكتبي أريد أن أحدثك بأمر مهم". ازداد خفقان قلبي فجأة، ما هذا الأمر المهم على الصبح؟ بدأت الأفكار تذهب بي وتجيء، ذهبت إلى مكتبها، عدلت جلستي في المقعد المقابل لمكتبها وجعلت أحملق وأبحلق في الصور على الجدران وجدول المواعيد دون الاهتمام فعلاً بما هو مدون أو حتى التركيز بالوجوه في الصور، كنت كمن ينتظر لمقابلة عمل ويحاول بهذه الحركات أن يخفف من توتره، صرت أعيد بمخيلتي صورة فلورنس مع السيدتين في الزاوية المجاورة لآلة القهوة، كانت تبدو فلورنس طفلة أمامهن ولكن مع ذلك سيدة بعمرهن العقلي أيضاً قلت لنفسي إنها مفارقة طريفة، ففلورنس بعمري تقريباً ولكنها تعمل منذ سنوات، ولا بد أن تجارب حياتها العملية علمتها الكثير، كما أنها أم محبة .. قطع أفكاري حضور فلورنس الشهي للمكتب، أغلقت الباب بهدوء، وجلست مقابلي، وكالعادة ستلقي إلي ابتسامتها الساحرة وبتركيز لعدة ثواني قبل أن تبدأ بالكلام، إنها تعلم تماماً تأثير ابتسامتها على الرجال، لذلك فلقد جعلت منها سلاحاً فتاكاً ، وأنا كنت أسعد بهذا السلاح المشهور أمامي، وبل كل توتري كان يضمحل بعد الثواني القليلة لتركيزها، أحياناً كنت أقاطع ابتسامتها بسؤال مثل "كيفك اليوم"، أو "ما آخر الأخبار". اليوم قاطعتها بسؤالي : "ما الخطب، ما هو هذا الأمر المهم"، ضحكت وقالت لماذا أنت مستعجل. تركتها تمسك زمام المبادرة وتتحدث، وكنت أتفاعل بين الحين والآخر، صارت تسألني أكثر هذه المرة عن علاقتي مع صاحبتي، بدأت أفهم وأخمن أن الموضوع له علاقة بصاحبتي. وهنا سألتني : - ما رأيك بالسيدة التي كانت معي منذ قليل عند القهوة؟ - أي واحدة منهن؟ القصيرة؟ وبدأت تخبرني بأن هذه السيدة معجبة بي وأنها سألت عن اسمي بقولها "ما اسم هذا الشاب الجميل؟"، أخبرتها بأنها تعجبني، ولكني ذكّرتها بكثير من التردد بأني مرتبط . هزت رأسها للتعبير عن تفهمها. عاودت سؤالي مرتين أو ثلاثة بعد ذلك حول تلك السيدة لكن دون الكثير من الاقتناع، وبأسلوب يجمع بين المزاح والجد. في الشهر الأخير اتضحت الأمور لدي من الناحية العملية، فلقد قررت الذهاب لباريس بعد انتهاء دورتي التأهيلية، ولقد قابلت مدير الشركة بعد انتهائي من تقديم عرض الدورة في الجامعة وحصولي على علامة ممتازة، وأخبرني بأن جميع من عمل معي يمدح بي وبجديتي، كنت خائفاً أن يلومني على علاقتي مع فلورنس ورسائلي التي لا تنتهي معها يومياً وجلوسي الطويل بمكتبها لا سيما أن الحديث عن علاقتنا بدأ ينتشر في الشركة، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث بل عرض علي البقاء بالشركة بعقد عمل دائم لكي أصبح مدير مشروع خلال ستة أشهر.. اعتذرت منه بلطف وأخبرته عن مشروعي بالذهاب لباريس لاكتساب خبرات في التقنيات الحديثة، تفهم المدير رغبتي ولم يلح وودعني مبتسماً وعارضاً علي أن نبقى على تواصل دائم. في آخر أسبوع من عملي بهذه الشركة، لاحظت أن فلورنس بدأت تتململ وتلمح تلميحات لها معنى معين صرت أفهمه جيداً، ولكن دائماً بشكل مرح. كنت على قاب قوسين أو أدنى لأدعوها لأخذ كأس بعد العمل في أحد مقاهي المدينة. ولكني كنت متردداً وصوتان في رأسي لم يكونا يفارقاني طوال الفترة القادمة، صوت الوفاء لصديقتي وصوت الرغبة الجامحة نحوها. لكنها في نهاية الأمر أخذت زمام المبادرة ودعتني بآخر يوم لكأس أخير بعد العمل في المقهى المجاور لبناء الشركة. كان يوم الجمعة ولكننا بقينا لآخر الدوام بحدود الساعة الخامسة والنصف، هبطت للطابق الثاني وذهبت مع فلورنس للبار المجاور، كان البار والذي يعمل عادة في فترة الظهيرة لتقديم وجباته في هذه المنطقة المليئة بالشركات، كان البار فارغاً فاختارت فلورنس زاوية منعزلة طفقنا نتحدث ونتسامر ونتضاحك حتى جاءنا النادل ليبلغنا بلطف بأنه مضطر لإغلاق المقهى، ولم تكن الساعة قد تجاوزت السابعة مساء. عدة مرات لامست يدي يد فلورنس وقشعريرة كانت تنتابني في كل مرة، منعت نفسي مرات عن مسك يدها، ذلك أن هذا الفعل يعني مضينا بعلاقة مجهولة المصير، كنت خائفاً أن أدمر كل شيء. أصرت فلورنس أن توصلني بسيارتها للمدينة السكنية في أطراف المدينة حيث أسكن وصاحبتي في شقة "ستوديو"، وحين وصلنا قالت لي بأنها تفضل أن تتركني بمكان قريب من سكني وكان في زاوية منعزلة، كي لا ترانا صاحبتي بالصدفة. توقفت بسيارتها وفاجأتني بقولها: "ما هذا هل أغلقت باب السيارة، أتريد أن تغتصبني طارق؟" وأتبعتها بتلك الابتسامة والنظرة القاتلة، فهمت لعبتها جيداً، كنت بحالة هشة، ضحكت بشكل هستيري، وتلبك صوتي وتلعثمت وأنا أرد عليها بكلمات لا معنى لها. اقتربت منها لأقبلها قبلة الوداع الكلاسيكية، فسألتني مبتسمة "ماذا تفعل"، فجاوبت بأنه من الضروري أن أقبلها قبل الوداع، تركتني أقترب من وجنتها اليسرى وأحسست حين ملامسة وجهها الحار أن جسدي كله ينتفض ويرتعش، وبدلاً من الاكتفاء بذلك فلقد قمت بتقبيلها فعلياً على وجنتها، ووضعت يدي المتعرقة على يدها ، كررت القبلة مرة ثانية فسمعتها وأنا في حالة دوار تقول لي "ماذا تفعل يا طارق"، كان صوتها الذي تحول لمغناج يقول "تابع" كانت حالة الدوار تزداد وتتفاقم، ولم أعد أحس برأسي أصبحت الكلمات صدى في السيارة، اقتربت ببطء من شفتيها اللذيذتين وبدأت بتقبيلها بشغف شديد وأنفاسنا تتسارع معبرة عن رغبة تتجسد الآن وتتركز في قبلات شهوانية عذبة، سحبت يدي اليمين ووضعتها على رقبتها بادئاً تدليكها ببطء وحنان محركاً إصبع إبهامي بين أسفل وجنتها وأطراف أذنها بين جهة الوجنة وجهة الرقبة. بينما كانت تهبط أحياناً لتمسك نهدها المتصلب رغبةً. في هذه الأثناء كان لساني يمارس ألعابه المفضلة في فمها باحثاً بلا هوادة عن لسانها الذي كان له طعم رحيق زهور لم تخلقها أرض ولم يعرفها إله. لم أعد أذكر وربما لم أدرِ أبداً كم بقينا في هذه الحالة، ولكن شهيقنا وزفيرنا كان يزداد لدرجة أني كنت أسمعه كضجيج الكون الأزلي، لم يعد في الكون سوانا ... في جموحنا هذا قمنا بحركات متلبكة، توقفنا لحظة كمن انتبه لجسارة الفعل، عدت لكرسيي وصدري يخفق في صعود وهبوط كمن ركض في "ماراتون". نظرت إلي وهي تضع يدها على شعرها محركة إياه للخلف لتعيد ترتيبه بحركة عفوية وقالت مبتسمة وبصوت متحشرج ولكنه ممتلئ بالشهوة "كم نحن مجانين لنقوم بذلك في السيارة، أترى هل مر أحد؟"، بقيت تنظر إلي راضية عما كنت عليه، وبقيت تتطلع بي كمن يتوقع تلك الجملة الوحيدة التي كانت تنتظرها "هيا بنا إلى أقرب فندق إذاً"، استدارت فتغيرت معالمي وقلت لها "لا أستطيع فلورنس، لا أستطيع أن أخونها"، صعقت وبادرتني قائلة؛ "وأنا ماذا تعتقد عني هل تظنني عاهرةً؟". فاجأتني بهذا السؤال الذي لم أكن أحسب له حساباً، لأني بالطبع لم أفكر بالأمر هكذا، وجعلت أشرح لها أن علاقتي بصديقتي مختلفة، وأنها منذ زمن طويل مع صديقها وهي بنهاية مرحلة، بينما أنا ما زلت أؤمن بأنه يمكن أن نصلح الأمور مع صاحبتي. لا أعتقد أنها كانت تستمع فعلاً لما أقوله، كانت مطرقة تفكر بأمر آخر أو ربما غارقة في خيبة أملها. أعادت فتح الأبواب دون الالتفات إلي، فتحت الباب ونزلت مودعاً، التفت إلي وودعتني بابتسامة مصطنعة، قلت لها لنبقَ على اتصال بألم. قطعت الشارع دون الالتفات إليها، ومشيت محني الهامة كالأحدب، ثقيل القدمين، بليد الخطوات. مشيت عدة ثواني قطعت بها عدة أمتار ولكني لم أسمع محرك السيارة، وفجأة دهشت برأسي يلتفت إلى الوراء دون أخذ الإذن، نظرت ثانية إليها كانت السيارة ما زالت هنا وفلورنس تنظر في الأفق في مدى ما أمامها التفتت إلي ورأيت خلال أجزاء من الثانية نظرة لست أنساها، أرخيت عيوني فوراً وأبعدتها عن هذا الحريق الذي رأيته أمامي، مشيت عدة أمتار أخرى ثم سمعت محركها وسيارتها تمضي بسرعة كبيرة، تابعت المسير حتى وصلت إلى الأدراج التي تهبط نحو المدينة السكنية، دخلت إلى الشقة، صاحبتي لم تصل بعد، لا بد أنها في المطعم الجامعي تتناول وجبة العشاء، ألقيت جثتي بكاملها على السرير، وضعت يداي وراء رأسي على المخدة وجعلت أنظر نظرة فارغة من النافذة نحو الأشجار المقابلة والتي تفصل بين وحدتين سكنيتين، كان الطقس لطيفاً مثل أي يوم خريفي في شهر أيلول، وكانت بقية من عصافير تزقزق وهي تنتقل بين أغصان شجرة من الأشجار، قلت لنفسي أليست جميلة هذه العصافير، لا تفكر مثلك ولا تعقد الأمور، تذكرت أغنية زياد "أفلاطون" ورحت أدندن بشيء من الحزن "نيالن والله نيالن برموا الدنيا فتلوا الكون، وأنا علقان بنفس الغرفة مفكر حالي أفلاطون". كانت مازالت رائحة فلورنس عبقة بجسدي، بل كانت تزيد فتتسرب لجميع أنحاء بدني. بدأت الآن تختلط كل الصور بمخيلتي، شفتيها، لسانها نهديها يديها ضحكتها ابتسامتها، مشيتها في ذلك البهو، أول مرة تناديني بها.. أصابني دوار من تسارع الصور في مخيلتي، أحسست بأني سأقع مغشياً علي. فانتفضت من مكاني، وفكرت لحظة بأخذ "دوش"، لكني لم أكن أرغب بإزالة معالم قبلاتها عن جسدي لا أريد أن أتخلى عن رائحتها. ذهبت إلى الطاولة أخذت كأساً وفتحت رفاً علوياً في المطبخ المجاور للطاولة مباشرة وأخذت قنينة وسكي ووضعتها بجانب الكأس، سكبت أول كأس وجلست على الكرسي وبدأت بارتشاف سمي ناظراً من خلال النافذة من جديد للأشجار والطبيعة. قلت لنفسي سأسكر اليوم حتى الثمالة. بعد الكأس الثانية كنت بحاجة لأتكلم لأحد ما، اتصلت بصديقي وحدثته عن كل ما جرى، دهش في البداية، كان يبدو مصدوماً، بل لنقل أنه صعق.. لم تكن فكرة جيدة أن أتصل بهذا الصديق بالذات، لأنه لا يضيع مثل هذه فرص، فماذا كنت أريد أن أبرهن لنفسي من اتصالي به، أن يلومني، لقد فعلها صوته عنه، لست بحاجة للوم الآن، حاول عبثاً أن يهدئ من روعي. اختصرت المكالمة وعدت لسكري. منيت نفسي بأني قمت بالقرار المناسب، تذكرت صورة صاحبتي، ثم وصلت هي ودخلت للشقة وابتسمت لي بكل طيبتها الرائعة، تذكرت فوراً السنين التي قضيناها سوياً وكيف ساندنا بعضنا البعض في أصعب الأوقات وأعسرها.. جعلني هذا أخفف من حدة ندمي وقلت لنفسي كيف يمكن أن أؤذي فتاة بهذه الروعة: لست خسيساً ولا نذلاً. لكني بعد سنين سأنفصل عن صاحبتي تلك، وسأفكر أكثر؛ هل نؤذي أحداً فعلاً إذا لم يعرف بما حدث؟ لن أدري أبداً، ولكني أعرف أني لا أستطيع أن أفقد احترامي لمن تشاركني حياتي فأخونها، كان ربما علي أن أنفصل عنها. عادت في مخيلتي صور فلورنس وعينيها في ذاكرتي وقلت لنفسي أخيراً كيف قل لي بربك كيف؟ كيف يمكن ألا نملك ما يكفي من التحرر لذات العينين المتألقتين؟ تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... - ابن سوريا - 11-24-2005 4. لا يوجد لدي ما يكفي من الشحوم ... (1/2) مشهدان أساسيان كانا يحتلان أفكاري وهواجسي وأنا في القطار الذي كان يقلني في طريق العودة من مدينة "فريجوس" الساحلية إلى مدينة "مرسيليا"، مشهد الساعات الأربعة التي قضيتها في مخفر الشرطة بالقرب من "سان تروبيه"، ومشهد الأفعى الصغيرة التي كانت تنام مطمئنة في الظل تحت جسد "إيفلين" العاري. كنت قد أنهيت عامي الثاني في مرسيليا وفرنسا، مرسيليا مدينة جميلة مختلطة، ولكني قضيت فيها حياة طالب فقير لأعوام طويلة. كان الوقت صيفاً، وخلال بحثي المضني عن عمل جاءني أحد الأصدقاء ليعرض علي الذهاب للساحل اللازوردي (Côte d'Azur) وإلى مدينة "سان تروبيه" بالذات لألتحق بفريق عمل يقوم ببيع حلويات "البينييه" على الساحل، وأعطاني عنوان المكان الذي يخيمون به كل سنة خلال فترة العمل وحضني على المضي إليهم دون تأخير. في اليوم التالي استقليت القطار الذي يذهب إلى مدينة "سان رافاييل"، إذ أنه لا يوجد قطار مباشر لـ"سان تروبيه". ثم كان علي بعدها أخذ باص يحملني إليها، وهناك اكتشفت مدينة ساحلية جميلة، المدينة الشهيرة التي يقضي فيها المشاهير وكبار الأغنياء عطلهم الصيفية. سألت في محطة المدينة عن الطريقة للذهاب للمخيم الذي أحمل عنوانه، فأخبروني بأنه علي أخذ باص وأسأل السائق أن يقف بأقرب موقف للمخيم. كانت مواعيد هذا الباص كما كل الباصات في هذه المنطقة متباعدة وعدد الرحلات قليل. بعد طول عناء وبحث وصلت أخيراً للمخيم في نهاية بعد الظهر، ولكن ولسوء حظي أخبرني المسؤول عن المخيم بأنهم أتوا متأخرين هذه السنة ولم يكن قد بقي لديهم أماكن تكفيهم، فذهبوا إلى مخيم آخر. سألته إن كان يعرف أي مخيم اختاروا فأجاب بالنفي. حملت حقيبتي وخيمتي وفراشي على ظهري ورحت تحت شمسٍ حارقة أبحث في المخيمات المجاورة عنهم، ولكني لم أجد لهم أثراً وبدأت الشمس تنحني للغروب، فعدت أدراجي نحو موقف الباص، وهنا اكتشفت بأنه لم يعد من مواعيد لمرور الباص حتى صباح اليوم التالي. بدأت بالمشي في الحر نحو "سان تروبيه" محاولاً الإشارة للسيارات المارة وأنا ألعن حظي وصديقي وغبائي بعدم الاتصال قبل مجيئي. مضت نصف ساعة ولم تقف لي أيٌّ من السيارات الفارعة التي كانت تمر، أخيراً وقفت سيارة صغيرة وقديمة، كان بها شابان عرفت فيما بعد أنهم طلاب في مدينة في شمال فرنسا وأنهم أتوا لتمضية أسبوعين على بحر المتوسط، أحد الشابين كان من أصلي مغربي، والثاني فرنسي من عائلة متوسطة تصوت لليسار. أخبرتهم عن قصتي فسألوني وماذا تنوي أن تفعل الآن، شرحت لهم أني أنوي العودة لمرسيليا، ولكنهم أخبروني بأنه على الأغلب لن أجد باصاً يعيدني لـ"سان رافاييل" ويمكن ألا أجد قطاراً هناك في هذا الوقت يذهب لمرسيليا، أخبرتهم بخيبة أمل أني سأبحث عن فندق إذاً، ابتسما وقالا لي "وهل تعلم كم أجرة الغرفة في أرخص فندق هنا؟" هزيت رأسي مشيراً بالنفي، وعندما سمعت المبلغ "غب" على قلبي. وقلت لنفسي لقد جئت لكي أكسب بعض النقود ويبدو أني سأدفع دم قلبي وأعود بخفي حنين. أحسا بتوتري فطمأناني وأخبراني أنه يوجد مكان في مخيمهم والأجرة ليست غالية، وذلك بالقرب من مدينة "سانت مكسيم" وهي مدينة سياحية قليلة الشهرة بسبب شاطئها غير الرملي وتبعد 30 كيلو مترا تقريباً من "سان تروبيه"، أفرحني النبأ وذهبت معهم للمخيم. عند وصولي رحب بي الزوجان الستينيان اللذان يديران المخيم بلطف، دلاني على مكاني وزوداني ببعض النصائح لكيفية نصب الخيمة، ثم تركاني أرتاح، وعندما سألتهما عن الدفع قالا "فيما بعد فالأمر ليس مستعجلاً". في اليوم التالي، اتجهت للطالبين اللذين أنجداني وأنقذاني من ضياعي مساء البارحة لأشكرهما وأودعهما، لكن أحدهم تذكر أنه رأى على شاطئ "سان تروبيه" يوم الأمس بائعي "بينييه"، ثم عرضا علي أن آتي معهم لأحاول أن ألتقي بمدير الباعة، وافقت مباشرة، حضرت نفسي وجاءا لينادياني عند تجهزهما للذهاب للشاطئ. كان الشاطئ غاية في الروعة والمياه حارة، عندما وصلنا لم يكن قد وصل الباعة بعد فاستغليت الفرصة لأسبح بعض الوقت. بعد ساعة التقيت بمدير الباعة وكان شاباً بعمري يعمل لحساب صاحب مخبز لبيع الـ بينييه" على عدة شواطئ بالمنطقة خلال عطلته الصيفية. وافق مباشرة على انضمامي لفريقه المؤلف من خمسة باعة كلهم طلاب بينهم فتاة إيطالية "مهضومة" وجميلة ، كانت لهجتها الفرنسية قوية ومحببة رغم ضعفها الواضح باللغة. أخبرني الشاب بأنه يمكنني أن أبدأ بالعمل منذ يوم الغد، ولكنه أخبرني أنهم يعملون بدون تصريح لذلك يجب الحذر من الشرطة المدنية وعدم الاقتراب من مركزهم بنهاية الشاطئ. العمل كان يبدأ بعد الظهر وينتهي في بداية المساء، ثلاثة ساعات تقريباً. عدت مع الشابين للمخيم مساء اليوم، ووجدت أن هناك جارة جديدة بجانب خيمتي وصلت بعد الظهر بقليل، سلمت عليها وبدأنا نتحدث، اسمها "إيفلين" وقد أتت من "بروكسل" في بلجيكا للعمل في أحد مطاعم المنطقة. أخبرتني بأنها فقدت عملها وكيف أنها تعاني للحصول على عمل جديد كموظفة في بلجيكا لأنها لا تتقن اللغة "الفلامندية"، فلا بد لكل موظف حكومي هناك إتقان اللغتين الرسميتين في هذا البلد الصغير، وأخبرتني بأنها ترى ذلك حماقة إذ أن كل البلجيكيين يتقنون الفرنسية. كانت "إيفلين" ذات وجه بشوش "شكوري" ممتلئ، وممتلئة الجسم، وتفصّل مني اثنين خصوصاً لنحفي الزائد في تلك الفترة. "إيفلين" فتاة واثقة من نفسها، لطيفة وأريحية في التعامل مع الآخرين. أخبرتني أيضاً أنها انفصلت عن صاحبها منذ فترة قصيرة، ومن ناحيتي أخبرتها أنه ليس لدي صديقة فاستغربت وقالت ضاحكة "ألم تقم بعد فرنسية صغيرة بالحصول عليك"، هزت رأسها موافقةً ، ثم ذهبنا كلٌّ إلى خيمته للنوم. بدأت في اليوم التالي أول أيام عملي، كنت أشعر بغرابة الأمر، فلأول مرة أمشي على شاطئ أصيح فيه بين الجموع لابتياع بضاعتي، فاجأت نفسي -أنا الخجول- أن أكون قادراً على ذلك، وأنا الذي بالكاد نسمع صوته حين أتحدث في مجموعة تزيد عن خمسة أشخاص. مجموعة العمل كانت لطيفة وبدأت سريعاً بالاندماج معهم، وصرت أبيع أكثر فأكثر بل في اليوم الخامس لم يكن يبيع أكثر مني أحد إلا الفتاة، لأسباب لا تحتاج لشرحٍ بالتأكيد. خلال عملي هذا أيضاً رأيت ولأول مرة شاطئ العراة، كنت أتوقع أن يكون شاطئاً مخصصاً للعراة تحيط به حواجز من كل الجهات، ولكني تفاجأت وبينما أبيع في شاطئ "سان تروبيه" بتواجدي مباشرة وبدون سابق إنذار بين عراة، كلهم عراة؛ رجالاً ونساءً وأطفالاً .. كنت كل مرة أمر فيه يتصبب عرقي، وكان أسوأ ما حدث لي هو عندما ناداني أحد العراة وكان ألمانياً لشراء حلوى.. بعته البضاعة بسرعة ومضيت مهرولاً، حتى أنني كنت أتفادى أن أصيح للبضاعة عندما أمر بهذا القسم من الشاطئ. كانت علاقتي في المخيم تتوطد مع "إيفلين" وكانت توصلني يومياً بسيارتها لمكان عملي قبل أن تذهب هي بدورها لمطعمها، عندما رآني مدير المخيم معها أول مرة بالسيارة وهو يعرف كم عانيت أول يومين بالمواصلات ضحك وقال لي "لقد دبرت لنفسك سائقة تقلك لسان تروبيه أخيراً" . وبينما نحن نتحدث، أخرجت "إيفلين" قطعة خضراء معجونة، وبدأت تفتتها في سيجارة اللف، سألتها "ما هذا؟ حشيش؟". في حقيقة الأمر ورغم انتشار الحشيش في الوسط الطلابي فإني كنت أخاف منه وأخشى أن أفقد قدراتي الذهنية في الجامعة. فكرت قليلاً وقلت لنفسي هيا لأجرب، فأنا في عطلة ولا يهم إن دخت، علي أن أجربه ولو لمرة واحدة في حياتي. بعد الشفة الثالثة بدأت علائم الدوخة تبدو علي ثم بدأت أضحك ضحكات هستيرية أو أبتسم ابتسامة كبيرة، صارت "إيفلين" تضحك معي ثم قالت "ماذا أصابك يا طارق، هل دخت بهذه السرعة". صرت أقول لها لا أبداً، فقط تنتابني نوبة ضحك. أجابتني بأن هذا طبيعي لمن لم يكن متعوداً. في اليوم السادس في عملي وبينما كنت أبيع في أحد الشواطئ، أخطأت وتجاوزت نهاية الشاطئ، وهنا جاءني رجلان عريضا المنكعين بثياب مدنية عادية وطلبا مني أن أرافقهما، أدخلاني لمكتب صغير وجلست على مقعد أمام مكتب يحتله رجل في الخمسينيات من عمره، أخبرني بأنه مفتش في دائرة ملاحقة الغش والمنافسة غير الشرعية. طلب مني تصريح العمل في البيع على الشاطئ فأخبرته بأني لا أملكه. بدأ تحقيقه معي ولكني اكتشفت بأني لا أعرف كنية الشاب الذي أعمل معه ولا اسم صاحب المخبز ولا اسم المخبز، كنت بموقف لا أحسد عليه.. لحسن الحظ وبينما كان المفتش يحقق معي، رأيت الشاب يصل للمكتب ويخبر الشرطيين بأنه هو من شغلني معه. جلس بجانبي لحين مجيء الشرطة المحلية لتأخذنا للمخفر، وضعوا بيدي القيود فقط أنا، ووضعوني مع صاحبي الشاب في السيارة، بدا على الشاب الانزعاج وطلب من الشرطة نزع القيود من يدي، فرفضا وأفهماه أن عليه أن يصمت، لكنه سألهم بامتعاض "ولماذا أنا ليس هناك قيود في يدي"، أجاباه بأن هذه ليست شغلته وأن عليه أن يصمت مجدداً. كانت أول مرة في تاريخ وجودي بفرنسا أشعر فيها بكل هذا الذل، كان الغل في صدري يكاد يفجره ألماً. وصلنا للمخفر، وأدخلانا بهوه وبدءا بالتحقيق مع صاحبي الشاب في الطابق الأول، في قاعة البهو بدأ أحد الشرطة باستفزازي قائلاً "لسنا بأسواق دمشق هنا، بفرنسا هناك قوانين ولا نعمل هكذا كما نرغب". زميله كان أكثر لطفاً فقال لزميله "أعتقد أنه لا داعي للقيود"، نزع قيودي ونظر إلي نظرة يظهر بها بعض الانزعاج من تصرف زميله. خلال الساعة الأولى في المخفر تتالى الاستفزاز من الشرطي وانتهى الأمر أمام صمتي بتهديدي بالسجن وبتركي أعفن أياماً في زنزانة صغيرة وأحياناً بترحيلي لسوريا، كنت أعلم بأنه لا يستطيع شيئاً، كنت أرغب أن أقول له أننا في بلد قانون ولا يحق لك أنت أن تفعل شيئاً، فأنت سلطة تنفيذية وليست قضائية، لكني صمتت فأنا أعلم أن ذلك قد يؤدي لتلبيسي تهمة الاعتداء اللفظي على شرطي أثناء خدمته. بينما القانون يعتبرني ضحية وشاهداً في قضية البيع بدون تصريح وليس مذنباً. بعد ذلك علمت خلال حديثي مع الشرطي الآخر أن أحد أقاربه من أصل سوري. بعد ساعة وأكثر انتهى التحقيق مع الشاب ونقلونا لغرفة مجاورة، سألته ماذا حصل، قال لي سألوني عن صاحب المخبز فأعطيتهم التفاصيل، لا تقلق. لم أستطع أن أستفهم منه أكثر، فلقد جاء شرطي طالباً مني مرافقته للطابق العلوي للتحقيق معي لساعتين متواصلتين. تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... - ابن سوريا - 11-25-2005 4. لا يوجد لدي ما يكفي من الشحوم ... (2/2) في الطابق العلوي، كان المشهد مختلفاً .. كانت القاعة كبيرة ومليئة بالمكاتب الملتصقة ببعضها البعض، أجهزة كمبيوتر متناثرة هنا وهناك، وأطنانٌ من الملفات موزعة على طاولات الغرفة. جلست على كرسي ومقابلي رجل خمسيني يلبس نظارات طبية، كانت نظراته هادئة توحي بالثقة وثيابه عادية مدنية. بدأ يسألني ويسجل ما أقول، وكان يرمقني بنظرة سريعة بين الحين والآخر، بينما يقلب بطاقة إقامتي بين يديه. بعد نصف ساعة من الأسئلة استدار نحوي، عدل من جلسته وبدأ بالحديث معي بأسلوب يبدو عليه جلل الموقف، صار يقول لي بأنه علي أن أقول كل شيء أعرفه بدون مواربة وذلك لمصلحتي أنا، فخسارة أن أضيع مستقبلي الدراسي بفرنسا بسبب مشكلة بسيطة كهذه، كنت مصراً بأني لا أعرف صاحب المخبز ولم أره في حياتي، عندها قال لي : "اسمعني جيداً، أنت مجرد شاهد في هذه القضية، فلا تجعل الأمور تتعقد. إن لم تعترف على صاحب المخبز فستكون عندها مذنباً إذ يمكن اعتبارك تعمل لحسابك"، تلبكت هنا وبدا علي التوتر الشديد فلم أكن أحسب حسباناً لهذا. ظهرت على وجهه معالم الرضا وشعر بأنه سجل نقطة، فاستمر بالحديث "إقامتك إقامة مؤقتة كما تعلم، ولا شك بأنك طالب مجد، فلا تضيع مستقبلك بالعناد، لا بد أنك رأيته مرة ما، تذكر جيداً، فقد نضطر لاحتجازك لمدة أربع وعشرون ساعة على ذمة التحقيق، اشحذ ذاكرتك جيداً، صدقني لن تعجبك الزنزانة"، ترددت قليلاً نظرت إليه وقلت : "نعم". وهنا أبدى ارتياحه وقال "أخيراً، لم يكن الأمر يحتاج لكل هذا التفكير"، بقيت ربع ساعة إضافية. طلب مني التوقيع على إفادتي، ثم قال "يمكن أن تذهب الآن"، أعاد لي بطاقة الإقامة وأشار لي بالخروج. هبطت للبهو، كان الشاب ينتظرني، خرجنا سوياً من المخفر، وهنا انتبهت أننا حفاة. مشينا ربع ساعة قبل أن تقف لنا سيارة لتقلنا للشاطئ حيث كان ينتظرنا البقية. سألت الشاب ماذا سيحدث الآن، أجابني لا شيء، سيحكمون على صاحب المخبز بغرامة مالية، وربما لن يدفعها منتظراً العفو الرئاسي القادم. ارتحت لهذا الخبر، عدنا للمجموعة وأخبرهم الشاب عن القيود التي وضعوها بمعصمي فتتالت الاستنكارات والشتائم للشرطة. تحدثت مع الشاب واتفقنا أن أترك العمل، فوضعي كطالب أجنبي يعرضني في حالة العمل بدون تصريح للخطر. أوصلني لـ"سان تروبيه"، وتبادلنا كلمات المجاملة وافترقنا مودعين. عدت للمخيم، وأخبرت مدير المخيم بما حدث لي، فاستنكر وبعد بعض الشتائم المرسلة على الشرطة أضاف " الأجدر بهم ملاحقة الزعران والمجرمين، بدلاً من ملاحقة الشباب والطلاب الذين يحاولون كسب بعض النقود في عطلهم". ابتسمت بألم، وذهبت لخيمتي، بعد قليل جاءت "إيفلين" وقصيت عليها يومي، أبدت حزنها وامتعاضها، وبدأت تلعن عنصرية الفرنسيين وكيف أنه ببلجيكا الوضع مختلف ويستحيل أن يحدث هذا. ذهبنا سوياً للمدينة لأحد البارات، حيث سألتني عما أنوي فعله الآن. قلت لها أني أنوي العودة إلى مرسيليا صباح الغد. فكرت قليلاً ثم طلبت مني الانتظار للمساء حيث أنها في عطلة خلال اليومين القادمين، وسألتني إن كنت أرحب بها بمرسيليا. أجبتها أني أرحب بها بالطبع فأنا أسكن في "ستوديو" متواضع ولكنه يكفي لشخصين، وأنه لدي فرشة إضافية يمكن أن تنام عليها. اتفقنا إذاً على أن أنتظرها في حدود الساعة السابعة من مساء اليوم التالي لكي نذهب مباشرة لمرسيليا بعد عودتها من العمل. صباح اليوم التالي استيقظت باكراً، لم أكن قد نمت جيداً، فمشهد الساعات الأربع في المخفر ما زال يحتل كامل رأسي ويشكل لي هاجساً وكابوساً. أخذت "دوشاً" ثم مررت على الزوجين وتبادلنا أطراف الحديث، أخبرني الزوج بأنه تقاعد منذ عدة سنوات ولكنه لم يحتمل أن يبقى دون عمل، لذلك فتح هذا المخيم خصوصاً ليبقى نشيطاً ويتحدث للناس، وأنه سعيد جداً بهذا العمل الموسمي. زوجته كانت تذكرني بالنساء السوريات على الساحل لدينا، امرأة قوية الشخصية، بشوشة وتوحي بالثقة والأمومة الدافئة. تركتهما وعدت لخيمتي ثم قررت أن أقضي نهاري في مدينة "سانت مكسيم" ، ذهبت في البداية للشاطئ وتركت جسدي وروحي تلقي أثقالها في حضن البحر. أخذت "دوشاً" بارداً ثم تجولت قليلاً في المدينة، كانت مدينة صغيرة ولكنها تعج بالسواح، أخبرني أحد الباعة أن المدينة في الشتاء تفرغ إلا من بعض الطاعنين بالسن. عدت للمخيم بعد أن اشتريت بعض المعلبات للغداء. يبدو أن نهاري سيكون طويلاً. لذا حملت نفسي وذهبت هذه المرة لـ "سان تروبييه"، تجولت فيها ثم تذكرت أن جاري من البيرو وأصدقاءه يعملون هنا ذهبت أتجول في الأسواق حتى وجدته يبيع الذكريات والتحف القديمة من أمريكا الجنوبية في أحد الشوارع، تفاجأ بوجودي، كان هذه المرة بصحبة صديقته الفرنسية والفتاة الإسبانية، طفقنا نتحدث وهو يشرح لي عن ما يبيعه، كان هناك تحف جميلة جداً، كنت بذات الوقت أتفرج على السائحات التي تمر وأستمع لما يقولونه، قلت له "يبدو أن لا أحد يتحدث فرنسي هنا"، ضحك وأشار بالإيجاب، وأخبرني بأن أغلبية السياح من ألمانيا أو هولندا والكثير من العرب من دول الخليج ولكنهم يخرجون ليلاً في العلب الليلية (ضحكت في عبي). سألته هل ذهبت لعلبة ليلية هنا؟ فابتسم وقال لي "وهل تعتقد أنهم سيتركون واحداً مثلي أو مثلك يدخل هذه العلب الليلية؟ إنها للخاصة، للخاصة جداً". عدت للمخيم قبيل الساعة السابعة بقليل، فككت الخيمة وحضرت أغراضي وجلست أنتظر "إيفلين". طال انتظاري وبدأ الليل يخيم، وأخيراً سمعت محرك سيارتها بحدود الساعة الحادية عشرة ليلاً. نزلت فوراً من السيارة وبدأت تعتذر مني وتخبرني كيف كان يوماً صعباً وأن مدير المطعم أصر لكي تبقى بعد وقتها المحدد، كنت متعباً فلم أركز معها. قلت لها ساعديني بإعادة نصب الخيمة إذاً. عرضت علي بإلحاح أن أنام معها في خيمتها هذه الليلة.. ترددت لحظات، نظرت إليها ثم نظرت لنفسي، ثم للخيمة، الخيمة صغيرة وأنا نحيف فعلاً، ولكنها ممتلئة جداً. وصرت أفكر وماذا لو صار بيننا شيئاً، من الصعب في هذا المجال الصغير ألا نحتك ببعض، ومن الصعب بعدها ألا يصير بيننا أشياء لا شيئاً واحداً، قلت لها "لا أفضل أن أعيد نصب الخيمة" وشكرتها. أعادت عرضها وأخبرتني بأني لا أزعجها أبداً إن كان هذا ما يمنعني. ترددت من جديد، صرت أقول لنفسي ضاحكاً "تريد حناناً، هنا حنان مليء"، ولكني نظرت من جديد لجسدي، وتخيلت الأمر فوجدت أن هناك استحالة فيزيولوجية. أصريت على إعادة نصب الخيمة، فلم تلح علي هذه المرة. في صباح اليوم التالي فاجأتني بقولها أنها عدلت عن رأيها، وأنه سيصعب عليها أن تذهب لمرسيليا، لأسباب كثيرة منها أنها ستعود متعبة للعمل. ولكنها عرضت علي بدلاً من ذلك أن نقضي اليوم في الجبال المحيطة بالبحر والشاطئ اللازوردي، ثم توصلني لمدينة "فريجوس" وهي الأقرب لمرسيليا. وافقت وجهزت نفسي ومضينا باكراً، توقفنا قبل ترك المخيم أمام الزوجين وهبطت لأودعهم وأدفع حساب الليلة السابقة التي لم أكن قد دفعتها بعد، سلم علي الزوجان بحرارة ورفضا أن أدفع عن هذه الليلة وقال لي الزوج "اعتبرها هدية" وتمنيا أن يراني قريباً في عطلة أخرى. الجبال المحيطة كانت غاية في الروعة، منظر البحر من أعلى التلال كان ساحراً شاعرياً، تأملت هذه المناظر دقائق كانت كالساعات، لم تكن العين تمل، كنت مذهولاً من هذا الجمال فاغراً فاه، لم أجد بمثل جمال هذه المنطقة إلا مناطق جبال العلويين بسوريا المحاذية للواء إسكندرون. كنا نتوقف هنا أو هناك ونتحدث أحياناً للسواح الذين كانوا يتوقفون مثلنا عند هذا المنظر أو ذاك، الناس في العطل هادئون فرحون وبشوشون، نفس الشخص قد تراه متوتراً في مترو باريس وهو يذهب صباحاً لعمله، أو عدوانياً وهو يسوق سيارته في مرسيليا. وصلنا أخيراً لبحيرة في أحد الجبال، جلسنا أمامها لتناول طعام الغداء، ثم لعبنا بالماء قليلاً، جلست "إيفلين" بالمايوه ثم خلعت سوتيانتها، نظرت إلي وسألتني "هل يزعجك أن أخلعها؟"، قلت لها أن الأمر لا يزعجني بتاتاً فلقد مررت بشواطئ العراة سابقاً، ضحكت، ثم تمددت على المنشفة وتمددت بجانبها لنترك للشمس حرية العبث بأجسادنا وغمرها بروعة أشعتها. كنت أرمق بطرف عيني بين الحين والآخر ناهدي "إيفلين"، كانا ممتلئين كما أحبهما. نظرت لنفسي وقلت لها "خسارة أنه ليس لدي ما يكفي من الشحوم لإيفلين". بعد ساعة أو أكثر، تحركت إيفلين من مكانها نظرت إلى يسارها حيث كنت قابعاً ولكنها لاحظت بمحاذاتها وتحت جسدها العاري تماماً أفعى صغيرة، يبدو أن الأفعى كانت نائمة في ظل جسد إيفلين العاري، صرخت هي، فانتفضتُ فوراً وتناولتُ حجراً كبيراً كانت بمحاذاتي، هربت الأفعى قلقةً وبينما كنت أتأهب لأخبطها بالحجر صرخت إيفلين : "انتظر لا تقتلها". جمدت يدي، ونظرت للأفعى كان المشهد مضحكاً وطريفاً بآنٍ معاً، اختفت الأفعى بين الصخور ونظرت إلى إيفلين وضحكنا لدقائق. قلت لها مهضومة هذه الأفعى المسكينة، قالت لي "نعم، كم كانت خسارة كبيرة للطبيعة أن تموت بلا ذنب فعلته إلا النوم تحت ظلالي". تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... - ابن سوريا - 11-26-2005 5. لا يوجد ما يكفي من الخمر ... تلقيت رسالة بريدية جديدة من "سيسيل" على بريد عملي الإلكتروني، خلال الدورة التأهيلية، كان قد مضى علي الآن في هذه الشركة أربعة أشهر. كنت قد حدثت "فلورنس" سابقاً عن قصتي المضحكة مع "سيسيل"، أتذكر أنها ضحكت كثيراً ولكنها أيضاً ارتاحت لها. كانت أول مرة أحدثها فيها عن أسراري بدون مواربة، اليوم "سيسيل" تخبرني بأن مديرها بالعمل يلاحقها ولا تعلم كيف تتصرف معه وتطلب نصيحتي، أخبرت "فلورنس" بفحوى رسالتها، عدلت من جلستها وقطبت حاجبيها، أزعجها ما حدثتها به، وبدأت تحدثني عن تجربة سابقة بالتحرش الجنسي بها بالعمل، أخبرتني بأن رئيس عملها مدير السكرتارية بشركتنا تحرش بها مرات عديدة السنة الماضية وأن الأمر انتهى بأن يغلق باب مكتبه آخر مرة ويقول لها "اخلعي ثيابك"، فانتفضت هي وقالت له بكل حدة ولكن بهدوء "اخلع ثيابك أنت لنرى إن كان هناك ما يستحق تحت بنطالك"، وأخبرتني أنه من حينها لم يعد يتحرش بها. فلورنس فتاة جريئة ولكن هشة بآن معاً، تذكرتها هذه السنة منذ عدة أسابيع عندما شاهدت فيلم (Match Point) للمخرج الأمريكي الكبير "وودي آلين" إنها تشبه كثيراً "سكارليت جوهانسون" والتي كانت تلعب دور العشيقة في الفيلم. قوية وهشة، حادة ورقيقة، تجمع عدة تناقضات بآن واحد. بدأت رحلتي من مرسيليا إلى "كليرمون فيران" في نهاية عام 1999، كنت قد قضيت ستة سنوات في مرسيليا، كما كنت أسكن مع صاحبتي منذ سنة ونصف أو أكثر بقليل، هي أيضاً ملت "مرسيليا" وكانت تتوق للرحيل عنها لمكان آخر. ترددنا بين مدينتين الأولى "تور" في شمال فرنسا والثانية "كليرمون فيران" في وسطها. ووقع الاختيار على الأخيرة. كنت هنا لأحصل على دبلوم في الدراسات المتخصصة العلمية في مجال نظم المعلومات والمساعدة على اتخاذ القرار، كنا مجموعة من 20 طالب والمسؤول عن الدفعة أستاذ شاب يكبرني ببعض السنين فقط، حتى أنه كان يسهر ويسكر معنا أحياناً. كانت الأغلبية آتية من نفس المدينة وأعمارنا جميعاً بين 25-30 سنة، الأغلبية يعرفون بعضهم البعض من قبل، لم يكن إلا "ستيفان" وأنا من الغرباء، لذا توطدت العلاقة بيننا وكنا دوماً نجلس بجانب بعضنا البعض، "ستيفان" قدم من "لا روشيل" مدينة صغيرة محاذية لمدينة "بوردو" الشهيرة. كان من الصعب اختراق بقية الشلل الصغيرة، ولكن العلاقات كانت تبنى شيئاً فشيئاً، فأهل المدن الصغيرة طيبون، ولكنهم حذرون وخجولون بعض الشيء. كانوا بأغلبيتهم أيضاً مرتبطين بعلاقات دائمة، عدا "سيسيل" و "فيليب" العزابين الوحيدين في دفعتنا، ولقد جاءا من نفس السنة الدراسية السابقة. كانت "سيسيل" فتاة جميلة جداً، أقصر مني بعشرة سانتي، نحيفة أو لنقل ذات جسم متناسق، شعرها أسود وقصير وناعم، تقاسيم وجهها ناعمة رقيقة متألقة وبشرتها تميل للسمار ودهنية تعطيها منظراً مثيراً وشهياً، عيونها صغيرة وأنفها منمنم كأنف القط، وشفتاها رقيقتان لذيذتان. كانت تدخن لذلك فكانت بعض بقع صفراء تظهر على أسنانها، كان لتدخينها دور في تعرفنا السريع على بعضنا البعض إذ كنا نقضي الاستراحات سوياً بالإضافة لـ"ستيفان" وزميل آخر في القهوة والتدخين، كنت في البداية لا أحبها كثيراً ولا أشعر بالراحة لتواجدها معنا، كانت تبدو طيبة تارةً وجارحة تارةً أخرى، كانت غير مبالية مندفعة ولا تنتبه لكلماتها، فتنتقد أحياناً بشكل كان يزعجني بشدة، كنت أحب لحظات لطفها، لكني غالباً ما أبقى متوتراً وواقفاً على أعصابي منتظراً اللحظة التي ستخرج بحماقة ما، فأتفاعل معها بحسب المزاج، أحياناً أتجاهل ما تقوله وأحياناً أخرى أرد بعدوانية. بعد فترة من الزمن تعودت عليها، وصرت أفهم أنها لا تقصد الإيذاء، بل أنها تقول ما تقوله بكل طيبة، بدأت أشعر نحوها بنوع من الإلفة والمودة. لتوطيد علاقات طلاب الدفعة، كنا نقوم بسهرات، كان معنا فتاة لبنانية تعيش مع صاحبها الفرنسي في شقة تبعد ربع ساعة عن مكان سكني، فدعتنا جميعاً في أحد الأيام لبيتها، كنا أقل من عشرة أشخاص، "ستيفان" لم يأتِ فلقد أتت صديقته ذلك "الويك إند" من "لاروشيل" لتقضيه معه. بدأنا نشرب ونأكل ونستمع للموسيقى ونتحادث ونتسامر في هذه السهرة، كنت أشعر بالراحة هذه المرة بالتواجد مع "سيسيل"، بينما كانت بين الحين والآخر فتاة من دفعتنا تأتي لتتحدث إلي فأحس بالانقباض الشديد، لم أقدر أن "أهضمها" منذ أول يوم رأيته به، كانت من النوع الذي يحب التزعم ولعب دور القائد، لكني كنت أراها بليدة غير أريحية، تتحدث عن الناس وراء ظهرهم، وأنا حين أجد شخصاً يتحدث عن أحد بلؤم من وراء ظهره أعرف أنه يتحدث عني بالتأكيد أيضاً وراء ظهري.. لم أكن أطيقها، وكنت دوماً ما أتهرب من مجرد أن تقع عيني على عينها، مجرد تواجدها كان يجعلني أتضايق وانقبض. كان الصالون لا يسعنا كلنا، لذلك كنت أتجول بين المطبخ والممر الواسع وغرفة الضيوف المحاذية والتي كان فيها جهاز الكمبيوتر، كانت صديقتنا اللبنانية تحضر البيتزا، فذهبت للحمام لأغسل يدي. فجأة وجدت نفسي وجهاً لوجه مع سيسيل وحدنا في صالة الحمام، لست أدري لماذا كنا هنا لوحدنا ولم أعد أتذكر لماذا كان الباب مغلقاً بشكل موارب. أعتقد أني دخلت وبحركة عفوية أغلقته ورائي، كانت هنا ولم أرَ ولم ترَ هي أيضاً ما يضر بذلك، نسيت غسل يدي فلقد بدأت تتحدث كعادتها ببعض العفوية، قالت لي "الجو بارد ألا ترى ذلك؟"، قلت لها "ربما، ليس لهذه الدرجة"، فمدت يدها نحوي وطلبت مني أن أمسها وأضافت "خذ لديك، يدي متجمدتان"، ضحكت هي، فانتبهت أني ما زلت أمسك يدها وأنها لم تسحبها فلم أرغب بسحبها أنا أيضاً، وأضفت "ليس ما فهمتيه تماماً، رغم أنه صحيح، لكن الكثير من الفتيات قلن لي بأني كشوفاج، صديقتي عندما يصبح الجو بارداً تقبع بين أحضاني لأدفئها"، أجابتني بأن حظها كبير. نظرت إليها ولاحظت أن يدي ما زالت تلامس يدها، فبدأت بشكل عفوي بمداعبة يدها، كان ملمس جلدها الناعم شهي رقيق. أحسست بارتخائها، بقيت هي صامتة، وكررت المداعبة أكثر فأكثر ودفعت يدي نحو ذراعيها، نظراتها كانت تتحول لإغراء كامل وصوتها كأنه انحبس في حنجرتها، قلبي كان يخفق بسرعة، وضغطي انخفض فجأة. كنت على وشك أن أحضنها وأشبعها قبلاً قبل أن يدخل "فيليب" للصالة، سحبت يدي فجأة، بقيت هي بحالة من دوار خفيف : نظر إلينا "فيليب" مدهوشاً تصرفَ وكأنه لم يرَ شيئاً ثم صرخ "ماذا تفعلان هنا، لقد جهزت البيتزا، تعالا لتأكلا". لم يكن لدينا القوة الكافية كلانا لنرد، أحسست أن صوتي معلق بأسفل حلقي. خرجنا من صالة الحمام ومشينا نحو الصالون، بدأت آخذ نفساً طويلاً لأخرج من حالة الدوار تلك، كحيت وتنحنحت ليتعدل صوتي قليلاً. حاولت بعدها أن أختلي بـ"سيسيل" في مكان آخر ولكن "فيليب" كان دوماً هنا. لامست مرة ثانية يدها ونحن في غرفة الضيوف فدفَعَتْها بسرعة عند رؤيتها لفيليب يدخل الغرفة. كان يوماً من أيام "ديسمبر" والجو بارد، أوشكت السهرة على الانتهاء، نظرنا من النافذة فاكتشفنا سقوط مطر غزير، قلت "لقد نسيت مظلتي، كيف سأعود للبيت الآن"، كان أحد الزملاء والذي سيوصل "سيسيل" وفيليب" لضواحي المدينة قد أتى بسيارته، فعرض علي أن يوصلني بطريقهم، وافقت على الفور وأطلقت صرخة انتصار، لم أكن قد شربت كثيراً، وحين نظرت لـ"سيسيل" رأيت أنها مختمرة. استقلينا سيارة زميلنا، وبدأ في السيارة فيليب يعرض مهاراته في المزح الجنسي، لا سيما بحضور "سيسيل"، "فيليب" شابٌ مرح وطيب جداً. عند وصول السيارة أمام مدينتي السكنية، قالت لي سيسيل : "الساعة الآن الواحدة صباحاً، قد تنقم عليك صاحبتك إن أيقظتها الآن، ما رأيك أن تأتي لتنام عندي"، انتفض "فيليب" وقال ضاحكاً "خصوصاً أن لسيسيل مهارات قوية لتجعلك تنام مرتاحاً" ضحكنا وقامت سيسيل بضرب "فيليب" على كتفه مازحةً، أجبتها "أعتقد أنها ستنقم علي أكثر بكثير إن قضيت الليلة خارج سريرها". نزلت من السيارة وركضت نحو الشقة متفادياً زخات المطر وأنا أشير لهم بيدي مودعاً. عندما قصصت هذه القصة على "فلورنس" قالت لي "يبدو أنه لم يكن بدمك ما يكفي من الخمر لتقضي ليلتك معها". تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... - ابن سوريا - 11-29-2005 6. لا يوجد لدي ما يكفي من الجرأة للانفصال ... (1/3) كنت جالساً وحدي على الضفة اليمينية من مرفأ "مرسيليا" القديم، لم تتجاوز الساعة السادسة صباحاً في هذا اليوم الصيفي من أوائل أيام شهر آب، أشعر بالوهن في كل أنحاء جسمي، والنعس يراود عيني. مضت أكثر من ساعة وأنا أنظر فيها للبحر والقوارب الصغيرة الملقاة على ضفتي الميناء. كنت قد قضيت بداية سهرتي في فندق "إيبيس" المحاذي للمدينة السكينة برفقة صديق يعمل فيه، دعاني لأبقى وأنام في غرفة من الغرف حتى الصباح، ولكني رفضت بعناد كالعادة، عدت للمدينة السكنية ووجدت الغرفة المشتركة التي استأجرناها للصيف مغلقة والجميع فيها نيام، ذهبت للميناء وتركت لروحي متعة الانغماس في صمت الفجر العميق. كنت أمر بأصعب سنين حياتي في هذه المدينة الغريبة الجميلة، المتطرفة الحمقاء، المثيرة التاريخية المتمردة، كيف للإنسان أن يصف هكذا مدينة دون أن يستجمع قواه، ولكنها بالذات تخور بمجرد استجماعها، هل تتذكرون الغازات الزئبقية، هكذا أحس بذاكرتي عند استعادة روائح "مرسيليا"، بطيبها وكريهها، بحزنها ومرحها، بروعتها وقرفها، هناك من لا يستطيع أن يعيش خارجها، وهناك من لا يطيق سماع اسمها، أنا من ناحيتي أحس بالتشرذم في الذاكرة حين أفكر بها. صيف "مرسيليا" لطالب أجنبي يقطن مدينة سكنية غاية في الصعوبة، إذ تغلق جميع المدن وتبقى واحدة يجمعوننا بها، الأغلبية من الطلاب الأجانب عدا نسبة صغيرة من فرنسيي الجنسية وتتغير المدينة في كل شهر من شهور صيفها الثلاث. كنت هذه السنة قد قررت أن أسكن مع أربعة أصدقاء بنفس الغرفة. لم يكن يجتمع عادة بنفس الغرفة أكثر من شخصين، ولكننا اليوم كنا كلنا هنا. قررت ألا أذهب للعمل الموسمي بمكان ما، كنت أرغب بالحصول على عمل مستقر بمرسيليا، ففصلي الدراسي الأول ليس به الكثير من الدروس وأرغب بالعمل للخروج من حالة الفقر المدقع الذي كنت عليه. لا سيما أنه كانت لدي بعض الخبرة في محل "كشك" لبيع السندوتشات، ومحل "سناك" السنة الماضية، لكن تلك التجربة كانت مؤلمة ولم أرغب بالعودة لتلك المحلات بالذات، كان صاحب المحلين مصري وزوجته أرمنية لبنانية، ويعمل فيه مصريون وسوريون وأرمن وفلسطينيون، لكن جوه كان مؤذياً، وحكاياته غريبة، ومشاكله لا تنتهي. كنت أشعر بالكثير من الانقباض فيه. في الصيف تكثر العلاقات العابرة، لا سيما أن الطلاب والطالبات في المدن السكنية غالباً ما يكونون بنفسية تسمح بها ومتجهزون لها، ومرورهم بها عابر هو الآخر. كنت من ناحيتي بحاجة لهكذا علاقة لما بذلك من أثر في الارتياح النفسي للإنسان بشكل عام. في البداية تعرفت بشكل أكبر على فتاة كنت أعرفها بشكل سطحي سابقاً، ولكنها لم تكن تعجبني نهائياً، ومع أن فكرة الخروج معها راودتني عدة مرات وكانت من ناحيتها متجهزة لذلك تماماً، ولكني أوقفت الأمر من بدايته، كنت أشعر باستحالة الأمر، فحينما لا تكون الرغبة موجودة لا داعي للمضي بعيداً. منذ أيام كنت وحدي في الغرفة السكنية مع صديق سوري آخر، وكان لدينا جارة من الجزائر كنا نراها في المطبخ ونتحدث إليها، لقد أتت من الجزائر لتعمل ماجستير في الحقوق وبعد سنة في مرسيليا ستذهب لباريس لتكمل الدكتوراه على ما أذكر، وكانت تكبرني بسنة أو اثنتين. أعجب بها صديقي الذي يكبرني بعدة سنوات أيما إعجاب، وكان كثيراً ما يحدثني عنها بشكل شهواني. فرغم أن لديه صديقة ولكنها كانت تسكن في مدينة أخرى وكان قلما يراها هذه الأيام. أخبرني بأنه يريد أن يدعوها للغرفة، وسيخبرني إذا جرت الأمور كما يريد ويرغب لكي "أفضي" له الجو. وافقت ودعوت له، وتمنيت له حظاً طيباً. أخبرني مساء ذلك اليوم بأنها غير معجبة به، وبدأ يقول لي أنه لاحظ إعجابها بي أكثر. أخبرته أني لست معجباً بها كثيراً، مع أني أراها فتاة لطيفة، أصر علي أن أحاول معها، ولكني اختصرت الحديث. بعد أيام دخل صديقي للغرفة فوجدها معي نشرب الشاي سوياً، بعد ذهابها قال لي من المؤكد أنها معجبة بك، فلقد دعوتها عدة مرات ورفضت وهاهي تقبل دعوتك دون تردد. بعد إصراره ومدحه لمزاياها لي بدأت بالتفكير جدياً بالأمر وصارت الفكرة تروق لي. وقلت لنفسي لن أخسر شيئاً، سأحاول. صباح اليوم التالي ذهبت للحلاق وهندمت نفسي. وعند عودتي للمدينة السكنية التقيت بها بالصدفة في ممر الطابق الذي كنا نسكن فيه، تحادثنا قليلاً وسألتها مبتسماً ما رأيك بـ"قصة شعري"؟ فقالت لي "أنت جميل جداً هكذا؟"، ثم أضافت "إنك تشبه الجزائريين هكذا"، لقد سمعت الكثير من تشبيهات لإتنيات متعددة، فمرة التونسيين ومرة الأتراك وحتى أن البعض شبهني لأهل الشيشان، يبدو أن شكلي من النوع "المألوف" أو "الحلوف" على قولة عادل إمام، لم أكن "أقبض" هذه التشبيهات كثيراً. شكرتها وبادلتها مجاملتها، ثم دعوتها لنذهب لأحد المقاهي المقابلة لميناء "مرسيليا" القديم هذا المساء، وافقت على الفور واتفقنا على الموعد. مساء ذلك اليوم، جهزت نفسي وتعطرت ثم مررت على غرفتها ومضينا سوياً لأحد المقاهي المقابلة للميناء، ميناء مرسيليا جميل جداً، على يمينه تقع المدينة القديمة وبقية من قلعة، وعلى يساره حديقة مرتفعة بالإضافة للعديد من البارات والمقاهي الجميلة الرائعة وفي الداخل بعض الملاهي والعلب الليلية، أما مقابله فهناك عدد كبير من المقاهي. بدأنا نتبادل أطراف الحديث ونتسامر ونضحك، لم أكن منشرحاً جداً، ولكني حاولت أن أبدو كذلك، أخبرتني بأن من يدرسون الرياضيات عادة ما يكونون غريبي الأطوار، "سنرى إن كنت كذلك"، أعتقد بأن علاقتي بها لم تغير رأيها هذا بل جعلته يستفحل. بعد أكثر من ساعتين بدأ الليل يخيم، فدعوتها لنتجه نحو الضفة اليمينية من الميناء، مكاني المحبب، ونتعمق به حيث تتتلاطم أمواج البحر بهدوء، في داخل الضفة اليمينية يضيق الممر وتخف الأضواء، إنه مكان التقاء العشاق عادة، كنا ننزل من رصيف الميناء للصخور، مما يسهل ملاسمتنا لبعضنا البعض وملامسة يدها وذراعيها لمساعدتها على الصعود والهبوط. قضينا وقتاً لا بأس به في هذه المنطقة من الميناء، وخرجنا نمسك ذراعي بعضنا. يبدو أن علاقتنا تمشي في الطريق الصحيح ... عدنا للمدينة قبيل منتصف الليل بقليل، ذهب كل منا إلى غرفته على أن نتقابل في اليوم التالي، حيث سأساعدها لتعود لمدينتها السكنية الأصلية والتي ستعود لفتح أبوابها، كنا قد أضحينا أصحاباً. عدت لغرفتي وحكيت لصديقي ما جرى، فهنأني . أجبته "نعم، شكراً"، دون الكثير من الحماس. في اليوم التالي، رافقتها لمدينتها السكنية مع بقية من صديقاتها، كانت تبتعد عنهم لتبقى بمجاورتي دوماً، شعرت بالرضى، لكن كانت هناك دوماً مشكلة الرغبة. عندما كنا في مدينتها وكنا لوحدنا كانت كثيراً ما تحضنني لا سيما حينما ترى من بعيد أحداً يعرفها. ضايقني هذا التصرف، ولكني غضضت الطرف. تفاصيل صغيرة في الحب والحياة ... - ابن سوريا - 12-06-2005 6. لا يوجد لدي ما يكفي من الجرأة للانفصال ...(2/3) انتقلت بعد بضعة أيام لمدينة سكنية أخرى لنتم الشهر، كنت في المدينة الجديدة مع صديقي السوري، وكنا في أطراف مترامية من مرسيليا أنا وصاحبتي الجديدة. اتصلت بها ذات يوم واتفقنا أن آتي إليها في غرفتها خلال اليوم التالي. استيقظت في الصباح منشرحاً بعض الشيء، هندمت نفسي جيداً وتعطرت ولبست أفضل ما عندي، ثم مررت على السوق واشتريت وردة حمراء، حين وصلت أمام باب غرفتها خبأت الوردة وراء ظهري لأفاجئها بها .. كنت ألعب دور العاشق الرومانسي. كما لو كنت في مسرحية أو تمثيلية، بماذا كنت أفكر حقاً؟ فأنا بطبعي رومانسي فعلاً ولكني كنت واعياً بأني ألعب لعبة حمقاء، ولكني لم أكن أدري أنها خطيرة، لم أفصل بين واقع أعيشه أمامي وتفاصيل لعبة ينسجها خيالي الآن. وصلت بعد ظهر ذلك اليوم، فتحت لي الباب وكان يبدو عليها التعب، أخبرتني بأنها كانت نائمة، إنها قيلولة ما بعد الغداء. فرحتْ كثيراً بالوردة كطفلة صغيرة، وهنا بدأت أحس بالانقباض وأعي بأني لست بفيلمٍ مصري سيء الصنع أو هوليوودي ذي النهايات السعيدة، إنه أقرب للفيلم الهندي الذي قد ينتهي بحريق في القلوب. كانت مشكلة الرغبة الضائعة والمفقودة معها تسبب لي أرقاً في الأيام القادمة، كنا نتنزه نتجول ونلعب دور العاشقين المراهقين، لكني بدأت أحاول التملص من تكرر اللقاءات بها.، متحججاً دوماً ببعد المسافة بين سكنينا. بعد أسابيع قليلة عثرت على عمل في كشك للسندويش قريب من مركز المدينة، أعمل فيه أربعة أيام في الأسبوع. كما أني أسكن الآن في المدينة السكنية الأقرب للمركز والجامعة ولوحدي. كان هذا سبباً طبيعياً لتكرر زياراتها لي. ولكني كنت أحاول قدر الإمكان التقليل منها باختلاق الحجج والذرائع. صادف كل هذا أيضاً برحيلها لعطلة صيفية للجزائر لثلاثة أسابيع، صرت فيها أراجع حساباتي، واقدّر حجم الخطأ الذي ارتكبته. كما أني في المدينة السكنية الجديدة بدأت أتعرف على أصدقاء وصديقات جدد، قضيت منذ أول يوم فيها مع جارتي سهرة جميلة على ميناء مرسيليا، وكانت تأتي يومياً لغرفتي أو أزورها بغرفتها لنتحدث ونشرب القهوة وأقرأ لها الطالع. فترة تواجد صديقتي الجديدة في الجزائر كانت حافلة بالأحداث، إذ أن صديقاً إيرانياً، والذي أصبح أكثر قرباً مني في فترة الصيف، صار يدعوني لبيته فتعرفت على زوجته وأطفاله، كما كنا نقضي بشكل دائم سهرات حافلة في بارات وعلب مرسيليا الليلية، كنا أحياناً نمر في الليلة الواحدة على أربعة أو خمسة "بارات" راقصة، ونعود قبيل الفجر بقليل "مطفيين" خالصين. بالإضافة لملاحقة الفتيات أحياناً والتعرف عليهن ودعوتهن للمدينة السكنية. كان نظام حياتي كله قد انقلب وفقداني لرغبتي بصاحبتي الجديدة والتي أصبحت الآن قديمة في عداد المفقودات من كل ذاكرتي، سيتحول لنوع من اللا مبالاة بها، بل لنسيانها تماماً. لكنها فجأة ستعود، لم أكن أعلم أو لم أعد أذكر تاريخ عودتها، إنها الآن أمامي في الكشك الذي أعمل به. لم أعرف كيف أتصرف وماذا أقول، كنت أعتقد – ربما في اللاوعي- أن أمرها انتهى، أنها لن تعود. أو بالأحرى لم أفكر بها نهائياً. كانت أمامي، وكنت مصدوماً، حاولت أن أبتسم أو أبدو منشرحاً وأن أرحب بها بحرارة مقبلاً إياها دون حميمية. بينما كنت أقول لنفسي "شو رجعها هاي". كانت تبتسم لي بكل براءة وببريق ظاهر في عينيها، بدأت تحكي لي قصصها في الجزائر، وأنها حدثت أختها كثيراً عني، هنا بلعت ريقي وقلت لذات نفسي "يا حبيبي، علقت". اتفقنا على أن تأتي لغرفتي صباح اليوم التالي مع الهدية التي جلبتها لي من بلادها، فاليوم أعمل حتى منتصف الليل. لم أستطع التركيز كثيراً في العمل، كنت أفكر ما الذي سأفعله مع مصيبتي، كيف سأنهي هذه العلاقة دون أن أجرحها وأسبب لها ألماً، كيف يمكنني إنهاء هذه العلاقة بشكل مبكر جداً دون أن أجعلها تحقد علي وتكرهني؟ أسئلة كثيرة، سيناريوهات وخطب كانت تخطر ببالي ولكنها كانت تبدو كلها غير مقنعة. لم أقدر على النوم حتى الثالثة والنصف صباحاً، ولم أجد بعد درتي الثمينة، الطريقة المثلى للتخلص من هذه العلاقة دون تسبيب الكثير من الدمار العاطفي لكلانا. أخيراً نمت مهدوداً من التعب والإرهاق دون أن أدري، واستيقظت منتفضاً مفزوعاً صباحاً على صوت طرقات على باب غرفتي. |