حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
تفاصيل رواية لن تكتمل - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5)
+--- المنتدى: لغـــــــة وأدب (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=78)
+--- الموضوع: تفاصيل رواية لن تكتمل (/showthread.php?tid=25232)



تفاصيل رواية لن تكتمل - بسمة - 08-29-2005

هنيئاً لي... الآن، يمكنني أن أتنفس دون لهاث، فأسوأ ما يمكن أن يحدث، قد حدث فعلاً..!
.
..
انتهى كل شيء، ولتحميل ما حدث من مرفأ ذاكرتي، فُرض عليّ وضع شيءٍ أولٍ وأخير جداً: ( نقطة آخرِ سطرٍ في حكايتنا! )

أتذكر في إحدى لحظات فرحتي المسروقة معكَ، قلتَ لي: "أصيل، أحبكِ وأنت تكتبين"، وقتها شهق شيءٌ داخلي: "كفي أيتها الأرض عن الدوران ... ما أروعكِ!" لكنكَ دوَّرتَ كلامكَ مسرعاً إلى: "عفواً... أحب رؤيتكِ وأنتِ تكتبين!"

الآن، لن أشعر بدبيب رتل النمل في حنجرتي، والذي حرَّضني كثيراً لفضِّ جمعه من عينيَّ دمعاً غزيراً حارقاً، سأكتب النقطة، وأدّعي عدم مبالاتي سواء أكنتَ تحبني وأنا أكتب، أم تحب رؤيتي وأنا أكتب.

وبما أن نقطتي أتت فريدة استثنائية، فهي تستحق (رسماً) يحاول الارتقاء لفرادتها واستثنائيتها، لذلك أحضرتُ دفتراً بورقٍ خشنٍ أصفر اللون وسأبدأ نقش خطوطها في (رواية)، متجاهلةً مطارق التردد التي تحذرني من تخليد هزيمتي في كتاب يتمدد على أرصفة أكشاك الكتب لتتناولها أيادٍ ترى فيها مهدئاً عساه يعالج أرق الليل

حقاً، ألا نسعى دائماً لطمر هزائمنا؟
إذا ما تذكرناها لاحقاً نكتشف أننا نتذكر أطيافها الباقية لا هي؟! أو أننا نحاول تجميل تشوّهها، حتى إذا ما اقتحمت علينا أيامنا بعد ذلك لا تقشعّر من قبحها أبداننا ولا تدمع لأجلها أعيننا؟ لماذا أسعى إذن لتخليدها بأدق تفاصيلها؟ لم أفعل شيئاً أستحق عليه هذا النوع من جلد الذات، نعم، لا يجدر بي تعنيف نفسي كثيراً، قد كفَّرتُ عن خطيئتي أضعافاً مضاعفة لاحقاً..!!

ألهذا علاقة بأنكَ تحب رؤيتي وأنا أكتب؟ فأردتُ أن ترى كم كتبتُ وأكتبُ لتحبني أكثر؟!
***

كنتُ دوماً أقول، إن فلسطين تريد قتلي قهراً، لكن أحداً لم يشعر بي، إلا خالد ذلك الزميل، والصديق باذخ النقاء كطفل صغير، عميق كالصمت، وحزين تماماً كيُتمه المبكِّر جداً.

أتذكر في إحدى نوبات أنانيتي أردتُ أن يشاركني بكاءً هطلتُه، بسبب صورةٍ وصلتني عبر بريدي الإلكتروني، وكانت صورة رجل فلسطيني اضطره رغيف الخبر وبعض حبات البندورة إلى الخروج من بيته ذات نهارٍ رمضاني كان حظر التجول فيه مفروضاً، فمورست بحقه لذة الإذلال، دبابات وجنود مقابل رجل يحمل بضع أرغفة، أجبروه على خلع ملابسه كلها في وسط الشارع، ظنّاً منهم إنهم يخلعونه مع كل قطعة من ملابسه كرامته، عزته، رجولته، مدن فلسطين الواحدة تلو الأخرى حتى يكون قد خلعها من نفسه مع آخر قطعة!

وقتها تسللتْ المرارةُ إلى فمي وصرختْ ما الجرم الذي ارتكبه؟! لم يأكل تفاحة نهى الله عنها كما فعل سيدنا "آدم" حين أغواه الشيطان! ولا "حواء" مُتهمة بالغواية، كانت بضعة أرغفة خلفها أطفال يضرعون إلى الله إفطارهم وقد ارتفع صوت المؤذن "الله أكبر" افطروا أيها الصائمون...

بكيتُ وخالد حتى تجمَّرت وتنفَّخت عيوننا، فهم لم يعرّوه من ثيابه بل ألبسوه ثوب الشرف، وعرّانا هو من زيفنا، عرّانا نحن من ملابسنا وربطات أعناقنا الفاخرة، حرمنا حتى من ورقة توتٍ تستر عوراتنا بما في ذلك بعض عمائم الزيف وجلابيب الخديعة!

تخيَّلتُ لو أن هذا الرجل العاري والدي، تخيلت نفسي وأخوتي نتضور جوعاً وكان ثمن إشباعنا (الخبز) إجبار والدي على التّعري وسط الشارع أمام نشوة الجنود وقهقهاتهم وعيون أخرى حزينة دامعة عاجزة ترقبه من خلف ستائر النوافذ!

كم كانت مؤلمة بطاقة العيد التي عاوَد خالد إرسالها إلى أصدقائه وأنا منهم، الصورة ذاتها مذيلة بـ "كل عامٍ وأنتِ بخير أمتنا المجيدة!"
***

أهو ذات العيد من نقلني إليكَ؟ قدري؟ قدرنا معاً؟
هل تصدق أنه لم يعد يهمني هذا السؤال! ما أرغب بتذكره حقاً، هو تفاصيل تفاصيلِ لقائنا الأول، أنا التي أدركُ أن البدايات والتفاصيل ما كانت تعنيكَ يوماً، مؤكداً لي أن: "الأمور بخواتيمها لا ببداياتها... الأمور بنتائجها لا بأسبابها".

منذ البدء كنتَ رجل الاختزال، وكنتُ امرأة التفاصيل...فأي عبثٍ جميلٍ مؤلمٍ جمع بيننا؟!

ما أتذكره جيداً، دعوة صديقة طفولتي "سوسن" لتناول إفطار أحد أيام رمضان في منزل عائلتها، وبعد امتلائنا طعاماً وعصائر وحلوى، شاركتها حرب فَصل الدهون والشحوم عن الصحون والأواني، وأثناء ذلك تحرّش بها فضولي، فسألتها عن المرأة الشبه صامتة التي شاطرتنا وليمة الإفطار، والتي أراها لأول مرة في بيتهم:

- هذه عمتي نعمة، أتت مع ابنها أحمد، ليكمل العلاج الذي بدأ في مستشفى طولكرم
- مسكينة، ما مرض ولدها؟
- كلاهما مسكين عمتي وابنها، أحمد أُصيب الشهر الفائت برصاصة "دمدم" في نخاعه الشوكي فقتلتْ الحياةَ في أطرافه الأربعة... عمتي تكابر بشكل لا يُصدّق!
- يا الله! وهل تقيم عندكم؟
- نعم، ولكن أي إقامة؟! ينتظرها دوام عمل رسمي شاق، من السابعة صباحاً تخرج عند أحمد في المستشفى وتبقى عنده إلى ما بعد العاشرة ليلاً، اليوم والديّ أصرّا عليها أن تأتي للإفطار في المنزل... تخيلي يا أصيل الطابق الأول من مستشفى الأردن جميعه من جرحى الانتفاضة؟

تدبَّبت رؤوس الكلمات وأخذت تَخِز روحي قبل لساني.. لم أنطق، كيف لم أعرف قبلاً أن الطابق الأول من مستشفى الأردن يضم جرحى الانتفاضة؟ عملي كصحافية يتيح لي معلومة أبسط من هذه بكثير جداً!

كيف لم أسمع بذلك قبلاً؟ أم علمتُ وسمعتُ ولم تتحرك بي شعرة واحدة، كما الآلاف من الناس؟ ربما لأنني لم أرَ فيكم مقالاً جيداً، أو خبراً أتفاخر أن لي أسبقية الحصول عليه أضيفه إلى أرشيفي الصحفي؟

انضممتُ مع سوسن حيث تجلس أمها وعمتها، التي تتحدث عن "أحمد" والدموع تترقرق في محجري عينيها، كنتُ استمع إلى حديثها بصمتِ خاشعٍ في محراب صلاته..
- كنا نتوقع استشهاده، لكن لم نتوقع أبداً أن يصبح كسيحاً أمام أنظارنا ولا نملك شيئاً نفعله لأجله، مهّد لي ذلك أبوه مرات عديدة :"هذا الولد إستودعيه عند رَبِّكْ... الله يعوِّض عليكِ فيه" ... يعلم أي الأولاد هو ولده، وكثيراً ما سمعنا من أقاربنا والجيران : "أحمد اليوم كان يرجم حجارة وهو مغادر من المدرسة عن قرب على الجنود حيث مرمى أسلحتهم ولكن ستر الله هو الذي أنجاه من رصاصة محتّمة" وحين يواجهه والده مساءً بما سمعنا، يلوذ بالصمت إجابة، يرجوه والده وكأنه هو الابن: "يابا لا تشفق عليّ أنا.. إشفق على إمك إللي بيظل قلبها يقدح خوف عليك مثل كانون الفحم.. شو بده يصير في إمك لو صار لك شي؟" شاهدتُ هذا المشهد عشرات المرات والذي ينتهي دائماً نفس النهاية... يهز أحمد رأسه ويَعِد والده ويحلف بالله أن لا يعود لرجم الحجارة!! لكن هيهات.. المَثَل لم يترك شيئاً لم يقله: "كلام الليل مدهون بزبدة، يَطلعُ عليه النهار يسيح"!

المسكينة بكت كثيراً وتحدّثت أكثر عن أحمد وعن غيره من الجرحى، والشهداء والمعتقلين، والمدن التي تتعرض لجهنم الاجتياحات والقصف اليومي وازدياد عدد المفاتيح التي تفقد منازلها كل صباح بهدمها فوق رؤوس أصحابها. بقيتُ وسوسن نلوك عجز الكلام بينما لم يخرج كلام أم سوسن عن: "لا إله إلا الله... الله يصبركم ويجبركم... ربنا يِهْدْ حيلهم اليهود!"

مضى أكثر من نصف قرن، أصبحت عظام الكثيرين ممن شهد النكبة والنكسة مكاحِل، وشاب الرُّضع والأطفال وأصبحوا أجدادَ وجدات لأطفالٍ لاجئين لم يعرفوا من الوطن غير اسمه، وما زالت الأكف تُرفع إلى السماء وتدعو الله العودة إلى (البلاد) و(هَدْ حيل اليهود) .. فما عادوا ولا هُدَّ (حيل) اليهود..!

من هنا بدأ طريقي إليكَ، خرجتَ لي من بين الركام، وتركتني في النهاية مدفونة تحته... أشكركَ!
***
- سوسن غداً سأبقى مع خالتي عزِّية، أتت من رام الله، وبعد غدٍ سأذهب معكِ لزيارة أحمد في المستشفى
***
يتبع


تفاصيل رواية لن تكتمل - بسمة - 08-29-2005

المرة الأولى التي أرى خالتي عزِّية بعد استشهاد "عبد الله". قبل رؤيتي لها كنتُ أوافق "ميلان كونديرا" حين قال: "بأننا نعيش وراء الزمن وأننا لا نعي أعمارنا إلا في لحظات استثنائية، وأننا معظم الوقت أشخاص بلا أعمار". لكني بعد ذلك، أختلفتُ معه تماماً، إذ لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن خالتي عِزِّية لم تلحظ ولم تعش حقيقة أنها كَبُرت بدلاً من السنتين الأخيرتين عشراً على أقل تقدير!

كانت عيناها غائرتين، وحاجباها قوسين حزينين متعبين، ووجهها محزَّزاً بالتجاعيد، جبينها.. حول عينيها.. وجنتيها.. وجهها كان خندقاً من تجاعيد، وحين أعربتُ لأمي عن مدى استغرابي وأسفي قالت لي:

- هل ما حدث معها قليل؟ كانت قوية وضحوكة، حتى استشهاد ابنها عبد الله، موت الولد يكسر الظهر يا أصيل.. صدق من قال: (لا يكبر رأس حتى يشيب رأس)، وهي شاب قلبها وجسدها أيضاً حتى رأت أولادها يكبرون، ليبدأ الإحتلال بقصف زهرات أعمارهم، بعضهم في المعتقلات وبعضهم الآخر في المنزل تركتهم الإنتفاضة بلا عمل كمئات غيرهم، ولتكتمل معزوفة خالتك الحزينة ها هو عبد الله يسكن قلب الأرض، والله يستر من القادم، خالتك عِزيِّة كانت أجمل صَبية في البلد، وجديلة شعرها الأسود الناعم كانت تتدلّى لآخر ظهرها، الناس كانت تتغنى في جمالها (غناوي)!

خالتي عِزيِّة لها من الأولاد ثمانية، ولم يرزقها الله البنات، لدرجة أنها حين أنجبت أبنها الثامن، بكت كثيراً وامتنعت عن الطعام، حتى أجبرها زوجها على تناوله، خَوْف أن ينشف الحليب من نهديها فلا تستطيع إرضاعه، وحين بدأ يكبر أطالَت له شعره حتى وصلت جديلته حتى منتصف ظهره، ولم تسمح بقصها، إلا بعد أن ملّت من لوم الجميع لها وتأنبيها، وتخويفها بأن ما تفعله إن لم يؤثر على نفسية الطفل بشكل سلبي، فإنها ستتلفه، أذكر أنها ربَّتت ذات مرة على كتفي وقالت:

- "ليت الله شَلْ إيدي ورزقني بنت، مع إنه مثل ما بقولوا (هَمْ البنات للممات)، لكن البنات (حَنايِن) يا خالتي (حَنايِنْ)، بس بقعد في الدار والأولاد وأبوهم في الشغل وألاقي حالي لحالي وما في مين يناولني كاسة مَي، بشعر حالي مقطوعة.. الله لا يقطع حد من حد"

لم أعرف بماذا أجيبها، لذلك طلبتُ منها أن تحدثني عن الوضع في الداخل، ضحكتْ ضحكتها المعهودة، وبدأت تحدثني، كانت تحكي لنا عن كل شيء: المعتقلات.. الجرحى.. الشهداء.. المَنع.. المَحال المقفلة.. الإضرابات والبطالة، لكنها لم تجعلنا نبكي بحضرة كلامها أبداً، بل كانت تسيل مدامعنا ضحكاً، أعلم بأن الأمر قد يثير العجب، لكن هذا كان حال خالتي قبل استشهاد عبد الله تَروي المُرَّ بابتسامة و تحوِّل كل شيء إلى ضحك ونوادِر ونكات، ولا أقصد بذلك أنها كانت مستهترة، لا.. أبداً، بل كانت فلسفتها (بأنهم) يريدون قتل الضحك فينا، وان من ينجحوا بقتل الضحك داخله يكون قد هُزِم!

وربما من أكثر النوادِر المضحكة المبكية التي روتها لنا كانت:
- " في الانتفاضة الأولى، وفي الوقت الذي كان فيه صدام حسين مُحتلاً للكويت، صادف أن كان ثلاثة من أولادي معتقلين في "معتقل الظاهرية" (مازن، وحسين، وعزيز)، المهم (وبلاش) أحكي عن (سَمِّة البدن) التي نعيشها في طريق الذهاب إليه...

قاطعتها يومها، ولم يكن من طبعي أن أفعل:
- بل نريد منكِ أن تَروي لنا كل شيء و(سمة البدن) قبل الجميع...
- "ها ها ها ماشي مِثل ما بدِّك يا مَشْكَلجيِّة"... "معتقل الظاهرية" قرب الخليل، وفي أحد "خميسات" الزيارة، تجمّع أهالي المعتقلين كما العادة عند "بوظة ركب" في شارع المنارة، وهذا أشهر شارع في رام الله، من هناك يحملنا باص الصليب الأحمر للمعتقل، بعد صلاة الفجر مباشرة عبر "وادي النار"، لأن طريق القدس وهي الطريق الأسهل والأسرع ممنوعة علينا ومغلقة، لهذا نخرج فجراً، ولسان حالنا يدعو الله الوصول بالسلامة، من شدة وعورة الطريق، وطول المسافة التي علينا اجتيازها، وأن تكون الزيارة مسموحة، ولم يحدث ما يمنعها ونكون بذلك طرقنا مشوارنا على لا شيء. فبرغم إخبار إدارة المعتقل مكاتبَ الصليب الأحمر، عن موعد الزيارة، وهو في العادة خميس بعد آخر، غير أن هذا الموعد ليس مؤكداً، فأتفه الأسباب وأبسطها، قادر على إلغائها وحرمان الأهالي من رؤية أبنائهم لأسابيع! المهم، وصلنا المعتقل الساعة الثامنة والنصف، أُعلِمنا من الحرس أن موعد الزيارة بقي كما هو ولم يتم تأجيله، أي في الساعة العاشرة والنصف، غير أن بعض المعتقلين مُنعوا من الزيارة بسبب (الشَّغب)، ليس هناك أصعب من تواطؤ واتحاد سياط الشمس التي تلهب رؤسنا في الانتظار، مع قلق أن يكون ابناؤنا من الممنوعين عن الزيارة، لا أذكر أننا فرحنا فرحة كاملة أثناء انتظارنا، وأقصد بالفرحة الكاملة أن تكون الزيارة مسموحة لكل المعتقلين دون حرمان بعضهم. وفرحتي يومها كانت مبتورة، فقد كان ابني "عزيز" ممن مُنِع عن الزيارة، لمدة خمسة أسابيع، لأنه لَكَمْ جندياً على وجهه الأسبوع الذي سبق زيارتنا! لم أبكِ، حتى لم يكن لدي وقت لأحزن، لأنني شُغِلتُ مع نسوة أخريات، بسيدة كبيرة في العمر ربما تجازوت منتصف الستينيات، سقطت مغشياً عليها، حين سمعت أن ابنها من الممنوعين عن الزيارة، وحين أفاقت، واستجمعت بعضاً من قواها، أخبرتنا ابنتها بين شهقاتها المتهدِّجة خوفاً على أمها العجوز، وحزناً على أخيها مرة أخرى، بأن أمها لم ترَ أخاها منذ أربعة أشهر، وكلما حملتها اللهفة والشوق والأمل على رؤيته يخبرونها بأنه (أحدثَ شغباً جديداً) ومُنع عن الزيارة!

كنّا صامتين تماماً نستمع إلى خالتي، وعيوننا معلّقة بها، وهي تسرد لنا ما حدث، الأمر الذي حملها على إكمال ما بدأت، بزهو وإسهاب...

- رأيتُ مازن وحسين، أخبراني بما فعله عزيز بوجه الجندي الإسرائيلي، الذي أسقطتْ اللكمة التي نالها أحد أسنانه، أخبراني التفاصيلَ وهما يأكلان بشراهة من (المسخَّن) الذي أعددته لهما، تمنيتُ لو أن بإمكانهما (تهريب) "رغيف مسخَّن" لأخيهم، إذ لا يُسمح للمعتقلين أن يُدخلوا الطعام الذي يحضره الأهالي إلى زنازينهم، فقط الطعام مسموح في وقت الزيارة، كما أن إدخال السجائر ممنوعاً أيضاً، غير أن الشباب يتدبرون أمورهم ويهربونه. تخيلوا، أنا التي أتشاجر مع أبنائي وأصرخ بهم كي يقلعوا عن سُم السجائر، أجلبه لهم وأدعو الله أن يستطعوا تهريبه لداخل زنازينهم، مجرد أن يكون أي شيء ممنوعاً عنهم يثير في نفسي الحسرة ويُشعل سلاسل متعاقبة من الحرائق في صدري، نعم حتى وإن كان الشيء من ألد أعدائي مثل السجائر، فأحاول تأمينه!

أكملت خالتي، وقد أضاءت عيناها كمصباحين، بينما انتصب ظهرها متحفّزاً، وعَلا صوتها، ويداها ازدادتا نشاطاً فتنقلت عيوننا مع حركتهما:
- المهم، انتهت النصف ساعة المقررة للزيارة، ولم تنتهِ (أرغفة المسخَّن) بعد، فأمر الجنود الأهالي بالرجوع للخلف وكذلك المعتقلين، استعداداً لإدخالهم إلى زنازينهم، وحين بدؤوا فعلاً بالدخول، كانت عيناي معلقتين بولديْ، وصرت أركض مقابلهما لأراهما أطول مدة، ولكي أؤكد عليهما إيصال سلامي لـ "عزيز"، فلا يعلم أحد متى سيُسمح لنا بزيارتهم مرة أخرى، وبينما أنا أهروِلُ، وقعتُ على الأرض، كانت وقعتي (جااامدة) ومن (حَمْ) الوقعة وشدَّتها لا أدري لماذا أخذت أزغرد، أزغرد بكل ما أوتيتُ من طول نفس وعُلو صوت! ومثل ما قلت لكم، كان الوقت الذي فيه صدام حسين مُحتلاً للكويت والناس وقتها فرحانة على الرعب الذي عاشته إسرائيل من الصواريخ التي كان يضربها عليها، ولا أدري كيف فهم أحد المعتقلين أن سبب زغاريدي هي أن صواريخ صدام بدأت تنهمر على سماء تل أبيب وبالتالي تهزُّ أرضها، فشرع يهتف ويصفق بأعلى صوته: "أضرب أضرب يا صدام.. أضرب أضرب تل أبيب" وصار الباقي يهتف معه من المعتقلين والأهالي: "أضرب أضرب يا صدام.. أضرب أضرب تل أبيب" وشرع الرجال بالتهليل والتكبير، بينما النساء تزغرد وتصفق وأنا أزغرد وأصفق معهن بحماسٍ أكبر وصوتٍ أعلى، حتى أنني صدَّقت أن هناك صواريخ تسقط على تل أبيب! ووقتها انفرط النظام والانضباط في قاعة الزيارة كمِسبحَةٍ خذلها خيطها، اصفرّت وجوه الجنود الإسرائيليين... عَلا صوتهم بالصريخ بالعبرية تارةً وبعربية مكسَّرة تارة أخرى... وتشنَّجت حركات أقدامهم بين يُمنة ويسرى... ترددت أياديهم حائرة مضطربة أتتلمس بنادقهم أم هرواتهم، حيث استقرت أخيراً. أخذوا يضربون المعتقلين والأهالي: "إطْلأْ أَخالي.. إطْلأْ من خون.. إطلأ خمار!" وبسبب هراواتهم التي انهالت على أجسادنا طاردةً إيّانا، كنا وخلال دقائق في الباص نقطع الطريق عائدين إلى رام الله، وكم كانت المفاجأة حين لم يذكر المذيع أثناء تقديمه لنشرة الأخبار، الصواريخَ التي هتفنا لأجلها وزغردنا وأيضاً ضُربنا، فعرفت أن ما حدث سببه زغاريدي!
- ها ها ... ياااه يا خالتي، وماذا حدث لك من الوَقعَة؟
- سلامتك يا خالتي، بس رحت لَـمجبِّر عربي وجبرلي رجلي شهر!

بتلك الروح كانت تتعامل خالتي، مع كل أمور حياتها حتى في أحلك لحظاتها، بالضحك، والقهقهات والأغاني والزغاريد، حتى يوم استشهاد عبد الله في انتفاضة الأقصى الثانية، أُخبِرنا أنها زغردت كثيراً، لكن أحداً بعد ذلك لم يسمعها تزغرد، وأنا لم أعد أجرُؤ على سؤالها عن الأوضاع في الداخل، ولا كيف استشهد عبد الله، الذي كان يومها راكباً هو وشريكه، في سيارة اسطوانات الغاز التي يعمل على بيعها، فقامت طائرة (F16) بقصفها بصاروخ، ومنذاك الوقت وجميع العائلة، تحاول التخفيف عنها، وحملها على النسيان لكننا وجميعنا -أيضاً- نعلم كم أخفقنا، فهل (هزموها)؟!
أم لأن جثة ابنها تطايرت في الهواء، إلى أشلاء، ولم تستطع أن تودعه بقبلة على ثغره الشَّهْد؟!


يتبع(f)


تفاصيل رواية لن تكتمل - بسمة - 08-29-2005

كلانا كان مؤمناً:
إن الشقاء بدأ
ليس هناك كابِحٌ لطيشه!

لم أعلم أن شقائي الحقيقي قد بدأ، حين جلدتْ سياطُ الساعة عقاربها، معلنة الواحدة ظهراً، وهي الساعة ذاتها التي اتفقتُ فيها مع سوسن، على الذهاب لزيارة أحمد في المستشفى، لم أعلم أنني سأزوركَ أيضاً، وإلا لما استهجنتُ هجوم البرودة التي اجتاحت أطرافي، معلنة ساعة الارتباك، واصطباغ وجهي صفرة، فقد حاولت سوسن مراراً إثنائي عن الزيارة، لكن هيهات، كان الطريق إليكَ قد بدأ، طريقٌ كان للعند فيه دور أساسي من جانبا: "أنت" و"أنا"..

- أصيل إياكِ والبكاء هناك، أنتِ تبكين لأتفه الأسباب، هل تذكرين بكائك حين رأيتِ قطة شاردة اقتنصتْ عصفوراً وشرعت بالتهامه؟

نظرتُ حولي محاولة إيجاد شيء أدعّم به ارتجاج صوتي حين علّلتُ بكائي آنذاك:
- حزنتُ لجوع القطة.. ما ذنبها تعاني البرد والجوع؟! وما ذنب العصفور أن يكون آخر تحليقه في معدة قطة؟!

صدقتْ سوسن، هذه أنا أشبه بطفلة، أهرب للبكاء دوماً، وتضيع عندي الملامح ما بين الضحية والقاتل، حتى في حكايتنا، إن صحَّ تسميتي لها بحكاية، لم أدرك من منا كان القط ومن كان العصفور...لذلك لم أستطع إلا أن أبكينا معاً.
***
ماذا يُهدي المرء (وطنه) حين (يزوره) (لأول مرة)؟!
...قشعريرةً ودموعاً؟ ركعةً على ترابها بعد تقبيله؟ وجوماً وصمتاً كما حدث مع خالد؟ كم أغبطه انه بعد توقيع اتفاقية أوسلو (زار) (وطنه) (لأول مرة)، أخبرني أنه أهداها وجوماً وأن لسانه تخشَّبَ في فمه، فما استطاع أن ينبس بحرف، وأصبحت حركاته تشبه حركة "الريبوت" في أول أسبوع له من الزيارة، لم يصدق أن الأرض التي بعد "الجسر" الذي اجتازه أخيراً ما هي إلا "فلسطين"، كان يخبرني أنه يتخيل فلسطين "تلال سمسم" لأن أمه كانت كلما رجاها أن تحدثه عن "البلاد" تقول:
- سقا الله أيام البلاد، تركنا محصول السمسم ورانا تلال وقلنا بنرجع يَمّـا!

وحين رجوته أن يصفها لي، صمتَ مطولاً وسرح نظره حيث لم أتبيَّن ولم أعرف ثم قال:
- هي بالطبع ليست "تلال سمسم"!

كنت أتمنى لو يخبرني عنها، منذ طفولتي وأنا أشاهد وطني (صوراً فوتوغرافية) و(مشاهد دموية) في نشرات الأخبار، وفي أحسن الأحوال شاهدتها (أفلاماً وثائقية)، نعم، أنتظرت عودته لأسمع منه، عن تلك البقعة التي ما روى عنها محايد، ظننتني وجدته ليصفها لي بكل ما فيها من نبض حياة وسكون موت، أردت أن يخبرني أنه بينما أهل البيت يبكون ميتهم، زغرد أهل البيت المجاور لهم –كردة فعل طبيعية- بولادة حفيدهم الأول، وأن من خرج من بيته صباحاً حاملاً بيده الخشنة بندقيته، وضع بحنانٍ بالغ رأس زهرة حمراء أهدتها له محبوبته في جيب قميصه، وأن الأطفال تندّروا على (مجنون الحارة) ولحقوا به يضربونه بالحجارة فصرخت بهم الجارة الطيبة وأبعدت أذاهم عن (المسكين)، وأن صاحب البندقية والزهرة -السّالف ذكره- لعن جمرة شمس الظهيرة، وتشبث بلحافه مُتلذِّذاً بنسمات الليل الباردة! أردته أن يخبرني عن وطن أشعر به جنتي الأبدية أثناء تِحنانه عليّ، وحين قسوته أشعر به الجحيم المتكامل وأتبرم منه دون أن أشعر بذنب تدنيس قدسيته، أردته أن يقول لي أن الأشياء البسيطة التي تحدث كل يوم في كل مكان، تحدثُ أيضاً في وطني، بالمختصر المفيد.. أردتُ أن يصف لي وطناً كباقي الأوطان: (مزيج متناقض طبيعي صحّي مُقنع ومُحَبَّب)، لا لوحة يتحكم بها التطرف فقط، فهي لا تخرج بلسان الرّواة عن كونها، لوحة لا يتربع عليها غير اللون الأحمر، (أو) أخرى مقدسة مأخودة من الجنة!

علمت أنني سوف (أزور) (وطني) (لأول مرة) في وجوهكم، في إصاباتكم، في أطرافكم المعطَّلة، وكنت أعلم تماماً أن الواقع سيكون متطرفاً أيضاً (لوحة لا يتربع عليها سوى اللون الأحمر!) لذلك لم أعرف ماذا أهدي إليكم، واقترحتْ سوسن الأزهار والحلوى معللة ذلك بأنها "الأنسب والأصدق".

دلفنا أولاً إلى أفضل "حلونجي" في المنطقة، كان مزدحماً بالزبائن كما هو متوقع، فالعيد غداً. أنواع الشوكولاته كثيرة، بأحجامها المختلفة، وألوان سوليفانها المتعدد، وأسعارها المتباينة، وقفتُ وسوسن حائرتين لا ندري أيها الأنسب، فقد اكتشفنا بأننا لم نشترِ قبل اليوم شوكولا العيد بأنفسنا، وفي النهاية أحضرتُ علبتين رشَّحهما لنا "الحلونجي".

كان اختيار الحلوى أمراً هيِّنا، بالمقارنة مع الأزهار التي أردتها أزهاراً جورية، مخملية، خمرية، وبيضاء تنقل لهم صدق محبتي واعتذاري لهم عن تقصيري، طلبتُ خمس باقات متوسطة الحجم وواحدة كبيرة لـ "أحمد"، اخترنا الأزهار بأنفسنا، ولكن حين انتهى المُنسِّق من تنسيقها، لم تعجبني أياً منها، شعرت بها جافة ساذجة وخرساء تسخر منا! طلبتُ منه إعادة تنسيقها مرة أخرى، فاقتربتْ مني سوسن ووضعتْ كفّها بكفي وقالت:
- الآن تأكدتُ أنكِ بأقصى درجات توتُّركِ، الباقات كانت جميلة، لم تكن تشتكي من شيء، ولم يكن هناك من داعٍ لإعادة تنسيقها، أرجوكِ لا تفقئي دمامل جراحاتهم بارتباككِ.. هوني الأمرَ عليكِ!

ضغطتُ على كفِّها أرجوها أن تبقيها معي، غير أن صوتي أتى مكذباً مكابراً:
- أنا لستُ مرتبكة أبداً، كل ما في الأمر أن تنسيق الباقات لم يعجبني فطلبتُ إعادة تنسيقها!!

حملنا الباقات، ودخلنا في سباق مع الريح في سيارة الأجرة التي طارت بنا إلى المستشفى، غير عابئة بغزارة هطول المطر، لا أذكر كيف ركض الوقت، لكني أذكر جيداً أنني أشرتُ إلى سنابل القمح التي أُضيفت للباقات، وقلتُ لسوسن:
- أرأيتِ؟ أردتُ شيئاً من فلسطين، في هذه الباقات، وها هي...

شعرت بأن تلك السنابل، ستكون بمثابة الجسر الذي يربط بيني وبين فلسطين المتمثلة بكم، بجراحاتكم، بتواجدكم هنا، ولم أعلم أن لونك مطابق للونها، أعرف جيداً، أن الشعراء استهلكوا هذا الوصف تماماً، لكن بحالة الفلسطيني يتعدا الأمر وصفاً، لا أدري لماذا أتصور أن فلسطين عندما كان يخرج منها أبناؤها كانت تُوْشِمهم بوشوم لا ينكر وجودها أي بصير، وأنت وشَمَتك بلون القمح الناضج!

المستشفى كان دافئاً عكس خارجه، مع ذلك تشبَّثتُ بمعطفي أول الأمر، كما أنني منعتُ نفسي من النظر إلى أرضيته المصقولة جيداً، خفتُ من رؤية فَضْح ذلك العَصَب في وجنتي الذي أخذ وقتها بالرقص ارتجافاً وخوفاً من مواجهة أبطالٍ حقيقيين، أنا التي أحترف لقياكم وجدالكم فقط على الورق.

بحكم عملي أنتم عبارة عن تقاريرٍ تتسابق ماراثونياً وكالات الأخبار في التقاطها من سماء الأرض التي أتيتم/ أتيتَ لي منها، وتتفاخر بأنها أول من حقق "السَّبق الصحفي"، وليس هناك فرق أكانوا ناسين أم متجاهلين ما خلف هذه التقارير من بشرٍ يعانون، وأمهات ثكلى وآباء جمَّدت الفجيعة الدمعة في مآقيهم، وأطفال يتساءلون عن معنى كلمة يرددها الصحافيون حولهم بسخاء "حقوق الطفولة"!

صعدنا الطابق الأول، وأول مَن رأينا، ملاكاً بوجهٍ أبيض مدوّر، لا يتجاوز عمره بأي حالٍ من الأحوال ست سنوات، ممسكاً بلعبة مدفع رشّاش، غارساً عينه موضع الهدف ويده على الزِّناد ويهتفُ ظافراً: "طااااخ.. طخِّيت اليهودي.. طااااخ" .

هذا الملاك الذي يتقمَّص دور قناصٍ بارع، كان على كرسيٍّ رمادي متحركٍ بساقٍ يتيمة!

أنانيتي وخوفي من انكشاف تقزّمي أمام كرسيه، كانت أعظم من المضخة التي عَلا صوتها داخل صدري.. مررتُ بجانبه مكذِّبة ما رأتْ عيناي، مكابرة الدمعة بأنه ليس من هناك، لم تُبتر ساقه من أجل وطن لا يملك على تعويضه شيئاً .. أي شيء في الوقت الحالي، كنت بحاجة إلى أي صوت وإن كان كاذباً يطمئني أن هذا الطفل لم يدفع بساقه لأجل أرضه المحتلة..

على العكس أتى صوت سوسن مؤكِّداً لي ما خفتُ منه، الأمر الذي جعلني أتساءل عن مغزى إطلاق النار على طفلٍ بهذا العمر؟! فهو بالطبع لا يشكل أي خطرٍ على أحد أو شيء، هل يستمر حدوث مثل هذه الإصابات ليذكروا الأطفال بأن طفولتهم محكوم عليها بالتشظّي والبَتر؟!
***

من قال أن أقسى الخيانات هي خيانة أعضاء جسدك؟!
تلك التي تلتصق بك دون فائدة، وكأنها تُحيك لك مكيدة اسمها الـ(مُماحكة)!
تمسكها تدلِّلها كل صباح بلهفةٍ واشتياق كأنها الحبيبة، على أمل أن تكون قد رضيَت عنك أخيراً وقررت الحِراك، فإذا بها (تُماحِكك) بملازمتها لك، شكلاً.. وحسب!
***

أحمد لا يزال يودّع الطفولة، لم يختطُّ له شارب بعد، أربعة عشر عاماً.. فقط! لماذا صوّرته لي سوسن رجلاً قوياً؟ كان عبارة عن هيكل عظمي في فراش، جثة أقرب منها للجسد، أصابع قدميه ويديه كانت أصفر من حبات الليمون! وطوق حديدي على رأسه مثبتاً ببراغٍ تمنعه من الإتيان بأي حركة ممكن أن تضر بحالته أكثر... تُرى هل كان يعلم أن البراغي المثبّتة على جبينه تركت دماءً جافة مكانها؟!

- أبو حميد، هذه صديقتي أصيل أتت لزيارتك.
تقدمتُ خطوةً للأمام، بحيث يستطيع رؤيتي، بينما لم أستطع قول أي كلمة.. فأكملتْ سوسن:
- حمد لله، وضعك كثير متحسِّن
هربت أحرفٌ من بين شفتيه واهنة شبه مفهومة لأسباب كثيرة أبسطها ضغط الأجهزة على رأسه:
- سوسن، في طَبَقْ كرتون جنبي على الطاولة، هَوِّي لي على وجهي .. شَوْبان.. التدفئة حامية..
وبينما كانت تحرِّك سوسن الطبق على وجهه بهدوء:
- أبو حميد العيد بكرة..
- سوسن، في شي في منخاري؟ شاعر في شي!
انحنتْ قليلاً تنظر داخل فتحتيْ أنفه..
- ما في شي.. منخارك نظيف، كل عام وإنت بخير.. العيد بُكرة
- بَس أنا شاعر إنه في شي في منخاري.. تأكدي
انحنت مجدداً وقد علمتْ أنه لا فائدة، فهذه حاله من يوم إصابته يرفض كل شيء، ويتذمر من كل شيء.. وبينما هامتها تعاود الانتصاب حاولتْ مجدداً لكن من باب آخر:
- أصيل، هاتي الورد والشوكولاته لأبو حميد

سوسن بصوتها الطفولي والمندفع بحذر، ذكّرتني بالحماقة التي ارتكبتُها: مقايضة حرارة تأوّهاتكم بزهور جعلت منسِّقها يعيد تنسيقها مرتين كي يضيف شيئاً من فلسطين إليها وشوكولاته..

الآن هل تُغفر لي حماقتي إن أضفتُ للزهور والحلوى، الدوارَ الذي شعرتُ به حين رفض أحمد، حمدَ الله والعيد؟!
***

سوسن، يلعنكِ الله بقدر ما زرع بأرضه من أشرار وظلم وقهر!
ما كان عليها أن توافق.. ذهابي للمستشفى كان خطأً لا يُغتفر.. خطأ لا أملك غير إعادته، إن كان الزمن استثنائياً رحيماً لأجلي، بإرجاع نفسه للوراء..
***

من لا يؤمن بتناسخ أرواح البشر كيف أقنعه أنا بتناسخ أرواح الأمكنة؟!

لأول مرة كنت أرى فلسطين وأشم رائحتها، حين دخلتُ غرفتكم العبقة بأنفاس خمسة جرحى، متلحفين الكثير من الضمادات، والقطن، والشاش، وعلم فلسطين، وحطتها بنقاطها السوداء والبيضاء المعلقة على المشجب المخصص أصلا لحمل أمصال التغذية، ووحدات الدم.. وسعالٌ وقيئ ودماء، والكثير الكثير من الشاش والضمادات، كانت ستجعلني لا أذكر وجه أي أحد منكم، لولا أولى صفعاتِكَ لي، وأنا أمد لك يديَّ بعلبة الشوكولاته، وعيني مزروعتين في الأرض، لا خجل فتاة أمام رجل، بل خجل فتاة اكتشفت فجأة أنها تتبجح زوراً وبهتاناً بانتمائها إلى أرضكم..
- تفضل، حمد الله على سلامتك
استدرتَ قليلاً لتصل يدكَ اليسرى للعلبة وتناولتَ إحدة الحبات بينما سألتني:
- ما اسمك؟
فوجئتُ قليلاً، إذ لم أتوقع أن تسألني عن أسمي، بل لم أتوقع أن يسألني أحد عنه. رفعتُ نظري، فكان اللقاء الأول بين أعيننا، بعدها انحدرتْ عيناي نحو كتفك الأيمن، هل فعلاً كان يهمك معرفة أسمي لحظتها، أم أردتَ الإمعان في الصفع؟؟؟
- أصيل..
- أنا عماد الشَّال..
وقبل أن أقول أي شيء وببحركةٍ من رأسكَ أشرتَ إلى كتفكَ الأيمن، وكأنك تعاقب عينيْ على توقفهما هناك قبلاًً، وأكملتَ:
- هل كنتِ تتوقعين رؤية أشخاص بلا أيدٍ تلتقط ما أحضرتِه؟
- .....

ياااااه... هل حقاً كنتَ تنتظر مني إجابة؟! أنا التي اكتشفت يومها أنني مُترفةٌ حد الإتلاف، زهور وشوكولاته مقابل ألم وبتر ودماء؟!

تركتُكَ ومضيتُ دون أن أنبس ببنت شفة، تركتُكَ محتاساً بفتح حبة الشوكولاته بيدك اليسرى، ومضيت أتحسس خدّي.. يدك المبتورة صفعتني حتى التَمَعت الغرفة أمامي وما عدتُ أرى شيئاً..

سوسن كانت لا تزال بجانب أحمد، وتتحدث مع عمتها المسكينة التي أتت مع ابنها وخلَّفت وراءها خمسة أبناء أصغرهم "فرح"، التي لازالت تتعثر بخطواتها الأوائل.
- أراكِ عدتِ بباقة زهور؟! (قالت سوسن)

نسيتُ يومها، لم أعطكَ زهورك، واكتفيتُ بالشوكولاتة، ربما لأنني أعلم بأن لك يداً واحدة لا تحمل غير شيء واحد، إضافة إلى مقدرتها المدهشة على الصفع.
- نعود إلى البيت.. أرجوكِ؟
- إلبسي معطفكِ ونعود.. ما زالت تمطر في الخارج

وضعتُ يدي على صدري.. لم أكن أعلم بأنني خلعتُ معطفي متى خلعته وأين؟! وكأن ماساً كهربائياً سرى في روحي قبل جسدي حين قلتَ بصوتٍ عالٍ رافعاً معطفي بيدكَ...
- أصيل، معطفكِ!

أنا الهاربةُ من ضعفي أمامك، أنا الخَجِلة من ذنوب ربما اقترفتها دون قصد مني، لا أدري كيف عدتُ إليك مرة أخرى:
- أشكركَ وأعتذر عن مضايقتك، لم أنتبه أنني خلعته.. العيد غداً، كل عام وأنتَ بخير
- "عيد بأي حالٍ عدتَ يا عيدُ"

ما أدراني أنك أيضاً رفضتَ العيد؟ وكيف لي أن أخمِّن أنك اخترتني للانتقام منه هنا بملابسه الجديدة وقهقهات أطفاله وألعابهم؟
- "بما مضى أم لأرضي فيك تهويدُ"
أكملنا المقطع الشعري، ولم أكن أعلم بأن كل منّا كان يغني على ليلاه..
- "نامت نواطير مصر عن عساكرها"
- " وحاربت بدلاً منها الأناشيد".. أنا أيضا أحب أمل دنقل.. مثلك
- ربما أحبه، لكني أكره كذب العيد على وطني، كما أكره حرب الأناشيد هنا وهنا وهنا أكثر.. لذلك آنستي، آسف أنني لستُ مثلك تماماً!

صفعةٌ أخرى، لم أكن أتوقعها، ماذا فعلتُ أنا يا الله؟ وأي تحدٍ أحمقٍ دفع بي أن أكمل:
- إذن، سآتي في الغد، لأتعرف منك كيف يكذب العيد على فلسطين.
- يكذبُ على أهلها قبلاً.. أتأتين وتتركين العيد هنا؟!

برغم ارتجاف يديْ استطعت ارتداء معطفي، وحاولت رسم ابتسامة لا أدري إن نجحتُ في رسمها أم لا..
- ألقاكَ غداً..
***

يتبع


تفاصيل رواية لن تكتمل - بسمة - 08-29-2005

ألعاب العيد النارية..
حزنٌ مشتعل!

كنتُ لا أزال مستيقظة أو متأرجحة بين حدّي النوم والصحو وأشعر بدوار رغم سكوني في فراشي حين خرج والدي ليكبِّر في المسجد القريب لمنزلنا مع المكبِّرين معلنين فك الحظر عن الطعام والشراب قبل وقت الغروب.

((مَن سيأتي له خاطر الأكل الآن؟.. جدتي تحب أكل "الفسيخ" صباح يوم العيد.. لماذا لم أذهب مع بابا لأكبِّر معه؟!.. طاااخ طخيت اليهودي طاااخ.. اليوم العيد.. حتى لو عرض عليَّ بابا الذهاب معه لصلاة العيد لن أذهب، عظامي مكسّرة... هل كنتِ تتوقعين رؤية أشخاص بلا أيدٍ تلتقط ما أحضرته؟!.. هل يزور العيد المستشفى؟.. عماد الشّال.. توقف المطر.. لكني أخاف صفيرَ الرياح.. علّه يزور الأصحاء والأقوياء فقط؟.. في شي في منخاري؟ لا، منخارك نظيف.. العيد بكرة.. لا، اليوم يا سوسن اليوم.. أصيل معطفك.. رفض العيد.. طاااخ طخيت اليهودي طااااخ))!!

قمتُ من محرقة فراشي قبل أخوتي وأخواتي، قبَّلتُ يَد أمي التي وضعتْ كعك العيد في طبقه الخاص في غرفة الضيوف التي تنتظر زائريها، وحضَّرت القهوة السادة، التي فاحت رائحتها، ووضعتها في دلَّتها وصفَّت بجانبها ستة فناجين، كان المنظر أشبه بمُجسَّم لجبل وبجانبه تلة، الفناجين أحضرتها معها من العُمرة. والقهوة لا أدري لماذا يحضِّرونها سادة، دون سُكَّر؟! هذا تقليد قديم جداً، حين كان العيد حلواً سعيداً، كان يحتاج لبعض المرارة أو لأقل الحياد على سبيل التغيير والتنويع وحسب، تبدّل العيد وأصبح مُرّا بما يكفي لاستبدال السادة بأخرى حلوة!

أخبرتُ ولاديّ أنني سأذهب للصحيفة أول أيام العيد، لذلك لم تتعجب أمي حين بدّلتُ منامتي باكراً، وجلسنا ننتظر عودة والدي من الصلاة، كانت قد بدأت روح العيد تَدُبُّ في الجوار، بدليل أن طارق ابن جيراننا، لم يَكُف عن طرق رؤوسنا بصياحة، وبكائه الذي وصل حد الزعيق حين حاولتْ أمه إقناعه بـ: "لسة الدكانة نايمة.. بس تصحى رايحة أخلي أبوك يشتري لك مسدس تطخ فيه أولاد الجيران"

غريب!
طفل الكرسي الرمادي بساقه اليتيمة، كان "يَطُخ اليهودي"!
***

أن تجدَ "تكسي" في صباح أول يوم من أيام العيد، يعادل فرحة العيد نفسه! ولو لم أكن كذبتُ بأنني ذاهبة للصحيفة، لما رفضتُ عرض والدي بإيصالي بعد أن باركتُ له بالعيد وباركني بتقبيلي ليده الكريمة واستلامي منه ككل عيد عيديَّتي، لكنني ولغاية الآن لم أجد تفسيراً دعاني للكذب.

كانت الرياح تغازل الأشجار بجرأة عالية، والمطر توقف عن الهطول، برغم أن السماء كانت لا تزال تلبس القماش الرمادي الداكن السميك، ناذرة الأرض والناس بمزيد من بَلَلْ، دخلت المستشفى، دافئاً، يبعث الراحة والدفء في الأطراف المتجمدة، ويعيد للوجه استرخاء عضلاته المنكمشة فوق بعضها بعضاً من البرد، لولا رائحة المعقمات القوية والمنتشرة في كل مكان فيه، واللون الأبيض الماكر جداً والذي يشيع الرهبة والسكون، كل شيء أبيض في المستشفيات: معاطف الأطباء والممرضات، الستائر، الأسِرة وملاءاتها، الأرضية، بل وحتى أجهزة التكييف والتدفئة! كلما دخلت مستشفى أشعر بنفسي أسير بين أكفان متحركة وأخرى جامدة، ومع كل هذه الأكفان يتمنون من المرضى أن يكونوا أقوياء (نفسياً) ليتماثلوا للشفاء!

وكشيء أكيد غرفتكم بأسِرَّتها الخمس كانت قطعة من ذلك البياض حين دخلتها، المسكينة عمة سوسن كانت واقفة فوق رأس ابنها أحمد كأنها مصل تغذية بينما هو كان لا يزال نائماً، سلّمتُ عليها وباركتُ لها بالعيد، وسألتها عن حال أحمد، خجلتُ جداً حتى شعرت أن سحب دخان تخرج من رأسي بشكل دوائر ترتفع للسقف حتى تتلاشى، حين لمحت نظرات اندهاشها لرؤيتي بهذا الوقت المبكر، واتجاهي بعد ذلك نحو سريركَ!

- صباح الخير
رفعتَ رأسكَ، لم تتفاجأ بقدومي إذ لاحظتَه فور دخولي الغرفة
- كل عام وأنتِ بخير أصيل
لم أبارك لكَ يومها بالعيد، كي لا تفعل بي ما فعلته باليوم السابق، فهل فعلتَ أنت ذلك، لأن ملامح وجهي المرهقة وَشَتْ لك بجحيم ليلتي السابقة؟!
- وأنتَ بألف خير وصحة وسلامة.. كيف حالك؟
- بخير، الحمد الله... أصيل أنتِ من أي بلد؟

هل تعلم أنني ارتجفتُ من سؤالك؟
مئات المرات على مدار سنوات عمري سُئِلتُ وأجبتُ عن هذا السؤال بكل سلاسة وثقة، لكنني أمامك تلعثمتُ، خفتُ أن تسألني عن الثمار التي كانت تُزرع بأرضها قبل النكبة أو عن القرى الملحقة بها، أو عن أي شيء أجهله.. لذلك كدتُ أقول: "لا أعرف"! لولا معرفتي بأن عذري سيكون أقبح من ذنبي:
- من الرملة
- والنِّعم والله.. إذن أنتِ من أراضي الـ 48...

قاطعكَ مُوجِّهاً الكلام إليّ صوت مهنّد، الجالس في سريره المجاور لسريرك:
- أووف من الـ48؟! وعندك أمل في العودة؟ لا تحلمي... على الأقل الآن

وضوح إصابته جعلتني أتصور سيناريو ما حدث معه، رسغ يده اليسرى مبتورة، وكان رأسه يبدو غريباً بالجزء اليسير المتبقي من أذنه، الحريق التهمها مع نصف وجهه الأيسر، كان واضحاً أن شظايا انفجار هي ما أحدثت كل هذا (الخراب) في ملامحه. أكملتُ بعد أن شممتُ رائحة شواء تنبعث من داخلي:
- فال الله ولا فالك.. حرام تحكي هيك!
- ما هو الحرام؟ أن لا أمل الآن؟ أم لنصيحتي ألا تحلمي بعودة قريبة؟!

مهند لم ينتظر جوابي، وخرج من الغرفة سانداً نفسه على عكازه.
ربما شممتَ أنتَ رائحة الشواء المنبعثة مني، أو قرأتَ ما يجول بخاطري:
- اسمه مهند، من جنين، لا تقلقي، إصابة قدمه ليست بالخطيرة، شظية بسيطة، ستشفى خلال شهر، بالمناسبة هناك مَثَل يقول: "شِدْ شِدْ قَرَّبت الرملة على اللِّد" ها ها ها.. هل تعلمين ما يقصده المَثَل؟

شعرتُ ببعض الراحة أولاً لأن إصابة ساق مهند ليست بالخطيرة، ولأن هذا المَثَل سمعته كثيراً، جدتي أول من حفر هذا المثل بذاكرتي، كانت تقول لي بأن المرء يستطيع التنقل بين الرملة واللد مشياً على الأقدام، فقلت بثقة:
- نعم، هو أن الرَّملة واللِّد قريبتان من بعضهما البعض.
- أنا من نابلس، أتعلمين، أحب سماع أسماء المدن الفلسطينية والقرى الملحقة بها، وأعرف المحاصيل التي تزرع بها إن كانت زراعية، وأعرف لهجات أهلها، والأكلات التي تشتهر بها كل مدينة..
غمزتَ لي بعينكَ وابتسمتَ مكملاً كلامكَ:
- هل تعلمين بأن (القِدرة) أصلها خليلي، و(المفتول) غزاوي، وأن لبس النساء والرجال يختلف في المدن عنه في القرى؟ وأن تطريز أثواب النساء يختلف من قرية لأخرى؟

كنتُ أستمع إليك ووحش الحزن والحسرة يعتصراني، أنا التي تقريباً لا أعرف شيئاً عن فلسطين، بحكم ولادتي وانقضاء فترة طفولتي ومراهقتي في مكان، والإقامة الآن في مكان آخر احتضن جدي من قبل وأمَّنه تحت سقف وجنسية ورَّثها لأبنائه وأحفاده من بعده ليواجهوا الحياة بشكل أرحم وأحن، هذه الحياة التي ترفس دون شفقة من لا يحمل جواز سفر!

وبينما كنت أستمع إليك دخل طفل الكرسي الرمادي بساقه اليتيمة:
- عدّول تعال يا بطل..
وأكملتَ:
- هذا البطل يذكرني بنفسي حين كنت بعمره أو أكبر قليلاً...

النّدم شيطان يسري في دمي لغاية اللحظة يمتصه .. يبصقه ليعيد امتصاصه مرة أخرى وهكذا، لماذا لم أسألك كيف يذكرك بنفسك؟ ما كان سيضر بك لو أخبرتني دون سؤال؟ من يدري ربما كانت اختلفت نهاية حكايتنا..

- يا الله.. كيف أُصيب؟!
يدا عادل الصغيرتان كانتا تلفان عجلات كرسيه المتحرك باتجاهنا بصعوبة، وكأنك كنتَ تتوقع سؤالي أجبتني بصوت خفيض:
- سيخبرك هو الآن... يا بطل هاي أصيل بتحكي لي شو هالشاب الحلو؟ قلت لها هلقيت بعرفك عليه.. إحكي لها اسمك ومن أي بلد
يده الصغيرة البيضاء كانت دافئة حين سلمت عليه:
- كل عام وأنتَ بخير
- وأنتِ بخير خالتو.. أنا اسمي عادل من رام الله
- أهلين فيك، خالتي في رام الله... حكى لي عمو عماد إنك بطل
أكملتَ يومها نيابة عني:
- إحكي لأصيل كيف صرت بطل
سرد ما حدث، بسهولة وتتابع وكأنه يسمِّع أنشودة حفظها من مقرر مادة اللغة العربية:
- كان يومها في مَنِع تجوّل وإحنا محبوسين في الدار.. ما طلعت بالمرة بس عند دار عمي لأنهم ساكنين فوقنا بنفس العمارة، هناك ابن عمي رأفت حكى لي انه دكانة عمي أبو صابر فاتحة وأنه فيها بسكوت وشوكولاته، ما كنت أعرف انه بضحك عليّ.. تسحَّبِت من الدرج عشان إمي ما تشوفني ونزلت أشتري من الدكانة.. واليهودي شافني وأنا بقطع الشارع الفاضي وطااااخ.. طخني اليهودي على رجلي .. طااااخ.. وبعدين رحت لمستشفى في رام الله ونقلوني هون...

كدتُ أختنق بدموعي، وازدادت رائحة الشواء الصاعدة مني، جثوت على ركبتيّ وأمسكتُ بيده وقبّلتها، وقلت بصوت مبحوح، وملامح تحاول الابتسام في وجهه الملائكي:
- عادل بتحب البسكوت؟ خلينا ننزل الدكانة نشتري، أنا كمان بحب البسكوت

لم أستأذن منك بالانصراف، أمسكت مقبضيْ كرسي عادل ونزلنا بالمصعد إلى مقصف المستشفى، بينما أسكب دمعاً مخنوقاً أخرساً كي لا يشعر بي طفل الكرسي الرمادي بساقه اليتيمة!

هربتُ بعدها من المستشفى، وأنا أبكي وأحلف بأغلظ الأيْمان أنني لن أعود إليه، ولا أريد أن أسمع عن العيد هناك، يكفي ما رأيته وما سمعته.. يكفي!




تفاصيل رواية لن تكتمل - بسمة - 08-29-2005

هنا العيد انتهى...
لكن متى يبدأ هناك؟!

في أولى ساعات العمل بعد العيد، ننجح موظفوا الجريدة بعملية إنعاش للعيد فيتنفس نَفْسه ساعة أخرى، فتَعُجُّ مكاتبنا بنا، زائرين مهنِّئين بعضنا البعض، ننشغلُ نحن الصبايا بالحديث عن موديلات ملابسنا في العيد وزياراتنا، ويُضفن على ما سبق المتزوجات منا التعبَ الذي يخلفه العيد جرَّاء تنظيف البيت وشغب الأطفال واستقبال المهنئين وتوديعهم، بينما يضحك الرجال من المواضيع التي نتحدث عنها وهم يأكلون "كعك العيد" الذي أحضرناه معنا..!

حاولتُ جَهدي الاندماج في ذلك الجو، دون أن يلاحظ أحدٌ ضبابية مزاجي، وهروب الكلام مني والمجاملة، لكن خالد فعل...إذ لاحظ عودتي إلى مكتبي قبل عودة زميلاتي الأخريات!

كنت محتقنة تماماً بالصمت المُدوِّي الذي تجمَّع بعضه فوق بعضه وتراكم في جوفي، حتى ضاق هو بي، فخرج مني ليلازمني أنّا كنت، وأنا جالسة، نائمة، ماشية، صار صمتي يفوقني طولاً حتى ظننت بأن من في الجريدة لاحظ ذلك، لست أدري، ربما لاحظوه جميعاً، لكن خالداً هو الوحيد السألني ما بي، يااااه اخبرته عن كل شيء دفعة واحدة: عمة سوسن وابنها أحمد بأطرافه التي تنتظر مصير حِراكها فوق تقارير الأطباء، عن مهند، وطفل الكرسي الرمادي بساقه اليتيمة، أخبرته عن كل ذلك وبكيت.. بكيت.. بكيت يومها احتقاني كاملاً بقي لي منه فقط عينان حمراوان وأنف كإجاصة ناضجة، أخبرته بأنني لن أعود لزيارتكم، أخبرته أنني كنت كمن وضع طرف جلبابه في فمه وأطلق ساقيه للريح هارباً بعيداً لا ينوي على عودة. لم أخبره عنك شيئاً، لستُ أدري السبب، ربما لأنني حين أخبرت خالداً بكل شيء كان وجهك هو الأكثر إلحالحاً وسيطرةً عليّ؟ أم لأنني كنت ما زلت أتحسس وجهي حين صفعتني بيدك المبتورة بـ ((هل كنتِ تتوقعين رؤية أشخاص بلا أيدٍ تلتقط ما أحضرتِه؟)).. يااااه ليتني أخبرته عنك، ليتني قلت له بأنك لم تغب عن ذهني لحظة واحدة طيلة عطلة العيد..ليتني، لربما ساندني ووافقني فيما عزمت عليه من عدم معاودة زيارتكم، بدلاً من تشجيعي..
- أصيل، عودي للمستشفى، ربما ستكون هذه فرصتك الوحيدة لرؤية وطنك..
عماد هل كنتَ وطني؟ حتى أنت قلت لي ذلك ذات مرة: ((أنتِ متلهفة متعطشة لثدي الوطن، لم ترضعي منه كفايتك، ظننتني الوطن فتوهمتِ حبي)). صمتُ يومها لم أكن أعرف كيف أقنعك أن حبي لك يسير موازياً لحب وطني، نعم يتقاطع الحبان في نقاط كثيرة، لكن لم يندمجا في وحب واحد ولن يندمجا..!
..كنتَ حبيبي وأمي يا عماد، قد يبدو الأمر مجنوناً لكنك كنتَ أمي، مذاك الحلم وأنا أعرف، كانت أمي بصورتها بين يدي مغشياً عليها، أضمها إلى صدري أهزها أن تستفيق قلبي يوشك على التَّوقف وأبكي بينما تخرج الكلمات من حلقي جافة موجعة لكنها واضحة: "عماد لا تتركني، أرجوك لا تتركني أنا أحبك أنا أحبك عماد". تشبَّثت بك أكثر بعد أن وصل إلى سمعي صوت من خلفي لم أتبَّن صاحبه: "لماذا تحبينه؟ هو لا يريدك.. هو لا يريدك.. أتركيه..!"
هل تتصور هذا؟ أمي بين يدي مغشياً عليها، بينما أناديها باسمك وأرجوك أن لا تتركني!
تجاهلتُ الصوت/"أتركيه"، فتركتني أنت عماد.. أشكرك!

...أخبرتكَ عن خالد زميلي الأقرب لي في الجريدة، وأخي الذي لم تلده لي أمي، وفعلت لي ذلك فلسطين، برغم أننا لم نولد على أرضها!
خالد احتل محور حديثنا مرات عديدة، في عشقه للكاميرا وقوة تشبثه بها وإيمانه أنها أقوى من الكلمة وأصدق منها، عشقه لفن "سلفادور دالي" و" كلاود مونيه" كنتُ أتعجب كيف يحبهما معاً بنفس المقدار، في حين أنني أراهما على طرفي نقيض، فالأول ممعن في سرياليته والثاني في واقعيته! لكني عللتُ الأمر بالتناقض المُجمل في حياة خالد.. قوي الشخصية وطيب، عاشق لوطنه ومُتَجنِّب الحديث عنها أمام أطفاله معلِّلاً ذلك بـ:"ما كنت بِدِّي أشغل بالهم وأَوجِع قلبهم فيها ... ملحِقين!"

مرة هززتَ رأسكَ متأسفاً على حاله، حين أخبرتك أنه لم يغضب حين رآني غارقة في ضحكي، بعد أن شرح لي معنى قوله بأنه "كوكتيل" وابنه "سوبر كوكتيل"، فهو "الكوكتيل" فلسطيني مواليد دمشق يحمل جنسية مغربية ومقيم في الأردن منذ خمسة عشر عاماً، وابنه "سوبر كوكتيل" لأنه يضيف على ما سبق أن أمه دمشقية!

سألتني وقتها "وماذا تكونين أنتِ؟!"
ابتسمتُ.. سرح نظري بعيداً، تَضَبَّبَ المكان والبياض من حولي شيئاً فشيئاً حتى تلاشى، عَلا صوتُ الموجِ، كان البحر مدّاً لمحتُ طفلة واقفة على أطراف أصابع قدميها العاريين عدا من تعلَُق بعض حبات رمل الشاطئ، تتعربش سور الكورنيش الذي يكشف أسفله الأسماكَ الصغيرة الرشيقة السابحة في البحر، كانت تنتظر دقائق الغروب لتنفض فستانها مما علق به من صراخ اللعب وضحكاته وشهقاته مع أخوتها لتجلس على شاطئه تودع شمسه المرحومة بينما تدغدغ أصابعها موجه النَّشط الشقي وتبدأ البوح له عن كل ما حدث معها في الأيام الغابت بها عنه.. عن الأطفال الذين لم يتركوها تلعب معهم لأنها ببساطة لا تجيد الركض، ولعبتي "العنبر" و"الغُمِّيضة" أساسهما الركض.. عن معلمة اللغة العربية التي تحبها كثيراً.. تحدث البحر عن كل شيء وتُحمِّله أمانة تحقيق أحلامها الصغيرة الصغيرة...

أعدتني إلى غرفتكَ المُغالية في بياضها مُلحّاً: وأنتِ..؟
- "كوكتيل"، فلسطينية من أبوين فلسطينيين، والديّ أبناء عمومة، والدي من مواليد الرَّملة، وأمي من مواليد عمّان،




لا تكملة بعد ذلك
هنا أتت النقطة مبكرة
فصمتت الرواية!


تفاصيل رواية لن تكتمل - ابن العرب - 09-23-2005

عزيزتي بسمة،

:97::97::97:

تحياتي القلبية وتهاني الحارة

غريب هو الفلسطيني

حُرِمَ من وطنه منذ أكثر من خمسة قرون على أقل تعديل

ولا يزال يتسمى باسم فلسطين رغم أنه "سوبر كوكتيل"

ولكنها فلسطين...

تتمسك بأبنائها وبناتها وترفض أن تخلي سبيلهم، ومهما تنقلوا بين عواصم العالم وبلدانه، أبوا إلا أن يتسموا باسم فلسطين حتى وإن لم يعلنوا ذلك جهارة

كأني بفلسطين تدرك أنها لن تقوم لها قائمة كما قامت في الماضي الغابر
فترفض الاستسلام وتصر على أن تحيا فلسطيناً حاضرة في قلب كل فلسطيني
سواء على بعض تراب فلسطين أو على تراب أي دولة في العالم باتت هي فلسطين لأنها تحمل فلسطينيا

(f)


تفاصيل رواية لن تكتمل - Arabia Felix - 09-23-2005

تذكرت هذا
http://www.nadyelfikr.net/viewthread.php?t...=17981&pid=#pid

مع الحب، بسمة (f)


تفاصيل رواية لن تكتمل - بسمة - 09-24-2005

أخي العزيز جداً ابن العرب(f)
كم يعني لي مروركَ وتشريفكَ لما أكتب، وكم تهمني ملاحظاتكَ ، وبعد أن قرأتُ مداخلتك، لم يبق لي ما أقول، ولكني أدعو الله من كل قلبي أن يبدل أحوالنا بأحوال أفضل وأخيَر
اللهم آمين
دمتَ رائعاً طيباً


العزيزة وميض(f)
أشكر لك مرورك، وقد قرأت النص سابقاً وأعدت قراءته مرة أخرى، أشكرك جزيل الشكر