حدثت التحذيرات التالية: | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3) +--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57) +--- الموضوع: مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة (/showthread.php?tid=25309) الصفحات:
1
2
|
مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة - oskar - 08-27-2005 [CENTER]مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة علي وطفة(*) فالفكر الأوروبي يشكل منطقة يترعرع فيها منطق وفكر ما بعد الحداثة، أما نحن فما زلنا نجوب مخفقين في دائرة الحداثة بمفهومها التنويري المرتبط بفكرة التقدم فقط. وحتى التقدم هنا لا يأخذ معناه النقدي بل صيغته الاقتصادية الإنتاجية البحتة وأحيانا صورته المظهرية، وهو تقدم بائس وحداثة مشوهة استقطب مفهوم الحداثة La modernité اهتمام الأدباء والفلاسفة وعلماء الاجتماع، منذ عصر النهضة حتى اليوم، واحتل مكانه المميز في الأنساق الفكرية الكلاسيكية عند كارل ماركس K.Marx، وإميل دوركهايم E.Durkheim، وماكس فيبر M.Weber، واستطاع لاحقا أن يأخذ مركز الأهمية في أعمال المحدثين، ولا سيما هابرماس J.Habermas، وجيدن A.Gidden، وليوتار J.F.Lyotard، وتورين A.Touraine. يطلق مصطلح الحداثة بوجه عام على مسيرة المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة إلى اليوم ويغطي مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية. لقد أدخل التقدم المستمر للعلوم والتقنيات، وثورة التكنولوجيا، إلى الحياة الاجتماعية عامل التغيير المستمر والصيرورة الدائمة التي أدت إلى انهيار المعايير والقيم الثقافية التقليدية. وفي ظل هذه الصيرورة الاجتماعية بمختلف اتجاهاتها تحدد السياق العام لمفهوم الحداثة بوصفه ممارسة اجتماعية ونمطا من الحياة يقوم على أساسي التغيير والابتكار. وغني عن البيان أن أكثر اللحظات في التاريخ أهمية وإبداعا اللحظات التغييرية الحداثية، وهي اللحظات التي يتم فيها الكشف عن منطق خاطئ مضلل وإبداع منطق جديد. حيث نجد في الفلسفة نقدية كانط التحليلية، ومثالية هيغل الكلية، ومادية ماركس الجدلية، وظواهرية هوسرل التأويلية، وبنيوية فوكو التفكيكية. وهي من أهم اللحظات التاريخية في الحداثة الفلسفية. تعريف الحداثة: يأخذ مفهوم الحداثة La modernité مكانه اليوم في حقل المفاهيم الغامضة. وإذا كان هذا المفهوم يعاني من غموض كبير في بنية الفكر الغربي الذي أنجبه، فإن هذا الغموض يشتد في دائرة ثقافتنا العربية ويأخذ مداه ليطرح نفسه إشكالية فكرية هامة تتطلب بذل مزيد من الجهود العلمية لتحديد مضامينه وتركيباته وحدوده. وبعيدا عن التوظيفات الساذجة والشائعة لمفهوم الحداثة، التي تختزله إلى صيرورته الزمنية الراهنة، حيث يجري الحديث عن الزمن الحاضر، أو المرحلة الراهنة، أو العصر الحديث، أو المجتمع المعاصر، يمكن القول بأن الحداثة هي غير بعدها الزمني، إنها مفهوم فلسفي مركب قوامه سعي لا ينقطع للكشف عن ماهية الوجود، وبحث لا يتوقف أبدا عن إجابات تغطي مسألة القلق الوجودي وإشكاليات العصر التي تثقل على الوجود الإنساني. يرى كل من كارل ماركس K.Marx وإميل دوركهايم E.Durkeim، وماكس فيبر M.Weber، أن الحداثة تجسد صورة نسق اجتماعي متكامل، وملامح نسق صناعي منظم وآمن، وكلاهما يقوم على أساس العقلانية في مختلف المستويات والاتجاهات. وتتمثل الحداثة كما يحددها جيدن في نسق من الانقطاعات التاريخية عن المراحل السابقة حيث تهيمن التقاليد والعقائد ذات الطابع الشمولي الكنسي. فالحداثة تتميز بأنماط وجود وحياة وعقائد مختلفة كليا عن هذه التي كانت سائدة في المراحل التقليدية حيث عرفت التغيرات التي شهدتها الحداثة بطابع التسارع والتنوع والشمول ولا سيما في مجال التكنولوجيا والمعرفة العلمية التكنولوجية، كما عرفت هذه المرحلة أيضا بتنامي الاتصالات الفعالة بين جوانب الحياة الإنسانية حيث شملت الأقاليم والمناطق المتباعدة في جغرافية الكون. وهذه هي المرحلة التي حدثت فيها تحولات جوهرية في عمق المؤسسات على مدى تنوعها. وقد سمحت هذه التحولات والتغيرات الجوهرية في شروط الوجود للناس من السيطرة على مقدرات وجودهم وشروط حياتهم. ويرتكز المفكرون عادة في تعريف الحداثة إلى فكرتين أساسيتين هما: فكرة الثورة ضد التقليد، وفكرة مركزية العقل. يعرف جابر عصفور الحداثة "بأنها البحث المستمر للتعرف على أسرار الكون من خلال التعمق في اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان من الأرض. أما سياسيا واجتماعيا فالحداثة تعني الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، من الاستغلال إلى العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال ومن الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أو الطائفة إلى الدولة الحديثة، ومن الدولة التسلطية إلى الدولة الديموقراطية. "تعني الحداثة الإبداع الذي هو نقيض الاتباع، والعقل الذي هو نقيض النقل". "يصوغ أوزفالد شبغلر في كتابه انحطاط الغرب مفهوما للحداثة أطلق عليه حضارة الرجل الفاوستي (نسبة إلى فاوست والفاوستية هي محصلة خصائص الإنسان الغربي الحديث، أما فاوست فهو العملاق المبدع النهم الذي لا يشبع طموحه وظمأه إلى المعرفة، ولا يتوقف عن البحث عن الحقيقة المطلقة، وفاوست عند الشاعر الألماني (غوته) هو العبقري المغامر دوما وبلا هوادة نحو المعرفة". "والحداثة مفهوم متعدد المعاني والصور، يمثل رؤية جديدة للعالم مرتبطة بمنهجية عقلية مرهونة بزمانها ومكانها". فهي رفض الجمود والانغلاق والقبول بمبادئ الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الإنسانية، وهي تعني إطلاق الحرية وفسح المجال لكل التعبيرات الاجتماعية للقيام بدورها. يرى ناصيف نصار في مجال التمييز بين الحداثة والتقليد "أن الحداثة هي المفهوم الدال على التجديد والنشاط الإبداعي، فحيث نجد إبداعا نجد عملا حداثيا، وبهذا المعنى فإن الحداثة ظاهرة تاريخية إنسانية عامة نجدها في مختلف الثقافات. وتتحدد الحداثة في هذا المعنى بعلاقتها التناقضية مع ما يسمى بالتقليد أو التراث أو الماضي، فالحداثة هي حالة خروج من التقاليد وحالة تجديد". بين الحداثة والتحديث: يعد الفصل بين مفهوم الحداثة والتحديث مدخلا منهجيا لتعريف الحداثة بصورة علمية. وغالبا ما يرسم الباحثون في ميدان العلوم الإنسانية حدودا فاصلة بين مفهومي الحداثة والتحديث. وعلى الرغم من هذا الترسيم العلمي يلاحظ هذا التداخل الكبير بين المفهومين. فغالبا ما يجري استخدام مفهوم تحديث للدلالة على الحداثة وعلى خلاف ذلك كثيرا ما يستخدم مفهوم الحداثة للإشارة إلى ظاهرة التحديث. وفي وصف طابع هذه الإشكالية يقول محمد محفوظ: "يبدو أن مصطلح الحداثة وكأنه نص مفتوح على كل مضامين التقدم المعاصر، بحيث أنك لا تفرق بشكل صارم بين مضمون مصطلح الحداثة وبين مضامين مفاهيم التحديث والتقدم والعصرية أو الجديد. ويمتد التداخل ليشمل المعايير والقيم وأنماط السلوك واللباس وطراز السكن أي كل مناحي الحياة في آخر المطاف". يتمايز مفهوما الحداثة Modernity عن مفهوم التحديث Modernization في اللغتين الفرنسية والإنكليزية. فالحداثة هي موقف عقلي تجاه مسألة المعرفة وإزاء المناهج التي يستخدمها العقل في التوصل إلى معرفة ملموسة. أما التحديث Modernization فهو عملية استجلاب التقنية والمخترعات الحديثة حيث توظف هذه التقنيات في الحياة الاجتماعية دون إحداث أي تغيير عقلي أو ذهني للإنسان من الكون والعالم. فأنصار التيارات السلفية المتطرفة يوجدون في المعاهد العلمية ويتعاملون مع التقنية الحديثة دون أن يأخذوا بالروح العلمية أو الفلسفية لهذه التقانة. ومن أجل أن نفهم جوهر الحداثة يتوجب علينا أن ندركها كطاقة مجددة متحركة منطلقة تتمثل الماضي والحاضر وتعيد إنتاجهما بروح مستقبلية جديدة. التطورات التي تسجل في مستويات الإنتاج والاستهلاك وفي البنية التحتية تشكل صورة لعملية تحديث وشتان ما بين الحداثة والتحديث، فالتحديث يعني مظاهر الحداثة وقشورها بينما تعني الحداثة في الأصل اللحظة الواعية التي تتمثل في انتظام العقلانية والفردية والعلمانية والقيم الحرة في اندفاعة حضارية قادرة على إحداث تحولات عميقة في البنية الاجتماعية والبنائية للمجتمع. فالحداثة هي حالة تعتمل في بوتقة الروح الاجتماعية وتتجلى في مظاهر الجسد الاجتماعي. أما التحديث فقد يكون حالة من حالات الاستيراد المنظم لشكليات الحداثة مثل: استيراد السيارات والطائرات وأنظمة التعليم وبدع الاستهلاك الاجتماعي. والتحديث في التجربة العربية يأخذ طابع المحاكاة الجوفاء لمظاهر المدنية في الغرب ونماذجه الحضارية وهذه المظاهر لا تنم عن حالة حضارية أو حداثية تنبثق من صميم المجتمع وتتكون في رحمه الحضاري. وغالبا ما يظهر أن هذه النماذج الحضارية تتعارض مع النسق الحضاري العربي في أصوله وتجلياته الذاتية. وهذا يعني أن استجلاب مظاهر الحداثة من الغرب قد يؤدي إلى مزيد من الضياع والاحتضار. وقد يعني ذلك، وهذه هي الحالة على الأغلب في عالمنا العربي، تعايش منظومتين اجتماعيتين متنافرتين في آن واحد هما: مجتمع تقليدي يمارس حياته وفق معايير وقيم تقليدية، ومجتمع حداثي يعيش وفق أحدث المعايير العصرية دون أن يتمثل روح هذه المعايير ويتشرب من تدفقاتها الذاتية. ووفقا لهذه التصور فإن التحديث العربي في التاريخ المعاصر يأخذ صورة متناقضة مع الحداثة الحقيقة. وفي هذا السياق يميز محمد أركون في كتابه الإسلام والحداثة بين المفهومين: "فالحداثة موقف للروح أمام مشكلة المعرفة، إنها موقف للروح أمام كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل إلى معرفة ملموسة للواقع. أما التحديث فهو مجرد إدخال للتقنية والمخترعات الحديثة (بالمعنى الزمني للكلمة) إلى الساحة العربية أو الإسلامية، نقصد إدخال المخترعات الأوروبية الاستهلاكية وإجراء تحديث شكلي أو خارجي، لا يرافقه أي تغير جذري في موقف العربي المسلم للكون والحياة". يصف محمد أركون هذا بأمثلة مستمدة من واقع الجزائر والخليج العربي. ففي الجزائر وفي صبيحة الاستقلال عام 1962 انخرطت في التحديث في مجال التصنيع الثقيل وذلك عن طريق استيراد المصانع والمعامل والخبرات، وهذه ليست حداثة، فالحداثة كانت ممكنة عن طريق بناء المخابر في مجال الفيزياء والكيمياء والرياضيات. وفي الخليج نشاهد الموقف عينه فبلدان الخليج تستورد مظاهر الحداثة المادية من آليات وسيارات وأجهزة وأنابيب النفط ومصافيه وهي آلات ومخترعات كلفت أوروبا مئات السنين من البحث والتجريب العلمي وفي أصل هذه المخترعات تكمن روح ديكارت وفرانسيس بيكون وغاليلو وكوبرنيكوس وأديسون وغيرهم، وهذه هي الروح العلمية روح العلم الحديث التي تمثل جوهر الحداثة. ونحن ننقل مظاهر هذه الروح وليست روح العلم والمعرفة العلمية الحقة. وأريد أنا في هذا السياق أن أشير إلى ظاهر تحديث الأسلحة. فنحن نستورد الأسلحة الحديثة من طائرات ودبابات وصواريخ وبارجات ومدمرات وشبكات ولكننا لم نسع إلى امتلاك الحداثة الحقيقية أي الروح العلمية الكامنة في أصل هذه الحداثة أي القدرة على إنتاجها وتصنيعها أو تعديلها. وهذا على خلاف ما حققه العدو الصهيوني الذي امتلك الحداثة لا التحديث حيث استطاع أن يطور هذه الأسلحة ويعيد إنتاجها بجدة وأصالة متفوقة النظير. وهذا ما حدث في إيران وباكستان والهند حي استطاعت هذه الدول أن تمتلك الروح الحقة العلمية الكامنة في أصل هذا التحديث الذي انتقل بها من مظاهر الحداثة إلى جوهرها ومن ثم إلى عملية الإبداع والابتكار في مجال السلاح والتكنولوجيا. فنحن نعيش على فتات الحداثة وقشورها، وبالتالي فإن الروح الحقيقية للحداثة الحقيقية لم تستطع أن تأخذ مكانها في بنية الحياة الاجتماعية والروحية في المجتمع العربي. وفي تحديد المضمون الحقيقي للحداثة وفصله عن التحديث، يميز محمد محفوظ بين وجهين للحداثة: خارجي وداخلي، حيث يتجلى الوجه الخارجي بالمنجزات المادية والتطورات العلمية والتكنولوجية أي بالمحيط الإنساني، ويتجلى الوجه الداخلي بالسلوك والشعور والقيم الإنسانية، فالحداثة لا تقوم بذاتها وإنما تتأصل في النسق الاجتماعي الذي يشمل الوجهين المادي والمعنوي". "إننا نعيش المدنية كتوسع اسمنتي وتقنيات كمبيوتر متطورة لا نملك من قيمتها إلا احتواءها. كل ذلك على أرضية العلاقات الإقطاعية (الخراجية) والجانب التجهيلي من البداوة، وليس البداوة الإنسانية المؤصلة لقيم إنسانية تضع الإنسان كقيمة أولى". وهذا يعني بأننا نعيش قشور المدنية وأن الروح الحقيقية للمجتمع المدني لم تستطع أن تأخذ مكانها في بنية الحياة الاجتماعية والروحية في المجتمع العربي. فنحن نعيش على قشور المدنية وتتأصل فينا البداوة الشرسة التي تغيب معها القيم الإنسانية الأصيلة التي تضع الإنسان في صدارة غاياتها. يتبع: مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة - طريف سردست - 08-27-2005 شكرا على الموضوع المهم الذي اثرته ، وفي انتظار بقية الموضوع سلامي مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة - Arab Horizon - 08-28-2005 موضوع جميل...(f) مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة - oskar - 08-28-2005 تحياتي لكما ومرحبا بمروركم (f)(f) طريف سردست وArab Horizon مودتي مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة - oskar - 08-28-2005 النهضة والحداثة: يتشاكل مفهوم الحداثة مع مفهوم النهضة، وبعض الباحثين يطابقون بين المفهومين، حيث يعتقدون بتجانس النهضة الأوروبية والحداثة، فتحقيق الحداثة يعادل تحقيق النهضة، ويعتمد هذا التجانس على تكافؤ مرتكزات المفهومين، فكلاهما الحداثة والنهضة يعرفان بهيمنة العقل والعلمانية والفردية والمدنية وحقوق الإنسان. غير أن بعض الباحثين يحاولون الفصل بصعوبة وحذر بين المفهومين. وفي هذا السياق تطالعنا محاولة برهان غليون الذي يرى أن ما "يميز النهضة عن الحداثة، هو أن الحداثة تجري بشكل تلقائي ويومي، وتتجسد في انتقال أنماط الحياة والسلوك والإنتاج الغربية دون تمييز إلى المجتمع العربي. وليست جميع هذه الأنماط دلائل حقيقية على الحضارة، أو ليست جميعها من جوهر الحضارة وأسسها. فالنهضة كنظرية في الولوج إلى الحضارة تحدد أولويات وتصيغ استراتيجية للعمل الجماعي. وبمعنى آخر أن النهضة كنظرية ليست إلا محاولة لعقلنة هذه الحداثة العامة والداخلة حتما إلى الحياة العربية. ومن الطبيعي أن تعني هذه العقلنة إخضاع الحداثة، إضافة إلى المعايير العقلية، إلى معايير اجتماعية وأخلاقية". فالنهضة تؤكد على أولوية التغيير والتحويل، أي التغلب على الانحطاط، وتمثل الإبداعات الجديدة. ويفترض التغيير الثورة على الوعي القائم وعلى منظومة القيم التقليدية السائدة. وسواء تعلق الأمر بالمصلحين الإسلاميين من أمثال محمد عبده أو رشيد رضا، أو بالمحدثين، فإن تغيير هذا الوعي من وعي تقليدي وخرافي إلى وعي عقلي وعلمي هو طريق التطور، وهو بمثابة إعداد التربية الصالحة لكل تغيير إيجابي مقبل. "كانت النهضة تعني استيعاب الحضارة ضمن التراث، أي نهضة للذات التراثية نفسها، أما الحداثة فهي تفترض أن هذه الذات تخفي خطر الخصوصية المبعدة عن الحضارة والمبررة للتقاليد. فالحداثة ليست مشروعا تاريخيا اجتماعيا كالنهضة وإنما هي سياسة وممارسة يومية، هي تغيير في كل الاتجاهات لبنى الواقع والفكر العربيين. إنها اندراج دون أوهام في العالمية والحضارة المادية، وأولوياتها هي إنهاء هذه الخصوصية وهذا التراث. تأخذ الحداثة طابع الإبداع والتجديد وعلى خلاف هذا يكون التقليد حالة من التكرار وهي إنتاج وإعادة إنتاج ما هو قائم. فالحداثة تعني ظهور الفردية والوعي الفردي المستقل والاهتمامات الخاصة وذلك بالقياس إلى المجتمع التقليدي الذي يتميز بالطابع السحري والديني. فالمجتمع التقليدي يبالغ عادة في احترام وتقديس الطرق والأنماط التقليدية التي توارثها الآباء والأجداد والتي اعتادوا عليها لفترات طويلة، حيث تكون أفضل طريقة يسلكها الفرد أو الجماعة هي الطريقة التي رسمها واتبعها الآباء والأولون، وما هو شرعي ليس سوى كل ما انبثق عن التراث وحفظ عن الماضي. وعندما تواجه الأنماط التقليدية طوفان الحداثة المتدفق فإن هذا لا يخلو من مظاهر التوتر والاضطراب، ويرجع هذا إلى استمرارية الأنماط التقليدية، حيث تكون متأصلة عميقا في نفوس الأفراد خلال عملية التنشئة، ومن ثم لا يمكن تغييرها في يسر دون أن يتم تحويل وتغيير أنماط التنشئة السائدة في المجتمع. وهكذا فمع تدفق العناصر الحديثة يتوقع استمرار بعض الأنماط التقليدية. وعلى خلاف اللحظة التراثية تتميز اللحظة الحداثية بتفردها، وتأخذ هذه اللحظة خطا تصاعديا ينطلق من الماضي إلى الحاضر ومن ثم إلى المستقبل، خط الأصل والغاية، وهذه اللحظة قابلة للقياس، ولكنها غير قابلة للتراجع، إنها لحظة في البحث الدائم عن الجدة، وفي قلب الزمن اللا محدود والذي لا يعرف معنى للخلود فإن الأشياء في الحداثة تريد أن تأخذ طابع المعاصرة، وهذا ما تتفرد به الحداثة، حيث تأخذ الحالية والفورية واليومية اللحظة الخالصة في الزمن الحداثي. فالحداثة هي صيغة انفصال وإبداع فردي وتجديد يسم الظاهرة الاجتماعية وهي محاولة دائمة لهدم القديم وتدميره (الصيغ الأدبية، وأنظمة التوازن، السلطة والشرعية والأشكال الأدبية القائمة). يرى زكي نجيب محمود أن هذا التراث فقد مكانته في عصرنا لأنه يدور أساسا على محور العلاقة بين الله والإنسان، في حين أن محور العلاقة في عصرنا هذا تدور بين الإنسان والإنسان. ومن جهة أخرى يرى زكي نجيب محمود مفكر الجيل أن تراثنا لا يشكل مصدر الثقافة العلمية المطلوبة حيث يتوجب علينا أن نبحث عن قيم هذه الثقافة ومعاييرها في ثقافة الغرب المعاصرة وفي حضارته ويجب أن ننهل منها ما استطعنا إليها سبيلا. أما طه حسين فيرى أن الأعراف والتقاليد وطرائق التفكير هي التي تمنع العرب من بناء حداثتهم وتكوين حضارتهم ولا بد من إزالة هذه العوائق وتغييرها حتى يتاح للوعي الحديث العلمي أن يأخذ مكانه ودوره في حياتنا ووجودنا. الملامح التاريخية لمفهوم الحداثة: من حيث المبدأ يختلف العلماء في تحديد المرحلة التاريخية التي بدأت فيها الحداثة. ويرى المؤرخون أن العصر الحديث بدأ مع اكتشاف أمريكا من قبل كريستوف كولمبس Cristoph Colombs عام 1492. وينظر المفكرون أن تخوم العصر الحديث تبدأ مع الأحداث التاريخية الكبرى، التي تمثلت بادئ بدء في اكتشاف جاليلو لمركزية الشمس، وسقوط القسنطينية في أيدي الأتراك العثمانيين عام 1453. وإذا كان التحديث أو العصر الحديث يبدأ مع هذه المؤشرات التاريخية فإن مفهوم الحداثة يتجلى في حركة الإصلاح الديني في أوروبا التي قادها مارتن لوثر في عام 1517. ومن ثم بدا هذا المفهوم يأخذ أبعاده الفلسفية والسياسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث تتجلى خصائصه في ولادة التفكير الفردي والعقلاني الذي أرسى مقوماته ديكارت ومن ثم فلاسفة التنوير بعامة. وغالبا ما يرتبط عصر الحداثة باختراع الحداد الألماني جوتنبرغ لآلة الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر، هذا الاختراع الذي استطاع أن يبدل ذاكرة الإنسانية، كان سبيل الإنسانية إلى بناء ذاكرة جديدة تعتمد الكتابة سجلا تاريخيا، استندت إليه الأمم، في حركة نهضتها، وبناء تقدمها العلمي والمعرفي. لقد شكل اختراع الطباعة المرحلة التي انتقلت فيها الإنسانية من حضارة المشافهة إلى حضارة الكتابة، وعلى أساس ذلك استطاع الإنسان توظيف التراكم المعرفي في خدمة الثورات العلمية المتعاقبة التي توج في أصل الحداثة. ومن المنطقي في هذا السياق أن يشار إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت Rene Descartes (1596-1650) بوصفه أب الحداثة ولا سيما في مجال التفكير الفلسفي. لقد كان لعبقريته التاريخية الفذة أن تؤدي إلى اكتشاف المنهج العقلي الذي قدر له أن يبدد ظلام العصور الوسطى، وأن يحرر العقل من عبودية الأنساق الفكرية وهمجية الأفكار والمعتقدات القدسية التي حاصرت العقل ودفعت به إلى زنزانات العبودية والقهر. فكان لمنهج الشك والشك المنهجي أن يشكل معول الهدم الجبار الذي تناثرت تحت صدماته الأوهام التاريخية التي صنعتها الكنيسة ورجال الإكليروس ورجال الإقطاع على مدى أجيال وأجيال، امتدت لتشمل القرون العشرة التي بدأت منذ القرن الخامس الميلادي. فديكارت أكد روح البحث العلمي الحر والقناعة الفكرية الواعية محل المعتقدات العمياء. والشك المنهجي يعتمد لديه على قواعد هامة تقول أولاها: ألا نقبل شيئا ونعتقد بصحته ما لم يتبين لنا بالبداهة كذلك، وألا نضم إلى أحكامنا حكما ما لم يره فكرنا ببينة واضحة متميزة، وما لم يكن في مأمن من كل شبهة وشك. ومثل هذا المبدأ كما يقول عبد الله عبد الدايم: "لا يصلح به العلم ويقلب الفلسفة فحسب بل يهدم مذهب السنة القديمة والطرق الآلية(...) ويوقظ أفكارا ويحرض الحكم والتفكير". وهذا المنهج الذي ينطلق من الشك ويدعو إليه هو الأصل في تبديد ظلام الأفكار والمعتقدات والأوهام الخاطئة التي رفعت إلى مرتبة القدسية في العصور الوسطى المسيحية. وفي هذه المنهجية وفي ذاك التأثير تمثلت واحدة من أهم لحظات الحداثة ومقوماتها في الحضارة الغربية. عندما دعا فلاسفة التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر إلى تغليب حكم العقل والاهتداء به في الحكم على الأشياء، كانوا يدركون بأن الإنسانية عبر تاريخها اهتدت بالعقل إلى اكتشافاتها وحضاراتها المتعاقبة. ولكن بيت القصيد أنهم كانوا يقصدون بدعوتهم هذه اعتماد المنهج العلمي التجريبي في النظر إلى الكون والوجود والحياة ومن ثم التحرر من أسر الأوهام والخرافات والتحيزات المسبقة التي تضرب أسس التفكير وتشل قدرة العقل في الكشف عن ماهية الأشياء. دعوتهم هذه كانت حربا ضد كل أشكال السحر والتخريف والشعوذة والتعصب التي فرضتها الأنظمة الكنسية الإقطاعية التي وضعت تاريخ أوروبا الوسيط في دائرة الظلام. وفي عصر الأنوار تضاعف ومض الحداثة وبريقها، ولا سيما في نظريات كانط وأعماله الفكرية الفذة. ففي كتابه المعروف ما الأنوار، يحاول كانط أن يحدد طبيعة وماهية عصر التنوير في القرن الثامن عشر. وهو في هذا السياق يبين أن عصر التنوير هو منظومة الوضعيات التي يحاول فيها الإنسان أن يحطم الأغلال التي وضعها هو نفسه في معصمه، إنها الحالة التي يسعى فيها الإنسان إلى تحطيم دائرة الوصاية التي تسبب فيها نفسه بنفسه، إنها في نهاية الأمر العملية التي حقق فيها لعقله التحرر من الوصاية التاريخية التي فرضت عليه من الخارج. هذا ويؤكد كانط في كل أعماله أن شرط التنوير والحداثة هو الحرية، ومن بين الحريات يؤكد على هذه التي تتصل بحرية العقل وحرية التفكير. إن الجوهري في مقولات كانط أن العقل يجب أن يتحرر من سلطة المقدس ورجال الكهنوت والكنيسة وأصنام العقل كي يستطيع الإنسان أن يبني نهضته نحو الحضارة والحرية والمدنية والحداثة. يعرف الفيلسوف الألماني كانط الحداثة في سياق إجابته عن سؤال "ما الأنوار؟" في مقولته المشهورة: "الأنوار خروج الإنسان من حالة الوصاية التي تتمثل في عجزه عن استخدام فكره دون توجيه من غيره". ولذا كان شعار الأنوار عبارة تقول: "أقدم على استخدام فكرك". وفي عصر الأنوار وما يليه بدأت الدولة المركزية بتقنياتها الإدارية تأخذ مكان النظام الإقطاعي والتأكيد على العلوم والفيزياء الطبيعية التي توجد في أصل العطاءات التكنولوجية، وحيث بدأت الفنون تأخذ ظلالها الإبداعية في أوروبا. وفي هذا الصدد يقول بومدين بوزيد: "البداية الحقيقية لكل حداثة هي تفكيك أسس مناهج تفكيرنا والكشف عن العوائق الإبيستمولوجية التي تحجب عنا عيوبنا المنهجية والنظرية". وحسب الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل(1770-1831) فإن الحداثة بدأت مع "عصر الأنوار بفعل هؤلاء الذين أظهروا وعيا وبصيرة باعتبار أن هذا العصر هو حد فاصل ومرحلة نهائية من التاريخ". لقد أكدت الثورة الفرنسية في عام 1789 حضور الدولة البرجوازية والقيم الليبرالية والديمقراطية التي سجلت نفسها في منطق الحداثة. لقد أدخل التقدم المستمر للعلوم والتقنيات وتقسيم العمل إلى الحياة الاجتماعي بعد التغيير المستمر وانهيار المعايير والثقافة التقليدية. وبالتالي فإن التقسيم الاجتماعية للعمل أدى إلى اتصالات سياسية واسعة، وإلى إحداث نوع من الصراعات الاجتماعية التي شهدها القرنان التاسع عشر والعشرون. وظهرت على التوالي أهمية النمو السكاني ومركزيات المدن والتطور الهائل لوسائل الاتصال والمعلوماتية، هذه العوامل مجتمعة سجلت انطباعاتها في مفهوم الحداثة وأبدتها على أنها ممارسة اجتماعية ونمط من الحياة يقوم على أساسي التغير والابتكار وعلى أساس القلق واللا استقرارية والحركة الدائمة والأزمة. لقد استطاعت الإنجازات الحضارية التي تجسدت بتطور العلوم والتقنيات والتطور العقلاني والمنظم لأدوات الإنتاج أن ترسم حدود الحداثة وتخومها حيث تبدت هذه الحداثة في تكثيف العمل الإنساني، وتأكيد الهيمنة الإنسانية على الطبيعة، وتلك هي خاصة أغلب المجتمعات الحداثية التي أدت إلى تغيير عميق وشامل في شروط الحياة والتفكير في آن واحد، وقد تمثل هذا التأثير في انتقال الحضارة من حضارة العمل والتقدم إلى حضارة الاستهلاك والفراغ. يتبع: مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة - oskar - 08-29-2005 أسس الحداثة وخصائصها: تستند الحداثة كما يراها محمد محفوظ إلى الخصائص التالية: ـ مرحلة تبلغها المجتمعات الإنسانية من خلال عملية التراكم التاريخي، والخروج من دائرة الوصاية التاريخية التي فرضت على العقل الإنساني في عصور الظلام. ـ الحرية الإنسانية وتأكيد دور الإنسان الحر في مختلف ميادين المجتمع وقضاياه انطلاقا من حقوق الإنسان وتعزيزا للقيم الديمقراطية. ـ العقلانية حيث يتجلى العقل بسيادته وهيمنته في مختلف جوانب الوجود الاجتماعي والسياسي تجليا لمبادئ التنوير وقيمه. ويسجل محفوظ في هذا السياق مجموعة من النقاط الهامة حول الحداثة منها: ـ أن الحداثة لا يتم استيرادها من الخارج بل هي حالة تنبثق من صميم المجتمع، وهذا يعني حالة تطور وتراكم تاريخي تتم في داخل المعطيات التاريخية للحياة الاجتماعية تمهد لعملية الحداثة وحضورها. ـ إن الحداثة كمرحلة تاريخية بحاجة إلى توفير الشروط الثقافية الضرورية لبلوغها، فالحداثة لا تتم وفقا لمبدأ المصادفة وإنما هي عملية فعل إنساني يقتضي منظومة من الشروط الذاتية والموضوعية. ـ تأكيد أهمية الوعي الإنساني في فكرة الحداثة وضرورة الحضور الثقافي لهذا الوعي في مختلف مجالات الحياة حضورا يؤكد تنامي العقلانية والتنوير والقدرة على امتلاك اللحظة الذاتية في الوعي الاجتماعي. وتسجل الحداثة نفسها في مظاهر متعددة ومن أهم الأسس والمنطلقات التي ترتكز إليها في المستوى الفلسفي يمكن الإشارة إلى المرتكزات التالية: ـ يعد العقل ودوره في الحياة مبتدأ الحداثة وخبرها ولذلك فإن هيمنة العقل وسيادته تشكل المنطلق الحقيقي للحداثة وأساسها المركزي. ـ يأخذ العلم والإيمان بدوره في الحياة الإنسانية دورا مركزيا في مفهوم الحداثة وهو دور يتكامل مع أهمية العقل ودوره التنويري. فالمعرفة العلمية هي المحور الأساسي في فهمنا للكون وحقائقه وعلله وتجلياته بصرف النظر عن المعارف التراثية والتقليدية التي سادت في العصور الماضية من تاريخ الإنسانية. ـ تأخذ الحرية مكانها المميز في صميم مفهوم الحداثة. فالحداثة هي حالة من المغامرة في عالم الضرورة والحتمية وهي من هذه الزاوية تتجلى في صورة إرادة إنسانية حرة تتحدى وتتقصى وتغامر لتصنع مصير الإنسان على مقياس إرادته وعلى أطياف أحلامه الإنسانية. وتتمثل هذه الحرية في إرادة إنسانية تسعى لهدم عالم الوصاية وتدميره بمختلف تجلياته وحدوده ومرتسماته. ويأخذ مفهوم الزمن وعلاقة الإنسان بالزمن أهمية مركزية بين أطياف مفهوم الحداثة. فالإنسان في الحداثة يصنع زمنه ويرسم ملامح مصيره بإرادته. فالزمن في الحداثة لا يأخذ صورة دورات متكررة صائرة إلى بداياتها. إنه لحظات متقطعة متنافرة متقدمة، إنه صولة الإنسان وتجسيد لإرادته الخلاقة. والإنسان في هذا التصور يصنع تاريخه ويهندس لحظات وجوده تحددا وابتكارا وإبداعا. وفي أصل هذا التصور للزمن بوصفه حركة إنسانية واعية تجلت فكرة التقدم الإنساني وفكرة المصير الذي تقرره إرادة البشر. إنها الحرية التي تتمثل في الخروج عن وصاية الزمن، إنها الإرادة التي تنتزع نفسها من قبضة الحتمية المتمثلة في دائرة الزمن. ويشكل الحق دائرة مركزية في أصل الحداثة. فالحق ينبثق من إرادة البشر وليس من عالم الطبيعة والقوى الخارقة لها. وهذا يعني أن الإنسان يشكل بإرادته وحريته وحجم حضوره في هذا الكون مصدر الحقيقة الأولى وصانعها. والفعل الإنساني في نهاية الأمر صورة إرادة إنسانية تجعل من الإنسان بصورته الاجتماعية مبتدأ الحقيقة وغايتها. ـ الإنسان جوهر الحداثة: "إن عملية التحديث السليمة لا تبدأ بالمظاهر والمؤشرات الكمية، وإنما تبدأ بالمضمون والجوهر وهو الإنسان، فبدون تغير الإنسان في ثقافته وقيمه ونظرته إلى الذات والآخر تبقى عملية التحديث ظاهرية، مزيفة، لا تعكس الواقع بأمانة، وهذا ما تشير إليه الآية القرآنية في قوله تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" فمربط الفرس في عملية التحديث هو الإنسان والنظام القيمي الذي يتحكم فيه على المستوى الشخصية والاجتماعي". وفي هذا السياق يرى قسطنطين زريق أن الحداثة تنطلق من المواقف التالية: ـ الإيمان بأن العالم الطبيعي هو العالم الحقيقي. فهو ليس عالما زائلا وليس مجرد جسر نعبره إلى العالم الآخر، إنه عالم يمتلك الجدارة والأصالة وهو قمين بأسباب اهتمامنا وعنايتنا. ـ الإيمان بأن الإنسان هو أهم كائن في العالم الطبيعي وأنه معيار الأشياء جميعا وغاية الوجود. ولكونه غاية يتوجب على المجتمع أن يحيطه بكل أسباب الرعاية والحماية وأن يوفر له شروط الإبداع والحياة الحرة الكريمة. وهذا يتأسس من منطلق أن الإنسان هو العامل الفاعل في التاريخ في ميادين التحضر والتطور، إنه سيد قدره وحاكم لصيرورة وجوده إبداعا وعطاءا. ـ الإيمان بأن العقل هو مصدر تفوق الإنسان وتفرده في مملكة الكائنات الحية، ومن ثم الإيمان بأن الإنسان يستطيع عبر هذا العقل أن يطور العلوم والمعارف باتجاه السيطرة على الوجود والمصير. أما لوي ديمون فيرى الحداثة ترتكز إلى المحاور التالية: ـ الفردانية (مقابل حلول الفرد في الجماعة Holisme). ـ أولوية العلاقة مع الأشياء مقابل أولوية العلاقة بين البشر. ـ التمييز المطلق بين الذات والموضوع. ـ فصل القيم عن الوقائع والأفكار. ـ تقسيم المعرفة إلى مستويات (فروع معرفية) مستقلة متناظرة ومتجانسة. ويحدد هايدغر خمسة مظاهر للأزمنة الحديثة وهي: العلم، والتكنولوجيا، والفن، والثقافة، ومن ثم الانسلاخ عن المقدس. يحدد عياض بن عاشور عددا من الأسس المركزية للحداثة ويحددها بأهمية العقل ودوره في الحياة الإنسانية، ومن ثم بأهمية الفردية الإنسانية، والإرادة البشرية، وبالتالي التأكيد على دور الطبيعة وأهميتها، وأخيرا الزمن بوصفه رصيدا يتجدد ويزيد بالتدريج. وتعتمد الحداثة على ركيزتين أساسيتين كما يرى تورين A.Touraine هما العقلانية والانفجار المعرفي. العقلانية : Rationalisme تعد العقلانية مبتدأ الحداثة وخبرها ولا توجد حداثة من غير أساس عقلاني كما يؤكد آلان تورين A.Tourain. والحداثة كما يرى تورين هي عملية انتشار المنتجات العقلية والعلمية والتكنولوجية وهي بالتالي حالة رفض للتصورات القديمة التي تقوم على أساس ديني طوباوي وتمثل في الوقت ذاته حالة قطيعة مع الغائية الدينية التقليدية، إنها انتصار للعقل في مختلف مجالات الحياة والوجود، في مجال العلم والحياة الاجتماعية، وغاية الحداثة هي بناء مجتمع عقلاني. وهذا يعني أن الحداثة هي حالة ولادة جديدة لعالم يحكمه العقل وتسوده العقلانية. وبعبارة أخرى الحداثة وضعية اجتماعية وحضارية تجعل من العقل والعقلانية المبدأ الأساسي الذي يعتمد في مجال الحياة الشخصية والاجتماعية. وهذا يقتضي وجود حالة رفض لجميع العقائد والتصورات وأشكال التنظيم الاجتماعي التي لا تستند إلى أسس عقلية أو علمية. وهذا هو التصور الذي اعتمدته فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر والتي نادت بوجود الإنسان على أساس التوافق مع العقل والعقلانية، وذلك سعيا إلى تحرير الإنسان من العبودية والظلم ومن المخاوف الأسطورية والجهل والعبودية والتسلط وقد اتجهت هذه الحركة إلى إزالة العقبات التي تقف في وجه المعرفة العلمية. وتأخذ الحداثة ملامحها الأساسية في الفلسفة الوضعية La positivisme التي أحدثت نوعا من القطيعة مع التصورات الأبوية والكنسية التقليدية مؤكدة أهمية المعرفة العلمية والعقلانية في شتى مناحي الحياة الاجتماعية واتجاهاتها. وفي هذا السياق تتبدى الحداثة أيضا في عطاءات المنهج العلمي التجريبي الذي أخذ هيئة العقلانية الأداتية التي اتسمت بالموضوعية والتماسك والتي بدأت تسجل حضورها العارم في مختلف مجالات المعرفة العلمية بفروعها المختلفة. الانفجار المعرفي : L’éclatement de connaissance يقول تورين في كتابه نقد الحداثة: تستبدل "الحداثة فكرة الله بفكرة العلم، وتقصر الاعتقادات الدينية على الحياة الخاصة بكل فرد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يكفي أن تكون هناك تطبيقات علمية وتكنولوجية للعلم كي نتكلم عن مجتمع حديث حيث ينبغي أيضا حماية النشاط العقلي من الدعايات السياسية ومن الاعتقادات الدينية. شهدت الحداثة وما زالت تشهد أيضا نموا متسارعا في جميع ميادين المعرفة العلمية والتكنولوجية على مختلف المستويات الاجتماعية والإنسانية. وقد تنامت هذه المعرفة بصورة ليس لها مثيل في تاريخ الإنسانية على مدى العصور والأزمنة. لقد تميزت مرحلة الحداثة بظهور عدد كبير من التيارات والنظريات والفلسفات والاختراعات العلمية والتكنولوجية في مجال الفن والنحت والتصوير والموسيقا والأدب والهندسة والكيمياء وفي مجال الذرة والبيولوجيا والشيفرات وفي مجالات أخرى تنأى عن التعداد والحصر. وهذه الاكتشافات المتزايدة والمتنامية شكلت وما زالت تشكل ثورة معرفية حقيقية وجبارة في مجال العلم والمعرفة الإنسانية. وهذه الثورة أو التحولات العلمية تشكل الأساس المحوري والعلامة الفارقة في وضعية الحداثة وذلك إلى جانب العقلانية التي تشغل فضاء الوجود الإنساني في عصر الحداثة. نقد الحداثة: علماء الاجتماع استطاعوا عبر رؤاهم النقدية أن يكتشفوا مسالب الحداثة ومخاطرها ولكنهم مع ذلك كانوا يرجحون الجوانب الإيجابية لهذه الحداثة على مضامينها السلبية. لم تستطع الحداثة بنزعتها العقلانية ومغامراتها العلمية أن تحقق الغايات التي كانت في أصل وجودها. إن مأساة الحداثة كما يقول تورين "أنها تطورت ضد ذاتها". وهذا يعني أنها وجدت من أجل تحرير الإنسان ولكنها وفي سياق تطورها وضعته في أقفاص عبودية جديدة هي عبودية العقل والعقلانية، لقد أصبحت الذات الإنسانية في سياق هذا التطور موضعا للعلم والعقلانية، وتم استلاب هذه الذات من مقومات وجودها الإنسانية. لقد أعلن جان جاك روسو J.J.Rousseau (1712-1778) زعيم النزعة الطبيعية، في القرن الثامن عشر، عن مسالب الحداثة ومخاطر العقلانية الصارمة التي اجتاحت العمق الإنساني واستلبت المشاعر السامية للإنسان. وقد أكد هذه الملاحظات في مختلف أعماله بدءا من العقد الاجتماعي Le contrat social وانتهاء بكتابه إميل Emile. يهاجم روسو بشدة التقدم العلمي الذي أدى إلى تشويه الجانب الإنساني في الإنسان، ونادى بإصلاح التربية والقيم والمؤسسات السياسية والدين من أجل الإنسان في أعمق مضامينه الإنسانية. وإذا كان الإنسان اليوم يحتل مكانا مركزيا في دائرة تصوراتنا فإن هذا يعود بالدرجة الأولى إلى روسو. وعلى أساس ذلك يقول كانط إن "روسو هو نيوتن العالم الأخلاقي". ففي رسالتيه المشهورتين: مقالة في العلوم والفنون Le discours sur les sciences et les arts، ومن ثم مقالته في أصل اللامساواة بين البشر Discours sur l'origine de l'inégalité يؤكد روسو على أن الحضارة المادية العقلانية تؤدي إلى تراجع الأخلاق وتراجع القيم الإنسانية وتدفع الإنسان إلى دوائر الاستلاب والاغتراب. وفي هذا السياق يرى روسو أن المجتمع ليس عقلانيا وأن الحداثة تفسد أكثر مما تقدمه من فوائد. وبالتالي ومن أجل تحقيق الوحدة بين الإنسان والمجتمع فإن الحداثة تؤدي إلى تأكيد السيادة السياسية التي توظف في خدمة العقل وهي سيادة تنمو وتزدهر على حساب الذات الإنسانية المتفردة. وبعبارة أخرى من أجل انتصار العقل والعقلانية يجب التخلي عن الذات الإنسانية بما تنطوي عليه هذه الذات من كرامة وخصوصية. وهنا يجب على الإنسان أن يخضع لعقله وتأملاته العقلية وذلك على حساب عواطفه ومشاعره وقيمه الخاصة. وعلى هذا الأساس يستطيع المرء أن يتدرج وأن يأخذ مكانه وحضوره في سياق وجوده الاجتماعي وذلك بوصفه عاملا أو جنديا أو مواطنا بدرجة أكبر من كونه سيدا لنفسه ولمصيره. وعلى هذا الأساس يتحول العقل إلى طاغية والعقلانية إلى قهر واستبداد تنتهك وجود الإنسان وتستلبه. لقد شكلت الحداثة شكلت على مدى القرون الماضية دريئة للنقد من قبل مفكرين أفذاذ مثل ماركس ونيتشه وفرويد واستطاعوا أن يفندوا جميع الأسس التي قامت عليها الحداثة. وفي ظل هذه الانتقادات المتنامية طرحت العلاقة الإشكالية بين الجانب الذاتي في الإنسان (الذاتية الإنسانية التي تمثل الجانب الانفعالي والعاطفي من كرامة وحب وكراهية وأحاسيس ومشاعر وقيم وانتماءات) والعقلانية نفسها بوصفها إحدى أهم التحديات التي واجهتها مرحلة الحداثة. فالحداثة تؤكد العقلانية وهي لا تعير الجانب الذاتي الإنساني اهتماما كبيرا، وإذا كان تجاهل الجانب الذاتي في الإنسان يضع الحداثة في وضعية أزمة فإن تغييب الجانب العقلي لحساب الجانب الذاتي يضاعف من حدة هذه الأزمة. فالإنسان الذي يتجرد من عطاءات العقلانية يضع نفسه في زنزانات الهوية والنزعات الاعتباطية ويذوب في معاصر التعصب والتحيز والانكماش. وتلك هي المعادلة الصعبة والحل المناسب هنا ليس في أن يختار الإنسان بين العقل أو الذات بل وعلى خلاف ذلك يتوجب على الإنسان أن يحقق التوافق بين الطرفين والتوازن بين الاتجاهين: بين العقل وبين الذات الإنسانية. وإنه لمن مظاهر الخطر الكبير تنامي هذا الانفصال بين الجانبين: بين العالم العقلي وبين العالم الذاتي في مستوى الإنسان الفرد كما في مستوى المجتمع، بين الحياة الخاصة وبين الحياة العامة للفرد. وغالبا ما تجد هذه المعادلة الصعبة مخرجها عبر عملية ديمقراطية تتميز بالقدرة الحقيقية على تحقيق علاقة التوازن بين الفرد والمجتمع بين المصلحة الخاصة للفرد وبين المصلحة العامة كما يؤكد في هذا السياق المفكر الأمريكي جون ديوي. لقد فقدت الحداثة قدرتها على تحرير الإنسان بعد أن أدت دورها التاريخي، وفي هذا السياق يقول تورين: "بقدر ما تنتصر الحداثة بقدر ما تفقد قدرتها على التحرير، إن دعوة التنوير مؤثرة عندما يكون العالم غارقا في الظلام والجهل والعبودية". ومن أجل تفسير هذا التناقض الكبير يشرح لنا تورين هذه الإشكالية، إشكالية التحرير والعبودية فيما بين عصر التقاليد وعصر الحداثة فيقول: "كنا نعيش في الصمت صرنا نعيش في الضجيج، كنا معزولين فصرنا ضائعين وسط الزحام، كنا نتسلم قليلا من الرسائل والآن تنهمر علينا كوابل من نار، لقد انتزعتنا الحداثة من الحدود الضيقة للثقافة التقليدية المحلية التي كنا نحياها وألقت بنا في جحيم الحرية الفردية، لقد ناضلنا ضد نظم الحكم القديمة الفاسدة وميراثها، أما في القرن العشرين فضد الأنظمة الجديدة والمجتمع الجديد والإنسان الجديد". يعد الفيلسوف الفرنسي المعروف جان فرانسوا ليوتار Lyotard من كبار المفكرين الذين وضعوا الحداثة في قفص الاتهام وهو من أعلن نهايتها معلنا عن ميلاد عصر ما بعد الحداثة في كتابه المعروف الوضع ما بعد الحداثي La condition Postmoderne عام 1979. وهو في هذا السياق يعلن عن سقوط النظريات والإيديولوجيات الكبرى وعجز هذه النظريات عن قراءة الواقع أو تفسيره لأن هذه الأنساق الفكرية تعاني من الجمود والانغلاق وهي ليست قادرة أبدا كما يذهب أصحابها وروادها على تفسير العالم أو المجتمع ومن هذه النظريات الماركسية والوضعية والوجودية والبرغماتية وغيرها من النظريات الشمولية المعروفة. ومن القضايا التي يناقشها جان فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard في هذا الجانب إشكالية الحتمية التي يعلن سقوطها تأسيسا على تطور العلوم الطبيعية والتاريخ. فالحتمية تعلن إفلاسها أمام المستجدات العلمية الجديدة في القرن العشرين. لقد بينت الأحداث المتتابعة، على مدى القرن العشرين، أن التاريخ لا يأخذ خطا حتميا تحركه تتابعات المراحل، وحتميات التتابع التاريخي الذي أنبأت عنه الماركسية وغيرها. فالتاريخ الإنساني قد يأخذ خط التقدم، ولكنه قد يتراجع وقد ينهض من جديد أو يراوح في مكانه، فلا مكان لأقدار الحتمية وأفكار الغايات التي يسعى إليها التطور في منظور الأنساق الفكرية الكبرى. يتبع: مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة - oskar - 09-02-2005 مفهوم ما بعد الحداثة: غالبا ما يحاصر المفكرون المفاهيم الجديدة بإيقاعات تصوراتهم الفكرية ومن هذا المنطلق نجد أن مفهوم الحداثة قد تشبع بتصورات وحدود عدد كبير من المفكرين العمالقة الذين وظفوا هذا المفهوم في منظوماتهم الفكرية. ومن هذه الزاوية نجد حالة من التنوع والاضطراب في تحديد مفهوم ما بعد الحداثة بصورة واضحة وجلية. لقد شكلت الانتقادات المنهجية التي وجهت إلى مفهوم الحداثة الأرضية العلمية التي تنامى في تربتها مفهوم ما بعد الحداثة ليأخذ صورته النقدية التي تغذيها روح فكرية نقدية نشطة ومتطورة. وقد لا نبالغ إذا قلنا بأن هذه الانتقادات التي تنامت في حقل الحداثة شكلت أيضا ينبوعا للتنظير العلمي المتقدم والإبداعي في ميدان ما بعد الحداثة. وتأسيسا على ذلك يمكن القول بأن مفهوم ما بعد الحداثة لا يأخذ أهميته بوصفه امتدادا زمنيا لحالات حضارية متعاقبة بل هو نسق من التصورات النقدية التي أبدعتها روح العصر المتجدد في مختلف ميادين الحياة الفكرية. وفي غمرة الانتقادات التي وجهت إلى الحداثة وفي ملامح الأزمة التي تعيشها الحداثة دفعت بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن الإنسانية خرجت، تحت تأثير هذه الاختناقات الحضارية، من مرحلة الحداثة وبدأت مرحلة جديدة أطلق عليها ما بعد الحداثة. ويقدر فريق من هؤلاء الباحثين أن هذه المرحلة قد بدأت تاريخيا منذ عام 1968 وهي المرحلة التي عرفت بثورة الطلاب في مختلف عواصم العالم، وعلى خلاف ذلك يرى الفريق الآخر من هؤلاء الباحثين أن مرحلة الحداثة قد بدأت مع سقوط جدار برلين تعبيرا عن سقوط المنظومة الاشتراكية. وفي هذا الخصوص يشير إيهاب حسن، أحد المنظرين في هذا المجال، إلى صعوبة تحديد مفهوم ما بعد الحداثة، ولكنه مع ذلك يقدم مجموعة من التصورات العلمية التي يمكنها أن تشكل العناصر الأساسية في بنية هذا المفهوم ومنها: إن لفظ ما بعد الحداثة يوحي بفكرة الحداثة وهو بالتالي يتضمن بعد التوالي الزمني للعلاقة بين المفهومين. لا يوجد إجماع بين النقاد على تعريف واضح لمفهوم ما بعد الحداثة. مفهوم ما بعد الحداثة عرضة كغيره للتغير والصيرورة التي نلاحظها في المفاهيم الوليدة حديثا. ومن هذا المنطلق يمكن الإشارة إلى موقف يورجين هابرماس Jurgen Habermas من هذا المفهوم في مقالة له بعنوان "الحداثة مشروع لم يكتمل" في عام 1981، حيث يرى بأن لفظة ما بعد الحداثة Post-modernité تمثل رغبة بعض المفكرين في الابتعاد عن ماض متشبع بتناقضات كبيرة وتعبر في الوقت نفسه عن سعي حثيث إلى وصف العصر الجديد بمفهوم لم تتحدد ملامحه بعد وذلك لأن الإنسانية لم تستطع أن تجد الحلول المناسبة للإشكاليات التي يطرحها العصر. ووفقا لهذه الصيغة يرى هابرماس بأن ما بعد الحداثة هي صيغة جديدة لمفهوم قديم (الحداثة) وأن ما بعد الحداثة محاولة لإثراء مرحلة الحداثة ذاتها وإتمام مشروعها حتى النهاية. إن السمات الأساسية التي تنطلق منها حركة ما بعد الحداثة تتمثل في عدة اتجاهات أهمها: ـ هدم الأنساق الفكرية الجامدة والإيديولوجيات الكبرى المغلقة وتقويض أسسها؛ ـ العمل على إزالة التناقض الحداثي بين الذات والموضوع بين الجانب العقلاني والجانب الروحي في الإنسان، وذلك من منطلق الافتراض بعدم وجود مثل هذه الثنائية الميتافيزيائية؛ ـ رفض الحتمية الطبيعية والتاريخية التي كانت سائدة في مرحلة الحداثة ولا سيما مفهوم التطور التعاقبي أو الخطي أو الزمني الذي يسجل حضوره في الأنساق الاجتماعية والحياة الاجتماعية؛ ويصف إيهاب حسن مرحلة ما بعد الحداثة بالسمات التالية: ـ فكر يرفض الشمولية في التفكير ولا سيما النظريات الكبرى مثل نظرية كارل ماركس، ونظرية هيغل، ووضعية كونت، ونظرية التحليل النفسي…إلخ. ويركز على الجزئيات والرؤى المجهرية للكون والوجود؛ ـ رفض اليقين المعرفي المطلق ورفض المنطق التقليدي الذي يقوم على تطابق الدال والمدلول، أي تطابق الأشياء والكلمات؛ ـ يلح على إسقاط نظام السلطة الفكرية في المجتمع والجامعة، في الأدب والفن، والإطاحة بمشروعية القيم المفروضة من فوق في الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية كافة. وفي هذا السياق، يرفض أنصار ما بعد الحداثة مفاهيم حداثية مثل: العقل والذات والعقلانية والمنطق والحقيقة، فهي مقولات مرفوضة. والحقيقة وهم لا طائل منه، ذلك لأن الحقيقية مرتهنة بعدد من المعايير الخاصة بالعقل والمنطق وهذه بدورها مرفوضة أيضا. إزاء هذه التناقضات التي نسبت إلى مرحلة الحداثة وعرفت بها، وفي مواجهة هذه الإشكاليات والتحديات، التي انبثقت عن التحولات التاريخية، في النصف الثاني من القرن العشرين، توجب على الإنسانية أن تبحث عن حالة توازن جديدة لتحقيق التوافق الاجتماعي الثقافي وتحقيق المصالحة بين العقل والروح، بين المظاهر المادية للحضارة والمظاهر الروحية، بين العقلانية والذاتية. وفي إطار البحث الإنساني عن مخارج حضارية جديدة للأزمات المتفاقمة جاءت مرحلة ما بعد الحداثة بأفكار وآراء ونظريات مرشحة لتقديم تصورات ذكية عن المخارج الحضارية الجديدة لتجاوز الاختناقات التاريخية القائمة. ومرحلة ما بعد الحداثة لا ترفض عطاءات المرحلة الحداثية بل تأخذها وتعيد إنتاجها بصورة تتساقط معها مختلف التناقضات وتتكامل فيها مختلف جوانب الوجود الفكري والإنساني في لحمة واحدة. ما بعد الحداثة محاولة لإعادة ترتيب الإشكاليات المطروحة ومن ثم العمل على تنظيم تناقضاتها وإدماجه في حركة التطور الإنساني. لقد شكلت التحولات الحضارية الجديدة مناخا فكريا لولادة أنظمة فكرية تتسم بطابع الذكاء والتعقيد والتكامل في الآن الواحد. وهذه الولادة الذكية جاءت تعبيرا عن وعي إنساني جديد يتميز بطابعه النقدي المتمرد. وفي هذا السياق يمكن أن نقف عند محورين إشكاليين أساسيين لمرحلة ما بعد الحداثة وهما إشكالية العلاقة بين العقلانية والذاتية من جهة وإشكالية التكاملية من جهة أخرى. العقلانية والذاتية: : La rationalisation et la subjectivation استطاعت النزعة العقلانية في الحداثة أن تقتحم بوابات الجوانب الذاتية في الإنسان وأن تقوض حصون الروح الإنسانية بكل ما تنطوي عليه هذه الروح من مشاعر وأحاسيس وحدوس وقيم ذاتية. وتحت تأثير تموجات الحضارة المادية تشيأ الإنسان وتحول إلى موضوع لهذه النزعة الحضارية الجارفة. لقد تحول الإنسان إلى موضوع للمعرفة العلمية وترتب عليه أن يخضع لمقتضيات النزعة العقلانية وأن يتخلى عن عناصر الخصوصية التي تتميز بها الروح الفردية لديه. وقد تجلت هذه الوضعية في الأنساق التربوية القائمة حيث عملت المدرسة على تأكيد هذا الانشطار بين الموضوع والذات، بين الإنسان باعتباراته الذاتية وبين العقل باعتباراته الموضوعية. فالمدرسة كانت تعلم التفكير العقلاني وتشدد على أهميته وتعارض مختلف مظاهر الذاتانية التي تتصل بالمشاعر والميول والعواطف والحدوس والخيال والقيم الذاتية والجمالية. وفي ظل هذه الإكراهات المتنامية التي فرضها منطق العقل والعقلانية ظهرت اتجاهات فكرية واجتماعية تنادي بإعادة الاعتبار للذات الإنسانية بكل ما تشتمل عليه هذه الذات الإنسانية من خصائص ومضامين أخلاقية. واتضح هذا الاتجاه في المراحل الأخيرة من الحداثة وبداية مرحلة ما بعد الحداثة. وفي هذا السياق بدأت الأسرة تأخذ دورها في إعادة الاعتبار إلى الجوانب الروحية والذاتية في الإنسان وبدأت تتنامى أهمية النظرة إلى الإنسان بوصفه ذاتا وبدأت هذه الرؤية تأخذ مداها في مدار الحياة الأسرية. وفي هذه الأجواء لم يعد الزواج مجرد عقد اجتماعي صارم يقوم على أساس من الحقوق والواجبات التي يمليها القانون. وعلى خلاف ذلك بدأت الجوانب الإنسانية في دائرة هذه العلاقة الزواجية تأخذ أهميتها وخصوصيتها. وبدأ الأزواج ينفصلون عندما لا يجدون في دائرة حياتهم الزواجية الأبعاد الإنسانية والعاطفية الضرورية بين الزوجين. فالزواج لم يعد مجرد عقد قانوني بل أصبح عقدا إنسانيا وعاطفيا وانفعاليا يؤكد القيم الإنسانية في أكثر جوانبها خصوصية وأهمية. وبدأ الناس يجدون أنفسهم فيما بعد الحداثة ولا سيما في دائرة الحياة العائلية التي بدأت تغدق على أفرادها ما يحتاجونه من مشاعر إنسانية وقيم عاطفية ملحة وضرورية في حياة الأفراد والمجتمعات الإنسانية. هذه التغيرات الجديدة في مجال الأسرة بدأت تطرح أهمية إعادة النظر في مفهوم الأسرة وأهمية تقديم تعريفات جديدة وتحديدات جديدة لهذا المفهوم. وتأتي أهمية هذا الموقف من وجود عناصر جديدة تتمثل في أن الحياة الأسرية بدأت في الغرب تتحرر من سطوة الكنيسة ورجال الدين ومن تأثير حطام الإيديولوجيات القديمة. وفي هذه الأجواء أيضا بدأت الحياة الفردية تتحرر من صيغتها التقليدية وبدأت الحياة الأسرة تتمحور وبصورة متزايدة حول مبدأي الاستقلال الذاتي والتوافق. إن ظهور النزعة الذاتانية لا يعني أبدا رفض العقلانية بل بقيت حيث وجب أن تبقى السلاح النقدي الأكثر قدرة وقوة ضد التسلط والشمولية. وهذا لا يعني أبدا أنه يجب علينا أن نتجاهل أن هذه العقلانية كثيرا ما كانت تضع الإنسان الفرد جانبا باسم العلم والموضوعية العلمية. إن الخصوصية التاريخية لما بعد الحداثة تكمن في تعزيز هذا التقاطع التكاملي بين ذاتانية الفرد وعقلانيته، بين الجوانب الذاتية والجوانب الموضوعية للحياة الإنسانية. ولا يمكن اليوم إجراء المقابلات القديمة بين هذين الجانبين إلا في سياق الصورة التكاملية والجلية بينهما. فالإنسان يمكن أن يكون موضوعا للمعرفة العلمية دون أن ينتقص ذلك من خصوصيته الذاتية والإنسانية. وهذه الخصوصية الذاتية للإنسان بدأت تتجلى في النسق الاجتماعي أيضا حيث نلاحظ تنامي الاهتمام بالجوانب الذاتية والشخصية للأفراد في دائرة حياتهم الاجتماعية. وهذا يعني أن الأنا يأخذ هيئة بناء يتكامل فيها مع الروح الاجتماعية ليتحول إلى فاعل اجتماعي. وفي هذا الخصوص يمكن القول بأن ما بعد الحداثة تعمل على تحقيق التكامل بين الفرد وأدواره الاجتماعية. وهذا التكامل هو الذي يضعنا في صورة الإنسان الذي يستطيع أن يواجه الأنظمة الاجتماعية القائمة، وأن يعمل على تغييرها بصورة مستمرة، وهذا يعني الإنسان الذي يستطيع أن يحدد مصيره وأن يرسم غايات وجوده بصورة عملية. فالإنسان يمتلك ذاتا وهوية شخصية فردية وهو في الوقت نفسه كائن اجتماعي وهو بجانبيه هذين يشكل لحظة واحدة لا تمايز فيها بين مكوناتها الشخصية والاجتماعية. وهذا يعني أنه يجب ألا يضحي بأحد هذين الجانبين لصالح الآخر ويجب ألا يتوارى أحدهما عندما يظهر الآخر في مجتمع ما بعد الحداثة. فمجتمع ما بعد الحداثة يتعارض مع أي صورة للوجود الإنساني يتعالى فيها أحد الجانبين على الآخر أو يؤدي إلى إزاحته. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن قوى الحضارة لا ترتهن اليوم بعملية النمو المعرفي وتنامي المعرفة العلمية والتكنولوجية فحسب، بل تجد هذه القوة نفسها في الإنسان وتتجلى في طاقاته الذاتية والإنسانية التي يمكنها أن تحرك الطاقة الحضارية للمجتمع. لقد سبق لدوركهايم Emile Durkheim أن أعطى هذه القضية جل اهتمامه واستطاع بعبقريته المعهودة أن يميز بين جانبي الشخصية وأن يؤكد الوحدة بين هذين الجانبين. يقول دوركهايم في هذا الصدد: "يوجد في كل منا كائنان لا يمكن الفصل بينهما إلا على نحو تجريدي، أحدهما نتاج لكل الحالات الذهنية الخاصة بنا وبحياتنا الشخصية وهو ما يمكن أن نطلق عليه الكائن الفردي. أما الكائن الآخر، فهو نظام من الأفكار والمشاعر والعادات التي ننتمي إليها، مثل العقائد الدينية والممارسات الأخلاقية والتقاليد القومية والمهنية والمشاعر الجمعية من أي نوع كانت، وهي تشكل في مجموعها الكائن الاجتماعي الآخر. وبالتالي فإن بناء هذا الكائن الاجتماعي في كل منا يشكل في نهاية المطاف هدف التربية وغايتها". وفي هذا السياق، يؤكد دوركهايم وهمية التصور بأنه يمكن الفصل بين هذين الجانبين حيث يقول: "إن المعارضة بين الفرد والمجتمع فكرة لا تتوافق أبدا مع معطيات الواقع، لأن هذين المفهومين يتداخلان ويترابطان. وبالتالي فإن الفعل الذي يمارسه المجتمع على الفرد لا يهدف أبدا إلى إفساد الفرد أو إلحاق الضرر به لأن بناء الفرد على نحو اجتماعي ضرورة إنسانية وحضارية. يتبع: مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة - oskar - 09-04-2005 التكامل والشمولية : L’intégration يرى بعض المفكرين أن الحداثة تضج بمظاهر التجزئة والتشظي والانشطار في مختلف مظاهر الوجود الاجتماعي والفكري. وأمام هذا الواقع تتجه القوى الحضارية لمرحلة ما بعد الحداثة إلى توحيد هذه الاتجاهات وعقلنة وجودها في سياق تكاملي. وهذا يعني البحث عن مبدأ التكامل في نسق الوجود الاجتماعي والإنساني وبالتالي تحقيق النقلة الواعية من مبدأ الفصل والاستبعاد إلى مبدأ الوحدة والتكامل والإنسانية. ومن أجل هذه الغاية يجب التدخل لتحقيق هذه الانسيابية في مستوى المعارف العلمية والتكنولوجية. لقد بلغت المعرفة العلمية حالة مزرية من الفوضى والجزئية والتناقض، وقد خضعت هذه المعرفة لمبدأ التعدد المدرسي في كل اتجاه وحدب وصوب. وإذا كانت مرحلة الحداثة تؤكد هذه الوضعية وتعرف بها فإن ما بعد الحداثة تؤكد على أهمية الوحدة والتنسيق والتكامل والتبادل بين مختلف الاتجاهات والتيارات العلمية المتنافرة. وهي وفقا لهذا الاتجاه تبحث عن سياق تتكامل فيه هذه الاتجاهات لتشكل طاقة حضارية متجددة وفاعلة ودافعة إلى تحقيق التطور. وفي نسق رؤية نقدية لوضعية التجزؤ والفوضى المعرفية التي شهدتها مرحلة الحداثة يرى موران E.Morin أنه قد حان الوقت من أجل تجاوز وضعية التشتت والتجزئة والفوضى العلمية القائمة وإيجاد لحمة حقيقية بين التيارات والاتجاهات العلمية والفكرية المتنافرة. فالتيارات المتعددة يمكن أن تشكل العناصر الأساسية لنسيج علمي متطور يؤدي إلى بناء تكوينات علمية جديدة قادرة على توفير الشروط الحضارية لعملية إبداع متواصلة وحركة تجديد في مختلف ميادين الوجود والحياة. وفي غمرة هذه التصورات الجديدة الداعية إلى الوحدة والتكامل بين عناصر الحياة الفكرية والاجتماعية يحدد ليوتار J.F.Lyotard اتجاه وغاية هذه النزعة إلى التجديد والشمولية. فالهدف من هذه النزعة حسب ليوتار لا يهدف إلى مجرد إحداث القطيعة مع الماضي وتفكيكه وإنما الهدف هو العمل على تطوير الأنظمة القائمة وتغذيتها بطاقة جديدة فاعلة في ميدان الإبداع والتجديد. وفي هذا السياق عينه ينظر ليوتار إلى التعقيد بوصفه صورة متقدمة لعملية التطور. وهذا يعني أن الأنظمة تصبح أكثر تطورا كلما أصبحت أكثر تعقيدا. ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن تجاوز الازدواجيات والثنائيات في الفكر والإيديولوجيا والنظريات يعني في الوقت ذاته نهاية الأنظمة الفكرية الشمولية والنظريات الكبرى التي تحجرت وتصلبت تحت تأثير الانغلاق الإيديولوجي والتعصب الفكري. وعلى خلاف الأنظمة المغلقة فإن النظام ما بعد الحداثي يبشر بحالة من الانفتاح الواسعة، وهذا الانفتاح يؤسس بدوره لمناخ يحفز على الإبداع وينضج بإمكانيات الابتكار والتجديد في مناحي الحياة المختلفة. فالتجديد يولد ويتوالد في قلب عملية الجدل والصراع والمواجهات والتعارض والتخاصب بين مختلف التيارات والاتجاهات التي يتوجب عليها أن تخرج من دوائر الجمود والانغلاق. وهذه التصورات ما بعد الحداثية الجديدة، التي تعبر عن إرهاصات واقع متقدم، يضج بطاقات الإبداع والابتكار، ويسعى إلى البحث الدائم عن آفاق إنسانية جديدة، لا تتوانى عن إظهار بعض التحديات التي تواجه المصير الإنساني في هذه المرحلة المتقدمة من التطور. لقد كان الإيمان بالله في مرحلة ما قبل الحداثة هي الفكرة التي يخلد إليها العقل الإنساني وهي السكون التي تلجأ إليه النفس البشرية. فالإيمان بالله كان يمنح البشر هذا الإحساس الشامل بالأمن الوجودي الخلاق، ويغذيهم بطاقات وجودية خلاقة تمنحهم الاستقرار والسكينة والقدرة على مواجهة مختلف التحديات الوجودية التي تضع الإنسان في دوائر الخوف والقلق. أما فيما بعد الحداثة فإن غياب هذا الإيمان النبيل بوجود الله كقوة عليا حامية يدفع البشر إلى دائرة إحساس عميق لا حدود له بالقلق والخوف والتوتر. وهنا يمكن القول بأن غياب ما هو إلهي يؤدي إلى غياب ما هو إنساني وإلى حالة من القلق الوجودي والعصاب الذي يقهر كل الإرادات ويقض كل المضاجع ويضع الإنسان في حالة اغتراب لا حدود لها. وفي دائرة هذا الاختناق الوجودي المفعم بالقلق والتوتر والعصاب يجب على الإنسان أن يواجه عالما يفيض بالخطر الدائم. وهذا يعني أنه يجب على الإنسان أن يتكيف مع هذا الواقع الجديد وأن يتعايش مع هذا الخطر المستمر والألم الوجودي المزمن، كما يتعايش مع أي مرض له طابع الاستمرارية الزمنية. ولا يبقى في جعبة الإنسان المعاصر إلا البحث الدائم عن صيغ جديدة وإبداعات جديدة يمكنها في سياق عملية التطور أن تخفف من حدة هذا الخطر وغلواء الشعور بالقهر الإنساني الذي تولده كل آليات الاستلاب الحضاري القائمة. نحن والحداثة : يجري الاعتقاد، في أوساط كثير من المثقفين العرب، أن الحداثة عملية يتم من خلالها نقل الأفكار الغربية والتكنولوجيا المتقدمة إلى الأقطار العربية، وعلى أساس هذا المنطق يعرف عبد الغفار رشاد الحداثة بوصفها "الأفكار والمعايير والقيم والمؤسسات ونماذج السلوك الجديدة الوافدة إلى المجتمع من الخارج، أو تلك التي ابتكرها المجتمع من خلال حركة تجديد أو إحياء داخلية". وهذا يعني أن الحداثة يمكن أن تتحقق بكل بساطة مع انتقال المعلومات والمعارف والتكنولوجيا إلى البلدان العربية. إن مجرد الحصول على المال والرجال والتكنولوجيا لا يعني في أي حال من الأحوال تحقيق الحداثة. وذلك لأن الحداثة عمل وفعل يجد نفسه في أعماق القوى الفاعلة في المجتمع. الحداثة فعل جوهري يحدث في الروح الدافعة للتطور والوجود، إنها طاقة تنوير هائلة تلامس الروح والعقل بالدرجة الأولى. وهذا يعني أن الحداثة لن تتحقق أبدا عبر المظاهر وأنها رهينة الروح الحضارية التي تتمثل في تفجير طاقات العقل وبناء الروح العلمية التي تستمد نسغ وجودها من القيم الإنسانية الحضارية التي تتعلق بالحرية والإنسان والمدنية والقيم الديمقراطية. وفي معرض التمييز بين الحداثة الغربية والحداثة العربية، يقول محمد محفوظ، إشارة منه إلى عقم الحداثة العربية وبقائها في مستوى الشعارات: "الحداثة الغربية كانت وليدة تطور تاريخي-اجتماعي لا يمكننا تجاوزه.. وبالتالي فالحداثة ليست شعارات وأشكالا سياسية، بل هي قبل ذلك كله صيرورة تاريخية-اجتماعية يصل إليها المجتمع بعد حقبة تاريخية من العمل المتواصل والجهد المركز في هذا السبيل". وهذا يعني أنه يجب علينا في البداية وفي الجوهر أن نطهر ساحة الفكر العربي من الأوهام والغيبيات والخرافات التي تعطل العقل وتبدد كل إمكانيات التطور والإبداع الإنساني وتدفع بالإنسان إلى دوائر العطالة والجمود. وفي هذا المقام يقول حسن صعب: "إن بطء هذا التغير العقلي المنهجي هو المسؤول الأول عن بطء التقدم في العالم العربي وفي سائر أنحاء العالم الثالث. فالشرط الأول للتقدم هو في عقل الإنسان. والإنسان الواعي لتخلفه وتقدم غيره هو الذي يندفع في طريق التقدم". لقد استطاع الغرب أن يحقق اليوم حداثته وأن يتجاوزها في الآن الواحد. والغرب الآن يحاكم مرحلة جديدة من تطوره هي مرحلة ما بعد الحداثة. حيث يواجه تحديات جديدة وقضايا جديدة تختلف كليا عن هذه التي طرحت في مرحلة ما بعد الحداثة. فالفكر الأوروبي يشكل منطقة يترعرع فيها منطق وفكر ما بعد الحداثة، أما نحن فما زلنا نجوب مخفقين في دائرة الحداثة بمفهومها التنويري المرتبط بفكرة التقدم فقط. وحتى التقدم هنا لا يأخذ معناه النقدي بل صيغته الاقتصادية الإنتاجية البحتة وأحيانا صورته المظهرية، وهو تقدم بائس وحداثة مشوهة. وباختصار إذا كان الغرب اليوم يصول في حقل معرفي جديد وإذا كان يواجه مشكلات ما بعد الحداثة، ومشكلات ما بعد المجتمع الصناعي، فهل يمكننا أن نقول بأننا ما زلنا نواجه تحديات ما قبل المجتمع الصناعي ومشكلات ما قبل الحداثة؟ وأخيرا ألا يحق لنا أن نتساءل عن الوقت الذي تبدأ فيه حركة حداثتنا؟ (f) :bye: مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة - oskar - 10-16-2005 [RAM]http://www.uco.es/~i42lojuj/1492.wav[/RAM] مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة - فرج - 10-19-2005 تحية إلى أوسكار تقديرا للجهد البناء في هذا العرض الممتع ! تندرج الحداثة في تيار النزعة الإنسانية في مجابهة النزعة اللاهوتية والنزعات الدوغمائية على اختلافها(القديمة منها والحديثة). في ما يلي مداخلة تندرج في الاتجاه نفسه ولكنها تقتصر على وجه الصراع ما بين النزعة الإنسانية والنزعة اللاهوتية في أوروبا ( نشرت في منتدى الأثير) النزعة الإنسانية و النزعة اللاهوتية! نزعة أو تيار، في كل الأحوال، النزعة الإنسانية لها روافد في كل مجالات النشاط الإنساني، وتتخذ من الإنسان نقطة مركزية في نظرتها إلى الكون، تنطلق من الإنسان، كل إنسان باعتباره قيمة مطلقة ومصدر القيمة ومحل الحقيقة وتتوجه إلى الإنسان كغاية بذاته ولذاته. وذلك خلافا للنزعة اللاهوتية التي سادت في أوروبا بدون منازع لعدة قرون، منذ اعتناق روما للديانة المسيحية واتخاذها عقيدة رسمية للدولة، في عهد الإمبراطور قسطنطين الملقب بالكبير، في القرن الرابع (310 – 340 م) حتى بداية النهضة في مطلع القرن الخامس عشر (1400 م). مع بداية النهضة، بما تعنيه من عودة إلى التراث اليوناني الروماني "الوثني" في نظر الكنيسة ولكن "الإنساني" في نظر رواد النهضة، بدأ الصراع بين النزعة الإنسانية والنزعة اللاهوتية. النزعة اللاهوتية لا ترى في الإنسان إلا كائنا صغيرا، حقيراً، ملطخا بالخطيئة قبل أن يولد! وأكثر من ذلك إنه مطالب بالطاعة التامة والعبودية التامة لسيد حاكم بسلطته الفردية المطلقة التي لا تعترف بأي قيود أو حدود، أو لرب جبار يطالبه للتكفير عن الخطيئة المتهم بأنه ارتكبها قبل أن يولد، يطالبه بالطاعة التامة والعبودية التامة له، ولكن طاعة مجيّرة كليا لحساب من يدعون تمثيله على الأرض، فهو،حسب النظرة اللاهوتية نفسها مقيم في السماء وليس في حاجة إلى هذه الطاعة ولا إلى هذه العبودية، إنه غني عن العالمين. وكأن هناك تحالفا مقدسا بين الحاكم المطلق والرب الجبار يهدف إلى إذلال الإنسان الفرد المستضعف في الأرض وتسخيره لخدمة فئة المتسلطين على الرقاب. النزعة اللاهوتية تضع مركز رؤيتها للكون خارج الإنسان وبعيدا عنه، في هذا الكائن المفترض، الذي لا يدخل في علاقة مع عبيده أو عباده إلاّ من خلال وسيط لا يطول به الأمر حتى يحل محل سيده طالما أنه يتمتع بصلاحيات التمثيل فوق العادة وقد انكشفت له وله وحده "الحقيقة المطلقة". وفي الواقع تبقى المركزية لإنسان فرد مميز، هو الحاكم المطلق بسلطته الفردية المطلقة، سلطة يوزعها كما يشاء وعلى من يشاء مقابل الولاء المطلق. وليست المركزية للإنسان ككل، أي لكل إنسان باعتباره قيمة مطلقة ومصدر القيمة ومحل الحقيقة حسب النزعة الإنسانية. ومن ثم يأتي وسيط آخر ويحاول إزاحة السابق عن منصبه ليشغله هو، ويلغي الواحد منهما الآخر وتدور الحروب الطاحنة بكل الأدوات المتاحة باسم الحق المطلق ومن أجل الحق المطلق من كل جهة، حرب لا تضبطها اتفاقية جنيف إن كانت موجودة أو أية اتفاقية أخرى. جدير أن نشدد على التمييز لفرد دون غيره فهو أساس لكل أشكال التمييز التي عرفتها البشرية وبررتها وتبررها النظرة اللاهوتية، من التمييز العنصري، إلى التمييز الجنسي، إلى التمييز العرقي،إلى التمييز في المعتقد الديني وغير الديني، والتمييز الطائفي ضمن الدين الواحد. هذا التمييز بأشكاله المختلفة كان دائما وما زال بمثابة حجر عثرة على طريق تطبيق مبدأ المساواة الذي تنادي به النزعة الإنسانية. ويقوم هذا التمييز في أساس الإيديولوجيات الدينية وغير الدينية المعادية للنزعة الإنسانية، الإيديولوجيات القائمة على مركزية ما، غير المركزية الإنسانية، لأنها تضع في المركز فكرة مجردة وقد تكون فكرة مجردة عن الإنسان أو صفة معينة من صفات الإنسان ولكنها تستبعد الإنسان الملموس بلحمه ودمه، تستبعد الإنسان كذات بصرف النظر عن الاختلاف في الصفات. واستمر هذا الصراع على امتداد القرون وفي كل المجتمعات إلى الأمس القريب حين تمكن بعض المجتمعات من حسم وجه من أوجه هذا الصراع بتغليب النزعة الإنسانية في الحياة العامة ويبقى الصراع الفكري دائرا بين النزعتين، كما تبقى مجتمعات بكاملها تعاني من هذا الصراع المكبوت أحيانا والمعلن أحيانا أخرى في حرب ضروس على كل الجبهات. ولماذا لم تبدأ النهضة في أوروبا قبل القرن الخامس عشر (1400 م)؟ ما هي العوامل المؤثرة التي أيقظت خيرة الأدمغة الأوروبية ودفعتها إلى النهل من منابع الفكر اليوناني والروماني؟ لننظر إلى الأحداث الأكثر أهمية التي شهدتها أوروبا ما بين القرن العاشر والقرن الرابع عشر. فماذا نرى؟ نلاحظ أن أوروبا كانت في الفترة الواقعة ما بين عام 1096 م وعام 1270 م منهمكة كل الانهماك في تنظيم الحملات الصليبية، ثماني حملات متواصلة، الواحدة تلو الأخرى، ودفعها إلى الشرق بهدف الاستيلاء على الأماكن "المقدسة" بحجة "تحريرها" من سيطرة المسلمين. وماذا كانت حصيلة هذه الحروب، التي استغرقت ما يقارب ثلاثة قرون من الزمن، بالنسبة لأوروبا؟ كانت جحافل الجيوش الصليبية تعود فلولا مهزومة، وإن كانت قد انتصرت لبعض الوقت في بعض المعارك، ولكن في الحصيلة النهائية لم تجن إلاّ الهزيمة والخيبة، خيبة الواقف أمام قبر فارغ قيل له إنه قبر السيد المسيح، ولم يجد بعضا من رفات ليأخذه وينصبه صنما يتعبده في بيته بعد عودته إلى أوروبا. ولكن لم تخل جعبة هؤلاء العائدين من انطباعات عديدة عن الشرق وعن الشرقيين وعن الإسلام والمسلمين وعن أنماط العيش والتعايش بين الطوائف والديانات العديدة، وخاصة في عهد صلاح الدين الأيوبي الذي يتمتع بسمعة أسطورية في الغرب أكثر مما في الشرق كنموذج للتسامح الديني والتعايش بين الطوائف، كما يظهر في أدبيات المؤرخين والكتاب الغربيين عنه. وأدرك كثيرون من الأوروبيين بعد المقارنة مع واقعهم البائس آنذاك، أن الغرب يعاني من الجمود الذهني والصنمية في الحياة الفكرية، ولا بد من إيقاظه من سباته العميق. وبالفعل كان من آثار الصدمة الحضارية مع الشرق العربي الإسلامي أن استيقظ العقل الغربي على التراث الثقافي العالمي آنذاك وراح ينهل مما تيسر له من ترجمات من العربية إلى اللاتينبة، ومن اليونانية إلى العربية ومنها إلى اللاتينية، وبعد ذلك من اليونانية واللاتينية مباشرة. يكفي أن نشير إلى اسمين فقط: ابن رشد وابن سينا. فعلى امتداد أكثر من قرنين من الزمن لم يعرف الغرب اللاتيني غيرهما في مجال الفلسفة والطب، كما أن أول ما عرف الغرب اللاتيني أرسطو كان ذلك من خلال شروحات ابن رشد المترجمة إلى اللاتينية. وجدير بالذكر أن كتاب القانون في الطب لابن سينا كان المرجع الوحيد في الطب خلال تلك الفترة. وعندما اخترع غوتنبرغ الطباعة (1440 م) كان كتاب ابن سينا في الطب أول كتاب يطبع بعد الكتاب المقدس. هذا بالنسبة للنهضة الأوروبية وبدايات الصراع ما بين النزعة الإنسانية والنزعة اللاهوتية. لكن النزعة الإنسانية لم تقتصر على العودة إلى التراث اليوناني الروماني، بل اقتحمت النزعة اللاهوتية في عقر دارها، في الكنيسة الكاثوليكية التي بالغت كثيرا في صنميتها وممارساتها االدنيوية المادية البحتة، إلى درجة أنها كانت تبيع قصورا في الجنة. هذه الممارسة المعروفة ببيع "صكوك الغفران" أثارت غضب الكثيرين من أصحاب العقول النيّرة. ومن أصحاب العقول النيرة الراهب الألماني مارتن لوثر الذي انتقد بشدة ممارسات الكنيسة الكاثوليكية هذه، ودخل في صراع فكري عنيف ضد هذه الممارسات (سنة 1517 م) وقاد حركة إصلاحية عرفت لاحقا بالبروتستانتية (تعني الاحتجاجية) دون أن يخرج عن نطاق النزعة اللاهوتية ولكن الأقل صنمية من اللاهوت الكاثوليكي. لو نظرنا إلى ما جاءت به البروتستانتية من جديد بالنسبة للكاثوليكية، لوجدنا أنه لمن الصعب أن لا يرى الدارس لتاريخ الأديان، وفي مقارنة الأديان، تـأثير الإسلام على الإصلاح البروتستانتي. نذكر بعض المسائل: إلغاء الرهبنة ومعها نذر العفة، وإلغاء نذر الفقر. مارتين لوثر نفسه كان راهباً كاثوليكيا، وعندما بدأ دعوته الإصلاحية تزوج من راهبة. ومنع الأيقونات في الكنائس الإصلاحية. وترجم الكتاب المقدس إلى اللسان المبين للشعب الذي يتوجه إليه، إلى لغة الشعب، إلى الألمانية، في حين كانت الكنيسة الكاثوليكية تمنع ترجمة الكتاب إلى اللغات الشعبية "خشية تدنيسه" وتعتبر اللغات المقدسة هي فقط: العبرية واليونانية واللاتينية. صحيح أن الإسلام كان قد طرح نفسه كإصلاح بالنسبة لليهودية والمسيحية المنتشرتين في بيئته حيث لم يكن قد مر على ظهور المسيحية أكثر من ستة قرون وربع القرن وقبل الإصلاح البروتستانتي بعدة قرون من الزمن (ثمانية قرون). ولكن نحن الآن في الربع الثاني من القرن الخامس عشر الهجري ولم يحقق المسلمون أي إصلاح بعد. ولعل الوقت قد حان لاستيفاء ما استلفته البروتستانتية من الإسلام، أو بمعنى أوسع من حق العرب التاريخي أن يستوفوا ما استلفه منهم الغرب عموماً في بداية نهضته من فلسفة ورياضيات وفلك وطب وغير ذلك. وبعبارة أخرى قد آن الأوان للعرب أن يدخلوا التاريخ العالمي من جديد من أبوابه الواسعة وعلى قدم المساواة مع الثقافات الأخرى! لننظر إلى القرن الخامس عشر، فماذا نرى؟ نرى أن هذا القرن كان مليئا بالأحداث التي لعبت دورا كبيراً في دفع الصراع بين النزعتين الإنسانية واللاهوتية قدما. فهو بمثابة المنعطف الحاسم في التاريخ الأوروبي بل والعالمي، إذ يكرس نهاية القرون الوسطى الداكنة وبداية العصور الحديثة بأنوارها الطبيعية بالنسبة لأوروبا. ما هي أهم هذه الأحداث؟ سنة 1453 سقوط القسطنطينية تحت ضربات مدفعية السلطان العثماني محمد الثاني الملقب بالفاتح. هذا الحدث كرس سيادة الأسطول العثماني على البحر الأبيض المتوسط لأكثر من مئة سنة، وانتشرت سمعة القوة العسكرية العثمانية كقوة لا تقهر وترتعد لها الفرائص في كل أوروبا مما اضطر الأوروبيين للبحث عن طرق غير المتوسط للوصول إلى الهند، فداروا حول إفريقيا وأبحروا عبر الأطلسي استنادا إلى النظرية القائلة بكروية الأرض والتي كان لها بعض الأنصار بين البحارة مثل كريستوف كولومبوس.واستمر ميزان القوى في حوض المتوسط على هذه الصورة حتى عام 1571م عندما خسر الأسطول العثماني المعركة البحرية المعروفة باسم Lépante في مواجهة مع الأساطيل الأوروبية: الأسطول البابوي والنمساوي والإسباني، الأمر الذي رقصت له كل أوروبا بما في ذلك فرنسا التي غالبا ما تحالفت مع تركيا ضد انجلترا. سنة 1492 م كريستوف كولومبوس يكتشف القارة الجديدة. وفي االعام نفسه سقوط غرناطة آخر مملكة عربية إسلامية في الأندلس. حدثان لهما دلالة رمزية، وكأن الغرب راح يمتد غرباً والشرق أخذ يرتد شرقاً. الأول نحو المزيد من الاكتشافات الجغرافية والعلمية التي تعزز النزعة الإنسانية وهذه الأخيرة بدورها تشجع البحث العلمي والتطبيق العملي. والثاني نحو المزيد من التقوقع على النفس والانغلاق على الآخر مما يشجع على الخمول والتغني بالماضي والاتكال على الغيب والاكتفاء بالحقائق المطلقة في الكتاب الذي لم يترك شاردة ولا واردة. بينما الدولة العثمانية تكتفي بالقوة العسكرية، وكما قال أحد الباحثين في موضوع هذه الدولة إنها انتقلت من جيش إلى امبراطورية دون أن تمر بالدولة القومية، دون أن تعرف الحضارة. وفي كل الأحوال انتقلت من "الرجل القوي"، مضرب المثل في اوروبا (قوي كتركي)، الذي ترتجف له كل أوروبا، إلى "الرجل المريض" الذي تصطف حوله الدول الأوروبية كالذئاب منتظرة أن يلفظ أنفاسه الأخيرة لتنقض على إرثه تمزقه إربا إربا وتتقاسمه فيما بينها. وحصة الأسد للمنتصر في الحرب العالمية الأولى. إن دراسة الدولة العثمانية، منذ نشأتها إلى بلوغها ذروة القوة ثم انهيارها وقيام الدولة الحديثة على أنقاضها، موضوع شيق وجدير بأن يعطى الأهمية الكافية وقد يلقي الضوء على عدد من المشكلات التي ما زالت تشغلنا. (أنظر المداخلة بعنوان "الدولة العثمانية"!). أما عن النزعة الإنسانية والنزعة اللاهوتية فقد تطورت كلتاهما وفقا للتطور الحاصل في المجتمع. وإذا ما تطور المجتمع في مجالات العلوم النظرية وتطبيقاتها المختلفة نحو إنتاج المزيد من الخيرات المادية والثقافية أو المعنوية، فالفضل يعود للجهود التي يبذلها كل فرد من أفراد المجتمع في نشاط إبداعي منتج لخير من هذه الخيرات في المجال الذي يتقنه. أما إذا كان المجتمع لا يحقق أي إنتاج ولا يحسن إلاّ الاستهلاك فذلك يعود إلى خمول واتكالية أفراد المجتمع حيث النشاط السائد هو الثرثرة والخزعبلات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. المجتمع الذي يستهلك أكثر مما ينتج لا شك واقع، عاجلاً أو آجلا، تحت وطأة الديون وخطر الإفلاس وتسليم المصير للغير بما يعنيه من فقدان الحرية والتبعية، كما حصل للدولة العثمانية على طول القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى الانهيار التام في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918 م). انهارت الدولة العثمانية ومعها السلطنة والخلافة، وقامت على أنقاضها دولة تركية أراد لها مؤسسها أتاتورك أن تكون حديثة ذات توجه علماني على غرار الدول الأوروبية الغربية وخاصة النموذج الفرنسي، بعيدا عن تدخل أي سلطة دينية في شؤون الدولة ومؤسساتها المختلفة. فالحداثة نفسها تندرج في سياق النزعة الإنسانية، لأنها تضع الإنسان في المركز من نشاطاتها التحديثية على كل الأصعدة. وردّا على السؤال: هل العلمانية هي نزعة إنسانية؟ يأتي الجواب: "طبعاً، إنها إنسانية لأنها تنطلق من الأساس من مفهوم الإنسان، كل إنسان، بصرف النظر عن صفاته وتتوجه إلى الإنسان الفرد بملموسيته من حيث هو زيد وعمرو. وتندرج تحت لواء النزعة الإنسانية الماركسية قبل أن تتحول في صيغتها اللينينية إلى أيديولوجيا قمعية تبريرية تستند إلى مفهوم مجرد، إلى نوع من إله اسمه "التاريخ" وقانونه "الحتمية التاريخية" وسلاحه الديالكتيك بيد الزعيم الأوحد، الذي يحمل صفحة ألقاب لا تضاهيها إلاّ صفحة ألقاب السلطان العثماني، يسلطه على من يشاء وكيفما يشاء وأينما يشاء ومتى يشاء ولكن دائما ضد كل من يخرج عن طاعة السلطان وفي كثير من الأحيان بدون سبب ظاهر غير إرادة السلطان زرع الرعب في النفوس، فالرعب هو الأداة المثلى للحكم السلطاني أو القيصري. إذا أردنا تصنيف هذه النزعة التي تكاد تؤله التاريخ فبالإمكان أن نسميها نزعة تاريخوية (historicisme)، ونترك المصطلح "تاريخية" مقابل (historicité). بينما تاريخاني يقابلها historial وتاريخانية مقابل Historialité بما تعنيه من تاريخية ذهنية مفاهيمية (mental et mentalité). كما تندرج أيضاً ضمن النزعة الإنسانية الفلسفة الحديثة بدءًا من ديكارت الذي بنى فلسفته على صخرة "الأنا" المفكرة الشاكة في كل شيء إلا في كونها هي التي تشكك، الأنا التي لا تعرف سقفا لتساؤلاتها. وكذلك فلسفة سبينوزا(1632 – 1677 م) سبينوزا ابن عائلة يهودية تلقى تربية دينية ليكون رجل دين و كان كلما تعمقت معرفته بالديانة اليهودية كلما اشتد نقده لها لأنها تجعل من الله ملكا يهوديا أو ملكا لليهود معتبرا أن تدخل اللاهوتيين (أو رجال الدين عامة) في الشؤون السياسية لا ينتج عنه إلاّ الحروب والكوارث الاجتماعية. وبذلك هو أول من دعا إلى العلمانية، أي إلى إبعاد رجال الدين عن السياسة. وقد تعرض لمحاولة اغتيال من جانب الطائفة اليهودية الهولاندية، في أمستردام، بعد أن ألقت عليه الحرم وطردته من صفوفها. على أثر محاولة الاغتيال هذه أضطر سبينوزا إلى العيش متخفيا بعيدا عن أنظار الطائفة اليهودية، يعمل في صناعة زجاج العدسات البصرية في لاهاي. فلسفة سبينوزا هي فلسفة الحرية الإنسانية. فالحرية كما يعرّفها سبينوزا هي المعرفة العقلية بقوانين الطبيعة، بالقوانين الإلهية. الطبيعة في لغة سبينوزا هي الله. الطبيعة هي طابعة ومطبوعة. حسب سبينوزا كل شيء، مادبا كان أم روحيا، هو جوهر فريد ولانهائي. الجوهر والطبيعة والله ما هي إلاّ مرادفات لمعنى واحد. والإنسان إذا ما تحرر من أهوائه وعرف النظام الإلهي، الطبيعي، فهو في سعادة أبدية وعلى اتحاد مع الطبيعة في علاقة محبة عقلانية (amour intellectuel ). والأبدية في نظر سبينوزا ليست زمنية إنما هي أقرب إلى مفهوم رياضي هندسي مثل قاعدة فيثاغوروس أو قانون أرخمبدوس، على سبيل المثال لا الحصر. وفلسفة الأنوار عموما هي نزعة إنسانية بامتياز. لماذا سميت بفلسفة الأنوار؟ وما هو المقصود بالأنوار؟ سميت هكذا لأنها تقول بالنور الطبيعي للعقل البشري وتقول بقدرة العقل البشري على الوصول إلى الحقائق بصورة مباشرة وبدون وساطة أي وسيط. لا كنيسة ولا رسول! بالنسبة لسبينوزا النور الطبيعي هو النور الإلهي. وكذلك الأمر بالنسبة لعدد من الفلاسفة الذين يعتبرون أن الطبيعة ليست خارجة عن مملكة الله. لو أخذنا مثال هيجل، كيف ينظر هيجل إلى الطبيعة بالعلاقة مع الروح؟ يعتبر هيجل ، أن الطبيعة بمثابة النقيض التام للروح المطلق ومع ذلك فما هي إلاّ تجسد الروح المطلق في نقيضه ليعود إلى ذاته في ذاته بعد أن كان ذاته في نقيضه. وعودة الروح هذه من منفاه الطبيعة إلى ذاته في الفن والدين والفلسفة، حسب هيجل، تستغرق آلاف السنين وآلاف الحيل التي يستخدمها العقل المطلق عبر التاريخ ويضحي بشعوب عديدة وحضارات عتيدة للوصول إلى دائرة الروح المطلق في أرقى مستوياته، في الفلسفة، في ما يسميه هيجل علم المنطق، لا بالمعنى الأرسطي للمنطق بل باالمعنى الميتافيزيقي الهيجلي، أي علم الكائن المطلق، أو المفهوم المطلق، المفهوم المتجسد في العالم على كل المستويات وبدرجات مختلفة، في الطبيعة والتاريخ البشري والفكر الإنساني وبصورة خاصة في تاريخ الفلسفة وهو تاريخ المفهوم الواحد المتعدد التجليات. وبما أن للمفهوم عند هيجل تاريخيته الخاصة في عالم المفاهيم فمن المستحسن استخدام مصطلح "التاريخانية" في ما يخص المفهوم. قد حير هيجل مؤرخي فلسفته: أين نصنف هيجل؟ مادي أو مثالي؟ أرسطي أو أفلاطوني؟ كان له تلاميذ وأتباع من اليمين كما من اليسار. وبالنسبة لموضوعنا أين نصنف هيجل؟ في النزعة الإنسانية أو في النزعة اللاهوتية؟ وقد شطح في نزعته الإنسانية إلى درجة يكاد يقول عندها: "أنا الحق"، بل قالها بعبارات أخرى. وذهب بنزعته اللاهوتية إلى أبعد ما يمكن الذهاب حتى اعتبره بعض الدارسين بمثابة "مسيح الفلسفة". وبالفعل كان هيجل دائما حريصاً على إقامة نوع من موازاة بين المفاهيم القلسفية من جهة والمفاهيم الدينية المسيحية في صيغتها العقائدية البروتستانتية من جهة أخرى. فالأقانيم الثلاثة للإله الواحد، حسب العقيدة المسيحية: الآب والابن والروح القدس، يقابلها الثالوث المفهومي والشكل الثلاثي الذي تتخذه المنظومة الفلسفية عند هيجل: علم المنطق مقابل مملكة الآب، فلسفة الطبيعة يقابلها مملكة الابن وفلسفة الروح يقابلها مملكة الروح القدس. والأقانيم الثلاثة هذه ما هي إلاّ مفهوم واحد في حركة تطورية دائمة، من المفهوم المحض إلى المفهوم نفسه المتجسد قي نقيضه ومن هذا النقيض إلى نقيض النقيض وكأنّ في ذلك عودة إلى المفهوم الأول، ثم من جديد في حلقة جديدة وهكذا دواليك... ولكن هذه العودة ليست بالعودة البسيطة إنما هي عودة مشبعة بكل تجليات المفهوم عبر مسيرته التحررية من الطبيعة الجامدة إلى الكائنات الحية، إلى التاريخ البشري وصولا إلى دائرة الروح المطلق الثلاثية أيضاً: الفن والدين والفلسفة. وهيجل هو القائل: "إن التاريخ العالمي هو عملية وعي الحرية وفكرة الحرية هذه هي تجسيد للإرادة الإلهية". يؤكد هيجل أن المفاهيم والكائنات مهما تعددت وتنوعت كل في موقعه ما هي إلاّ تجليات لمفهوم واحد، لكائن واحد بتسمياته العديدة:المفهوم، الكائن، الروح، الله، العقل، الطبيعة، كلها مترادفات لمعنى واحد. وقد وصف بعض النقاد فلسفة هيجل بأنهاpanthéisme (ترجمت بالحلولية)، تذكر بمبدأ وحدة الوجود عند المتصوفة في الثقافة العربية الإسلامية. جدير بالذكر أن هيجل تبنى المنهج الديالكتيكي (الجدلي) بمعنى aufhebung المنقول عن المتصوف الألماني Maître Eckhart (1260 - 1327 م)، أو مبدأ نفي النفي لتوليد الجديد حاملا كل ما هو إيجابي في الحالتين السابقتين، قد يسمي البعض هذا المبدأ بالسلبية المطلقة أو السلبية الإيجابية. ذلك أن رفض الشيء يبقى مشروطا بهذا الشيء بينما رفض الرفض يتجاوز المشروطية إلى الفعل الحر. استخدم هيجل هذا السلاح في حربه ضد مفاهيم نيوتن "الوحشية" من وجهة نظر الفلسفة. ومن غريب المصادفة أن هيجل ربط الزمان بالمكان في كيان واحد، الزمكان، قبل إنشتاين بحوالي قرن من الزمن وربط الزمكان بالحركة بالاستناد إلى الحركة الجدلية للمفاهيم الفلسفية. وقد تكون النزعة التاريخانية الروحية هي الأنسب لتصنيف هيجل؟ سنترك هذا السؤال مطروحا على أهل الاختصاص... ولا بد من قول كلمة عن الفلسقة الوجودية، فهي كما يعرّفها جان بول سارتر نفسه في كتيب عنوانه: "الوجودية نزعة إنسانية". باختصار يعتبر سارتر أن الإنسان عندما يتفتح وعيه يجد نفسه ملقى في هذا العالم (projeté dans le monde)، دون أن يكون مسؤولا عن نفسه قبل هذه اللحظة. ولكن اعتبارا من هذه اللحظة التي أدرك فيها وضعه هذا في العالم، محكوم عليه أن يكون حرا (condamné à être libre)، أي مسؤولاً عن مصيره كإنسان فرد، مسؤولا عن إنسانيته وكأنها الإنساتية ككل. وبحكم هذه المسؤولية لا يجديه شيئا النظر إلى الوراء بل يجد نفسه مشروعا (projet) قيد التحقيق وبموجب حريته هو المسؤول الأول والأخير عن تحقق هذا المشروع، أي عن تحقيق ذاته. حسب النظرة الوجودية، حقيقة الذات تتكون عبر الممارسة، عبر الوجود. إنها تتبع الوجود وليس العكس وفقا للنظرة اللاهوتية التي ترى أن حقيقة الإنسان معطىً (أو معطاة) سابق على الوجود. كل مذهب وكل نظرية أو علم من العلوم، تنطلق من الإنسان، لا كمفهوم مجرد وبالتالي مجير لفرد أو لأفراد معينين، بل كفرد، كائن واقعي ملموس، بلحمه ودمه، وتتوجه إلى الإنسان بهذا المعنى أيضا، فهي رافد من روافد هذا التيار العريض الذي ينضوي تحت تسمية النزعة الإنسانية! ويقترح البعض نقل كلمة Humanisme صوتيا إلى العربية بكلمة "هيومانيزم" أو "هيومانية". في عدد من المجتمعات، حيث ما زالت النزعة اللاهوتية هي السائدة بما تشكله من كبح لنشاطات إنسانية عديدة، لا بد من تغيير جذري في نظرة الإنسان إلى نفسه، إلى ذاته في الوجود، من حيث هو إنسان في عمق ذاته بعيدا عن أيّة صفة من الصفات التي تحده. هذا التغيير الجذري هو نوع من انقلاب كوبرنيكي بما يعنيه من نقل النقطة المركزية في النظرة إلى الوجود من مكان ما بعيد عن الإنسان إلى داخل الإنسان نفسه. في النزعة الإنسانية الإنسان هو في المركز هو الوسيلة والغاية في آن معاً. في هذه النزعة الإنسانية الإنسان هو محل الحقيقة ومصدر القيمة. وهذا يعني أن حقيقة "زيد" المسلم مثلا، لا يقبلها الهندوسي عمرو إلاّ إذا تمكنت (أي أخذت مكانها) في ذهن عمرو وتصدر عنه مختومة بخاتمه الخاص به. وكذلك أحكام القيمة التي يصدرها عمرو الهندوسي، بصيغة أفعل التفضيل في أغلب الأحيان، قد لا يكون لها أي قيمة في نظر زيد المسلم ...! |