حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
الاعمال الكاملة لسعيد حورانية في ذكري وفاته العاشرة: أستاذ لاجيال كان بلغته وسرده قمة لا تجاري - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5) +--- المنتدى: لغـــــــة وأدب (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=78) +--- الموضوع: الاعمال الكاملة لسعيد حورانية في ذكري وفاته العاشرة: أستاذ لاجيال كان بلغته وسرده قمة لا تجاري (/showthread.php?tid=26242) |
الاعمال الكاملة لسعيد حورانية في ذكري وفاته العاشرة: أستاذ لاجيال كان بلغته وسرده قمة لا تجاري - بسام الخوري - 07-31-2005 الاعمال الكاملة لسعيد حورانية في ذكري وفاته العاشرة: أستاذ لاجيال كان بلغته وسرده قمة لا تجاري 2005/07/28 محمد كامل الخطيب قد تكون مصلحتكم في أن تكونوا أسيادنا..ولكن كيف يمكن أن تكون مصلحتنا في أن نكون عبيدكم؟ . توكيديس ـ 1 ـ ..وتجرؤ علي أن تكتب قصصاً قصيرة؟ ما قرأت كتاباً لسعيد حورانية، ثم ما رأيته مرة بعد أن تعرفت إليه، إلا وتذكرت هذه العبارة من حوار، أو من حادثة جرت معي: كنت في الصف الثاني من قسم اللغة العربية في جامعة دمشــــــق، وقد تعرفت إلي زميل كان يهوي المطالعة، ويكتب القصة القصيرة، وذات يوم، في مقصف الجامعة، سألني هذا الزميل: ـ وأنت..ألا تكتب؟ متلعثماً وخجلاً أجبته: ـ أكتب.. وبالطبع خجلت أن أقول ماذا أكتب، ولكن الزميل تابع سؤاله: ـ ماذا تكتب؟ ـ أكتب...أكتب..قصة قصيرة.. صمت الزميل القصاص، برهة، وكان قد نشر في مجلات معروفـــــــة آنذاك منها الأســــبوع العربي و المضحك والمبكي ثم سألني فجأة؟ ـ هل قرأت قصص سعيد حورانية. كانت هي المرة الأولي التي اسمع فيها باسم سعيد حورانية، نظرت إلي الأرض، وقد ازداد ارتباكي وخجلي أمام زميل يفوقني في التجربة والثقافة والمعرفة، فقد كنت شاباً ريفياً آتياً من مدينة صغيرة، بينما كان زميلي شاباً من مدينة كبيرة، وكأن هو الوضع الآن بالضبط، فأنت لا تستطيع أن تجد في طرطوس الكتب التي تجدها في دمشق. أجبت زميلي: ـ لا.. لم أقرأها وبحدة فيها مزيج من الدعابة والقسوة، بل والعتب، ومع ابتسامة، ما أزال اذكر منها ملامح الإشفاق واللوم معاً، قال الزميل: ـ لم تقرأ قصص سعيد حورانية، وتجرؤ علي أن تكتب قصة قصيرة؟ صمت لحظة، واذكر انه قطب ما بين حاجبيه، ثم انفرجت أساريره وقال: ـ قم..تعال معي إلي البيت..خذ قصص سعيد حورانية...اقرأها..ثم اكتب قصة قصيرة. قرأت مجموعتي قصص سعيد حورانية شتاء قاس آخر و سنتان وتحترق الغابة في ذاك اليوم الذي حدثت معي الحادثة التي رويتها لكم، وبعدها، في أواسط السبعينيات، تعرفت علي سعيد حورانية، وربما أستطيع أن أدعي أننا كنا في مرحلة أصدقاء، لكنني بقيت، وبعد أن قرأت قصصه، بل وكلما قابلته، اشعر بشيء من الارتباك والخجل اللذين شعرت بهما عندما قرّعني زميلي عام 1968، بل إنني أقول لنفسي بين حين وآخر، وربما كلما كتبت قصة قصيرة: قرأت قصص سعيد حورانية وقصص زكريا تامر ويوسف إدريس وتشيخوف وموباسان وهمنغواي وكاترين مانسفيلد وإيتالو كالفينو وبورخيس ومحمد خضير، وتجرؤ علي كتابة قصة قصيرة؟! . سعيد حورانية وزكريا تامر شكلا بالنسبة لجيلي، الأستاذين اللذين كانا علينا أن نكتب القصة وطيفهما حائم فوق مخيلتنا وأقلامنا، فإما أن نفعل شيئاً يليق بالأستاذين أو أن لا نكتب، كان سعيد حورانية قادماً من اندفاعة الخمسينيات والتي كانت رداً مجتمعياً علي هزيمة الـ48، وكان جيلنا قادماً في السبعينيات رداً مجتمعياً آخر علي هزيمة الـ 67، وربما كان هذا ما جمعنا به أدباً وأفكاراً ونمط حياة، أما زكريا تامر فقد كان آتياً من الحساسية والأوضاع الجديدة التي تشكلت في الستينيات والتي أعقبت اندفاعة الخمسينيات وفورتها، وبداية ظهور أنظمة التسلط والقمع وحكم الأجهزة المخابراتية مع تجربة الوحدة المجهضة، كان سعيد حورانية بحادثته المركزة ولغته الواضحة واندفاعات سرده، قمة لا يمكن أن تجاري، وكان زكريا تامر بمخيلته الشاعرية، قمة أخري، وكان علينا أن نسبح في الوادي بينهما. لكن ماذا من قصص سعيد حورانية وعالمه القصصي؟ أعلنت مجموعة سعيد حورانية الأولي وفي الناس المسرة ـ 1952 أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، ميلاد كاتب وعالم قصصي جديد، وذلك بإعلانها آن الجيل في المجتمع العربي ـ في سورية ـ قد بدأ الانفصال عن الجيل القديم، لكن هذا الانفصال عن سعيد حورانية لم يأخذ شكل صراع أجيال ، كما يمكن أن يقال لدي التحليل السريع، بل إن هذا الصراع فهم علي حقيقته صراع أفكار ورؤي وبمعني أكثر تحديداً صراع طبقات فالصراع الفكري احد مظاهر، أو أحد أبعاد الصراع الاجتماعي. ومن هنا نفهم لماذا يترك حامد في قصة سريري الذي لا يئن أهله ليعيش وحيداً: إن الفكر الجديد، ممثل القوي الشعبية الجديدة، والتي بدأت تعي نفسها حديثاً، أي بعد الخروج العسكري والإداري للفرنسيين، إن هذا الفكر بدأ يعبر عن نفسه، وعن وضع القوي الجديدة الذي يمثل: عن رفض هذه القوي للواقع الذي هو استمرار للماضي. لقد تمرد حامد علي أفكار أسرته، وانفصل عنها وعلي الرغم من مشهد الفراق العاطفي فإن حامداً لم ينثن عن قراره، بل إن حامداً وجد ذاته الحقيقية في انفصاله عن أسرته، أي عن نمط الأخلاق، وعن المجتمع القديمين. إن انفصال حامد لم يكن مجرد تمرد شاب، بل كان انفصالاً فكرياً، انفصـــــالاً طبقياً بالضبط. ـ وهذا ما عرفناه في سعيد حورانية عند تشاركنا وإياه عيش نمط حياة جديدة فيما بعد ـ يفكر حامد في غرفته ـ حياته ـ الجديدة: ..أشعر أنني قوي رغم كل شيء..وأنني وجدت ذاتي التي أضعتها منذ وقت طويل وكما هو معروف، فإن إضاعة الذات هي الاغتراب والعكس صحيح. هذا الصراع بين حامد وأهله، بين الشباب والشيوخ، بين الحاضر والماضي، بين الجديد والقديم، سوف يأخذ صورته وبعده الاجتماعي الواضح في مجموعتي سعيد حورانية التاليتين: شتاء قاس آخر و سنتان وتحترق الغابة وفي هذه المجموعات الثلاث يكتمل رسم عالم قصص جديد تماماً، ومغاير لعالم العجيلي السابق، فإذا كان عالم العجيلي القصصي هو عالم ـ مجتمع ـ القدر، والمصادفة، والثبات، فإن عالم ـ مجتمع ـ سعيد حورانية القصصي هو عالم الكفاح والتغيير والأمل، عالم قصصي لن يدرك كنهه تماماً إلا بالرجوع الي مرحلة الخمسينيات وديناميكيتها، مرحلة الكفاح الاجتماعي ـ الوطني الفكري الذي شهدته الساحة العربية والسورية خصوصاً. فهذا الصراع، الذي قامت به القوي الشعبية وأفكارها، التي بدأت تعي نفسها وقوتها حديثاً ـ آنذاك ـ تبدي جلياً في العالم القصصي لسعيد حورانية، وكما كان الصراع واضحاً علي ارض الواقع، فقد كان واضحاً في ارض العالم القصصي لسعيد حورانية حيث ينتهي الصراع في هذا العالم القصصي بانتصار القوي الشعبية، ذلك أن سعيد حورانية يضيف إلي عالمه القصصي رؤيته الفكرية لحركة التاريخ: الإيمان بالإنسان والمستقبل، هذا ما رآه الكاتب، فاضافة إلي الواقع القصصي، وبهذا فإن العالم القصصي لهذا القاص لا يقف عند حدود مرحلة الخمسينيات، بل ينفذ خارجها باتجاه المستقبل كما يراه أو يريده الكاتب، وبمثل هذا العالم القصصي نقول: ان الواقعية ليست نقلاً ميكانيكياً للواقع. .إن الواقعية هي رؤية لحركة الواقع واتجاه هذه الحركة. يقوم الصراع في عالم سعيد حورانية بين قوتين تتصارعان في الطبيعة، وككاتب واقعي أصيل، فإن هذا الصراع بين قوتين في الطبيعة يتجسد ويتعين، واقعياً ـ اجتماعياً، علي الشكل التالي: 1 ـ القوة الأولي: تتجسد هذه القوة، في القوي المسيطرة والظالمة في المجتمع، وبكل أنواع السيطرة والظلم: العسكر والدرك الــــــذين ينفذون قانوناً جائراً: الأهل الذين يمثلون قيماً اجتماعية ـ أخلاقية قديمة: الإقطاعيون والحكومة والمستعمرون، وهناك البوم والغربان كرمز لهذه القوي، وإذا استخدمنا اللغة الفلسفية نقول: هناك في جانب واحد قوي الشر مجتمعة، لكنها تظهر في هذا العالم القصصي مجسدة واقعية بشرية. 2 ـ القوة الثانية: هي القوة النقيض للقوة الأولي والتي تتعرض لعسفها وظلمها، فتتحرك مكافحة هذا العسف تتجسد هذه القوة في عالم سعيد حورانية القصصي عبر شخصيات الشباب الثائر علي أخلاقيات الأهل، والبدوي الفقير المدافع عن شرفه، والفلاحين المدافعين عن أراضيهم، والعمال المتظاهرين والمسجونين والمناضلين ضد الاستعمار والإقطاع تتجسد هذه القوي في الفقراء عموماً وكرمز يستخدم سعيد حورانية الطيور الجميلة، فلسفياً، يمكن تسمية هذه القوي بقوة الخير، لكنها قوي مجسدة، واقعية، بشرية، وهنا نضيف إنسانية. 3 ـ الطبيعة ـ المكان: من خلال الصراع بين هاتين القوتين ينبني العالم القصصي لسعيد حورانية، تماماً مثلما ينبني العالم الواقعي من خلال الصراع بين هاتين القوتين إياهما، وإذا كانت هاتان القوتان مجسدتين بشرياً، عيانياً، فإن الطبيعة، مكان الصراع، مجسدة أيضاً عيانياً، جغرافياً إن مكان الصراع هو الأرض التي تعيش عليها هاتان القوتان، وهو في عالم سعيد حورانية القصصي، الأرض العربية في سورية من السويداء إلي القامشلي من جبال السويداء بثلوجها وأشجارها إلي سهوب الجزيرة بوحلها، وإقطاعها وفلاحيها، ولهذا فإن الصراع في هذا العالم القصصي يتجلي عيانياً في حياة الناس العاديين اليومية، البطولية، في كفاح هؤلاء الأبطال ضد كل ما من يضطهدهم، ومن هنا فإن الصراع يأخذ في عالم سعيد حورانية القصصي شكلاً وبعداً إنسانيا ـ اجتماعياً ـ فكريا محدداً، أي إن الصراع يظهر في هذا العالم القصصي كما يبدو بالنسبة للكاتب في الواقع: صراع بين الظالم والمظلوم، صراع بين قوي تريد إدامة ذل الإنسان وبؤسه وجوعه، وبين قوة تريد رفع سيطرة وظلم القوي الأولي تأخذ القوي الأولي في الواقع والعالم القصصي معاً، شكل الأخلاق القديمة وعسكر الاستعمار والإقطاع والحكومة، بينما تأخذ شخصيات الشباب المتمرد ـ في الواقع والعالم القصصي ـ والقرار ضد الاستعمار والحكومة، وشخصيات العمال والفلاحين شل القوة الثانية، أي إن هذه هي قوة : الشعب والخير والتقدم، وإذا كان الصراع في الواقع هكذا، حقاً، فإن سعيد حورانية يضيف إليه شيئاً هاماً، هو عماد عالمه القصصي، انه، كما تقدم: المستقبل، مستقبل الشعب، الإنسان. الخير.. إن إضافة المستقبل أي رؤية حركة الصراع ككل، لا الاقتصار علي جزئها الذي يراه الكاتب في حياته الشخصية، أو واقعه المحلي، أعطي سعيد حورانية بعداً واقعياً إنسانياً وكونياً شاملاً، وجعل هذا العالم القصصي يخرج عن أن يكون مجرد عكس لمرحلة الخمسينيات زمنياً، أو لواقع الصراع الطبقي في سورية، مكانياً. إن سعيد حورانية لم يقتصر علي أن يري ببصره مرحلة الخمسينيات في سورية، بل رأي ببصيرته مرحلة الصراع الإنساني ككل، وكما يريد لها أن تكـــــون وان تنتهي وبهذا كان عالمه القصصي رؤية تاريخية قد تكون أكثر صدقاً من عوالم قصصية أخري اقتــــــصرت علي رؤية مرحلة زمنية معينة، جزء من الحركة ، فعممت هذا الجزء علي الكل، فكان عالمها القصصي، عالماً كاذباً، علي الرغم من انه يبدو للنظرة الأولي واقعياً، صادقاً، قد تكون هذه الرؤية ميكانيكيـــــــة أو قل مانوية إلي حد ما، وقد تكون ساذجة، لكن ما ينقذها ـ فنياً هو موهبة الكاتب وقدرته القصصية علي السرد. في محاولات سعيد حورانية، للالتصاق بالقوة الثانية ومعانقة روحها ـ قوة الشعب ـ اضطر الكاتب سواء في فن القصص عموماً، أو في اللغة القصصية، للتبسيط وللاقتراب ـ أحياناً ـ من اللهجة العامية. أما من حيث الشكل، ككل فقد ادخل سعيد حورانية ـ وربما كان من أوائل من فعل هذا ـ تقنية قريبة من التكنيك السينمائي فقد استخدم سعيد حورانية وببراعة، ما يسمي المونتاج المتوازي حيث يتوازي حدثان مترابطان ليقدما حدثاً واحداً جامعاً للحدثين، يستخلص دلالة القصة ككل قصة قيامة العازر كما أن سعيد حورانية استخدم أحيانا، وبشكل واع و ناضج عملية الترميز، حيث يجد الكاتب في رمز ما معادلاً لوضع واقعي ـ كما يراه ـ ولكن الترميز عند سعيد حورانية لا ينحل إلي مجرد علاقة ـ وجه شبه ـ بين المشبه والمشبه به، بل إن قيمة عملية الترميز عند هذا الكاتب تكمن في أن الرمز يستخلص دلالة الواقع وأعماقه وبهذا لا يكون الرمز مصوراً أو عاكساً للواقع ـ فوتوغرافياً ـ بل لدلالة الواقع ومعناه وروحه، كما يري الكاتب. إلي جانب عملية الترميز في القصص، قدم سعيد حورانية قصصاً تكمن قوتها في مباشرتها وشدة ملاصقتها للواقع، حتي أن القاريء لا يستطيع التمييز أحيانا: هل الواقع فن، أم الفن واقع؟ هل ما يقرأ هو قصة ذكية أم هي عريضة استرحام يرفعها فلاحو قرية مضطهدة؟ إن ارتفاع قيمة عملية الترميز وارتـــــفاع قيمة عملية ملاصقة الواقع بدون رمز في عالم سعيد حورانية القصصي يثبت حقيقة أدبية وهي أن الشكل بذاته لا يعني دائـــماً الكثير، كما لا يعني المضمون بحد ذاته الكثير. فقصة عاد المدمن مغرقة في الرمزية، بينما قصة عريضة استرحام مغرقة في الواقعية، لكن القصتين ترتفعان معاً إلي أعلي ذري الفن القصصي، بل إلي أعلي درجات التكنيك المختلف، وهما في الوقت نفسه تقفان موقفاً فكرياً واحداً لم يتغير سواء في الرمزية أم الواقعية. تقديراً لفن القصة القصيرة في سورية، وتقديراً لأحد رواده، في ذكري وفاته العاشرة، تقدم وزارة الثقافة الأعمال القصصية الكاملة لسعيد حورانية: 1 ـ وفي الناس المسرة ـ 1952 2 ـ سنتان وتحترق الغابة ـ 1964 3 ـ شتاء قاس آخر ـ 1964 إضافة إلي حوار مهم يقدم فيه سعيد حورانية نفسه خير تقديم، ضمن مشروعها لإعادة نشر الأعمال الكاملة للكتّاب السوريين المؤسسين، أو مختارات من أعمالهم. ہ قاص وكاتب من سورية والمقالة بالاساس مقدمة للاعمال القصصية الكاملة للقاص السوري الراحل 0 QPT3 الاعمال الكاملة لسعيد حورانية في ذكري وفاته العاشرة: أستاذ لاجيال كان بلغته وسرده قمة لا تجاري - عادل نايف البعيني - 07-31-2005 (f) مشاركة كبيرة بكبر صاحبها أخي بسام،(f) سعيد حورانية هذا العظيم عندما تنشر أعماله الكاملة فهذا يعني أن المكسب للثقافة والأدب والفكر كبير. وسأسعى للحصول على هذه الأعمال مع شكري أيضا للكاتب محمد كامل الخطيب الذي جمع ونضد هذه الأعمال. أشكرك مجددا على طرحك هذا الموضوع محبتي ومودتي محمد الدرة الاعمال الكاملة لسعيد حورانية في ذكري وفاته العاشرة: أستاذ لاجيال كان بلغته وسرده قمة لا تجاري - بسام الخوري - 08-04-2005 ياحبذا أخي محمد(f)(f) لو تكرمت بنشر بعض قصصه على النت وربما في مجلة جسور أو موقع القصة العربية الاعمال الكاملة لسعيد حورانية في ذكري وفاته العاشرة: أستاذ لاجيال كان بلغته وسرده قمة لا تجاري - بسام الخوري - 03-15-2008 uuup الاعمال الكاملة لسعيد حورانية في ذكري وفاته العاشرة: أستاذ لاجيال كان بلغته وسرده قمة لا تجاري - بسام الخوري - 03-16-2008 القاص سعيد حورانية 1929 – 1994 قراءة في السيّرة والإبداع باسم عبدو - سورية لم يتذكّر النُّقاد سعيد حورانية بعد رحيله، ولم ينل هذا الأديب المبدع حقّه من الدراسة، وهو القاص السوري ابن دمشق، عاش في أسرة دمشقية فقيرة، وفي حيّ "الميدان"، الذي اكتسب اسماً آخر "حيّ محمد الأشمر" نسبة إلى الشيخ المستنير، المناضل ضد الاستعمار الفرنسي، وقبله العثماني. وكان العقل المرشد للثوار وللوطنيين ومن قيادات الثورة السورية الكبرى. الوطني الغيور على مصلحة الوطن العليا. وما تزال ساحة الميدان تُسمّى باسمه. ولد سعيد حورانية في العام 1929 وتوفي في 4/6/1994. يقول في مذكّراته: (أنا من بيئة ذات تركيبة دينية، وأبي شيخ مُهمّ، كان يحلُّ ويربط، بيئة دينية. وبيتنا لا يبعد عن بيت (الأشمر أكثر من خمسين متراً). وعندما أصبح سعيد يعرف القراءة والكتابة والخطابة، وعمره ثلاثة عشر عاماً، كان الأشمر يُرسل في طلبه للترحيب بالوفود والزائرين القادمين من أحياء دمشق، ومن المحافظات السورية. سعيد حورانية رجل فكاهة، يحبّ النكتة، عصبي، قصير القامة، سريع الحركة والأجوبة.. شجاع، لا يُهادن، جريء. يقول الحقيقة. يكره الانتهازي والوصولي، لا يأبه لأحد. عنيد. دخل السجون، وذاق مرارة المطاردة والملاحقة. عاش سنوات في موسكو، بعيداً عن أهله ووطنه. كشف عن شجرة عائلته. وقال: (إنَّها من أصل بدوي، قدمت إلى الشام من منطقة حوران. ولم يأتِ لقب "حورانية" عبثاً). عملت عائلته في تجارة الحبوب، ثمَّ اشتغلت بالبورصة بعد الحرب العالمية الثانية. وعندما أعلن والده إفلاسه، ترك التجارة، وأصبح إخوته كَتَبة حسابات عند تُجَّار سوق الهال. ولم تكن المدارس كاليوم منتشرة في أحياء العاصمة، بل كانت محدودة جدّاً. وكانت الكتاتيب هي التي تُخرّج المتعلمين، والتي تؤسس المعارف لدى التلاميذ والشباب. وتلَّقى سعيد دروسه الأولى عن مشايخ "جامع الدقَّاق"، وبفضل الجامع نال شهادتي الكفاءة والثانوية، وتعلَّم الغناء والألحان. قرأ كُتب التراث مثل "خزانة الأدب" وروايات الجيب. وكان نهماً في القراءة. وفي طفولته المرفّهة كان مُدلّلاً، ينظر إليه أطفال الحيّ الفقراء بحسدٍ وغيرة، وبعد إفلاس والده، تحوَّل سعيد إلى عامل، يحصل آخر الأسبوع على أجرته أو كما يُطلق عليها في دمشق "بالأسبوعية"، ويقدّمها لأبيه كي يُخفّف عنه مصروف العائلة الكبير. وعمل سعيد في معمل "دياب للكبريت" لمدة سنتين. ونما إحساسه بالطبقة التي ينتمي إليها. وتلاشت أحلامه التي رافقت مرحلة الطفولة، بأنّه سيعيش حياة رغيدة، سعيدة، وازدادت العلاقات التي تربطه مع العمال حميمية. وتجاوز تفكيره حدود الحيّ الضّيقة. وكانت هذه الخطوة بداية المشوار الحياتي الجديد المُختلف، بداية للتفكير الآخر المغاير للمألوف في البيئة المحافظة. بداية التفكير العميق بـ "آلية الحياة" الجديدة. تجاوز سعيد حورانية ما كان قد آمن به في بداية حياته "المراهقة"، حيث العنف المصدر الأوّل لتوجهه الفكري ـ التغييري. قال عن نفسه: (وقد وصل بي الأمر إلى حدّ الانضمام في العام 1947، وهي "سنة البكالوريا" إلى جمعية إرهابية متديّنة، لا علاقة لها بالإخوان المسلمين). وتحوّل من التطرّف والعنف، نتيجة لعدّة أسباب، منها مثلاً: تراكم المعرفة لاستمراره في القراءة والمطالعة. وأصبح عقله "إدراكه" اكثر توازناً ودقّة ومعرفة في طبيعة العلاقات الاجتماعية، والانتماءات الفكرية، ومحركة الحياة والتفاوت الطبقي "التجار والعمال"، وأنَّ العنف سيعود عليه وعلى أهله ووطنه بالويل والكارثة، وليس هو الطريق المستقيم الذي يريد السير فيه. وتصوّر المقرّبون منه أنَّ الطريق التي سلكها سعيد قصيرة جدّاً، وذلك لإثبات شخصيته، وتمايزه عن الآخرين، وكي يُلفت الأنظار إليه، وهو ما يزال شاباً صغيراً. لم يتأخّر سعيد في إدراك الخطأ الذي اقترفه، فانقلب رأساً على عقب، وكأنَّ شيئاً ما جبله من طينة أخرى، عندما قرأ كتاباً بعنوان "أُسس اللينينية" لستالين. وهذا الكتاب كان في مكتبة الحزب الشيوعي السوري. وعندما هجم الناس على مكتب الحزب بعد الإعلان عن قرار تقسيم فلسطين عام 1947، نُهِبت المكتبة. ومن الناهبين "زهير الشاويش" أحد زعماء المتدينين، وهو صديق سعيد.. قال سعيد بصراحته المعهودة: (وبعد أن قرأت هذا الكتاب سَكرت.. البارحة كنت رجل دين، وأجتمع مع كبار رجال الأحزاب الدينية، واليوم أجيء سكراناً إلى البيت. وعندما سمع الإخوان بالأمر جاء إليَّ أحدهم وقال لي: يا سعيد صحيح أنّك كذا وكذا. قلت له: نعم. فبصق في وجهي، فنعرته، وقلت له: هذه البصقة تنظّفني تماماً من أفكاركم.. إنّها حمَّام). ويعرف النقاد والقاصون والكُتَّاب إنَّ سعيداً قاص من الطراز الأول في سورية. وساهم في تطوّر القصة السورية فنياً، وحدَّثها، ونقلها من الموقع التقليدي ـ التصويري للواقع إلى الموقع الجديد، "المتخيّل والواقع"... كان ذلك في خمسينيات القرن العشرين. ومنذ ذلك التاريخ وفي العقود المتتالية اتخذت القصة السورية طريقاً آخر، وانتقلت فنّياً إلى مرحلة أخرى من التطور، بخاصة بعد أن تشكّلت رابطة الكتاب السوريين ثمَّ رابطة الكتاب العرب، وكان لسعيد الدور البارز في توحيد الكلمة الإبداعية العربية في رابطة واحدة، وفي توحيد صفوف المثقفين العرب. وحرَّك هذا التجمّع الأدبي ـ الإبداعي الساحة العربية، ليس بالشكل، بل في المضمون... وتُوّج هذا التجمّع بمؤتمر "أيلول 1954". ووصفت هذه المرحلة (1954 ـ 1958) بمرحلة التعددية الفكرية والديمقراطية في سورية، وبالمدّ اليساري الواسع الانتشار، الذي ضمَّ الشيوعيين والقوميين والمستنيرين والمستقلين. وبرزت أسماء إبداعية لامعة، ليس في مجال القصة فقط، بل في الأجناس الأدبية الأخرى (رواية، مسرح، فن تشكيلي وسواها). ومن هذه الأسماء (ليان ديراني ـ شحادة الخوري ـ مواهب وحسيب كيالي ـ شوقي بغدادي ـ حنا مينة ـ صلاح دهني ـ سعيد حورانية ـ أنطون حمصي ـ محمد خير فارس) وغيرهم. يعترف سعيد بأنّه بدأ بكتابة الرواية أولاً، ولم ينجح في كتابة الشعر، ثمَّ كتب القصة القصيرة. وبقيت الرواية التي كتبها محفوظة، مُهْملة، ولم تصدر، وهي رواية تتألف من 300 صفحة. قال عنها: (فيها حوالي 400 قتيل. مليئة بالقنابل اللغوية). كتب عديد القصص مُبكّراً، وهو في المرحلة الثانوية، ونشرها في الصحف الصادرة آنذاك مثل: "المنار، وكتب المسرحية، ونشر مسرحيتين في مجلّة الجامعة. وأوّل قصّة له من الاتجاه الجديد "الواقعية الاشتراكية" كانت بعنوان "الصّندوق النّحاسي". وهذه القصة (حرَّكت الأجواء الأدبية في سورية). وتلقّى سعيد الاتّهامات الكثيرة من جهات أدبية وفنيّة، فاتّهم بأنّه ليس صاحب هذه القصّة، وأنّه سرقها. ولم يُمهر سعيد اسمه الصريح في القصص التي ينشرها، بل كان يوقّع باسم "تشيخوف". لماذا هذه الاتهامات؟ يُشير الاتهاميون أنَّ فنيّة هذه القصة عالية من حيث جُملها وشخوصها وحُبْكتها، وتجاوزها لما يُنشر في الصحف السورية والعربية أولاً، ولأنَّها فوق مستوى طالب جامعي يدرس في قسم اللغة العربية ـ جامعة دمشق ـ ثانياً. جاء هذا الاتهام من فراغ دون أيّة ثبوتيات واقعية. ولكن سعيداً لم يسكت، وهو المخلص لفنّه وإبداعه، ويحترم قلمه والورق الذي يكتب عليه، فردَّ عليهم في "النُّقّاد" وهو صاحب التحدّيات، وطلب منهم أن يبيّنوا له وللكتاب والقُرَّاء من أين سرق القصة؟ كان المرحوم سعيد يمتلك فُسحة واسعة من الثقافة والوعي. شخَّص واقع القصة السورية في الخمسينيات، وبداية ظهور التيارات الوافدة من خارج الحدود، حيث وَلِد "التيار الواقعي". أمَّا في الستينيات، فظهر تيار آخر مغاير "كالوجودية" أي أنَّ كلّ مرحلة لها مؤثرات تنعكس أوّل ما تنعكس في الأدب والفن. بينما ساد في عقد الثمانينيات كما يُشير إلى ما يُشبه العُقم في القصة. أتصوّر أنَّ صفة "العُقم" غير دقيقة. فمرحلة الثمانينات أنتجت قصّاً متباين المستوى الفنّي. وبرز قاصون كُثر أصبحت أسماؤهم معروفة. وهناك آخرون أدنى مستوى. وهذا طبيعي في الحياة الاقتصادية والسياسية والإبداعية. فصفة العُقم تعني "عدم الإنجاب" وما دامت النساء تُنجب فالحياة لن تتوقف، كذلك الإنتاج الأدبي في السياق التطوري سيولد كاملاً أو ناقصاً، أو مشوَّهاً. ومَنْ قال إنَّ التطور سيسير بخطٍّ مستقيم. هناك منحنيات ومحطات للاستراحة، وأحياناً تُصاب مرحلة ما "بالوَهَن أو الترهل والإنفلاش" ويمكن أن يحدث العقم أو ضعف الخصوبة عند أفراد وليس عند الجميع أو في المجتمع كلّه! لم يكن سعيد حورانية ناقداً، بل قاصاً عن جدارة. يقول في هذا السياق: (أنا لست ناقداً، والنقد ليس ميداني). ويرى أنَّ النقد عمل غير سهل ومَنْ استسهله فشل فشلاً ذريعاً. ويدعم حديثه في إحدى الحوارات معه برأي أَعجبه للناقد غالي شكري: (لا يدّعي النقد أنّه يخلق الأدباء أو يقتلهم. النقد كالأدب فنٌّ قائم بذاته. وإذا كان الأدب يَسْتلهم مادته من الحياة، فإنَّ النقد يستلهم مادته من الأدب والحياة معاً. لذلك فهو لا يتعامل مع الأدب من موقع الخصوصية أو التواطؤ، بل من موقع النّدية والمشاركة في صنع الرؤية الإنسانية). أجاب سعيد عن عديد الأسئلة الدائرة حول القصة القصيرة، وخصائصها الفنية، وربط بين الشكل والمضمون. وأنَّ القصة كجنس أدبي يتميز عن غيره من الأجناس الأدبية بعدّة خصائص هي: أولاً: قُدْرة القصة على امتلاك التصرّف بالزمن قُدرة لا محدودة. ثانياً: إنَّ القصة القصيرة مضياف، ولا حاتم الطّائي، فهي تفتح صدرها لمختلف الأساليب، وتتكيَّف مع كلّ مُستجد. تسير دوماً على إيقاع العصر. تقبل لغة السرد البسيطة، وتتفاعل مع اللغة الشعرية المكثّفة، وتنسجم مع اللوحة الواقعية بمختلف أساليبها، وتتماشى مع الرمز وتتّسع حتى للتجريد. ثالثاً: لغة القصة القصيرة، لغة واسعة الصدر. وكلّ كاتب مُهمّ له طريقته ولغته الخاصة به، ولكن حذار إنّها قاسية، فهي لا تحتمل التكرار إلاَّ لوظيفة، ولا تحتمل الإنفلاش والإنشاء والهذيان. إنّها تتطلب التركيز الكامل، لا كلمة زائدة أو ناقصة، لا تَفَاصح ولا تسيّب، وإلاَّ اختلَّ الانسجام. إنّها أشبه بالقصيدة الشعرية الجيّدة الموزونة، مزهرية سهلة الخدش والكسر. رابعاً: مَرُكزة الحدث. كلّ الكلمات، كلّ الصُّور، كلّ الملاحظات الجانبية، يجب أن تخدم المركز، وتكون الأشعّة كلّها في اتجاه المحرق، وأيّ تسيّب، أي استطراد، أي انجراف إلى جماليات غير موظفة أو طرائف أو فكاهات مغرية يُشتّت الانتباه، ويضعف الأثر، ويُربك الوعي ويُقلّل المَنعة. لقد تأثر سعيد حورانية برسالة تشيخوف إلى غوركي. وهي الرسالة المشهورة، التي تناقلتها أجيال القصة، والكُتاب، ولا تزال تحمل الفائدة للقاصين الجُدد... وكثيرون من الناصحين يقولون: احفظوا وطبّقوا نصيحة ووصيّة تشيخوف الذي قال: (يا صديقي غوركي هل يحتاج الأمر إلى كلّ هذه الزوابع والعواصف والألوان ليستفيق الناس صباحاً. كان يمكن أن تقول: في صباح عاصف مُكفهر نهض الناس...). إنَّ القاص حورانية هو ابن "الواقعية الاشتراكية". قد سخر من نفسه عندما كتب رواية لم تُنْشر أيام الشباب، كذلك كتب الشعر وتركه وراءه. وعندما كتب القصة كان قاصاً موهوباً واستمر في هذا الطريق، علماً أنّه كما جاء في كتابه "عزف منفرد لزمّار الحي" 1994، نشر القصائد طيلة عام، لكنّه يعترف ويقول: (لم أُنظّم أسوأ منها في دائرة قطرها ألف ميل.. ثمَّ تخلّيت نهائياً عن التقرّب إلى ربّة الشعر الأبنوسية المنزلقة بأنفة من بين أصابعي الثخينة). ولن يتخلّى سعيد عن "الواقعية الاشتراكية" حتى وافته المنيّة، وودّع الاشتراكية التي عاش في قلبها ومركزها "موسكو" سنوات. وكان شاهداً على الانهيار الكبير /1991/، للتجربة الاشتراكية، وانهيار جدار برلين. وبقيت مجموعاته القصصية الثلاث وحواراته ومقالاته ومذكّراته راسخة في الثقافة السورية. إنَّ تبنّي أيديولوجية معينة أو أي مذهب أدبي أو فلسفي، لا يُشكّل عيباً للإنسان. ومَنْ قال إنَّ الأيديولوجية قد تلاشت فهو خاطئ، لأنَّها تأكل وتشرب وتنام وتفيق مع الإنسان. ويرى سعيد أنّ الواقعية الاشتراكية لبست اتّهاماً كما يُشير بعض المُتفكّهين ذوي النظرات السطحية إلى الحياة ومذاهبها، بل هو أسلوب عمل وتفكير. إنَّها النظرة إلى الواقع من خلال المفهوم الجدلي المرتبط بحركة التاريخ، لا النظرة السكونية أو الانتقادية الإصلاحية. ويجيبهم: (لهذا لا أفهم تقييمات بعض نُقَّادنا المولعين ولعاً شديداً بتصنيف المدارس الأدبية، والذين يقولون بوجود مدرسة واقعية اشتراكية نصَّبوني على رأسها). وقبل أن ينشر سعيد مجموعته الأولى، أي قبل أكثر من نصف قرن "1953" نشر عديد القصص في الصحف المحلية السورية والعربية مثل: "النُّقاد ـ الدنيا ـ عصا الجنّة ـ الأديب ـ المنار..". وعندما خرج من بيت العائلة نتيجة صراع وخلافات بينه وبين والده، بسبب تباين الأفكار، وتباعد الرؤى، اضطر أو أُرغم على الخروج من البيت واستئجار غرفة، وعاش حياة مستقلة دون وصاية أو هيمنة. وتابع دراسته الجامعية، ونشاطه السياسي والفكري، وانطلق مع ثلّة من الأصدقاء يبحث عن موقعه النهائي في المجتمع السوري، ونشر أهم القصص وهي "سريري الذي لا يئن والريح الشمالية"، وبعد أن تخرّج من كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية، عاد إلى أحضان أسرته، وأصبح يدفع قسماً من راتبه لأبيه.. وعُيّن مدرّساً في السويداء. وكتب هناك قصّتين، وعدّة ريبورتاجات، نشرها في مجلّة الجندي. وكانت عيون العسس تُطارده أينما حلَّ وعمل، وهو المدرّس النشيط المحبوب من الطلاب وذويهم، المندمج في المجتمع الجديد. القاص الذي بدأ اسمه وإبداعه يزيحان ضباب الاتّهام. وشقّ الطريق الوعرة. وبدأ يوقّع باسمه الصريح في الصحف والدوريات، وتخلّى عن "تشيخوف". ونتيجة لمواقفه الفكرية الماركسية حمل حقيبته وترك السويداء مُتّجهاً إلى مدينة دير الزور، مُدّرساً لمادة اللغة العربية. وانخرط في البيئة الجديدة التي تختلف عن البيئة الدمشقية، ولكنه المجتمع الواحد الذي يعرف سعيد مداخله ومخارجه، فلا خوف عليه. كتب في "دير الزور" "وأنقذنا هيبة الحكومة ـ محطَة الـ 47 ـ عريضة استرحام ـ قيامة العازار" ورواية طويلة بعنوان "بنادق تحت القش". وهرب سعيد من دمشق إلى بيروت.. كان مطلوباً لانتمائه الفكري: ومن طرائف مسيرة الهروب، كما يذكر في مذكراته، أنّه عندما وصل مع رفاقه إلى قرية لبنانية وأراد معرفة "أبو طنّوس" الذي يقوم بتهريب الناس إلى طرابلس اللبنانية الشمالية، لكنًّ سعيداً عندما رأى ضوءاً يتسرّب من شقوق نوافذ أحد البيوت بعد منتصف الليل، دار ورفاقه حوله وقرعوا الباب، فزعَق أحدهم من الداخل "انقلع يا..." كلمة بذيئة من القاموس اللبناني اليومي... وتابعوا دورانهم حول البيت، ونظروا من الشبابيك، وإذ برجال الشرطة في الداخل يسكرون. وتبيّن لهم أنه ليس بيت "أبو طنّوس" بل هو مخفر للشرطة!. هذه من الطرائف والنوادر التي حدثت معه. التجأ سعيد بمساعدة الرفاق إلى أحد البيوت السرّية في بيروت. كتب هناك مسرحية طويلة بعنوان "إنسان اسمه فرج الله الحلو" ثمَّ كتب قصة "المهجع الرابع". عاد إلى سورية بعد الانفصال، ورفضت الحكومة السورية عودته للتدريس، فرجع إلى لبنان، وتعاقد مع مدرسة "الفرير" (1963 ـ 1965) وكتب في هذه الفترة مجموعة قصصية بعنوان "شتاء قاسٍ آخر" ومجموعة ثانية بعنوان "سنتان وتحترق الغابة". ونشر فصلين من رواية "بنادق تحت القش" في مجلّة "الثقافة الوطنية". وفي هذه الفترة لم تتركه الشرطة اللبنانية، فاستأنفت المطاردة والبحث عنه، وفي أحد الأيام اقتحموا غرفته في المدرسة، وأخذوا كل ما كتبه من قصص "53" قصة، أي بما يساوي أكثر من خمس مجموعات ومسرحية "صياح الديكة" ورواية "بنادق تحت القش" وصدر الأمر بإتلافها! قال سعيد: (والله لن تفهموا الحياة إلاَّ إذا درستم فهيمة العرجاء، وصلاح السمّان، وأبو علي البوسطجي، الذين يسكنون إلى جواركم.. إنكم تتكلّمون عن العالم ككل وعن البشر ككل، وعن المأساة ككل، ولكنَّكم لا تعرفون ما اسم جاركم، وكيف يعيش، بل وتعتقدون أنّكم تهينون الأدب، إذا ما تطرّقتم إلى هذا الموضوع). أوّل مجموعة قصصية "وفي الناس المسرّة" كتب مقدمتها الروائي حنا مينة، صديقه الحميم. قال عنها: (ليس هذا بالعنوان الفخم، إنّه بسيط كالناس الطّيبين. حملني على أجنحة غير منظورة. انتشلني من حاضري، ونقلني إلى مستقبلي، ثمَّ أوقفني في دائرة ضوئية تحت حزمة وهّاجة من نور الفكر الإنساني. وأَلمح من وراء السطور موهبة قصصية مباركة، وألمس روحاً إنسانية صافية). تضمُّ هذه المجموعة تسع قصص هي: (الطفل يصرخ في الظلام ـ الساقان السوداوان ـ وغاب القمر ـ أوسمة الشيطان ـ الخيط المشدود ـ سريري الذي لا يئن، وفي الناس المسرّة". ونال القاص الجائزة الثانية على قصته "الطفل يفرح في الظلام" في مسابقة المجلّة "النُّقاد" العام 1953. وكُتبت على طريقة التقطيع وتتألف من ثلاثة مقاطع. الحيّز المكاني في هذه القصة "محطة الحجاز" وهو فضاء حزين يُخيّم على الزمان، في وقت متأخر من الليل "الساعة الثالثة والنصف". فضاء دافئ، لذيذ، يتسرّب عبر ثقوب ذاكرة حُلُم. يمسح ظهر الأُمّ وهي تلفّ طفلها "الحُلُم" في حضنها، في وقت غير مناسب لولادة الأحلام الجميلة، والدهان ينفث رائحته، إضافة إلى روائح أخرى، كرائحة الأنفاس، والأجساد، التي تنطلق كألسنة النار في الهشيم، بينما المرأة بحالة ذهول وارتباك، تهجس تحت اللّحاف، وتسمع أنيناً ووجعاً، وصفير القطار يدوّي، يشقُّ السّكون، ودقات عقارب ساعة الحجاز تُعلن نهاية حياة حُلُم يُعشّش في الذاكرة، ويتخندق، رافضاً الخروج، مُعتصماً، رافعاً راية الفرح القادم! هلوسات مجنونة تدسُّ أنفاسها في جيوب أعماقٍ حزينة. يتداخل الحوار والتداعيات بين الزوج والزوجة... في مشاهد بصرية صامتة، لكنّها تتحرّك في أذهانهم، وتتلاقى في مضامينها دون همس. المسألة الرئيسة في هذه القصة هي الاختلاطات التضادية المتناقضة بين الزوجين، فهما ينتظران طفلاً يُضفي عليهما رائحة السعادة الزوجية. فالأم طمأنها الطبيب "شوكت" وقال لها: (إنَّ سبب هذا التعب العميق قد يكون أولى علامات الحمل) ص 11. وقال الزوج لها عكس ما قاله الطبيب: (يا حبيبتي العزيزة.. يا صديقتي، لن تري الأولاد مطلقاً) ص 12. ويغمر الفرح الزوج، لأنه سيرتاح من "الواع والويع والمرض والألم". وأكّد لها أنّه عقيم، وسيدخل مشفى الجامعة الأميركية في بيروت. تتقاطع خيوط تيار الوعي الهاجسية بين الزوجين. كلّ واحد يريد أن يُبيّن للآخر بالبراهين ما يرغب أن يكون عليه مستقبل الزواج. وكان شعور الزوجة، بأنَّ زوجها يفكّر بما تُفكّر به، والسرير يطقطق تحتها.. جسدان يتوحدان في سرير واحد، لكن الروحين ينفصلان كلّ روح تسكن في بيت داخلي وتتشرنق، وتُغلق عليها الباب والنوافذ! يُبيّن السرد الحكائي أنَّ الزوج في حالة سُكر، تفوح رائحة العرق منه، بينما قطار الحجاز يُصفر، ورغم ذلك يرتقي إحساس الزوجة، ولا تبخل على نفسها بتناول جرعة تفاؤلية، وتقول: (إنّه يحبّني حُبَّاً لا شك فيه، ولكنّه يتحكَّم في عواطفه بسهولة) ص 10. وكأنَّه عرف ضمائرها ومكنوناتها، وما تهجس به. وحرَّضت هذه المشاعر لسانه ليقول: (يا عزيزتي.. هل تهتمين حقّاً بالأولاد؟) ص 12. وكان الفضاء في غرفة النوم يُضفي الرومانسية على الصمت والسكون. ويدل على ذلك الضوء الأحمر، الذي غاب في الليلة الثانية. اهتمَّ سعيد حورانية بالمظهرين الخارجي والداخلي لشخوصه "الجوّاني والبرّاني". وفي هذه القصة سبر أغوار الشخصية "سيكيولوجيتها". وهي قصة يمكن تصنيفها ضمن "تيار الوعي" لأنَّ الزوجين صامتان، وما يتحرّك في الباطن، تعكسه التداعيات المبثوثة في حُلم الزوجة على شكل مشاهد وصور متداخلة في طيّات السرد. تُقدّم القصة لوحة معقّدة من المعاناة والحرمان من الإنجاب أولاً، وكيف تعكس هذه المسألة العلائق بين الزوجين ثانياً، وتدفع المتلقي للأسئلة عن مصير الزوجة العاقر في المجتمع الذكوري المحافظ. هل يحدث الطلاق، ويتزوج الرجل؟ ما هو موقف الزوجة إذا جلب الزوج ضرّة لها؟ خمس سنوات وهما على هذا الحال من التنافر التوافقي أحياناً والتنافري في أحيانٍ أخرى. ووصل الأمر بالزوجة إلى الغيرة الجنونية من الخادمة، عندما تُرضع طفلها أمامها، فكانت تكره رؤية هذا المنظر، وتكره صمت زوجها وبرودة أعصابه، وتهذيبه الزائد عن حدّه إلى حد الإفراط، والذي يخفي أشياء أخرى خلفه! وتتداخل الحكاية الكبرى "حكاية الزوجين" مع الحكاية الصغرى "الخادمة المُرضع" وهذا التداخل الحكائي، ينتج عنه تداخل بين الحُبْكة الرئيسة، والحُبكة الثانوية، ضُمن سياق سردي قصصي واحد مُنسجم. وتدخل شخصية جديدة، تُخفّف من ألم الزوجة، وهي كالأسبرين، يُسكّن الوجع، ولا يصبّ البنزين على الحرائق. وجاء دور "أُمّ الزوجة" لتضييق الفجوة الروحية بين صهرها وابنتها. قالت الأم: (يجب أن تفعلي شيئاً!) ص 19. لكنَّ الحلّ لم ينجح، فالزوج يعود في تلك الليلة، ولا ينفع الكلام معه لأنّه (يتمدّد كثور مُجهد، تفوح مع سعلاته رائحة العَرق) ص 20. وتصل الأحداث المتجمّعة في بؤرة درامية واحدة إلى ذروة الحُبكة التداعيّة. وفي جلسة هادئة دلالة التقارب والارتياح وقطع الخيوط وهدم الحواجز بينهما، تتأمّل الزوجة الشعيرات البيض، الموزّعة بين شعر زوجها الغزير. تقول: (لقد صنعتُ لك اليوم عشاء شهيّاً) ص 20. وأقول أخرى تُساهم في ردم الخندق: (لقد قرأتُ مقالتك الأخيرة) ص 21. وبدأت تتحوَّل إلى إنسانة أخرى، إلى زوجة متسامحة بعد أن أباح لها الطبيب بالسرّ المُخبّأ عنها، بعدم قدرتها على الإنجاب. عندئذٍ سألت زوجها: لماذا لم تقل لي كلّ شيء.. لماذا؟ يجب أن تتزوّج ثانية!) ص 24. إنَّ تبدّل الموقف والسلوك لم يخضع لشروط ذاتية صعبة، ولم تكن "الأنا" الزوجية من طرف الزوجة صارمة في كلّ شيء، فالحياة أوسع وأرحب. وكذلك الطرف الآخر "الزوج" الذي كان يعلم من بداية مشوار الزواج أن زوجه عاقر، لكنّه كان يُقدّم الحجج كي لا يخدش مشاعرها. هذان الموقفان صحيحان، ولو لم يبح أحدهما للآخر... كانت كلّها تصوّرات تتداعى والزوجة نائمة، وتغرق في بحر حُلُم يدغدغها طوال هذه المدّة. وتأتي "لحظة التنوير" لتكشف للمتلقي أنّها كانت نائمة: (عندما أفاقت كان الصمت يكاد يلمس، فمسحت العرق عن جبينها، ثمَّ مدَّت يدها وأشعلت الضوء الأحمر الذي علاه الغبار، ثمَّ نظرت إلى مكانه الفارغ وإلى ساعتها وتنهدَّت... هناك خمس ساعات طويلة حتى تدقّ ساعة الحجاز ثلاث دقَّات) ص 26. إن قصص هذه المجموعة، تعبّر أحداثها عن عائلة "حورانية" شخوصها "ضمير المتكلّم". ويعترف القاص نفسه، بأن قصصه تعكس تلك الأجواء العائلية الاجتماعية. تعكس صراع رجل مع مفاهيم لم يَعُد يؤمن بها، وخروجه من عائلته وسخريته من ذاك النوع من العدالة المسكينة التي يبشرون بها. ويقول: (إنَّ الماركسية هي مفتاح العدالة). لم يتخلَّ القاص عن الحوار في قصصه، فهو الذي يلوّن القصة بالمشاهد. والحوار قصير، مكثف، سريع، كما في قصة "سريري الذي لا يئن". أرادت الشخصية الراوية "ضمير المتكلم" أن تودع الغرفة الحزينة البائسة قبل الرحيل. وينعكس هذا على الإخوة (سعيد ومديحة وسعاد). قال: لا تنسي فرشاة الأسنان. قالت مديحة: لقد وضعناها. وأردفت سعاد: لقد كوينا لك كلّ ثيابك! ص 70. ثمَّ يسمع كلاماً من أخيه: وأنت تطرّفت كثيراً يا حامد. ص 72. ويرى حامد "ضمير المتكلم" أنَّ إخوته كانوا يقفون في بعض الأحيان في صفّه، عندما يصطدم مع أبيه. قال لهم: (كنتُ دائماً في نظركم ذلك الضّال، العاق، المطارد...) ص 73. كانت الأفكار تدور في فضاء ضيّق، والدموع تتهاطل على الخدود. وهذه هي المرة الأولى التي يترك البيت فردٌ من الأسرة، لذلك كانت غصّة الفراق مؤلمة، ورغم كل شيء كان السرير جثّة حديد لا يئن. تركه حامد خاوياً. ينظر إليه نظرة حزينة. تساءل: (كيف يعيش في غرفة غريبة بين أناس غرباء على سرير يئنّ تحته كلّما قام بأية حركة) ص 75. ولكل فرد من أفراد الأسرة دور، كأنَّ القاص أراد أن يؤرّخ لعائلته، وأن يُخصّص لها مجموعة قصصية، ويعطي لكل واحد حصّة ودوراً. وتظهر الأم في قصة "أخي رفيق" عندما تتدخل في الحوار الدائر بينهما، وهما يتشاوران للذهاب إلى المسبح، ولو نجح تدخلها لما حدث ما حدث، لكنّ الأخوين لم يستجيبا لها، ووافق سعيد أن يبقى في البيت، وينتظر "أم تحسين" الشيخة التي ستكتب له حجاباً، وتكبّسه. وفعل ذلك، وبعد انتهاء التكبيسة ترك أُمّه وأخذ الطريق مع رفاقه إلى بستان "البحصة". وحدثت الفاجعة، ويغرق رفيق في بركة العرق سوس ويموت. وتبدأ المناحة والعويل. ورغم ما يجري، للقصة أبعاد ساخرة في بعض الصّور المدسوسة في طيات السرد الحكائي، عندما يرى سعيد إحدى القريبات تغرف الماء بفنجان وتصبّه في عينيها لتبدو باكية، لأنّها تعتقد أنّ الدموع مصدر وحيد للحزن والألم. ويصف رفيق المتوفى وصفاً دقيقاً: (رأيتُ كومة بيضاء على السرير، وقد انتفخ وسطها، ونظرت إلى أبي الصَّامت، وأمي الباكية، وأخوتي المُطْرقين.. كانت عيناه مغلقتين ووجهه أصفر. وقد تلبّد شعره الجميل، ولكنّه كان لا يزال يبرق.. وجلستُ وأنا مطرق) ص 81. لقد اختار الكاتب تيمات مناسبة، سطحية وعميقة، اجتماعية وسياسية. وتمكّن من تبئير الحدث في محرق واحد. وتحكَّم في العملية السردية، وكانت المفردات بسيطة بعيدة عن الاستسهال والإنشائية، وتشير الدلالة أنّه صاحب ذهن متفتّح، ويمتلك المفاتيح الفنيّة الحداثية، ومعرفة ما يجري بدقة في البيئة والمجتمع الذي يعيش في كنفهما. وعنوان المجموعة، هو عنوان آخِر قُصّة فيها "وفي الناس المسرّة". وهذا العنوان مُقتطع من قول للسيد المسيح، ويتناص معه. وجاء في العهد الجديد: (المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرّة). نلاحظ أن الكاتب أخذ الجملة الأخيرة التي تحمل دلالة البشر ومسرّاتهم. وفي هذا القول ثلاثة مستويات أو ثلاثة أبعاد. والرقم الثلاثي له دلالة مقدسة (باسم الأب والابن والروح القدس). وفي هذه الآية يكون البُعد الأول في الأعالي، والثاني في الأرض، وهما بُعدان تأمليان، يشكلان قاعدة الأبعاد الثلاثة، وينتهيان بالبشر أو بالناس الذين يملؤون الأرض. وتعكس القصة أفراح الناس في عيد الميلاد، في إحدى احتفالات المدينة. وتبين اقتحام الشخصية الراوية هذا المكان الذي يحمل وجهين: الوجه الجميل الزاهي بأنواره وأفراحه وناسه، والوجه الآخر المختبئ وراء الستار أو وراء الأضواء، ويدخل الراوي "ضمير المتكلم" هذا المكان للبحث عن "سميرة" فيدهشه الجمهور الذي يحاصر بيتها، ويسمعها تخاطب الناس: "لا أشتغل الليلة.. عفواً) ص 100. ويدخل إلى منزل سميرة. يقول: (جلستُ كتلميذ مذنب وأخذت أتطلّع إلى الغرفة الغريبة) ص 101. ويجد في غرفة سميرة سريراً، لكنَّ المكان والسرير يختلفان عن غرفته وسريره. فسريره يئنَّ من الفقر والتشرد والجوع والحنين، ومرة تمتطيه هواجس زوجين يبحثان عن سعادتهما. وفي هذه القصة يختلف السرير في غرفة سميرة عن بقيّة الأسرّة (فإلى جانب السرير كانت هناك شجرة متواضعة قد صُفّت عليها أصناف اللّعب وأضواء باهتة مع تماثيل كثيرة) ص 101. إنّ الشجرة في غرفة سميرة التي "تبيع جسدها"، هي شجرة الميلاد. وفي هذا اليوم لم تستقبل سميرة زبائنها. أرادت أن تكرّسه للعيد، وعادت إلى "مسيحيّتها". ألا يحقُّ لها أن تحتفل بهذا العيد وتتخلّص من لوثات العُهر يوماً واحداً؟ وفي هذا السكون المشوب بالحذر، تُدلي سميرة باعترافاتها، ومَنْ الذي قادها إلى هذا الموقع المشبوه، أي أنّها جاءت إلى هذا المكان بغير إرادتها.. أتت هرباً وخوفاً من "خنجر الثأر".. أرادت في هذه الليلة ألاَّ تشتغل لأنّه عيد الميلاد، فهي تُحلّل وتُحرّم، والحلال والحرام هما صناعة بشرية، وسميرة هي بشر تعترف بذنوبها، وهي صادقة مع نفسها لا تريد أن تلوّث هذا اليوم المقدّس بالعهر، وهذا أسمى ما تملك للتخلّص من ذنبٍ رافقها في صباها، ورُبّما سيرافقها طيلة حياتها!.. ورغم كلّ الأخطاء فهي امرأة عطوفة، تحبّ الناس، وتقول: (حياة أكثر الناس عندنا كئيبة جدّاً) ص 104. ارتعش الراوي /الكاتب مندهشاً، عندما حدّثته عن رجل سكران قاء ما في بطنه على صدرها، لكنّها حافظت على توازنها الأخلاقي والإنساني، ولا تريد أن تزيد قهره قهراً آخر، بل أشعرته أنّه إنسان، فمددته على السرير، وغسلت صدرها، وقدّمت له الليمون ليصحو، ويخلّصه من مرارة السُّكر. المجموعة الثانية لسعيد حورانية هي "سنتان وتحترق الغابة" تضمّ عشر قصص (المهجع الرابع ـ الجنازتان ـ ثلج هذا العالم ـ محطّة الـ 48 ـ الجوازات الثلاث ـ سنتان وتحترق الغابة ـ صولد ـ مشروع إنسان ـ من يوميات ثائر - الخفاش يفتح عينيه). كتب مقدمة المجموعة الشاعر العراقي سعدي يوسف، المؤرخة "20/6/1994" بعد وفاة سعيد بأسبوعين، وهي طبعة ثانية. في المجموعة قصتان مؤرختان هما (المهجع الرابع 1960، وثلج هذا العام 1953، لكنّها صدرت عام 1964 وهي المجموعة الثالثة. أما الثانية "شتاء قاسٍ آخر" فقد صدرت في العام 1961 عن دار الفارابي، وصدرت الطبعة الثانية في العام 1979. ويرجّح سعدي يوسف أنَّ قصص هذه المجموعة، كُتبت عندما كان سعيد مدّرساً أواسط الخمسينيات، باستثناء المهجع الرابع، وهي مجرّد ذكريات عن المعتقلين في سجن المزّة، أنقذها فنيّاً "منصور الميداني". تُصنَّف قصة "المهجع الرابع" من أدب السّجون، الذي انتشر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، نتيجة لحملات الاعتقال آنذاك في سورية ومصر في عهد الوحدة والانفصال، والتي طالت الشيوعيين أكثر من غيرهم. المكان واضح في القصة "سجن المزّة" وهو الفضاء الزمكاني. أمّا المهجع الرابع فهو الحيّز المكاني، الذي تتفاعل فيه الأحداث، ويضمّ عشرات المعتقلين السياسيين. واهتمَّ القاص بوصف المكان من الداخل، نظراً لأهميّة هذا "الداخل" ولمعرفة الحياة اليومية للسجناء والعذاب الجسدي والنفسي الذي يُمارس عليهم، بسبب الرأي أو المعتقد، ولمعرفة طبيعة النظام الشمولي والديكتاتورية العسكرية. يقول الراوي من داخل السجن: (العتمة ذات الرائحة المتفسّخة، زنزانات انفرادية تنتشر في كلّ مكان، انفتاح العيون على النُّور الباهت المهزوز.. وتصاعد من المهجع الرابع صوت عويل خافت ثمَّ متقطّع..) ولم يُبدّل أسماء الشخوص، فهي حقيقية ومعروفة، مثل: "رئيس لجنة التحقيق، عبد الوهاب الخطيب". ويُبيّن أساليب التعذيب، وأنواع الطعام الرديئة، واللَّسع بالكهرباء. اهتمّ القاص بـ "عتبة النص" فقد استهلّ كلّ قصة بأقوال لكتّاب ونقاد ومُبدعين غربيين. وترك فُسْحة بياض بين العنوان والاستهلال.. بقعة ضوء للتأمل، وهذه من حقّ المتلقي والناقد. وفي هذه القصة حضر همنغواي كدعامة للحقّ والكرامة. قال: (إنَّ من الممكن قهر الإنسان، ولكن من المستحيل تدميره). وإذا وضعنا شخوص القصة على مشرحة النقد والفرز الاجتماعي، نلاحظ أنَّهم جاؤوا من انتماءات وشرائح اجتماعية مختلفة. فالمحقّق عبد الوهاب والرقيب بيطار والعريف نزار والسجّانون، يمثّلون السلطة القمعية. أمَّا السُّجناء فمنهم البقّال والمعلم والمهندس والعامل، أي الفئات المضطَهَدَة. وهناك مَنْ يمثّل القانون والعدالة، وهو المحامي سليمان الحلبي... ورغم أشكال وأساليب التعذيب التي تُمارس على مئة وستين معتقلاً، ورغم كل السواد في هذه القصة تظهر البقع البيضاء من كوى القاووش الملتصقة بالسقف والتي لا تصل إليها الأيدي. وهذه الانفراجات الضوئية أخرجت السرد من سياقه، وبعثت في المتلقي الأمل، فخرج صوت من داخل الزنزانة المجاورة للمهجع.. صوت غناء شعبي: (يا ديرة مالهاش مثيل بسهولها وجبالها /حَلْق العدا يشرق دِما وقت اللّقا إِحْنا لها/. ويخلّص "منصور الميداني" القصة من سرديتها الواقعية، الأفقية. أي أنَّ القاص اشتغل في الطبقات السطحية العليا دون النزول إلى أعماق المحيط القصصي الحكائي، وتأخر حتى جاء "الميداني" ليعبّر عن شجاعة ومبدأ مجبول بالعرق وحُبّ العمل والوطن. وهو صاحب فُرن بحيّ الميدان، لا يتعاطى السياسية، ولم يدخل الأحزاب. وهذه لقطة جميلة أنقذت العمل. ولو كان القاص أدخل في شخوصه شخصية تنتمي فكرياً إلى اليسار، لما كان هذا التوهّج. فجاء الميداني الذي يتابع قراءة الصحف، وينتخب الناس الذين يعرفون أكثر من الجلوس على الكراسي ورفع الأصابع.. الميداني يُمثّل القاع الاجتماعي الواعي، فهو ليس مثقفاً أو طبيباً أو مهندساً. وبهذه البساطة يدخل القاص في عُمق الأحداث السَّاخنة. لقد أُطلِق على فُرن الميداني اسم "الفُرن الأحمر" وكلّ إنسان وطني ويمتلك ناصية الوعي يُسمَّى "بالأحمر" وحتى هذا اليوم ما تزال هذه التسمية راسخة في الذهنية المثقفة والشعبية. وهذه المسألة لها دلالة واضحة، بأنَّ الفكر الماركسي له دور رئيس في تكوين الوعي الاشتراكي والوعي الطبقي، التاريخي. وكان الميداني مُستعدّاً لمثل ما وصل إليه، لأنَّه كان يتابع أخبار المعتقلين، ويعيش يومياً حالات المطاردة والمداهمة في حيّ الميدان، لذلك كما قال الراوي: لابُدّ أن تصله "طرطوشة". وعندما دوهم الفرن واعتُقل الميداني ذكّر زوجه بوصيته وقال لها: "قولي للأولاد أبوكم حبسوه الظُّلاَّم، ولا تقولي لهم سافر أو غاب أو... مثل عادة الأُمّهات. قولي لهم حبسه الظُّلاّم وربَّهم على الظلم والظالمين" ص 25. ولم يستسلم الميداني ببساطة إلى القوة المداهمة "المكتب الخاص" فقد دافع عن نفسه، ووقف أهالي الحيّ إلى جانبه، وواجهوا جميعاً المباحث والسيارات المُصفَّحة. وسال الدم منه. وكسروا له سنيّن. ورشقتهم زوجه بالحجارة، وسبَّتهم وجرحت أحد الشرطة في رأسه. وتنتهي القصة ـ بعد "25 " صفحة من السرد المباشر، لكنّه جذّاب، يُثير المتعة، بلغة متينة ـ بنشيد المعتقلين: اضربْ يا جلاّد/ واقفلْ يا سجَّان/ لن تقوى الأصفاد/ أن تمحو الإيمان/ وفي كلّ قصة استهلال. ففي قصة "الجنازتان" لشكسبير دور وهو القائل: (غداً وغداً وغداً، وكلّ غد يزحف بهذه الخطى الحقيرة يوماً بعد يوم، ألا انطفئي أَيَّتها الشمعة الضئيلة فما الحياة إلاَّ ظلّ يمشي). ويأتي سارتر في قصة "ثلج هذا العام" ليقول: (إنني وحيد، ولكنّي أسير كفرقة تهبط نحو المدينة". ويَحْضر غوركي في قصة "الـ 47: ويقول: (لقد سمعتُ الفاشيّة من فم شرطي قازان قبل أن أقرأ كلمة واحدة لنيتشه). وهكذا في القصص الأخرى. ومن الملاحظ أنَّ القاص لم يستهل إلاَّ قصة واحدة من موروثنا، لشاعر عربي اسمه "عبد المطلّب الأمين" في قصّة "الخفّاش يفتح عينيه". قال الشاعر عبد المطلب: ورماد اللفافة السوداء نجمة الصُّبح يا حطام الليالي تحت أقدام كبرياء الضياء خلفتك الظلماء عقباً ذليلاً السؤال: لماذا استقدم الكاتب كلّ هذه الأسماء من الغرب، ودوّنها في عتبات قصصه؟ هل لأنّهم فكرياً أقرب إليه؟ لماذا أغفل الأسماء العربية؟ أسئلة تطرح نفسها، ولا ينفرد سعيد بهذه الخصوصية وحيداً، بل أنَّ معظم الكتاب والمبدعين "يستقوون" بالغير، وينسون أبناء جلدتهم. وعلى كلّ لا يُعيب الكاتب، وكانت الأقوال مفتاحاً للقصص، وعتبة للدخول في قراءتها، متطابقة معها في المضمون والهدف. لقد فازت قصّة "جنازتان" بالجائزة الأولى عام 1951، في مسابقة القصة لجمعية مُحبّي الفنون الجميلة بدمشق. والقصة بأحداثها وشخوصها من حيّ الميدان. والشخصيتان (الأم والابن) هما الشخصيتان الرئيستان. ويدفع الحرص الابن بسخرية براغماتية للقول حرصاً على بقاء أُمّه على قيد الحياة، أن يفقد الناس جميعاً أُمّهاتهم في هذا اليوم "ليشعروا بعمق مصيبتي" ص 38. ويرى الابن الحزين أن الموت غير عادل. يُفاجئ الإنسان، ويقطف الثمر اليانع الطَازَج، ويترك الأشجار الهرمة، وأثمارها اليابسة التي ليس لها مذاق، حُرّة طليقة في حقل الحياة. فهناك مَنْ مات بالسلّ الرئوي "الجدّة" وهناك مَنْ مات بلدغة ثُعبان "الجدّ". أمّا الحفيد فمات تحت أنقاض سيارة في وادي خالد، وكذلك حطّم مرض السّلّ جسد والدته! ينطلق سعيد حورانية في قصصه من مقدمات فكرية ورؤية واضحة، يعرف الزاوية التي يقف فيها، ليرى الناس وحركتهم، بكلمة يمتلك زاوية الرؤية والرؤى، وهو حاذق، نسيج قصصه مُلوَّن بالكلمات الطيفية القُزحية، ليصنع منها بساطاً محبوكاً حُبْكة درامية، تأويلية مُقنَّعة، والناقد هو الذي ينزع هذه الأقنعة ليكشف ما يختبئ ويختفي خلفها. يرتقي قلم الكاتب مبدعاً، ويحفر في جسد القصة، بادئاً بالمظهر الخارجي، مُجّمعاً نُتف الأخبار في حُزم، ليصل إلى العقدة. أي أنّه يعجن الحدث من خلال التفاعل بينه وبين الشخوص المنفّذة، الفاعلة، المؤثرة، والمتأثرة بما يجري، مستخدماً لغة سريعة، متحرّكة، مبتعداً عن اللغة "السحرية"، كالعجّانة تترك عجينها يتمدّد ويرتاح، وتغطيه بقطعة قماش، وتتركه يتخمَّر، ثمَّ تخبزه أرغفة مُقمَّرة، شهيّة، تدفع رائحته عن بُعد لأي شخص قادم لالتهامه! تتداخل التداعيات القادمة من الماضي، ومن الأماكن التي عمل فيها مدرّساً مثل "السويداء، ودير الزور" وبقيت تربطه علاقات حميمة مع الطلاّب والناس. تذكَّر وهو يشرح أحد دروس اللغة العربية، وصيّة والده في قصة "ثلج هذا العالم" قال له والده: (في رقبتك خمس أنفس تنتظر المعاش، بدون حماسة زيادة عن اللزوم، الله يرضى عليك) ص 42. لم يلتفت سعيد إلى القضايا الحياتية اليومية فقط، بل انطلق إلى البحث عن حرية الإنسان وكرامته، عن الاضطهاد والسجون. ويشكو له الطالب "فهد نصر" قائلاً: (إنّهم قبضوا على أخي خالد وضربوه وأخذوه إلى الشام) ص 45. وعندما قرأ الطالب "علي الشوفي" موضوعاً عن الحرية. قال المدّرس سعيد حورانية: (لقد امتلكوا الجرأة) فقالوا له: (أنت علّمتنا ذلك يا أستاذ) ص 47. لقد ربط القاص الحرية بالخبز والسلام. وتقود الذكريات إلى "جبل الدروز" وتعود "الأساطير" كما يُسمّيها، وهذه سخرية جادّة لها دلالتها، تُبيّن الفُقر الذي كان الناس يعانونه. يقول: (أسطورة استعمال الخبز الأبيض كأدام داخل خبز الذرة والشعير الأسمر) ص 48. وكأنّه يُفلسف هذه الأسطورة الحقيقية (بالخبز والحرية يحيا الإنسان). فالخبز مقابل حياتي تعاضدي في الصراع بين الفقر والاستغلال والطموح والحرية. وخبز الذرة والشعير دلالة على الانسحاق الطبقي. أمَّا الخبز الأبيض فهو الهدف للتحرّر من الجوع. إنَّ عيون العسس آنذاك، وهي أدوات القمع للأنظمة الديكتاتورية لم تترك سعيداً على حاله. كيف يتحدّث بجرأة عن الخبز والحرية، ويقف مسانداً الفقراء والمضطَهدين؟ وعندما طلب الطلاب من سعيد أن يتحدّث عن الحرية مرة ثانية، أخرج من محفظته أمراً إدارياً وقرأه: (إذا لم يلتحق صاحب العلاقة المذكورة في الوقت المنوّه عنه، فهو يُعدُّ مُسرَّحاً من الخدمة، وفقاً لأحكام القانون 32 الصادر في 11/7/1942، والمعدَّل بتاريخ 5/3/1952) ص 49. ويرحل الكاتب قسراً، ويوّدع السويداء. ويترك "ثلج العالم" وهو يُردّد: (الثلج ينهمر والأستاذ يبتعد عن المدرسة. نقطة سوداء في المحيط الأبيض.. كان الصقيع يتكسَّر تحت قدميه، وهو ينتزعهما بقوّة وعزم) ص 50. وتأخذ قصصه مساراً آخر، عندما يُنقل قسراً إلى "الحسكة". وتظهر الأرقام الفردية والزوجية، مثل: (الساقان السوداوان، الجنازتان، سنتان وتحترق الغاب، الـ 47، الجوازات الثلاث). بيئة جديدة.. جغرافية المكان تختلف عن جغرافية جبل العرب.. لغات ولهجات.. خليط بشري.. علاقات اجتماعية جديدة.. قبائل.. بدو وأنصاف بدو، وصحراء، وأخذ بالثأر، وسواها.. رحلة طويلة من الشام إلى الحسكة. وبؤرة القصة في محطة الـ 47: (السيارة تسير في بحيرة حقيقية. الماء يجري هادراً كأنّه الفرات) ص 56. تتداخل الحكايات في هذه القصة "السبعا وأربعين" ويتداخل السرد الحكائي، وتتعدّد الأمكنة. وتبدأ القصة بحكاية رئيس المخفر، المتوطّن من أيام الفرنسيين، والعميل لهم.. تتعدّد الزوجات، ويأخذ الظلم أشكالاً عديدة.. قمار.. ملكيات كبيرة.. وصغيرة.. عمال زراعيون.. ورغم كل هذه المواجع والمواقع المؤلمة، الظاهر منها والباطني، المكشوف والمستور، تُطعّم القصة بالرومانسية التي كانت غافية، ثمَّ تنهض من بين العذابات المُرّة، فينسى المتلقي كل الهموم والأوجاع، التي تداخلت في لُهاثه وأنفاسه مع دقّات قلبه، ويتغير المنظر عندما (كان يطلّ من حين لآخر من وراء زجاج نافذة صغيرة وَجه نسائي عذب وعينين واسعتين متوحشتين، كعيني الفجر، تنسد على صدغيه جديلتان قاتمتان منفوشتان بعض الشيء) ص 64. وتنتقل الكآبة والتعاسة، وحياة الذل والإذلال، كالنار في الهشيم في قصص حورانية. لا يترك شاردة وواردة إلاَّ وينسج منها قصَّاً يتلاحم فيها الخيال بالواقع. ورغم جمالية المكان وأضواء المدينة "دمشق" وضجيجها وناسها وأسواقها وآثارها وتنوّع الأعمال والمهن والصناعات، لا يضيع "الفقر" كقادم أو ضيف، بل هو من نسيج هذا المجتمع المديني. فهذه فاطمة، بائعة اليانصيب في قصة "سنتان وتحترق الغابة" عنوان المجموعة القصصية. تصيح فاطمة: (يا نصيب بُكْره السَّحب) ص 75, تبدو الكآبة حشرة مؤذية تسرح في عينيها وعلى خدّيها، ويتمشى التعب والإرهاق كعاشقين فوق جسدها النحيل، ويلتصق النُّعاس بأطراف جفنيها، لكنّها أي فاطمة تُثير الانتباه، عندما اهتزّ ردفاها، لأنّهما يبرزان شيئاً فشيئاً ليأخذا "نصيباً من نظر الرجال" ص 76. الحوار في القصة تعبير مشهدي في هذا الفضاء المشحون، التفاعلي بين الجسد المُغري لبصر الرجال، والطفولة المعذّبة لبائعة اليانصيب. إنَّ التباين في الأمكنة تعكسه الأمكنة نفسها من الداخل، كمقهى "الهافانا" حيث روّاده من الكتاب والسياسيين، يتناولون المشروبات الساخنة والباردة، يختلف جذرياً عن بيت فاطمة في حيّ الميدان، وهو حيّ القاص نفسه. ومظهر فاطمة وأختها يعكس تماماً البيت الذي تسكناه مع والدهما (غرفة قذرة مختنقة برائحة دخان النّوع الخامس). لا يزال والد فاطمة، الفلسطيني المُهجَّر يتحدّث بأمل كبير عن العودة إلى فلسطين: (كنت أسحب يومياً سبعين قرش فلسطيني) ص 78. وتأتي المصائب والآلام متلاحقة. لا يكفي أنَّ أبا إبراهيم طُرِد من بيته ووطنه. وبينما هو وعائلته في رحلة العذاب، تتدحرج أُمّ إبراهيم من أعلى الجبل إلى أسفل الوادي، وتموت... ويموت إبراهيم، وتختفي البنتان "سعاد وفاطمة"... وهكذا يحترق كلّ شيء! و"شتاء قاسٍ آخر" هي حسب تاريخ الصدور والنشر، تحتلّ المجموعة الثانية، والتي بين يدي هي الطبعة الثانية 1979، مُهْداة إلى الصديق الحميم الروائي الكبير "حنا مينة". تضم المجموعة اثنتي عشرة قصة قصيرة هي: (وأنقذنا هيبة الحكومة ـ الصُّندوق النُّحاسي ـ حمد ذياب ـ شتاء قاسٍ آخر ـ سريري الذي لا يئن 1ـ الريح الشمالية 2ـ حُفرة في الجبين ـ أميليو ـ الولد الثالث ـ عريضة استرحام ـ عاد المُدْمن ـ قيامة العازر). يختلف زمن كتابة بعض القصص في هذه المجموعة، عن زمن طباعتها، كما في قصة "الصّندوق النّحاسي" التي كُتب عام 1949. وكان القاص ابن عشرين عاماً، ونالت الجائزة الأولى في مسابقة "النُّقاد" في العام 1951. بينما كتب قصة "وأنقذنا هيبة الحكومة" في العام 1956، وقصة "حمد ذياب" في العام 1957. وكأنَّ مصادرة الشرطة اللبنانية أثناء وجود سعيد في لبنان أيام الهروب في أواخر خمسينيات القرن العشرين، أحدثت صدمة نفسية له، ولم يكتب بعد هذا الحادث إلاَّ القليل. وأعاد نشر قصّة "سريري الذي لا يئن" مرة أخرى في هذه المجموعة. وهذه القصة المنشورة في مجموعتين، هي قصة متوهجة، تشدّ المتلقي، وتحتفظ باستمراريتها على مدى ربع قرن. ومَنْ يقرأها اليوم في عام 2005 يتمتع بشفافيتها وواقعيتها وفنّيتها، ويُعيد إلى الذاكرة الألم والحزن وأيام القهر التي تجمَّعت فوق هذا السرير، بالإضافة إلى الأحلام والهواجس وتداعيات الآخرين، ولم يتعب هذا السرير، فهو كالجمل في الصحراء، يتحمّل الأجساد المُنْهكة، والنفوس الملتاعة، وال الاعمال الكاملة لسعيد حورانية في ذكري وفاته العاشرة: أستاذ لاجيال كان بلغته وسرده قمة لا تجاري - بسام الخوري - 03-16-2008 http://www.aawsat.com/details.asp?section=...;article=333583 ؟ رائد الاتجاه الواقعي السوري في فن القصة دمشق: ممدوح عزام يعرف التاريخ الأدبي أن سعيد حورانية أحد ثلاثة «أعمدة» تنهض عليها القصة القصيرة في سورية، إلى جانب حسيب كيالي رائد القصة الساخرة التي تجعل من اليومي البسيط المفارق موضوعا للقصة، وزكريا تامر الذي روض القصة التعبيرية لتتمكن من استيعاب المستجدات الطارئة على المجتمع والذات. فيما تبطن قصة سعيد «حق» تمثيل الاتجاه الواقعي في هذا الفن. سعيد حورانية لم يستمد هذه المكانة من التمثيل الفكري، والسياسي فقط، بل اكتسبه بجدارة من حزمة من الإنجازات التقنية ومجموعة من الاستقصاءات الفنية التي «جربت» معظم ما قدمته القصة العالمية، وعمد ذلك كله من خلال ثلاث مجموعات، هي «وفي الناس المسرة» 1952، و«سنتان وتحترق الغابة» 1964، و«شتاء قاس آخر» 1964. وعلى الرغم من أن مجموعات سعيد حورانية، لم تطبع، خلال أربعين عاما، سوى مرتين، فإنّ المتتبع للنتاج القصصي السوري، يلاحظ حضوره الراسخ في أكثر من كاتب، وأكثر من مجموعة قصصية. أما الملاحظة التالية فهي أنّ في هذا النتاج الذي أنجب بضعة أسماء هامة، لم يستطع أي واحد منهم أن يزعزع مكانة سعيد حورانية كمجرب، وصانع ماهر، وشاهد على العصر، وحداثي، وفنان في هذا المضمار. بل إن عددا كبيرا من الكتاب ذوي المواهب الضحلة، قد استنسخوا موضوعاته، وسطوا على مكونات أدبه، ولاكوا شعاراته بلا هوادة، بعد أن وقعوا في أسر صياغاته الذكية الخادعة. وقد تكرر الأمر ذاته مع كل من زكريا تامر، وحسيب كيالي، وهي إجراءات جديرة بالدراسة والنظر. اللافت أنّ سعيد حورانية صمت مبكرا، فبعد نشر مجموعته الأخيرة «شتاء قاس آخر» لم يكتب أي قصة، والصواب أن نقول لم ينشر أي قصة، أو مجموعة قصصية. وظاهرة التوقف عن الكتابة، معروفة في الأدب العالمي. وهناك أسماء بارزة في هذا الباب، فنحن نتذكر أصداء انقطاع رامبو المفاجئ، ورحيله عن فرنسا، ونكوصه عن طريق الأدب كله، إلى حقل آخر هو التجارة. كما يمكن الإشارة إلى المكسيكي خوان رولفو، الذي كفّ عن الكتابة بعد مجموعة قصصية واحدة هي «السهل يحترق» ورواية هي «بيدرو بارامو». وفي كل الأمثلة ظل تاريخ الأدب عاجزا عن إجراء تسوية، تكفل قيمة الكاتب، وتسوغ صمته في آن واحد. وفي كل الأحوال فإنّ النقاد والباحثين يميلون إلى إنشاء تفسيرات مستمدة من بنية شخصية الكاتب، وموقفه من العالم. أو بناء آراء تنتزع براهينها من القرائن المتوفرة في أدب الكاتب. وقد ظل صمت سعيد حورانية لغزا لدى عدد كبير من الكتاب السوريين خاصة أنّ معظم مجايليه استمروا يكتبون بلا توقف، حتى بعد انتهاء صلاحية كتاباتهم، وضمور إنجازاتهم الفنية. لماذا توقف عن كتابة القصص إذن؟ يذكر سعيد في حواره المنشور في أعماله الكاملة (التي أصدرتها وزارة الثقافة السورية في سلسلة جديدة لنشر أعمال الكتاب السوريين المؤسسين) تحت عنوان مستعار من بابلو نيرودا هو: «اشهد أني قد عشت»، حيث يقول، انه اعتقل في لبنان، بعد لجوئه إلى هناك، فارا من ملاحقة مخابرات السراج ، في زمن الوحدة السورية المصرية، وأنه اكتشف بعد خروجه من السجن (وقد حكم عليه بالحبس سنة هناك بتهمة التآمر على نظام عبد الناصر) أن رجال الشرطة صادروا، وأحرقوا رواية له بعنوان «بنادق تحت القش»، واثنتين وخمسين قصة قصيرة ـ أي ما يعادل ثلاث مجموعات قصصية ـ ويضيف الكاتب بحزن: كان هذا أفظع شيء حدث في حياتي على الإطلاق. تصوروا أن شرطيا صغيرا يمكنه أن يمحو لك جهد سنوات! ثم يضيف سعيد: لقد أحدث هذا صدمة في حياتي، حتى بدأت أشك في جدوى الكتابة. فهل كان هذا الحادث سببا في توقفه عن الكتابة؟ ربما كان أحد الأسباب، لأن سعيد حورانية يعزو صمته إلى سبب آخر أيضا، وهو خيبته الشديدة مما رآه هناك. كان حورانية نشأ في بيت متدين، عمل أهله في التجارة ثم أفلسوا، وتحولوا إلى العمل اليدوي، درس على يد الشيخ حسن حبنكة الذي صار فيما بعد من قادة الإخوان المسلمين، ثم التقى بالفكر اليساري، وبالماركسية في الجامعة، وتبنى أطروحات اليسار، دون أن ينتسب للحزب الشيوعي. في ذلك الوقت كما في الأوقات التالية كانت صورة الاتحاد السوفياتي متألقة كفردوس للفقراء والمناضلين. لكن الكاتب رأى شيئا آخر: «في موسكو أصبت بخيبة أمل شديدة. لقد أحسست أنّ كل شيء مخروش: العدالة، الاشتراكية»، العالم الاشتراكي، العلاقات الاشتراكية. لماذا لم يكتب سعيد حورانية عن هذه «الخروش» في حينه؟ أي لماذا لم يواجه الحقيقة، واكتفى بالصمت، والتوقف عن الكتابة، النقدية والقصصية معا. كأنما اختار هذه الطريقة للاحتجاج. والغريب أنّه يقول (البيروسترويكا التي تدور الآن «منتصف الثمانينات» كنت أحس بضرورتها منذ الأيام الأولى). في قصته «عاد المدمن» من مجموعته «شتاء قاس آخر» ينتصر النشيد على الخطاب المباشر، ويهجو النص فكرة القائد والحشود معا. كما يبشر بالمساحات غير المحدودة للأمل. وفيها يفشل الحريق الحقيقي أو الرمزي في تدمير الدنان الحقيقية أو الرمزية لطائر الحسون. غير أنّ حرائق الواقع الحقيقية أو الرمزية تمكنت من تدمير كفاءات الكاتب، والتزاماته الروحية والنفسية والفكرية، فصمت، حين وجد أنّ النص أوسع من المرجع. وأنّ الرمز أعظم من بياناته الواقعية، إذ لم يبق شيء يقال |