العلمانية؟ بين الوسيلة والغاية... - skeptic - 06-24-2005
اقتباس: العلماني كتب/كتبت
اقتباس رائع يا "سكيبتيك" ...
ضعيها، مشكورة غير مأمورة، في موضوع جديد كي نعود إليها كلما أعوزنا الماء ...
(f)
واسلمي لي
العلماني
و بما أنٌ تمنيات شهبندر علمانيٌ النادي وكبيرهم أوامر ,فها أنا أقوم في موضوع مستقل مسرورة مقالات تحاول ملامسة واقع العلمانية في عالمنا العربي,يعني:
العلمانية؟ ما,لماذا, متى,لمن كيف,أين,هل,قبل ,بعد,أو مع....
-ما العلمانية: كيف ننتقيها دون غيرها من تلك السلة التي ازدحمت بالمصطلحات :العلمانية بفتح اللام أو كسرها,العالمانية,الليبرالية,التنويرية,الحداثةو الحداثوية,الديمقراطية........
وما العلاقات التي تربط هذه المفاهيم..هل بعضها شرط لازم حيوي للبعض, أو هل يغني عنه ويتجاوزه, من يتقدم الآخر ,ومن يشبك كفه بكف الآخر, أومن يقتحم الطريق الوعر أمام الآخر...
وأبدأ بالمقالة العصا التي استثارت هذا العش
العلمانية؟ بين الوسيلة والغاية... - skeptic - 06-24-2005
محمّد عبد المطّلب الهوني
1-ما هو تعريف العلمانيّة؟
نستطيع أن نعرف العلمانيّة بأنّها فلسفة الإنسان الذي يحاول امتلاك قدره في أمور الدّنيا والآخرة. أي أنّ الإنسان العلماني هو ذلك الفرد الذي يمتلك بعدين وجوديين، بعدا عموديا يربط وجوده على مستوى الضّمير والوجدان بقوّة ما فوق الطّبيعة، وقد لا يرتبط بأي قوّة أصلاً، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه عبارة "البعد الإيمانيّ"، وبعدا أفقيّا يرتبط به السّلوك المدني للفرد مع بقيّة الأفراد الآخرين في المجتمع، وهذا البعد يقوم على أساس المواطنة وما تمليه من حقوق وواجبات، ويمكن أن نطلق عليه عبارة "بعد المواطنة".
فالإنسان العلماني هو من يمتلك هذين البعدين ويؤمن بعدم الخلط بينهما ويدرك بأن الفصل بينهما أسّ الأساس في التّعايش السلمي داخل المجتمعات البشريّة.
أمّا البعد الإيماني، فهو بعد خلافي لا يمكن أن يخضع لمعايير القيمة، وإذا أخضعناه إليها كان سببا في العنف والملاحقة الإلهيّة بأيد بشريّة. وأمّا البعد المواطنيّ، فهو بعد متعيّن قابل للتقييم والضبط والزيادة والنقصان والتّعديل والتجريح.
فالعلمانيّة إذن يمكن أن تعرّف بأنّها تلك الفكرة التي تطمح إلى تخليص الدين من الصّراعات البشريّة حتّى يكون أكثر صفاءً، وتخليص الصراعات البشريّة من تحكّم رجال الدين حتّى تكون أكثر ديناميكيّة وأقلّ حدّه وأوسع مشاركة.
2- هل العلمانيّة ضدّ الدّين؟
العلمانيّة ليست ضدّ الدين، ولكنّها ضدّ تحكّم رجال الدّين في الحياة السّياسيّة.
ولكن يجب أن نلفت الانتباه إلى أنّ العلمانيّة ليست وصفة محدّدة أو معادلة جامدة، فهي مفهوم يتحدّد في التّاريخ ويكتسب مضمونه منه. إنّ الأمم التي عانت من ثقل كلكل الدّيانات ومن تحكّم رجال الدّين في كلّ أمور الحياة، قد أنتجت علمانيّة مناضلة إلى درجة الشراسة والتعصّب. أمّا العلمانيّة التي نشأت في مجتمع متوازن لم يحتكر فيه رجال الدين كلّ الفضاءات الحياتيّة، فكانت قادرة على التّعايش مع الأديان. بل إنّ الأديان تنتعش في المجتمعات العلمانيّة ذات المحتوى الديمقراطي، من خلال تقسيم المجال الحياتي إلى دنيا مرجعيّتها العقل والتّجربة، وهذا مجال العلمانيّة، وإلى فضاء للأخلاق وما بعد الحياة، حيث مرجعيّة الوحي وعمل الأسطورة.
3- هل تشكّل العلمانيّة قطيعة مع جذورنا الإسلاميّة؟
لا تشكّل العلمانيّة قطيعة مع الإسلام أو أيّ ديانة أخرى، وذلك بدليل تاريخي مستفاد من التّجارب الغربيّة. فانتصار العلمانية في هذه المجتمعات أحدث قطيعة مع مجموعة الأفكار القديمة التي أنتجتها تأويلات النّصوص المقدّسة والتي استبدّت وفرضت رؤاها على كلّ الميادين بما في ذلك العلوم الطّبيعيّة، وحاولت إضفاء الحقائق اليقينيّة على هذه الأفكار حتّى وإن تعارضت مع البراهين العقليّة والقوانين العلميّة الصارمة. ولكن هذه المجتمعات ما زالت تمارس طقوسها الدّينيّة رغم انتصار العلمانيّة، وما زالت فيها الكنائس والمعابد والمساجد مأهولة بالمؤمنين. كلّ ما حدث هو أنّ العلمانيّة حرّرت الاعتقاد من الصّراعات الحياتيّة أو بمعنى آخر حرّرت المواطن المؤمن من الانفصام نتيجة وضعه المربك الذي نشأ من فرض التفسيرات اللاهوتية المتعارضة مع المعارف الجديدة عن الحياة ومع قوانين الطّبيعة، فانعتق الإنسان بتحملّه المسؤوليّة عن أفعاله، وساهمت العلمانيّة بذلك في وضع صورة أجمل للّه نفسه لدى المواطن المؤمن.
4- لماذا تتعارض الدّولة الدّينيّة مع الدّولة العلمانيّة؟
إنّ الفرق الجوهريّ بين الدّولة الدّينيّة والدّولة العلمانيّة يكمن في نوع الشّرعيّة التي تستند عليها السّلطة السّياسيّة، فالدّولة الدّينيّة تستند السّلطة فيها على ظاهرة الوحي بصفته مصدرا لكافّة الحقائق وبصفته المعبّر عن الإرادة الإلهيّة. وهذا النّوع من الشّرعيّة قد ساد خلال حقب طويلة من تاريخ الاجتماع الإنسانيّ. أمّا الدّولة العلمانيّة، فتتّخذ مصدر شرعيّة السّلطة فيها من إرادة الشّعب من خلال الاقتراع العامّ لكافّة المواطنين.
الدّولة الدّينيّة هي دولة إعداد وتأهيل المؤمن للآخرة، وذلك باحتقار الدّنيا وشؤونها وازدراء كلّ مظاهرها حتّى يتسنّى لممثّلي اللّه في الأرض (وهم أولو الأمر المتحالفون مع رجال الدين) تسيير الإنسان المؤمن في قطيع سلس لا ينظر إلاّ إلى مرعى الآخرة اليانع.
فالدّولة الدّينيّة تتحكّم في السّلوك وفي الضّمائر وتحاول في حراستها للمقدس أن تخضع النّوايا للمحاسبة والعقاب الدّنيوي.
أمّا الدّولة العلمانيّة فهي تلك الدّولة التي تعنى بسلوك المواطن ومطابقته أو عدم مطابقته للقوانين التي تواضع المجتمع عليها. أمّا الضمائر فلا دخل لها بها. فالدّولة العمانيّة تفرّق بين الإنسان المؤمن والإنسان المواطن، فهي دولة للإنسان المواطن سواء كان مؤمنًا أو ملحدًا، سواء كان ينتمي إلى دين الأغلبيّة أو الأقليّة، فتضع القوانين وتطبق الجزاءات على المواطن وتترك الخطيئة للعقاب الأخروي. ولنقل باختصار إنّ الدّولة الدّينيّة هي دولة المؤمنين التي تحتكر كلّ الفضاءات الاجتماعيّة وتعنى بتأهيل المؤمن الرّعية إلى ما بعد الموت، وهو لا يتأهّل إلاّ إذا سلّم قدره إلى رجال الدين الذين يعرفون فكّ طلاسم المقدس وترجمته للمؤمن في نصوص واجبة التّسليم والاتّباع، وإنّ الدّولة العلمانيّة تترك مهمّة الخلاص الأخروي حكرًا على الفرد وضمن فضاء الحريّة الشّخصيّة، وكلّ همّها يتوجّه إلى تطوير الإنسان من خلال تراكم تجربته التّاريخيّة.
5- لماذا يقرن الإسلاميون العلمانيّة بالإلحاد؟
كان انفتاح الإسلاميّين على التّجربة الفرنسيّة مبكّرا، ونحن نعرف أنّ مخاض العلمانيّة في فرنسا كان مؤلمًا عسيرًا، وأنّ انتصار الثّورة الفرنسيّة على الإقطاع والإكليروس كان انتصارًا دمويًّا وقاسيًا، لذلك حاولت الثّورة الفرنسيّة أن تجتثّ جذور عدوّها المهزوم وتزلزل أركانه، وهذا حدث لا يقبل التّكرار في كلّ التّجارب. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ رجال الدّين لا يخرجون من مسرح الأحداث ولا يسلّمون بأنّهم يرعون الأرواح لا الأجساد لأنّ ذلك يحدّ من هيمنتهم على المجتمع وسطوتهم في تقرير مصيره.
فهم لا يريدون أن يفقدوا هذه السلطة التي اكتسبوها في فترة الانحطاط، حيث كان الشيخ يعرف ما ينفع النّاس في الحياة، وبعد الممات فيفتي في نواقض الوضوء والحجّ والميراث والحيض... وكذلك المتكلّم باسم جماعة المؤمنين مع الحاكم والسّلطان. لذلك كانت البيعة للحاكم لا يقوم بها الشّعب وإنّما يقوم بها أهل الحل والعقد وهؤلاء هم الفقهاء. لذلك كان من المنطقي أن يدافعوا عن استمرار امتيازاتهم وأن يقذفوا العلمانيّة التي تحاول أن تسلبهم ذلك بالإلحاد والكفر البواح.
6- هل يمكن تحقيق الدّيمقراطيّة بدون علمانيّة؟
إنّ الديمقراطيّة بدون علمانيّة هي حيوان أسطوري لا وجود له إلاّ في أذهان الإسلامويّين وخطابهم السّياسي. أمّا التّجربة البشريّة فهي تنفى إمكانيّة حصول ذلك.
إنّ الوصول إلى الديمقراطيّة بدون علمانيّة لم يقل به أحد غير بعض العرب من أمثال المفكّر المغربي محمد عابد الجابري الذي عودنا على توليد أفكار خرافيّة في معامل الفكر المؤدلج.
بادئ ذي بدء نقول إنّ كلّ نظام ديمقراطي لا بدّ أن يكون نظامًا علمانيًّا ولكن ليس كلّ نظام علمانيّ هو نظام ديمقراطي بالضّرورة.
فالعلمانيّة هي رفض لفكرة إقامة دولة دينيّة تهيمن على المجتمع، ولكنّها قد تؤسّس لنظام متعصّب يكرّس إيديولوجيّة اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة تهمش فئات من المجتمع بسبب العرق أو اللّون أو المعتقد، كما حدث في ألمانيا النّازيّة أو إيطاليا الفاشية أو جنوب إفريقيا العنصريّة أو الاتّحاد السّوفياتي في دكتاتوريّة البروليتاريا. وهذا شأن العلمانيّة التي تتّخذ من الدّين خصمًا، وتحاول اجتثاثه من المجتمع كما حصل بعيد الثّورة الفرنسية أو إبان العهد الستاليني في الثورة البلشفيّة، فهذه كلّها كانت أنظمة علمانيّة قامت على العسف والطغيان وتسبّبت في محن وكوارث بشريّة.
ولكن يجب أن نقول إن العلمانيّة عندما تتّخذ المضمون الديمقراطي تكون قادرة على إفراز نظام اجتماعيّ وسياسيّ واقتصاديّ لا يقوم على الإقصاء وإنّما على التّراضي في العيش المشترك للمواطنين. أي أنّ العلمانيّة الديمقراطيّة هي وحدها التي تعترف بالمواطنة لكلّ مكوّنات المجتمع وترفع عنهم حيف الإكراه الدّيني والسّياسي.
أمّا إذا ادّعى مجتمع ما أنّه قادر على تحقيق الدّيمقراطيّة بدون علمانيّة، فإنّ ذلك يخفي مخاطر جمة منها سيطرة رجال الدين على المجتمع وفرضهم رؤية ميتافيزقيّة تخالف الواقع السّياسي. وهكذا تكون الديمقراطيّة ديمقراطيّة صوريّة أقصى إنجاز يمكنها أن تحقّقه هو صناديق اقتراع تفضي إلى اختيار جلاد من باقة المستبدين كالحالة الإيرانية
العلمانية؟ بين الوسيلة والغاية... - skeptic - 06-24-2005
ويلي مقال يحاول تاطير وتعريف العلمانية
[B]
العلمانية
بقلم/ أ.د.عبدالوهاب المسيري
يعد مصطلح "العلمانية" من أهم المصطلحات في الخطاب التحليلي الاجتماعي والسياسي والفلسفي الحديث ، لكنه ما يزال مصطلحاً غير محدد المعاني والمعالم والأبعاد.
كلمة "العلمانية" هي ترجمة لكلمة "سيكولاريزم Secularism" الإنجليزية، وهي مشتقة من كلمة لاتينية "سيكولوم Saeculum"، وتعني العالم أو الدنيا و توضع في مقابل الكنيسة، وقد استخدم مصطلح "سيكولارSecular " لأول مرة مع توقيع صلح وستفاليا(عام 1648م)-الذي أنهى أتون الحروب الدينية المندلعة في أوربا- وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة (أي الدولة العلمانية) مشيرًا إلى "علمنة" ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية أي لسلطة الدولة المدنية. وقد اتسع المجال الدلالي للكلمة على يد جون هوليوك (1817-1906م) الذي عرف العلمانية بأنها: "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض".
و تميز بعض الكتابات بين نوعين: العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة.
1-العلمانية الجزئية: هي رؤية جزئية للواقع لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والمعرفية، ومن
ثم لا تتسم بالشمول، وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد وهو ما يُعبر عنه بعبارة "فصل الدين عن الدولة"، ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت حيال المجالات الأخرى من الحياة، ولا تنكر وجود مطلقات أو كليات أخلاقية أو وجود ميتافيزيقا وما ورائيات، ويمكن تسميتها "العلمانية الأخلاقية" أو "العلمانية الإنسانية".
2-العلمانية الشاملة: رؤية شاملة للواقع تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم
المطلقة والغيبيات بكل مجالات الحياة، ويتفرع عن هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون وأن المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق وأن الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي،ويطلق عليها أيضاً "العلمانية الطبيعية المادية"(نسبة للمادة و الطبيعة).
ويعتبر الفرق بين ما يطلق عليه "العلمانية الجزئية" وما يسمى "العلمانية الشاملة" هو الفرق بين مراحل تاريخية لنفس الرؤية، حيث اتسمت العلمانية بمحدوديتها وانحصارها في المجالين الاقتصادي والسياسي حين كانت هناك بقايا قيم مسيحية إنسانية، ومع التغلغل الشديد للدولة ومؤسساتها في الحياة اليومية للفرد انفردت الدولة العلمانية بتشكيل رؤية شاملة لحياة الإنسان بعيدة عن الغيبيات ، واعتبر بعض الباحثين "العلمانية الشاملة" هي تجلي لما يطلق عليه "هيمنة الدولة على الدين".
وقياسا على ذلك فلقد مرت العلمانية الشاملة بثلاث مراحل أساسية:
1-مرحلة التحديث: حيث اتسمت هذه المرحلة بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة
بصورة عامة، فلقد كانت الزيادة المطردة من الإنتاج هي الهدف النهائي من الوجود في الكون، و لذلك ظهرت الدولة القومية العلمانية في الداخل و الاستعمار الأوروبي في الخارج لضمان تحقيق هذه الزيادة الإنتاجية، و استندت هذه المرحلة إلى رؤية فلسفية تؤمن بشكل مطلق بالمادية و تتبنى العلم و التكنولوجيا المنفصلين عن القيمة، و انعكس ذلك على توليد نظريات أخلاقية و مادية تدعو بشكل ما لتنميط الحياة، و تآكل المؤسسات الوسيطة مثل الأسرة.
2-مرحلة الحداثة: وهي مرحلة انتقالية قصيرة استمرت فيها سيادة الفكر النفعي مع تزايد
وتعمق أثاره على كافة أصعده الحياة، فلقد واجهت الدولة القومية تحديات بظهور النزعات الإثنية ، وكذلك أصبحت حركيات السوق (الخالية من القيم) تهدد سيادة الدولة القومية، واستبدل الاستعمار العسكري بأشكال أخرى من الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي، واتجه السلوك العام نحو الاستهلاكية الشرهة.
3-مرحلة ما بعد الحداثة: حيث الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود ومحركه اللذة
الخاصة، واتسعت معدلات العولمة لتتضخم مؤسسات الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتتحول القضايا العالمية من الاستعمار والتحرر إلى قضايا البيئة والإيدز وثورة المعلومات، وتضعف المؤسسات الاجتماعية الوسيطة مثل الاسرة، لتحل محلها تعريفات جديدة للأسرة : رجلان وأطفال- امرأة وطفل- امرأتان وأطفال…)، كل ذلك مستنداً على خلفية من غياب الثوابت المعايير الحاكمة لأخلاقيات المجتمع والتطور التكنولوجي الذي يتيح بدائل لم تكن موجودة من قبل في مجال الهندسية الوراثية.
ورغم خروج مصطلح "علمانية" من رحم التجربة الغربية، إلا أنه انتقل إلى القاموس العربي الإسلامي، مثيرًا للجدل حول دلالاته وأبعاده، والواقع أن الجدل حول مصطلح "العلمانية" في ترجمته العربية يعد إفرازاً طبيعياً لاختلاف الفكر والممارسة العربية الإسلامية عن السائد في البيئة التي انتجت هذا المفهوم، لكن ذلك لم يمنع المفكرين العرب من تقديم إسهاماتهم بشأن تعريف العلمانية.
وتختلف إسهامات المفكرين العرب بشأن تعريف مصطلح "العلمانية" ، على سبيل المثال يرفض المفكر المغربي محمد عابد الجابري تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ويرى استبداله بفكرة الديموقراطية "حفظ حقوق الأفراد والجماعات"، والعقلانية "الممارسة السياسية الرشيدة".
في حين يرى د.وحيد عبد المجيد الباحث المصري أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية -منهج عمل- وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئون الدينية. ويميز د. وحيد بين "العلمانية اللادينية" -التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل- وبين "العلمانية" التي نحت منحى وسيطًا، حيث فصلت بين مؤسسات الكنيسة ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية الكنائس والمؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها.
وفي المنتصف يجيء د. فؤاد زكريا-أستاذ الفلسفة- الذي يصف العلمانية بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين و السياسة، ملتزماً الصمت إزاء مجالات الحياة الأخرى (الاقتصاد والأدب) وفي ذات الوقت يرفض سيطرة الفكر المادي النفعي، ويضع مقابل المادية "القيم الإنسانية والمعنوية"، حيث يعتبر أن هناك محركات أخرى للإنسان غير الرؤية المادية.
ويقف د. مراد وهبة - أستاذ الفلسفة- و كذلك الكاتب السوري هاشم صالح إلى جانب "العلمانية الشاملة" التي يتحرر فيها الفرد من قيود المطلق والغيبي وتبقى الصورة العقلانية المطلقة لسلوك الفرد، مرتكزًا على العلم والتجربة المادية.
ويتأرجح د. حسن حنفي-المكر البارز صاحب نظرية "اليسار الإسلامي"- بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ويرى أن العلمانية هي "فصل الكنيسة عن الدولة" كنتاج للتجربة التاريخية الغربية،ويعتبر د.حنفي العلمانية -في مناسبات أخرى- رؤية كاملة للكون تغطي كل مجالات الحياة وتزود الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، مما يعطيها قابلية للتطبيق على مستوى العالم.
من جانب آخر، يتحدث د.حسن حنفي عن الجوهر العلماني للإسلام -الذي يراه ديناً علمانياً للأسباب التالية:
1-النموذج الإسلامي قائم على العلمانية بمعنى غياب الكهنوت، أي بعبارة أخرى
المؤسسات الدينية الوسيطة.
2-الأحكام الشرعية الخمسة [الواجب-المندوب-المحرم-المكروه-المباح] تعبر عن
مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وتصف أفعال الإنسان الطبيعية.
3-الفكر الإنساني العلماني الذي حول بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان وجد متخفٍ في
تراثنا القديم عقلاً خالصًا في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف، وكسلوك عملي في علم أصول الفقه. و يمكن الرد على تصور علمانية الإسلام، بأنه ثمة فصلا ًحتمياً للدين و الكهنوت عن الدولة في كل المجتمعات الإنسانية تقريباً، إلا في المجتمعات الموغلة في البدائية، حيث لا يمكن أن تتوحد المؤسسة الدينية و السياسية في أي مجتمع حضاري مركب. و في الواقع، هذا التمايز مجرد تمايز المجال السياسي عن الديني، لكن تظل القيمة الحاكمة و المرجعية النهائية للمجتمع (و ضمن ذلك مؤسسات صنع القرار) هي القيمة المطلقة (أخلاقية-إنسانية-دينية) و هي مرجعية متجاوزة للدنيا و للرؤية النفعية.
هذا و قد تبلور مؤخراً مفهوم "ما بعد العلمانية" (بالإنجليزية: بوست سيكولاريزم-Post-secularism) و صاغه البروفسير جون كين ،و"ما بعد" هنا تعني في واقع الأمر "نهاية"،و تشير إلى أن النموذج المهيمن قد فقد فعاليته، ولكن النموذج الجديد لم يحل محله بعد، حيث يرى أن العلمانية لم تف بوعودها بشأن الحرية و المساواة (حيث تنتشر العنصرية والجريمة والنسبية الفلسفية) وأخفقت في العالم الثالث (حيث تحالفت الأنظمة العلمانية مع الإستبداد والقوى العسكرية) ولم تؤد إلى الجنة العلمانية الموعودة ، ذلك في حين ظلت المؤسسات الدينية والقيم المطلقة فاعلة على مستوى المجتمع وحياة الناس اليومية، في معظم بلدان العالم الثالث
ويتقاطع مع بعض تعريفات هنا
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?t=2&aid=10344
العلمانية؟ بين الوسيلة والغاية... - skeptic - 06-24-2005
[CENTER]العلمانية في العالم العربي: إلى أين؟[/CENTER]
شاكر النابلسي
هناك سؤال يطرح باستمرار يقول: هل فشلت العلمانية في العالم العربي بسبب مقاومة الإسلاميين لها، أم بسبب ضعف الخطاب العلماني؟
والجواب على ذلك، أنه يتردد قول في العالم العربي بأن العلمانية العربية قد فشلت، والصحيح هو عكس ذلك. فمنذ مطلع القرن العشرين وبفضل الاستعمار البريطاني والفرنسي للمنطقة العربية تمَّ تبني العلمانية الاقتصادية أو (البنوك الربوية)، وفصل الدين عن الاقتصاد. وكذلك بفضل هذين الاستعمارين تمَّ تبني العلمانية في السياسة. فوُضعت الدساتير وأجريت الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية بدل (البيعة) بين (أهل الحل والعقد) كما هو في الموروث السياسي الديني. وتم جزئياً فصل الدين عن الدولة. ولم يبق من الدين في الدولة والدستور غير نص (دين الدولة الإسلام) وهو نص غبي لا يعني شيئاً في التطبيق وقد وُضع ترضية للمؤسسات الدينية ورجال الدين والأحزاب الدينية في العالم العربي. فالدولة العربية القائمة الآن لا علاقة لها بالإسلام، أو بدولة الراشدين، كما أنها ليست دولة دينية. والفرق بينها وبين الدولة الدينية بعيد جداً كما سنرى بعد قليل. والدولة العربية القائمة لا تطبّق من الإسلام غير طقوسه المعتادة في المناسبات الدينية. ورغم أن هناك نصاً في الدساتير العربية يقول بأن (الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين) إلا أن هذه الشريعة كثيراً ما تفشل في حل المشاكل المستجدة.
ومن هنا نرى أن مشروع النخبة العلمانية العربية لم يفشل، ولكنه كان بطيء التقدم بسبب التركة الدينية الثقيلة والقاسية والمسيطرة وبسبب هيمنة رجال الدين على الحياة الاجتماعية العربية، وبسبب المؤسسة السياسية العثمانية المنغلقة والمعادية للغرب والتي حكمت العالم العربي أربعة قرون (1517-1918). ورغم هذا فقد حقق العالم العربي منذ الاستقلال حتى اليوم (طيلة نصف قرن) الكثير من مبادئ العلمانية وبقي الكثير أيضاً لكي يتم تطبيقه. وأعتقد أن ما حصل في العراق في التاسع من نيسان 2003 كان نقطة تحوّل كبرى تجاه المزيد من العلمانية في العالم العربي. وهو أبعد أثراً من حملة نابليون على مصر 1798 التي أدخلت عصر الأنوار والعلمانية إلى العالم العربي من البوابة المصرية، وعلى يد الحاكم العلماني الأكبر محمد علي باشا الذي كان حاكماً علمانياً دماً ولحماً. فمن علامات العلمانية في الدولة العربية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر ما قام به محمد علي باشا من تصفية حركة علماء الدين والقضاء على الأساس الاقتصادي - الاجتماعي لقوة علماء الدين السياسية، وذلك بتجريدهم من التزاماتهم، ومصـادرة ثرواتهم، وتدمير الطوائف الحرفية والتجارية التي كانـوا أرباباً لهـا. وبذلك انتهت مرحلـة في تاريخ مصر كان فيها رجال الدين هم قادة المجتمع، وأكثر فئات المجتمـع ثراءً وقد (استحسن المصريون ما فعله محمد علي باشا بهؤلاء العلماء، لأن هؤلاء العلماء كانوا في وضع اجتماعي واقتصادي متميز، بل ومتناقض مع باقي أفراد المجتمع) (رفعت السعيد، التيار الديني والتيار العلماني في الفكر المصري الحديث، ص60). ولو امتد الزمان بمحمد علي باشا وساعده الحظ لحوّل العالم العربي إلى دولة علمانية على غرار أوروبا الآن.
العلمانية والدين
يردد بعض رجال الدين من أن العلمانية ضد الدين، ولكن العلمانية ليست ضد الدين، بل إنها تحمي الدين بإبعاده عن السياسة. أي إبعاد المقدّس عن المدّنس. وإبعاد الثابت (الدين) عن المتحول (السياسة). وعدم الخلط بين السماوي والأرضي، والواقعي والميتافيزيقي.. الخ. والإسلام بحد ذاته غير مُغلق في وجه العلمنـة. ولكي يتوصل المسلمون إلى أبواب العلمنة، فإن عليهم أن يتخلصوا من الإكراهات والقيود النفسية واللغوية والأيديولوجية التي تضغط عليهم. وعليهم أن يعيدوا الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر الإسلامي في القرون الهجرية الأربعة الأولى. فقـد كان الجاحظ ( ت 869م) على سبيل المثال من كبار مفكري الثقافـة العربية الإسلامية الكلاسيكية الذين تبنوا موضوع الإنسيّة العربيـة التي كانت جزءاً كبيراً من العلمانية العربية الكلاسيكية. وهو الذي ألقى على الثقافة العربية أسئلة النقد التاريخي المحرجة والتي لا يستطيع مسلمو اليوم أن يلمحوا بمدى ضرورتها وجدواها. فهو والمعتزلة طرحوا مشكلة (خلق القرآن) وهو موقف فريد تجاه ظاهرة الوحي، كما قال محمد أركون في كتابه (العلمنة والدين، ص42، 60) ومن هنا يمكن القول إن العلمنة كانت موجودة في الفكر العربي الكلاسيكي في أيام المأمـون والمعتزلة، أكثر مما هي موجودة في الفكر العربي المعاصر الآن.
ورجال الدين يريدون عدم فصل الدين عن الدولة، ولذلك يرمون العلمانيين بالإلحاد. والمؤسسة الدينية الإسلامية لها منافع كثيرة من ربط الدين بالدولة. وهم من خلال ذلك يهدفون إلى أن يصبحوا جزءاً من السلطة ومن المنافع التي تنتفع بها. وهذا وضع كان موجوداً في الدولة العربية الكلاسيكية. فكما أن الإمبراطور البيزنطي استولى على المسيحية واستخدمها لصالحه، فكذلك فعل الخليفة في الإسلام بدءاً بمعاوية بن أبي سفيان وإلى آخر سلطـان عثماني. وكما نشأت في المسيحية مؤسسة قُدسية تحالفت مع السلطة وعمـلت لدعمها، كذلك كان الأمر في الإسلام منذ بداية العصر الأمـوي وحتى الآن. وفصل الدين عن الدولة سوف يحيل رجال المؤسسة الدينية إلى حملة مباخر كما هو الحال مع رجال الكنيسة. وبما أنه لا مال لديهم كمـال الكنيسة ولا ذهب لديهم كذهب الكنيسة، فسيتحـولون إلى مواطنين عاديين يعانون من الفقر المادي، وفقدان الوجاهة الاجتماعية، والحرمان من السطوة الثقافيـة والسطوة السياسيـة اللتين يتمتعون بهما الآن، بعد أن كانوا وما زالـوا من أولي الأمـر، جنباً إلى جنب مع الأمراء، كما قال ابن تيمية من أن (العلماء والأمراء هم أولو الأمر). وهكذا أصبح فرسان الحلبة السياسية في العـالم العربي والإسلامي الآن إما من العسكر أو من رجال الدين. وأصبح مصدر تخريـج الكـوادر السياسية في العـالم العربي والإسلامي: الكليات العسكرية، والمعاهد الدينية.
العلمانية والتراث
لقد حاول أهل السُنّة والأشاعرة في العصرين الأموي والعبـاسي تحاشي ربط الدين بالدولة رغم إغراءات المعتزلة لهم. وإليهم يرجع الفضل في ظهور بوادر العلمانية. كذلك فقد ساهم بعض أئمة المعتزلة (المحافظين) في فصـل الدين عن الدولـة من خلال قول الحسن البصري (642-728م) وهو الفقيه والإمام والمفكر المعتزلي لجملة أصحابه من المعتزلـة الذين أقحموا الدين في ميدان السياسة لكي يعارضوا الحكم الأموي: (تلك دماء طهّر الله منها أسيافنا فلا نلطخ بها ألسنتنا). وهو يعني أن رجال الدين يجب أن لا يخلطوا بين الدين والسياسة، وأن يبتعدوا عن السياسة ويفصلوا بين الضـدين والمتناقضين: الدين ذو الثوابت والسياسة (الدولـة) ذات المتغيرات. أي؛ بين المُنجَّس والمُقدَّس. بعد أن تطهّرت سيوفهم من دماء السياسـة، ولا يـريدون أن تتلطّخ وتتسخ ألسنتهم بها. كما يعني أن هنـاك ثوابت في الدين، ولكن لا ثوابت في السياسة، فكيف يجتمع النقيضان والضدان؟
وكما كان المعتزلة هم أول من شكَّل الأحزاب السياسية الدينية في التاريخ العربي الإسلامي، فقد كانوا في الوقت نفسه سبباً في ظهـور العلمانية، ووضع أسسها من حيث أنهم أخذوا بالجانب العقلي في الدين والسياسة وكانـوا أسرع الفرق للاستفادة من الفلسفة اليونانية وصبغها بالصبغة الإسلامية والاستعانة بها في نظرياتهم وجدلهم. وهم الذين خلقوا علم الكلام في الإسلام. وذلك يرجع إلى أن زعماء المعتزلة أسلموا ورؤوسهم مملوءة بأديانهم القديمة التي تسلّحت من قبل بالفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني.
لماذا تتعارض الدولة الدينية مع الدولة العلمانية؟
تتعارض الدولة الدينية مع الدولة العلمانية لأن هناك فروقاً كثيرة بين الدولة الدينية والعلمانية منها:
أن الصفة الأساسية للدولة الدينية هو طابعها الكلياني. والدولة الدينية تحكم بموجب نصوص مقدسة مغلقة لا تغيير فيها. وتُجسِّد الدولة هنا الذات الإلهية. وفي الدولة الدينية الأولوية هنا للنص المقدس. ورجال الدين في هذه الدولـة شركاء في الحكم والمسؤولية. وشرعية هذه الدولة تكمن في الدين. والمواطن في هذه الدولة ليس مُلزماً بإقامة الشعائر الدينية فقط ولكن بإطاعة (القوانين الإلهيـة) التي تُكرِّس سلطة السلطان أيضاً. والدولة الدينية تُحقِّر من شأن الحياة. وتصفها الكتب المقدسة دائماً بأنها (الحياة الدنيا) أي الحياة السفلى الدنيَّة. وتُعلي من مقام الحياة الآخرة التي هي في الغيب والمجهول. والدولة الدينية تتعلق بالتراث تعلقاً أعمى دون السماح بتفكيكه ودراسته على ضوء المناهج العلمية الحديثة. والدولة الدينية ذات غرائز بعيدة عن طبيعة الدين وروحه. وغرائز الدولة الدينية هي: الغموض المطلق، الستار الحديدي، التركيز على ضعف الإنسان، واعتبار المفكرين أعداء الدين، وعدم قبول النصيحة، وعدم قبول المعارضة، والإيمان بالوحدانية المطلقة في كافة المجالات، والجمود العريق، والقسوة المتوحشة. والدولة الدينية – كما وصفها خالد محمد خالد في كتابه (من هنا نبدأ)، 1950- لا تثق بالذكاء الإنساني ولا تأنس له. ولا مؤسسات دستورية في هذه الدولة غير مؤسسة السلطان وحده. فالكل في واحد. ولا تستطيع هذه الدولة أن تتعايش مع العلمانية بجناحيها: الديمقراطية والعقلانية. فيما لو علمنا أن وحدانية الفكر والطريق هو الأساس فيها.
أما الدولة المدنية فالصفة الأساسية لها هو طابعها العقلي. والدولة المدنية تحكم بموجب نصوص موضوعة مفتوحة متغيرة. وتُجسِّد الدولة هنا علاقة بشرية. والأولوية هنا للعقل المجنّح. ولا مكان لرجال المؤسسة الدينية في هذه الدولة حيث لا يفيدون شيئاً. وشرعية هذه الدولة تكمن في القانون. والمواطن في هذه الدولة له الحريـة في العبادة ما شاء إلى ذلك سبيلا. وهو غير مُلزم بإتباع مذهب معين في السياسة أو الاجتماع. والدولة المدنية تُعلي من شأن الحياة، وتطلب من الناس العمل والتقدم فيها. ولا تُعير انتباهاً كثيراً للحياة الآخرة الغائبـة والمجهولـة، وتطلب من الناس ألا يشغلوا بالهم بها. والدولة المدنية لا تتخذ موقفاً رافضاً من التراث ولا تتعلق به تماماً، وتسمح بدراسته على ضوء المناهج الحديثة كما قال فؤاد زكريا في دراسته (النهضة العربية والنهضة الأوروبية، ص28). والدولة المدنية لا غرائز لها غير غريزة تعميق مفاهيم الحرية. وإن كان ثمة غرائز مقابلة للدولة المدنية فهذه الغرائز هي: الوضوح، الأبواب المفتوحة، التركيز على عظمة الإنسان، اعتبار المفكرين زيت سراج الأمة، قبول المعارضة، الإيمان بالتعددية والاختلاف والمغايرة، الحركة المستمرة إلى الأمام، الرحمة بالنشء. وتثق هذه الدولة بالذكاء الإنساني وتعتبره من أُسس بناء المجتمع. وهذه الدولـة هي دولـة المؤسسات الدستورية. فالكل في الكل. وتستطيع هذه الدولة أن تتعايش مع الدين فيما إذا الدين لم يُقحم نفسه في السياسة. فالدين في الغرب العلماني ما زال هناك، وبيوت العبادة ما زالت قائمة.
وهنا باحث ألماني ورؤيته حول الحل العلماني العربي الإسلامي
http://www.ibn-rushd.org/forum/Bielefeldt.htm
على وعد بمحاولة ترجمة بعض المقالات التي زخرت بها مؤخرآ الصحف الفرنسية وهي تناقش ( إمكانية الحل العلماني الإسلامي) في خضم تحليل نتائج الاستفتاء على الدستور الأوربي, والتي اعتبر كثير من المحللين القبول بتركيا (إسلامية قلبآ, علمانية قالبآ) أحد العوامل التي لعبت دورآ مؤثرآ...
العلمانية؟ بين الوسيلة والغاية... - skeptic - 06-24-2005
الرأي والرأي الآخر
أما الآن فدور الانتقال للضفة الأخرى
[B][CENTER]لماذا نرفض العلمانية ؟[/CENTER]
محمد محمد بدري
|
ظهر مصداق قول رســول الله -صلى الله عليه وسلم- : "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" رواه مسلم ، وأصـبـح واقع الأمة الإسلامية يقرر أن غربة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأسرة ياسر، وبلال وغيرهم، قد عادت للذين يقولون : ربنا الله ، لا قيصر ، والحاكـمـيـة لله ، لا للبشر،... وغـابـت رايــة الإســلام عــن أرض الإســلام وحكمتها نظم علمانية لا دينية، حتى أصبحت الدعوة إلى أن يكون الإسلام بكتابه الكريم ، وسـنـة رســولـه الأمـيـن - صلى الله عليه وسلم - أساس الحكم ، جريمة في أكثر دول العالم (الإسلامي) تحاكم علـيـهـا قوانين تلك البلاد بالإعدام بتهمة تغيير شكل النظام؟!.
ولقد كان مما ساعد على استقرار تلك الأوضاع غياب الكثير من حقائق الإسلام وبديهياته، ومن أظهرها أن وجوب الحكم بـمـا أنــزل الله عقـيــدة لا يكـون المسلم مسلماً إذا تخلى عنها، وأن التشريع بغير ما أنزل الله ، والرضى بشرع غير شــرع الله هـو شرك مخرج من الملة .
ولـما كان بيان الحق وإبلاغه للخلق أمانة في عنق كل من علم شيئاً من حقيقة هذا الدين ، فقد كتبت هذه المقالة :
بياناً لحقيقة العلمانية ، بكشف المخبوء من حقيقتها، وتعرية المستتر من أسرارها ، وإضاءة الـمـنـاطــق المعتمة في حركة العلمانيين ودعوة للنجاة في الدنيا والآخرة ، بقبول شرع الله، ونـبذ كل شريعة يقوم عليها علمانيون يقفون في طريق الإسلام والتوحيد الخالص ، وكأنهم أرباب زائفون . وليكون ذلك ميلاداً جديداً للفرد المسلم والأمة المسلمة ، الأمة التي تحمل رسالتها إلى كل البشرية بالنجاة من الشرك... تلك الرسالة التي عبر عنها في بساطة ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس ، هذا يسأله ما الذي جاء بكم ؟ فيجيب للتو واللحظة:... الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
أولاً : العلمانية... وحكم الجاهلية :
حاول اعداء الإسلام القضاء على الإسلام عن طريق نشر الإلحاد... وفشلوا..وحاولوا صرف الناس عـن الإســلام عـن طـريـق الشـيـوعـيـة.. وفـشـلـوا .. وأحس الأعداء اليأس من هذا الدين..ولكنهم، بـعـد التـفـكـر والـتـدبـير، لجأوا إلى طريقة أخبث (لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع تتزيا بزي الإسلام ، وتتمسح في العقيدة ، ولا تنكر الدين جملة ، بل تعلن إيمانها به إيماناً نظرياً واحترامها له كعقيدة فـي الحنايا ، وشعائر تؤدى في المساجد،..أما ما وراء ذلك من شؤون الحياة فمرده - بزعمهم - إلـى إرادة الأمــة الـحــرة الطليقة التي لا تقبل
سلطاناً عليها من أحد!!!
ولما كانت حقيقة العلمانية قـد تخفــى عـلى كثير من المسلمين ، فإنه من واجبنا أن نفضح هذه العلمانية عبر نظرة نلقيها عليها لنتبين من خلالها ما هي العلمانية ؟ وكيف نشأت ؟ لمن حق التشريع المطلق في نظمها ؟ وما هي الشريعة التي تحمل الأمة على التحاكم إليها ؟
1- العلمانية.. التعريف والنشأة :
لـفـظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة secularism في الإنجليزية ، أو secularite بالفـرنـسـيـة، وهي كـلـمــة لا صـلـة لـهـا بلفظ العلم ومشتقاته على الإطلاق... والترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية أو الدنيوية، لا بـمـعـنــى مــا يقابل الأخروية فحسب بل بمعنى أخص هو ما لا صلة له بالدين ، أو ما كانت صلته بالدين علاقة تضاد ..
وفي دائرة المعارف البريطانية مادة secularism : هي حـركــة اجـتـمـاعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحــدهـا(1). ولذلك فإن المدلول الصحيح لكلمة (العلمانية) هو: فصل الدين عن الدولة أو هو: إقامــة الحـيــاة على غير الدين ، سواء بالنسبة للأمة أو الفرد ، ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود ، فبعضها تسمح به ،...وتسمى العلمانية المعتدلة، فهي - بزعـمـهــم - لا ديـنـيـة ولكنها غير معادية للدين ، وذلك في مقابل المجتمعات الأخرى المضادة للدين... وبدهيّ أنه لا فرق في الإسلام بين المسمين ، فكل ما ليس دينياً من المبادئ والتطبيقات فهو فـي حقـيقـته مـضـاد للدين ، فالإسلام واللادينية نقيضان لا يجتمعان ولا واسطة بينهما(2). وإذن فالعلمانية دولـة لا تقــوم عـلـى الـدين ، بل هي دولة لا دينية ، تعزل الدين عن التأثير في الدنيا ، وتحمل الأمة على قيادتها للـدنيـا فـي جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها بعيداً عــن أوامــر الدين ونواهيه .
والعلمانية دولة لا تقبل الدين إلا إذا كان علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه ، بحـيـث لا يكون لهذه العلاقة أي تأثير في أقواله وأفعاله وشؤون حياته.
"ولا شــك أن هذا المفهوم الغربي العلماني للدين على أنه علاقة خاصة بين العبد والرب ، محلها القلب ، ولا علاقة لها بواقع الحياة... جاء من مفهوم كنسي محرّف شعاره "أدَّ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" ، من واقع عانته النصرانية خلال قرونها الثلاثة الأولى ، حين كانت مـضـطـهـدة مـطـاردة مـن قـبــل الامبراطورية الرومانية الوثنية فلم تتمكن من تطبيق شريعتها ، واكتفت بالعقيدة والشعائر الـتـعـبـديـة اضطراراً واعتبرت ذلك هو الدين ، وإن كانت لم تتجه إلى استكمال الدين حين صار للبابـويــة سلطان قاهر على الأباطرة والملوك، فظل دينها محرفاً لا يمثل الدين السماوي المنزل ، فلما جاءت العلمانية في العصر الحديث وجدت الطريق ممهداً ، ولم تجد كبير عناء في فصل الدين عن الدولة"(3)، وتثبيت الدين على صورته الهزيلة التي آل إليها في الغرب .
وإذن فـالـعـلـمانية : رد فعل خاطئ لدين محرّف وأوضاع خاطئة كذلك ، ونبات خرج من تربة خبيثة ونـتـاج سـيـئ لـظـروف غير طبيعية ، فلا شك أنه لم يكن حتماً على مجتمع ابتلي بدين محرف أن يخرج عنه ليكون مجتمعاً لا دينياً ، بل الافتراض الصحيح هو أن يبحث عن الدين الصحيح.. فإذا وجدنا مجتمعاً آخر يختلف في ظروفه عن المجتمع الذي تحدثنا عنه ، ومع ذلك يصر على أن يـنـتـج الـلادينية ويتصور أنـهـا حتم وضرورة فماذا نحكم عليه؟(4) فقط نثبت السؤال ، ونترك - لا نقول لكل مسلم - بل لكل عاقل الإجابة عليه!
أمــا نـحـن فنكرر هنا أنه لا يوجد دين جاء من عند الله هو عقيدة فقط ، والدين الذي هو عقيدة فـقط "أو عقيدة وشعائر تعبدية، دون شريعة تحكم تصرفات الناس في هذه الأرض ، هو دين جاهلي مزيف لم ينزل من عند الله"(5).
2- العلمانية..وحق التشريع المطلق :
فـي مـسـلـسـل نـبـذ الشريعة الإسلامية ، وفصل الدين عن الحياة في دار الإسلام ، كانت الحلقة الأخيرة هي النص فـي دسـاتـيـر الدول في العالم الإسلامي على تقرير حق التشريع المطلق للأمة من دون ،الله ، ونصت بعـض الدساتير على اعتبار رئيس الدولة جزءاً أصيلاً من السلطة التشريعية . واكتفى البعض الآخــر بالـنـص على الحقوق التي يمارسها رئيس الدولة في مجال التشريع وهي حق الاقتراح ، وحق الاعـتـراض أو الـتـصـديـق. فالأنظمة العلمانية تقر بالسيادة المطلقة للأمة، وتنص في دساتيرها على أن القانون هــو التعـبـير عن إرادتها المطلقة... فالأمة - بزعمهم - هي التي تقرر الشرائع التي تحكم بها، وحقـهـا في ذلك بلا حدود!!
ولا شــك في أن هذا في حقيقته هو الإقرار بحق التشريع المطلق للأمة لا ينازعها فيه منازع ولا يـشـاركهــا فـيه شريك.. فما تحله هو الحلال وإن اجتمعت على حرمته كافة الشرائع السماوية، وما تحـرمــه هو الحرام وإن اتفق على حله كل دين جاء من عند الله. ذلك أن الأمة في الأنظمة العلمانـيـة هي مـصـدر الـتشـريع ، وما يصدر عنها هو القانون. "والقانون ليس بنصيحة ولكنه أمر، وهو ليس أمراً من أي أحــد، ولـكـنـه أمــر صــادر ممن يدان له بالطاعة ، وموجه إلى من تجب عليه تلك الطاعة"(6).
وإذا كــان سـلـطـان الأمة يتجسد في السلطة التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية فإنه "لا يوجد قانون بالمعنى الصحيح إلا إذا صدر عن السلطة التشريعية في الحدود التي رسمها له الدستور ، وكلـتـا السلطتين التشريعية والقضائية بهذا الاعتبار مشتركتان في الخضوع لسيد الكل..ألا وهو الدسـتـور..الذي يجب أن يحني الجميع أمامه رؤوسهم صاغرين.."(7).
وتأمل معنى هذه الكلمـات ، وقل معي : رحم الله ابن تيمية... القائل : "إن الإنسان أمام طريقين لا ثالث لهما ، فإما أن يختار العبودية لله.. وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله".(8)
3- العلمانية.. والمصدر الرئيسي للتشريع :
هناك شـبـهــة قد يشوش بها العلمانيون ، وهي أن بعض الدساتير العلمانية تنص على أن الشريعة الإســلامـيــة هي المصدر الرئيسي للتشريع.. مثل دستور مصر الذي جاء في مادته الثانية: أن الشريعة الإســلامـيـة هي المصدر الرئيسي للتشريع... ونحن نقول في الرد على هذه الشبهة : - إننا لا نحكم إلا بـمـا نـعـلــم ، ولا نجزم إلا بما نرى المحاكم الوضعية تمارسه صباح مساء،.. فهذه المحاكم لا تزال ملــزمة قانوناً بتطبيق القوانين الوضعية، ولا يزال القضاة في هذه المحاكم غير قادرين بأي حــال مــن الأحــوال عـلـى تطبيق الشريعة الإسلامية .
فـفـي قـضـيـة اغتيال السادات أسس الدفاع عمله على الدفع بعدم الدستورية لأن نصوص القوانين مخالـفــة لأحـكـام الـشـريعة الإسلامية التي تعتبر المصدر الرئيسي للتشريع وفقاً لأحكام المادة الثانية من الدستور الـصـادر عـام 1971 ، والمعدلة عام 1980.. فماذا قالت المحاكمة في ردها على ذلك ؟
جاء في رد المحاكمة : ".. رداً على هذا الدفع ، فإن المحكمة تشير بادئ ذي بدء إلى ما هو مستقر من أن قواعد التفسير للنصوص تأبى تأويل النص أو تحميله أكثر مما يحتمل إذا كــان واضـحــاً لغوياً فعبارة (المصدر الرئيسي للتشريع) لا تمنع لغوياً وجود مصادر أخرى للتشريع ، وهو نـفــس مـفـاد النص قبل تعديله". أرأيتم..إن المحكمة تؤكد أن العبارة شركية ، وأنها تنص على وجود مصادر أخرى غير الشريعة الإسلامية .
ولماذا نذهب بعيداً ؟ لقد حــدث بالفـعل أن حكم قاضٍ بالجلد في جريمة سكر، متأولاً هذه المادة من الدستور... فماذا كانت النتيجة ؟
لقد أُبِطل حكمه ، وأقصي عن القضاء . وكان مما ذكره رئيس محكمة الاستئناف في أسباب بطلان هذا الحكم ما يلي :
1- إن من قـضــى بـذلك فـقـد حنث في يمينه القضائي الذي أقسم فيه على الحكم بالعدل واحترام القوانين،... والعـدل كـما يقــول رئـيـس محكـمـة الاستئناف : يعـنـي أن يقضي القاضي في الواقع المعروض بالعقوبة الملائمة في حدود القانون المطبق.. ثم يضيف قـائـلاً : فـقـضـاء المحـكـمة بقانون آخر غير القوانين المطبقة في ذلك حنث باليمين ، فما بالك بمن طبق أو يخترع قانوناً يعلم أنه غير معمول به!!
2-...وجنائياً لا يجوز ، ولا يقبل من القاضي أن يجرم فعلاً لا ينص القانون على اعتباره جريمة، ولا يجوز له ولا يقبل منه أن يقضي بعقوبة لم ينص القانون عليها .
3- إن مصدر هذا القانون لم يعرف شيئاً عن علم العقاب ، فقد (شدد) الـمـشـرّع الوضعي في العقـوبـة وجعلها ستة أشهر حماية للمجتمع، وهذا أحفظ من مجرد الجلد ثمـانـين جلدة.
أرأيت - أخي الـمـسـلم - إن هذه العلمانية ترى أن التشريع الوضعي أحفظ لأمن المجتمع من الشريعة الإسلامية .. وأن القاضي الذي حكم بالجلد لم يعرف شيئاً عن علم العقاب.. وهكذا.. وكأن القوم يقـولون إن الله - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً -لا يعرف شيئاً من علم العقاب عندما أكتفى بمجرد الجلد على السكر... سبحانك هذا بهتان عظيم .
ومن الذي يجرؤ على ادعـــاء أنه يشرع للناس ، ويحكم فيهم خيراً مما يشرع لهم ويحكم فيهم ربهم سبحانه؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض ؟.. أيستطيع أن يقول إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن يقول : إنه أرحم بالناس من رب الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إنه أعرف بالناس ومصالح الناس من إله الناس ؟... أيستطيع أن يقول : إن الله سبحانه وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرســل رسـوله الأخير، ويجعل رسوله خاتم النبيين ، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات ويجعل شريعـتـه شـريـعـة الأبد ، كأنه سبحانه يجهل أن أحوالاً سـتطرأ، وأن حاجات ستجد وأن ملابسات ستقع، فـلـم يحـسـب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه ، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان!!! ما الذي يستطيع أن يقوله... وبخاصة إذا كان يدعي الإسلام؟
إنه مفرق الطريق ، الذي لا معدي عنه من الاختيار..
إما إسلام ، وإما جاهلية... إما حكم الله ، وإما حكم الجاهلية..
وهذه العلمانية التي وصفنا حالها ، ورأينا واقعها ليست يقيناً حكم الله القائم على الكتاب والسنة... فماذا تكون إلا حكم الجاهلية؟ قال تعالى:
((أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ))
فجعل الله الحـكـم حـكـمـيـن لا ثـالـث لهما : حكم الله... وهو الحكم القائم على الكتاب والسنة،.. وحكم الجاهلية.. وهو ما خالف ذلك
إذن فالعلمانية هي...حكم الجاهلية .
لا شك أن العلمانية - كما عرضنا - لا تستـدعي في حقيقة الأمر كبير جهد لبيان تناقضها مع دين الله (الإسلام) .. فـهـي مــــــن ذلـك النوع من الاتجاهات والأفكار التي قال عنها علماؤنا قديماً: إن تصوره وحده كاف في الرد عليه..
والإسلام والعلمانية طريقان متباينان، ومـنـهـجـــان متغايران .. طريقان لا يلتقيان ولا تقام بينهـم قنطـرة اتصال .. واختيار أحدهما هو رفض لـلآخر .. ومن اختار طريق الإسلام .. فلابد له من رفض العلمانية ..
هــذه بديهية من البديهيات التي يعد إدراكها - فيما نحسب - نقطة الانطلاق الصحيحة لتغيير واقــع الأمـــة الإسلامية،.. ويعد غيابها السبب الأول لبقاء هذه الأمة ألعوبة في يد العلمانيين يجرُّونها إلى الهلاك بكل مهلكة من القول والعمل، ويزيدونها غياً كلما اتبعتهم في طريق الغيّ .. طريق العلمانية ..
ولأن إدراك هذه البديـهــــة على هذا القدر من الأهمية، فل بد من التفصيل فنقول: نحن نرفض العلمانية لأنها:
1 - تحِل ما حرّم الله:
"إذا كانـت الـشــــريعة مُلْزِمة من حيث المبدأ، فإن داخلها أحكاماً ثابتة لا تقبل التغيير، وأحكام عامة ثابتة فـي ذاتـهـا، ولكنها تقبل أن تدخل تحتها متغيرات ومن بين الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا يدخــل تـحـتـهــــا متغيرات .. أحكام العبادات كلها، والحدود وعلاقات الجنسين ..".
فماذا فعلت العلمانية بهذه الثوابت ؟
إن الأنـظـمـــــة العلمانية تبيح الزنا برضا الطرفين، والمتشدد منها يشترط موافقة الزوج أو الزوجة .. والكثير منها يبيح اللواط للبالغين .. وكلها يبيح الخمر والخنزير.
فأما الزنا برضـا الطرفين فنجد مثلاً أن قانون العقوبات في مصر والعراق يؤكد على أن الزنا إذا وقع برضا الطرفين وهما غير متزوجين وسنهما فوق الثامنة عشرة فلا شيء عليهما، وإن كانا متزوجين فلا عقوبة عليهما ما لم يرفع أحد الزوجين دعوى ضد الزوج الخائن ... والأفعــال التي يحرّمها قانون العلمانية في جرائم العرض، إنما يحرمها لكونها تشكل اعتداء على الحرية الجنسية فحسب، وليس باعتبارها أمراً يغضب الله ويحرّمه الدين،.. ولذلك فإن الدعــــوى الجنائية في جريمة الزنا مثلاً لا تتحرك إلا بناء على شكوى الزوج، وللزوج الحق في التـنـــــازل عن الشكوى بعد تقديمها، وبالتالي تنقضي الدعوى الجنائية، وتوقف إجراءات التحقيق .. بل للزوج حق وقف تنفيذ العقوبة !!
وهـكـذا تبيح العلمانية الزنا، وتهيئ له الفرص، وتعد له المؤسسات، وتقيم له الحفلات في الملاهي والمسارح ..
.. وأما الربا فهو عماد الاقـتـصـــاد العلماني، تؤسس عليه البنوك، وتقدم به القروض بل ويدخل الناس فيه كرهاً .. ومن شــــاء فـلـيـراجـــع المواد 226 - 233 من القانون المدني المصري، والتي تنص على الفوائد والقواعد المتعلقة بـهــــا، تلـك الـمــواد التي تحِل بها العلمانية ما حرّمه الله سبحانه بقوله عز وجل:
((يَــــــا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ورسوله..)) [البقرة:278-279]
وهذه الآيــات نزلت في أهل الطائف لما دخلوا الإسلام والتزموا الصلاة والصيام، وكانوا لا يمـتـنعون عن الربا فبين الله أنهم محاربون له ولرسوله إذا لم ينتهوا عن الربا .. فإذا كان هـــؤلاء محاربين لله ولرسوله فكيف بمن يقيمون للربا بنوكاً، ويعطون للتعامل به الشرعية الكاملة ..؟
… وأما الخمر فإن النظم العلمانية تبيح شربها، وتفتح المحلات لبيعها والتجارة بـهـــــــا، وتجعلها مالاً متقوماً يحرم إهداره، بل تنشئ لإنتاج الخمور المصانع وتعطي على الاجتهاد في إنتاجها جوائز للإنتاج !!
وهـكـــذا فإن العلمانية تحل شرب الخمر وبيعها وعصرها .. فتحل ما حرم الله .. وتحرّم إهدارها والإنكار على شاربها .. فتحرم ما أحل الله ..
فالعلمانية تحل ما حرّم الله، وتحرّم ما أحل الله .. وليس هذا في الزنا والربا والخمر فقط، أو في الحدود والتعزيرات فقط، أو في مادة أو أكثر من مواد القانون الوضعي العلماني .. بل إن قضية تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله هي قضية النظام العلماني بأكمله، وبجميع جوانبه المختلفة ..
ولما كان تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله .. كفراً لمن فعله، ومَنَ قَبِله ؛ فلا بد لنا لنبقَى مسلمين من رفض هذا الكفر .. ورفض العلمانية التي تقوم عليه.
ونحن نرفض العلمانية لأنها:
2 - كفر بَواح:
العلمانية كما قلنا هي قيام الحياة على غير الدين، أو فصل الدين عن الحياة، وهذا يعني بداهة الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعته سبحانه، وقبول الحكم والتشريع من غير الله .. ولذلك فإن العلمانية "هجر لأحكام الله بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في الشريعة. بل لقد بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تعطيل حكم الله وتفضيل أحكام القانون الوضعي على أحكام الله المنزلة .. وادعاء الـمحتجين لـذلك بأن أحكام الـشريعة إنـما نـزلت لـزمان وعلل وأسباب انقطعت فسقطت الأحكام كلها بانقضائها".
وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت القوانين والأحكام التي تعلو أغلب ديار الإسلام هي قوانين "تخالف الإسلام مخالفة جوهرية في كثير من أصولها وفروعها، بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه، .. حتى لو كان في بعضها ما لا يخالف الإسلام فإن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوروبا ولمبادئها وقواعدها وجعلها هي الأصل الذي يرجع إليه ..
... وقد وضع الإمام الشافعي قاعدة جليلة دقيقة في نحو هذا، ولكنه لم يضعها في الذين يشرعون القوانين من مصادر غير إسلامية، فقد كانت بلاد المسلمين إذ ذاك بريئة من هذا العار، ولكنه وضعها في المجتهدين العلماء من المسلمين الذين يستنبطون الأحكام قبل أن يتثبتوا مما ورد في الكتاب والسنة، ويقيسون ويجتهدون برأيهم على غير أساس صحيح، حتى لو وافق الصواب حيث قال: "ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبت له معرفته، كانت موافقته للصواب - إن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة والله أعلم وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه".
وإذا كان هذا هو حكم المجتهد في الفقه الإسلامي على غير أساس من معرفة، وعن غير تثبت من أدلة الكتاب والسنة حتى ولو وافق الصواب .. فلا شك أن هؤلاء الذين يشرّعون من دون الله، مخطئون إذا أصابوا، مجرمون إذا أخطأوا، لأنهم أصابوا من غير طريق الصواب، إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنها ابتغاء مرضاة غير الله ... بل إن هؤلاء الذين يشرعون من دون الله قد وقعوا في نوع من أنواع الكفر الأكبر وهو كفر التشريع من دون الله، قال تعالى: ((أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) [المائدة:50]
يقول ابن كثير -رحمه الله- عند تفسير هذه الآية:"ينكر تعالى على من خرج عن حكمه المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكِّم سواه في قليل ولا كثير" .
أرأيت - أخي المسلم - هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير في القرن الثامن لذلك القانون الوضعي الذي وضعه عدو الإسلام جنكيز خان ؟ ألا ترى أن هذا الوصف ينطبق على القانون الوضعي الذي يضعه العلمانيون الذين يشرعون للناس من دون الله ؟ إلا في وصف واحد، وهو أن الشريعة الإسلامية كانت عند جنكيز خان مصدراً مهماً لقانونه ؛ بينما هي عند العلمانيين مصدراً احتياطياً من الدرجة الثالثة.
وإذا تبين هذا فإننا نقول بما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم - مفتي الديار السعودية - رحمه الله-: إن من الكفر الأكـبر المستبين تنزيل القانـون اللعين منـزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل:
((فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ؛ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) [النساء 59].
فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر ... فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار المسلمين مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه وتحتمه عليهم. فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة .
.. إن ما جد في حياة المسلمين من تنحية شريعة الله واستبدالها بالقوانين الوضعية البشرية القاصرة، ورمي شريعة الله بالرجعية والتخلف وعدم مواكبة التقدم الحضاري والعصر المتطور .. إن هذا في حقيقته ردة جديدة على حياة المسلمين.
وهذا ما قاله الشيخ عبد العزيز بن باز في معرض رده على القوميين حيث قال:
.. الوجه الرابع من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولابد إلى رفض حكم القرآن، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام، وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين والردة السافرة.
وكيف لا وهذه الأحكام الوضعية تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله، وتبيح انتهاك الأعراض وإفساد العقول، وتهلك الحرث والنسل حتى أصبحت المادة القانونية (إذا زنت البكر برضاها فلا شيء عليها) أحْفَظ لأمن المجتمع عند هؤلاء العلمانيين من قول الله عز وجل: ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ..)) [النور 2]
وأصبحت تصاريح الخمارات والملاهي والبنوك الربوية أصلح للمجتمع - عند العلمانيين - من الأخذ بقول الله سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [المائدة 90].
وقوله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ورسوله..)) [البقرة 278 - 279]
إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس (هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة ..)( ، وليس هذه رأياً لنا لنبديه، أو رأياً لعالم أو مفسر أو مجتهد من الفقهاء ننقل عنه، إنما هو النص الذي لا مجال فيه للتأويل، والحكم المعلوم من الدين بالضرورة .. قال تعالى:
((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ..)) [المائدة 144]
فالعلمانية التي تحـكم بغـير ما أنزل الله ليسـت معـصية، بل هي كفـر بواح ... وقبول الكفر والرضا به كفر ... ولذلك فلا بد من رفض العلمانية لنبقى في دين الله، ونحقق لأنفسنا صفة الإسلام ....
ونحن نرفض العلمانية لأنها:
3 - تفتقد الشرعية:
إن أكثر البلاد الإسلامية لا تحكم بشريعة الله .. ولكن يحكمها أناس يحملون أسماء إسلامية، ويستعرضون أنفسهم بين الحين والحين في صلاة أو عمرة أو حج، فتتوهم الجماهير أن لهم (شرعية)، وهم لا يحكمون بما أنزل الله .. فهل الحاكم إذا أبطل شريعة الله كاملة، واستعاض عنها بالشرائع الجاهلية .. هل تكون له شرعية ؟ وهل يكون له على الرعية حق السمع والطاعة ؟
.. بادئ ذي بدء نقول أنه من المتفق عليه بين العلماء (أن الإمام ما دام قائماً بواجباته الملقاة على عاتقه، مالكاً القدرة على الاستمرار في تدبير شئون رعيته عادلاً بينهم، فإن له على الرعية حق السمع والطاعة..).
ولكن هذا الحق في السمع والطاعة يكون في حدود طاعته هو لله ورسوله، فإن عطّل شرع الله، فقد خرج عن طاعة الله والرسول ولم تصبح له طاعة على الرعية .. قال تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) [النساء 58 - 59]
"وظاهر من البناء اللغوي للآية أن الطاعة لله مطلقة، وكذلك الطاعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - .. ولكن ليست كذلك الطاعة لأولي الأمر .. ولو أن الله تعالى قال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم لوجبت طاعته مطلقاً كطاعة الله والرسول، ولكن الله -جل شأنه- لم يقل ذلك، وإنما عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الله والرسول بدون تكرار الأمر (أطيعوا)، لتظل طاعتهم مقرونة دائماً بحدود ما أنزل الله"). فشرط الطاعة أن يكون ولي الأمر (منكم) أي من الذين امنوا، ولكي يكونوا كذلك فلابد أن يرد الأمر عند التنازع إلى الله (أي كتاب الله)، وإلى الرسول (أي سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ..)
وقد أكد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى فقال:»اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله« رواه البخاري. وقال -صلى الله عليه وسلم-: »إن أمر عليكم عبد مجدع - أو قال أسود - يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا وأطيعوا« رواه مسلم. فهذه الأحاديث واضحة الدلالة على أنه يشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام الرعية بكتاب الله، أما إذا لم يُحكّم فيهم شرع الله، فهذا لا سمع له ولا طاعة، وهذا يقتضي عزله، وهذا في صور الحكم بغير ما أنزل الله المفسقة، أما المكفرة فهي توجب عزله ولو بالمقاتلة "... فمن أجاز اتباع شريعة غير شريعة الإسلام وجب عزله، وانحلت بيعته، وحرمت طاعته، لأنه في هذه الحال يستحق وصف الكفر".
والكفر هو أعظم الأسباب الموجبة للعزل، وبه يخلع الإمام عن تدبير أمور المسلمين وقد انعقد إجماع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه إذا طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته (29).
وبناء على ذلك فإن وليّ الأمر الذي يتصرف في شريعة الله بالإبطال أو التعديل أو الاستبدال ... لا تكون له شرعية، لأنه فقد شرط توليته الذي يعطيه شرعية تولي الأمر وهو تطبيق شريعة الله، أي سياسة الدنيا بالدين.
وإذن فالحكام الذين يسوسون الدنيا بغير الدين، ويقيمون منهاج الحكم على المبدأ العلماني - فصل الدين عن الدولة - .. هؤلاء الحكام ليس لهم شرعية، ولا تجب على الرعية طاعتهم، بل الواجب على المسلم معاداتهم وعدم مناصرتهم بقول أو فعل ... هذا من ناحية شرعية الحاكم .. أما من ناحية شرعية الوضع، أو ما يمكن أن نطلق عليه شرعية النظام فنقول:
".. يعتقد كثير من الناس أن الأوضاع القائمة في معظم أرجاء العالم (الإسلامي) هي أوضاع إسلامية، ولكنها ينقصها تكملة هي تحكيم شريعة الله .. وفي الحقيقة إن هذا الفهم غير صحيح، فتحكيم الشريعة ليس تكملة لأصل إسلامي موجود بالفعل، ولكنه تأسيس لذلك الأصل - بمعنى أن الأوضاع لا تكون إسلامية إلا إذا قامت على شريعة الله،.. قال تعالى:
((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً..)) [النساء65].
فأول صفات الدولة الإسلامية التي تجب طاعتها وتحرم معاداتها هو أن يكون الحكم الحقيقي فيها من حيث التشريع والتكوين لله وحده .. وأن لا يكون فيها قانون خاص أو عام يخالف الكتاب والسنة، وأن لا يصدر أي أمر إداري فيها يخالف التشريع الإلهي .. وأن لا ترتكز الدولة في قيامها على أساس إقليمي أو عرقي.. ذلك أن الدولة الإسلامية تقوم على الاجتماع على الإسلام والانتساب للشرع، بمعنى أنها ترجع إلى أصول الإسلام وليس إلى أصول الكفر مثل فصل الدين عن الدولة، أو نعرات القومية ..
فإذا قام نظام دولة على مبدأ إلغاء الشريعة الإسلامــيــة والإقرار بحق التشريع المطلق لبشر من دون الله، والتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله، كان هذا النظام باطلاً، ولا تجب طاعته ..
وهذا هو شأن العلمانية التي تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، ولذلك "فأنظمة الحكم القائمة الآن في العالم الإسلامي، أنظمة علمانية مقتبسة من النظم الغربية القائمة على مبدأ فـصـــــــل الدين عن الدولة .. وهذا المبدأ يعتبر خروجاً صريحاً على مبدأ معلوم من الدين بالـضــرورة، وبالنصوص القطعية في الكتاب والسنة وإجماع العلماء كافة، وهو عموم رسالة الإســـلام لأمـــــور الدين وشؤون الحياة، وأن الإسلام منهاج حياة كامل ينظم سائر شؤون المسلمين في دنياهم .."
... إن انعدام شرعـيــة الأنظمة العلمانية التي تقوم على فصل الدين عن الدولة، والتحاكم إلى إرادة الأمة بدلاً مــــن الكتاب والسنة ... إن انعدام شرعية هذه الأنظمة هو بديهية من البديهيات .. وموقف المسلم منها يتحدد في عبارة واحدة ... إنه يرفض هذه الأنظمة ... ويرفض الاعتراف لها بأي شرعية
وهنا رابط لمقالات تعرض آراء مقاربة
http://saaid.net/mktarat/almani/m-m.htm
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/3.htm
وسيلي تقديم وجهة نظر مسيحية عربية كما عرضها المطران جورج خضر وآخرون
العلمانية؟ بين الوسيلة والغاية... - العاقل - 06-24-2005
هذه بعض النقاط والملاحظات نسجلها على كلام الهوني :
1-في تعريفه للإنسان العلماني ، قام بعملية " تصفية " لكل إيمان يتدخل في حياة الإنسان الدنيا. بمعنى آخر .. لابد لـ"البعد الإيماني " – حسب اصطلاحه- ألا يتدخل بأي شكل من أشكال التدخل في " دنيا " الإنسان ، أن يكون تعريف " الدين " مقتصرا على العبادات المتصلة بالإله فقط .
من هذا التعريف يتم رفض الإسلام جملة وتفصيلا . فالإيمان ، عند المسلمين عموما – ما عدا بعض الفرق كالجهمية وبعض الأشاعرة ، هو إعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح . وبغض النظر عن الخلاف في تعريف " الإيمان" ، فالكل متفق على أن الحساب والعقاب والجنة والنار .. موضوعة بناء على " الأعمال " ( من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) . والأعمال لا تكون بمكان آخر غير الدنيا ، فالدنيا – حسب الإٍسلام : دار عمل . والعمل هنا لا يأتي بالمعنى الأوروبي للأعمال الدينية ، بأنها – مجرد : طقوس دينية ؛ لا ، فالعمل يتعدى كونه : عبادة ليصبح معاملات . ولو فتح هذا الكاتب أ] كتاب فقهي لوجد أن " العبادات " عبارة عن كتاب واحد من بين كتب متعددة كالمعاملات والحدود وغيرها .
والدين ، الذي هذا شأنه ، أي انه يقوم على ( التمييز ) بين علاقة الإنسان بربه وعلاقته بإنسان غيره ، التمييز ، وليس الفصل . ويقوم بتنظيم علاقة " العلم " بالـ"عمل" .. الإيمان بالأعمال ، لا على العزل بينها . هذا النظام الشامل الكامل .. لا يمكن أن ينضوي تحت لواء الأديان التي تتعايش مع العلمانية ، بل هو يقوم منها مقام الضد .. أيديولوجيا مقابل أيديولوجيا .
أما كون العلمانية أيديولوجيا ، فكلمات الكاتب تنطق بذلك ، فالأيديولوجيا هي " تصور" للإنسان ،محاولة إكسابه معنى ما ، ومن خلال هذا المعنى يتم تحديد معاني كل ما يحيط به من أِشياء . والكاتب لا يفتأ يتحدث عن " الإنسان العلماني " ... مما يعني أن له حدودا ، ومجرد كون له حدود .. يعني أنه أدلوجة .
2-نعم ، هو صدق " فالعلمانية ليست ضد الدين" . لكن هذه جملة فضفاضة ، شعار ، والشعارات دائما خادعة . فالدين ، ليس نمطا واحدا ، حتى نتكلم عنه بهذا التعميم . أي دين الذي لا يضاد العلمانية ؟ هناك أديان يمكنها ان تتعايش مع العلمانية .. وهناك أديان عبارة عن " أضداد " للعلمانية ، بوجودها تنتفي العلمانية .
هذه نقطة ، النقطة الأخرى .. وهو أنه ليس من المفكر فيه عند الكاتب أن يوجد دين يحارب رجال الدين .. يرفض الكهنوت . فرفض رجال الدين والكهنوت ، يعني بالضرورة ان يكون الرافض : علماني .
قبل ان نتكلم عن رفض رجال الدين ، لابد أن نتسائل : من هو رجل الدين ؟
سأضع هذا التعريف : رجل الدين هو ذلك الإنسان الذي جعل الدين منصب ووظيفة ، وجعل مقابلا لاستلام هذه الوظيفة اعترافا باستحقاقه شيئا من القدسية ونوعا من الوساطة بين الناس والله .
هذا هو رجل الدين . ووجد هذا النوع لدى الكاثوليك والأرثوذكس واليهود والهندوس . أما الإسلام فقد حارب هذا النوع من الرجال ( اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) . وجعل وجود هذا النوع من الأشخاص مظهرا من مظاهر الشرك الذي جاء الإسلام بنقيضه : التوحيد . لكن مع تطاول العهد .. ظهر نوع يأخذ من صفات رجال الدين .. صفة واحدة ، وهو تولي منصب ديني . فوجود " مفتي ديار " و " هيئة كبار علماء " و " المرجعيات " . مثل هذه المناصب لا تدعي لنفسها القداسة ، ولا كونها وسيطة بين الناس وبين الله ، ولكنها تحترف مهنة الدين .
وأنا لا اتكلم هنا عن القضاة . بل أتكلم عن أولئك القوم الذين يتصدرون المجالس فيقولون " هذا حلال وهذا حرام " .. ويأخذون المال على هذه الفتاوى ، وتصبح فتاويهم شعارا للدولة .. كما يحصل عندنا هنا بالسعودية . فهؤلاء الأقوام ما أنزل الله بهم من سلطان .
والعلمانية ..حسب تعريف صاحبها ، توجد في المكان الذي يوجد فيه رجال الدين الذين يتسلطون على العباد باسم الإله . وهذه الطائفة ، كما أسلفنا ، غير موجودة في ديار المسلمين . نعم حصل نوع من الأحادية في العصور الأخيرة ، وظهرت " متون العقائد " وهي متون تكتب فيها مجموع العقائد التي بها يكون المرء مسلما وبالايمان بغيرها يكون خارجا عن الإسلام ، بحيث تكون هي المرجعية ، لا القرآن .ولكن هذه العقائد ودعاتها والمتحمسين لها والموظفين الدينيين كل هؤلاء : لا يقتضي وجودهم اجترار الحل العلماني بكل صفاقة دون مراعاة خصوصية هذا المجتمع والسياق التاريخي الذي أنتجه .
فكما ان السلفي الذي يرفض العلمانية ، بناء على كونها لم توجد في " خير القرون " ، كما أنه في حكمه هذا عدم من " الوعي التاريخي " ، فكذلك العلماني .. هو الآخر معدوم " الوعي التاريخي " إذ ينادي بنقل منظومة فكرية كاملة من مكان لمكان دون الإلتفات لخصوصيات المكان المنقول منه والمنقول إليه . بل إن البعض هنا ينفي تماما وجود خصوصيات تاريخية .. وكأن التاريخ أضحى مطلقا .
فوجود المشكلة .. لا يعني أبدا أحادية الحل . فنحن لا نبحث عن الحل المناسب .. لا نقلد الحل . بل أنا زعيم بأنه من أجل نقل هذه المنظومة الفكرية .. تم " اختلاق " مشكلة " رجال الدين " وتضخيم مكانة الموظفين الدينيين .. برفعهم إلى مصاف رجال الدين .
أخيرا ، وبنظرة نمطية تعميمية كالعادة ، يجعل الكاتب الأديان عمادها الوحي والأسطورة ، بينما العلمانية عمادها العقل والتجربة . فهو هنا يطرح ثنائية تضادية بين الوحي والعقل والتجربة .. لا يمكن ايجاد صيغة تحملهم جميعا معا .. دون حدوث صراع . وهذا – ببساطة – نقل لإشكالية غربية ، إشكالية " العلم والدين " من هناك إلى هنا حيث لا مكان لها .
وكتعليق سريع على هذا الكلام نقول :
أولا ، العقل ليس جوهرا .. بل هو ملكة وصفة يتحدد وجودها في الإنسان من مجمل سلوكه العام . وبهذا نكون قد ألغينا أساس الإشكالية المطروحة . فيصبح الوحي هنا ليس مقابلا للعقل ، إذ العقل ليس وجودا ، بل هو مقابل أيديولوجيا أخرى ، والعقل مشترك بين الإثنين . واعتبار أن العقل جوهرا هو امتداد للفلسفة الأرسطية التي نشأت في البيئة اليونانية الوثنية ، وجوهرية العقل ترتبط ارتباطا وثيقا بتعدد الآلهة اليونانية .
ثانيا ، التجربة معيار للحقيقة ، ولكنها ليست المعيار الوحيد . بل إن مقولة أن " التجربة معيار الحقيقة " لا يمكن إثباتها بالتجربة . وأنا انطلق من دراستي التجريبية في الهندسة الكهربائية ، فأقول : أننا عندما نذهب للمعمل لكي نقوم بتجربة ، لا نقوم بذلك لنثبت أن التجربة معيار للحقيقة .. بل نقوم بذلك عندما استقر في نفوسنا ان التجربة معيار للحقيقة من دليل آخر غير التجربة .
ثالثا ، الوحي يصلنا بالتبليغ .. ومبناه الإيمان ، أي التصديق بالمبلغ ، فينحصر النظر هنا في إثبات صدق المبلغ . وإمكانية الوحي لا يوجد شيء يمنعها إلأ عوائق أيديولوجية .. كأن يحصر أحدنا مجال الحقيقة عنده في التجربة وما إلى ذلك ، وهذا الحصر غير مسلم وباطل وما يبنى عليه باطل أيضا.
3-أما كلامه عن عدم تشكيل العلمانية قطيعة مع الإسلام ، فهو كلام مبني على افتراضات مسبقة : بينا ، مسبقا ، بطلانها . افتراضات من قبيل أن الإسلام " طقوس عبادية " . وما إلى ذلك .
4-تسميات كالدولة الدينية والدولة العلمانية .. هي من إفرازات الثقافة الغربية ، أي أنها افرازات سياق تاريخي لم نمر به وبالتالي لا نلزم به إلا إذا كان هناك ثم تشابه بيننا .
الإسلام يقرر أولا أن الملك لله . وأن الإنسان مستخلف في هذا الملك .. ومسخر له هذا الملك ، ودوره في هذا الملك هو العمارة .. وهذا الدور يقوم به عبادة لله . ويقرر الإٍسلام أنه لا بد أن يكون العدل وتأدية الأمانات والطاعة وغيرها هي الضوابط التي تحدد العلاقات بين البشر وبينهم وبين السلطة الحاكمة عليهم .
هذه هي الغايات ، أما كيف يحدث ذلك : بأي وسيلة ؟هنا باب الإحتهاد مفتوح .. وكل ما أدى إلى الواجب فهو واجب سواء كان ديمقراطية او دكتاتورية او ملكية .
ففي الاسلام لا وجود لرجال الدين حتى يكون لهم حكم وتسلط على السياسة ، إنما هو خيال الكاتب الذي يبتدع ما لا يراه .
5-اقتران الإلحاد بالعلمانية ، ليست فرية افتراها إسلاميين او رجال دين . بل إن العلمانية باهتمامها بالجانب الدنيوي من حياة الإنسان وتشديدها على الفصل بينه وبين الجانب الأخروي .. أصبحت بيئة مناسبة للإلحاد وأي عقيدة مهما كانت بشرط ألا تتدخل في الجانب الدنيوي .
6- التاريخ يقف في وجه الكاتب هنا أيضا . فاليونان وروما وفلورنسا .. عرفت الديمقراطية وطبقتها ، قبل أن تظهر العلمانية للوجود .