حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
الوعي بين الطبيعة والثقافة، بين الطبع والتطبع: لا للتطبيع! - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5) +--- المنتدى: الحوار الديني (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=58) +--- الموضوع: الوعي بين الطبيعة والثقافة، بين الطبع والتطبع: لا للتطبيع! (/showthread.php?tid=27248) |
الوعي بين الطبيعة والثقافة، بين الطبع والتطبع: لا للتطبيع! - فرج - 06-23-2005 الوعي بين الطبيعة والثقافة، بين الطبع والتطبع : لا للتطبيع! لن أبدأ من الصفر المطلق بل من "الصفر النسبي" أو من الدرجة صفر للوعي. ولكن ما هي الدرجة صفر للوعي؟ من الممكن أن نتفق اصطلاحا على القول بأنّ الدرجة صفر للوعي تقع عند بداية الثقافة مع الخطوة الأولى التي خطاها أجدادنا الأولون باتجاه الانسلاخ عن مملكة الحيوان بعد أن أدركوا قدرتهم على تجاوز الوضع الحيواني وبالتالي الخروج من الحلقة المفرغة التي تدور فيها الدورة البيولوجية المطبوعة في لوحة جينات الكائن الحي الخاضع لقوانين البيولوجيا ولا فرار له منها. في حين أن الإنسان منذ بدايات وعيه لذاته راح ينظم علاقاته مع الظواهر المحيطة به يتكيف معها عندما يعجز عن تكييفها وفق احتياجاته. من أبسط الأدوات وأكثرها بدائية إلى التكنولوجيا الأكثر تعقيدا، كل من هذه الأدوات تحمل بصمات الوعي الذي انتجها، وتجسد مستوى معين من الوعي، درجة معينة من درجات الوعي لنتفق على تسميته "الوعي الجامد"، الساكن، المتحجر أو المحنّط. لنأخذ مثال فند شجرة مطروح على الأرض أو حجر لم تمسسهما يد بشر. قد يستعين الإنسان البدائي بهذا الحجر أو الفند ليقطف ثمرة من شجرة أو ليدافع عن نفسه ضد حيوان مفترس يهاجمه فهذا شيء طبيعي غريزي وقد يتصرف نفس التصرف عدد من الحيوانات الذكية القريبة بذكائها من الإنسان. ولكن بعد التجربة الطويلة والملاحظة الذكية تمكن الإنسان البدائي من تحويل فند الشجرة إلى عصا يستخدمها بسهولة كأداة عمل أو قتال. وبين الحجارة العديدة صار ينتقي الحجر الأكثر فعالية وبقليل أو كثير من الجهد والمثابرة استطاع أن يحول الحجر من شكله الطبيعي قليل الإنتاجية إلى ما يشبه الفأس الحجرية أو سكين بإنتاجية مضاعفة أضعافا. وهكذا من الفأس الحجرية إلى الفأس الحديدية إلى...إلى قوة البخار المضغوط، إلى الكهرباء ... إلى الطاقة النووية المدجّنة...وفي كل المجالات براً وبحراً وجواً وفضاءً وحوسبة واتصالاً. . فالحجر المشغول بشكل فأس أو سكين والعصا المصقولة بشكل دبّوس أو بأشكال اخرى، ما هي إلاّ الوثائق التاريخية الأولى التي تسجل بداية الوعي كما تسجل بداية التاريخ وبداية الثقافة. ولو قلنا كل البدايات الإنسانية لما ابتعدنا عن الصواب لأن كل ما هو إنساني هو منتج من منتجات الوعي. كل وثيقة هي ابنة عصرها وتحمل بصمات عصرها وكأنها صورة فوتوغرافية عن مستوى الوعي في ذلك العصر. ولكن...ولكن! هذا في ما يتعلق بالوعي المحنط، المدوّن في لحظة معينة، لحظة التقاط الصورة! وماذا عن الوعي الحي؟ الوعي الحي القيوم الذي لا يموت ولا ينام ولا يمكن تحنيطه في وثيقة أو في رسم، كما لا يمكن دفنه حياً في كتاب أو في اسطوانة C D أو غير ذلك. هو الحي الباقي في الأفراد الأحياء بقاء النوع البشري ككل رغم فناء الفرد. هو الوعي الذي ينمو ويتكامل بشكل متواصل مغتنيا بكل التجارب التي تعيشها البشرية، التجارب الخارجية (في الآفاق) على مستوى الطبيعة والعالم المادي، والتجارب الداخلية (في الأنفس) على مستوى الوعي نفسه والاجتماع البشري. رغم أننا قطعنا شوطا لا بأس به في هذه المجالات (الآفاق) إلاّ أننا ما زلنا (في الأنفس) لم نبتعد كثيرا عن مملكة الحيوان والدليل على ذلك أن شريعة الغاب ما زالت هي السائدة في كثير من الحالات في العلاقات بين البشر داخل المجتمع الواحد، أو على الصعيد الدولي في العلاقات بين الدول حيث السيادة للأقوى (قانون الأقوى هو الأفضل). أمّا الضعفاء فلهم أن يحلموا بالعدالة التي يريدونها، واقعية إنسانية قابلة للتطور على هذه الأرض، أو مثالية مطلقة اسكاتولوجية "موعود بها" كل من صدّق خبرها وأطاع دعاتها. الثقافة والطبيعة: الثقافة هي نتاج الوعي بل هي الوعي بذاته. الثقافة مقابل الطبيعة، هي حالة تجاوز الطبيعة. الثقافة ليست معطى طبيعيا ولكن قابلية الثقافة هي من صلب الطبيعة الإنسانية، وكأن الثقافة ليست إلزامية في برنامج الطبيعة إنما هي مادة اختيارية ولكن بمجرد اختيارها تصبح مُلزمة لصاحبها، وأي إلزام؟! . الثقافة هي دائما في مواجهة مع الطبيعة. هذا لا يعني أنها ضد الطبيعة، ولكنها سرعان ما تتحول إلى طبيعة ثانية يتجاوزها الوعي الحي إلى حالة ثقافية إنسانية أرقى من سلفها طالما الوعي الحي مستمر في نشاطه الخلاّق. فالثقافة التي يولد فيها المرء وينشأ ويترعرع في كنفها تكون بالنسبة له بمثابة معطيات طبيعية لا فضل له في عظمتها إذا كانت عظيمة ولا ذنب عليه في انحطاطها إذا ما كانت في انحطاط. وغالبا ما يدخل المرء في صراع مع الثقافة الموروثة رغبة منه في تجاوزها وفي الأغلب يصطدم بمقاومة عنيفة تقمع فيه كل رغبة من هذا القبيل فيجد نفسه مضطراً للتخلي عن هذه الرغبة وللمصالحة مع الثقافة السائدة وقد يصبح واحدا من المدافعين المتحمسين عن الثقافة السائدة المنخرطين في أجهزة القمع الناشطة ضد أي رغبة في تجاوز الحالة الطبيعية الموروثة إلى حالة ثقافية أقرب إلى الإنسانية، أقرب إلى الطبيعة الإنسانية المتميزة بالوعي الحي الذي لا يعرف السكون وهو دائما في حالة صراع مع ذاته المنشقة عنه والمتمترسة في خندق الجمود الذهني، عند هذا المستوى أو ذاك. وما الجمود الذهني؟ الجمود الذهني يعني الوقوف عند حالة ثقافية معينة كانت في يوم من الأيام تجاوزا لما سبقها، مما شجع القائمين على هذه الحالة الثقافية والناطقين باسمها على إعلان "نهاية التاريخ " واكتمال الحق. وبما أن التاريخ، على ما يبدو لصانعيه، لم ينته. والحق ما زال في اكتمال متواصل. والعلوم المحفوظة في ألواح سومر وفي سماء سومر لم تقل بعد كلمتها الأخيرة حول بداية التاريخ، فما بالك عن نهاية التاريخ؟ فماذا يبقى للناطقين باسم هذه الحالة، والحالة على ما هي عليه، غير إبقاء الأمور على حالها من التكرار والاجترار ورفض أي تغيير في شكل أو في مضمون أي طقس من الطقوس، وإقفال الأبواب صدا لرياح الاجتهاد وعواصف الرأي الحر. من بين المعاني العديدة التي تشملها كلمة ثقافة يهمنا المعنى الحسي الأصلي مثل (ثقّف الرمح: قوّمه وسوّاه، المثقف في عرف الشعراء هو الرمح، كما المهنّد هو السيف،النسبة إلى الهند )، والمعنى الثاني بالاستعارة من المعنى الأول (ثقّف الولد: هذّبه وعلّمه. الإنسان المثقف هو صاحب العلم والمعرفة الواسعة). وإذا أردنا تعريف الثقافة بشكل عام نقول إنها منتج من منتجات الوعي، نتيجة الجهد الواعي الهادف الذي يبذله المرء على نفسه أو على غيره من الأشخاص أو الأشياء تهذيباً وتعليماً وتقويماً. وهنا يلتقي معنى الثقافة والتثقيف بمفهوم الأدب والتأديب بالمعنى الأوسع للكلمة وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الرأي المتواضع الذي يُرجّح الأصل السومري لكلمة أدب ومشتقاتها. بالسومرية لفظة "دوب" تعني "لوح" و"أدوبة" المكان الذي تُحفظ فيه الألواح وتُدرّس وتُدرس، أي المدرسة والمكتبة معاً. ومعروف أن كلمة أدب متعددة المعاني ولكن يبقى القاسم المشترك لهذه المعاني في كونها تُكتسب وتُنقل بالتعلّم والتعليم والتعوّد (آداب السلوك ... آداب الحوار...إلخ). الثقافة إذن ليست معطى طبيعيا وفي الوقت نفسه ليست موجهة ضد الطبيعة. إنما هي عملية "أنسنة" للطبيعة وفقا لمشروع الوعي. ولكن للأسف إن ما نراه من حولنا في هذه الأيام ليس بأنسنة الطبيعة بقدر ما هو"تطبيع" الإنسان. والتطبيع الذي يجري فرضه بالقوة يصطدم بالثقافة، بالحالة الثقافية الراهنة التي هي أقرب إلى الطبيعة منها إلى الطليعة، أي إلى الوعي الحي الطليعي، الإنساني عموماً، وبصورة خاصة في مستوى علاقاته مع الطبيعة والعالم المادي. التطبيع في كل الأحوال هو عودة إلى الطبيعة أو رجعة إلى حالة طبيعية سابقة، هو فعل رجعي فيه تراجع وتطلع إلى حالة طبيعية وكأنها النموذج الأصلي الواجب تقليده. تجري عملية التطبيع هذه على مستويين: المستوى الأصغر الذي يقتصر على علاقة ثنائية يكون فيها أحد الطرفين مستفيدا من التطبيع على حساب الآخر، أو على الأقل هذا ما يحسه الطرف المستهدف بالتطبيع. والمستوى الأكبر يتسع ليشمل أكثر من طرف على صعيد إقليمي كما هي الحال في مشروع "الشرق الأوسط الكبير( أو الموسع)"، أو على مستوى عالمي كما كانت الحال خلال الحرب الباردة في مرحلة ما سمي بـ "الانفراج" Detente بين المعسكرين الجبارين. في الحالة الأولى، حالة التطبيع بالقوة، إنها حالة أشبه بحالة الزواج بالإكراه. مثل ذلك كمثل السلجوكي المنتصر على جيوش الخليفة العباسي وجيوشه تحاصر بغداد وقد تجاوز عمره الستين ويطلب الزواج من ابنة الخليفة وهي في ربيعها الخامس عشر! ولم يحصل قبل ذلك أن يُنكح خليفة عباسي ابنته لرجل غير عباسي. فماذا يبقى للخليفة من خيارات؟ وفي النتيجة أُقيمت مراسم الزواج في احتفالات لم تشهد بغداد لها مثيلا وزُفّت العروس للعريس وبعد بضعة أسابيع مات السلطان السلجوقي مسموما حسب إحدى الروايات. في رواية أخرى قيل بالسكتة القلبية ويقال إنّ ابنة الخليفة عادت إلى بيت أبيها دون أن يمسسها رجل، والله أعلم! فهذا الكولونيالي الستعمر المغتصب، المستوطن باسم شرعية خرافية يحملها من العصور الميثولوجية البائدة، يرغب التطبيع مع المغلوب، المغلوب على أمره. عن أي حالة "سابقة" يمكن الحديث ؟ لم يكن هناك حالة سابقة لا في التاريخ الحديث ولا في التاريخ القديم. ما هي الحالة اللاحقة؟ ما هي الحالة الثقافية التي يدعو إليها السيد المنتصر، سيد الاستيطان والاحتلال؟ علما بأن الأفراد القادمين من ثقافات متنوعة وحالات ثقافية متفاوتة من حيث المسافة الفاصلة ما بين كل من الحالتين وما اتفقنا على تسميته بالدرجة صفر للوعي. هم كأفراد قد يكونون عباقرة، ولكن عندما يندمجون مع الكيان القائم على الخرافة وما يتبعها من عنصرية عرقية دينية يؤكدون بذلك تخليهم عن الحالة العليا وتراجعهم عن قيم إنسانية نبيلة إلى الحالة الدنيا، بل الأدنى، إلى قيم لا تتجاوز السقف المرسوم لها عند حدود النزعة القومية ـ الطائفية في مزيج لا يميز الديني عن الدنيوي، وكل ذلك من أجل إرضاء الميل الغريزي نحو غلبة الآخر (غوي غوييم) واستعباده ليعمل في خدمة سيده دون أن يستريح في اليوم السابع ولترسيخ الكيان المهتز القائم على أوهام تعززها أوهام أخرى وكأنها صدى لا نفع منه ولا أذى. هذا الطريق مسدود. فليبحثوا عن طريق آخر لا يكون مسدودا! فليكن التطلع إلى الأمام دائما وأبداً! فالحالة الطبيعية ليست بالحالة المثلى. المطلوب هو خلق حالة جديدة، حالة ثقافية إنسانية تتجاوز الطبيعة وتتجاوز الخرافة وأصداء الخرافة، حالة تضع الكائن الفرد، الإنسان الملموس،"زيد وعمرو"، في مركز أي مشروع إنساني، ليكون هو الغاية والوسيلة في آن معا في كل مشروع! هذه الحالة الجديدة إذا ما نظرنا إليها من زاوية أوسع رأينا أنّها تتطابق مع مفهوم الإصلاح أو الإصلاحات. على نطاق أوسع، المصطلح المستخدم هو الإصلاح أو الإصلاحات. صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه ولكن هناك أوضاع تتشابه إلى حد كبير رغم الفوارق في السياقات وفي الرهانات. على امتداد القرن التاسع عشر كانت الدولة العثمانية، المشار إليها بـ"المسألة الشرقية" وبعدها بـ"الرجل المريض"، تحظى باهتمام الدول الأوروبية التي بدورها تمارس شتى الضغوطات على الدولة العثمانية للحصول على تنازلات وامتيازات بموجب اتفاقات ثنائية أو متعددة الأطراف، من جهة. ومن جهة أخرى الضغط على السلطنة لاتخاذ تدابير وقوانين للإصلاح الإداري والسياسي. وتعهدت الدول الأوروبية في مؤتمر باريس سنة 1856 بحماية "وحدة الدولة العثمانية وسلامة أراضيها" مقابل مزيد من التنازلات لهذه الدول ومنحها امتيازات على أراضي السلطنة. وبالفعل حاولت السلطنة إجراء إصلاحات وأصدرت قوانين (تنظيمات) في مختلف المجالات من شأنها أن تسهل حركة رؤوس الأموال الأجنبية في الولايات العثمانية...وحتى على الصعيد السياسي، عند جلوس عبد الحميد الثاني على العرش في سنة 1876 وعد بإعلان الدستور وبدعوة برلمان ( مجلس مبعوثي الطوائف والفئات الداخلة في السلطنة) وانعقد البرلمان في جلسة واحدة ليستمع إلى خطبة مطولة ألقاها السلطان، خطبة تضمنت البرنامج الإصلاحي ولم تنعقد جلسة ثانية للبرلمان إذ صدرت "إرادة شاهانية" بفض البرلمان وكان ذلك في شباط /فبراير 1878 وجرى قمع كل حركة احتجاج على التدابير الحكومية... وما الذي يحصل اليوم في "الشرق الأوسط الكبير"؟ نكاد نسع ونقرأ الكلام نفسه والكليشيات نفسها بينما الجديد في الأمر هو التدخل العسكري المباشر، أهدافه المعلنة هي الإصلاح السياسي والإداري. ويتميز الوضع الراهن بانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالزعامة العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فالدور الذي تقوم به الولايات المتحدة هو دور الوصيّ الأكبر، الذي يتصرف وكأنه مطلق الصلاحيات. قد يستعين بغطاء الأمم المتحدة إذا كانت مؤيدة له وإلاّ يتجاهلها كلياً ويركب رأسه. الوضع العالمي اليوم أشبه بمجتمع قومي يسوده نظام السلطة الفردية المطلقة التي لا تحتمل وجود رأي مغاير لما يراه السيد الحاكم المطلق. (لاحظ ردة فعل الولايات المتحدة، الحكومة وغالبية الرأي العام الأمريكي، تجاه الموقف الفرنسي من حرب العراق!). ماذا يبقى للأبناء أن يفعلوا تجاه هذا الأب الأكبر؟؟؟ ولكن ماذا عن الوصيّ المحلي، الحاكم بالسلطة المطلقة التي تقدم نفسها وكأنها السلطة الإلهية بذاتها ؟؟؟ وهذه الشعوب "القاصرة" في نظر رأس النظام العالمي الجديد، هل بلغت سن الرشد لتتصرف بمسؤولية؟؟؟ إذا بلغت الشعوب "المستقلة" في دويلاتها يوماً درجة من الوعي والنضج السياسي تسمح لها بالإطاحة بـ "صدّاميها" دون أن تحتاج إلى تدخل خارجي تكون قد بلغت فعلاً سن الرشد. فعندئذ يمكنها أن تنبري للإطاحة بوصاية "الأب" الأكبر، أو الأخ الأكبر أو أية وصاية أخرى! ولكن الإطاحة بهذه الوصاية وبأية وصاية أخرى لا تتم إلاّ بوجود قوى مضادة للسلطة الأبوية المطلقة تحد من تماديها ومن تجاوزاتها للقانون الدولي. هذه القوى ستتكون من تكتلات إقليمية قوية مثل الاتحاد الأوروبي( ؟) رغم الصعوبات التي تعترض مسيرته (أنظر أدناه) . ونوع من إتحاد عربي يرتقي بمؤسسة الجامعة العربية إلى مستوى الدولة القومية ربما فيديرالية وأي شيء باستثناء الدولة العقائدية، دينية أو غير دينية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية... ماذا عن الاتحاد الأوروبي؟ منذ حوالي نصف قرن أبرمت ست دول أول اتفاقية اقتصادية وأطلقت تسمية "الجماعة الأوروبية الاقتصادية" وتواصلت المسيرة التوحيدية بتأن لكن بخطى ثابتة. من اتفاق إلى اتفاق من الاقتصاد إلى النقد (العملة الموحدة اليورو) إلى السياسة. العدد في ازدياد (حاليا 25) الاسم تغير من جماعة إلى "الاتحاد الأوروبي". هذه المسيرة التوحيدية لم تصل إلى ما وصلت إليه دون أن تلقى أية مقاومة، بل لاقت مقاومة من الموالين لأمريكا ضد مشروع أوروبا موحدة تستطيع أن تقف مع أمريكا أو ضدها وقفة الند للند وهناك أيضا النزعات القومية المتزمتة، المتمسكة بالسيادة الوطنية وتخشى أن يطغى الانتماء الأوروبي، ما فوق القومي، على الانتماء القومي. كما كان وما زال الصراع بين الانتماء العشائري ـ القبلي والانتماء الوطني (القطري) أو القومي في مجتمعاتنا العربية. لنا من التجربة الأمريكية والتجربة الأوروبية دروس يمكن الاستفادة منها. كل البلدان المنتمية للاتحاد ترغب في توحيد أوروبا وفي هذه البلدان أحزاب وكل حزب منها يريد توحيد أوروبا ولكن على الصورة التي يريدها هو وإن كانت مثالية بعيدة عن الواقع تقليدا لنموذج لا وجود له إلاّ في المخيلة. الموقف من أمريكا الموقف من أمريكا قد ينطبق على أي بلد غربي آخر ذي ماضٍ استعماري قديم أو امبريالي جديد. إنه لمن قصر النظر أن نرى الغرب ككتلة واحدة سوداء أو بيضاء أو أن نرى بلدا غربيا مثل الولايات المتحدة، أو المملكة المتحدة أو الجمهورية الفرنسية وكأنه كتلة واحدة إمّا بيضاء أوسوداء. فلا بد من التمييز بين السياسة الخارجية للبلد التي قد تكون معادية كليا لشعب من الشعوب كما هي حال السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي ـ الإسرائيلي في فلسطين حيث لا يخفى على أحد انحيازها التام لإسرائيل. الأمر الذي يلقي بالمسؤولية على كل إنسان، عربي أو غير عربي بما في ذلك اليهودي في إسرائيل، كل صاحب ضمير ويدرك بعض الإدراك شيئا من مفهوم الحق والعدالة، فيتعين عليه مناهضة السياسة الأمريكية في فلسطين بالطرق المعقولة التي تخدم القضية الفلسطينية كما يراها أصحابها ولا بوسائل تسيء إلى القضية أكثر مما تفيدها. ولكن هذا لا يمنع الفلسطيني الواعي لقضيته أن ينهل العلم بكل اختصاصاته من جامعات أمريكا ليعود إلى بلده فلسطين أو أي بلد شقيق ـ والأشقاء كثر ـ فيكون مسلحا بخير سلاح لخدمة قضيته. وحتى لو بقي في أمريكا وجذبته سياسة استدراج الأدمغة فسيكون مفيدا لقضيته، أكان نشاطه في مجال التعليم والبحث العلمي، مثل المغفور لهما هشام شرابي وإدوار سعيد وآخرين، أم في مجالات أخرى لا تقل أهمية. حتى النظام السياسي الأمريكي، رغم الإرث العنصري الذي يجرجره ويترك وصمات عار هنا وهناك ورغم السياسة الخارجية الهادفة إلى الهيمنة والوصاية على الشعوب، إلاّ أنه غني بالدروس المفيدة لشعوبنا إذا ما عرفنا كيف نستفيد. وقد تدفعها مصالحها بعض الحين إلى الوقوف، مثلاً، ضد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. وإسرائيل نفسها الدولة العنصرية الوحيدة الباقية على سطح الكوكب بعنصريتها الموجهة ضد العرب الفلسطينيين، مواطنيها من الدرجة الثانية أو الثالثة وضد الفلسطينيين أينما وجدوا . لكن هذه العنصرية لا تمنعها من ممارسة ديموقراطية مع مواطنيها اليهود. وهل نظامها الديموقراطي يشكل نقطة ضعف بالنسبة لها؟ أم أنه مصدر من مصادر قوتها؟ وكم من حالة اغتيال سياسي وقع في إسرائيل ضد شخصيات سياسية يهودية، باستثناء مقتل اسحق رابين على يد متطرف يهودي؟ في حين أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية اغتالت اغتيالا جهرا وسراً مئات الشخصيات الفلسطينية في فلسطين نفسها وفي لبنان، في تونس وفي الأردن. هذا التناقض الصارخ بين وجهين لكيان واحد نجده في كل الدول الاستعمارية في علاقاتها مع الشعوب التي تستعمرها أو استعمرتها سابقا. مثال بريطانيا العظمى التي أنجزت ثورتها الديموقراطية الليبرالية في أواخر القرن السابع عشر. فالبرلمان البريطاني يتمتع بسلطة مستقلة عن السلطة الملكية، ويمارس الرقابة على السلطة التنفيذية ويقيدها بقوانينه، في حين أنّ سياستها تجاه المستعمرات بما في ذلك المستعمرات الأمريكية حيث المستعمرون (بكسر الميم الثانية) للبلاد، المقيمون في الولايات الأمريكية، ينتمون عرقاً وثقافة إلى بريطانيا نفسها وليسوا بعيدين عن تأثير الأفكار الثورية والديموقراطية المزدهرة في انجلترا خلال القرن الثامن عشر وبشكل خاص أفكار جون لوك حول الحكم المدني . ولكن الدولة المستعمرة (بكسر الميم الثانية) كانت تمارس سلطة مطلقة على المستعمرات دون إشراك سكان هذه المستعمرات في أي تمثيل برلماني. وتفرض الضرائب التي تريد دون استشارة الهيئات المحلية المنتخبة. ولم ترتفع في بريطانيا أصوات كثيرة تدعو إلى تمثيل سكان المستعمرات في البرلمان البريطاني باستثناء بعض الليبرالبيين مثل أدموند بورك. والثورة الفرنسية على لسان ممثليها الأكثر تحمسا رفعت شعاراتها: الديموقراطية لا تُصدّر والعلمانية لا تُصدّر والثورة عموماً لا تصدر. والولايات المتحدة الأمريكية لم تخرج عن هذه القاعدة. ولو نظرنا إلى مسيرة كل من هذه التجارب الرائدة لوجدنا أنّ دساتير هذه الدول قد عرفت تعديلات عديدة تغني مضمون هذه القواعد العامة للحياة السياسية بإضافة مضامين جديدة من شأنها أن تجعل هذه الدساتير تواكب التطور الحاصل داخل المجتمع. أما التأثير الخارجي مهما عظُم فيبقى ضئيلاً بالمقارنة مع العوامل الداخلية. خلاصة القول إنّ التطبيع حتى من حيث اللغة هو فعل الفاعل من خارج الموضوع: فعّل يفعّل تفعيلاً، في حين أن التطبع هو فعل الفاعل على ذاته، على نفسه: تعلّم، يتعلّم تعلماً. مثل تحرّر، يتحرر تحررا، ما معناه أن الشخص يحرر ذاته بذاته. بينما حرر يحرر تحريرا قد يعني كثرة المحررين وقلة الأحرار!!! والثقافة هي فعل الإنسان على ذاته بامتياز، تبدأ بالسيطرة على طبعه في عملية تطبع وتكيف خاصة بالشخص نفسه وقد تستعصي على أي فاعل من الخارج. وجل ما يتوخاه المرء لا يزيد عن بعض المساعدة الخارجية وفي الغالب منع التدخل الخارجي الذي قد يسحق، بحذائه العسكري أو بجنزير دبابته البيضة قبل أن يخرج منها الصوص مكتملاً قادرا على العيش. |