![]() |
أبكار السقـّاف(( بنت اليمن))-تلميذة العقاد المنسية- أهدي هذا الموضوع لكل بنات الخليج - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3) +--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57) +--- الموضوع: أبكار السقـّاف(( بنت اليمن))-تلميذة العقاد المنسية- أهدي هذا الموضوع لكل بنات الخليج (/showthread.php?tid=28414) |
أبكار السقـّاف(( بنت اليمن))-تلميذة العقاد المنسية- أهدي هذا الموضوع لكل بنات الخليج - إبراهيم - 05-23-2005 أبكار السقاف .. تلميذة العقاد المنسية "الخميس, 19-مايو-2005" - كمال بن محمد الريامي عرف الأديب العربي الكبير/ عباس محمود العقاد - بصالونه الأدبي العامر الذي كان مرتعاً من مراتع الشعر والأدب يرتاده النخبة من المثقفين في مصر والعالم العربي والعديد من تلامذته الذين صاروا فيما بعد كواكب نيرة في الأدب والثقافة .. وكان من ضمن التلامذة الذين يرتادون عليه في ذلك الوقت الاديبة والمفكرة اليمنية الرائدة أبكار السقاف - فمن هي أبكار ؟ قبل التعريف بها لابد من الإشارة الى الباحث المصري مهدي مصطفى الذي قام بدراسة شاملة لحياة أبكار السقاف وكانت هذه الدراسة ومازالت هي المنفذ الوحيد لمعرفة شخصية أبكار لأن ما كتب عنها قليل وقد نسيت تماماً رغم نبوغها الفريد.. والسبب في ذلك كما يقول مهدي مصطفى (أنها لم تنخرط بالعمل السياسي) في الوقت الذي كان الإهتمام فيه بالمثقف السياسي ينال الجانب الأكبر من اهتمامات الصحافة والكتاب .. وبعد هذه الوقفة مع مهدي نتطرق الى بدايات أبكار من: النشأة - الزواج ولدت ابكار محمد السقاف سنه 1913م لأب يمني وأم تركية والدها محمدالسقاف من عائلة ظلت تشارك في مسار السلطة بحضرموت ردحاً من الزمن شارك في ثورة العرب الكبرى على الإحتلال بقيادة الشريف حسين عام 1916م ولم يكن السقاف يطمح الى الوحدة بين اليمنيين الشمال والجنوب فحسب، بل كان يسعى إلى أن يربط بين العالم العربي من شرقه الى غربه وتمثل ذلك في محاولته تزويج ابنته أبكار لأمير برقة السنوسي ملك ليبيا فيما بعد .. في كنف هذا الأب العروبي عاشت ابكار ورضعت أفكار الحرية والنضال. انتقل والدها للعيش في مصر بالتحديد بالاسكندرية وتزوج من سيدة تركية أنجب منها ابكار وضياء ومصطفى .. يقول مهدي مصطفى : ( ابكار السقاف تمتلك حياة ثرية على المستوى الاجتماعي وقد قابلت مصادفات ومفارقات في حياتها الشخصية فهي من ناحية العائلة كانت تمتلك مقومات الحياة المرفهة إلا أن هذه الحياة قد انهارت بفعل عوامل كثيرة ومن الناحية الذاتية فقد صادفة ابكار أشياء عديدة.. لقد تمت خطبتها عام 1929م على إدريس السنوسي أمير برقة آنذاك قبل أن يصبح ملكاً على ليبيا وفسخت هذه الخطبة عام 1930م وسنجد أن أبكار السقاف في ومضاتها التي قرأتها مخطوطة تشبه اصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ كانت تحن في أخريات عمرها لهذا الملك ثم تزوجت من مصطفى الخربوطلي الذي توفي بعد زواجه منها بثلاثة أشهر بالزائدة الدودية وكانت هذه المحطة في حياتها أشد المحطات قسوة والتي بدأت منها تنطلق نحو آفاق الإنسان الرحبة وما وراء الكون وما الهدف من خلق الإنسان ولماذا؟ واعتقد أن هذه المحطة هي التي فجرت موهبة أبكار السقاف في البحث عن ماهية الإنسان. ثم تزوجت عام 1960م من عمر بسين وهو من أصول تركية الذي رحل هو الآخر بعد ثلاث سنوات وهي ايضاً محطة اشعرتها بالفراغ الهائل وجعلت من ومضاتها شبه اصداء لسيرتها الحقيقية فهي تلمح ولا تصرح). شهادات .. عن أبكار قال عنها ذات مرة الأديب والمفكر عباس محمود العقاد وهو المعروف بآرائه الشديدة تجاه المرأة (إنها امرأة بعشرة رجال) وقال عنها الباحث مهدي مصطفى (لم يشأ القرن العشرون أن ينتهي حتى يدهشنا بالمخبوء في احشائه وكأننا على موعد مع المفاجأة إذ يتم تقديم - روح الحياة - أبكار السقاف إحدى الكاتبات التي تم غيابها زمناً طويلاً وهي تستحق ان تكون في المقدمة وعلى رأس كوكبة من المفكرين. عاصرت واحتكت بالعديد من المثقفين وكانوا على معرفة بها وبإبداعاتها المختلفة كالعقاد وصالح جودت ونجيب محفوظ وأنيس منصور ومحفوظ الانصاري ومحرم كمال باشا- عالم الآثار - وأحمد الصاوي محمد الذي كتب عنها. كما يقول مهدي مصطفى مقالاً في يوميات صحيفة الأخبار ومحمود أبو العيون سكرتير الأزهر في ذلك الوقت. ووصفت الفنانة ضياء السقاف شقيقتها أبكار قائلة: (إن أبكار ولدت وفي يدها القلم ولم نرها يوماً تركته لسبب من الأسباب ولم يمر يوماً دون ان تكتب. صاحبة مدرسة خاصة وكانت أبكار صاحبة مدرسة واتجاه مغاير لما عليه الجمهور في التفكير يقول مهدي مصطفى متكلماً عن هذه المدرسة: (وبين مدرسة الاحتكاك بالآخر والصدام معه تولدت مدرسة فكرية مختلفة عنهما راهنت على الغائب بين السطور وحاولت قراءته قراءة حرة وتوافرت لها الأدوات الروحية والإرادة الثقافية. ولها في الشعر نصيب وكما كانت أبكار مفكرة وكاتبة وفيلسوفة ومؤرخة فقد كانت كذلك شاعرة مبدعة ولها ديوان شعر بعنوان: (الليل والقلم). مؤلفاتها كتاب (نحو آفاق أوسع المراحل التطورية للإنسان في ثلاثة اجزاء صدر منه الجزء الاول والثاني ثم صودرا والجزء الثالث لم يصدر بعد .. وقد تحمس لنشر هذا الكتاب الكاتب الكبير عباس العقاد، نشرت الجزء الأول والثاني مكتبة (الانجلوا المصرية). > كتاب إسرائيل وعقيدة الأرض الموعودة صدر في طبعته الأولى سنة 1965م عن دار الكاتب ثم صدر في طبعة ثانية سنه 1997م عن مكتبة مدبولي وقد أهدت هذا الكتاب لأستاذها عباس العقاد. > كتاب (الحلاج) صدر سنة 1995م بمقدمة للباحث المصري مهدي مصطفى . > كتاب (محمد النبي) لم ينشر بعد. > كتاب (المسيح) لم ينشر بعد. > كتاب (النبي موسى) ماتت قبل إتمامه وما تم منه لم يصدر بعد. > كتاب (السهر وردي) ماتت كذلك قبل إتمامه وما تم منه لم ينشر . > كتاب (مقدمة اللغات) كذلك لم يكتمل ولم ينشر ما تم منه. > كتاب (همسة في أذن إسرائيل ) كتبته باللغة الإنجليزية وصدر بها ولم يترجم الى العربية. > كتاب (أصداء متفرقة - سيرة ذاتية - نشرته دار العصور الجديدة سنة 2001م بمقدمة للكاتب والباحث مهدي مصطفى بعد أن ظل غائباً منذ عام 1962م حين اتمت كتابته. > كتاب الليل والقلم ديوان شعر لم ينشر بعد. إضافة الى العديد من المقالات التي كتبتها لصحف مختلفة في مصر وربما كانت لها كتب أخرى قد فقدت أو مازالت حبيسة عند (البعض).. ممن لم ترق لهم كتاباتها.... وظلت ابكار رفيقة للقلم وللكتاب حتى توفيت بأرض الكويت سنة 1989م عن عمر ناهز السادسة والسبعين عاماً. وأخيراً يقول الكاتب (مهدي مصطفى): (والعجيب) ان أبكار السقاف التي نضجت تماماً في أربعينيات القرن الماضي مع نضج العقل المصري والعربي غابت بالرغم من حفظ التاريخ لكل الحركات السرية الثقافية وغير الثقافية حتى الهامشي منها مثل جماعتي (الخبز والحرية) و(الفن والحرية) والجماعات الأقل شأناً وهو موقف لا يزال غامضاً تجاه مفكرة في حجم أبكار).. عن جريدة الثورة، و المصدر هو: http://www.althawranews.net/showdetails.php?id=27551 أبكار السقـّاف(( بنت اليمن))-تلميذة العقاد المنسية- أهدي هذا الموضوع لكل بنات الخليج - إبراهيم - 05-23-2005 الدين فى هذا الجانب المتضوع بشذى الإرهاف، والسابق بأرج الحرية والطلاقة، والمحتضن شمالا بادية الشام، والمحتضن بالمياه من جهات ثلاث، شرقا بالخليج الفارسي وبحر عمان، وجنوبا بالمحيط الهندي، وغربا بالبحر الأحمر، رواية ترويها للزمن أنفاس راوية: إنّ للدين تاريخًا بدأ على هذه الناحية من الدنيا مذ بدأ العقل الإنساني يحفر بين تهم تهامة وأنجاد نجد وسهوب الجنوب وسهول الشمال خطاه متمثلاً بالعنصر العائد بأصله إلى سام بن نوح، والعائد بسكنه شبه الجزيرة إلى آباء قبليين دفعهم إلى هذه الفدافد والفيافى للفرات في "جنّات عدن" هدير "الطوفان"( ) ونشرهم مرور الزمن على هذه الأرجاء قبائل تجمع العمائر، وعمائر تجمع البطون، وبطونًا تجمع الأفخاذ، وأفخاذًا تجمع الفصائل، فعلى صفحة "اليمامة" انتشرت القبائل من أبناء جديس وطسم وفى "الأحقاف" سكنت القبيلة التى تفرعت من أبناء عاد وفي "الحجر" و "وادى القرى"، فيما بين الحجاز والشام، ترابطت الفروع التى انحدرت من أبناء ثمود، وأما فى الشمال الغربى، بين تهامة ونجد، فمرحت فى استعلاء قبائل تعود بأبوتها إلى مالق بن لاوذ وهم من نعرفهم فى سجلات التاريخ القديم بالعمالقة غداة أضيفت كلمة "عم" العـبرية وهى تؤدى معنى أمة إلى أبناء مالق، بينما راحت قبائل أخرى من نفس العنصر تذرع البوادى وتجوب السباسب من جنبات هذه الرمال وكل منها تحمل اسم أبيها القبلى وتضفى بدورها اسم هذا الأب على ما قد اختارته من مكان فى فسحات هذه الأرجاء.. ومن هؤلاء كان أبناء عبيل وكانت ديارهم "بالجحفة" بين مكة ويثرب، كما أن من هؤلاء أيضاً كان أبناء أميم ومدين وثابر وجاسم وحضوراء وحضرموت. ولكنْ! يد الزمن التي امتدت، والتاريخ ليلاً، فدفعـت من وادى الرافدَين هؤلاء الآباء القبليَين وعلي هذه الأرجاء، نشرت منهم هذه الفروع إنَما كانت كأنَها قد اختطَت خطة وحدَدت هدفًا وكأنّما في مخيلة الزمن كانت حاضرة وبدقة مرسومة أحداث الآتي! فهي بينما كانت تنشر وتطوي هذه القبائل، ليعرفهم التاريخ من بعد " بالعـرب البائدة " كانت تلقي بهم فى تربة الآتى بذور "العرب الباقية " من "عرب عاربة" و "عرب مستعـربة" مختارة، من بين كل هؤلاء الآباء القبليين العائدين بنسبهم إلى سام بن نوح، قحطان بن عابر، وعابر هو هود بن شالح بن ارفخذ بن سام بن نوح، فليس إلا من قحطان قد انداح الليل عن هذه الناحية من الدنيا غـداة أشراق التاريخ بابنيه: يَعـرب ... مؤسّس مملكة اليمن، حيث سطعت على الدنيا حضارة بعد حضارة توالت وولت بتوالى الدولة المعـينية فالسبائية فالحميرية، ومن أضفى اسمه على شبه الجزيرة فأصبحت تٌعـرف ببلاد العـرب. وجُـرهم مؤسّس مملكة الحجاز حيث فى هذا الوادى المحجوز بجبال خندمة شرقًا والمعـلَّى شمالاً والحجون غـربًا ومنحنيات أبى قبيس جنوبًا، أسّس ملكاً حجبته العمالقة بظلالها لفترة انتهت برواحهم عن هذا وانتشارهم فى أرجاء الشرق القديم، فمنهم كان "الجبابرة" فى الشام المعروفين باسم الكنعانيين، ومنهم كان الملوك الرعاة الذين عرفناهم فى التاريخ المصرى القديم باسم "الهكسوس"، هذا بينما راحت يد الزمن تدفع مرة أخرى جُـرهم أو هذه القبيلة القحطانية التى ما لبثت أن هبت ومن جديد احتلت هذا الوادى، ومن ثم كان التفريق التاريخى بين جُـرهم الأولى وجُرهم هذه الآخرة التى نعرفها فى التاريخ السياسى العربى القديم بجُـرهم الثانية. وبجُـرهم عَمَر من أودية شبه الجزيرة هذا الوادى الحاجز بين تهامة ونجد، والحائل بين اليمن والعروض فصيغت بهذه القبيلة القحطانية حلقة وصلت الشام بالمحيط الهندى عن طريق سلسلة من القوافل التجارية، فالمركز الجغرافى للوادى قد جعل منه، منذ حلكة التاريخ، طريقاً مطروقاً للتجارة، لأنه لما كانت القوافل فى تسيارها بالقادمين من اليمن على فلسطين، وبالمصادرين من فلسطين إلى حضرموت تسير فى محاذاة البحر الأحمر متجنبة هضبات نجد ولوافح هجيرها تجنبها لصخور الشاطئ ووعورة مسلكه كان الوادى – بما كان يتخلله من الآبار، وبما كانت متفجرة فيه من العيون – المهبط الطبيعى الذى اجتذب إليه هذه القوافل التى اتخذته بادئاً ذى بدء للراحة مناخاً، ثم سوقاً للتجارة يقع فيه التبادل بين الصاعدين من الجنوب والمنحدرين من الشمال. الشأن كان شأن هذا الوادى فى العهد الجرهمى الآخر.. العهد الذى لا نسلط عليه للتاريخ الدينى أضواء إلا وعلى هدى "القلم المسند" والنقوش البابلية فى الألف الثالث ق.م التى ذكرت الدولة المعـينية، نرى رشاشاً قد أصاب هذه القبيلة القحطانية من طوفان ذلك الارتحال "العراقى – السورى" الذى اشتد إبان النهضة السامرية بين الرافدين وفى أعقابها وبالتحديد فى غضون القرن التاسع عشر ق.م.. فنحن لا نُسلط الأضواء على هذه القبيلة القحطانية التى اتخذت من هذا الوادى القائم فى ملتقى طرق القوافل التجارية المتلاقية من الشمال والجنوب مسكنًا إلاّ وتناولنا يد الزمن سجِّلات محفوفة بالقدسيّة وعليها جليًا نرى أنّ بين هذه القبيلة قد هبط إبراهيم بإسماعيل وله من العمر ثلاثة عشر عامًا مُقبلاً به من تلك البقاع التى إليها كان قد نزح فى أعقاب النهضة السامرية وعهد "أورنامو( )" غداة ترك إبراهيم "أور" وطنًا وإلى تلك الأرض التى بلغ فيها منشود الثراء المادى وأصبح مرهوب الجانب ومخطوب الودِّ بين الآباء القبليين ارتحل، فليس إلا على هذه السجلات المغلفة بالقدسية نرى أن لهذا الوادى قد اختار إبراهيم ليقيم لإسماعيل ملكاً وضع منه الأساس فقد قام فيما بعد عقد هذه الرابطة بفترة من الزمن سجلتها تلك اللحظة التى وقف فيها إبراهيم على أنقاض معالم قديمة لمعبد عتيق( ) يرسل الصوت فى الأرجاء الجرهمية ليروح بينها أصداء تدوى بأن إليه قد صدر الأمر الإلهى ليقيم للإله بيتًا.. ومن ثم كان قيام هذا "البيت" الذى حتمت لغة بانيه أن يطلق عليه اسمًا بابليًا – ولما كانت الكلمة البابلية للبيت هى "مكة " فقد عرف الوادى نسبة إلى "البيت" بالاسم البابلى للبيت – الذى بنشأته كبيت قدسي بدأت من حوله تقترب الفلول الجرهمية لتستقر بجانبه به متبركة ولتبدأ فى تاريخ المدن مدينة تحمل اسم... "مكة" من أنفاس الماشى يأتينا الدليل بأن مكة لم تقم كبيت، وبالتالى كمدينة، إلا غداة عاد إبراهيم لإسماعيل زائرًا بعد أن صار لإسماعيل من جرهم أولاد، إذ ليس إلا بقيام مكة قد بُنى لإسماعيل، بين من بينهم كان قد أصحر ولهم قد صاهر ومنهم قد انسل ملكاً.. فقد أصبح إسماعيل ببناء "البيت" لا فحسب زعيمًا للعرب الحجازيين وإنما مؤسس ملك ما لبث أن أصبح وراثياً، فقد ولى الجراهمة بعد إسماعيل، أكبر أبنائه ملكاً عليهم ليظل هذا الملك وقفًا على أبناء إسماعيل حتى انتهى إلى "نابِت".. بيد أن لينتهي بنابت لنسل إسماعيل ملكًا فقد انتزع هذا الملك من نابت أخواله بنو جرهم، وبذلك راح القحطانيون يتوارثون ملك الحجاز... هذا بينما كان النسب من إسماعيل يسير باثنى عشر سبطًا حتي "أد" و "أدد" ويسترسل منهما حلقات حتى "عدنان" لتتشعـب الفروع من عدنان قبائل وشعوباً ورهوطًا وعمائر وبطونًا وأفخاذًا، وليتكون بذلك، بجانب القحطانيين، العدنانيون، ولتمرح على هذه الصفحة من الدنيا، بجانب العرب العاربة، العرب المستعربة التى بإشراقها على صفحة التاريخ تفجّر فجر غاضب لتفجره سحرٌ فى غضونه كانت يد الزمن تُسطر رواية: التفكير الدينى فى العصر الجرهمى الآخر من السجلات الدينية للتاريخ القديم يأتينا عن لون التفكير الدينى فى هذا العصر اليقين بأن الله إنما اسم فيه رجع الصدى لاسم إله السماء الذى كان معروفاً بين الرافدين تحت اسم إيل أو الإله... فعلى هذه السجلات نرى أن بقيام مكة فى هذه الوادى لله معبداً لم تنشأ عبادة جديدة محورها "الله" وإنما تركزت عبادة قديمة محورها "الله".. فليس إلا غداة امتزج الدم الجرهمى بالدم الكلدانى وأثمر هذا المزج المزيج من أصول عدنان التى امتزج بها اللسان البابلى باللسان القحطانى كان أن تحوّل، فى تحوير طفيف النطق من "إيل" إلى إله وبالتالى إلى الله! "الله" إنما محور التفكير الدينى فى العصر الجرهمىّ الآخر ففى "الله"، كواحد إليه بأسبابها تعود الأسباب ومقاليد الكون وأمر الكائنات، انحصر فى العهود العربية التفكير الإلهى وانحصرت العقيدة الدينية التى سجلت ما قد كان للعرب الأول خلال هذا العصر من شريعة انبسجت أصولها من ينبوع هذا التفكير الذى جاء بدين يحمل اسم: الدين الحنيف كون المعتقد الإلهى لجرهم الثانية هذا الدين الذى جاء كنتيجة حتمية للعقيدة الإلهية التى رفت على العصر وانحصرت فى الاعتقاد بأن الله إنما واحد لا شريك له ولا معين ولا ظهير .. متصف بصفات الكمال من الحياة والقدرة والإرادة والعلم.. موصوف بصفات العلم من السمع والبصر لا تشبه ذاته الذوات ولا تضاهى صفاته الصفات... ليس كمثله شىء منزه هو عن كل ما يحلق به من صفات الأجسام وحوادث الأعيان وهو، والنور إنما أظهر العناصر، نور ... وهو، وهو الواحد الذى لا شريك له، المتفرد بملك ملكوت السماء والأرض تفردًا به إليه تعود أسباب الضر والنفع والمنح والمحن عودة تعود بأسبابها إلى امتلاكه لغير هذه الخاصيات من خواص الألوهية. عن هذه العقيدة الإلهية للعصر الجرهمى الثانى تتنفس صدور الكتب الإسلامية( ) مؤكدة بأن العقل البشرى تحت صبغته العربية خلال هذا العصر كان مدركاً بأن لا معبود بحق فى الوجود سوى الله... وأنه الإله الواحد... الملتجأ إليه فى جميع الأمور ... المتوكل عليه فى جميع الشؤون... وأنه، ولئن كان متفرّداً بملك الضر والنفع، يستحيل وصفه بالظلم إذ هو الملك المقسط بالعدل... ولا يجب عليه شىء ... بل هو المتفضّل على خلقه وله الفضل عن كل شبيه ومعارض.. عالٍ على عرشه.. دانٍ بعلمه من خلقه، أحاط بالأمور، وأنفذ فى خلقه سابق المقدور.. يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.. دافعاً خلق الخلق بمشيئته من غير حاجة كانت به وأمره نافذ فيهم فلا ينجيهم حذر .. بآجالهم ميتون... وبعد الضغطة فى القبور مسؤولون، وبعد الردى منشورون... ويوم القيامة إليه، لحساب بعده الجزاء من ثواب أو عقاب، يُحشرون! لا ثمة شك فى أن معتقدًا إلهيًا ينحصر فى الاعتراف بألوهية إله ماهيته الماهية كان حتما أن يكون نتيجته هذا الدين الذى سجل للعقل الإنسانى استقامة فى عهد باكر من تاريخ حداثته. ولكن! لئن سجّل العقل الإنسانى لنفسه فى هذا العهد الباكر من تاريخ حداثته استقامة فليس لا ليسجّل فى نفس الوقت على نفسه كبوة كباها فى هذه الحداثة التى ليست إلا رضوخًا لها واستجابة لإملاءاتها كان أن توهجت منه العاطفة، عاربًا ومستعبرًا، بلهب ما قد قدحته المخيلة الفجّة منه فى أرجاء فكره من شرر الخيال فقد انطلق منه الشعور فياضًا تحت فيض الانفعالات النفسية يحفّ الإله، وهو الذى كان قد آمن بأن مسكنه السماء وعال عرشه، بحاشية نحوها كان حتمًا أن تجنح منه المخيلة وتعود إليه بأطياف مجنحة حاكها من مادة الوهم!... بل فى وهمه تمادى فامتد يقول بأنها، وهى حاشية الإله النورانى الطبيعة، نورانية العنصر ومن ثم اختلجت منه الشفاه تسميها بالأملاك وبالتالى: الملائكة. وأما أين مسكن هذه الكائنات النورانية التى لها قد خلق الإله؟ فسؤال أسهر المقلة العربية وأرسلها تجوب ليلاً الآفاق مستشفة أى النواحى من كل هذه الأرجاء هو المسكن لهذه الكائنات التى تقف فى مرتبة أدنى من مرتبة الإله. وبالأنجم فى إطار الفضاء علقت من العقل، ليلاً، الأهداب، وإليها راح فى آفاق صحرائه يصبو ويطلع على أسس ما قد كان له بها سابق علم، فقد كان له بالأجرام العلوية علم وكان له بحركة هذه الأجرام اشتغال لاشتغاله بالرصد فيما يتعلق به غرضه الذى أدى إلى معرفته بأقسام فصول السنة والأبراج الأثنى عشر التى كان قد اعتبر الأضواء منها شاهدة على أن للكون سيدًا واحدًا عليًا مسكنه السماء هو من تناديه شفتاه!... الله! ولكن! خفق الأضواء قد ألقى فى الوجدان العربى وجدًا! وجاوب خفقها للجوانب من هذا الوجدان خفقًا فازدادت المخيلة من العقل العربى نحو هذه الأجرام المتلألئة فى آفاق صحرائه جنوًا وراحت، فى الجنوب والشمال تحت فيض هذه الانفعالات، تتخيل أن من قد اقتنعت بوجودهم من الملائكة إنما فى هذه الأنجم تسكن؛ كما تسكن الروح الجسم وبما خالته الخميلة راح العقل العربى مقتنعًا فآمن بأن الملائكة إنما تقف فى خدمة الإله مكلفة بمراقبة الكائن وحكم الكون، وعند هذا الحد من الاقتناع توقف من العقل المنطق وبه وقف فهو إلى الأنجم بالعبادة، حنيفًا، لم يتجه ذلك الاتجاه الذى سجله على نفسه بناحية من العقلية العربية أخرى غداة إلى هذه الأجرام السماوية، فى ليل البيد، صبا الخيال منه صبيًا فسجلت صبوته: الدين الصبائي بداية من هنا إلى "صابى" بن شيت بن نوح، وصابى اسم يعني بالبابلية "النجم" يعود بأسباب نشأته هذا الدين الذى جرى بجانب الدين الحنيف غير مختلف عنه فى الجوهر الأساسى من المعتد الإلهى إلا من صور التعبد وإلا من شكليات العبادة، فبينما كانت قد رجحت فى الدين الحنيف على الناحية العاطفية الناحية العقلية كانت الناحية العاطفية فى هذا الدين، الدين الصبائى، قد تغلبت على دعائم منطق استمد من الينبوع العاطفى مدده فجرى قائلاً: إن الله، الإله الساكن السماء، إنما ذو كينونة سامية... ومن ثم تعالى المتعالى عن أن يتصل بالكون وبالكائنات إلا بواسطة وسطاء تقف فى المرتبة وسطاً بين الألوهية والبشرة وعلى ذلك يكون من المحال الاتصال بالإله إلا عن طريق من قد خلق من الملائكة. ليس إلا بدافع من هذا المنطق كان أن اتجهت المقلة العربية إلى "الشعرى اليمنية" وعلى جناح الرجاء إليها ارتفعت ليظل هذا التعلق من بعد متوارثاً فى بعض قبائل لخم وقيس وخزاعة التى لردح من الزمن ظلت تتخذها واسطة إلى الله. ليس إلا بدافع من هذا المنطق كان أن ارتفعت هذه المقلة إلى "سهيل" لينحصر، من بعد هذا الاتجاه فى قبائل طيئ ولتتوارث طيئ لأجيال اتخاذه زلفى إلى الله!.. وليس إلا بدافع من هذا المنطق كان أن علقت هذه المقلة بالثريا لتظل هذه المقلة بها عالقة حتى رسخت لأجيال فى بعض قبائل طيئ عقيدة اتخاذها زلفى إلى الله. إلى نجم بعد نجم وإلى كوكبة بعد كوكبة صابئيًا صبا العقل العربى صبيًا فى نفس الوقت الذى اتجه فيه إلى كوكب بعد كوكب يتخذ الواحد بعد الآخر شفيعًا له إلى الله. إلى "عطارد" اتجه ليظل هذا الاتجاه من بعد محصورًا فى قبيلة أسد التى، لأجيال، اتخذته زلفى إلى الله. وإلى "المشترى" اتجه ليظل من بعد هذا الاتجاه محصوراً فى قبائل لخم التى، لأجيال اتخذته أيضاً زلفى إلى الله. وإلى "زحل" اتجه ليظل هذا الاتجاه لأجيال، فى أم القرى متوارثًا ولينعقد الإيمان على أنه أيضًا شفيع إلى الله! إلى كوكب بعد كوكب وكوكبة بعد كوكبة ونجم بعد نجم اتجه العقل العربى صبياً فى الجنوب والشمال من شبه الجزيرة العربية اتجاهه فيهما إلى القمر وإلى الشمس فى غير انحراف من الاعتقاد بأن الشمس إنما، كالملائكة، ملك له نفس وعقل، وأنه لما كان له وحده ملك النهار فهو بالتعظيم طيلة النهار جدير، وأن القمر أيضًا له نفس وعقل وهو وإن كان غير متفرد بحكم الليل إلا أنه له فى ليالى التمام ملك الليل ومن ثم فهو بالتعظيم أيضًا جدير.. فمن "القلم المسند" لآثار معين وسبأ ومن النقوش الحميرية يأتينا الدليل على أن الاتجاه إليهما قد رفّ على أرجاء شبه الجزيرة خاصة الجنوب الذى اتخذهما وسيطين إلى الله إلى جانب اتخاذه قوى مؤلّهة أخرى تحمل أسماء: مالك وعزيز ورحيم ورحمن! إلى الأجرام الكونية فى إطار الفضاء صبا العقل العربى صابئياً على أسس ما قد سكن فى مخيلته من الاعتقاد بأن للملائكة مساكن وعلى أسس ما قد انعقد فى طواياه من استحالة الاقتراب من الله إلا بواسطة الوسطاء ومن ثم راح يتجه إليهم فى صلاته إلى الله بهم له متشفعاً ولما كان لابد للصلاة من نقطة عندها تلتقى وجوه المصلين فقد اتخذت "القطبية" فى الصلاة إلى الله قبلة! كلا! ما شذ العقل الإنسانى صبياً على هذه البقعة من الأرض عنه فى أية بقعة من بقاع العالم عندما راح يتخذ الملائكة إلى الله زلفى وبها إليه يتشفع.. فمنه الشعـور بعظمة سيّد الكون قد اشتد حتى عمق عمقًا وجد نفسه تحت تأثيره غير جدير حتى بلفظ اسمه كما وجد نفسه أمام هيبته هياباً لا يستطيع منه الاقتراب إلا بواسطة من يحفّ به من حاشية.. ومن ثمّ كان اتجاهه إليها يتخذها إليه زلفى ويُرسل إليها تضرعاته بها إليه متوسلاً، لا يعبدها لذاتها وإنما يتعبد بها إلهاً عبادة ما انحرف بها عن الإيمان بالوحدانية إذ راح ينعتها بنعت هو صورة لفظية أخرى للمعنى من كلمة "سادة" تفرقة منه بين المعنى الدال على السادة من الناس والمعنى الدال على السادة من هذه الكائنات التى تقف موقفًا وسطًا بين الألوهية والبشرية، ولما كانت كلمة الأرباب هى هذه الصورة الأخرى لكلمة سادة ناداها: الأرباب... وباتخاذ "الأرباب" شفعاء والاتجاه إليهم فى الصلاة إلى الله واعتبار الله لهؤلاء الأرباب أيضاً رباً، ومن هنا كان تعريفه بأن رب الأرباب جرى، بجانب الدين الحنيف، الدين الصبائى ليغتمر العصر الجرهمى الآخر دينان لا يختلفان فى أسس العبادة الجوهرية من الالتقاء عند عقيدة واحدة تنحصر فى الاعتراف بألوهية "الله" إلهاً مسكنه السماء، محفوفاً بهذه الحاشية من الملائكة التى خلقها من نفس عنصره النورى.. ولكن.. عند رأيين جريا فى تعارض جوهرى يتعارضان، يفترق الدينان، فبينما كان الدين الصابئي يرى بأنه لابد من وسطاء فى الاتجاه إلى الله كان الدين الحنيف معرضاً عن اتخاذ الملائكة شفعاء وزلفى إلى الله لاغياً بينه وبين الله وساطة أى وسيط إلا خلجات النفس ومواجد القلب! هذا هو الفرق الجوهرى بين الدين الحنيفى والدين الصبائى اللذين لم يختلفا فى الماهية كتعبيرين ظاهرين فى الخارج لما يجيش فى الداخل من إحساس فطرى لوجود قوة حكمية تهيمن على الكون والكائنات واللذين حفرا فى سجل التاريخ الدينى لهما تاريخاً غداة انحسر الزمن عن بناء: مكة، كعبة الدين الحنيف والدين الصابئى من حول مكة أو"البيت"، كعبة تلاقى فى غير تنافر الدينان بفروع التى التفت فى تشابك من قحطان، وبالأصول التى امتدت لتكون من بعد عدنان غداة امتلكت قبضة أبناء إسماعيل الأمر من أمر هذا "البيت" الذى لصلته بالساكن السماء غدا يعرف باسم: "بيت الله" لا ثمة شك فى أن بامتلاك "البيت" امتلك أبناء إسماعيل الحكم السياسى لهذا الوادى الذى لم يستقم لهم إلا على أسس المعتقد الدينى الذى رفّ على الرجاء الجرهمية بأنهم ولاة هذا "البيت" الذى راح من حوله منهم الصوت للأجيال يحدث بقصة إليها نصغى فنسمع: إن "بيت الله" إنما بيت على الأرض يقوم شبيهاً ببيت آخر للإله فى السماء.. بل إن فى نفس الموقع من بيته فى السماء يقع بيته على الأرض.. وإن لبنائه كان سببًا هو:"إنه حين طرد الإله أبوى البشر من الجنة هبط كل منهما فى مكان مختلف عن الآخر، آدم على قمة جزيرة سردنيس "سيلون" .. وحواء على ضفة البحر فى جدة.. ولقرنين من الزمن ظل كلاهما فى تيه الأرض عن الآخر تأئهًا حتى نالاً الغفران فتلاقيا على جبل "عـرفة" حيث من أعماق تملكها شجن الحزن ومن أغـوار استبد بها تبكيت الندم رفع آدم بيديه إلى السماء ضارعًا إلى الله ومتضرعًا إليه أن يهديه بيتًا شبيهًا بذلك الواقع فى السماء السابعة والمسمى "الضراح" .. فهو "البيت المعمور" الذى كان آدم نفسه من حوله يطوف فى "جنة عدن" وتطواف الملائكة فى مواكب تعددية من حوله سبعًا كان فى تقليد لصورة هذا التعبد الملائكى يطوف متعبداً من حوله سبعًا.. وتسترسل القصة فتحدث: واستجيبت دعوة آدم وإجابة لمطلبه أنزل الإله من السماء، محمولاً على أجنحة الملائكة، بيتاً مبنيًا من النور شبيهًا تمام الشبه "بالبيت المعمور" ووضعت الملائكة هذا "البيت" فى المكان الذى يقع تمامًا تحت ذلك القائم فى السماء. واطمأن فؤاد آدم وبدأ نحو هذا "البيت النورى" يتجه فى الصلاة كما بدأ يطوف يومياً من حول هذا "البيت" سبع مرات فى تقليد لشعائر وطقوس التعبد الملائكى لدين ملائكي هو: الدين الحنيف ثم .. ثم إن بوفاة آدم رفع هذا "البيت" المبنى من النور فما نزل إلا خصيصاً لآدم!.. بيد أن ليقوم مكانه "بيت" آخر به شبيه وعلى نفس الهيئة والشكل ولكن من جبلة الأرض ومادتها.. فمن الحجر والطين وعلى نفس المثل والشكل بنى "شيث" للإله بيتًا ومن حوله قام مواظبًا على أداء شعائر دين الله... وتوارث رعاية "البيت" من بعد شيث ابنه "صابى" الذى إليه يعود بنشأته الدين الصابئي.. ولكن هذا "البيت أيضاً قد دُرس بمجىء "الطوفان" الذى لم يترك إلا منه معالم ظلت قائمة على هذا الأكمة الحمراء التى لا تعلوها السيول والتى كان الناس قبل إبراهيم يعلمونه أن موقع "البيت" عليها يقع... فقد كان إلى ما قد تبقى من معالم هذا "البيت العتيق" يأتى المظلوم والمتعـوذ وعند أطلاله كان يدعوا المكروب.. ولم يزل "البيت" أمره الأمر حتى جاء إسماعيل وأصْحر بين جرهم الآخرة ولسيدها صاهر... فلم يقم على أساس "البيت العتيق" بيتاً جديدًا إلا غداة أطلق إبراهيم الصوت فى الأرجاء الجرهيمة منادياً إن الأمر الإلهي إليه قد صدر ببناء مكة( )! بهذه القصة تتنفس صدور الكتب الإسلامية وترويها نقلاً عن شفاه العدنانيين من أبناء إسماعيل ولكن.. عند هذا الحد من القصة لا يقف أبناء إسماعيل، وإنما هم يسترسلون فيروون رواية لها ينبغى أن ينصت، أيضًا ، منا المسمع ولها يجب أن يتنبه منا الذهن فروايتهم إنما قصة هى إذ تحدثنا بأن بناء "البيت" قد حدث بعد أن أصحر إسماعيل بين قبيلة جرهم الثانية ولها صاهر وصار له منها أولاد تعلموا العربية من قحطان العاربة وأصبحوا "العرب المستعربة" فليس إلا لتسترسل وفى شرح سارد تقول: بأن غداة جاء إبراهيم إلى هذا الوادى زائراً إسماعيل وله قال إن الله أمرنى أن ابنى له بيتاً قام إسماعيل يساعد إبراهيم فى بناء هذا "البيت" الذى قام على أنقاض ذاك البيت العتيق وأنهما لما فرغا من البناء نادى إبراهيم فى جرهم: "أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق!".. ثم "خرج إبراهيم بإسماعيل ومن ورائهم الناس يعلم شعائر الحج إلى التروية فنزل ومن معه من المسلمين "مني" فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ثم بات حتى أصبح فصلى بهم الفجر... ثم سار على "عرفة" فقام بهم هناك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر... ثم راح بهم إلى الموقف من "عرفة" الذى يقف عليه الإمام.. فلما انحدرت الشمس دفع من معه حتى أتى "المزدلفة" فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة، ثم بات ومن معه حتى إذا طلع الفجر وصلى الغداة وقف على قزح حتى إذا أسفر دفع بإسماعيل ومن معه يريه ويعلمه كيف يصنع حتى رمى الجمرات وأراه المنحر ثم نحر وحلق وطوف ثم عاد إلى "منى" حتى فرغ من الحج( )..." لا ثمة شك فى أن هذه الرواية التى يرويها أبناء إسماعيل عن إبراهيم إنما رواية لا يذكرها "العهد القديم" المرجع الأول عن إبراهيم، ولكن الشىء الذى يهمنا فى هذا الصدد هو ما تطلعنا به طيات الكتب الإسلامية( ) التى تذكر أن الله كإله واحد كان معروفاً فى العصر الجرهمى وأن "البيت العتيق" قد جُدّد بناؤه فى العصر نفسه وعرف باسم "بيت الله" وأن العرب من عاربة ومستعربة وصابئة وأحناف على سواء كانت تحج إليه فى مراعاة لجميع المناسبات الدينية وفى التزام لشعائر المناسك واستمساك بمشاعر الحج من طواف ونحر ورمى جمرات إلى جانب القيام بهذه الصلوات الخمس. وتسترسل المصادر الإسلاميّة وعن التفكير الدينىّ فى هذا العصر تحدّثنا، فهذه المصادر لا تقف عـند القول بأنّ العـرب من فروع قحطان وأصول عدنان كانت فى معتقدها الدينيّ تؤمن بوجود الله كإله واحد وأحد ولا فحسب بأنها كانت تلتزم بما يفرضه هذا الإيمان من أصوات التعـبّد وأحكام العبادة فتؤدى الحج والصلاة ولا فحسب بأن العربى الصابئ كان يؤدى هذه الصلوات الخمس( ).. وإنما هذه المصادر تعرّج بناء على ناحية أخرى دقيقة من مظاهر التعـبد التى تطالعنا بقيام هذا "البيت" وهى تحول القبلة الصابئة من "القطبية" على هذا "البيت الذى إليه راح الوجه الحنيفى والصابئى على سواء يتخذه فى صلاته إلى الله: قبلة. فى الصلاة إلى الله غـدا "البيت" قبلة فغدا كعبة من حولها يلتف بأصحابه الدين الحنيف وبأصحاب الدين الصابئي وهذه إنما حقيقة تتنفس عنها صدور الكتب الإسلامية التى تعرّج بنا أيضاً على الناحية الإنسانية التى تميّزت بالإرهاف، وعلى الناحية الخلقية التى تسامت إلى السمت من قمم القيم الأخلاقية، اللتين ولدهما فى النفس العربية الشعـور بأن صاحبها يجاور "بيت الله" هذا البيت الذى أضفى قدسيته على ما حوله من أرض حتى عرفت مكة بأنه: بلد حرام. يقينًا.. لقد كان حتمًا فى "البلد الحرام" أن تنمو الحاسة الأخلاقية وأن تتخذ مظهرها الواضح فى صورة الاتجاه نحو الفضيلة.. كما كان حتماً أن ينبثق الشعور بالواجب.. نحو النفس ونحو الغير، وأن يتخذ مظهره الواضح فى صورة الاتجاه نحو الخير.. ففى "البلد الحرام" كان حتمًا أن يبطل الظلم ويقوم الحق وفى "البلد الحرام" كان حتمًا أن تحارب النفس الغرائز وأن تعلوا عليها بسلطانها، ولهذا كان التاريخ الأخلاقى فى هذا العصر تاريخ وصل الأرحام والعون على نوائب الحق وإكرام الضيف إلى غير هذه المبادئ مما يحتويه قاموس القيم الأخلاقية من مبادئ.. كما أن الناحية الإنسانية قد برزت بروزًا واضحًا كان من أبسط معالمها عدم إيذاء.. أى كائن حي.. حتى الوحش والحيوان إذا كان "بالبيت" يلوذ وللسبب رفت على الوادى هدأة من الطمأنينة وضحت آثارها غداة استعادت جرهم الحكم للوادى ومحل نابت من أبناء إسماعيل حل مضاض بن عمرو الجرهمى الذى قد ولى "البيت" وهو يقول: ونحـــن ولّــــــينا البيـت بعــد نــابت *** نطـــوف بـذلك البيت والخـــبر حاضر الحال كان حال الوادى غداة استعادت جرهم الحكم السياسى فيه وقبضت قبضة قحطان على مفتاح "البيت" فللبيت فى العهد الجرهمى الآخر قد أصبح مفتاحاً وعنه توارث العرب الرواية القائلة بأن "تُبعًا"، أحـد ملوك اليمن، قـدم مكة فطاف بالبيت وأقـام أيام ينحر فيها للناس ويطعم أهل مكة ويسقيهم "العسل المصفى" وأنه قبل أن يعود إلى بلاده كسا البيت بالملاء والوصائل، أى البرود اليمنية، وفى ذلك يروون له شعراً يقول: وكــســــونا البيت الــذى حـــــرم الله فأقـمـــــــــنا بــه من لشــهـر عـشــراً *** *** مــــــــلاء منضـــــداً وبــــــــــــروداً وجـــعــــلنا لبــــــابــه إقـلـيـــــــــــدا وتسترسل القصة وتقول بأنّ "تبعًا" أوصى "بالبيت" ولاته من جرهم وأمرهم بتطهيره وإلا يقربه دمًا ولا ميلاثًا جعل لبابه مفتوحًا هو هذا الذى ما امتلكته جرهم إلا ودان تماماً لجرهم ملك مكة بينما كانت يد الزمن تنثر أبناء إسماعيل فى أرجاء البوادى وتكونهم قبائل وتسطر بهم فى السجل الدينى لوناً من التفكير جديد سجل: نشأة الأوثان إلى أبناء إسماعيل تعود بأسبابها نشأة الأوثان غداة انتزع منهم أخوالهم الجراهمة ملك مكة وأقصوهم عنها إلى حيث راحوا يتفسحون فى فسحات البوادى سعيًا وراء العيش.. فإنه لما كان قد علق فى أذهانهم من أن إلى أرومتهم يعود بناء "بيت الله" كان لا يرتحل منهم عن مكة مرتحل إلا واحتمل معه حجراً من حجارة الحرم... صبابة بمكة وتذكرة له بها! وحينما حل فى مكان من أرجاء شبه الجزيرة وطاب له فيه الاستقرار وضع هذا الحجر وتمثل فيه الكعبة وعكف على الطواف به كطوافه بالبيت فالعدنانى الذى كان قد فارق مكة إنما كان قد فارقها مجبرًا والقلب منه مولع بحب بيت يرى فيه الرابطة التى تربط الفروع من إسماعيل بوحدة نسبة هو عليها من الضياع أو التفكك جد ضنين، وليس إلا تحت ضغط من هذا الدافع كان احتماله لهذا الحجر فى ترحالاته فى أرجاء منفاه ولكن!.. ليؤدى ذلك والأيام تقتطع من عمر الزمن أجيالاً إلى توارث الاتجاه إلى هذه الحجارة واتخاذها قبلة لا فى الصلاة لذاتها وإنما وسيلة فى عبادة الله! هذا هو فى سجل التاريخ الدينى لهذا العصر تاريخ نشأة الأوثان فليس إلا تحت هذا اللون من ألوان العبادة والصبابة بمكة، كما تسجل هذه الحقيقة السجلات الإسلامية، كان الاتجاه إلى هذه الأحجار التى قط لم تتخذ فى عبادتها لذاتها وإنما اتخذت قبله فى الصلاة إلى الله لأن فيها تتمثل الكعبة! فليس إلا تبعًا لقدسيّة الكعبة اعتبرت هذه الأحجار مقدّسة فليست إلاّ تلك الأحجار التى كان يأخذها العربيّ العدنانيّ معه في ترحالاته من البناء المقدّس هي ما نعـرفه بالأوثان! وهكذا تتجلّى لنا الحقيقة المطويّة في صدور التاريخ، فنعلم بأنّه ليس إلاّ تمثلاً بالكعـبة التى كان العدنانى قد فارقها مُجْبرًا وليس إلاّ بسبب تعظيمه لبيت عنه كان قد أُبْعد اتّخذ هذه الأحجار التى حملها منه وسيلةً نحوها في صلاته إلى الله كان طيلة العام يتّجه لا يكفّ عن ذلك إلاّ حين يقدُم ليؤدي شعائر ومناسك الحجّ كلّ عامٍ فى مكّة. فليس إلاّ لعبادة من في السماء والصلاة إليه من خلالها إتخذت الأوثان، أو على الأصح قـولاً اتخذت هذه الأحجار المكيّة وسيلة فليس هناك في أرجاء شبه الجزيرة من وثنٍ اتُخذ فى ذاته للعبادة إليه وإنّما وسيلة فى الصلاة إلى الله! والآن.. الآن وقـد علمنا بأنّه قط لم تنشأ الأوثان إلاّ بسبب تقديس مَنْ في السماء فليس إلاّ لنعلم بالتالى بأنّه ليس إلاّ للسبب نفسه قد سجَّل التاريخ الدينيّ: نشأة الأنصاب إلى المخيلة العربية فى طور حداثتها تعود بأسبابها نشأة الأنصاب؛ فإن المقلة العربية التى كانت قد علقت بالفضاء إنما إليه كانت قد جنحت على جناح هذه المخيلة فتخيلتها سماء صلبة، وليس هذا فحسب وإنما راحت مؤمنة بها تسرب إليها من الخارج فقالت بأنها متكونة من طباق سبع أعلاها مكانًا لعرش عليه الإله قد استوى محفوفًا بمن يعج به ملكوته من كائنات مجنحة خلقها من نفس عنصره النورى ومن ثم علقت الأهداب بهذه السماء لها مقدسة.. ومن ثم اعتبرت كل ما يتساقط من أعالى مقدسًا! ليس إلا بعامل هذا الإيمان كان أن تخيل العقل العربى الأحجار النيازكية الهاوية من الشهب أحجارًا من أرض السماء قد تساقطت ومن ثم مقدسة وليس إلا بدافع هذا الإيمان كان أن نشأت الأنصاب.. قط ليس إلا بسبب التقديس المرهف للسماء أضفى العقل العربى على هذه الأحجار قدسية وطوف من حولها بها متبركاً لها يتحسّس وبها يتمسّح بل يدفعه سعير الحب بمن فى السماء إلى أن يهوى عليها لها لاثماً! ولكن.. كالأوثان لم تتخذ الأنصاب فى الصلاة إلى الله وسيلة وإنما للتبرك وليس إلا قصد التبرك أقبل المؤمنون عليها، صابئة وأحنافًا، مؤمنين بأنّها من أرض السماء قد سقطت إلى الأرض ومن ثمّ فإيداعها الحرم ومن ثمّ فتطواف الزمن من حولها يُزيدها في قلوب المؤمنين قـدسيّة قـبل أنْ تمتدّ يده فتنثرها وتطويها فى طيّات الماضى ولكن في احتفاظ بحجرٍ واحدٍ كان الأهم من بين هذه الأحجار والأعظم.. هو هذا الذى يحفّ به في التاريخ الدينيّ صوت يعرفه حجرًا من السماء وينعته "بالأسعـد".. الحجر القائم حتى عصرنا الحاضر في فناء "البيت" حاملاً اسم: الحجر الأسود. التفكير الدينى كان التفكير والأيام تقتطع من عمر الزمن للعصر الجرهميّ الآخر عهودًا حتى آن، تبعًا لسُنّة الكَون المحتومة، آن مغـرب الحكم الجرهمى بمقدم تلك القبيلة التى أقبلت من جنوب شبه الجزيرة، بعد سيل العرم، من قبيلتين تحملان اسمي الخزرج والأوس والتى، بينما كانت الأوس والخزرج قد واصلتا ترحالهما وحلتا فى يثرب، كانت قد احتلت مكة وعرفت أرجاء شبه الجزيرة أن ملك مكة قد دان لهذه القبيلة التى تحمل اسم خزاعة.. هذه التى سجل بها التاريخ السياسيّ فى شمال الجزيرة إشراقًا لعصرٍ جديدٍ في غضونه يطالعنا: التفكير الديني في العـصر الخـزاعي (207 ـ 440م) استهل التفكير الدينى فى هذا العصر تاريخه بعمرو بن لحي غداة تغلبت قبضته على قبضة جُـرهم فانتزعت منها "مفتاح البيت" وبالتالى مُلك مكة الذى تبدّد من يد عمرو بن مضاض الجُرهمي مَن قد فارق مكة، منفياً، يطلق فى مسمع الزمن صيحة تفجّرت بها مشاعـره من شعـر فيه الدليل الأوفي علي ما قد كانت عليه مكانة مكة في العصر الجُرهمي كما أنّ فيه أيضًا الدليل علي الناحية الإنسانية التى ولّدها الشعـور بأن صاحبها يجاور "بيت الله": فسحّت دموع العـين تبكي لبلدة بها حرم آمن وفيها المشاعر وتبكى لبيت ليس يؤذى حمامة تظل به أمنا وفيه العصافير وفيه الوحوش لا تزال أبية إذا أخرجت منه فليست تغادر! وإلى جانب الناحية الإنسانية التى كانت عليها مكة فى العصر الجُرهميّ والتى تطلع علينا جلية من ثنايا هذا الشعـر فإنما أيضاً تبرز الناحية الأخلاقية من خلال صيحة أخرى لمضاض فى عمرو وهو يترك له مكة حتي ليتجلّى واضحاً الأثر الأخلاقى الذى كانت عليه مكة فى العصر الجاهلى: "يا عمرو. لا تظلم بمكة!". وفى "البلد الحرام" بدأ فى تيار الزمن مسيرة الحكم الخزاعى ليسجل أن الزمن قد إزداد إمعاناً فى نشره أبناء إسماعيل على صفحة الصحراء قبائل سارت بها الأيام وهى فى غير تيهٍ تمرح فى متاهات هذه الأرجاء وحينما كان من هذه الفسحات مكانها فهى أبداً تتجه نحو "بيت الله" وله تعظم وعن عقيدتها فى الوحدانية لا تحيد، فهى لا تحيد عن الاعتراف بأن الإله الواحد هو الله وشأنها فى هذا الإيمان كان أيضاً شأن خزاعة، فسجلات التاريخ العربى إنما تسجل بأن المعتقد الدينى الخزاعى قد انحصر فى الاعتراف بألوهية الله، ويقيناً إن الاعتراف بألوهية "الله" إنما طابع قد طبع العصر الخزاعى كما قبل قد طبع العصر الجرهمى وشأنه فى العصر الجرهمى كان شأنه فى هذا العصر عقيدة جوهرية وقط لها لم تنل بخدش ما قد استجدت خلال هذا العصر من صورة التقرب فى العبادة إلى الله التى سجلت: نشأة الأصنام أو التماثيل: إلى عمرو بن لُحي الخُزاعيّ، سيّد مكّة، تعود بأسبابها نشأة الأصنام أو التماثيل على هـذه الناحية من الدنيا غـداة عاد مرّة من البلقاء فى الشام يحمل تمثالاً منحوتًا من العقيق الأحمر ويمثل شيخًا كثّ اللحية وضعه فى "بيت الله" ووقف بجانبه يعلّم الناس أنّ صاحبه إنّما صورة مجسّمة من الشفيع على الله فى طلب الغيث وأنّ اسمه: هبل. ومن حول الشفيع إلي الله في طلب الغيث كات حتمًا أنْ تشرئب الحناجر الظمآي إلي الماء في بلدة عطشي إلي الإرتواء... ومن ثمّ كان حتمًا أنْ تروح هذه الحناجر الصادية ترتشف من ينبوع الوهم ومنه تنهل وترتوي بترديد اسم: هـبل: وهبل؟! إن هبل إنما اسم لا اشتقاق له فى العربية من معناه فهو اسم عبرى الأصل شطر بمداد كلدانى بحث فإنه أصله إنما "هبعـل" أو بالأصح "هـ + بعـل" ومعنى بعـل إنما "السيد" وأما "الهاء" فهى أداة التعريف فى العبرية وبإضافة هذه الأداة إلى "بعـل" يريدون "رب المدينة" .. أما "العين الزائدة" فسهل إهمالها بالتخفيف، ثم ضياعها بالاستعمال خصوصاً فى لفظ "بعـل" لأن الكلدان كانت تلفظها "بل" بإهمال "العين" ولا تعنى بها الإله المعروف لديها تحت اسم "إيل" وإنما نعـنى بها ربًا يقف بينها والإله وسيطاً! هذا هو "هـبل" فى ضوء التاريخ الدينى، والأصل من "هـبل" كان الأصل، والاتجاه إليه فى العصر الخزاعى كان الاتجاه، قط لم يُتخذ إلهاً وإنما اتُّخذ ربًا ووسيطًا إلى الله. وليس إلا تحت هذه الصفة التى أحضره بها عمرو بن لحي عـُبد "هـبل" فى هذه الناحية من الأرض كوسيط إلى الله فى طلب الغيث وكشفيع إلى الله لنيل الغفران! ولكن! كان لهذا التمثال عميق أثره فى العقلية العربية! فقد بهر هذه العقلية أن ترى بأن لِمَن يتخذ إلى الله شفيعًا وينادى بالرب أو السيد، صورة مجسّمة تدنيه منها إلى الأذهان.. ومن ثم سرت عبادة "هـبل" من خزاعة إلي عدنان ومن ثم بدأت القبائل العدنانية المتفرقة فى أرجاء شبه الجزيرة تنحت، من الخشب ومن الحجر، لمن كانت قد اتخذتهم من شفعاء علي الله تماثيل تطابق ما فى مخيلتها كانت قد ارتسمت لهم من صور حتي إذا ما نفضت يدها من العمل حملت هذه التماثيل ووضعتها فى رحاب "بيت الله"! وهكذا غدا حرم "بيت الله" هذا البيت الذى كانت تلتف من حوله ثلاثمائة وستون قبيلة والذى كان قد غـدا محورًا ورمزًا لمجد هذا العـدد من القبائل المتفرقة من عـدنان، معـرضاً لتماثيل الشفعاء إلى اللهّ!.. بيد أن فى احتفاظ "لهبل" بالمقام الأعلى رضوخًا للحكم الخزاعي فالسيادة المكية إنما لخزاعة فى هذا العصر معقودة، ومن ثم وقف "هـبل" كبيراً للأرباب أو إذا حرصنا على الدقة التاريخية قلنا بأنه قد غدا كبير الشفعاء إلي الله! ولكن!.. "بيت الله" ولئن كان قد غـدا معـرضاً لتماثيل الأرباب أو الشفعاء إلى الله فإن عن تمثيل الإله بتمثال قد تراجع العقل العـربى!.. وليس هذا فحسب وإنما لم يطف بالمخيلة العـربية من هذا الخاطر طائف فإنما عن الإحاطة بصورة الإله قد اعـترفت بقصورها هذه المخيلة ومن ثم نزهـته عن التصوير مكتفية بهذه التماثيل التى حشدت بها "بيته" بينما راحت بها إليه تتوسل وتتزلّف وتتشفّع! من ثنايا القِدَم المطوي عن الأذهان ومن طيّات صحف التاريخ وطواياه ينبعث الصوت العربى من أعماق هذا الماضى البعـيد هامسًا فى مسمع الأجيال بقولٍ راح صداه فى مصدر العـقيدة الإسلامية من بعد يتردّد ومُنبّهاً يعلن: ما جعلنا الأصنام إلاَّ قِبْلة لنا فى عبادتنا الله! وما كان تضرعنا إليها إلاَّ تشفعًا بها إلي الله! ومن ثم يقيناً إن العقل الإنسانى، عربياً بتصويره شفعائه وإحلاله تماثيلهم فى "بيت الله" لم يشذ عن قانون المنطق لهذه المرحلة الحدثة من حياته الفكرة، فإن فى الإنسان قوتين: قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات، وقوة خيالية متصرّفة فى عالم الأجسام، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ومصاحبتها، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلى مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يجسّمها حتي تكون له تلك الصورة الخيالية معـينة علي إدراك تلك المعانى العقلية… تماماً كالمهندس فإنه إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقاييس وضع له صورة معـينة وشكلاً معـينًا ليصير الجسم والخيال معينين للعقل على إدراك ذلك الحكم الكلي… الصنو كان صنو العرب فى العصر الخزاعى، فليس إلا بدافع من هذا المنطق كان أن نُحتت للشفعاء إلى الله تماثيل وأسكنتهم "بيت الله" بل ليسترسل بها هذا المنطق مداه فتبدأ فى هذه العصر بنحت التماثيل للشخصيات التى تركت تأثيرها فى العـقلية العـربية وإبداعها أيضاً حول الكعبة فى حرم "بيت الله" … فلإبراهيم قد نُحِتَ فى هذا العصر تمثال كما نُحِتَ آخر لإسماعيل وفى هذا العصر أيضاً، كأثر لانسياب المسيحية إلي هنا، نُحِتَ تمثال لمريم وآخر لعـيسى ابن مريم، وأودعت كل هذه التماثيل فى "بيت الله"!.. ومن هنا تتجلى لنا حقيقة مطوية فى مصدر التاريخ الدينى وهى أنَّ التماثيل التى كانت قائمة فى بيت الله لا تمثل إلاَّ الشفعاء إلي الله سواء منها مما حاكته المخيلة العـربية من كائنات إلهية أو قدّسته من كائنات بشرية، فقد كان العرب فى مبدأ أمرهم أنّه متى ثوي منهم من يعتقد فيه بأنّه مجاب الدعوة عند الله اتخذوا صنماً، أو علي الأصح تمثالاً، على صورته التى يتخيلونها ويقدسونه علي اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون زلفي لهم فى قضاء حوائجهم فى رحلة الحياة ويكون لهم شفيعًا عـند الله يوم القيامة، ومن هؤلاء كان: أساف ابن يعـلي الجُـرهمى ونائلة بنت زيد الجُـرهمية فقد عظّمتهما العـرب وبهما إلي الله كانت، أيضاً، تتوسل( ). بهذا اللون من التفكير الدينى بدأت الأيام بالعصر الخزاعي تسير وقد طلعت الرموز فى صورة الأصنام والأوثان والأنصاب ومن ثم قام إلي جانب وثن وثن وإلى جانب نصب نصب وإلى جانب تمثال تمثال. وبهذه المظاهر بدأ يرسخ فى العـقل العـربى هذا اللون من ألوان المعـتقد الديني الذى رغم اعـترافه بالوحـدانية فإنه قد أقام بينه وبين الله هؤلاء الوسطاء الذين عرفهم بالسادة وناداهم "الأرباب" فهو بينما قد احتفظ لله بالوحدانية الخالصة فإنه قد جعـل الأرباب كثرة ومن ثم طبع العـصر الخزاعى طابع اتخاذ "الأرباب" شفعاء إلي الله! ولكن.. لئن كان إلي العصر الخزاعيّ يعود الأثر في إرساخ فكرة تعظيم الشفعاء فى العـقلية العـربية والأثر أيضًا فى نحت الأصنام أو التماثيل لهؤلاء الوسطاء فإنّ إلي ما قبل هذا العصر يعـود لون من التفكير الدينى آخر خضب العـقلية العـربية كافة وامتد تأثيره طويلاً من بعد علي الأجيال.. فهناك كان مد عقيدى يزحف من الخارج متوغلاً فى أرجاء شبه الجزيرة العربية عن طريق ذلك الاتصال الاقتصادى الذى كان للعرب منذ القدم بالأمم التى تجاورهم وعلى الأخص الكلدانيين والمصريين، فإن لما كان من الطبيعى أن يتأثر العرب، بواسطة التجارة والترحال، بما قد كان وراء عالمهم منتشرًا من ألوان العبادات كان حتمًا أن تنساب بهم هذه الألوان ويتوالى دخولها إلي هذه الأرجاء شيئًا فشيئًا لتسري عـدواها فى القبائل واحدة بعد واحدة وفيها تتفشى حتى عمّت القبائل برمّتها.. وأبرز الأمثلة علي توغّـل هذه العبادات الدخيلة على العـقلية العـربية ثلاث شغف القلب العربى بهن وولع حتي المدى الذى سكن فيما وراء الشغاف من هذا القلب لهم حب أيي إلاَّ نعتهم: "بنات الله"!.. أبكار السقـّاف(( بنت اليمن))-تلميذة العقاد المنسية- أهدي هذا الموضوع لكل بنات الخليج - إبراهيم - 05-23-2005 مناة، واللات، والعزى مُناة ؟ .. مُناة ربّة دخيلة دخلت بادية الحجاز وفيها لم تولد، فإن من اسمها ما يحمل نفس معنى ما ورد فى التفكير الدينى الكلدانى حيث نشأت بين الرافدين لها ربوبة، فإن فى الدين البابلى كانت هناك ربة عرفت بأنها ربة المنية ومن ثم نعتت باسم "ما مناتو" قبل أن ترجعها أصداء أرجاء ثمود وقبل أن تسجلها أقدم النقوش النبطية تحت اسم "مناوة" وقبل أن ينساب الصدي إلى "أم القرى" وتتحول فيها من "ما مناتو" و "مناوة" إلى "مُناة". واللآت؟.. اللات، أيضًا، ربة دخيلة دخلت بادية الحجاز وفيها لم تُولد، فإن فى اسمها من رجع الصدي المصري والبابلى أصداء!.. ففى اسمها ما يحمل نفس اللفظ الذى ورد فى سجلات التفكير الدينى المصرى القديم حيث نشأت على ضفاف النيل لها ربوبة عرفت بها تحت هذا الاسم لأن من معناه لغة الرضاعة، فإن ربه الحصاد والنمو كانت تعرف فى مصر القديمة تحت اسم "اللآت"!. بيد أن وإن تجلت اللآت العربية مرآة انعكست عليها اللآت المصرية فإن فى هذه المرأة أيضاً ينعكس إلى جانب الأصل المصرى الأصل الكلدانى، لا فحسب بلون العبادة التى عبدتها تحتها ثمود وعبدها النبطيون وإنما لأن فى الدين البابلى قد عرفت ربة القضاء تحت اسم "اللآتو"!. والعُزي؟ العُزي مصرية صرفة!.. عن "العُزي" تنفض أردية التاريخ فتتجلي هي هي تلك التى عرفتها مصر القديمة باسم إيزي أو إيزيس!.. فليس إلا إلى هنا فى خضم امتداد تياراتها فى أرجاء الشرق القديم كانت قد زحفت بعبادتها إيزيس، وليس إلا بامتداد هذا المد كان قد امتد مدّها الهادر علي هنا فكان صداه على الشفاء العربية؛ "العزى"!. تحت أضواء التاريخ السياسي ومن مساند التاريخ الدينى والأدبى ينحسر الأصل من هؤلاء الربّات الثلاث اللواتي عن الشرق القديم توارثهن القلب العربي وتعلق بهن منه الرجاء يُرتجي شفاعتهن إلي الله!.. فليس إلاّ تحت شعاع من ضوء هذا التاريخ وليس إلاّ فى استناد إلي هذه المساند نتبع زحف مناة فاللآت فالعزى إلي هذه الناحية من الدنيا وحلولهن الواحدة بعد الأخري بألوان عبادتهن فى أرجاء القلب العربي لنحسر لهن تاريخ عن رسوخهن فيه بينما كان العصر الخزاعي يتهاوي نحو الغروب.. بيد أن أي لون من ألوان التعـبّد وأيّ صُور من الشعائر الدينيّة وأيّ نُسك كان يؤدّي خلال هذا العصر؟.. سؤال، الجواب عنه يأتي بالإيجاب من جوانب هذا الوادي الساكن بين أنجاد نجد وتهم تهامة وسهوب الجنوب وسباسب الشمال، وكالأرض الغور الراكد من ريحها الريح ليس بغور تاريخ الدين فيه وغير راكد من ريحه الريح والأيام بالعصور الأولي تسير ورياح الزمن تسفي علي العصر الخزاعي رمالها فتسفي علي ما قد حفرت الخطي الدينيّة علي هذه الرمال من آثار، كلا!. وإنّما واضحة وجليّة تبرز هذه الآثار فى ضوء التاريخ السياسيّ والدينيّ والأدبيذ غداة طوت الأيام لخزاعة عصرًا ونشرت آخر بذلك البطن من بطون كنانة المسمّي قريشًا الذى كوّنته بعض الأسر من فِـهْـر، والذى عـُرف والذى عَـبْره يُطالعنا: التفكير الديني فى العصر القريشي (440م ـ 618م) أو سنة الفتح المحمدي لمكة الدين في العصر القريشي، والأيام تتجمع بانفراطها إلي قرابة قرنين من الزمن لتؤلف لقريش عصرًا، له فى سجل التاريخ الديني أهمية خاصة لأنه يمثل الفترة السباقة على الإسلام ولأنه المهد الذى ولد فيه الإسلام ولأن الإسلام فى أحضانه نشأ وبأدبه غُـذي وتغـذى.. عن هذا العصر، الذى استهلّ مشرقه بزيد بن كلاب المعروف بقُصيّ وبلغ مغـربه بالحفيد الخامس محمد، ينحسر الزمن منذ اللحظة التي أقصي قُصيّ فيها خزاعة عن "بيت الله" بسبب استيلائه علي "مفتاح" الكعبة.. كلا. ليس الصدد بصدد التحدث عن الوسائل التى اتخذها قُصيّ إلي بلوغ غايته المنحصرة فى سيادة هى حقاً شرعياً للقبضة الممتلكة مفتاح "بيت الله" فإنما هذا حديث ترويه أنفاس التاريخ الإسلامي وعلي صفحات سجلاته فى شرح منتشر وإن كنا نستطيع أن نوجزه باقتضاب وهو أن قُصيّاً قد أمضه أن يرى قومه العدنانيين من سلالة إسماعيل، تحت سلطان الأجانب من خزاعة فكان أن عوّل مصمّماً علي أن ينزع الأمر منهم ولما كان انتزاع الحكم من خزاعة إنما محصور فى الاستيلاء علي "مفتاح البيت" بدأ قُصيّ يرسم الخطة ولخطته بدأ ينفّذ بالتدريج ومن ثم دأب علي السعي والتجارة حتي كثر ماله وهيّأه هذا المال لأن يكون أهلاً لمصاهرة ملك مكة حُليل بن حبشية الخزاعى.. وتزوّج قُصيّ من حُبيّ ابنة حُليل أملاً فى أن يرث عن حُليل امتيازاته.. ثم إنه قد حدث أن حُليلاً عرض علي حُبيّ ولاية البيت من بعده فتنحّت عن تسلّم "المفاتيح" وكأنّ حُليلاً لم ينتبه أو أنه كان قد تغاضي عن المرمي من وراء هذا التخلي فلم يسلّم المفتاح لقُصيّ وإنما سلّمه لأبي غيشان الخزاعي وهنا ابتدأ قُصيّ يحتال علي أبي غيشان حتي صابح مكة يوماً وفى يده هذا المفتاح والصوت منه يعلن خزاعة أنه قد اشتراه من أبي عيشان! ودهشة هـبـَّت خزاعة ومهتاجة انطلقت تصيح: إنّ مفتاح الكعبة لم يُبَعْ وإنما كان ما قد حدث بطـريق الرهـن. ولكن....قُصيّ كان يعلم ما سيكون ولم يُؤخذ علي غِرَّة. فقد كان قد اتّخذ لهذه الحرب عـُدّتها بأن استعـدّ لها من قبل وجمع قومه من نواحٍ متعـدّدة وجاء بهم إلي مكة، ومن أجل ذلك سمى "المجمع"، وقام فيهم يوم الجمعة، ولذلك اتخذ يوم الجمعة من كل أسبوع يومًا مرعـيًا، أجاب صيحة خزاعة الفزعة بصيحة الحرب ومن ثم بدأ بين العدنانيين والخزاعيين علي مُلك مكة قتال صمد له قُصيّ ومن ورائه عـدنان حتي تمكن من إجلاء خزاعة عـن مكة وبذلك استقر فى يده هذا المفتاح الذى به انتقلت السيادة من خزاعة إلى هذا البطن من بطون كنانة أو هذا البيت الذى جمعت به القبائل من "فِهْر" التى عُـرفت باسم قريش، وبذلك دان لقُصيّ مُلك مكة! وأقام قُصيّ نفسه ملكاً لمملكة كانت من نوع الممالك المنتشرة علي صفحات التاريخ السياسي عهد ذاك فى أنحاء شبه الجزيرة العربية، ومن مظاهر هذا الملك أنه جدّد بناء الكعبة وشيّد "دار الندوة" فضمّ إلي الحكم الدينيّ الحكم الزمنيّ الذي تولاه بمهارةٍ عجيبةٍ؛ فإنّ من المرجّح بل والثابت أنّ قُصيّاً كان قد استفاد من ترحالاته التجارية التي حتّمت عليه أن يضرب فى جنبات الأرض ويستفيد من الأنظمة الاجتماعية والسياسية التى وجد عليها الفرس وخاصة الروم، فليست "دار الندوة" إلاَّ مرآة عليها انعكست تلك الصورة التى كانت عليها مجامع الروم الدينيّة والمدنيّة! فلم يشيّد قُصيّ هذه الدار التي جعل بابها يؤدي إلي الكعبة إلاَّ علي نمط وغـرار المجالس الروميّة عهد ذلك والتى لابد أن يكون قد شاهدها فى تردّده علي الممالك المتحضّرة كفارس ومصر وحينما كان الظلال الروماني يمتد فهو لم يُنشئ "دار الندوة" إلا ليجمع الرؤساء ويعـقدوا فيها مجالسهم تحت رياسة كانت له وحده فى هذه الدار التى وإن كان لم يحكم فيها إلاّ من بلغ الأربعين من العمر فإنما قد فتحت أبوابها لكل حكيم مُفوَّه ولو لم يبلغ الأربعين من العمر واستقبلت كل نابغة محنّك واستهدفت قوة الشخصية والنضج الفكري، ويقيناً إن هذه إنما ظاهرة من ظواهر الرُقيّ الاجتماعي الذى حققه قُصيّ بإنشائه هذه الدار التي جعل من اختصاصها حسم المشاكل وحل المعضلات وعقد الألوية والفصل فى الخصومات إلي جانب تختينهم فيها غلمانهم وعقدهم فيها عقود القران. .ومن ثم وحّد الحكم الديني بالحكم الزمني فى هذه المملكة الناشئة التى وإن كانت من نوع الممالك المنتشرة فى شبه الجزيرة عهد ذاك إلا أنها كانت تتميز عن سائر هذه الممالك بالطابع الديني لأن الأصول من هذا الملك كانت تقوم علي المعني الواضح من امتلاك مفتاح "بيت الله" وما يتبع هذا الامتلاك من مستلزمات واختصاصات تقف فى مقدمتها الحجابة أو السدانة أو الكهانة. وهكذا تنحسر سجف التاريخ عن مكة فى عهد قُصيّ كحاضرة ذات حضارة علي نصيبٍ وافرٍ من الرقي السياسي والاجتماعي، ليس فحسب لأن فيها قد أصبح هذا النوع من الحكومة المنتظمة التى وضع قُصيّ أساسها لهذه السيادة التى استهلت فى القرن الخامس الميلادى لها تاريخاً، وإنما!.. لأن هذه الحكومة، كما تحدّثنا مصادر التاريخ العربي، لم تكن حكومة الأغنياء التى يسير فيها أصحاب رؤوس الأموال علي المرافق العامة وإنما حكومة اشتراكية استهدفت إقامة العدالة الاجتماعية وهدفت إلي القضاء على مشكلة الفقر( ) فالقريشيون لم يكونوا يستغلون نفوذهم السياسي للثراء المادي وإنما كانوا يشقون به السبل المشروعة لجمع المال ثم ينفقونه فى وجوه الخير الذى اتخذ مظهره فى مساعدة المتعفّف وفى إطعام الحاج متبعـين فى ذلك مبدأًً وضعه فى مستهل حكمه قُصي، فإن قُصيّاً بما قد جمع لنفسه إلي جانب السدانة من اختصاص الرفادة، التى استقرت من بعده فى نسله من بنى شيبة، إنما قد سنّ هذه السنّة التى تخرج فيها قريش من أموال نصيباً لحظة رفع صوته قائلاً: " يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته والحج ضيوف الله وزوراً بيته وهم أحق الضيف بالكرامة فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحج حتي يصدروا عنكم، ففعلوا..". وبجانب الرفادة كانت السقاية وكان اللواء؛ وهو راية الحرب – التى كانت لا تعقد إلا بيد قُصيّ قبل أن ينتهي أمرها إلي نسله من بني أميّة – وإلي جانب هذه الاختصاصات بالإضافة إلي الندوة أو رياسة الاجتماع كل أيام العام وتولية أمر المشورة والسفارة والحكومة والحكم الأخير فى الخصومات جمع قُصيّ فى يده كل السلطات المدنية والدينية فكان زعيم العـرب السياسي ورئيسها الديني وقائدها العسكري ورأس قريش التى أصبحت، بذلك، سيدة العـرب!.. لا تنافسها فى هذه السيادة قبيلة ولا تجرؤ قبيلة أن تناوئها وليس هذا فحسب وإنما تسعي القبائل طراً إلى تفـيؤ ظل هذه السيادة التى تبثها وعـزّزها اتخاذ قريش جزءاً من الأرض المجاورة "للبيت" أولته احترامها واعتبرته، بقدسية البيت، مقدساً ومن ثم عرف "البلد الحرام" تحت اسم: " بلد الله". وفى "بلد الله" أمنت قريش جانب غيرها من القبائل وغـدا لها مركزا خاصا فى نظر القبائل العربية قاطبة حضرا ومضرا وليضاعف لها فى نظر هذه القبائل مكانة ويؤكد لها علي دنيا الصحراء سيادة النعـت الذى نعـتت به قريش نفسها والذى ما لبث أن عرفتها به القبائل طرا حتي أمسي علما علي قريش اسم: "أهل الله". وأمام سؤدد "أهل الله" كان حتماً أن تنحصر سيادة كل قبيلة فى الدائرة الضيقة من محيطها وأن تخفق على الحضر والمضر "لأهل الله" ألوية ما رفت إلا ورفرفت حتي أظلت الأرجاء من الحجاز وتهامة طاوية القبائل المنتشرة من عدنان كافة بما تضم هذه القبائل من أصول تشابكت فى التفاف منها الفروع من حول قريش ليشتد منها الالتفاف من حول بناء تعتبره بيتاً للإله الذى بوحدانيته تدين وتناديه منها الشفاء بنفس النداء الذى تعودت أن تناديه به فى العصر الخزاعي وفى العصر الجرهمي من قبل، فإن الله، كإله واحد لا يقف بجانبه آخر، إنما محور التفكير الإلهىّ وطابع المعتقد الدينيّ فى العصرالقريشىّ منذ بدئه حتى منتهاه والأيام بهذا العـصر تسير من قُصيّ بن كلاب إلي محمد بن عـبد الله.. أجل .. لقد طبع التوحيد العصر القريشى وقط لم يكن العصر القريشى إلاّ موحدًا وعلى مظاهر هذا التوحيد تتوالى الأدلة وتتضافر البراهين وتتضامن على انحصار التفكير القريشى فى الوحدانية، فنحن نري العصر القريشيّ يسند إلي الله وحده أمر الكون والكائنات فالله هو الأحد الذى إليه يعود أمر الجزاء من ثواب وعقاب وهو من عنده جزاء الصالحات: أجــــرت مخــلــداً ودفـعـت عــــــــنه *** وعـــنـد الله صـــالــــح مــــاأتـيــــت أبو قيس بن الأسلت والله هو المعين على إحراز النصر: وأحــــــرزنا المغـــــــــانم واستبحـنا *** حــــمى الأعــــــــداء والله المعـــين والله هو القابض الباسط وهو الذى يعلم السر والجهر وهو المجازى: إن الــذى يقــبض الدنيا ويبسطــــــها الله يعــــلــمكم والله يعـــلمــــــــــنى *** *** إن أغــــنـــــاك فــسوف يغـــــــــنى والله يجــــــــــزيكم عـنى ويجـــزينى ذو الصبع العدوانى والله هو الخالق والمبدع الجمال: قضى لهــا الله حـين صــورهـا الــــــ *** خــــــالــق ألا يكــنها ســــــــــــدف قيس بن الخطيم والله هو الذى يجزى على البر والإحسان: إذا الله جـــــازى منعــمــــــاً بوفائـــه *** فجــــــازك عـــــنى يا قلمس بالكرم هند بنت الخس والله هو علام الغيوب ويعلم السر وما تكنه الصدور: فــــلا تكتمــــن الله مــا فى نفوســــكم *** ليخـفى ومهما يكــــتم الله يعــــــــلم زهير بن أبى سلمى من صدور الكتب الإسلاميّة المعاصرة( ) يتنفّس التاريخ معلنًا أن العصر القريشيّ كان موحدًا وأنّ من مظاهر هذا التوحيد يجئ القسم بالله! والله لـــو كــرهــت كـــفى مصاحبتى *** لقــلت إذا كرهــت قـــــربى لها بينى العدواني فــوالله أنـــــا والأحاليف هـــــــــؤلاء *** لــفـى حقــبة أظــفــارهـا لـــم تتقــلم زهير حــلفــت فـلـم أتــرك لنفســـك ريـــــة *** ولكــن وراء الله للنـفــس مــذهــــب الذابيانى عن التوحيد عَـبّر أنفاس الشعر العربيّ، والشعر إنّما موسيقى النفس الإنسانيّة الذى يطرد مع عواطفها وانفعالاتها المختلفة ويجانس حالاتها وتراوحاتها المتنوعة يأتينا البرهان علي إخلاد العصر القريشي وعلي أن الله كان اسماً معروفاً فى العصر القريشي ونغمة تختلج بها الشفاه فى كل أمر ومناسبة بل يجئ البرهان علي أن هذا الاسم، ولهذا الرأي سند من نفس القرآن ففى مصدر العقيدة الإسلامية، كما سنرى ذلك بعد صفحات، نجد أن استعمال العرب لاسم الجلالة يشير علي أنهم كانوا ينظرون إليه نفس نظرة المسلمين( ) فإن فى الله، كمحور للمعتقد الأساسى الديني، كان قد انحصر المعتقد الديني فى العصر القريشي وإن كان من حول هذا المحور قد اختلفت، كما فى كل عصر، ألوان العبادة تبعاً لمراتب التفكير التي ليس إلاَّ بسبب تباينها قد شقت هوة بين العقل الجماعي والعقل الإنساني، فبينما كان العقل الإنسانى قد ظل فى تمثله بالتفكير الحنيفي كما كان فى العصرين السابقين، الجرهمي والخزاعي، منتشراً فى غير ضياع فى أرجاء العصر القريشي كان العقل الجماعي قد استحكمت فيه الصابئية ومن ثم كان التجاؤه إلى الشفعاء يتخذهم زلفي إلى الله وهذا يقيناً إنما وثنية ولكنها وثنية لم يخل منها أى عصر ولن يخلو منها أى عصر وما دام هنا عقل جماعي وما دام هناك دهماء، فليس الالتجاء إلي الأولياء وليس الطواف بأضرحتهم إلا وثنية يصطبغ بها عصرنا ولها العقل الجماعي يخضع. ومن هنا يجب أنْ نتنبّه فنعلم أنّ الوثنيّة التي شاعت عـند العرب وخاصّة الدُهماء منهم لم تكنْ شركًا. كلاَّ!. فلم تُعبدْ الأصنام فى شبه الجزيرة بصفتها آلهة قائمة بذاتها وإنّما، وهى لا تمثّل إلاَّ تماثيل الشفعاء، لم تُعبدّ إلاَّ بصفتها شفعاء إلى الله.. ويقينًا إنَّ هذا، في ضوء الحقيقة ليس شِركًا فإنّ الشىء الذي يُتّخذ شفيعًا إلى شىءٍ آخر لا يُعدّ لهذا الشىء الآخر مساويًا!.. ومن ثمّ فإذا كان العصر القريشيّ قد ورث عن العصر الخُزاعيّ وعن العصر الجُرهميّ من قبل عقائده وإذا كان قد صبغ العـقل الجماعيّ في العصر القريشيّ بل وطبعه طابع تعظيم الوسطاء إلي الله، وإذا كان ليس إلاَّ تحت اعتبار أنّهم إلي الله شُفعاء اتّجه إليهم بالعـبادة وبني لهم بيوتًا هي التي أسماها "الطواغيت" ومن ثمّ كان قيام "طاغوت" بجانب "طاغوت" ضمّت منه الأركان أحد الشفعاء إلى الله، وإذا كان بهذه البيوت قد طوف بشُفعائه متشفّعًا موقـنًا بأنّه لا يستطيع إلاَّ من خلالهم الاتصال بالله فإنّ العـقل العربيّ، في تفكيره الفرديّ وفيّ معتقده الجماعيّ، قط لم يشذّْ عن الاعـتراف بالتوحيد للموضوع الأول للعقل أو الإله!.. ويقينًا! ما شذَّ العـقل الجماعيّ في العصر القريشيّ عن طبيعته ودأبه في كلِّ عصرٍ!. فطابع العـقل الجماعيّ في كلِّ عصرٍ إنّما اتّخاذ الشُفعاء إلي الله والتوسُّط إليه بالوسطاء ودأبه أبدًا تشييد البيوت لهؤلاء الذين يظنّ أنّهم علي الله منه أقرب!. فليس إلاّ إبتغاءً التقرب من الله اقـترب هذا العـقل في العصر القريشيّ من هؤلاء الشُفعاء وليس إلاَّ إبتغاء مرضاة الله كان استرضاؤه لهؤلاء الوسطاء، ومن ثمّ فلئن كان العقل الجماعيّ في غضون العصر القريشيّ قد ورث عن العصرين السابقين طابع التوسّل إلي الله بالوسطاء والطواف ببيوت الشفعاء فإنما المحور الأساسي الذى كان تلتف من حوله سائر صيغ تعـبّده وألوان عبادته إنما ؛ الله!. فالله هو النهاية القصوي التى تناهي إليها العقل العربي والله هو المحور الذى استدار من حوله التفكير العربي قاطبة استدارة حفها بسياج التعظيم والإجلال حتي المدي الذي خضع فيه العقل الجماعي لمنطق العصرين السابقين القائل بأن الإنسان ليس أهلاً للاتصال بالله اتصالاً مباشرًا!.. فليس إلاَّ عملاً بهذا المنطق ورضوخًا لتسلسله اتخذ العصر القريشي الوسطاء واتجه إليهم يناديهم بنفس النداء الذى كان له قد ورث. وليس إلا من هنا كان نعـته لهم بالأرباب وهذه إنّما كلمة قد مررنا بها من قبل وعلمنا أنّها صورة لفظيّة أخري للمعني من كلمة سادة!. من صدور التاريخ العربيّ يأتينا هذا اليقين بأنّه ليس إلاَّ تحت هذا المعنى وليست إلاَّ تحت هذه الصفة خيّمت علي العصر القريشيّ عبادة أرباب انفردت من بينهم تلك الربّات الثلاث بمكانة إليها لم يرتقِ شفيع من الشفعاء، فلهُنّ كانت تعظم قريش ومن ورائها سائر بلاد العـرب حتى أمست عبادتهُنّ في القلب العـربيّ مشاعًا!. أجل .. رغم اختصاص خزاعة وهـذيل والأوْس والخزرج "بمُناة" فإنّ من حول تمثالها، الذى كان قائمًا علي ساحل البحر الأحمر بطريق يثرب، كانت قريش تطوف وتذبح ولعبادتها تتزعّـم ومن ورائها سائر العـرب. ورغم اختصاص ثقيف "باللآت" فإنَّ من حول تمثالها، الذي كان قائمًا بالطائف في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم، كانت قريش ومن ورائها سائر العرب تطوف وتعظّم. ورغم اختصاص غطفان "بالعُزي" فإنّ حول تمثالها، الذي كان قائمًا بالحراض، كانت قريش ومن ورائها العرب تطوف وتخصّها بمكانة تفرّدت فيها العُزي من بين مُناة واللآت بإعـزازٍ فـريدٍ فقد كان تمثالها أعظم التماثيل المقدّسة عند قريش. ولكن! رغم انفراد هؤلاء الربّات الثلاث بمكانة إليها لم يرتفع من الشفعاء شفيع بإنهم قط لم يرتفعن إلي مرتبة الألوهية!. وهذه حقيقة أخرى تفصح عنها مصادر التاريخ الديني وعليها يأتى الدليل من الشعر العربي لهذا العصر نفسه وهو يجري مقسماً يقول: وبالـــلات والعُــــــزى ومن دان دينها *** وبـــالله إن الـــــــــــــه منهم أكـــــبر( ) أوس بن حجــــــــر يقينًا إنّ القلب العربي إنما بهؤلاء الربّات كان قد علق ويقينًا إنه بهن ولهًا كان قد طوف منه الخيال فتمثلهن تحت صورة فذة من الجمال ونعتهن "بالغرانيق"( )، ولكن!. ليس إلا ليعلق بهن وليس إلا ليطوف من حولهم كأطياف إلهية يقفن من الله تحت الصفة التى يسجلها نفسه منه اللسان وهو الذى قد تعود أن ينعتهن: بنات الله!.. ومن ثم فإذا كان القلب العربى بهؤلاء الربّات كان قد علق وبهن ولهًا كان الخيال منه قد طوف فليس ليطوف بهن إلا كأطياف إلهية وقط ليس لهن مؤلهًا!. كلا! فليس إلا رجاء شفاعتهن له وتوسطهن بينه وبين الله كان اتجاهه إليهن عابدًا، ومن خلالهن، الله!.. فلقد رسخ فى الذهن منه من أن شفاعتهن، واللسان منه ينعتهن "ببنات الله"، لترتجى.. وهذه إنما حقيقة عليها يأتى من مصدر العقيدة الإسلامية نفسه البرهان بأنهن لم يعتبرن إلا الغرانيق العلى ولم يعبدن إلا لأن عند الله شفاعتهن لترتجى!. أجل.. من مساند التاريخ الدينيّ يأتينا هذا اليقين ليزيدنا على يقين يقينًا بأنّه في غـير انحرافٍ عن التوحيد وفى غـير تحوّل عن الاعتراف بالوحدانيّة كان اللسان العربي قد لهج في غضون هذا العصر بعـبادة هؤلاء الربّات الثلاث فليس إلاَّ علي هذه المساند نفسها نستند في استمدادنا البرهان علي أنّهن قط لم يُعبدْنَ كآلهات وإنّما اتُّخِذْنَ، لقُربهن الشديد من الله، شفيعات إلي الله فما كنّ في الاعتبار الدينيّ للعصر إلاّ مرآة عليه ينعكس الجمال الإلهيّ وجلاله ومن هنا كان تعـريفهـن بأنّهن: بنات الله! ومن ثم فقد آن لنا أنْ نستبين بأنّه لم يكنْ إلاّ في غـير انحراف عن الاعـتراف بالوحدانية الخالصة لله كان العصر القريشيّ قد نعت مُناة واللآت والعُزي ببنات الله وإلي الله من خلالهن اتجه بينما كان قد غاب لهن أصول وبينما قد علقت فى أرجاء مخيلته منهن الأطياف كغـرانيق أو ذوات جمال يقفن لديه فى مرتبة الشفاعة علي رأس كل ما قد عرف من وسطاء وشفعاء كانت قد قامت لهم أيضًا أصنام أو تماثيل، ومن أشهر هؤلاء الوسطاء الذين قد قامت لهم تماثيل أولئك الذين ورد ذكرهم فى مصدر العقيدة الإسلامية وهم: سواع ويعوق ويغوث ونسر وود. يطالعنا تاريخ هؤلاء الأرباب الخمسة جليًا إذا تذكرنا بأن العرب كانت تعظم من كان ينفرد بعمل فريد يولد من حوله الاعتقاد بأن دعوته قد أصبحت مقبولة عند الله ومن هنا كانت تصنع له تمثالاً أو هذا الذى تسميه صنمًا، ولم تكنْ العرب إلاّ مدفـوعة بحافز من هذه العـوامل حين صنعت لإبراهيم ولإسماعيل ولمريم ولعيسى تماثيل ووضعتهم فى فناء "بيت الله"، ومن هنا ندرك أنّ الشأن كان شأن هؤلاء الأرباب الخمس فإن "سواعًا" هذه التى يقف تمثالها شاهدًا على عنصرها النسوي، لم تكن إلا كنائله الجُرهمية شخصيّة تاريخيّة( )... ونحن إذا رأينا "ودا" يقف بتمثاله على صورة رجل فليس إلا لنذكر أن من العرب من كان يسمى ودًا، وليس إلاّ لتعود بنا الذاكرة إلى "أد" و "أدد" مَن إليهما كانت العرب العدنانية بنسبها تعود!... من ثنايا التاريخ الدينى عند العرب الأول ومن خلال داكن غيمه تلتمع هذه الحقيقة وعلينا تطلع كبرق خاطف نتبين فى ومضته اللامحة أن هؤلاء الشفعاء الخمسة الذين كانت العرب قاطبة لهم تقدس لم يكونوا، رغم اختصاص قبائل حمير بنسر وقبائل مراد بيعوق ومذحج بيغوث وبود، إلاّ أربابًا قبلية أو بالأحري شخصيات تاريخية، لهم هذه القبائل كانت قد أجلّت وقدّست وبصنعها التماثيل لهم كانت فى الوعي العربي لذكراهم قد خلدت.. فليس هنا من بين هؤلاء الأرباب الخمسة واحد قد وقف فى الذهن القبلى إلهاً وإنما لله شفيعاً وصنوه صنو سائر الشفعاء أو بالأحري هذه الطائفة التى كان يقف علي رأسها "هـبل" هذا الذى عن العصر الخزاعي قد ورث العصر القريشي له عبادة ساعدت علي استمرارها طبيعة هذه الناحية من الأرض العطشي إلي الغيث، ومن ثم كان لتمثاله، المصنوع من العقيق الأحمر والذى له كانت خزاعة قد أقرت فى "بيت الله"، مركزًا وقف به بمثابة المحور من كل تمثال كانت قد أقرته كل قبيلة لشفيعها فى "بيت الله" اقتداء بالتقليد الخزاعى الذى لم يكن إلا بسببه كان أن قامت، تمامًا كما تقوم اليوم فىالكنائس المسيحية الكاثوليكية تماثيل القديسين، فى بيت الله تماثيل الشفعاء لتقوم فى نفس الوقت شاهدة علي أن الأساس الذى استقر عليه صرح الدين فى العصر القريشي كان المعتقد بوحدانية الله وفى نفس الوقت الذى تجئ فيه شاهدة أيضاً علي أن "الطواغيت" لم تكن إلا بمثابة أضرحة الأولياء أو مراكز للعبادة وأنها قط لم ترتفع إلي المكانة التى كان عليها "بيت الله" فهو الذى قد انفرد، انفراد صاحبة، بمرتبة الإجلال!.. ولكن!. هنا تجئ حقيقة تاريخية أخري مستمدة هى من الانقسام المذهبي الذى كانت عليه العرب القرشية فى هذا العصر، فلقد كانت العرب علي مذهبين: حِلة وحِمْس، وسميت قريشاً حِمْسًا لتشددها فى دينها، فالأحمس، فى لغتها، هو المتشدد فى دينه والمعظم بيت الله وحده.. وليس إلا "الحِلة" من العرب هى التى كانت تعظم بيوت الشفعاء وأما "الحِمْس" منهم فقد تراجعوا إلاّ عن تعظيم "بيت الله" لصلته بالساكن السماء، فلقد كانت قريش لا تعظم شيئًا من الحل كما تعظم الحرم ومن مأثور قولها: "نحن الحِمْس أهل الحرم فليس ينبغى لنا أن نخرج من الحرم ولا نعظم غيره" من ثم فلئن كانت قد انتشرت على صفحة العصر القريشى "الطواغيت" أو بيوت الشفعاء إلي الله فإن أُس المعتقد الديني إنما الله وأهم بيت كان: أبكار السقـّاف(( بنت اليمن))-تلميذة العقاد المنسية- أهدي هذا الموضوع لكل بنات الخليج - إبراهيم - 05-23-2005 بيت الله!... من حول "بيت الله" التفت ثلاثمائة وستون قبيلة وهى تلاقٍ منها حوله تشابكت الفروع من عدنان، حِلة وحِمْسًا، ومن ثم انحسار العصر القريشي عن عقيدة دينية مشتركة تربط بين القبائل من عدنان محورها الله ومركزها مكة أو بيت الله.. عقيدة دينية فى الطوية العربية منذ العهد الجُرهميّ غُـرست فجعلت العرب فى العصر القريشي، رغم انعدام وحدتها السياسية، ذات وحدة عقيدية فلا تتنافر القبائل، تنافرها في أصول عقيدتها السياسية، فى أصول عقيدتها الدينية القائمة علي الاعتراف بألوهية "الله" ومن ثم انحسار التفكير الديني للعصر، بهذه العقيدة المشتركة، عن دين له شريعة تقوم على أصول والأصول منه تنقسم إلى: عقائد وأعمال.. أهم أصل من أصول الدين فى العصر القريشى أو هذه الدين الذى نعرفه بالصابئي كان: الاعتقاد بالله، وأما الأصول المهمة التى تمثل من هذا الدين الأركان فتنحصر فى: الاعتقاد بالملائكة ووحى السماء بالتنبؤ والجان والسحر، والإيمان بالبعث، والخلود، والثواب، والعقاب، الأخرويين. الأصول إنما الأصول من الدين الصابئي فى العصر القريشى.. فالعقيدة بألوهية الله كإله واحد إنما عقيدة لا يمسّها من الشك مساس ولا يخدش من قدسية صورتها وجود الوسطاء بل علي النقيض كان اتخاذ الوسطاء كما قد رأينا، إمعاناً فى إجلال هذه الصورة القدسية، فالدين الصبائي إذ يقر بألوهية الله كإله واحد لا شريك له فى ألوهته فليس إلا ليحفّ هذه الصورة القدسية بإطار من المنعة والصون حتم عليه الاقتراب منها عن طريق الوسطاء من الملائكة إلي جانب الأقدمين من الشفعاء، ومن هنا كان الاعتقاد بوجود الملائكة يمثل ركناً فى صرح الإيمان الصابئي، كما أن علي أسس هذا المعتقد قام الإيمان بالخبر الآتي من السماء وجاء الاعتقاد بأن من أفواه الملائكة يمكن أن يستطلع ما قد كتبه القلم الإلهي فى لوح القدر من أقدار!.. ومن هنا كان الإيمان بأن من السماء إلى الأرض، بواسطة هذه الأرواح العلوية، يأتى النبأ بما قد كُتب فى لوح السماء من أقدار الكون والكائنات، فللجبرية فى التفكير للعربى كانت الأرجحية علي عقيدة الاختيار... أما على من يتنزل الخبر ومن باستشفاف ما يجول فى ضمير الغيب من أحداث عنها ستنفض طيات الآتي يتنبأ، فليس إلا من عنه كانت قد رسخت فى العقلية العربية العقيدة بأن له وحده القدرة على الاتصال بالملأ الأعلى، وهذا إنما أمر كان مقصوراً علي أفراد طبقة السدانة أو الكهانة، فليس إلا السادن أو الكاهن من كان يقف موقف المستنبئ فالمتنبئ فالمنبئ ومن كانت قدرته علي الاتصال بالملأ الأعلي أو الملائكة من ساكني "العالم العلوي" تمكنة من الاتصال بالملأ الأدني أو "الجان" .. فعن "الجان" كان قد رسخ فى المخيلة العربية، مذ كان هذا العقل يحبو علي مدارج الحداثة، الاعتقاد بها كائنات نارية العنصر ومسكنها "العالم السفلي" ولها القدرة الخارقة علي قضاء الحوائج وعلي الائتمار بأمر هذا الكائن الذى يسخرها لإرادته فيما شاء ومن هنا كان الاعتقاد بالسحر!. بيد أن عن السحر، والسحر إنما نفث فى العقد ولا يأتى إلا بشر، يجب الابتعاد إن لم يكن مخافة العقاب فى هذا العالم فمخافة العقاب فى عالم آت موعده: "يوم البعث"!.. بالبعث أو "بيوم قيامة" تُجزى فيه النفس بما عملت عن خيراً فخير وإن شراً فشر، آمن العصر القريشي مؤمناً بأنه: "يوم الحساب"!.. ويوم الحساب؟ .. يوم الحساب إنما يوم فيه سينتشر لكل امرئ "كتاب" فيه قد سطرت كل ما قد أتاه الإنسان فى دنياه من أعمال، وعن هذه العقيدة يأتينا الدليل عبر بيان أحد الثلاثة المقدمين علي سائر الشعراء، الذبياني، وامرؤ القيس، وهذا الذى من ألقابه المعترف له بها فى الإسلام "شاعر الشعراء" فإن هذا المتأله المعتقد بأن الله عالم بالخفيات والسرائر وأن ما يصر عن الإنسان من عمل مدخر ليوم الحساب لنا يقول: فــلا تكـــتمن الله مـا فـى نفــوســـكم يـؤخـر فيـــوضـع فى كـتـاب فيدخـــــر *** *** ليخـــفـى مـهـمـا يكـــتم الله يعــــــــلم ليـــوم الحـسـاب أو يعـجــــل فينـــقــــم زهير ابن أبي سلمى يقينًا إن الله يجازى يوم الحساب: وعــلمـــت أن الله يجـــــازى عــبـــده *** يــــوم الحـسـاب بأحـســن الأعــمــــال علاف بن شهاب التميمى ويسترسل للعشر العربى بيان به نتبين مدى إيمان العصر القريشى "بيوم القيامة" واعتقاده بأنه: "يوم الحشر"!.. وعن "يوم الحشر" يأتينا من الشعر العربى التوكيد فمن أشعارهم، وقد كانت للعرب عادة أن تدفن مع الثاوى راحته حتى يركبها "يوم البعث" وإلا سار الرجل راجلاً نسمع: يا سعد أما أهلكن فإنني لا تتركــــن أبـــاك يعـــثر راجـــــــــلاً *** *** أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب فى الحشـــر يصـرع لليـــديـــن وينكـب جريبة بن الشيم الأسدى ويستفيض شعرهم فيسجل: أبنـى زودنــــــــــي إذا فـارقـتنـــــي للبعـــــــث أركـــبها إذا قيل اظعــــــنوا *** *** إلـــــــى القــبر راحــــلة برحـل فاتــــر مســــتوثقـــين معـــاً لحشــر الحاشــــر عمرو بن زيد التيمى وهكذا تأتينا الأدلة جلية بأن العقل القريشى قد آمن بأن هناك فيما بعد هذه الحياة الأرضية حياة أخروية فيها المثوبة وفيها العقاب ومكانها عالم طبيعته الخلود! ولكن!... إلي عيشة سعيدة فى عالم الخلد تعترض شروط هى لئن كان التمسك بالقيم الأخلاقية يأتي فى أساسها فإنما نتلخص فى الحرص علي الالتزام بأداء أعمال دينية هي، كالعقائد الأساسية الدينية، أساسية وهذا تشتمل علي: الحج والصلاة والصوم الحج إلي بيت الله، كعبة الدين الحنيف والصابئي، فريضة حولية فرضها التقليد وشرعتها، منذ العصر الجُرهمي، العادة وعلى أدائها حرص العربي، صابئيًا وحنيفيًا وحضرياً ومضرياً وحِلة وحِمْسًا، فمن كل فجٍّ من أرجاء شبه الجزيرة كانت تُقبل الأفواج يملأها اليقين بأنّها إنما تقبل إلي "بيت عتيق" إليه شوقًا كانت تصبو منها الجوانح وبلفحات حب "صاحبه" هي أبدًا تتلظي!.. من أعماق الصحاري وأطراف البوادي كان العربي فى غضون هذا العصر يقبل ساعياً يسعي بالبيت ويطوف به سبعاً تتركه العقيدة بأنه إنما قد أقبل للإله زائراً ومن ثم كان حرصه علي أداء أصول الزيادة.. ولما كانت أصول هذه الزيارة تنحصر فى اتباع ما قد شرعه السلف من شعائر تنحصر فى الإحرام والوقوف بعرفة والمزدلفة وهدي البدن وسائر المناسك حتي المناداة والتلبية فقد كان العربي يحرص علي القيام بأداء هذه الأحكام التى كان يختتمها بالتهليل وبالتلبية التى تحتم عليه، إذا كان صابئياً، أن ينادى: لبيك إن الحمد لك إلا شـــــــريــــــــــك هــــــــــــو لــك *** *** والملك لا شريك لك تمـــــــــلكــــــه ومــــــــــا مــــــلــك( ) فإذا ما أدي الحاج مناسك الحج، سواء أكان صابئيًا أم حنيفيًا فليس إلا ليتحول منه الوجه شطر وادى "مُناة". وليس إلا ليجمع جموعه وإلى هذا الوادى فى اليوم العاشر من الشهر يرتحل لينحر فيه الكباش ضحية لله وقرباناً ولنفسه فداء، اقتداء بأرومته من بسيرته كان يروح رأوياً: إن إبراهيم كاد أن يضحى للإله بإسماعيل لو لم ينزل الله كبشاً من السماء وكان فى ذبحه فداء "للذبيح"!. وبذلك قد شرع الله استبدال القربان البشري بالقربان من الكباش.. فليس إلا اقتداء بالسلف واتباعاً، كما كان يعتقد، لشريعة إبراهيم عرف العربي فى العصر القريشي طقوس القيام بالحج بما تشتمل عليه هذه الطقوس من تلبية وطواف وسعي ووقوف بعرفة ونحر للكباش فى اليوم العاشر( ) من شهر ذي الحجة لتبدأ بذلك للعرب أيام: العيد الأضحى! الحج إلى "بيت الله"، هذا البيت الذى جددت قريش بناءه ومحمد ابن خمس وعشرين سنة ورفعت بابه حتي لا تدخله إلا بسلّم، وذلك لتستطيع منع من تشاء من دخوله، فريضة حولية علي أدائها حرص العربي تمام الحرص يدفعه إلي القـيام بها، كلما استطاع سبيلاً، إيمان راسخ ترتد عنه شبهات الشك في أنه قد اتي الله زائرًا، ولما كان العربي من عاداته الاجتماعية قد عرف للزيارة معناها الكفيل الغض عما قد سلف من المساءات فليس بمستغرب أن نجد هذه العادات الاجتماعية قد أوجدت فيه شعورًا دينيا إليه لا يتسرب شك بأنه بزيارته الله قد منح منه، على كل ما قد سلف من ذنب، الغفران! بيد أن لئن كان للقيام بهذه الزيارة موعد ولأدائها كان يضرب ميعاد فإن للتأهب والاستعداد لها كانت هناك أشهر معلومات، المحرم ورجب وذو الحجة وذو القعدة( ) ومن ثم عرفت هذه الأشهر الأربعة بالأشهر الحرام وتبعاً لحرمتها ولدت فى المعتقد العربي عنها العقيدة بأن من الدين تعظيمها والإقلاع فى غضونها عن مستجد العداوات وموروث الخصومات والكف عن القتال، ومن ثم كان الحجيج يقبل فى غضون هذه الأشهر ومن حيث أقبل كان يروح عائداً يملأ جانبيه الأمن وتسكن الطمأنينة منه القلب، فطيلة هذه الأشهر الأربعة كان جناح السلام يرفرف علي أرجاء الصحراء!.. لا قتل ولا قتال ولا تعد، ولا عدوان.. كلا!.. كفت الحرب وفى صمت كف فى الأشهر الحرم صليل الحراب! أجل.. الحرص التام حرص العربي علي تعظيم هذه "الأشهر الحرام" التى نسأها "القلمس" بن حذيفة بن عبد فقيم المتحدر من كنانة( ).. وقط لم يجرؤ من العرب مجترئ علي الإخلال خلالها بقواعد السلام إلا مرة وصمها العصر القريشي "بحرب الفجار" أما بعد ذلك فقد سارت الأيام فى غضون الأشهر الحرم، كقبلها من الأيام، هادئة مستقرة خلالها كان الحجيج من أطراف بواديه يقبل ويطوف "بيت الله" سبعاً يهلل لله ويلبى ومتضرعاً إليه يناديه متشفعاً بمن إليه قد اتخذ من وسطاء ومن فى "بيته" لهم كان قد وضع تماثيل بل وليدفعه فيض من وقدة الشعور وحدة الإيمان إلي تحسس أستار الكعبة بها متبركان ليروح بعد طواف بتمثيل شفعائه، ناحية وذلك النصب الذى تجله قريش وله تقديس وفى اقتداء بها يهوي فى شغف لاثمًا "الحجر الأسود"!.. هذا هو الحج فى العصر القريشي فريضة فرضها التقليد وشرعتها العادة كما أن بجانب هذه الفريضة التى قد توارثها العرب عن السلف ومن مظاهرها القيام بسائر مناسك الحج وليضاف إلى هذه الشعائر شعيرة جديدة جاءت بعد "عام الفيل"، فإلي "المغمس" حيث يرقد أبو رغال دليل أبرهة الذى أقبل من صنعاء ليهدم البيت العتيق ثائراً للبيت الذى كان قد بناه فى صنعاء كان هناك ذلك المظهر الآخر من مظاهر الحب للمعبود والتعبير العاطفى المصور عاطفة الإجلال التى تأتينا منها الصورة فى العصر القريشى واضحة جلية. فقد عرف العصر: الصلاة.. فى الدين الصابئي صلاة، وصلوات الدين الصابئي خمس صلوات، خمس كانت تؤدى فى اليوم نهارًا وليلاً( ).. ثلاث منها كانت تؤدى فى غضون النهار واثنان ليلاًً ليرتفع فى اليوم الواحد، عبر الركوع والسجود، التسبيح بحمد الله بين طرفى النهار وظهراً وفى العشي والإبكار! لا ثمة شك فى أن الصابئ حينما كان يؤدى هذه الصلاة إنما كان يؤديها علامة علي إيمانه ودليلاً علي تقواه ومن هنا كان حرصه علي ما تفرضه عليه هذه الصلاة من شروط تنحصر فى التطهّر الجسديّ، فإنه إذا كان من شعائر الدين الصابئي حتماً ألاّ اقتراب من المسجد الحرام إلاّ بعد اغتسال من الجنابة فقد كان حتماً أيضاً الاغتسال قبل هذه الصلاة التى كان يؤدّيها العربيّ الصابئيّ مولياً وجهه شطر "بيت الله" فبيت الله إنما فى العصر القريشي قد غدا فى الصلاة إلي الله قبله!.. وأما إذا كان بعيداً فهو يتخذ منه الحجر الذى حمله معه من حجارة الكعبة، بديلاً، يعضه متمثلاً الكعبة فيه. أجل .. عن هذا المظهر من ألوان التعبير العاطفي لله تنحسر طيات التاريخ العربي فى غضون هذ1 العصر لتنحسر طيات هذا التاريخ نفسها عن مظهر آخر من مواجد الوجدان عرفه العصر، ألا وهو: التصوف.. لقد عرف العصر القريشي فى فجر تاريخه ألواناً من التصوّف كان الزهد من أول مظاهرها، فالزهد إنما أول درجة فى سلم التصوف ومن هنا كان حتمًا أن يجئ فى غضون هذا العصر الزهد وما يتبع الزهد من تنسّك والواقع إن التنسّك كان معروفاً فقد كان يُطلق علي صاحب هذه النزعة التنسكية نعت "الديان" فليس الديان إلا المتنسّك فى الدين( ) ومن ليس إلاّ بسبب تكاثر فئاته كانت هذه النزعة قد غمرت هذا العصر واغتمرته لتنمو وتتخذ مرحلة متقدّمة في تطوّرها بقوم كان يقال لهم "صوفة" انقطعوا إلي عبادة الله وقطنوا الكعبة، ومن هؤلاء بل بالحري كان رأس هؤلاء "الغوث بن مر" فلم يكن أولئك المعروفين "بصوفة" إلا أتباع الغوث.. بيد أن إذا كان العصر قد عرف هذا اللون من ألوان مجاهدة النفس معرفته لذلك اللون الآخر من ألوان التعبير العاطفي فإذا بجانب هذين المظهرين المصورين من تعابير العاطفة للعاطفة بعض مشاعر وشعور، يأتي ذلك المظهر الآخر العائد بمصدره إلى النفس ألا وهو: الصوم.. فى الدين الصبائي صومٌ لكنه صوم كتبته علي النفس النفس، فالصوم رياضة نفسية وجد ووجدت حينما وجد الزهد ومحاربة الشهوات والعربي غضون العصر القريشي لم يجهل الزهد ولم يتجاهل محرابة النفس، فالعصر إنما كان عصراً قد عمرت منه الأرجاء بالمتحنثين والموحدين والزهاد ممن تركت خطاهم الأثر بعد الأثر علي شعـب مكة ومهابط حِراء ومُعتلياتها.. بل إنَّ الصوم بمعناه الاصطلاحي من الامتناع عن أشياء محدّدة فى أوقات محدّدة كان فى الدين الصابئي عُـرفاً معـروفاً وشعـيرة يجب تأديتها مرات ثلاث فى العام الواحد كان أقلها يوماً واحداً وهو يوم عاشوراء وأما أبرها فشهراً كاملاً هو الذى كان العربي الصابئي، فى مستهل مجاهدته نفسه، يؤديه خلال "الرمضاء".. عندما يتأبت النهار وتهبُّ من شدق الرمال لوافح الرمض تلفح شدق الصحراء!. والرمضاء؟ .. الرمضاء إنما هى نفس الكلمة التى اشتقت منها كلمة رمضان، فإذا العـرب حينما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، وهى لغة العاربة، سمّوا الأشهر بحال الأزمنة التى وقعـت فيها عند التسمية، فإتفق أنه حينما أرادوا تغـيير اسم شهر "ناتق"، "وناتق" كما تنتشر عنه اللغة فى مادة "نتق" إنما كلمة تعـني الصوم وكان الحـر علي أشده والرمض فى أشدها فسموه رمضان.. من ثم، والعلة الحقيقية هى هذه "العلة" التى يجئ من نفس مصدر العقيدة الإسلامية عنها اليقين بأن علي المسلمين من كتب الصوم كما كتب على الذين من قبلهم، فإن العرب كانت فى العصر القرشى تصوم شهر رمضان! هذه هى الأصول فى الدين الصابئي عقائد وأعمالاً كما يتنفس عنها صدر التاريخ ويعلنها للعصر القريشى ديناً له قد توارث عن السلف الخلف فتوارث له شعائر وطقوس نسك تمثل منه القواعد والأركان وتربط بين الفروع المتفرعة من عدنان بوحدة عقيدية وتصمنها بتشاريع الكون: الشريعة فى الدين الصابئي.. حكومة منتظمة لم تكن العرب، من ثم فلا قانون مدوّن ولا سلطة تنفيذية تتناول التشريع فى مرافق الحياة سواء فى الأمور المدنية والجنائية والأحوال الشخصية، كلا، فلم يكن هنا إلاّ الخضوع للعُـرف وإلاّ مراعاة التقليد القبليّ الذى كان قد توارثه الأبناء عن الآباء كما استنه كل أب قبيلة لقبيلته، بيد أن مما قد ناولته إلينا الأجيال من مظاهر الحياة العقلية فى غضون العصر القريشى تحت اسم "المذهبّات" و "المفضليات" و"الحوليات" و"الاعتذاريات" ومما قد ناولنا إياه الزمن "كديوان الحماسة" لأبى تمام والبحترى ومن "الأغاني" للأصفهاني ومن "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ومما قد اختارته "مختارات الشجرى" ومما قد أوردته "جمهرة أشعار العرب" لأبى زيد القريشى تطالعنا جلية الشريعة فى الدين الصابئي فليس إلا مما قد ناولته لا الأجيال عن مظاهر الحياة العقلية فى غضون العصر القريشي وخلال تاريخ زمني لا يتجاوز القرن والنصف قرن قبل الإسلام، نتبين بوضوح أنّ للدين الصابئي كانت شريعة وإن تكن شريعة لم تصبغها صبغة التنزيل!.. فهي شريعة قد أوحتها علي العربي طبيعـته وعليه قد أملت موادها له جبلة صاغـت ما يضمه قاموس الأخلاق من مبادئ ومثل.. فالناحية الأخلاقية إنما تتجلي، فيما قد ناولته إلينا الأجيال من مظاهر هذه الحياة العقلية، متينة وقوية وقويمة مترعة مظاهر القيم الأخلاقية من مكارم الأخلاق كالعدل والإحسان والوفاء بالوعد ففى "الأمور الجنائية" استنت هذه الشريعة: الرجم لمقترف الفاحشة( ) قطع يد السارق( ).. وفى الأمور المدنية" شرعت هذه الشريعة: المساواة في الحقوق بين الأفراد والعدالة فى المعاملة وهذا تشريع يسجله "حلف الفضول" ففى هذا الحلف، الذى سيطلعنا بأسبابه بعد قليل، قد أخذت قريش علي نفسها ردّ كل مظلمة إلي أهلها لا فرق فى ذلك بين قريشي وغير قريشي!.. بلى وإلى ما قبل "حلف الفضول" يأتينا الدليل على تلك الناحية القوية التى كانت تمتاز بها قريش بسبب وجودها بجوار "بيت الله"، فإن العصر القريشي، الذي كان قد توارث عن العصور الأول احترام "بيت الله" والذى كان بجانبه قد سنّ استقاء "العسل المصفي" عادة وكسوته بأفخر الثياب وألا يقربه إلا المتطهرون وأن لا يقربونه دماً ولا ميتة ولا محائض، إنما بحرمة هذا "البيت" قد بني ناحية قوية من أخلاقه، فهذه سبيعة بنت الأجب، وكانت عند عـبد مناف، تقول لابنٍ لها تعظم عليه حرمة "البيت" وتنهاه عن البغي فى "بلدالله": أبني لا تظلم بمكة واحفظ محارمها بني أبني من يظلم بمكة أبــــــــــــني يضـــــــــــرب وجــهــــه *** *** *** *** الغير ولا الكبير ولا يغرّنّك الغرور يلق أطراف الشرور ويلـــــــــــج بجـــنبيـــــــــه الســعـيــر ابـــنـي قـــــــــد جـــربتهــــــــــــــا الله آمــــن طـــــــــيرهـــــــــــــــــا *** *** فــوجــــــدت ظـــــــــالمها يبــــــــور والعــــصم تــــــــــــــأمــن فى ثـــبير وأما فى "الأحوال الشخصية" فقد شرعت هذه الشريعة وحرمت ما قد شرعه الإسلام من بعد وما قد حرمه من القرابات فى الزواج فهي لم تحلل من أوان الارتباط الجنسي لونًا جعلته شرعيًا وبه اعترفت إلا ما قد حلله من بعد الإسلام واقره شرعيًا.. يقينًا! لقد تعفف العصر القريشى فى المناكح وعف ساداته عن الانغماس فى اختيار واحدة بعد واحدة أو الجمع بين الاثنين، فتاريخ العصر يطالعنا بأن السادة فيه قد اقتصروا علي واحدة فى نفس الوقت الذى يحدثنا فيه هذا التاريخ بأن هذا التعفف قد امتد مداه الذى به تراجع عن الأخت وبنت الأخت وبنت الأخ مما أقره، أيضاً من بعد الإسلام( ). كما أن هذه الشريعة قد شرعت الطلاق، فقد كان العرب يطلقون مرة واحدة ثم يرجعون فيطلقون الثانية فيرجعون أما الثالثة فلا رجعة فيها. وقد يجمعون بين الطلاقات الثلاثة مرة واحدة( ) وهذا إنما نفس ما قد أقره الإسلام من بعد.. وأما أقبح ما كانوا يعتبرون فهو أن يجمع الرجل بين أختين أو يخلف عيى امرأة أبيه أو امرأة ابنه أو ربيبة الذى يكون قد تبناه. فلقد بلغ من شدة استمساك قريش بالقيم الأخلاقية أن كان للمتبني كل اعتبارات الابن وحقوقه!. أما "الوأد" فقد نهت عنه قريش وحرمته، كما سيطالعنا ذلك بعد صفحات، وإن لم يكن شائعاً إلا فى قبيلتي أسد وتميم وعلى الأصح لم يكن إلا فى هاتين القبيلتين معروفاً وبالتحديد بين الدهماء فيهما من تلك الفئة التى كانت قد اشتدت بها رقة الحال.. مخافة سبة قد تصيب من عار قد يلحق لن تزيله إلا إراقة الدم( )!. وهكذا نرى أن العرب فى العصر القريشي كانت تحلل أشياء وتحرم أشياء هي نفسها التى أقرت من بعد ومن بعد حرمت ومن بعد حللت.. وإن وحيها فى هذا التحريم والتحليل لم يكن إلا مستمداً من الينبوع الداخلى وإلا عملاً بسنن ومقتضيات للقيم الأخلاقية، فمن شريعة العصر القريشي نرى أن القيم الأخلاقية كان الاعتبار الأول الذى اتخذ مظهره فى الطهارة بنوعيها: المادى والروحي. فأما "الطهارة المادية" فهي أنهم كانوا يداومون على طهارات الفطرة وهى "الكلمات العشرة" التى توارثها عنهم الإسلام وقررها من السنن المرعية كما توارث عنهم تعريفهم لها فقال قولهم بأنّها خمس فى الرأس خمس فى الجسد، أما التى فى الرأس فهي المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والفرق والسواك. وأما التى فى الجسد فالاغتسال من الجنابة وغسل الموتى والصلاة عليهم وهذه الشعيرة الأخيرة كانت من أوجب الشعائر، فقد كان من عادة العرب عند الدفن أن يقوم خطيب فيذكر محاسن الثاوى ويقول عند مواراته التراب "عليك رحمة الله". وأما أبرز مظهر من مظاهر هذه الطهارة الجسدية فقد كان: الختان. وأما "الطهارة الروحية" فقد كان من أهم مظاهرها التسامي إلي بلوغ السمت من قمم الأخلاق ومن هنا كان تمسكهم بمكارم الأخلاق كالتعاون والوفاء بالعهد والزكاة وصلة الأرحام والكرم وتحريم الكذب تحريمًا أدى إلى تحريم كل عامل يؤدى إلى التفريط فى هذه القيم. ولما كانت الخمر لا فحسب رأس هذه العوامل وإنما العامل الأول فى حل رابطة الأخلاق والوسيلة الأولى إلى التحلل من القيم الأخلاقية وإلى الانحلال فالانزلاق فى مزالق الهوى فقد حرم الكثير من ساداتهم على أنفسهم الخمر.. كلا!.. لم تتجنب الخمر طائفة من عقلاء العرب وإنما حرّمها علي نفسها وأوثقت هذا التحريم بالقسم بالله. وأول عربي حرّمها على نفسه في العصر القريشي كان ذاك الذى أعطي الله عهدًا ألاّ يشربها أبداً: فـوالله لا أحـســو بــذا الدهـــر خمرة *** ولا شــربــة تــذرى بــــذى اللب والفخر قس بن عاصم التميمي وصنو قس كان ذاك الذى ما زال الصوت منه يتحدّر على مقاطع الأيام رنينًا: وتـركـت شــرب الــراح وهي أثــــرة وعـفـفــت عـنه يـا أمــــيم تكـــرمًــــا *** *** والمــــمـســـات وتـــرك ذلـك أشـــــرف وكـذلــك يفعـــل ذو الحـجــى المـتعفـــف الأسلوم اليامى وصنو الأسلوم فـذاك الذى كان أول من قـرعـت له العصا: أقسمت بالله أسقيها وأشريها تــــورث القـــوم أضغانًا بـــلا إحسن *** *** حتى يفوق ترب القبر أوصالى مـــــزرية للفـــتى ذى النجـــدة العالى( ) عامر بن الظرب العدوانى وإلى جانب العدواني، هذا الذى كانت العرب تسند إليه الفصل فى أمورها، يجئ ذلك الآخر: رأيت الخمر صالحة وفيها فــــلا والله أشــــربهــــــا حــياتـــــي *** *** مناقب تفسد الرجل الكريما ولا أشـــفى بـــهـــا أبـــداً سـقـــيـــمًــــا صفوان بن أمية الكنانى وصنو صنوان كان شرحبيل المعروف بعفيف: فلا والله لا ألقى فوماً أبـــى لـــــى ذلــــك آبــــــاء كـــــرام *** *** أنازعهم شراباً ما حببت وأخــــــــوال بعــــــــــــــــزهم ربيـــت عفيف بن معدى الكندي وكعفيف، عف عن "أم الفواحش" هذا القائل: رأيت الخمر طيبة وفيها فــــلا والله أشــــــربهـــا حــياتــــــى *** *** خصال كلها دنس ذميم طـــــوال الـدهـــر ما طــلـــع النجـــــوم مقيس بن قيس السهمي وأما أبرز هذه الطائفة فإنما ذاك الذى ياتينا صوته عبر الأجيال عبيراً يقول: وإنى لأرجـــو أن أمــوت ولــــم أنـــل *** مــتاعــًا من الدنيا فجــورًا ولا خــــمــرًا حاتم الطائي من شفاه أكثر من واحد من سادة العصر القريشى يأتينا اليقين بأن ما من أحد من حكماء العصر إلا وترك الخمر استحياء مما فيها من الدنس( ) وفى هذا ما يدلنا لا فحسب علي مدي الرقي الذى كان طابع العصر القريشي وإنما يمدنا بما به نستطيع أن نحكم علي المجتمع القريشى قبيل الإسلام. فإن بين المجتمع والأخلاق علاقة وثيقة فبين المجتمع والأخلاق تجاوب وتفاعل وكلاهما مؤثر ومتأثر فى وقت واحد فكل منهما إنما مرآة تنعكس عليها صورة الآخر والأخلاق لا يمكن بحال أن تنشأ وتتكون وتنمو وتتطور إلا فى مجتمع، والمجتمع بدوره رهين فى سيرة وتقدمه واتجاهه وتحوله بأخلاق الأفراد التى تكيفه بكيفية خاصة وتوجهه وجهة معينة، ولهذا الارتباط الوثيق بينهما تبرز الحياة الاجتماعية القريشية واضحة المعالم جلية الصفات من خلال الشعر العربي الذى قد سجل الحياة الخلقية تسجيلاً رائعًا رسم طهارة المجتمع العربي وعفته وصورة كرمه ووفاءه وغير ذاك من حميد الأخلاق التى كادت أن تكون واقفاً علي هذا العصر.. كما أننا نلمس من ثنايا هذا الشعر شيوع الروح التقية واتقاد والعاطفة بوقدة الورع فعلينا يهب من مضامين هذا الشعر لهب العاطفة الدينية كميزة فيه واضحة!. ولاشك فى أنه إلي ما كانت تشتمل عليه مكة فى العصر القريشي من أماكن مقدسة وحرمات ظاهرة وإلي ما كان يؤدي فيها شعائر العبادة ومناسك الحج وإلي البيئة الدينية السائدة فيها يعود الأثر الأكبر فى إضرام هذه العاطفة وفى إنماء هذه القيم، بل إن من مظاهر ذيوع العاطفة الدينية أن نرى من هذا الشعر وضوح الإيمان بالفضائل والمثل العليا والدعوة إليها حتى المدى الذى أورث اتزاناً فى التفكير وسلامة فى المنطق وقوة فى الحجة وصحة فى النظر إلى الحياة، فهو فضلاً عن بلاغته وروعته، غنى بالمضامين الحية وبالروح الإيجابية والثورة على الخرافة والأوهام التى كانت، شأنها فى كل زمان ومكان، طابع العقل الجماعى.. ثم.. ثم إنه إذا كان من ثنايا هذا الشعر يطالعنا الروح الإيجابية وعلينا يطلع بالمضامين الحية فإن من ثناياه، أيضًا، نري مظهرًا آخر وهو الاتجاه إلي ثراء الروح فمن بطون التاريخ العربي للعصر القريشي تنحسر هذه الحقيقة وهي أن ثراء النفس كان لديهم المطلب والغاية، فالمال فى نظرهم غادٍ ورائح وليس من باقٍ علي الدهر إلا طيب الذكر وحسن الأحدوثة ومن هنا كان تحايلهم بالوسائل علي إنفاق المال فى سبيل رفاهية المجتمع بالترفيه عن المعوزين حتي المدي الذى تسجله لهم الكتب الإسلامية فتقول بأن من بواعث ذلك لدى أثريائهم كان إقبالهم علي الميسر فى زمن الجدب لينحروا الجزر للمحتاجين والجائعين، وأما الوفاء فهو السجية الأصلية فى العرب عامة وفى القريشي خاصة والكلمة عهد مبرم واجب الوفاء وخاصة إذا كان هذا العهد قد أوثق بالقسم بالله!.. وهكذا.. من ثنايا الشعر العربى لهذا العصر تأتينا هذه الأدلة على مواد الشريعة التى شرعها لنفسه بنفسه الدين الصبائي، فهذا الشعر إنما يهدينا إلي أن نلقي نظرة علي الروح التقية التى كان عليها المجتمع العربي فنتبينه، فى ضوء اليقين، مجتمعاً قد صح منه الجسم وسلمت منه الأطراف وليس علي ذلك أدل مما قد تقدم من أدلة تقف فى مقدمتها سنة الوفاء بالعهد حتي المدي الذي اعتبرت فيه قريش أن الغدر ثلم للشرف وهذا إنما أمر بسببه كانت قريش ترفع فى سوق عكاظ لواء التشهير الغادر الناكث العهد، فالعهد واجب الوفاء حتب ولو طرأ ما يوجب النقض! هذه هي الشريعة التى يطالعنا بها الدين فى العصر القريشي وهذه هي القيم الأخلاقية فى هذا العصر كما أملتها علي العربي الفطرة العربية بوحي من طبيعة له طبيعتها الإباء وبدافع من جبلة له صيغت من الأنفة والحمية والشرف والكبرياء، فالدين الصابئي لا يستند فى مبادئ شريعته إلي مصدر قدسي أو بالأحري إلي وحي هابط أو كلم منزل ولا يقول إن تشاريعه قد دلفت إليه من السماء. كلا. فتشاريعه لم يجئ بها نبيّ أو رسول إلهيّ كان سجل صدقة كتابًا مقدسًا كشرائع الديانات الأخرى التى كانت منتشرة عهد ذاك والتى كانت فى غضون هذا العصر تنساب إلى مكة وفيها تتوغل عبر تياراتها التى استرسلت فى امتداد من البقاع الخاضعة سياسيًا للإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية الشرقية وتتدفق صاخبة من مصدرين أحدهما تلك الإمارة التى قامت على حدود بادية الشام وتلك الإمارة الأخرى التى قامت على ضفاف بحيرة النجف حيث تمر فروع من نهر الفرات... إمارتان الحيرة وغسان اللتين بهما يطالعنا: أثر إمارتيّ الحيرة وغسّان في التفكير الدينيّ المكّيّ مما لا ثمة شك فيه أن العرب لم تكن، بسبب مركز مكة الجغرافى الذى جعل منها منذ سحر التاريخ طريقاً مطروقاً للتجارة ومهبطاً للتعامل الاقتصادي، في أي عهد مضي قط عن العالم عن عزله، ولكن .. بهاتين الإمارتين العربيتين، اللتين أنشأهما الفرس والرومان في الأراضي القريبة من حدود إمبراطوريتهما واستعاضوا بهما عـن جنودهم بجنود أقيالٍ من العرب لحد السطو القبلي ولردّ غارات السلب والنهب التي كانت بعض القبائل البدوية تشنها علي قوافلهم التجارية باسم الغـزو صيغـت حلقة جديدة ربطت بين قلب الصحراء بسبب هذا الاتصال السياسي والتجاري بالحضارات المجاورة المتاخمة، تتصل فكرياً بفارس وبيزنطة أو الروم الشرقية، ويمسها من خضابيهما، ففى تقليد راح العقل العربي، وهو فى أعماق هذا القلب من صحرائه، يقلد ما قد اصطبغ به عبر هاتين الإمارتين عن طريق الحاكمي ممن كانوا معهم قد ارتبطوا بمعاهدات وليولد فيه هذه التقليد ذلك التوثب السياسي الذى ستطالعنا به الأيام وهي تسير من قُصيّ إلي محمّد غداة هدف أن تكون للعرب وحدة سياسية تسلخ الوحدة القبلية ويقوم بها للعرب ملك.. كملك كسرى وكملك قيصر!... فى أفق المخيلة العربية يطالعنا هذا الأثر الذى احتل من تفكيرها السياسي الأرجاء عن طريق تخضيب هذه المخيلة بالتفكير الديني المناسب إلي القلب من الصحراء من هاتين الإمارتين.. وعلي صفحات التاريخ السياسي نراه جلياً ونحن نستعرض أثر إمارتي الحيرة وغسان فى التفكير الديني للعصر القريشى.... ففى الحيرة من هذه الإمارة التى تعود بتاريخها إلي القرن الثالث الميلادى وتعود بنشأتها إلي أردشير بن بابك مؤسس الطبقة الرابعة من ملوك الفرس المعروفين بآل ساسان أو الأكاسرة من علي أيديهم انتقلت الحضارة الفارسية إلي بلاد العرب عن طريق المناذرة من اللخميين الخمسة والعشرين الذين تعاقبوا علي إمارة الحيرة وكانوا واسطة فى نشر العلوم والمعارف فى شبه الجزيرة، يطالعنا الأثر الفارسي فى تخضيب التفكير العربي عامة والمكي خاصة، فإن أسواق الحيرة كانت للتجارة العربية مقصدًا وقصور أقبالها كانت للشعراء منهم منزلاً ومدرستها، مدرسة "جنديسابور" التى شيدها سانور بن أردشير التابع للدين الزرشتى( )، كانت للعلم كعبة ترسل إليها الطبقة الثرية من قريش أبناءها، وليس هذا فحسب وإنما كان الظلال الفارسي علي العرب الحيريين أنفسهم قد انبسط وصبغهم بصبغة التحضّر الفارسي فحيثما المتجه من الحيرة كان، كانت الروح الفارسية ترفرف وترفّ غامرة القصور والأسواق باتباع الـ "زند" من مانوية يُعرف أصحابها بالمجوس ومن زردشية يُعرف القصور أتباعها، نسبة إلى الكتاب المقدس "الزند" بالزنادقة، كما أن إلى جانب أتباع لزردشت وأتباع لمانى كان ينتشر ليسوع أتباع من مسيحية نساطرة.. وكل هذه العناصر غير المؤتلفة من مسيحية وزنادقة ومجوس تؤلف بمجاميعها تيارات دينية تموج بها أرض الحيرة وتنساب عبر القوافل الرائحة والغادية، إلى القلب من الصحراء وفى مكة تستقر ليدوى فيها الهدير من هذه التيارات هادراً بأن كل، من زنديقى ومجوسى ومسيحى، إنما أتباع نبي رسول وحملة كتاب مقدس!... وفى غسان وكالحيرة كانت غسّان ففى هذه المنقطة من بادية الشام، حيث إليها كان قد هاجرت قبيلة أزد من اليمن علي إثر انكسار سد مأرب وذهب بطن منهم إلي الشمال عرف بأزد غسان فولي الرومان منهم أمراء علي عرب الشام ألمعهم علي التاريخ كان الحارث ابن جبلة أول أمراء بنى جفنة الذى رفعه جستانيان إلي مرتبة ملك وبسط سلطته علي كل القبائل العربية فى بلاد الشام فتولي ملك الغساسنة من سنة 528م إلي 569م، يطالعنا الأثر الرومانى فى تخضيب التفكير العربي قاطبة. فإن غسان كانت للعرب من مكة مقصداً ومنزلاً فإليها كانت العرب تجارتها وبشعرها تشد إلي قصورها وأسواقها الترحال فتشد ترحالها إلى حيث كان يترامي الظل الروماني الشرقي وإلي حيث كانت تتفيأ فئ ذلك الدين الذى انبثق فى أرجاء العصر الهلليني الروماني ونما علي أرض الإمبراطورية الرومانية حاملاً اسم المسيحية وحلّ فى غسان بمن كان قد حلّ فيها من اليعاقبة.. وهكذا... بالمناذرة من اللخميين فى الحيرة الذين استعان بهم الفرس علي الرومان وعلي العرب معاً وبالغساسنة فى الشام الذين استعان بهم الرومان علي الفرس والعرب معاً نفث الزمن روح التحضّر فى أعماق الصحراء!... ولكن !... لئن كان فى أعماق الصحراء قد نفث الزمن روح التحضر فليس إلا لينفث عبر هذه الروح فكرًا دينية عن رسل وأنبياء وكتب مقدسة وليس إلا ليلفح الوعي العربي بلهب الافتقاد إلي رسول ونبي وكتاب مقدس وليس إلا ليذكّي ضريم هذا اللهب ويرسل له هصيصًا بمن كان يأتى علي هاتين الإمارتين ومن عنهما كان عائدًا يروح إلي مكة ليحفحف هذا اللهب ويندلع من الشفاة فى صورة القصص عن الأنبياء والرسل والكتب المنزلة. ومن هنا تحوّلت مكة فى العصر القريشي إلي مصبّ ديني لتيارات دينية شتي فهي بعد أن كانت طريقاً للتجارة حركة دفعها إليها، بالإضافة إلي هدف سياسي عنه سينحسر التاريخ بعد صفحات، ميلها للسلام فهي، وللسلام محبة وجل أفرادها من دعاة التعايش السلمي لا يقاتلون إلا إذا اضطروا للقتال، اشتغلت بالتجارة وما كان اشتغال القريشيين بالتجارة إلا تعففاً عن السلب والنهب، فقد كان بعض القريشيين، كما تذكر ذلك صدور الكتب الإسلامية، إذا أجدبوا ولم يجدوا ما يحفظ رمقهم ينتحون مكاناً قصياً مؤثرين الموت علي حياة يصمها عار السرقة والنهب باسم الغـزو!.. بهذا الدافع، دافع مشكلة المحافظة علي الكيان السياسي والاقتصادي الذي اتخذت قريش الوسيلة لحله عن الطريق السلمي الذى يعتمد علي المعاهدات السياسية والتجارية التى تؤمن الشريان الحيوي لتجارتها عبر الصحراء فى اتجاهها إلي أعماق الجنوب حتي اليمن وإلي أقاصى الشمال حتي الشام، عملت في الوعي العربي العوامل الدينية الشتي فى إنماء فكرة نبي ورسول. فلقد تزعمت قريش حركة التجارية زعامة بلغ من اهتمامها بها أن عقد أبناء عبد مناف الأربعة مع جيرانهم معاهدات أمن وسلامة، فمع الإمبراطورية الرومانية ومع إمارة غسان عقد هاشم معاهدة مودة وحسن جوار وحصل فمن الإمبراطور الرومانى الإذن لقريش بأن تجوب الشام فى طمأنينة وأمن، ومع النجاشى عقد عبد شمس معاهدة تجارية ومع فارس ومع حمير فى اليمن عقد نوفل والمطلب معاهدات تجارية. . وبهذه المعاهدات التى نظمت قريش شأن تجارتها وأمنت بها علي قوافلها بقيامها بها مرتين من كل عام إلي اليمن شتاء وإلى الشام صيفًا تكون فى مكة مجتمع كاد أن يكون سويًا! لا يحس فيه أحد بألم العوز وذلّ الحاجة ومذلة الإدقاع. فالأغنياء والقادرون علي العمل والكسب الذين كانوا يعملون فى التجارة طوال العام فى رحلة الصيف والشتاء إنما قد انتعشت بهم الحياة الاقتصادية وارتفعت نسبة الدخل القومي ارتفاعًا تضاءلت به نسبة الفقراء، فإذا بقي بعد ذلك فقير أو عاجز عن العمل كان له فى الزكاة حظ من أموال الأثرياء، فقد شرعت قريش الزكاة كي تخلط فقيرها بغنيها فإذا الكل سواء!. وبذلك حلت قريش مشكلة لا تزال أكثر الحكومات الحديثة تشكو منها ويستبين عجزها من حلها.. فقد حلت قريش هذه المشكلة، مشكلة العوز والفقر وحققت العدالة الاجتماعية فى المجتمع المكي بأسلوب مهما قيل فى بساطته فإنه قد كفل القضاء علي الإدقاع إذا ألزمت الأغنياء بكفالة الفقراء وفرضت علي الغني أن يقسم ربحه بينه وبين الفقير وبذلك رفعت من ذوى الحاجة غائلة الخصاصة وأصبح من يمتلك المال زمن لا يمتلكه فى ميزان الحياة علي السواء، فقد غدا هذا التكافل الاجتماعي أمراً مرعـياً وسنة من سنن المجتمع المكي حتي مجيء الإسلام( ). ولكن.. لئن كانت رحلة الصيف والشتاء وسيلة إلي غاية سياسية ولئن كانت بهذه الوسيلة قد انتعشت الحالة الاقتصادية وبلغ من عناية قريش بالتجارة ما قد رأينا من اقتسام بني عبد مناف الأربعة الاتجاه إلي مختلف البلاد واشتراعهم هذه السنة التي أمست بها مكة قبلة أنظار العرب جميعاً فإنما لهاتين الرحلتين، رحلة الشتاء والصيف، كان التاثير المعنوي والأدبي والديني الذى ترك طابعه فى العقلية العربية، ففي الصحبة القرشية، وللقرشيين حيثما حلوا حرمة ولهم لا يتعرض أحد إذ هم لا فحسب السادة وإنما هم من تنعتهم العرب كافة "أهل الله"، كانت القوافل العربية فى حمي "أهل الله" تسير وتقفل على بلادها قافلة بما تحمل فى ذاكرتها صورة البون البين بين حضرها وتلك الحواضر وبين بساطتها وذلك السؤدد والسلطان لأمم تعود بأسباب سؤددها وسلطانها إلى وحدة سياسية تقوم على أسس وحدة دينية مادتها: "نبي رسول" و "كتاب مقدس"!... يقينًا ليس إلا علي أسس وحدة دينية مادتها نبي رسول وكتاب مقدس تقوم الوحدة السياسية التي للفرس والتي للرومان وهذه حقيقة لا يحملها العائدون إلي مكة إلاّ وعليها يصادق المقيمون فيها من الرومان والفرس، فمكة فى العصر القريشي إنما مترعة بالفرس وبالرومان بما قام بهم فيها من المبيعات التجارية التى أنشأتها فيها هاتان الإمبراطوريتان ليزداد بهذه المبيعات التجارية هدير التيارات الفكرية والعقائد الدينية والمعتقدات المذهبية فى مسمع مكة مُغـتمرة العقلية العربية بألوان شتّي من المعتقدات والعقائد والفكر. من الأجزاء الخاضعة سياسيًا للفرس، حيث كانت الزردشتية تخيم دينًا رسميًا، كان يمتد إلي بطون شبه الجزيرة عامّة وإلي مكّة خاصّة التيّار الزردشتيّ متوغـّلاً بدينٍ المحور منه "نبيّ رسول" عـنه رسخت في المُعـتقد الفارسيّ العـقيدة بأنّه جاء آخر الزمان وأنّ عليه تنزّل وحي السماء بواسطة "الروح" أو كبير الملائكة الذي أسري به إلى السماء ليعود إلى الأرض بشيرًا بالدين الحقّ.. وهادرًا امتدّ هذا التيار لينصب من جوانب من القلب القريشي حيث استقر فيها هذا الدين الذي عرف، نسبة إلى الكتاب المقدّس، "بالزنادقة" وعرف أصحابه بالزنادقة، ومن هنا علّق بالوعيّ الزمنيّ أنّ في قُريش قد انتشرت "الزندقة" لتسطر يد الزمن أنّ قريشًا قد تزندقـت!.. أجل .. إلي "الزندقة"، والزندقة كما نرى ليست كلمة مرادفة للمعنى من كلمة إلحاد وإنما هى فى حقيقتها دين قام علي الاعتراف بالتوحيد ويعتبره أتباعه منزلاً، هفت من القلب القريشى جوانب وإليها شد من هذا القلب الوثاق بتلك الطائفة التى كانت قد تعلمت فى مدرسة "جنديسبور" كالحارث بن كلدة وابنه النضر بن الحارث من أطباء العرب وممن بهم كانت قد راحت الأبحاث تدور فى الأفق العقلي بأبحاث تقترب من الرحاب الفلسفة لاتصالها بما وراء الطبيعة وقدم العالم وحدوثه وأمر الخلود والبعث ليتراجع منها اليقين عن الإقرار بالبعث الجسدي مؤمنًا بأنّ العظام لن تحيا من جديد بعد أن تمسي رميمًا... ومن ثم فبينما استقرت الزندقة فى جانب من الجوانب القريشية فإنما عن قبول عقيدتها القائلة ببعث جسدي فى "يوم قيامة" ينصب فيه "الميزان" ويحاسب فيه المرء علي ما قد أتي فى دنياه من أعمال ليسير بعد ذلك علي "الصراط" الذى يمتد فوق هاوية الجحيم إلي "الفردوس"، تراجعت ناحية من الطبقة المفكرة ووقفت بطبها حائرة تتساءل حيري عن ماهيّة النفس فى نفس الوقت الذى جاء فيه رفضها قبول عقيدة البعث الجسدي مؤيدًا لمذهب كان حتمًا أن يتكون بتلك الناحية الأخري من العقلية العـربية التى كان قد خضبها التيار المجوسي الذي قد امتد من الأجزاء الخاضعة أيضًا للفرس ليستقر فى بطون شبه الجزيرة عامة وفى "تميم" خاصة يحمل دينًا محوره، أيضًا، نبي رسول وعنه قد صاحب المعتقد المجوسي الإيمان بأنه: "بُشري عيسى"( )!.. أجل.. ليس إلاَّ كأثر لهذا التيار الدينيّ القائم علي نظام "الإمامة" والهادر بألوهة "الواحد" فى غـير اعتراف ببقاء الدهر تولد فى أرجاء من التفكير العربى: المذهب الدهري.. بديهيًا أنّه لا فرق بين الطبيعـيّين والدهريّين إلاّ أنّه من الثابت أن أصحاب المذهب الدهري من العرب أو الدهريّين فرقـتان مختلفتان وإنْ كان علي كليهما يُطلق نعت: "المعطلة" ولكن لا يهمنا من هاتين الفرقتين إلا تلك التى رفضت رفضاً باتاً عقيدة البعث الجسدي ومن ثم فإذا كانت فرقة من هاتين قد قالت بأن الخالق قد خلق الأفلاك متحركة ولم يقدر علي ضبطها وإمساك حركتها فدارت عليه وأحرقته فإنما هناك تلك الفرقة الأخري التى قالت بقدم العالم وعدم حدوثه واستدلت علي ذلك بأن الأشياء إنما تخرج من القوة إلي الفعل فإذا خرج ما كان بالقوة إلي الفعل تكونت الأشياء، مركباتها وبسائطها، من ذاتها لا من شىء آخر.. والعالم لم يزل ولا يزال ولم يتغير ولا يتغير ولم يضمحل ولا يضمحل ولا يجوز أن يكون المبدع يفعل فعلاً يبطل ويضمحل إلا ويبطل هو نفسه ويضمحل مع فعله وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التى فيه، ومن ثم فالجامع هو الطبع والمهلك هو الدهر وما هي ألا الدنيا نموت ونحيا فيها وما يهلكنا إلا الدهر.. بثالث فحول الطبقة الأولي من شعراء العصر القريشى تتجلى واضحة هذه النزعة التى تركت تأثيرها فى ناحية من التفكير الديني للعصر، فمن هذا الآتي من مزينة من قبائل مضر يتحدر إلينا الصوت مرجعًا فى مسمعنا هدير الدهر هادرًا: ألا ليت شعــري هـل يرى الناس ما أرى بـــدا لـــى أن النــاس تفــني نفـوســــهم *** *** مـن الأمـــر أو يبــد لـهـم ما بــدى ليا وأمــــوالهم ولا أدرى الـدهـــــر فـــانيًـا زهير بن أبي سلمى ومتلقيًا فى يومه بين أمسه وغـده يسترسل: رأيت المـــنايـــا خـبـط عـواء من تصب *** نطــوف بـذلـــك البيت والخـبر حـاضـر وهابطًا فى الأرض أثرًا، يسترسل: وإني فتى أهبط فى الأرض تلعة أرانــــى إذا أمسـيـت أمسـيـت ذا هــوى *** *** أجد أثرًا قبلى جديدًا وعافيًا ثــم إذا أصبحــت أصبحـت غـــاديـــــــًا ولكن .. هذه النزعة لا تلتمع علي تربة التاريخ الديني لهذا العصر إلا كسراب ترَهْرَه! فنحن لا نقترب منه إلا ونراه قد تلاشي في لا شيء وليس علي ذلك من دليل أدلّ من أن نري هذا الآتي من مزينة يعود عـن الميل إلي المذهب الدهري فلا يلحق "بالمعطلة" وإنما يلحق "بالمحصلة"، وهى تلك الطبقة التى أقرت بوجود الله كموجد للوجود بما فيه من موجودات فيقول: بدا لى أن الله حق فزادى بدا لى أنى لست مدرك ما مضى ومـــا أن أرى نفــسى تقــيها مــــنيـــتي *** *** *** إلى الحق تقوى الله ما كان باديا ولا سابق شيئاً إذا كان جائياً ومـــا أن تفـــى نفــس كــرائم مـاليًـــا!.. كالرياح الرامسات التى تغطي آثار الديار هبت "المحصلة" فغيبت "المعطلة" حتي لم يبقَ من الأثر المجوسي إلا القول "بالواحد" وإلا القول ببقاء الدهر بيد أن ليتكشف لنا علي الباهت من صفحات التاريخ العربي القديم الأثر الذى تركته المجوسية إلي جانب الأثر الذى تركته الزردشتيّة أو الزندقة عبر تيارها الذى انساب إلي مكة من الحيرة ولنري أن في مجري هذا التيار قد أقبلت أيضًا من الحيرة المسيحية وراحت في توغـل تتغلغل إلي القلب من الصحراء العربي ليزيدها في هذا القلب تغلغلاً وتوغلاً تيارها الآخر المقبل من الأجزاء الخاضعة سياسيًا للروم، أو بالأحري غسان.. فمن غسان، حيث المسيحية كانت قد أمست الدين الرسمي، انسابت المسيحية إلي مكة انسيابها من الحيرة ودخولها إلى الجنوب من شبه الجزيرة عن طريق الحبشة دخلت الشمال عن طريق سوريا وشبه جزيرة سيناء وضفاف الفرات ولكن!.. ليتلاقى علي هذه الناحية من الأرض فى اصطدام منها التيار بمتنافر العقائد المذهبية.. فإنه إذا كانت من غسان قد أقبلت المسيحية فى صورتها اليعقوبية وتحت هذه الصورة المنتشرة بها في غسان وسائر بلاد الشام انتشرت في قبائل تغلب وقضاعة ونجران فإنها من الحيرة كانت قد أقبلت فى صورتها النسطورية.. وكلتا الفرقتين إنما تتنافران تنافرًا جوهريًا من حول عقيدتهما الدينية فاليعقوبية تقول بألوهة يسوع وإن مريم أم الإله بينما النسطورية تستنكر استنكارًا قاطعًا إلاّ الاعتراف بالوحدانيّة المطلقة لله حتي المدى الذى تكفر فيه القول بتأليه يسوع وتأليه مريم فليس يسوع لدى النساطرة إلا "كلمة الله" ألقاها "الروح القدس" إلي مريم، وليست مريم لدي هذا المذهب إلا عذراء بتول وقع عليها الاصطفاء الإلهي من بين نساء العالمين،ولكن!. ولئن تنافرت اليعقوبية والنسطورية من حول معتقدهما المذهبي فإنما قد اتحدتا علي التهادن من حول محور واحد كلاهما بوجوده يعترف ، فإنهما من حول الاعتراف بألوهية الله كواحد لا يتنافران وليس إلا حاملة هذا الاعتراف قد أقبلت النسطورية وأقبلت اليعقوبية مع القسس والرهبان الذين كانوا يردون أسواق العرب يعظون، ومن ألمع هؤلاء على التاريخ ذكراً كان: عد بن زيد، وحكيم العرب وحكمها قس بن ساعدة أول من اعتلي "الصفا" وعلا الصوت منه فى أرجاء مكة سجعاً ونثرًا يجلجل: هــــــــو الله الـواحــد المـــعـــــــــبــود *** ليـس بــوالـــــــــد ولا مــــولـــــوده! ... بل ويسترسل هذا الصوت يلقى كلما له فى المسمع نغمة ولنغمته فى الفكر رنة يقول: "هو الله إله واحد، ليس بولد ولا والد، أعاد وأبدي، وإليه المآب غـدا"!. كالريح الريّا عندما تهب علي عين ريّة هـبّت المسيحية علي شبه الجزيرة العربية فأنعشتها!. وهذه إنما حقيقة علينا تطلع ويأتينا عـ أبكار السقـّاف(( بنت اليمن))-تلميذة العقاد المنسية- أهدي هذا الموضوع لكل بنات الخليج - Arab Horizon - 05-23-2005 موضوع رائع ياعزيزي إبراهيم عن قلم نسائي تاه في طي النسيان.. أتمنى أن نقراء المزيد عن إسهاماتها الثقافيه.. تحياتي لك..(f) |