العائد من البرزخ - نسخة قابلة للطباعة

العـــــائد مـــن الــــبـــــرزخ

عندما يموت أحد ما في مدينتنا تكتب امرأته نعيه في الصحف وتقول إنه انتقل إلى جوار الله، ثم تدخل "الرباط" وتنعزل عن العالم مبدية منتهى اليأس،فيما يحمله أصدقاؤه فوق أكتافهم و يخترقون به ما يخترقون من طرقات ومسالك إلى المقبرة، ويتقدم خفير المقبرة ليحجز له رقما مسلسلا ويرسله إلى الجنة علي ظهور النمل.. الطريق إلي الجنة يخترق مسالك علي ظهور المخلوقات.
………….
تفوح روائح الطرقات، وينضح الكثير من النفاق، فيما يسد الميت أنفه تحت الكفن تقززا لكي لا تصله رائحة الأحياء.ويقرأ الفقهاء في المقدمة أن لا إله إلا الله. الطريق إلي الجنة سيء الرائحة. لكن الميت كرامته دفنه في حفرة أحد الثعالب، وقد فعلت ذلك مدننا مليون عام كامل منذ أن صار الغراب خفيرا في المقبرة، في اليوم الأول يصل النمل، في اليوم الثاني يصل باقي الرواد، وتعد مائدة العشاء علي الفور وتترنح أعواد الصبار ويسعل الخفير عند المدخل، فيما تشق إحدى الخنافس طريقها إلي عين الميت المغلقة وتجرها عبر القبر إلى صغارها المنتظرين في عتمة الركن، في اللحظة التالية يفتح الميت عينه الأخرى ويستعد للذاهب إلي الجنة ،ثم يصل أول ثعبان، ويراه خفير المقبرة ينزلق بتهور دائرا حول القبر ثم ينظر إلى جلده الأخضر يلمع في ضوء النجوم وراء الشاهد مباشرة، ويدق قلب الخفير بخشوع، وتدمع عيناه في حضرة الثعبان المغمور بالبركة ويغرق في التأملات. فيما يشق المبارك طريقه عبر الجمجمة لينعم وحده بأكل المخ ، ومرة أخري يفتح الميت عينه الباقية،ويحس بثقل ذلك الوحش داخل رأسه ثم يستمع إلي صوت أسنانه التي يسلطها في مخه مثل المنشار، ويتذكر على الفور أن الميت كرامته دفنه. ويشبع الثعبان ثم يبحث عن مكان للنوم في جوار الله، تشرق الشمس،ويتبادل الخفراء نوبة الحراسة، يوقدون نارا صغيرة وراء باب المدخل لإعداد إفطارهم، وتنهض الأحياء في مدينتنا ويحضرون ميتا آخر.
…………

ويشبع الثعبان...وتتلاعب الأبراص فوق ضلوع الموتى والخفراء، وتترنح أعواد الصبار عندما تنهض أول دودة من جوف التراب عبر عملية خلق معجزة، فالدود لا يفقس من البيض ولا يحتاج إلى أم تلده ولا قابلة، إن مدننا تصنعه من لا شيء وتطعمه أمعاء سكانها بالمجان، ثم يتضاعف عدد الدود بعد الإفطار، وتزحف ملايين الأفواه الضئيلة الخالية من الأسنان لكي تلعق نصيبها في صبر لا نهاية له، فهي لا تملك شيئا تقطع به اللحم سوى ألسنتها اللزجة التي تسلطها في أي مكان و تظل تحكها فوقه حتى تحيله إلي سائل أخضر اللون تمتصه على الفور شهورا طويلة بلا ملل.
ويفتح الميت عينه الباقية، ويرى الدود يأكل لسانه،ويحس بلمساته اللزجة في حلقه مباشرة، ويتمنى لو يستطيع أن يتقياء، ولكن الموتى لا يستطيعون شيئا، ويشبع الثعبان منشرحا، فالأحياء يطعمون موتاهم للدود بالمجان، ويزينون قبورهم بنباتات الصبار المتعفنة، ويرثونهم في مقهى المصلحة خلال الإفطار، و مدننا تنهض شامخة في الأفق وتربى سكانها لكي تطعمهم للثعبان.
………….

فلو عاد أحد الموتى..واحد فقط يا مدننا و حدثنا عما رأى في جوار الله لسقطت أحجار مدننا من الرعب واحترقت قلوبنا من هول ما قال و استرسل واصفا ليالي المطر الطويلة التي قضاها طافيا تحت سقف القبر متهرئا في قبضة الوحل، لو عاد أحد الموتى يا مدننا لهدمك بأظافره حجرا بعد حجر فأنت أسوأ الأمهات علي الإطلاق، أنت لا تعرفين عن جلال الموت سوى ما قاله الغراب والفقهاء المتضورون جوعا تحت قبب الأولياء والجهل، قول يصيب الموتى والأحياء علي السواء، ويصيب المدن أيضا،فقد كبر العالم و تخلي الناس عن الخيام وبنوا العمارات من الإسمنت لينعموا بالحماية و الدفء أما الموتى فما زالوا حيث كان قابيل، فالأحياء أكثر أنانية من أن ينفقوا نقودهم في كرامة ميت أو جثة خرساء، بل يسلمونها للخفير الذي تدمع عيناه مهابة عندما يرى ثعبانا أخضر اللون ويغرق في التأملات منطلقا ألفي عام إلى الوراء ، حيث عبد الوثنيون الثعابين الخضراء باعتبارها آله الحكمة والسأم. السأم يا مدننا ومشاعر العار المقززة التي تعتري المرء عندما يتذكر موتاك، و مهندسك الغراب.
................
فدائما : لا تستشيطوا غضبا،وتجنحون لأقصر طرقكم ، منحنى التكفير الهزيل، فأنا لا أدعوكم لتحنيط موتاكم، لكن كرامة الميت دفنه، وليس إطعامه للزواحف، فالقبر مكان جليل مليء بالأسرار ولا يشرف الأحياء أن يملئوه وحلا ما داموا يملكون فرص أفضل.
تحياتي