![]() |
كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5) +--- المنتدى: قــــــرأت لـك (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=79) +--- الموضوع: كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير (/showthread.php?tid=31515) الصفحات:
1
2
|
كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير - روزا لوكسمبرج - 02-16-2005 بناءاً على طلب الزملاء, أنقل لكم موضوعات كتاب "طريق اللاشتراكيين للتغيير" الذي تمت مصادرته مؤخراً من معرض الكتاب. تحياتي للجميع.. (f) [CENTER]تحولات الاقتصاد المصري: ملاحظات أولية وحدة الدراسات[/CENTER] إن الإصلاحات الاقتصادية التي تجري اليوم في مصر سيكون لها تأثيرات مصيرية على مجرى الصراع الطبقي، ولذلك فإن فهم طبيعة هذه الإصلاحات وأسبابها ونتائجها هي شروط أساسية لفهم التطورات في الصراع الطبقي الجارية والآتية. سنحاول في هذا المقال تتبع التحولات الاقتصادية منذ نظام رأسمالية الدولة والذي أنشئ في الخمسينات والستينات مرورا بأزمة ذلك النظام منذ منتصف الستينات والدخول في سياسية الانفتاح وتفاقم الأزمة في الثمانينات. وكل ذلك فقط كمقدمات ضرورية لفهم الإصلاحات الاقتصادية في التسعينات. لن يقدم هذا المقال تحليلا تفصيليا لطبيعة وتطور نظام رأسمالية الدولة في مصر، فهذا موضوع يحتاج إلى تناول مستقل في عدد من المقالات القادمة، ولكن المقال الحالي سيحاول شرح الإصلاحات الحالية من خلال فهم أزمات النظام القديم وفهم التحولات الجارية ونتائجها الاقتصادية والسياسية. ولكن قبل أن نبدأ في ذلك علينا الدخول بشكل مختصر في بعض المسائل المنهجية المتعلقة بفهم وتحليل الاقتصاد المصري وتحولاته. يعتبر الكثيرون أن التحولات الجارية الآن في الاقتصاد المصري تمثل انتصارا لليمين الذي يتبنى سياسة الأسواق الحرة والاندماج في الاقتصاد العالمي على اليسار الذي يتبنى سياسة سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج والتنمية الوطنية المستقلة. وهذا الانتصار يعتبر انتصارا على المستوى العالمي وليس فقط المستوى المحلي، فكل الدول التي كانت حتى الستينات والسبعينات تتبنى التنمية الوطنية المستقلة بقيادة الدولة أصبحت اليوم تتبنى سياسات التحرير الاقتصادي والخصخصة. وكان الأساس النظري الذي يستند عليه اليسار هو أطروحة مدرسة التبعية. وتطرح مدرسة التبعية أن الارتباط بالسوق العالمي يزيد من تخلف البلدان النامية فهناك عملية نهب تتم بين المراكز الرأسمالية المتقدمة الصناعية وبين الأطراف المتخلفة. أما الدول النامية فتتنافس على إنتاج السلع الزراعية والمواد الخام، وهذا يجعل التبادل بين المراكز المتقدمة والأطراف المتخلفة تبادلا غير متكافئ، فالمراكز تقوم ببيع سلعها للدول النامية بأسعار باهظة، في حين تضطر الدول النامية (الأطراف) إلى بيع سلعها بأسعار منخفضة مما يؤدي إلى تحول الفائض الاقتصادي من الأطراف إلى المراكز، وبالتالي حرمان الدول النامية من استثمار الفائض في التنمية الصناعية. ويطرح منظرو هذه المدرسة أنه طالما ظلت العلاقة الغير متكافئة بين المراكز والأطراف لن تستطيع الدول النامية الخروج من تخلفها والشروع في برنامج تنموي صناعي، والحل بالنسبة لهؤلاء هو فك الارتباط مع السوق العالمي من خلال سياسة إحلال الواردات، بمعنى أن يصبح الاقتصاد المحلي صورة مصغرة من الاقتصاد العالمي يتم فيه إنتاج كامل احتياجات الاقتصاد من السلع الاستهلاكية إلى السلع الإنتاجية ومستلزمات وأدوات الإنتاج، (من الإبرة إلى الصاروخ). والتنمية الوطنية المستقلة التي دعا لها منظرو التبعية تستلزم سيطرة الدولة على الاقتصاد، فتطوير الصناعة والزراعة يستدعي استثمارات ضخمة ويستدعي أيضا تخطيطا مركزيا يتم على أساسه التحويل الواعي للاقتصاد في اتجاه التنمية المستقلة. وقد واجهت نظرية التبعية ومعها اليسار التقليدي تحديين أساسيين منذ السبعينات، الأول هو أن البلدان المتبعة لنموذج سيطرة الدولة على التنمية الاقتصادية بدأت تدخل في أزمات حادة منذ السبعينات، ففي آسيا واجه الاقتصاد الصيني المسيطر عليه تماما من قبل الدولة أزمة ركود حادة اضطرت النظام للبحث عن بدائل. وفي الهند أيضا، حيث الخطط الخمسية والتخطيط المركزي، دخل اقتصادها في تدهور سريع استلزم البحث عن سياسات اقتصادية جديدة، وفي أمريكا اللاتينية، موطن استراتيجية إحلال الواردات، أدى الركود الاقتصادي إلى تقلبات وأزمات حادة اقتصادية وسياسية، وفي أفريقيا لم تعد أنظمة رأسمالية الدولة قادرة على إخراج بلدانها من دائرة التخلف والفقر، وفي أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق فقدت الأنظمة دينامية النمو التي كانت موجودة في الخمسينات والستينات ودخلت اقتصاديات هذه الدول أيضا في حالة ركود دائم. أي أن كل نماذج سيطرة الدولة على الاقتصاد وسياسات إحلال الواردات تهاوت واحدة تلو الأخرى. أما التحدي الثاني الذي واجهته مدرسة التبعية هو أن عددا من البلدان التي كانت تتبنى نموذج السوق بدأت تشهد نموا اقتصاديا غير مسبوق. ففي آسيا شهدت كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج وسنغافورة نموا اقتصاديا سريعا تعدى ما شهده الاتحاد السوفيتي في مجده. وفي أمريكا اللاتينية، وتحت سيطرة جنرالات يمينيين كانوا قد وصلوا إلى السلطة في البرازيل مثلا في 1964، شهد ذلك الاقتصاد، وهو الأكبر في القارة الجنوبية، توسعا صناعيا كبيرا. وفي القارة الأوروبية شهدت بلدان مثل أسبانيا واليونان والبرتغال، وكلها تحت سيطرة يمين يطبق سياسات السوق، نموا سريعا سمح بدخولها السوق الأوروبية المشتركة. وسرعان ما أصبح حزب المؤتمر الهندي واللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني والبيرونيون في الأرجنتين وكل الحكومات المتبنية لسياسات التنمية المستقلة و "الاشتراكية"، سرعان ما أصبحوا أشد المدافعين عن نموذج اقتصاد السوق والاندماج في الاقتصاد العالمي. وأصبح الجميع يتبنى نظريات الليبرالية الجديدة والتي تطرح أن تدخل الدولة في الاقتصاد هو أساس الأزمات الاقتصادية والركود، وأن تحرير الاقتصاد وتراجع الدولة والاعتماد على آليات السوق الحر هو الطريق الوحيد لتحقيق التنمية والرخاء، وكان منظرو هذه المدرسة يشيرون إلى منطقة جنوب شرق آسيا كنموذج لتبني سياسات السوق على أنها الطريق الوحيد للتنمية. لكن تصورات الليبرالية الجديدة حول التنمية لم تكن أقرب إلى الواقع من تصورات ناقديها من مدرسة التبعية. فنماذج جنوب شرق آسيا اعتمدت على تدخل مركز للدولة في عملية التنمية، حيث لعبت الدولة في كل من كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة الدور الأكبر في توجيه الاقتصاد. وقد استمر هذا التدخل والتوجيه حتى بعد أن تحولت من سياسية إحلال الواردات إلى سياسة تشجيع التصدير والانفتاح على السوق العالمي. فقد كانت الدولة هي التي توجه الصناعة المحلية وتساعدها على دخول الأسواق العالمية حتى إن كان ذلك في شراكة مع الشركات متعددة الجنسية. وهذا ما حدث في البرازيل في السبعينات وفي كوريا الجنوبية وتايوان في السبعينات والثمانينات. ففي كوريا الجنوبية، وفي ظل ديكتاتورية عسكرية، أصرت الدولة على أن يكون الحد الأقصى لمشاركة رأس المال الأجنبي 50% من أي شركة، ونفذت الدولة برنامجا للتصنيع الثقيل رغم معارضة المستثمرين الأجانب والمحليين . ومنذ بداية الستينات كانت الدولة في كوريا الجنوبية تخطط التنمية الاقتصادية بشكل دقيق ومركزي. فقد استخدمت القطاع المالي لتحويل الائتمان نحو القطاعات التصديرية المختارة، وكونت الشركات العملاقة (الشيبول) تحت سيطرتها الكاملة، وخلقت قطاع عام كبير، وتبنت سياسة المشاركة بين القطاع العام والخاص. إن تطورات الاقتصاد العالمي والمحلي لا تتماشى مع رؤية اليسار التقليدي (المهزوم) ولا مع رؤية اليمين الليبرالي (المنتصر)، فالاقتصاد العالمي بالفعل يتحول من هيمنة رأسمالية الدولة الوطنية إلى هيمنة السوق الحر والاندماج، ولكن هذا التحول تلعب فيه الدولة القومية دورا أساسيا، وهو تحول لا يؤدي كما يصور اليمين إلى الرخاء والرفاهية، ولكنه تحول مأزوم وذو طبيعة مركبة وغير متكافئة. بالفعل نرى طفرات من النمو الاقتصادي والتصنيع، ولكن هذه الطفرات لها طبيعة مؤقتة وسرعان ما تتحول إلى أزمات عنيفة. والنمو الذي يحدث يكون نموا في قطاعات محددة ومناطق معينة ترتبط بالسوق العالمي وتتوسع، في حين يغمر الفقر والتخلف مناطق وقطاعات أخرى. أ. النظام القديم: نشأة وتطور رأسمالية الدولة فى مصر كان واضحا تماما بالنسبة للنظام الناصري منذ اللحظة الأولى أن الدولة ستلعب دورا رئيسيا في الاقتصاد، وخاصة في تنمية البنية التحتية وتمويل المشاريع الكبرى التي لن يستطيع القطاع الخاص القيام بها، ولكن النظام في بداياته كان شديد التشجيع للقطاع الخاص وكان يرى أيضا دورا هاما للاستثمارات الأجنبية. وكان واضحا أيضا أن عملية التصنيع يجب أن تأخذ الصدارة في أولويات النظام، وأن النموذج الذي يجب أن يتبع هو نموذج إحلال الواردات للسلع الاستهلاكية والدخول في الصناعات الثقيلة وتصنيع وسائل الإنتاج. وكان واضحا أيضا أن الزراعة هي أهم مصدر اقتصادي في مصر، وأن الاستغلال الأمثل لهذا المصدر يستلزم إصلاحا زراعيا وتدخلا مباشرا للدولة لاستخدام الفائض المستخرج من القطاع الزراعي لخدمة مشروع التصنيع. فلم تكن هذه الأولويات والمفاهيم نتيجة لتوجه أيديولوجي أو اجتماعي محدد لدى الضباط الأحرار ولكنها كانت قد أصبحت منذ الأربعينات بديهية لأي نظام في البلدان حديثة التحرر. فقد كانت الطريق الوحيد لحل أزمة التراكم الرأسمالي ودفعه للأمام. ولم تكن هذه المفاهيم جديدة في مصر، فقد كانت سياسة إحلال الواردات متبعة منذ الثلاثينات، ففي تقرير بنك مصر في 1929، طرح مشروع خطة عشرية للتنمية الصناعية من خلال إحلال الواردات والمشاركة في هذا المشروع بين القطاع العام والخاص في تنفيذ الخطة وإنشاء بنك عام للتنمية الصناعية ، ومع النصف الثاني من الأربعينات كانت سياسة التصنيع محل الواردات قد أصبحت جزءا أساسيا من السياسة الاقتصادية. وقد وصل معدل نمو القطاع الصناعي في الفترة بين 1946 و 1951 إلى أكثر من 10% سنويا، وفي عام 1949 أنشأت الدولة البنك الصناعي لتقديم الائتمان لقطاع الصناعة . إذن فالتوجه نحو دور أكبر للدولة ونحو سياسة إحلال الواردات لم يكن جديدا، فضرورات التراكم الرأسمالي كانت تدفع الاقتصاد المصري في ذلك الاتجاه. ومن المهم أيضا ملاحظة أن نظام الضباط الأحرار لم يكن في البداية معاديا لرأس المال الأجنبي، بل كان في بداياته أكثر تشجيعا لرأس المال الأجنبي من حكومات الأربعينات. ففي 1953 مثلا صدر قانون جديد للتعدين والمناجم يراجع القانون السابق لعام 1947 ويسمح لرأس المال الأجنبي للدخول في التنقيب عن البترول، وفي عام 1954 صدر قانون 26 لتسهيل شروط الاستثمار الأجنبي، وسمح القانون بحرية خروج الأرباح إلى الخارج وسمح بأن يكون نصيب رأس المال الأجنبي من رأس مال الشركات 51% بدلا من 49% المسموح بها في القانون السابق (1947) . وكان النظام شديد الحماس في بدايته لمشاركة القطاع الخاص، فأصدر قانون 430 لسنة 1953، وقانون 25 لسنة 1954، الذين مدا من الإجازة الضريبية إلى 7 سنوات للمشاريع الصناعية الجديدة، و 5 سنوات للمشاريع القائمة التي تحقق توسعا في رأس المال . ولكن ضعف القطاع الخاص من جانب، وامتناع الاستثمارات الأجنبية من التدفق إلى مصر من جانب آخر دفعا النظام الجديد كغيره من أنظمة دول العالم الثالث حديثة الاستقلال ودول أوروبا الشرقية نحو دور متنام للدولة كمستثمر رئيسي، ونحو محاولة التنمية الصناعية السريعة، من خلال سياسة إحلال الواردات وحماية السوق المحلي من منتجات السوق العالمي. لقد كانت الفترة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف الستينات فترة رأسمالية الدولة على المستوى العالمي، حيث كان التنافس الأساسي هو التنافس بين كتل قومية من رأس المال، وحيث كانت أسوار الحماية الجمركية تعني أن السبيل الوحيد نحو التراكم الرأسمالي هو من خلال محاولة الاستقلال عن السوق العالمي والتحرك عبر مراحل متتالية نحو خلق اقتصاد رأسمالي صناعي متكامل وكانت أول مشكلة تواجه نظام عبد الناصر هي مشكلة التمويل، وكان المصدر المنطقي الذي توجه له النظام الجديد هو الريف. 1. حدود وطبيعة الإصلاح الزراعي كانت الدولة في حاجة شديدة لاستخراج فائض كبير من الزراعة حتى تستطيع تمويل مشاريعها الصناعية . وكان ذلك يستلزم إصلاحا زراعيا يتم من خلاله مصادرة أطيان كبار الملاك وإعادة توزيعها على الفلاحين وخلق علاقة جديدة بين الدولة والفلاحين، تسمح بزيادة وتطوير الإنتاج الزراعي من جانب، ونهب الفائض لصالح ميزانية الدولة من الجانب الآخر. قبل إصدار قانون الإصلاح الزراعي كان هناك ألف مالك، يملكون 19.7% من المساحة الكلية، أي حوالي 1.177.000 فدان، ومن الناحية الأخرى نجد أن ما يزيد عن مليوني شخص كانوا يملكون فيما بينهم 778 ألف فدان أو 13% من المساحة الكلية. وفي عام 1950 أظهر التعداد الزراعي وجود 1.003.000 وحدة زراعية و 2.707.000 حيازة، وكان حوالي 31% من المساحة المملوكة مؤجرة مقابل إيجار محدد يدفع نقدا أو عينا أو بموجب نظام المشاركة . ولقد تمت عملية إعادة توزيع الأرض على ثلاث مراحل، الأولى في 1952، وتم بموجبها وضع الحد الأقصى للملكية عند 200 فدان، ثم الثانية في 1961 أصبح الحد الأقصى 100 فدان للفرد، ثم 50 فدان عام 1969. وبحلول عام 1971 كان قد تم توزيع 822 ألف فدان وبلغ عدد المنتفعين من الإصلاح الزراعي 342 ألف عائلة بمتوسط مقداره 2.39 فدان لكل عائلة. وقد تم أيضا توزيع 184 ألف فدان من الأملاك العامة والأراضي البور المطلة على النيل في الفترة بين 1960 و 1967 . ويبدو للوهلة الأولى عندما ننظر لهذه الأرقام أن الإصلاح الزراعي كان ناجحا في إعادة توزيع الأرض على الفلاحين، ولكن بعض التدقيق يوضح سريعا حدود الإصلاح الزراعي في مصر، وأن المستفيد الأساسي من هذا الإصلاح لم يكن الفلاحين الفقراء، ولكن البرجوازية الريفية والدولة. فقد ظل عدد الملكيات المتوسطة المساحة ثابتا تقريبا بين 1952 و 1965، ولكن إجمالي مساحتها ارتفع على نحو طفيف إذ كان هناك 148 ألف مالك في حوزتهم 1.818.000 فدان في 1952، بينما بلغ عدد الملاك 148 ألف في حوزتهم 1.956.000 فدان في 1965 . إن سمة هيكل الأراضي هذه ترجع إلى عام 1920 ولم تتأثر بالإصلاح الزراعي. ولم يحتفظ ملاك المساحات المتوسطة من الأراضي الزراعية فقط بنصيبهم من الأرض، بل اكتسبوا نفوذا اجتماعيا وسياسيا في مناطق ومجالات كان يسيطر عليها من قبل كبار ملاك الأراضي. وفي حين اختفت تماما المزارع الشاسعة الاتساع، والتي كانت تمثل 19.7% من الأراضي عام 1952، لم تتأثر سلبا المزارع المتوسطة (تضاءلت نسبتها فقط من 14% إلى 12.6% بين عامي 1952 و 1969). وقد نجا من الإصلاح ذلك الهيكل الثنائي للنظام الزراعي، حيث توجد من ناحية المزارع الرأسمالية الكبيرة نسبيا (20 إلى 50 فدان) بينما توجد المزارع العائلية الصغيرة من ناحية أخرى. غير أن الأحجام النسبية لملكيات الأراضي لكل من المجموعتين قد تغيرت . لم يكن الإصلاح الزراعي يستهدف إشباع التعطش لملكية الأراضي من جانب الفلاحين الفقراء والمعدمين. فلو كان قد تم نزع ملكية جميع الأراضي المزروعة ووزعت من جديد على الـ 2.1 مليون عائلة فلاحيه في عام 1952، لحصلت كل عائلة على فدانين . إن حقيقة الإصلاح الزراعي لم تتعدى كونه سلسلة من الإصلاحات أثرت فقط على 16% من الأراضي الزراعية وتم توزيع 13% من هذه الأراضي على حوالي 10% من العائلات الفلاحية . ولعل الجانب الأهم من الإصلاح الزراعي لم يكن في عملية توزيع الأرض المحدودة، ولكن في تدخل الدولة وسيطرتها الكاملة على عملية الإنتاج الزراعي. لقد احتكرت الدولة كل مستلزمات الإنتاج الزراعي من بذور وسماد وميكنة، كما احتكرت عملية تسويق المحاصيل بشكل كامل. وقد تم إنشاء الجمعيات التعاونية كأداة لسيطرة الدولة على الزراعة، وكان دورها يتلخص في تنظيم الإنتاج ومراقبته، وتسويق المحاصيل. وأصبحت عضوية التعاونيات إجبارية للمنتفعين ومستأجري أراضي الإصلاح الزراعي، وتدار بواسطة مجلس إدارة يخضع لتوجيه مسئول تعينه الهيئة، ويعمل عدد من الموظفين يتمتعون بسلطات كبيرة. كما تم إنشاء هيكل هرمي تجمعت في ظله الجمعيات التعاونية، وخضعت هذه الاتحادات الزراعية بدورها للجمعية التعاونية العامة، وكانت السلطة والرقابة النهائية في يد وزارة الإصلاح الزراعي في القاهرة. احتكرت الجمعيات التعاونية تقديم القروض والأسمدة والبذور والمشورة الفنية، وكانت أداة لإجبار الفلاحين على توحيد المحاصيل وإتباع الدورة الزراعية الثلاثية. وبحلول عام 1962، وكانت الجمعيات التعاونية هي المسئولة عن توجيه جميع القروض في الريف، وقد ارتفعت قيمة المدخلات الإجمالية التي تقدمها الجمعيات التعاونية بصورة كبيرة خلال الستينات، وتمتعت الحكومة باحتكار تقديم الأسمدة والبذور والمبيدات الحشرية. وكان الجمعيات هي الأداة الوسيطة التي تمد الفلاحين بهذه المستلزمات. أصبحت الجمعيات التعاونية وسيلة نهب الفائض الزراعي من قبل الدولة. ويعتبر التسويق الإجباري للمحاصيل الرئيسية التي تشتريها الحكومة بأسعار منخفضة نسبيا، وبيع المدخلات بأسعار مرتفعة وسيلة فعالة لفرض ضرائب شديدة وإجبارية على الفلاحين. ومثال على هذا هو بيع الأسمدة بسعر 25 جنيه للطن في أوائل الستينات حينما كان سعر استيراده ما بين 15 إلى 16 جنيها للطن، وبالمثل كان القطن يتم شراؤه من الفلاحين عام 1970 بسعر 14.5 جنيه للقنطار ثم يتم تصديره بعد ذلك بسعر 20.5 جنيه للقنطار. كان الفرق بين أثمان شراء المحاصيل في الداخل وأثمان بيعها في الخارج من جانب الدولة يساوي 60 مليون جنيه مصري في عام 1960، وهو ما يشكل 20% من الميزانية العامة للدولة، وقد وصلت التحويلات الصناعية من الزراعة 5.5 مليار جنيه في عام 1975، وهو ما يشكل 30% من الميزانية لذلك العام . 2. أزمة رأسمالية الدولة كان الهدف من نهب الفلاحين هو تحويل الفائض الزراعي نحو التراكم الرأسمالي في الصناعة، ومع نهاية الخمسينات كان قد أصبح واضحا أن القطاع الخاص والرأسمالية الأجنبية لن يلعبا أي دور فعال في عملية التراكم، وكان الإصلاح الزراعي قد قضى على قطاع من البرجوازية الكبيرة، وأدى تأميم القناة وتأميم البنوك والشركات الأجنبية إلى هروب ما تبقى من رأس المال الخاص خارج البلاد. وفي يوليو 1961 قامت الدولة بسلسلة تأميمات واسعة بإصدار قوانين 117 و 118 و 119 والتي تم من خلالها تحويل الجزء الأكبر من الاقتصاد غير الزراعي إلى القطاع العام. أدى قانون 117 إلى تأميم البنوك الخاصة وشركات التأمين و50 شركة ملاحية والصناعات الثقيلة والأساسية، وأدى قانون 118 إلى إجبار 83 شركة لبيع 50% من أسهمها للقطاع العام، وأدى قانون 119 إلى مصادرة الأسهم الرئيسية و 147 شركة متوسطة الحجم . ووضعت الخطة الخمسية الأولى في عام 1960/1961 كخطة تصنيع تستهدف الدولة من خلالها تركيز كل الاستثمارات على عملية التصنيع وعلى بناء السد العالي لزيادة الإنتاج الزراعي وكمصدر أساسي للطاقة الصناعية. كانت الاستثمارات المطروحة في الخطة في 1961 تبلغ حوالي 5 مليارات، 1.6 مليار منها من خلال القروض الخارجية أساسا من الاتحاد السوفيتي، و 496 مليون دولار للمشاريع الصناعية ، و325 مليون دولار للسد العالي، و 300 مليون دولار قروض من الولايات المتحدة تحت مشروع الغذاء للسلام، و840 مليون جنيه قروض من بلدان أخرى . هذا إلى جانب رأس المال المؤمم الذي توفر للدولة وحصيلة نهب الفلاحين. كانت الصناعة تمثل بين 25 و 28% من إجمالي الاستثمارات في الخطة الخمسية، وزاد نصيب الصناعة من إجمالي الناتج المحلي من حوالي 16% عام 1956 إلى 24% عام 1964 . وكانت فلسفة الخطة هي التصنيع السريع وإحلال الواردات للبدء في خلق أرضية متكاملة للتنمية المستقلة وتحويل مصر من دولة زراعية إلى دولة صناعية. وهي خطة اعتمدت على تجارب الاتحاد السوفييتي والصين والهند ودول أمريكا اللاتينية في خلق اقتصاد مستقل وسوق محلية متسعة تستوعب الإنتاج الصناعي وقطاع زراعي يتم زيادة إنتاجه واستخراج الفائض منه لخدمة أهداف الصناعة. ولكن واقع تنفيذ الخطة كان بعيدا كل البعد عن الأهداف المرجوة، وبدلا من أن تكون الخطة الأولى في طريق سلسلة من الخطط الخمسية تحقق نموا اقتصاديا يخرج البلاد من تخلفها، سرعان ما انهارت التجربة وتأزمت وتحولت إلى أحد أشد التجارب فشلا في بناء رأسمالية الدولة. فقد كان المخطط أن تنخفض قيمة الواردات خلال سنوات الخطة من 229 مليون جنيه إلى 215 مليون جنيه (بأسعار 1964)، ولكن ما حدث في الواقع أن قيمة الواردات زادت لتصل إلى 413 مليون جنيه عام 1965، ووصل العجز في الميزان التجاري إلى 166 مليون جنيه، وزادت نسبة قيمة الواردات من إجمالي الناتج المحلي من 15% في بداية الخطة إلى 20% في نهايتها . وأدى التضاؤل المستمر في إجمالي المدخرات المحلية كمصدر للتمويل إلى عجز في الاستثمارات وصل إلى 417 مليون جنيه في 1962 ، وكان الحل الوحيد لسد هذا العجز هو المزيد من القروض الأجنبية. وظهرت أول أزمة في ميزان المدفوعات في 1962، ثم أزمة أعنف في 1965. ساعد على تفاقم الأزمة خلال الخطة الخمسية كارثة محصول القطن في 1962 والتي أدت إلى انخفاض حاد في إيرادات العملة الأجنبية من 121 مليون جنيه في 60-1961 إلى 75 مليون جنيه في 61-1962. واضطرت الحكومة أيضا إلى دفع 25 مليون جنيه تعويضات لبريطانيا عن الممتلكات المؤممة و27,5 مليون جنيه تعويضات لمالكي أسهم شركة قناة السويس. وقد زاد أيضا نصيب ميزانية الدفاع من إجمالي الناتج المحلي بين 1963 و 1965 من 8% إلى 12% ووصل إلى 575 مليون جنيه في عام 1965 . وقد وصل العجز في الميزان التجاري إلى 174 مليون جنيه عام 1963، ومن أجل تمويل هذا العجز انخفضت أرصدة العملة الأجنبية لدى الحكومة من 109 مليون جنيه في بداية الخطة إلى 7 مليون جنيه فقط في عام 1962. وفي مايو 1962 توصلت الحكومة إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي واستلمت قرضا بلغ 20 مليون جنيه واضطرت لخفض قيمة الجنيه من 35.2 قرش للدولار إلى 43.5 قرش للدولار . في 1964 ازدادت الأزمة عمقا حيث بدأت الحكومة في تمويل عجز الميزانية بالسحب على المكشوف. وفي 1965 ومع توقف الولايات المتحدة عن توريد القمح لمصر انخفضت كميات القمح المستوردة مما خلق تضخما عاما في السلع الغذائية وصل إلى 11.5%. كانت قيمة الواردات من القمح في 65-1966 تعادل 55 مليون جنيه، في حين كانت القيمة الكلية لصادرات مصر إلى الغرب تعادل 52 مليون جنيه. وفي صيف 1966 تمت مفاوضات جديدة بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي وتم الاتفاق على برنامج يتضمن تخفيض قيمة الجنيه بنسبة 40% وتخفيض حاد في الاستثمارات وزيادة في الأسعار والضرائب. ولم تنفذ الحكومة إلا التخفيض في حجم الاستثمارات وإتباع سياسة تقشفية فانخفضت ميزانية الاستثمار من 383 مليون جنيه عام 1966 إلى 365 مليون جنيه عام 1967، وتم تخفيض الواردات من 465 مليون جنيه في 1966 إلى 344 مليون جنيه في 1967، وكان النمو الاقتصادي قد توقف تماما . كان من البديهي أن الذي سيدفع ثمن هذه الأزمة الحادة هو الطبقة العاملة المصرية وفقراء الفلاحين. وقد ألقى جمال عبد الناصر خطابا في مارس 1967 أمام رؤساء الهيئات في القطاع العام قال فيه: "إن الإدارة علم لا تتغير قواعده بين الاشتراكية والرأسمالية. الفرق الوحيد بين النظامين هو في ملكية وسائل الإنتاج، ولابد أن ترتبط الأجور بالإنتاجية، فالاشتراكية لا تعني تساوي الأجور ولكن تساوي فرص العمل. ودور الاتحاد الاشتراكي في شركات القطاع العام يقتصر على المساندة في تنفيذ الخطة وتهدئة العلاقات بين العمال والإدارة." وإذا ترجمنا هذا الخطاب إلى اللغة الماركسية فنجده يقول أن حل الأزمة سيأتي من خلال تكثيف استغلال العمال، وعلى الاتحاد الاشتراكي استيعاب الغضب الذي سينتج عن هذا التكثيف! ولم يكن موقف الاتحاد السوفيتي "صديق الشعوب" مختلفا عن موقف أي دائن رأسمالي، فكانت نصائح الحكومة السوفيتية وشروطها لمد قروض جديدة لا تختلف عن نصائح صندوق النقد الدولي من ضرورة سياسات تقشفية. وفي مايو 1966 رفض الاتحاد السوفيتي تأجيل دفع الحكومة المصرية لأقساط ديونها للاتحاد السوفيتي، وكانت الحجة أن مثل هذا التأجيل سيعطي إشارات خطيرة للدول الأخرى المدينة للسوفيت. إن الطابع المأزوم للاقتصاد المصري خلال الستينات لم يعني أن الاقتصاد لم ينمو. ففي سنوات الخطة كان النمو في إجمالي الناتج المحلي يزيد عن 6%، وأضيف أكثر من 500 ألف عامل صناعي للطبقة العاملة المصرية. ولكن هذا النمو قد تم تمويله أساسا من خلال القروض وظلت الموارد التي اعتمدت عليها الدولة أقل حجما من المشاريع التي كانت تريد تنفيذها. إن تجارب رأسمالية الدولة التي نجحت اعتمدت على مصدرين أساسيين لتمويل عملية التصنيع. ففي كوريا الجنوبية، اعتمدت التجربة على نمو سريع في التصدير للسوق العالمي، وفي البرازيل اعتمدت التجربة على خلق سوق محلي كبير ومضاعفة المدخرات المحلية. ولكن في مصر ظل التصدير محدودا للغاية، في حين لم تستطع الدولة خلق سوق محلي، وكانت النتيجة هي الاعتماد على القروض واستنزاف الريف، وظلت هذه المصادر شديدة المحدودية وغير كافية لتمويل مشاريع التصنيع. إن الفشل في التصدير والفشل في مضاعفة المدخرات المحلية أديا إلى انهيار تجربة رأسمالية الدولة في الستينات. وقد جاءت حرب 1967 لتعطي التجربة الضربة القاضية. ولم يستطع النظام البدء في خطة خمسية ثانية، وظل حتى بداية السبعينات غير قادر إلا على البقاء من شهر لشهر، ومحاولة إعادة جدولة الديون وإعادة بناء الجيش بعد كارثة 1967. ولعل أكبر دليل على أن الفقراء من عمال وفلاحين هم الذين دفعوا ثمن فشل النظام هو إحصائيات استهلاك القمح. ففي 1966 كان استهلاك الفرد من القمح 115 كيلو جرام سنويا، وفي 1970 كان هذا الاستهلاك قد انخفض إلى 72 كيلو جرام سنويا!. 3. السبعينات والثمانينات وتفاقم أزمة رأسمالية الدولة يتصور الكثيرون أن ما حدث في السبعينات كان تفكيكا لنظام رأسمالية الدولة، وتراجعا للدولة عن التدخل في الاقتصاد، وأن الانفتاح كان تحولا جذريا في السياسات الاقتصادية للنظام. ولكن واقع تطورات السبعينات يدحض هذه التصورات تماما. فقد ظل القطاع العام كما هو ولم تقلل الدولة من سيطرتها على الصناعة، وظل الوضع في الريف كما هو تحت سيطرة ونهب من قبل الدولة، وحتى نظام البنوك، والتي شهدت أكبر تغيير في السبعينات من خلال السماح لإنشاء بنوك القطاع الخاص، حتى في هذا المجال ظلت الدولة في الصدارة. فبعد خمس سنوات من تطبيق قانون 43 لعام 1974 المعروف بقانون الانفتاح كانت بنوك القطاع العام لا تزال في الصدارة فقد كانت في 1979 تستحوذ على 81% من إجمالي الودائع و83% من إجمالي الائتمان . لقد كانت قوانين الانفتاح مجرد محاولة من النظام لإنقاذ نفسه من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية، وخاصة العربية بعد صعود أسعار البترول في 1973، حتى تحل أزمة تمويل الاستثمارات التي كانت الدولة تعاني منها منذ منتصف الستينات. ولكن هذه المحاولة فشلت في مجملها، فظلت الاستثمارات الأجنبية محدودة للغاية، وظلت الأزمة في بنية النظام كما هي. إن الذي أنقذ النظام من الناحية الاقتصادية لم يكن سياسات الانفتاح، ولكن تدفق القروض الغربية بسبب سياسات السلام مع إسرائيل والتحالف مع أمريكا من جانب، وارتفاع أسعار البترول من الجانب الآخر. لعب تدفق القروض والمساعدات الأمريكية والغربية دورا أساسيا في إنقاذ النظام من الغرق في السبعينات وبداية الثمانينات. ففي 1970 كانت ديون مصر قد وصلت إلى 1.3 مليار دولار أو ما يمثل 18% من إجمالي الناتج المحلي، وقفزت هذه الديون إلى 13 مليار دولار عام 1977 بنسبة 95% من الناتج المحلي، ثم إلى 20.4 مليار دولار عام 1980 بنسبة 128% من إجمالي الناتج المحلي، ثم إلى 42.2 مليار دولار في 1985، أي ما يعادل 159% من إجمالي الناتج المحلي . ولكن القروض لم تكن الحل الوحيد، بل مثلت عبئا ثقيلا كلما زادت خدمة هذه الديون ذات الفائدة المرتفعة. وكانت مصادر النظام لخدمة هذه الديون والبقاء فوق سطح الماء هو تصدير البترول وعائدات قناة السويس وتحويلات العاملين بالخليج. وهذه المصادر الثلاث قد أوجدتها الزيادة الكبيرة في أسعار البترول بعد 1973. وقد أصبح تصدير البترول مثلا يمثل 66% من إجمالي صادرات مصر في 1979، وأصبحت تحويلات عمال الخليج ورسوم قناة السويس تمثل أكثر من 50% من قيمة إجمالي الصادرات المرئية (بما في ذلك صادرات البترول) . وقد ساعدت هذه المصادر الجديدة في استمرار الوضع على ما هو عليه في الصناعة والزراعة، بل إلى تفاقم أزمات هذين القطاعين خاصة قطاع الزراعة. ففي 1974 كان إنتاج القمح قد وصل إلى 1.884.000 طن، في حين وصل استيراد القمح إلى 2.251.000 طن دقيق، وقد وصل الإنتاج في 1978 إلى 1.933.000 طن (زيادة طفيفة جدا) في حين وصل الاستيراد إلى 3.560.000 طن إلى جانب 837.000 طن دقيق . وإذا نظرنا إلى مسألة القمح بشكل تاريخي سنجد أنه في الفترة بين 1950 إلى 1980 زاد إنتاج القمح بنسبة 71% فقط، في حين زاد استيراد القمح بنسبة 612% . وقد انخفض نصيب الزراعة من إجمالي الناتج المحلي من 33% عام 1970 إلى 24% عام 1980، ولم يحل محل هذا الانخفاض نموا في الصناعة، بل أخذت محلها قطاعات الخدمات والتجارة والتمويل والتي أصبحت تمثل 30% من إجمالي الناتج المحلي عام1980. في 1965 كان نصيب الصناعة من إجمالي الناتج المحلي 24%، وانخفض هذا النصيب (إذا استثنينا البترول) إلى 14% في عام 1979. كما انخفضت نسبة الصادرات الزراعية من إجمالي الصادرات من 88% عام 1953، إلى 32% في عام 1978. ولكن لم يحل محلها الصادرات الصناعية، بل حل محلها البترول. وفي نفس الوقت ارتفعت قيمة الواردات من 213 مليون جنيه في عام 1952، إلى 6.9 مليار جنيه في عام 1980، وزادت نسبة العجز في الميزان التجاري من إجمالي الناتج المحلي من 1% في بداية الخمسينات، إلى 6% في نهاية الخطة الخمسية (1966) وإلى 37% في عام 1975، وهو ما يوضح مدى فشل سياسة إحلال الواردات. كما انخفضت نسبة الاستثمار الصناعي بالنسبة لإجمالي الاستثمار القومي من 29.3% في عام 1970-1971 إلى 21.4% في عام 79-1980، وانخفضت نسبة الصادرات الصناعية بشكل حاد من 47% من إجمالي الصادرات في 1970 إلى 14.6% في عام 1979. وكما نرى فإن الانتعاش الذي شهده الاقتصاد المصري في النصف الثاني من السبعينات، والسنوات الأولى من الثمانينات كان يخفي وراءه تفاقم في الأزمة البنيوية للاقتصاد المصري، وكان نتيجة فقط لارتفاع أسعار البترول وإيرادات قناة السويس وتحويلات العاملين في الخليج، وهي كلها مصادر خارجية، في حين ظلت الصناعة والزراعة، أي القطاعات المنتجة، في أزمة تزداد عمقاً وتفاقماً. وقد ظل نظام رأسمالية الدولة قائما ومأزوما حتى نهاية الثمانينات، وحتى لو كانت سياسات الانفتاح تهدف في بداياتها في 1974 إلى البدء في تفكيك ذلك النظام والتحول إلى سياسات السوق الحرة، فقد أدت مظاهرات 1977 ضد بداية رفع الدعم عن السلع الغذائية من جانب، ووجود إيرادات خارجية متزايدة من الجانب الآخر إلى تأجيل البدء في تفكيك نظام رأسمالية الدولة. تفاقمت الأزمة الاقتصادية من كل الجوانب مع منتصف الثمانينات، فالمديونية الخارجية ازدادت بشكل غير مسبوق، وأصبحت خدمة الديون الخارجية عبئاً ضخما على الميزانية، وانخفض بشكل حاد سعر البترول، وانخفضت معه إيرادات قناة السويس وتصدير البترول وتحويلات المصريين العاملين في الخليج، وتفاقمت أزمة القطاع العام الصناعي، وتدهور الإنتاج الزراعي، وازداد العجز في الميزان التجاري للسلع الزراعية. ومع منتصف الثمانينات وصل العجز في ميزان المدفوعات إلى 24% من إجمالي الناتج المحلي، وارتفعت معدلات التضخم لتصل إلى 25% سنويا، كما ارتفعت نسبة الديون الخارجية إلى الناتج القومي الإجمالي إلى ما يقارب 200% مع نهاية الثمانينات. وفي 1987 كانت نسبة الديون الخارجية إلى الصادرات 343%، وارتفعت نسبة خدمة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي من حوالي 4% في عام 1970 إلى 85% عام 1987. وتفاقمت الأزمة في القطاع العام الصناعي، فقد كان يحتاج هذا القطاع إلى أكثر من مليار دولار سنويا لشراء الواردات من مستلزمات الإنتاج، في حين كان إجمالي قيمة الصادرات لهذا القطاع أقل من 500 مليون دولار سنويا. ومولت بنوك القطاع العام 300 مليون دولار من العجز، أما الباقي فكانت الشركات الصناعية تحصله من خلال بيع منتجاتها محليا بالدولار. وقد سحبت المؤسسات الصناعية العامة نحو 2 مليار جنيه على المكشوف في عام 86-1987 بزيادة قدرها 50 مليون جنيه عن العام السابق، ووصل إجمالي واردات القطاع العام لذلك العام إلى 1.3 مليار دولار في حين كانت صادراته 671 مليون دولار. وفي عام 1986 قدمت الحكومة 293 مليون جنيه إعانات مباشرة للقطاع العام الصناعي، في حين كانت قيمة تلك الإعانات أقل من 1 مليون جنيه عام 1971. وكان عدد شركات القطاع العام الخاسرة قد زاد من 4 شركات في 1974 إلى 60 شركة في عام 1987، وفي عام 1988 كانت هناك 78 شركة خاسرة من إجمالي 116 شركة قطاع عام. كان إجمالي أرباح الشركات الناجحة 355 مليون جنيه في حين كان إجمالي خسائر الشركات الفاشلة 581 مليون جنيه في نفس العام. وأصبح واضحا آنذاك للنظام المصري أنه لم يعد لديه إمكانية لتأجيل إصلاح النظام، فلم يعد هناك إمكانية للاستمرار في التراكم الرأسمالي بالنمط القديم، وأصبح الحل الوحيد هو القفز نحو السوق. إن التحول نحو السوق لم يكن اختيارا أيديولوجيا أو مؤامرة سواء من البرجوازية المحلية أو من البرجوازية العالمية. فالمؤسسات المالية العالمية تريد استرداد أموالها، وتطرح سياسات الإصلاح كوسيلة وحيدة للوصول إلى ذلك الهدف، والنظام المصري يريد حل أزمة التراكم، وكلاهما يريد أن يحدث التحول على حساب الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين. كانت نتيجة الأزمات المتتالية لنظام رأسمالية الدولة هو مزيج من الضغوط الخارجية العنيفة من جانب، وضغوط البرجوازية المحلية من الجانب الآخر لإعادة هيكلة الاقتصاد. وأخذت هذه الضغوط شكل سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وأيضا السياسات الخارجية للدول الرأسمالية الكبرى. وكانت النتيجة هي إتباع النظام في مصر مثله مثل عدد كبير من الدول الأضعف لسياسات تقشفية وإعادة هيكلة. ب. النظام الجديد: الإصلاح الاقتصادى كان منطق برنامج إعادة الهيكلة هو محاولة إنقاذ معدلات الربح وتمكين الدولة من دفع ديونها. وقد تنوعت نتائج هذه البرامج التقشفية، ففي بعض الدول حدث استقرار ونمو مؤقت للاقتصاد سرعان ما تحول إلى أزمة. أما في دول أخرى فقد كانت الإصلاحات ذات طابع كارثي من اللحظة الأولى. ولعل التجربة المصرية مزيج من هذين النوعين، فالتجربة لم تشهد أي ملمح من ملامح النجاح الذي شهدته لفترة دول مثل المكسيك وإندونيسيا، ولكنها لم تشهد أيضا الدمار الشامل والسريع الذي شهدته زامبيا وزيمبابوي مع تنفيذ الإصلاحات. إن الهدفين الأولين لبرنامج إعادة الهيكلة والذي تسميه الحكومة برنامج الإصلاح الاقتصادي هما تخفيض عجز الميزانية واستقرار مؤقت في قيمة العملة من جانب، والتخفيض المطلق والنسبي لنصيب الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين من إجمالي الدخل. فقد تم تخطيط هذا البرنامج لخلق استقرار اقتصادي من خلال إفقار منظم وعلى نطاق واسع للجماهير. إن تطبيق مثل هذا البرنامج هو حالة خاصة من منطق محاولة البرجوازية العالمية للخروج من أزمتها من خلال تكثيف استغلال الطبقات العاملة. إن أول هدف لبرامج صندوق النقد الدولي هو "تهذيب" رأسماليات مثل الرأسمالية المصرية الأضعف ماليا وسياسيا لصالح الرأسمالية العالمية. وأول إنجاز لسياسات التقشف الناجحة هو إعادة الثقة في النظام المالي العالمي، وهذا يعني أن الاقتصاديات الأضعف مثل مصر يتم إعادة هيكلتها حتى تستمر في دفع ديونها من خلال سياسات مالية حازمة وتخفيض العجز في الميزان التجاري. أما الهدف الثاني فيتعلق باستقرار السلطة السياسية، فالأزمات التي تسبق الدخول في برنامج الصندوق تكون قد أدت إلى حالة من التفكك السياسي والاجتماعي، وهو ما يعبر عادة عن عدم قدرة النظم على إحكام السيطرة على القطاعات الاجتماعية المختلفة، وحتى القطاعات المختلفة داخل الطبقة الحاكمة، وهو ما يجعل الدولة مثلا تتبنى سياسة تضخيم دائم في الإنفاق بما يخلق حالة تضخم مستمرة (طبع النقود في محاولة لإرضاء جميع الأطراف). إن نتيجة برامج الإصلاح الهيكلي هي عملية تحول اقتصادي لا تؤدي إلى معالجة المشكلات البنيوية التي فشلت في معالجتها نظم رأسمالية الدولة وسياسة إحلال الواردات، ولكن النتيجة هي إعادة هيكلة الاقتصاد لإدماجه في السوق العالمي والسماح للطبقة الحاكمة بالخروج من الأزمة المباشرة وتحميل عبء الأزمة والتحول على الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين. والجماهير هي الضحية سواء كان النظام رأسمالية دولة أو نظام السوق الحر. الإصلاحات في القطاع المالي كان أول إجراء في إصلاح القطاع المالي هو تحرير أسعار الفائدة الدائنة والمدينة، وأصبحت أسعار الفائدة خاضعة لآليات العرض والطلب بدلا من الهيكل الجامد لأسعار الفائدة الذي كان يوزع على البنوك التجارية من البنك المركزي مع بداية السنة المالية من كل عام. وتم العمل بنظام أذون الخزانة التي تمثل أحد أدوات المديونية على الحكومة لدى الأفراد لتمويل عجز الموازنة من مصادر حقيقية، وتم ربط سعر الفائدة على الودائع لمدة ثلاثة شهور بسعر الفائدة على أذون الخزانة. وبدأ إثر هذه الإصلاحات ارتفاع مستمر لأسعار الفائدة. وقد صاحب ارتفاع أسعار الفائدة على الودائع بالعملة المحلية في بداية التسعينات مصادفة انخفاض أسعار الفائدة على الودائع الدولارية لمستويات لم تكن متوقعة (من 15% إلى 3%). وقد ساعدت هذه الإجراءات على دعم قدرة الحكومة على التحكم في قيمة الجنيه بالنسبة للدولار والتحكم في التضخم المالي. ولكن هذه الإجراءات أثرت بشكل سالب على البنوك وأدت إلى انكماش الاستثمار وزيادة الدين الداخلي. فقد أدى ارتفاع سعر الفائدة على الودائع بالعملة المحلية والتي وصلت في بعض الأحيان إلى 23%، إلى تفضيل المستثمرين استثمار أموالهم إما في ودائع بالعملة المحلية قصيرة الأجل (3شهور) أو استثمارها في شراء أذون الخزانة ذات العوائد المرتفعة، وذلك بدلا من الاستثمار في مشاريع إنتاجية. وقد انعكس الارتفاع في أسعار الفائدة على القروض في تراجع المستثمرين في الطلب على الائتمان من البنوك لارتفاع تكلفة الأموال. ومن جانب آخر، أدى التوسع في إصدار أذون الخزانة إلى زيادة الدين العام الداخلي الذي وصل إلى 123 مليار جنيه في عام 1995، وقد حاولت الحكومة الخروج بالاقتصاد من حالة الانكماش من خلال عدة إجراءات منها التوقف عن العمل بالسقوف الائتمانية اعتبارا من يوليو 1993، وأيضا السقوف الائتمانية للقروض المقدمة من البنوك لشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام. وتم إلغاء الحظر الذي كان مفروضا على منح تسهيلات جديدة لتمويل بيع وشراء سيارات الركوب والسلع الاستهلاكية المعمرة، بما يعني تحرير جانب آخر من الائتمان لتحكمه عوامل السوق. وأيضا توسعت البنوك في منح تسهيلات ائتمانية حيث بلغت أرصدة الإقراض والخصم 106.6 مليار جنيه ممثلة 45% من مجموع المركز المالي للبنوك التجارية في 30/6/1995 مسجلة زيادة قدرها 26.8 مليار جنيه في ظل إلغاء السقوف الائتمانية. ولكن كل هذه التسهيلات لم تحل مشكلة انكماش الاستثمارات وفائض السيولة لدى البنوك مما يعني أن سبب إحجام المستثمرين عن الاقتراض البنكي لم يكن أساسا ارتفاع أسعار الفائدة، ولكن حالة الكساد شبه الدائمة للسوق المصري، وظهرت بوضوح أن المشكلة ليست في السياسات النقدية والائتمانية ولكن في انخفاض ربحية المشاريع الإنتاجية، وقد ظل الطلب على الائتمان في الانخفاض على الرغم من انخفاض أسعار الفائدة في توحيد المعاملة للقطاع العام والخاص. (يتبع) كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير - روزا لوكسمبرج - 02-16-2005 الخصخصة بدأت إجراءات تنفيذ برنامج الخصخصة في مصر بصدور القانون 203 لسنة 1991 الذي سمي بقانون قطاع الأعمال العام، والذي أدى صدوره إلى إعادة تشكيل القطاع العام على أساس نوعي من خلال 17 شركة قابضة في مختلف الأنشطة، ويتبع كل شركة قابضة شركات تابعة لها في نفس مجل النشاط، وقد كان أهم عناصر هذا القانون هي: 1) الفصل بين الملكية والإدارة من خلال الشركات القابضة، كما تم الفصل بين موازنات الشركات والموازنة العامة للدولة كي تصبح كل شركة مواجهة بنتائج أعمالها، وقد ساعد ذلك على تخفيف الضغط على الموازنة العامة للدولة، ولكنه كان بمثابة كارثة بالنسبة لقطاع الأعمال العام، فقد أصبح يواجه بشكل مباشر صعوبات الاستمرار والبقاء في ظل المنافسة وآليات السوق؛ 2) أوكل القانون للشركات القابضة التي استحدثها للإشراف على الشركات التابعة طرح نسبة من رأس مال الشركات التابعة لا تتعدى 49% من أسهمها للبيع، كما أعطى للشركات إمكانية تأجير خطوط الإنتاج أو تشغيلها لحساب الغير، وبدأت الشركات القابضة بالقيام بدورها في التمويل بتأسيس الشركات المساهمة التابعة بمفردها أو بالاشتراك مع غيرها وشراء وبيع الأسهم. وتم حصر الأصول غير المستغلة لتحميلها تحميلا اقتصاديا مناسبا أو لتأجيرها أو لتسييلها واستخدام حصيلتها في تخفيض المديونية. وتم بيع الأسهم المملوكة في الشركات المشتركة وتم التفاوض مع البنوك لإعادة جدولة الديون من أجل إصلاح الاختلالات الهيكلية التمويلية وتم حصر وتصنيف المخزون السلعي والعمل على التخلص من الراكد منه ومحاولة تصحيح أوضاع الشركات الخاسرة. يتكون برنامج الخصخصة من عدة قطاعات تجزأ من أجل البيع، أولا الأسهم التي تملكها الشركات القابضة في رؤوس أموال الشركات المشتركة الخاضعة لأحكام القانون 230، والشركات المساهمة الخاضعة لأحكام قانون 159، وثانيا الأسهم التي تمتلكها الشركات القابضة في رؤوس أموال الشركات التابعة والخاضعة لأحكام قانون 203 والتي ما زال القطاع الخاص يساهم فيها منذ إنشائها، ثالثا الأسهم التي تملكها الشركات القابضة في رؤوس أموال الشركات التابعة والخاضعة للقانون 203 والتي تمتلكها الشركة القابضة بالكامل، ورابعا ما تحدده الشركات التابعة من أصول يمكن أن تطرح للبيع (محلات، خطوط إنتاج، فنادق، ……الخ). ويمنح مشترو وحدات قطاع الأعمال العام جميع الحقوق والحريات المتاحة لشركات القطاع الخاص والتي تحددها القوانين والتشريعات السائدة وبالأخص لا تفرض أي قيود على المشترين الجدد فيما يتعلق بالإنتاج المستهدف للوحدات الإنتاجية والمبيعات بالأسواق المحلية والخارجية، فيما عدا قطاع الخدمات العامة، ويترك لهم الحرية لتحديد الحجم الأمثل للعمالة. الفترة الأولى من الخصخصة: 1993 إلى 1996 التجربة الأولى للخصخصة في مصر جاءت من خلال طرح أسهم شركة مصر لصناعة الكيماويات والتي قام بها بنك مصر في بداية 1993، وقد لاقت نجاحا كبيرا حيث تم طرح 5.5 مليون سهم وجاءت الطلبات بـ 6.5 مليون سهم، وجاءت المرحلة الثانية بعد الإعلان الرسمي ببدء تطبيق برنامج الخصخصة بعد استقرار أوضاع الشركات القابضة بالقانون 203 لسنة 1991، وتمهيد أوضاع البورصة لاستقبال البضاعة الجديدة بالقانون 95 لسنة 1992، وبالفعل بدأ طرح أسهم شركات القطاع العام بنسبة 10% من إجمالي الشركات المطروحة بسعر التقييم. وقد تمت عمليات خصخصة ناجحة في تلك الفترة منها شركة البويات والصناعات الكيماوية وشركة العامرية للأسمنت. ولكن مع حالة التراجع في البورصة المصرية بدأت أساليب جديدة للخصخصة مثل عملية البيع عن طريق شركات السمسرة والتي تم من خلالها بيع بعض الشركات. وقد بدأ أيضا بيع الأسهم بأسلوب المزاد مثلما حدث مع شركة الشرقية للدخان والتي تم طرحها للاكتتاب في 21/6/1995 بأسلوب الاكتتاب بدون حد أقصى. الفترة الثانية للخصخصة: 1996 إلى اليوم وقد شهد برنامج الخصخصة حالة من الإسراع منذ شهري مايو ويونيو 1996 نجم عنها طرح العديد من أسهم الشركات بحصص تتراوح ما بين 40% و 70% من أسهم الشركات، وهو ما يعني الاتجاه نحو خصخصة الشركات بالكامل والتخلي عن أسلوب الـ 10%. وقد شملت هذه المرحلة أولا بيع أسهم الشركات التي سبق طرح 20% من أسهمها في عام 1995 في البورصة، وبلغ عددها 16 شركة بما لا يتجاوز 51% من أسهم هذه الشركات، ثانيا طرح شرائح شركات لم يسبق طرحها في السوق وعددها 46 شركة مع استمرار البيع بما يتجاوز 51%، وتندرج تحت هذه الشركات قطاعات الصناعات الغذائية والغزل والنسيج والهندسية والمعدنية وغير المعدنية والمقاولات والإسكان، وثالثا طرح 14 شركة بالكامل للبيع في قطاعي الصناعات الغذائية والصناعات الهندسية، رابعا بيع 37 فندقا مملوكا للقطاع العام و27 فندقا مبنيا و10 بواخر عائمة، خامسا طرح محلات التجارة الداخلية المملوكة للقطاع العام للبيع مثل صيدناوي وعمر أفندي وبنزايون وهانو، الخ، سادسا طرح حصة بنوك القطاع العام في البنوك المشتركة وعددها نحو 13 بنكا. وقد أدت سياسات الإصلاح والخصخصة إلى خروج 70 ألف عامل بنظام المعاش المبكر خلال الشهور الستة الأخيرة من 1998، وبذلك يصل عدد العاملين الذين تم الاستغناء عنهم بهذا النظام إلى 130 ألف عامل خلال عام واحد فقط. ومن المتوقع أن يتم الاستغناء عن العاملين بنسب تتراوح بين 30 إلى 40% من حجم العمالة في 60 شركة مطروحة للبيع في عام 1999، ويتوقع أن يتم الاستغناء عن أكثر من 200 ألف عامل في نهاية 1999. ومشروع المعاش المبكر الذي تكلف نحو 3 مليارات جنيه حتى نهاية 1998 يتم تمويله من حصيلة بيع الشركات والتي بلغت 5.163 مليار جنيه حتى الآن. البورصة لا يمكن فصل عملية الخصخصة عن عملية تكوين وتطوير سوق للأوراق المالية (البورصة) فالبورصة هي الوعاء الذي تم من خلاله بيع وتداول أسهم شركات القطاع العام، وهي بالتالي وعاء الخصخصة، وقد تزامن صدور قانون 91 لسنة 1992 (قانون البورصة) مع بداية تطبيق برنامج الخصخصة والذي شكل البضاعة التي أصبحت جاهزة (اسهم الشركات) وتنتظر فتح السوق. كانت قيمة التداول في 1985 تبلغ 62 مليون جنيه فقط، وفي بداية برنامج الإصلاح كان حجم التداول قد وصل إلى 428.7 مليون جنيه عام 1991، وارتفع إلى 2557.2 مليون جنيه في 1994، وقفز إلى 3849.4 مليون جنيه في نهاية 1995، ثم تضاعف مرة أخرى في 1996-1997. إن البورصة المصرية ليست مقياسا لقوة أو ضعف الاقتصاد المصري بشكل عام. فصعود وهبوط مؤشر البورصة مرتبط بشكل مصيري بالمعروض من أسهم القطاع العام المباعة والمعروفة بأسهم الخصخصة والمضاربة عليها. ومع زيادة الطلب من قبل المستثمرين على الأوراق المالية المتداولة والمطروحة وقلة المعروض في سوق التداول (حدود حجم الخصخصة) نما نشاط المضاربة الشديدة وبدأت تظهر مسميات الأسهم، كالأسهم "الذهبية" والسهم "الماسي" والحصان الأسود وغيرها، وأدت المضاربة إلى ارتفاع أسهم الشركات ذات المراكز المالية الضعيفة (غالبية شركات القطاع العام المباعة) وبالتالي انخفاض أسعارها مرة أخرى عندما بدأت موجات البيع للاستفادة من فروق الأسعار مما أثر على شريحة كبيرة من حائزي الأسهم. فمثلا أسهم شركة الشرقية للدخان والتي بيعت بالمزاد انخفض سعرها إلى 35 جنيها للسهم، بمعنى أن أقل خسارة يحققها مستثمر يود أن يتخلص منها اليوم هي 10 جنيهات للسهم بالرغم من التوقعات الذهبية وقت الشراء، وقد حدث تطور مثيل مع أسهم شركة الزيوت المستخلصة وشركة النيل للأدوية وشركة الكابلات المصرية. كانت أحد أهم الأسباب في تزايد الطلب على الأسهم وارتفاع أسعارها منذ منتصف عام 1994 هو انخفاض أسعار الفائدة على الودائع بالعملة المحلية وكذلك العملات الأجنبية، وليس ثقة المستثمرين في "الربحية" الحقيقية للشركات. والجذب نحو سوق المال المصري ساعده أيضا ما قامت به بعض الشركات من توزيع أسهم مجانية أو كوبونات عالية مثل شركة أبو قير للأسمدة التي وزعت نصف سهم مجاني عن ميزانية 93-1994، فكانت النتيجة ارتفاع سعر السهم من 45 جنيها إلى 106.5 جنيه في الأسبوع الثالث من أكتوبر 1994، وكذلك شركة السويس للأسمنت التي وزعت أسهما منخفضة القيمة على قدامى المساهمين مما أدى إلى ارتفاع أسعار الأسهم من 45 جنيها إلى 68 جنيها في أكتوبر 1994. ولكن هذا التضخم في أسعار الأسهم لم يكن له أي صلة بربحية أو نجاح الشركات أو بأداء الاقتصاد المصري ككل، وبالتالي بدأ الانهيار سريعا في 1996 و 1997، واستمرت الأسهم في تقلبات عنيفة منذ ذلك الحين واستمر كثير من المستثمرين في تسييل الأوراق المالية لديهم ليس للحصول على سيولة لشراء أسهم جديدة ولكن للخوف من فقدان رؤوس أموالهم مع وجود ظاهرة عروض البيع التي يقابلها طلبات شراء. وقد انعكس ذلك على المؤشر العام لسوق المال، والذي انخفض سريعا منذ 1996، ويظل متقلبا كانعكاس لما تطرحه الحكومة من أسهم خصخصة جديدة والمضاربة عليها، ثم الانخفاض من جديد. وفي نهاية 1998 حدث تراجع عنيف لأسهم الخصخصة وانخفضت أسعار 37 شركة لأقل من سعر الطرح وتصدرت الانخفاضات شركة القاهرة للإسكان التي تم طرحها في مارس 1997 بسعر 24 جنيها لتصل في نهاية 1998 إلى أقل من 9 جنيهات للسهم، وشركة تيليمصر التي طرحت أسهمها عند سعر 30 جنيها في 1996 لتصل إلى 10 جنيهات للسهم، ومصر للألومنيوم التي تم طرحها في فبراير 1998 بسعر 71 جنيها انخفضت في نهاية العام إلى 28 جنيها للسهم. وكلما اقتربنا من نهاية برنامج الخصخصة كلما بدأ في الظهور الفارق الضخم بين القيمة الورقية للسهم وبين الضعف التنافسي الشديد للشركات. الإصلاح الاقتصادي في الريف والأزمة الزراعية ظل النظام القائم في الريف حتى نهاية الثمانينات وبداية برنامج الإصلاح الاقتصادي في 1987 نظاما تسيطر عليه الدولة من خلال التوريد الإجباري واحتكار مستلزمات الإنتاج. وقد تصاعد الفائض الذي تستخرجه الدولة من الفلاحين بشكل كبير خلال الفترة بين 1980 و 1985، حيث زاد الفائض بالأسعار الجارية من نحو 1401.27 مليون جنيه عام 1980 إلى نحو 2209.36 مليون جنيه عام 1985. وكانت الدولة تحصل في الثمانينات من خلال الفارق بين سعر التوريد وسعر التصدير 58% من قيمة محصول القطن وحتى عام 1992. وقبل تحرير تجارة القطن كانت الدولة تحصل 44% من قيمة السعر العالمي للقطن. ولكن القطاع الزراعي كان يعاني من أزمة عنيفة وأصبح عبئا ثقيلا على الدولة على الرغم من الفائض المحول، وتفاقمت هذه الأزمة في النصف الثاني من الثمانينات. فقد كانت قيمة الصادرات الزراعية حتى عام 1973 تفوق قيمة الواردات الزراعية بشكل كبير، حيث حقق صافي عائد التجارة الخارجية الزراعية أكثر من نصف حصيلة العملات الأجنبية في الفترة 1970 إلى 1973. ولكن خلال الثمانينات حدث تدهور سريع في الصادرات الزراعية حيث بلغ معدل الانكماش في هذه الصادرات 15% في نهاية الثمانينات، وقد وصل العجز في الميزان التجاري الزراعي إلى 3.16 مليار دولار في متوسط الفترة من 1985 إلى 1990 ممثلا نحو 13.7% من إجمالي العجز التجاري. وكانت التجارة الخارجية الزراعية تمثل نحو ثلث التجارة الخارجية الكلية في الفترة من 1973 إلى 1979، وتضاءلت هذه النسبة إلى 21.7% في الفترة 1980 إلى 1985، وإلى 14% في النصف الثاني من الثمانينات. وقد انخفضت نسبة تغطية الصادرات الزراعية للواردات الزراعية من 24.8% في متوسط فترة 1980 إلى 1985، إلى 15.6% في متوسط فترة 1986 إلى 1992، كما انخفضت نسبة الصادرات الزراعية إلى إجمالي الصادرات من 41.4 في متوسط فترة 1973 إلى 1979 إلى 15.5% في فترة 1980 إلى 1985، ثم إلى 8.4% في متوسط فترة 1986 إلى 1992. وترجع أزمة الزراعة المصرية إلى عدة عوامل، أهمها هو ضآلة الاستثمار في الزراعة. فقد كانت نسبة الاستثمار في الزراعة إلى إجمالي الاستثمارات أقل من 8% في بداية الثمانينات، وانخفضت إلى 7% في نهاية الثمانينات، وهذا بالرغم من أن قطاع الزراعة لا يزال يمثل جزءا رئيسيا من الاقتصاد، فهذا القطاع بما يشمل من الإنتاج والتسويق وتصنيع المنتجات، يمثل أكثر من 40% من إجمالي الناتج المحلي. وقد أدى النقص الدائم في الاستثمار في تطوير وتوسيع الإنتاج الزراعي إلى ارتفاع تكلفة المحاصيل، وبالتالي ارتفاع الأسعار للمحاصيل المصرية بالمقارنة بالدول الأخرى، ولعل أكبر وأهم مثال على ذلك هو القطن طويل التيلة والذي كان يشكل منذ القرن الماضي أهم محصول تصديري وأكبر مورد للعملة الأجنبية، وقد كانت صادرات القطن تمثل 61.3% من جملة الصادرات الزراعية في الفترة من 1980 إلى 1985، وقد انخفضت هذه النسبة إلى 43.9% فقط في فترة 1985 إلى 1990، وقد فقدت مصر معظم أسواق التصدير بالنسبة للقطن لحساب الأقطان المنافسة وعلى رأسها القطن البيما الأمريكي الذي حل محل القطن المصري في سوق شمال أوروبا. وقد زادت أسعار تصدير القطن المصري طويل التيلة عن أسعار البيما الأمريكي خلال النصف الثاني من الثمانينات بنسب تتراوح بين 30% و 127%. كما انخفض أيضا نصيب مصر من صادرات الأرز العالمية من 2% في فترة 1980 إلى 1985 إلى 0.5% في الفترة من 1985 إلى 1990 حيث تراجعت مصر من المرتبة الرابعة إلى المرتبة الثامنة. وقد أوضحنا من قبل كيف أصبحت مصر من أكبر مستوردي القمح والسلع الغذائية في العالم، وكيف كانت الزيادة في الإنتاج الزراعي بعيدة كل البعد عن الزيادة في الاستهلاك. سبب آخر أكثر مباشرة لأزمة الثمانينات في الزراعة كان انهيار أسواق أوروبا الشرقية. فقد كانت هذه الأسواق تستوعب جزءا كبيرا من الصادرات الزراعية المصرية من خلال اتفاقيات تبادل ثنائية، وتميزت هذه الاتفاقات بطابع سياسي ومستقر وغير متأثر بالأسعار العالمية، وبالتالي فاقم من الضعف التنافسي للزراعة المصرية. وحين انهارت هذه الأسواق وجدت الحكومة المصرية نفسها في سوق عالمي لا تستطيع التنافس فيه حتى في الإنتاج الزراعي. هذه هي الخلفية التي جاء من خلالها برنامج التكيف الهيكلي في الريف، فلحظة قرار البدء في "تحرير" القطاع الزراعي وانسحاب الدولة من التدخل المباشر في الإنتاج الزراعي هي اللحظة التي أصبح فيها عبء استيراد الغذاء وزيادة التكلفة النسبية للمحاصيل الزراعية في السوق العالمي أكبر من الفائض الذي كان يستخرج لصالح الدولة من الريف. طالما كان القطاع الزراعي مربحا للدولة ولو بشكل محدود كانت الدولة تصر على استمرار تحكمها في الريف، ولكن حين أصبح سببا للخسائر أصبح من الضروري على الدولة الخروج من هذا القطاع. ومن المهم ملاحظة أن الدولة كان يصعب عليها أخذ هذا القرار لأن الشكل القديم (سيطرة الدولة والتسعير الجبري، الخ) كان ركيزة الاستقرار السياسي في الريف، ولكن لم يكن هناك مفر أمام النظام. وقد طرح مشروع الإصلاح الاقتصادي للريف أملا في جذب الاستثمارات الخاصة التي تمكنه من أن يصبح مربحا من جديد، وقد تطور برنامج الإصلاح من خلال مرحلتين أساسيتين. المرحلة الأولى من 1987 إلى 1989 شملت بداية تحرير الأسعار وإنهاء التحصيل الجبري لعشرة محاصيل أساسية والبدء في عملية فتح الأسواق للاستثمار الخاص، وكانت النتائج الأساسية لهذه المرحلة هي رفع ثمن السماد بنسبة 75% وتحرير 10 محاصيل نهائيا والسماح للقطاع الخاص بتصدير الموالح، وفصل البنك الزراعي عن تسويق مستلزمات الإنتاج. أما المرحلة الثانية من 1990 إلى 1994 فاستهدفت زيادة سعر تحصيل القطن إلى 66% من السعر العالمي ثم تحرير السعر تماما في 1994 ورفع التحصيل الإجباري للقطن وإلغاء الدعم لجميع مستلزمات الإنتاج وتقييد، ثم إلغاء ، الائتمان المدعم للفلاحين وإصلاح وتحرير بنية إنتاج البذور وتسويقها. 1. تحرير المحاصيل الزراعية وقد تم رفع السعر الحقيقي للقطن بنسبة 45% بين 1986 و 1991 وظلت عند هذا السعر المرتفع حتى 1993، ونتيجة لذلك أصبحت ربحية دورة القطن والبرسيم أعلى من ربحية دورة القمح والذرة والأرز، وكان التوقع هو التحول من هذه المحاصيل إلى القطن بشكل واسع ولكن هذا لم يحدث وظلت الأراضي المزروعة بالقطن تتضاءل في 1993 و 1994. ولا يمكن تفسير ذلك إلا بالنظر إلى تقلبات السعر العالمي للقطن وانخفاضه الحاد في أعوام 1991، 1992، 1993. ففي 1991 انخفض سعر التصدير الرسمي بنسبة 30% ووصل سعر التصدير في 1993 إلى نصف سعر 1991. وفي عامي 1992 و 1993 كان السعر المتفق عليه بين الحكومة والمزارعين يزيد بنسبة 14% عن السعر العالمي مما أدى إلى أزمة في دفع ثمن القطن للفلاحين في 1993، وبعد عدة شهور من التأجيل دفعت الدولة للفلاحين ثمن القطن بما يزيد عن 30% عن السعر العالمي. أدت حالة التقلبات هذه إلى تراجع الفلاحين عن زراعة القطن، وقد انخفضت مساحة الأراضي المزروعة بالقطن من 850 ألف فدان عام 1991 إلى 840 ألف فدان في 1992 ثم إلى 800 ألف فدان في 1993، وإلى 720 ألف فدان في 1994. وفي الفترة ما بين 1986 و 1991 وهي فترة إتمام تحرير المحاصيل الزراعية حدث نمو حاد في المساحات المزروعة بالقمح والشعير كرد فعل للربحية المتزايدة لهذين المحصولين. وقد زادت مساحة المحصولين بنسبة 50% بين 1986 و 1991، وجاء ذلك النمو على حساب محاصيل مثل الأرز والقطن. وحتى عندما انخفضت الأسعار العالمية للقمح والشعير في 1992 انخفضت مساحة المحصولين بنسبة 8% فقط ولكن المزارعين لم يتحولوا إلى زراعة القطن بسبب تقلبات الأسعار ولا إلى الأرز بسبب محاولات الحكومة التقليل من زراعته لتقليل استهلاك المياه. وقد ارتفع سعر القمح من 35 جنيه للأردب في 1986 إلى 75 جنيه للأردب في 1989، أي بزيادة تتجاوز الـ 100%. وقد قابل هذه الزيادة توسعات في المساحة المزروعة بالقمح من 1206 ألف فدان في عام 1986 إلى 1518 ألف فدان في 1990، أي بزيادة قدرها 20.5%. وتظل الأسعار العالمية للمحاصيل في تقلب مستمر منذ منتصف التسعينات. ومع أزمة نهاية التسعينات نجد انخفاضا حادا في أسعار السلع الزراعية الأساسية. لقد تم استبدال نهب الدولة المنظم بفوضى السوق. وقد تميز النظام القديم بالنسبة للفلاحين الصغار بأنه كان واضحا في بداية كل دورة زراعية السعر الذي ستعطيه الدولة للفلاح مقابل المحصول، وبالتالي يعرف الفلاح مقدما حجم الفائض الذي ستنهبه الدولة. كان هذا النهب مستقلا عن أسعار السوق العالمي، ولكن الآن يواجه الفلاح السوق العالمي مباشرة. ومن البديهي أنه كلما زادت قطعة الأرض التي يملكها الفلاح كلما استطاع التنويع في المحاصيل وبالتالي مواجهة التقلبات في الأسعار بدرجة من المرونة. ولكن الفلاح الصغير ليس لديه هذه المرونة ويكون معنى تقلب الأسعار بالنسبة له ولأسرته الدمار والجوع وبيع الأرض، إذا لم يكن هذا العام فيكون العام المقبل، وإذا لم يكن مع محصول القطن فسيكون مع انهيار أسواق القمح. فالسوق العالمي لا يرحم المنتج الصغير. 2. تحرير مستلزمات الإنتاج شمل برنامج الإصلاح مشروع يهدف إلى التحرير التام لسوق مستلزمات الإنتاج، وشمل المشروع السماح للقطاع الخاص بالاتجار في كل مستلزمات الإنتاج والسماح له باستيراد الأسمدة وغيرها من مستلزمات الإنتاج والسماح له بتأجير مخازن البنك الرئيسي للتنمية والائتمان الزراعي والتحضير لبيع هذه المخازن وإلغاء قيام القطاع العام ببيع العلف الموحد بأسعار مدعومة ورفع الدعم عن الائتمان الزراعي. وكانت نتائج "تحرير" مستلزمات الإنتاج واضحة وعنيفة منذ بداية التسعينات. فأولا أخذت أسعار الأسمدة الكيماوية بمختلف أنواعها في الارتفاع الحاد عقب قرارات الإصلاح بنسب متفاوتة كان أقلها اليوريا (64%) وأعلاها سلفات البوتاسيوم (547%) وكان ذلك نتيجة مباشرة لعدة عوامل مرتبطة بالإصلاح مثل ارتفاع أسعار البيع من المصانع نتيجة إلغاء دعم المكونات والطاقة وارتفاع سعر صرف الدولار وتخفيض دعم الموازنة للأسمدة بشكل سريع من 183 مليون جنيه إلى 62 مليون جنيه فقط، وفرض ضريبة مبيعات على الأسمدة. وثانيا، ارتفعت أسعار المبيدات الكيماوية بنسب مختلفة تتراوح بين 30% و 58%. وثالثا، ارتفعت أسعار التقاوي لمختلف أنواع الزراعات بعد تحريرها في 1987 بنسب تتراوح بين 30% و 400%. ورابعا، ارتفعت أسعار الآلات الزراعية سواء المنتجة محليا أو المستوردة، وذلك بسبب ارتفاع أسعار خامات التصنيع من الكتلة الشرقية وارتفاع سعر الدولار وفرض ضريبة مبيعات قيمتها 1%، وارتفاع تكلفة فوائد التمويل من 12% إلى 21%، ونتيجة لذلك فقد ارتفع سعر الجرار نصر 75 حصان من 15.775 جنيه عام 1990 إلى 17.350 جنيه عام 1991، ثم إلى 26.600 جنيه عام 1992. إذن فقد ارتفعت تكلفة الإنتاج إلى أضعاف ما كانت عليه قبل الإصلاح. وقد كانت الدولة في النظام القديم تحتكر سوق المستلزمات وتنظم بيعها وتوزيعها على الفلاحين بحيث تربح الدولة من تسويق هذه المستلزمات من خلال تسعيرها بأكثر من تكلفتها، ولكن هذا التربح كان مرتبطا بقدرة الفلاح على الشراء. أي أن الدولة كانت مهتمة باستمرار الاستقرار في الريف، وكانت بالتالي تعدل من أسعار المستلزمات بما يحقق هذا الاستقرار ويسمح لها ببعض التربح في نفس الوقت، ولكن النظام الجديد يسمح للقطاع الخاص باحتكار أسواق المستلزمات سواء في الاستيراد أو الإنتاج. وهذا القطاع ليس لديه نفس المرونة في حجم أرباحه ولا يهتم بنتائج هذه الأرباح على الفلاح الصغير. لقد تم "تحرير" النهب وتحويله من الدولة للقطاع الخاص وكبار الفلاحين القادرين على تحمل الارتفاع في تكلفة الإنتاج وتقلبات الأسعار العالمية للمحاصيل والمستلزمات، والثمن يدفعه فقراء الفلاحين من صغار الملاك والمستأجرين. إن الدخل الموازي لخط الفقر في عام 1992 وصل إلى نحو 784.2 جنيه للفرد سنويا، وبافتراض اعتماد الأسرة بالكامل على الدخل من الإنتاج النباتي فإن الدخل المقدر للأسرة الريفية الموازي لخط الفقر يقدر بنحو 4504.3 جنيه، وبمقارنة تلك التقديرات مع متوسط صافي عائد الدورات عام 1992، يتبين أن المساحة اللازمة لتغطية الدخل الموازي لخط الفقر أصبح نحو 3.4 فدان للأسرة وهو ثلاثة أضعاف ما كان عليه في بداية الثمانينات. لقد زادت قيمة الإنفاق على الغذاء اللازم لتوفير الحاجات الغذائية الأساسية عن الإنفاق الممكن توفيره من الأسر الفقيرة زادت نسبتها من نحو 29.7% إلى 64.5% في الريف فيما بين عامي 1982 و 1992. كما انخفض الأجر الحقيقي للعامل الزراعي في عام 1992 إلى نصف ما كان عليه في عام 1986. 3. تحرير العلاقة الايجارية هناك استنتاج منطقي من كل ما سبق وهو أن الضغوط على الفلاح الصغير سواء كان مالكا أو مستأجرا أصبحت بعد الإصلاحات غير محتملة وأن هذه الضغوط تدفع في اتجاه طرده من الأرض وتركيز الأرض في مساحات أكبر. ولكن قانون الإيجارات الزراعية القديم لم يكن يجعل ذلك ممكنا فالقانون كان يسمح بتوريث الأرض المؤجرة وكان يحدد الإيجار بسبعة أمثال الضريبة ويمنع عمليا طرد الفلاح من الأرض. وكانت التعديلات التي أدخلها السادات على القانون وهي أن تصبح الضريبة التي يتم على أساسها تحديد الإيجار هي الضريبة الحالية وليست الضريبة عند بدء العمل بالقانون قد رفعت الإيجارات بعض الشيء ولكنها لم تغير جوهر القانون وهو عدم إمكانية طرد الفلاحين من الأرض وبالتالي عدم إمكانية تركيز الأرض الزراعية. وبعد تحرير سوق المستلزمات وتحرير سوق المحاصيل كان لابد من إلغاء القوانين القديمة التي تعيق سوق الأراضي الزراعية وبالتالي تعيق عملية تركيز الأرض والتي تعتبر الطريق الوحيد نحو جذب استثمارات خاصة إلى الإنتاج الزراعي. وقد انطوى التعديل الذي بدأ في تنفيذه في السنة الزراعية 1992-1993 على زيادة القيمة الايجارية من 7 أمثال الضريبة على الأطيان إلى 22 مثل الضريبة، وظل هذا الوضع في مرحلة انتقالية حتى عام 1997 تم بعدها تحرير العلاقة الايجارية تماما لتترك لقوى السوق. وأصبح الفلاح الصغير المستأجر والمالك مطاردا من كل الاتجاهات، فأسعار مستلزمات الإنتاج تضاعفت عشرات المرات وأسعار المحاصيل الزراعية أصبحت متروكة لسوق عالمي شديد التقلب ومنافسة من بلدان أكثر قدرة وكفاءة في إنتاج نفس المحاصيل، وأصبح الائتمان من البنوك شبه مستحيل بعد إلغاء دعمها وتركها للسوق، وجاءت الضربة النهائية بقانون الإيجارات الجديد، وستؤدي هذه العوامل كلها إلى عملية طرد واسعة النطاق لمئات الآلاف من الفلاحين المستأجرين والملاك الصغار. تطور القطاع الخاص الصناعي يهيمن على أطروحات اليسار التقليدي والقومي فكرة أنه منذ الانفتاح الاقتصادي وحتى الآن ظلت الصناعة المصرية في تدهور مستمر، فالقطاع العام يتم تقليصه وتخفيض عماله، أما القطاع الخاص فهو مركز في القطاعات التجارية والخدمية أو بعض الصناعات الخفيفة مثل صناعات الأغذية. أي أن الرأسمالية الخاصة غير منتجة على المستوى الصناعي وأن لها طابع "طفيلي" و "تجاري" أو في المصطلحات الأكثر تعقيدا رأس مال كومبرادوري بمعنى أنه فقط أداة لرأس المال الأجنبي ومركزا في الاستيراد والتصدير وغير قادر على أو راغب في الإنتاج الصناعي. الاستنتاج السياسي البديهي من هذه الأطروحة هو أن الطبقة العاملة الصناعية المصرية في حالة تضاؤل وضعف مستمرين منذ السبعينات وبالتالي أي طرح مبني على أساس دور قيادي للطبقة العاملة يكون مرفوضا بتهمة المثالية وعدم فهم التحولات الجارية!. ولكن واقع التطورات على الساحة الصناعية يدحض هذه الأطروحات كليا. فمنذ الثمانينات هناك نمو غير مسبوق للقطاع الخاص الصناعي في كل المجالات الأساسية من صناعات الأغذية والملابس إلى صناعات السيارات والحديد والصلب والإليكترونيات. وقد ارتفع نصيب الصناعة (باستثناء قطاع البترول) من إجمالي الناتج المحلي من 13.5% عام 1980-1981، إلى 18% في عام 1996-1997. وقد ارتفع متوسط نصيب الصناعة من إجمالي الناتج المحلي من 14.6% بين 1983 و 1987 إلى 17% بين 1988 و 1992، وكان متوسط معدل نمو القطاع الصناعي بين 1982 و 1995 (باستثناء قطاع البترول) 7.5% مقارنة بـ 3.2% في قطاع الزراعة و5.2 في قطاع التجارة و 5.2% في إجمالي الناتج المحلي. وفي الفترة بين 1987-1988 و 1991-1992 وصل معدل نمو الصناعة إلى 7% مقارنة بـ 3% في الزراعة و 4.8% في التجارة و 4.8% في إجمالي الناتج المحلي. وقد ارتفع نصيب الصناعة في استثمارات القطاع الخاص من 15.9% في 1981 إلى 34.7% في 1990 و 45.9% في 1995، ومع سياسة الخصخصة ارتفع نصيب القطاع الخاص في الإنتاج الصناعي من 36.9% في أوائل الثمانينات إلى 55.6% في 1990 وإلى 75% في 1996-1997. وقد حدثت بعض التغييرات الهامة في بنية القطاع الخاص الصناعي، ففي حين ظلت صناعة النسيج والملابس في الصدارة وارتفعت نسبتها من 27.1% في 1980-1981 إلى 34.3% في 1996-1997، انخفضت في نفس الفترة نسبة صناعة الأغذية من 49.3% إلى 17.8%، وارتفعت نسبة الصناعات الهندسية من 9% إلى 15.8% وصناعة الكيماويات من 8.1% إلى 23.9%. وقد نمت بشكل سريع صناعة الكيماويات منذ الثمانينات كما هو واضح من الأرقام، وهذه الصناعة تتميز بكثافة عالية لرأس المال ولها علاقات مباشرة بقطاع الزراعة من خلال الأسمدة، وأيضا علاقات مباشرة بالصناعات التحويلية (المنظفات الصناعية، والأصباغ) وبصناعة الدواء. والصناعة التي شهدت أيضا نموا وتطورا شديد الأهمية هي صناعة السيارات. ويوجد اليوم 15 مصنعا عملاقا برأس مال 6.1 مليار جنيه و133 مصنعا للصناعات المغذية برأس مال 2 مليار جنيه. وقد أضافت هذه الصناعة أكثر من 100 ألف عامل صناعي منذ منتصف الثمانينات. وفي عام 1997 وافقت هيئة الاستثمار على إنشاء 22 مصنعا جديدا لصناعة السيارات بقيمة مليار جنيه و113 مصنعا للصناعات المغذية برأس مال 943 مليون جنيه. وقد وصلت نسبة التصنيع المحلي إلى 40% من مكونات السيارات ووصلت مبيعات السيارات محليا من 20 ألف سيارة عام 1994 إلى 75 ألف سيارة عام 1995. وقد تأسست هذه الصناعة على أساس مشاركة بين رأس المال المحلي والعالمي، عائلة أباظة مع بيجو الفرنسية، وشفيق جبر (آرتوك) مع سكودا التشيكية (المملوكة حاليا من قبل فولكس فاجن الألمانية)، وعائلة غبور مع هيونداي الكورية، وحسام أبو الفتوح مع دايو الكورية وBMW الألمانية. وهناك تداخل وارتباط حميم بين البرجوازية الصناعية الجديدة والبرجوازية التجارية، فالرأسماليون الذين كانوا يقودون عملية الاستيراد منذ السبعينات هم أنفسهم الذين يقودون عملية التصنيع في التسعينات، والعكس أيضا صحيح، فعائلات أباظة وغبور وأبو الفتوح تحولوا من استيراد السيارات إلى تصنيعها، وعائلة العربي تحولت من استيراد الأدوات الكهربائية إلى تصنيعها. أما محمد فريد خميس فقد توسع في إنتاج السجاد إلى قطاع الاستيراد والتصدير. وقد تركزت الطفرة الصناعية الحالية في المدن الصناعية الجديدة، وقد أعطى قانون 59 لسنة 1979 ميزات عديدة للمستثمرين فاقت الميزات المحدودة لقانون 43 لسنة 1974، ومنها 10 سنوات إجازة ضريبية على الأرباح الصناعية والتجارية، وفوائد الائتمان بالعملة الأجنبية، وضريبة الدخل والاستثناء من الجمارك على الميكنة والأدوات المستوردة. وقد استفادت الشركات في المدن الجديدة من مزايا قانون 159 وقانون 43، كما جاء قانون 230 لسنة 1989 بمزايا جديدة ومنها مد الإجازة الضريبية إلى 15 عاما. ويوجد الآن 15 مدينة صناعية جديدة يعمل بها حوالي ربع مليون عامل. وهذا الرقم يشمل فقط العمال المقيدين ويصل العدد الإجمالي للعمال إلى ضعف هذا الرقم في أقل التقديرات. ومدينة العاشر من رمضان هي أكبر المدن الصناعية ونصيبها 41.6% من إجمالي المصانع، و54.5% من إجمالي الإنتاج للمدن الجديدة، ويذهب حوالي 81% من إنتاج المدن الجديدة إلى السوق المحلي، والتصدير يلعب دوراً ما زال محدوداً للغاية. فهذه المصانع تستفيد بشكل كبير من حماية جمركية عالية ولا تواجه بأي شكل من الأشكال المنافسة العالمية. المصانع الموجودة حتى 30/6/1997 المدينة عدد المصانع رأس المال (ألف جم) الإنتاج (ألف جم) عدد العمال المسجلين العاشر من رمضان 819 7.135.216 10.687.106 133.108 السادس من أكتوبر 529 2.747.746 5.801.607 56.293 السادات 144 1.970.784 1.177.951 13.998 برج العرب 279 784.808 970.361 15.435 الصالحية الجديدة 31 100.634 570.055 1.671 دمياط الجديدة 91 100.173 74.157 2. بني سويف الجديدة 6 285 4.545 81 بدر 41 160.799 139.622 1.928 النوبارية الجديدة 11 2.783 9.477 149 العبور 14 70.600 2.000 570 الإجمالي 1965 13.073.828 19.436.881 226.000 المصانع تحت الإنشاء حتى 30/6/1997 المدينة عدد المصانع رأس المال (ألف جم) الإنتاج (ألف جم) عدد العمال المسجلين العاشر من رمضان 305 1.548.373 1.406.646 15.180 السادس من أكتوبر 334 2.291.535 3.371.716 36.333 السادات 109 532.798 926.690 6.867 برج العرب 118 281.222 291.403 4.953 الصالحية الجديدة 33 80.511 225.133 1.401 دمياط الجديدة 81 55.813 64.987 1.791 بني سويف الجديدة 14 1.009 3.130 288 بدر 71 237.578 107.611 2.941 النوبارية الجديدة 17 21.421 97.295 417 العبور 19 29.975 6.300 469 الإجمالي 1.101 5.080.236 6.501.000 70.640 ج. الأزمة الاقتصادية العالمية والاقتصاد المصرى تتحدث أجهزة الإعلام والصحافة الحكومية ليل نهار حول صحة الاقتصاد المصري وإنجازاته العظيمة ونموه غير المسبوق. فالحكومة تزعم أن معدل نمو إجمالي الناتج المحلي المصري وصل إلى أكثر من 5% عام 1998، وأنه سيتخطى 7% في عام 1999 ، وأن هذه المعدلات العالية للنمو ستستمر في بدايات القرن الجديد، بل ستصل إلى قمم أعلى. وتضع الحكومة كل خططها الاقتصادية على أساس هذه التوقعات المتفائلة، فمشروع توشكى، ومشروع شرق العوينات، ومشروع خليج السويس وغيرها من الخطط الطموحة لن تكون ممكنة إلا في ظل نمو غير مسبوق للاقتصاد المصري. ويعتمد التفاؤل الحكومي على توقعين أساسيين. الأول هو أن الاستثمارات الأجنبية والمحلية ستستمر في التدفق لشراء القطاع العام والاستثمار في البورصة وإقامة المشاريع الصناعية والزراعية، ويستند هذا التوقع على تطورات النصف الأول من التسعينات والتي شهدت أكبر تدفق للاستثمارات إلى ما يسمى بالأسواق الناشئة، أي البلدان حديثة التصنيع. وخبرة النصف الأول من التسعينات كانت تشير إلى أنه كلما تبنت الحكومات سياسات التحرير الاقتصادي والخصخصة كلما تدفقت عليها الاستثمارات. وبالفعل، فحتى عام 1997-1998 كانت الاستثمارات الأجنبية تزداد بسرعة في السوق المصري، سواء في مجال شراء أسهم شركات القطاع العام أو في مجال المشاريع الصناعية، فقد ارتفع إجمالي الاستثمارات الأجنبية في مصر من حوالي 600 مليون جنيه في عام 1994، إلى حوالي 5 مليار جنيه مصري عام 1997. وتظل توقعات الحكومة مركزة في استمرار بل وتزايد هذه التدفقات. والتوقع الآخر هو الزيادة في قدرة الاقتصاد المصري على التصدير، فالمشاريع الزراعية العملاقة والمشاريع الصناعية الخاصة ستلعب في خطة الحكومة دورا رائدا في مضاعفة قيمة الصادرات المصرية. ويعتمد التوقعان (زيادة الاستثمارات وزيادة الصادرات) على خبرة بلدان جنوب شرق آسيا خلال التسعينات، وعلى تصور استمرار انتعاش وتوسع السوق العالمي. ولكن هذه التوقعات تصطدم بالأزمة العنيفة التي يعاني منها الاقتصاد العالمي، وخاصة الأسواق الناشئة فيه. إن فهم ما يحدث في الاقتصاد العالمي اليوم يجعل توقعات وتصريحات الحكومة أقرب إلى الكوميديا أو الخيال العلمي منها إلى الواقع. فالحكومة تتحدث وكأن الاقتصاد المصري جزء من اقتصاد كوكبي آخر غير الأرض، ففي حين تنهار بلد تلو الأخرى في دوامة الأزمة والركود تتوقع الحكومة المصرية أن تظل وحدها في حالة انتعاش ونمو. لنلقي نظرة على ما يحدث في الاقتصاد العالمي وتأثيرات ذلك على الاقتصاد المصري في الفترة القادمة. تتطور الأزمة الاقتصادية العالمية بسرعة مذهلة منذ نهاية 1997، وتهدد بكوارث أعنف كثيرا من أكثر التنبؤات تشاؤما. وتشير التقديرات الحالية إلى أن حوالي 50% من بلدان العالم في حالة ركود عنيف وانكماش اقتصادي. وإذا استمر الوضع كما هو عليه في اليابان وجنوب شرق آسيا وروسيا والبرازيل، وإذا انضم الاقتصاد الأمريكي إلى نادي الركود سيؤدي ذلك إلى انخفاض الناتج العالمي الإجمالي في عام 1999-2000 لأول مرة منذ 60 عاما ، وقد أصبحت التحليلات الاقتصادية لهذه الأسباب تتحدث عن إمكانية حدوث كساد عالمي كبير، ربما يكون أشد عنفا من الكساد الكبير في الثلاثينات. وإذا نظرنا إلى الاقتصاد الياباني، وهو ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي، نجده يدخل في مرحلة خطيرة من الأزمة، فقد انكمش الاقتصاد الياباني بنسبة 3.3% من إجمالي الناتج المحلي في عام 1998 مما يؤدي إلى عواقب مدمرة على الصناعة اليابانية، فشركة تاو للحديد والصلب مثلا وهي من أكبر ثلاث شركات حديد في العالم أعلنت في نهاية 1998 أنها على وشك الإفلاس، مما يشكل أكبر فشل لشركة صناعية يابانية منذ الحرب العالمية الثانية. وقد كانت التوقعات في بداية 1998 تشير إلى أن الركود سيكون مركزا في القطاع المالي والتجاري ولكنه الآن انتشر سريعا إلى القطاع الصناعي وقد وصل معدل البطالة في اليابان إلى 4.5% حسب تقدير الحكومة اليابانية، ولكن هذه النسبة تصل إلى 10% إذا ما تم تحديدها بنفس المعايير الأوروبية والأمريكية. مثل آخر على سرعة تطور الأزمة هو ما يحدث لشركة هيتاشي العملاقة، فقد حققت هذه الشركة 3.48 مليار ين من الأرباح في 1997، في حين حققت نفس الشركة في عام 1998 خسائر تقدر بـ 250 مليار ين، مما يعني إغلاق عشرات المصانع في اليابان ومئات المصانع في جنوب شرق آسيا. وتهدد الأزمة التي اجتاحت جنوب شرق آسيا وأدت إلى انهيار اقتصادات إندونيسيا وتايلاند وماليزيا بإغراق الصين. فهناك ضغط شديد الآن على الحكومة الصينية لتخفيض قيمة العملة (الرينمنبي) بالنسبة للدولار. والمشكلة بالنسبة للحكومة الصينية هي أنه إذا لم تخفض قيمة العملة ستصبح صادرات الصين أغلى من صادرات الدول التي تم فيها تخفيض قيمة العملة إلى أقل من النصف مما يهدد بأزمة فائض إنتاج عميقة في الصين وبالتالي إلى ركود شديد. أما إذا تم تخفيض قيمة العملة ستكون النتيجة هروب واسع النطاق وسريع لرأس المال الأجنبي، وأيضا قطاعات من رأس المال الصيني خاصة التجاري والمالي، مما يهدد بانهيار اقتصادي شبيه بالذي حدث في تايلاند وإندونيسيا. ولكن ماذا عن الاقتصاد الأمريكي وهو أكبر وأهم اقتصاد في العالم؟ لم تعد الطبقة الحاكمة الأمريكية تؤمن بإمكانية تجنب الأزمة العالمية، وقد أعلن آلان جرينبان، رئيس البنك المركزي الأمريكي، في سبتمبر 1998 أن أمريكا لن يمكنها أن تبقى واحة رخاء في عالم يعاني من ضغوط شديدة ومتزايدة. وأكثر ما يهدد الاقتصاد الأمريكي الآن هو التطورات في أسواق المال في أمريكا اللاتينية، فمع نهاية 1998 انخفضت البورصات في أمريكا اللاتينية بنسبة 60%، وقد أثرت هذه التطورات بشكل مباشر في الاقتصاد الأمريكي، فأكثر من 40% من الصادرات الأمريكية تذهب إلى أمريكا اللاتينية، والبنوك الأمريكية الكبرى أكثر ارتباطا بهذه المنطقة من ارتباطها بأسواق آسيا. ولكن الشيء الذي يخيف الطبقة الحاكمة الأمريكية هو التطورات في البرازيل، فالبرازيل هي أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، وهي مسئولة عن 45% من الناتج الإجمالي للقارة، وقد اضطرت الحكومة البرازيلية لتخفيض قيمة عملتها مما أدى إلى هروب واسع لرأس المال وانهيار العملة إلى أقل من ثلثي قيمتها، وقد رفعت الحكومة معدل الفائدة إلى 50% في محاولة منها لإنقاذ العملة من المزيد من الانهيار، ولكن هذا الإجراء نفسه أدى إلى تضخيم العجز في الموازنة والذي وصل إلى أكثر من 20% من إجمالي الناتج المحلي، والوسيلة الوحيدة لتخفيض العجز والتي بدأت الحكومة في إتباعها هي تخفيض عنيف للإنفاق الاجتماعي ضاعف معدل البطالة وبدأت تخلق حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي. لقد بدأت دوامة الأزمة العالمية مع انهيار عملة البات التايلاندية في صيف 1997، ولكن في ذلك الحين لم يكن أحد من المحللين البرجوازيين يتوقع تطور الأزمة بالسرعة والشمول اللذين رأيناهما خلال عام 1998، فالكل كان يكتب عن أزمة مالية مؤقتة سيتم تجاوزها خلال عدة أشهر ويتم بعدها العودة إلى النمو السريع. إن التحليل الماركسي وحده هو القادر على الفهم المعمق للأزمة وطبيعتها، وبالتالي هو القادر على التنبؤ بتطوراتها، فانفجار الأزمة في آسيا وانتشارها عالميا يمكن فهمه من خلال دورة الركود والانتعاش التي كتب عنها ماركس ومشكلات فائض الإنتاج التي تخلقها هذه الدورة. كان اقتصاد جنوب شرق آسيا واليابان قد شهد نموا إنتاجيا سريعا في العقود الثلاثة الماضية، وقد أدى هذا النمو إلى تحولات واسعة النطاق، فقد أصبحت بلدان مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة مراكز صناعية رأسمالية متطورة، وقد ميز تطور الرأسمالية الصناعية في هذه البلدان اعتمادها الشديد على النمو التصديري، فاستطاعت أن تخلق لنفسها مكانا في السوق العالمي وأن تتحرك سريعا من الصناعات الأولية مثل النسيج والملابس إلى صناعات الحديد والصلب والسفن والإليكترونات والسيارات. ولكن هذا النمو اعتمد كليا على وجود سوق عالمي قادر على استيعاب هذه السلع المتزايدة، وهذا يعني أن أي انكماش لهذا السوق يؤدي إلى أزمة فائض إنتاج. وقد ظهرت بوادر هذا الانكماش في مارس 1997 في كوريا الجنوبية عندما أفلست شركة هانبو العملاقة للحديد والصلب وشركة كيا للسيارات. وكلما تفاقمت أزمة فائض الإنتاج كلما اضطر الرأسماليون لتخفيض أسعار السلع، وقد انخفض مثلا سعر المكونات الإليكترونية بنسبة 80% خلال عام 1998. كان التوسع الاقتصادي في اليابان شديد الاعتماد على قروض ضخمة من البنوك، وعندما أدى فائض الإنتاج إلى انهيار الأرباح لم تعد الشركات قادرة على دفع ديونها مما أدى إلى بداية سلسلة الانهيار المالي ومنه إلى أزمة اقتصادية معممة. وقد أدت الأزمة اليابانية وانهيار اقتصاد شرق آسيا إلى خفض الطلب على المواد الخام الأساسية وأهمها البترول الذي انهارت أسعاره سريعا رغم محاولات الأوبك لإنقاذها. وأدى انهيار أسعار البترول إلى تعميق الأزمة في روسيا، وفي بلدان أمريكا الجنوبية المعتمدة على تصدير البترول. إن العوامل الأساسية التي تعمق الأزمة العالمية الحالية هي أن النظام المالي أصبح عالميا، وحرية الحركة لرأس المال المالي أصبحت أحد أهم سماته، وهذا يعني أن تحريك الاستثمارات المالية من المناطق منخفضة الربحية إلى المناطق مرتفعة الربحية يحدث بشكل سريع ولا يمكن التحكم فيه، وقد شهدنا الهروب السريع وغير المسبوق لرأس المال المالي من أسواق جنوب شرق آسيا المنهارة إلى أسواق أوروبا وأمريكا الأقل تأزما خلال 1998. وإذا نظرنا إلى الأزمة الحالية بشكل تاريخي سنجد أن هناك ميل لانخفاض معدل الربح منذ أوائل السبعينات، وقد أدى هذا إلى فترات انتعاش قصيرة جدا وضعيفة يعقبها فترات ركود عنيفة، وفشل الرأسمالية في رفع معدلات الربح بشكل كافي يعني تكرار لفترات الركود العنيفة. ونحن الآن في بدايات رابع ركود عالمي منذ بداية السبعينات (73/74، 81/82، 91/92) وكل المؤشرات توضح أنه سيكون أعنف ركود، وهناك احتمالات تحوله إلى كساد عظيم مثل الذي شهده النظام العالمي في الثلاثينات. وإذا عدنا إلى الاقتصاد المصري فنجد النظام يدعي أنه استطاع بسياساته الحكيمة أن يجنب الاقتصاد المصري الدخول في الأزمة، والنظام يعتمد في زعمه على أن معدل النمو للاقتصاد المصري ما زال بالإيجاب (بين 3% و 5%) ومعدل التضخم لم يزد عن 5% في السنوات الثلاث الماضية، ولم يضطر النظام حتى الآن إلى تخفيض قيمة الجنيه، وهذه كلها حقائق ولكنها حقائق تشير ليس إلى عبقرية سياسات النظام ولكن إلى كون النظام قد فشل في الفترة السابقة في الاندماج في الاقتصاد العالمي، وتحويل مصر إلى بلد صناعية مصدرة. فإذا قلنا أن الأزمة في بلدان جنوب شرق آسيا هي أزمة فائض إنتاج فهذا الفائض هو نتيجة النمو السريع السابق لصناعة وصادرات هذه البلدان. ولكن نحن والحمد لله لم يحدث لدينا أي نوع من النمو في الصادرات (نسبة الصادرات المصرية من إجمالي التجارة العالمية انخفض من 0.27% إلى 0.1% ما بين 1970 و 1997). وبالتالي فلم يشكل انكماش الطلب في السوق العالمي أي ضغط يذكر على الاقتصاد المصري. ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أن الاقتصاد المصري، كما يزعم النظام، سيظل خارج نطاق الأزمة بل على العكس من ذلك، فسوف تكون آثار الأزمة العالمية شديدة العنف على الاقتصاد المصري في الحقبة القادمة، وهذا لعدة أسباب: أولاً: إن كل خطط النظام في الاستثمار معتمدة على دخول مكثف للاستثمارات الأجنبية إلى الاقتصاد المصري سواء في الأسواق المالية أو في المشاريع الكبرى، ولكن هناك اليوم هروب واسع النطاق من كل الأسواق الناشئة والسوق المصري لن يكون الاستثناء. ثانياً: إن استمرار انخفاض سعر البترول يشكل كارثة بالنسبة للاقتصاد المصري، فهناك ثلاثة مصادر أساسية للعملة الأجنبية تعتمد عليها الدولة، الأول هو تصدير البترول (60% من الصادرات)، والثاني رسوم قناة السويس، والثالث هو عائدات المصريين العاملين في الخليج، وهذه المصادر الثلاث معتمدة بالطبع على اقتصاد البترول، وانخفاض سعر البترول يعني تقليصا لهذه المصادر الثلاثة. ثالثاً: يشكل هذا التقليص بدوره ضغطا مضاعفا على الحكومة المصرية لتخفيض قيمة الجنيه، فالبنك المركزي يحافظ على قيمة الجنيه بالنسبة للدولار من خلال احتفاظه بمخزون ضخم من الدولارات واستخدام هذا المخزون لشراء الجنيهات المصرية لإبقائها عند نفس قيمتها بالنسبة للدولار. رابعاً: على الرغم من صغر حجم الصادرات المصرية، خاصة الصناعية منها، فالحكومة معتمدة على خطة تحويل الاقتصاد المصري نحو التصدير كحل وحيد لتنشيط الرأسمالية الصناعية في مصر. فالسوق المحلي محدود للغاية وينكمش سريعا بسبب سياسات التكيف الهيكلي، ولكن فرص زيادة التصدير أصبحت معدومة في الفترة القادمة، ليس فقط لأن السوق العالمي ينكمش ولكن أيضا لأن دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية اضطرت لتخفيض قيمة عملاتها لأقل من النصف في كثير من الحالات، وبالتالي أصبحت سلعها أرخص كثيرا مما كانت عليه من قبل، فكيف يمكن للسلع المصرية أن تكون منافسة اليوم وهي لم تكن قادرة على ذلك حتى بالأسعار القديمة؟! خامساً: إن كل المشروعات العملاقة التي تقوم بها الدولة اليوم من موانئ في خليج السويس إلى مشاريع صناعية وزراعية ضخمة في توشكى، ومشروعات سياحية واسعة النطاق في سيناء والساحل الشمالي، كل هذه المشروعات تعتمد تماما على توقعات نمو طويل المدى في الاقتصاد المصري والعالمي، فالموانئ تعتمد على زيادة في التجارة العالمية (خاصة بين جنوب شرق آسيا وأوروبا) وهو ما ينخفض بشكل غير مسبوق اليوم. والمشروعات الزراعية تعتمد على زيادة الطلب العالمي على منتجاتها ونفس الشيء بالنسبة للسياحة. إن الاندماج في الاقتصاد العالمي وهو في لحظة كساد سيعني تحول كل هذه المشروعات إلى مدن أشباح، وسيعني أيضا انهيار البنوك التي قامت بتمويلها. سادساً: هناك انهيار عام في أسعار السلع الأساسية عالميا، وهذا يشمل البترول والمنتجات الزراعية والمعادن التي انخفضت أسعارها بنسب تتراوح بين 50 و 70% خلال التسعينات. وهذا التطور يحدث في نفس الوقت ال كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير - Arabia Felix - 02-17-2005 شكرا روزا(f) المقدمة والجزء الثاني مهم بالنسبة لي.. ساعيد القراءة :kiss2: كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير - روزا لوكسمبرج - 02-17-2005 اجمل تحية لك ياجميلة.. أنقل لكم اليوم المقال الثاني وهو كتاب "القضية الفلسطينية رؤية ثورية" وهو الجزء الثاني من كتاب طريق الإشتراكيين للتغيير" (f) كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير - روزا لوكسمبرج - 02-17-2005 [CENTER]القضية الفلسطينية .. رؤية ثورية خالد حداد يتناول هذا المقال أحد أهم جوانب القضية الفلسطينية وهو "حركة المقاومة الفلسطينية" منذ العشرينيات من هذا القرن وحتى الانتفاضة، والهدف من ذلك هو تحليل الدور الخلفي لعبته مختلف القوى الطبقية السياسية فى المقاومة ثم استخدام هذا التراكم المعرفي لمحاولة طرح رؤية جديدة واستراتيجية بديلة للحركة فى الأعوام المقبلة. ينقسم المقال إلى أربعة أجزاء .. حيث سنعرض أولا: المسألة اليهودية فى أوروبا ونشأة الصهيونية ثانيا: الصراع فى فلسطين قبل نكبة 1948، ثالثا: ظهور حركة "فتح" فى الشتات الفلسطيني والدور الذي لعبته فى حركة المقاومة حتى خروجها من لبنان عام 1982، ورابعا وأخيرا: الانتفاضة وتوابعها في المنطقة ومحاولة طرح استراتيجية بديلة. المسألة اليهودية ونشأة الصهيونية سوف نعتمد فى هذا الجزء من المقال بالأساس على أطروحة المناضل "أبراهام ليون" فى محاولة لاستعراض تاريخ وأسباب المسألة اليهودية، وكان ليون قد انطلق فى دراسته المستفيضة عن تاريخ اليهود محاولا إثبات أن استمرارية تواجد الثقافة اليهودية والترابط الاجتماعي بين أفرادها ليس له أية أسباب دينية أو خصوصية عرقية بل له صلة أساسية بالدور الاقتصادي الذي لعبه اليهود فى العالم القديم وفى عصر الإقطاع. وقد نجح "ليون" فى التوصل إلى نتائج هامة فى دراسته، إذ خلص إلى أن الطبيعة الجغرافية للمناطق التي سيطر عليها اليهود قديما فى فلسطين دفعتهم إلى العمل بالتجارة بدلا من الزراعة، فشهرة التاجر اليهودي ليس لها علاقة بالثقافة اليهودية أكثر من علاقتها بالطبيعة المادية لفلسطين فى العالم القديم، وبالإضافة إلى ذلك فقد حَرَم الاقتصاد العبودى الروماني قطاعات كبيرة من المجتمع الروماني من ممارسة مهنة التجارة، فمثلا مُنع أبناء الأرستقراطية الرومانية من امتلاك السفن التجارية، وقد أدى ذلك إلى تدخل اليهود لملء هذا الفراغ ونشطوا كجماعات تجارية مميزة. وتشير بعض الدراسات إلى أن الشتات اليهودي (الدياسبورا) بدأ قبل انهيار المعبد الثاني على يد الرومان عام 70 م، فاليهود كانوا بالفعل منتشرين فى أرجاء الإمبراطورية الرومانية فى مهام تجارية. ومع سقوط النظام العبودى وانتشار نمط الإنتاج الإقطاعي الزراعي فى أوروبا ظهر اليهود كجماعة وظيفية لا غنى عنها للطبقات الحاكمة الإقطاعية. ونشط اليهود فى جلب التحف والمقتنيات الثمينة من الشرق إلى الغرب وبدءوا يلعبون دورا حيويا فى المعاملات المصرفية كإقراض النقود والربا ، وقد تسابق الملوك والأمراء فى استضافتهم فى ممالكهم وإماراتهم من أجل تنشيط اقتصادهم ولتمويل الحروب التي كانوا يخوضونها‘ بل واتجهت جماهير المسيحيين الفقراء للاستدانة من اليهود أيضا لدفع الضرائب الباهظة التي كان الإقطاعيون يفرضونها. أدى اقتصار اليهود على لعب دور واحد فى الاقتصاد الإقطاعي إلى ظهورهم كجماعة مميزة عن باقي الفلاحين المسيحيين، أي أنهم قد شكلوا (طبقة داخل شعب) فى المجتمع الأوربي كما وصفهم أبراهام ليون. وبالطبع أثناء وقوع الثورات والانتفاضات الفلاحية كان اليهود هدفا سهلا لهجوم الجماهير وغضبهم بسبب ثرواتهم وإثقالهم لكاهل العامة بالديون. ولكن ومع انتهاء مرحلة الإقطاع وبدء انتشار نمط الإنتاج الرأسمالي بدأت تظهر طبقة جديدة من التجار المسيحيين الذين رأوا فى اليهود منافسين يجب الإطاحة بهم، ومن هنا بدأت حملات العداء للسامية فى التصاعد فى أوروبا. ومع تطور الرأسمالية وقيام الثورة الصناعية تفتت المجتمع اليهودي فى أوروبا الغربية وفقد وحدته وتفرق أعضاؤه ما بين الطبقات المختلفة من برجوازية وطبقة وسطى وطبقة عاملة. وبدأت عملية (اندماج) اليهود فى المجتمعات الأوربية على مستوى واسع، وهدأت لفترة حدة معاداة السامية، أما فى أوربا الشرقية حيث التعداد الهائل لليهود والتي بدأت التصنيع مؤخرا فقد كان الحال مختلفا، إذ جاءت عملية التفتيت أكثر قسوة ووحشية، واستخدمت الطبقات الحاكمة هناك اليهود ككبش فداء للأزمات الاقتصادية العنيفة والظروف المعيشية السيئة التي عاشتها الجماهير، فمورس أشد أنواع القهر ضد اليهود وتم تنظيم حملات مذابح بربرية ضدهم فى بولندا وروسيا وأوكرانيا، فنزح عشرات الآلاف منهم فرارا من الموت متجهين إلى دول أوربا الغربية (5). وبالطبع لم يرحب أحد فى الغرب بهذا الجيش هائل الحجم من اللاجئين، فقد رأت الطبقات الحاكمة فى أوربا فيهم (فائضا بشريا) يمثل عبئا على اقتصادها وكانت تلك هي نظرة يهود البرجوازية والبرجوازية الصغيرة فى الغرب أيضا فاللاجئين من اليهود الشرقيين كانوا فى نظرهم (أجلافا غير متحضرين) ويمثلون خطرا على جهودهم الرامية إلى الاندماج فى مجتمعاتهم(6) . وما لبثت الطبقات الحاكمة أن عملت على إذكاء مشاعر معاداة السامية مرة أخرى لتشتيت انتباه الجماهير عن ممارساتها القهرية وتوجيه مشاعر غضبهم وإحباطهم بعيدا عنها وباتجاه اليهود متبعة سياسة (فرق تسد). وقد تواكبت تلك الظروف مع بزوغ ظاهرتين جديدتين هما: الدولة القومية والإمبريالية، فمع التوسع الهائل الذي شهدته الرأسمالية بعد منتصف القرن التاسع عشر دخلت القوى الأوربية فى تنافس محموم على المستعمرات لفتح أسواق جديدة تستطيع فيها تصريف فائض إنتاجها والحصول على المواد الخام بأسعار رخيصة. جاءت القومية اليهودية كرد فعل لفقدان الأمان والثقة فى المجتمع الأوربي، ولكنها فى نفس الوقت كانت (مرآة) لهذا المجتمع. وقد نادى القوميون اليهود بضرورة فصل اليهود عن سائر أفراد المجتمع، وأكدوا على ضرورة تنظيم اليهود ذاتيا وبعيدا عن باقي التنظيمات الاجتماعية/ السياسية الموجودة(7). ومن رحم معاداة السامية وانتشار الفكر القومي والمد الاستعماري ولدت الصهيونية. وجاء أقوى تعبير عنها على يد "تيودور هرتزل" مؤسس الصهيونية السياسية. كان هرتزل صحفياً يهودياً من النمسا، تمتع بشهرة لا بأس بها فى الأوساط الأوروبية لاسيما بعد تغطيته لأحداث قضية "دريفوس" بباريس عام 1894، فقد اُتهم الكولونيل اليهودي الفرنسي "ألبرت دريفوس" زورا بالعمالة لصالح ألمانيا. وفجرت فضيحة اتهامه ألغاما من الموضوعات الحرجة والشائكة فى المجتمع الفرنسي مثل معاداة السامية والفساد. وتمت إعادة محاكمته وتبرئته بعد اندلاع حملة تضامن قوية بدأها الكاتب (الفرنسي) إميل زولا ونشرها التيار الاشتراكي فى أنحاء أوروبا. وجاءت البراءة كضربة موجعة لليمين الفرنسي والكنيسة الكاثوليكية والمؤسسة العسكرية الفرنسية(8). فماذا كان رد فعل هرتزل تجاه ما حدث؟ كتب يقول فى مذكراته: فى باريس اتخذت تصرفاتي طابعاً متحرراً تجاه معاداة السامية التي بدأت أفهمها فى سياقها التاريخي وأتفهمها. وفوق كل ذلك أدركت عبث محاولة مقاومة معاداة السامية(9). ويعد "تفهم" هرتزل لمعاداة السامية الفرضية الأساسية التي تنطلق منها الصهيونية، فالصهاينة يرون أن معاداة السامية شئ أزلي وأنه لا يمكن حدوث توافق بين اليهود وغير اليهود. وفى كتابه "دولة اليهود" أكد هرتزل على أن اليهود الذين سوف يندمجون هم الأغنياء فقط، ونبه إلى خطورة الهجرة اليهودية الضخمة الآتية من الشرق وعن حتمية تسببها فى مشاكل لليهود الأثرياء، كما عبر عن قلقه إزاء انضمام الكثير من الشباب اليهودي للحركات الاشتراكية الثورية، ورأى هرتزل الحل هو أن يتم تهجير اليهود خارج أوروبا وإقامة دولة لهم تتمتع برعاية القوى الإمبريالية الأوربية (10). وشهد عام 1897 انعقاد أول مؤتمر صهيوني فى مدينة بازل بسويسرا حضره مئتا عضو من 17دولة وتم الإعلان عن ولادة المنظمة الصهيونية العالمية. وفى الوقت نفسه اتجه هرتزل بمشروعه بدق باب جميع الدول الاستعمارية بما فيها اشد الحكومات معاداة للسامية. فحاول أن يفاوض السلطان العثماني والملك الإيطالي "إيمانويل الثالث" وقيصر ألمانيا والحكومة البريطانية، بل ووصل به الأمر إلى مفاوضة (فياشسلاف فون بليهف) وزير الداخلية فى روسيا القيصرية ومدبر إحدى أبشع المذابح لليهود فى الإمبراطورية الروسية عام 1903!! (11). ولم يكن هرتزل مكترثا بموقع الدولة اليهودية الاستيطانية فقد فكر فى إقامتها فى شبه جزيرة سيناء، أو منطقة العريش، أو أوغندا، أو قبرص، أو الكونغو البلجيكي، أو موزمبيق، أو العراق، أو ليبيا، أو فلسطين(12). ولكنه كان يضع نصب عينيه المصالح الإمبريالية ومدى مواءمتها مع الموقع المختار. لم يحاول هرتزل إخفاء الطبيعة الاستعمارية لمشروعه هذا وأثناء التفكير فى أوغندا كموطن قومي لليهود كتب فى رسالة لصديقه الحميم "ماكس نوردو" يقول فيها أنه ينبغي على اليهود: أن ينتهزوا الفرصة المواتية ليصبحوا إنجلترا صغيرة…. لنبدأ بالحصول على مستعمراتنا أولا، وبقوة هذه المستعمرات سنقوم بغزو وطننا. ولتكن الأرض التي تقع ما بين الكلمنجارو وكينيا أولى مستعمرات إسرائيل. وليكن هذا هو الأساس الذي تقف عليه صهيون (13). وفى سعيه لإقامة دولته الاستيطانية دعا هرتزل الحركة الصهيونية لإتباع نفس أساليب الدول الاستعمارية فاقترح إنشاء (شركة يهودية) على غرار الشركات الاستعمارية البريطانية -مثل شركة الهند الشرقية – لتكون طليعة استيطانية وتمهد البنية التحتية الأساسية للدولة الجديدة، وأكد مرارا عند تعريفه للصهيونية "أنها فكرة استعمارية"(14). ولاحقا كتب الزعيم الصهيوني "حاييم وايزمان" أنه لو لم توجد فلسطين لكان من الضروري خلقها من أجل مصلحة الإمبريالية(15). لم تتفق الحركة الصهيونية على اختيار القوة الإمبريالية التي ستلجأ لها أو حتى موقع الدولة الاستيطانية الجديدة. فقد نشأت فصائل وأجنحة متنازعة بداخل الحركة نادى بعضها ببريطانيا كقوة حامية للمشروع الصهيوني فى حين فضل البعض الآخر ألمانيا،أو فرنسا، أوحتى الإمبراطورية العثمانية. نفس الشيء بالنسبة لموقع الدولة الجديدة فقد فضل البعض فلسطين فى حين نادى آخرون بإقامة الدولة فى أوغندا ورأت بعض الفصائل ليبيا والعراق والكونغو كبدائل مناسبة أيضا، إلا أن الذي حسم الخلاف حول دولة الحماية وموقع الوطن القومي هو توازنات القوى الإمبريالية العالمية بعد الحرب العالمية الأولى، فقد انتصر التيار الصهيوني الذي تزعمه "حاييم وايزمان" رئيس المنظمة الصهيونية العالمية والمنادى بالاستعانة ببريطانيا إثر خروجها بعد الحرب العالمية الأول كأقوى دولة إمبريالية فى العالم.وكانت بريطانيا قد بدأت تتحمس للمشروع الصهيوني منذ أواخر القرن التاسع عشر ووجدته ملائما لمصالحها الاستعمارية فى الشرق وبالذات فلسطين، فوجود دولة يهودية عميلة فى الشرق الأوسط بات ضروريا لحماية مصالحها فى تلك المنطقة المشتعلة بحركة وطنية عنيفة بمصر وحركة قومية عربية ثورية بالشام، إذ ستقوم تلك الدولة مستندة بقوة السلاح بحماية خطوط الاتصال والسكك الحديدية التي تربط بين أنحاء الإمبراطورية البريطانية وستعمل على تأمين قناة السويس أهم طريق يربط بين الشرق والغرب، وازدادت بريطانيا هرولة تجاه المشروع الصهيوني مع بدء ظهور اكتشافات بترولية فى منطقة بلاد فارس (إيران) التي كانت تعانى أيضا من عدم استقرار فى الوضع السياسي (16). ووجود اليهود فى تلك المنطقة سيفتح أيضا أسواقا واسعة للمنتجات الأوربية. ولم يحسم الأمر سوى ذلك الرعب الشديد الذي شعرت به الطبقة الحاكمة الإنجليزية وباقي الطبقات الحاكمة الأوربية تجاه التحولات الثورية التي كانت تحدث فى روسيا. فشرارة الثورة الأولى فى فبراير 1917 أوضحت جليا إمكانية تطور مجرى الأحداث إلى ثورة اشتراكية تهز دعائم الحكم فى أوروبا والعالم. وبالتالي أصبح دعم الحركة الصهيونية فى أوروبا شيئا حيويا لمحاولة احتواء العمال اليهود (والذين انخرط منهم مئات الآلاف فى مختلف الحركات الثورية) (17)، وأصبح إنشاء دولة تلعب دور قاعدة للإمبريالية فى (الشرق الأوسط) أمرا ضروريا لمحاولة احتواء توابع الثورة ومنع انتشارها فى تلك المنطقة.وليس مستغربا إذن أن يصدر "وعد بلفور" المؤيد لإنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين فى 2 نوفمبر 1917- آي عشية الثورة البلشفية(18). وتكلم اللورد "ونستون تشرشل" عضو البرلمان البريطاني -والذي أصبح لاحقا رئيس الوزراء- مدافعا عن وعد بلفور بقوله أن إنشاء دولة يهودية تحت حماية التاج البريطاني يعد مفيدا للغاية من جميع الجوانب ومتوائما مع المصالح الحقيقية للإمبراطورية البريطانية والتي من أهمها (تدمير مخططات الثوري الروسي ليون تروتسكى الرامية لإنشاء دولة شيوعية عالمية يسيطر عليها اليهود) (19). ويفوح كلام تشرشل هنا ليس فقط برائحة صهيونية نتنة بل وبرائحة معادية للسامية، ومن الأمور المثيرة للسخرية أنه منذ نشأة الحركة الصهيونية وحتى الحرب العالمية الثانية تمتعت الحركة الصهيونية بتأييد ضئيل للغاية فى الأوساط اليهودية، إلى الحد الذي دفع وايزمان للاعتراف بأن: وعد بلفور كان (مبنيا على الهواء)، وروى أنه عام 1927 كان يرتعد خشية أن تسأله الحكومة البريطانية عن مدى تأييد اليهود للحركة الصهيونية، فهي كانت تعلم أن "اليهود ضدنا.. كنا وحدنا نقف على جزيرة صغيرة، مجموعة صغيرة من اليهود لهم ماض أجنبي" (20). فضلت الغالبية العظمى من يهود العالم البقاء فى أوطانهم وعدم الهجرة إلى فلسطين، وتحت ضغوط المذابح والقهر كانت أقلية منهم هي التي تهاجر إلى فلسطين فى حين أن الجميع كانوا يفضلون الهجرة إلى أمريكا الشمالية، ففي الفترة (1880/1929) هاجر حوالي 4 ملايين يهودي من أوروبا الشرقية: 120ألف يهودي اتجهوا إلى فلسطين فى حين اتجه أكثر من ثلاثة ملايين يهودي إلى الولايات المتحدة وكندا، وبلغ عدد أعضاء المنظمات الصهيونية فى أمريكا عام 1914 حوالي 12 ألف عضو وهو ما كان يعادل الأعضاء اليهود فقط فى فرع الحزب الاشتراكي بمنطقة (لوّر إيست سايد) فى حي مانهاتن بنيويورك! (21). بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين فى أواخر القرن الماضي على نطاق ضيق جدا وقد اكتشف المستوطنون (الرواد) فور وصولهم كذب الشعار الصهيوني القائل بأن أرض فلسطين أرض بلا شعب‘ إذا وجدوا هناك شعبا عربيا يفلح الأرض ويعمرها مثلما فعل جدوده منذ آلاف السنين بل ووجدوا فلسطين من أكثر مناطق البحر المتوسط تكدسا بالسكان. ففي عام 1914 كانت الكثافة السكانية تساوى 20.29 شخص فى الميل المربع فى حين كانت الكثافة فى سوريا ولبنان 8.53 وتركيا 10.67!! (22). تزايدت الهجرة بعد وعد بلفور فوصل عدد المهاجرين فى الفترة من 1919/1923 حوالي 34 ألف مهاجر ، ووصل 34 ألف مهاجر آخر عام 1925، وبحلول عام 1927 وصل حجم التواجد اليهودي بفلسطين إلى 150ألف شخص يمثلون حوالي 16% من تعداد السكان فى فلسطين التي بلغ حوالي مليون نسمة (23). بدأ المستوطنون الصهاينة حملة واسعة لشراء الأراضي من ملاك الأراضي العرب الغائبين بالإضافة لاستخدام أساليب ملتوية لانتزاع الأراضي من الفلاحين الفلسطينيين مستخدمين سلطات الانتداب البريطاني والإرهاب. منذ البداية لجأت الحركة الصهيونية لإقامة مجتمع يهودي منفصل تماما عن المجتمع العربي بفلسطين من جميع الجوانب وبالذات الجانب الاقتصادي، فقد حرص الصهاينة على أن يتم استبعاد العرب كليةً من الأنشطة الاقتصادية، ولهذا الغرض تم إنشاء "الهستدروت " (الاتحاد العام للعمال العبريين فى فلسطين). لم يكن الهستدروت نقابة عمالية بالقدر التي كان فيه المؤسسة القيادية والعمود الفقري للاقتصاد الاستيطاني(23). رفع الهستدروت من البداية شعار (أرض يهودية - عمل يهودي - منتج يهودي) فقد كانت مهمته الأساسية هي التأكد من أن مجتمع المستوطنين تتم خدمته بواسطة عمال ومنتجات يهودية وحرص على أن يفصل فى مواقع العمل بين العمال العرب والعمال اليهود (24).أطلق "بن جوريون" رئيس الهستدروت على هذه الاستراتيجية اسم (تهويد العمل) وتتلخص فى استعمال العنف لمنع صاحب العمل القومي من تشغيل أى عامل عربي فى أعماله الخاصة والتجارية وخاصة فى المناطق التي سيطر عليها المستوطنون. أما فى المناطق المشتركة بين العرب واليهود والتي قد يضطر فيها صاحب العمل اليهودي إلى تشغيل أيدي عاملة عربية فعليه أن يدمغ السلع التي تنتجها أيدي عربية ويهودية مشتركة بدمغة خاصة، وأن يبيعها بسعر أقل مما يماثلها من السلع التي تنتجها الأيدي اليهودية فقط، وقد قام الهستدروت بتكوين حاميات مسلحة من أجل تفتيش المزارع والأسواق بحثا عن العمال العرب وتغريم صاحب العمل اليهودي (25).وكان من المألوف أن تندلع مظاهرات صاخبة أمام المزارع التي تجرأ أصحابها وسمحوا للعمال العرب بالعمل بها للمطالبة بفصل هؤلاء العرب، أو رؤية شبان يتجولون بالأسواق اليهودية التي تعج ببائعات الخضراوات والبيض ويقوم هؤلاء الشبان بتحطيم بيض إحدى البائعات وصب زيت برافين على خضراواتها لاكتشافهم أنها عربية، وفى الفترة 1936/1939 قام طلاب الجامعة العبرية بالقدس بمظاهرات عنيفة متواصلة ضد نائب رئيس الجامعة الدكتور "ماجنس" لقيامه باستئجار بيتا من مالك عربي! بل وفى حادثة مشهورة فى تل أبيب عام 1945 تمت مهاجمة إحدى المقاهي وتحطيمها تماما بعد انتشار الشائعات أن هناك عربي يغسل الصحون فى أحد أركان مطبخها الخلفي! (26). وبفضل هذه السياسات نجحت الصهيونية فى احتواء الطبقة العاملة اليهودية، هذا بالإضافة إلى أن العامل اليهودي قد أصبحت له مصلحة مادية فى استبعاد الفلسطيني فمن أجل إيجاد مكان فى فلسطين لليهودي القادم من أوروبا كان يجب أن يطرد فلاحين فلسطينيين لإقامة مستوطنة، ولهذا لا يمكن وصف الطبقة العاملة اليهودية فى فلسطين بالـ "تقدمية" ولا يمكن تعليق آمال كبرى عليها فى إحداث تغييرات ثورية بالمنطقة، وفى نفس الوقت نجد أنه من السخف بل من الغباء أن ننساق وراء تلك الشعارات التي رددها اليسار الستالينى العربي فى 1948 الداعية لوحدة العمل اليهودي والعربي أو الشعارات التي يرددها الآن أشباه المثقفين من مجموعة "كوبنهاجن" حول ضرورة الإتصال باليسار الإسرائيلي "التقدمي" (الذي هو فى حقيقة الأمر لا يعدو كونه يسارا صهيونيا). وفى فترة أواخر العشرينات تعرض مجتمع المستوطنين اليهودي (اليشوف) لأزمة اقتصادية عنيفة وركود فى الهجرة وارتفاع رهيب فى نسبة البطالة‘ إلا أن صعود النازية والفاشية إلى الحكم فى أوروبا أدى إلى تدفق المهاجرين كالطوفان إلى روسيا وفلسطين خاصة بعد أن أغلقت الدول الأوربية الأخرى أبوابها أمامهم، فوصل عدد المستوطنين إلى 443 ألف شخص بحلول منتصف الثلاثينات (27).واختلفت نوعية المهاجرين أيضا، فمن بين الفارين من جحيم الفاشية فى أوربا كانت هناك قطاعات واسعة من المهنيين ورجال الأعمال الأمر الذي نتج عنه انتعاش اليشوف ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، فالفترة (1925/1929) بلغ فيها حجم الاستثمارات اليهودية مليون جنيه فلسطيني‘ وقد قفز هذا الرقم إلى 7 مليون فى الفترة (1933/1939) (28). واشتد عود المجتمع الصهيوني وبدأت تنظيماته المسلحة تزداد قوة بفضل الانتعاش الاقتصادي والرعاية البريطانية‘ فقد قام البريطانيون بإنشاء وحدات "الهاجاناه" فى العشرينات لتكون القوة الضاربة لها وللصهاينة فى مواجهة الفلسطينيين وبدأت هذه الوحدات تكتسب طابعا نظاميا بحلول عقد الثلاثينات وشاركت ضمن صفوف الجيش البريطاني فى الحرب العالمية الثانية. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وكشف النقاب عن فظائع النازية وإحراق ما يقرب من ستة مليون يهودي فى أفران الغاز، اندفع اليهود يؤيدون الصهيونية إذ شعروا أنها صادقة فى شعارها القائل باستحالة التوافق بين اليهودي وغير اليهودي، إلا أن ذلك التأييد لم يأخذ أساسا شكل الهجرة إلى فلسطين (وهو ما كان الصهاينة يحلمون به)ولكنه أخذ شكل التأييد المادي والمعنوي، واستمرت الغالبية العظمى من اليهود المهاجرين فى الاتجاه إلى أمريكا بدلا من فلسطين. وقد حاولت الحركة الصهيونية على مدار تاريخها طمس الدور الحيوي الذي لعبه اليهود فى الحركة الاشتراكية في سعيها لتقديم نفسها كالتراث الوحيد القادر على (تحرير) اليهود. وكانت الحركة الاشتراكية قد أولت منذ نشأتها اهتماما خاصا بقضية معاداة السامية، وأكدت على ضرورة الربط بين مواجهة معاداة السامية وتحرر الطبقة العاملة نظرا لأن اليهود قد كونوا جزءً عضويا من الطبقة العاملة الأوروبية وأن معاداة السامية أحد صور التمييز التي تستخدمها الطبقات الحاكمة لتفريق صفوف العمال وتشتيت انتباههم، وقد لعب الكثير من اليهود دورا مهما فى تأسيس وقيادة الأحزاب الاشتراكية فى أوروبا والعالم وانخرط مئات الآلاف منهم فى مختلف الحركات الثورية إلى الحد الذي دفع بوزير مالية روسيا القيصرية الكونت "ويت" إلى الشكوى لهرتزل بأن اليهود يشكلون 50% من أعضاء الأحزاب الثورية الروسية بالرغم من كونهم يمثلون 5% فقط من تعداد سكان الإمبراطورية الروسية! (29)، أحد هذه الأحزاب هو "بوند" (الرابطة العامة للعمال اليهود) التي تم إنشائها عام 1897 لتصبح أول حزب اشتراكي جماهيري فى روسيا، وقد عارضت البوند الصهيونية بشدة ورفضت فكرة إقامة دولة يهودية، وربطت عضويا بين الثورة الاشتراكية وتحرر اليهود، وقد تمتعت البوند بتأييد كاسح فى أوساط العمال اليهود ووصل عدد أعضائها وقت قيام الثورة الروسية الأولى عام 1905 إلى 40ألف عضو، وتبوأت البوند مواقع قيادية كثيرة وقت الأزمات الثورية، على أن فكرها قد احتوى على ملامح قومية يهودية إذ دعت لتنظيم العمال اليهود ذاتيا والحفاظ على استقلالية تنظيمية فى الحركة والشيء الذي رفضه لينين وتروتسكى وباقي البلاشفة والاشتراكيين لتعارضه مع مبدأ الأممية، وانتقد لينين البوند حيث ستؤدى سياستها لتكريس عزلة اليهود بالدعوة لفكرة الأمة اليهودية وكتب لاحقا يقول أن مهمة الاشتراكيين ليست التفريق بين الشعوب بل توحيد عمال جميع الشعوب، ثم استطرد قائلا:"لا تحمل لافتتنا شعار الثقافة الوطنية بل الثقافة الأممية" (30). ولاحقاً أثبتت ثورة أكتوبر 1917 صحة الاستراتيجية الاشتراكية التي اتبعها لينين والبلاشفة تجاه المسألة اليهودية، فما أن قامت الثورة فى روسيا (تلك البلد ذات التاريخ الطويل فى اضطهاد اليهود وقهرهم) حتى اختار العمال الروس ثوارا يهودا من البلاشفة لقيادة الحكومة الثورية الجديدة مثل تروتسكى وكامينيف و زينوفيف وسيفردالوف وأعلنت الثورة حرية العقيدة وألغت العوائق التي وضعها القيصر على تعليم وسكن اليهود، وخلال فترة الحرب الأهلية (1918/1922) ضد جيوش الثورة المضادة التي ذبحت آلاف اليهود قام الجيش الأحمر الثوري بمعاقبة مرتكبي المذابح بصرامة وصلت أحيانا إلى عقوبة الإعدام، وفى ظل الحكومة العمالية تم الاعتراف بلغة الـ "ييديش" (التي كان يهود أوروبا يستخدمونها) (31).كإحدى اللغات الرسمية للدولة وتمت مساواتها بباقي اللغات، وأنشئت قوميسارية (مفوضية) للشئون اليهودية، وشكل الحزب البلشفي هيئة خاصة بالحزب تكون مهمتها كسب جماهير اليهود للاشتراكية، وشهدت السنوات الأولى للثورة ازدهارا غير مسبوق للـ "ييديش" وللحياة الثقافية اليهودية، ففي عام(1926/1927) كان نصف التلاميذ والطلبة اليهود يدرسون فى مدارس يكون التعليم فيها بلغة "الييديش" وقدمت عشرة مسارح للدولة عروضها بنفس اللغة(32)، وقد قررت البوند بعد الثورة حل نفسها والانضمام للحزب البلشفي ولكن تدهورت أوضاع اليهود لاحقا عندما انعزلت الثورة وانتصرت الثورة المضادة بقيادة ستالين على المعارضة اليسارية التي كان يقودها تروتسكى وقضت البيروقراطية الستالينية على جميع مكاسب العمال الثورية و من ضمنها تحرر اليهود، ولكن تجربة السنوات الأولى من الثورة الروسية أثبتت أن السبيل الوحيد لتحرر اليهود و الأقليات يأتي عن طريق اتحادهم مع اخوتهم العمال ضد النظام الرأسمالي الذي يولد علاقات اضطهادهم، وليس عن طريق عزلهم وتجنيدهم لخدمة الإمبريالية كما نادى الصهاينة الأوغاد. الصراع فى فلسطين قبل نكبة 1948 خيانة البرجوازية وملاك الأراضي: بعد استعراض تاريخ المسألة اليهودية ونشأة الصهيونية، بات من الضرورى الآن أن ننظر نظرة فاحصة للمجتمع الفلسطيني وحركة المقاومة التي سبقت النكبة. اشتغلت الغالبية العظمى من سكان فلسطين بالزراعة، فقد شكل الفلاحون الذين كانوا يشغلون قاعدة الهرم السكاني 80% من السكان فى بداية الحكم البريطاني، وفى عام 1922 قدر عددهم بـ 478ألف نسمة، وقد ارتفع عام 1944 إلى 800 ألف قروي أى بنسبة قدرها 66% من السكان أو بنسبة 70% من مجموع المواطنين العرب فى فلسطين(33)، وسيطر عدد قليل من العائلات على مساحات شاسعة من الأراضي، فطبقا للإحصائيات المأخوذة من العشرينيات امتلكت 144 عائلة 3.1 مليون دونم (1 دونم=1/4 فدان)، امتلك البعض منهم مئات الآلاف من الدونمات، وبلغ مجموع ما تمتلكه 250 عائلة من أراضى ما يساوى حيازات جميع الفلاحين، وبلغ متوسط ما تمتلكه العائلة الفلاحية 46,. دونم فقط، وبالرغم من امتلاك 65% من عائلات الفلاحين لبعض الرقع الزراعية الصغيرة، إلا أن معظم هذه العائلات كان يعيش على حد الكفاف، ومن 65% من مجموع الأراضي المؤجرة امتلك ثلثي الأراضي ملاك غائبون مقيمون بالمدن الفلسطينية الكبرى (34). وقد أنتج التدخل الإمبريالي بشقيه (الاستعمار البريطاني والاستيطان الصهيوني) قطاع صناعي حديث ومتطور، واستلزم ذلك تطوير قطاع الخدمات، وعجل بدخول الاقتصاد النقدي، وأعاد توزيع السكان فزاد عدد سكان المدن نظرا لتراجع أهمية الزراعة التقليدية لحساب الزراعة الرأسمالية، وكان من نتيجة ذلك أن تعرض الآلاف من الفلسطينيين لفقدان أعمالهم‘ فقد حولت عملية تركز الملكيات الزراعية التي ساعد على حدوثها قانون إعادة تسجيل الملكيات البريطاني) حولت صغار الملاك والعمال الزراعيين إلى عمال بالأجر، وأصبح غالبيتهم من العاطلين مما دفعهم إلى النزوح إلى المدينة بحثا عن فرصة عمل. وفى قطاع الحرف، نجح عدد قليل من العمال المهرة فى الالتحاق بعمل فى القطاعات الأكثر تطورا واستوعبت البطالة العدد الأكبر منهم. إلا أن هذا التطور قد أفاد قطاعين هما: الأول: البرجوازية العربية التي امتلكت معظم أراضى فلسطين وتركزت فى المدن، وتحكمت فى تجارة المحاصيل الزراعية وتلك الصناعات المرتبطة بالزراعة مثل مصانع الزيوت والصابون وآلات الري من خلال القروض التي كانت تمنحها للفلاحين الصغار ومتوسطي الملكية مقابل الالتزام بتوريد المحاصيل الزراعية لهم، كما تحكمت تلك البرجوازية أيضا فى الصناعات التقليدية كالنسيج والمواد الغذائية والأثاث. الثاني: استلزم ذلك التحديث نمو شريحة من المهنيين (الموظفين والمدرسين والمحامين والأطباء..الخ) وذلك من أجل المشاركة فى الأعمال الإدارية والخدمية والحكومية، وقد انحدر هؤلاء أساس من أسر كبار ملاك الأراضي الزراعية الذين تمكنوا من توفير فرص التعليم الحديث لأبنائهم (35). وقد صاحب تطور العلاقات الرأسمالية نشوء طبقة عاملة صناعية أغلبها فى القطاع اليهودي بحكم أنهم مهاجرون حازوا فرصا أعلى فى التدريب وبحكم تدفق رأس المال اليهودي والبريطاني لدعم الصناعات اليهودية المتقدمة. وقد بلغ عدد العمال اليهود المنتظمين بـ"الهستدروت"154.433 عاملا عام 1946(36). وقد بذل بالطبع الاستعمار البريطاني- الصهيوني أقصى ما فى وسعه لعرقلة نمو القطاع الصناعي العربي وبالفعل كانت الصناعات العربية أقل تطورا من مثيلاتها اليهودية ولجأت معظمها –كما أسلفنا - إلى المجالات التقليدية أو تلك المرتبطة بالنقل والمواصلات، وتركز العمال فى مدينة حيفا وبلغ عددهم حوالي مائة ألف عامل عام 1946 (37). سيطرت طبقة ملاك الأراضي على الحياة السياسية الفلسطينية، ولم تلعب البرجوازية دورا يذكر فى معترك السياسة نظرا لانحدارها من أصول إقطاعية وأيضا بعد تحجيم قدراتها عن طريق رأس المال الماضي.واتسمت الحياة السياسية بمنافسة حامية بين عائلات كبار ملاك الأراضي بدأت منذ القرن التاسع عشر بين عائلتي الحسيني والخالدى، ثم ما لبثت هذه المنافسة أن تحولت إلى صراع بين آل الحسيني وآل النشاشيبى (38)، ولعبت العائلات دورا رجعيا فى حركة المقاومة إذ حاولت دوما توجيه مشاعر الغضب الجماهيري تجاه اليهود فقط وتفادى الصراع مع قوات الاحتلال البريطاني، والتجأت فى معظم الأحوال إلى الأساليب السلبية الغير راديكالية هي اقتصرت على المذكرات والعرائض والاحتجاجات والمؤتمرات التي تعقد بتصريح من حكومة الانتداب وغالبا ما تخرج فى النهاية بقرارات (معتدلة) (39). وفى أوقات الأزمات الثورية حرصت العائلات على تلجيم وكبح حركة الجماهير، فقد كانت هذه الطبقة دائما فى حالة خوف من احتمالية خروج زمام الأمور من يدها، وخوفا من أن ازدياد راديكالية فلاحينها قد ينقلب عليها بسبب الأوضاع المزرية التي عاشها الفلاح نتيجة للاستغلال والقهر الذي مورس ضدهم من قبل هذه العائلات. وقد تسابقت هذه العائلات –فى ظل المنافسة والصراع بينهم- إلى التقرب من البريطانيين على أمل أن يتولوا مناصب قيادية محلية، وقد استغلت كل عائلة هذا الحركة الوطنية لتحقيق مكاسب عائلية لها على حساب الآخرين، واستغل البريطانيون هذه المنافسة لتفريق صفوف الحركة وعملوا على إذكاء نارها (40). ومنذ فبراير 1919 بدأت العائلات فى عقد سلسلة من المؤتمرات السياسية السنوية والنصف سنوية فى محاولة منها لخلق آلية تستطيع بها السيطرة على الحركة الجماهيرية، وقد كان معظم أعضاء هذه المؤتمرات بالطبع من كبار ملاك الأراضي وأبناء البرجوازية الفلسطينية، وقد تم انتخاب لجنة تنفيذية للمؤتمر الصهيوني الثالث فى نهاية عام 1920 واستمر عملها حتى المؤتمر السابع، وتم إسناد رئاسة المؤتمر إلى موسى كاظم الحسيني الذي بقى حتى مماته عام 1934 رئيسا للجنة التنفيذية وجميع المؤتمرات الوطنية وقد ألح بعض أعضاء المؤتمر على ضرورة إنشاء هيئات عمالية وفلاحية ولكن بالطبع قوبل هذا الاقتراح بالرفض (41). وفى مذكرتها للجنة التنفيذية للمؤتمر طلبت القيادة الفلسطينية من البريطانيين وقف هجرة اليهود باسم محاربة البلشفية (42). إن السيطرة الكبيرة للعائلات على الحياة السياسية لم تمنع الانتفاضات والثورات العفوية التي كانت تقوم من وقت لآخر فى صفوف الشعب العربي، وقد شهدت الفترة من 1919 إلى 1921 اشتباكات عنيفة بين العرب واليهود،وهجوم على مستوطنات يهودية، ومهاجمة بعض الأهداف البريطانية، وأشهر هذه الانتفاضات انتفاضة القدس عام 1920 ويافا 1921، وكان موقف القيادة الفلسطينية منهما هو موقف المتفرج أو المهدئ (43). وفى محاولة لاستمالة بريطانيا قررت اللجنة التنفيذية إرسال وفد للتفاوض مع تشرشل - وزير المستعمرات آنذاك- فى لندن عام 1921 وتضمنت مطالب الوفد إقامة حكومة وطنية ووقف الهجرة اليهودية، ولكن: كانت القيادة الفلسطينية التقليدية مستعدة لتقديم الكثير من التنازلات لبريطانيا مقابل التخلص من سياستها الصهيونية، ففي محادثاته مع الإنجليز فى القاهرة 1921 (فى طريقه إلى لندن) قال موسى كاظم الحسيني أن أهداف الوفد العربي تشمل المطالبة بالاستقلال التام ولكن إذا لم يكن ذلك مستطاعا فإن الوفد يطالب أن تكون السلطة الفعلية فى يد الإنجليز لا فى يد اليهود!(44). وبالفعل سافر الوفد إلى لندن وأجرى محادثات مع تشرشل باءت جميعها بالفشل الذريع. وشهد عام 1921 إنشاء مؤسسة لعبت لاحقا دورا هاما فى الساحة السياسية ألا وهى المجلس الإسلامي الأعلى بزعامة الحاج أمين الحسيني (45) الذي تبوأ منصب مفتى القدس بمساعدة المندوب السامي، فقد (طبخ) المندوب انتخابات الإفتاء وتحايل على القانون كي يتمكن الحاج أمين الحسيني من هزيمة منافسيه من العائلات الأخرى، وذلك لاستبقاء التنافس بين أسرتي الحسينية والنشاشيبية إذ كان راغب النشاشيبى يسيطر على رئاسة بلدية القدس، لذا فقد كان وجود الحاج أمين الحسيني فى منصب الإفتاء سوف يزيد حتما من سعار التنافس على الزعامة فى القدس (وهو ما حدث لاحقا بالفعل). وفى مقابل تعيينه وعد الحاج أمين بعدم (إثارة الاضطرابات) (46). وانشقت بعد ذلك الحركة الوطنية الفلسطينية إلى كتلتين: (المجلسيون) وهم أنصار آل الحسيني وزعامة الحاج أمين للمجلس الأعلى و "المعارضون" وهم أنصار آل النشاشيبى المعارضون لسياسة المجلس الإسلامي، ولم يقتصر عراك الزعامة السياسية بين الكتلتين على المؤتمرات والمنتديات السياسية، بل امتد للصحف والمجلات وجلسات المتسامرين إلى الحد الذي دفع بعض الشخصيات السياسية العربية إلى التدخل فقد كتب أحد الكتاب العرب فى جريدة "الجامعة العربية" الصادرة فى القدس: وإذا كان لكلمتي العربية الصريحة الصادقة التي لم تخرج مرة عن كونها عربية صريحة صادقة شئ من التأثير فجل ما أبغيه أن يكون ذلك فى سبيل التوحيد، بل فى سبيل القوة الكامنة فى التوحيد‘ أما إذا كان الحسينيون أو النشاشيبيون أو الطوقانيون أو العبدهادون‘ أو غيرهم من السلائل الفلسطينية المعروفة، لا يرون فى الأحزاب غير تلك الوطنية التي لا تقوم إلا بهم ولا تعزز إلا باسمهم، ولا يرون فى الجامعة العربية غير جامعة بيتيه ومصلحة عائلية، فخير لهم أن ينضموا إلى الحزب الصهيوني وأن يرسلوا أولادهم إلى الجامعة العبرية فى جبل الزيتون. يقول الحسينيون أن النشاشيبيون يمالئون الصهاينة ويساومونهم على حقوق الأمة، ويقول النشاشيبيون هذا القول فى الحسينيين، وأنا لا أصدق-ولا أحب أن أصدق - القولين… أرى من واجب الأمة أن تنبذ الزعامتين وأن تؤلف من الصالح فى الحزبين زعامة جديدة (47). وفى عام 1925 اضطرت اللجنة التنفيذية تحت ضغط شديد إلى إعلانها الإضراب العام بمناسبة وصول اللورد بلفور لافتتاح الجامعة العبرية، ونجح الإضراب نجاحا ساحقا فقد تجاوبت البلاد كلها معه (48). اتسمت الفترة (1925/1928) بصراع عائلي حاد حاول فيه المجلسيون استبعاد المعارضين من الحركة الوطنية، إلا أنهم فشلوا ونجح المعارضون فى الوقوف ضد المجلس الإسلامي والتأثير على انتخاباته وفرض مندوبين لهم عن كل مدينة فى المؤتمر الوطني السابع عام 1928، وأدى هذا الصراع الحاد إلى خمود الحركة الشعبية تماما خلال تلك الفترة، فلم تشهد فلسطين مظاهرات أو إضرابات. وجاء المؤتمر الصهيوني العربي السابع عام 1928 ليفضح تخاذل العائلات وانشغالها بالنزاعات العصبية عن قضية الاستقلال، وشارك عدد ضخم فى المؤتمر منهم الكثيرون لم يسبق لهم العمل السياسي، وأتوا ترضية لهذه الفئة أو تلك نتيجة للعصبية الحزبية أو العائلية، فعن كل مدينة مثّلها (مجلسي) تواجد مقابله معارض له. وانكب أعضاء المؤتمر يناقشون بعض القضايا الزراعية مثل القروض، والضرائب، وقضية الجنسية، والمهاجرين الفلسطينيين، وقضية امتياز مشروع البحر الميت، وضرورة تشكيل حكومة نيابية وديمقراطية. ولم يتم التعرض لموضوع الاستقلال أو إلغاء الانتداب، أو اتخاذ إجراءات حاسمة ضد التواجد البريطاني الصهيوني، ورفض تماما الاقتراح ـالذي قدمه عضو واحد فقط ـ الداعي لتأسيس جمعيات للعمال العرب، واكتفى المؤتمر فى النهاية بإرسال برقية مليئة بالأشواق الحارة والعويل لعصبة الأمم ووزارة المستعمرات البريطانية يطلب فيها تشكيل حكومة برلمانية فى فلسطين بموجب الوعود والعهود المقطوعة للعرب من الحلفاء! (49). وفى ظل تخاذل العائلات الفاضح انفجر الشعب العربي بثورة عنيفة عام 1929 فيما عرف باسم (ثورة البراق)، واندلعت الشرارة الأولى للثورة حينما قام الصهاينة بتنظيم مظاهرة حاشدة فى 14 أغسطس بتل أبيب فى ذكرى تدمير هيكل سليمان، وفى اليوم التالي قاموا بمظاهرة أكبر فى شوارع القدس واتجهوا إلى حائط البراق مرددين الـ "هاتكفاه" (النشيد الوطني لليهود) ثم هاجموا المسلمين واستفزوهم دينيا بسبب قدسية حائط البراق، مما أدى لاندلاع اشتباكات عنيفة بين العرب واليهود استمرت لمدة أسبوع استخدم فيها الطرفان الأسلحة النارية والبيضاء، واضطرت القوات البريطانية لفتح النار على العرب واقتحام القدس بالمصفحات لتهدئة الوضع، ولكن انتشرت الاضطرابات فى باقي المدن الفلسطينية، ففي الخليل قام العرب بالهجوم على الحي اليهودي وقتلوا 60 شخصا وجرحوا أكثر من 50 آخرين، وهاجم العرب فى نابلس مركزا للشرطة لانتزاع أسلحتهم، وفى بيسان وفى يافا وحيفا اشتعل القتال فى الشوارع بين العرب واليهود والبريطانيين، وتعرضت بعض المستوطنات الصهيونية لهجمات فدائية أدت لتدمير 6 منها، واحتمى اليهود فى الصفد بالقوات البريطانية التي فتحت النار على العرب الذين هاجموا حارة اليهود وأحرقوا محالهم التجارية (50). وبالطبع أدت هذه الأحداث المتصاعدة إلى تزايد الرعب فى قلوب أعضاء النخبة الفلسطينية الذين تحركوا سريعا لامتصاص غضبة الجماهير والحد من راديكالية الأحداث، فنشرت العائلات المقدسية بيانا يوم 24 أغسطس داعين فيه الناس باسم "مصلحة البلاد" إلى العمل بإخلاص "لحسم الفتنة وحقن الدماء وصيانة الأرواح"، وصدرت بيانات للتهدئة فى المدن الأخرى من الزعماء المحليين (51)، وعقدت الزعامات السياسية فى يافا اجتماع وطني عام لأبناء المنطقة يوم 3 سبتمبر، واكتفت بالاحتجاج الشديد على بيانات المندوب السامي والمطالبة بلجنة تحقيق من عصبة الأمم، وشكلت لجنة إدارية لمقابلة المندوب السامي لرفع الاحتجاج! وعقدت اللجنة التنفيذية سيلا متواليا من الاجتماعات الوطنية بأنحاء فلسطين مكررة مطالب اجتماع يافا وفى أكتوبر من نفس العام عقد فى القدس مؤتمر قمة كبير حضره القادة الفلسطينيون ومندوبون من سوريا ولبنان والأردن، وخرجت هذه الكوكبة المتلألئة من الزعماء بقرارات مثل سحب الثقة من المندوب السامي وإرسال برقية لوزير المستعمرات بذلك، واستنكار الهجرة اليهودية، والمحافظة على الأرض والصناعة الوطنية، والتهديد بعدم دفع الضرائب! (52)… يا لثورية القرارات!!. وقد أدى القهر البريطاني الشديد وتخاذل القيادات الفلسطينية إلى فشل الثورة وقمعها على يد البريطانيين، وكانت حصيلة الأحداث وقوع 133 قتيلا من اليهود وجرح 239 منهم، أما العرب فقد سقط منهم 116 قتيلا وبلغ عدد جرحاهم 232 شخصا، وعقب ذلك قامت سلطات الانتداب بتقديم ما يزيد عن ألف شخص للمحاكمة منهم أكثر من 900 عربي وصدر الحكم بإعدام 25 عربيا وشخص واحد يهودي. (53). ولاحقاً نفى تقرير لجنة اللورد والتر شو لتقصى الحقائق أى صلة للجنة التنفيذية أو المجلس الأعلى الإسلامي بالأحداث الثورية، وأشارت جميع الوثائق الرسمية إلى أن القيادات لعبت دور المهدئ، ودور اللامسئول (54) ، وشهد نفس العام 1929 تشكيل أول تنظيم عربي مسلح (الكف الخضراء) المكون من الشباب الساخط على تخاذل القيادات التقليدية إلا أنه سحق خلال عام واحد حيث كان أقرب لكونه مجموعة إرهاب فردى تفتقد لأي برنامج سياسي (55). وكالعادة قامت العائلات بتكوين وفد من مختلف القادة السياسيين للسفر إلى لندن لمفاوضة البريطانيين، وعلى عكس وفد 1921 الذي كان يطالب بالاستقلال وإلغاء وعد بلفور جاءت مطالب وفد 1930 منحصرة فى الشئون الداخلية فقط، وتتعلق ببيع الأراضي للصهاينة واستيلاءهم عليها بالإرهاب، وإنشاء حكومة نيابية فى ظل الانتداب، ولم يذكر موضوع الاستقلال بدعوى (الالتزام بالواقعية انطلاقاً من الأخطار التي تهدد فلسطين)، وكالعادة أيضا فشل الوفد فى تحقيق مطالبه، فقطع المفاوضات ودعا أبناء فلسطين لمقاومة السياسة الصهيونية (مقاومة سلمية) (56). وشهد عام 1931 شكلا جديدا للمقاومة الفلسطينية، فقد أسس الشيخ عز الدين القسام رئيس جمعية الشبان المسلمين فى حيفا منظمة عسكرية سميت "إخوان القسام"‘ وعلى العكس من منظمة "الكف الخضراء" كان لإخوان القسام أيديولوجية جمعت بشكل توفيقي بين الإسلام والقومية العربية. ونجح القسام فى العمل المنظم وسط القرويين والشباب المتعلم والجمعيات الدينية. وكان هدف المنظمة هو "تأهيل الكوادر لقيادة ثورة الفلاحين"، وبدأ القساميون حملة من الهجمات استهدفت المستوطنات الصهيونية والمواقع البريطانية متبعين أسلوب حرب العصابات الخاطف (57). ودخلت الطبقة العاملة الفلسطينية إلى الساحة السياسية وقامت بموجة عاتية من الإضرابات فى الفترة (1930/1935)، وبدأت اللجنة التنفيذية تشعر بالعزلة عن الجماهير وموضع سخط الكثيرين ورأت فى مطلع عام 1933 أنها إذا لم تتحرك فسوف تفقد زمام الأمور، فدعت لعقد اجتماع بالقدس فى 24 فبراير لمناقشة قضيتي بيع الأراضي والهجرة ، واتخذ المؤتمر قرارا باتباع سياسة "اللاتعاون" وتحديد آلياته، ولكن انتهى المؤتمر كما بدأ فقد اتفق الجميع على المبدأ ولكن الخلاف على آليات تنفيذه، وتم ترك تحديد الآليات للجنة خاصة! ولم يقتنع الحاج أمين بأن فكرة اللاتعاون قد آن أوانها! ومرت ستة أشهر ولم يتم الاتفاق على شئ، فالشيء الوحيد الذي قرر المجلسيون فعله هو مقاطعة حفلات الإنجليز الاجتماعية! أما المعارضون فقد استمروا فى حضور هذه الحفلات!! (58)، وفى النهاية انهارت اللجنة التنفيذية تماما مع وفاة موسى كاظم الحسيني عام 1934 ولم يكن مستغربا أن تنعيه صحيفة "بالستين بوست" التي كانت تصدرها الوكالة اليهودية وتكيل له المديح حيث إن سياسته (المعتدلة) قد ساهمت فى (تدجين) الحركة الشعبية الفلسطينية ومنعتها من اتخاذ أى منعطف راديكالي (59)، وزاد الطين بلة مجيء انتخابات بلدية القدس فى أواخر عام 1934 والتي كان يسيطر عليها راغب النشاشيبى، فأدى تحالف الحاج أمين الحسيني مع مرشح عائلة الخالدى إلى سقوط النشاشيبى فى الانتخابات وحصول الخالدى على المنصب، فجن جنون النشاشيبية واشتد سعار المنافسة بينهم وبين الحسينية بطريقة فاقت كل الحدود (60). وفى محاولة لاحتواء الحركة الشعبية المتصاعدة عمدت القيادة التقليدية الفلسطينية إلى تكوين أحزاب وطنية ولكن هذه الأحزاب عكست النزعات العائلية، فكون آل النشاشيبى حزب الدفاع الوطني عام 1934 وأسس الحاج أمين الحسيني الحزب العربي الفلسطيني عام 1935، أما حزب الاستقلال فقد ضم فى عضويته عناصر برجوازية وبرجوازية صغيرة وكان أقرب فى تكوينه إلى حزب الوفد المصري‘ إلا أنه لم ينل نفس الجماهيرية ولم يكن مؤهلا للعب دور مماثل لما لعبه حزب الوفد المصري فى تلك الفترة، ورغم شعاراته الأكثر راديكالية مقارنة بأحزاب ملاك الأراضي إلا أنه كان أكثرهم ضعفا(61). اشتدت حركة الكفاح المسلح التي أطلقها القساميون واتخذت بحلول عام 1935 شكل الثورة المسلحة على نطاق واسع، واستمر القساميون فى عملياتهم بالرغم من مقتل زعيمهم الشيخ عز الدين القسام عام 1935. واشتدت سخونة الأحداث مع زيادة معدل هجرة اليهود بسبب صعود الفاشية للحكم فى أوروبا، وشهدت الفترة (15-19) إبريل 1936 اشتباكات وحوادث عنف فردى بين العرب واليهود، ويجئ يوم 20أبريل لتدخل يافا فى إضراب عام أغلق الأسواق والميناء واندلعت اشتباكات عنيفة فى شوارع يافا، وقوبلت التحركات العربية بالردع من قبل سلطة الانتداب، فما كان من زعماء الأحزاب السياسية إلا أن قاموا بمقابلة المندوب السامي معبرين له عن أسفهم على أحداث العنف التي وقعت! وفى غضون أيام قليلة بدأت "لجنة قومية" فى التآلف من شباب ورجال المدن بطريقة عفوية فى مدينة نابلس التي دخلت الإضراب العام وعمتها مظاهرات حاشدة يوم 24 إبريل، ولم يسمع أى صوت للقيادة التقليدية خلال الأيام الستة الأولى واستمر الإضراب فى الانتشار والتصاعد وبدأت اللجان القومية فى الظهور فى المدن والقرى بباقي أنحاء فلسطين، وانضم الطلبة وأعضاء النقابات والقطاعات المهنية وأضرب المحامون عن العمل فى المحاكم، واتخذ الأطباء قرارا بمعالجة جميع المنكوبين والفقراء الذين يحملون التوصيات من لجان الإسعاف مجانا(62). تحركت القيادات التقليدية سريعا خوفا من فقدان السيطرة على مجريات الأمور فقامت بإنشاء اللجنة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني، واضطر زعماء الأحزاب إلى تقبل الأمر الواقع والاستجابة للضغوط الشديدة من قبل الشارع العربي فأيدوا الإضراب وعدلوا عن إرسال وفد إلى لندن، وقاموا بالمساهمة مع البرجوازية الفلسطينية بتمويل جزئي للإضراب من أراضى الأوقاف والمصارف المالية(63). وتصاعدت الأحداث بحلول شهر مايو، فقد تم إعلان العصيان المدني عن دفع الضرائب، وقوبلت المظاهرات برصاص السلطات، وانضم البوليس الصهيوني للمتظاهرين، وتم تعطيل الطرق وأسلاك التليفون وخطوط البرق ونسف أنابيب البترول، وقلب القطارات ومهاجمة المستوطنات اليهودية ودوريات الإنجليز(64)، وفى يوليو 1936 تم إعلان الأحكام العرفية واستخدمت بريطانيا العنف فى قمع الحركة فاستقدمت المزيد من قوات الجيش حيث بلغ عدد الجنود الجدد 30ألف جندي (65). وبدأ سلاح الجو الملكي البريطاني بالهجوم على القرى والمناطق الجبلية حيث كانت تحارب بعض الفرق كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير - روزا لوكسمبرج - 02-17-2005 1. أبرهام ليون (1918-1944) مناضل ماركسي من الأممية الرابعة التروتسكية ولد في بولندا واستقر به المقام في بلجيكا حيث نشط في تنظيم سري لمقاومة الاحتلال النازي لبلجيكا. كتب أشهر أعماله "المسألة اليهودية" وهو مختبئ من قوات الاحتلال. نجح النازيون في النهاية في القبض عليه ولقي حتفه في غرف الغاز في معسكر "أوشفيتز" ببولندا. 2. أبرهام ليون. المسألة اليهودية، نيو يورك 1966. 3. نفس المصدر 4. نفس المصدر 5. نفس المصدر 6. محمد حسنين هيكل. المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل 1 ، القاهرة، دار الشروق، 1966، ص29. 7. فيل مارشال. انتفاضة: الصهيونية والإمبريالية والمقاومة الفلسطينية، لندن، 1989، ص30. 8. لانس سلفا.,International Socialist Review "Zionism: False Messiah" ربيع 1998، ص 9،10. 9. نفس المصدر، ص 10. 10. هيكل، ص 68. 11. سلفا، ص 10 12. عبد الوهاب المسيري. الأيديولوجية الصهيونية، الكويت، عالم المعرفة، 1982، ص 143. 13. نفس المصدر، ص 144. 14. مارشال، ص 31. 15. المسيري، ص 141. 16. مارشال، ص 33. 17. نفس المصدر، ص 34. 18. استعملت روسيا حينذاك تقويم مختلف عن باقي الدول الأوروبية. 19. سلفا، ص 11. 20. المسيري، ص140. 21. سلفا، ص 10. 22. مارشال، ص 214. 23. نفس المصدر، ص 35. 24. نفس المصدر، ص 37. 25. بيان نويهض الحوت. القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917 - 1948، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية،1981، ص 518. 26. توني كليف. Jews, Israel and the Holocaust”, Socialist Review مايو 1998، ص 20. 27. مارشال، ص 37. 28. نفس المصدر، ص 38. 29. سلفا، ص 10. 30. نفس المصدر، ص 10. 31. لغة يهودية تمزج الألمانية القديمة بالعبرية وكانت مستخدمة على نطاق واسع في أوروبا الشرقية. 32. سلفا، ص 11. 33. هند أمين البديري. أراضى فلسطين بين مزاعم الصهيونية وحقائق التاريخ، القاهرة، جامعة الدول العربية، 1998، ص 283. 34. مارشال، ص 57. 35. نفس المصدر، ص 58 . 36. البديري، ص 284. 37. نفس المصدر، ص 284. 38. الحوت، ص 176. 39. الموسوعة الفلسطينية، الجزء الأول، دمشق ،هيئة الموسوعة الفلسطينية،1984،ص 611. 40. مارشال، ص 60. 41. الحوت، ص 140 - 143. 42. المقاومة الفلسطينية: الواقع والتوقعات، بيروت، دار الطليعة، 1971، ص 47. 43. الحوت، ص 147. 44. المقاومة الفلسطينية، ص 46. 45. الحوت، ص 175. 46. نفس المصدر، ص 204 - 205. 47. نفس المصدر، ص 178. 48. نفس المصدر، ص 192. 49. نفس المصدر، ص 194 - 196. 50. الموسوعة الفلسطينية، ص 615. 51. الحوت، ص 229. 52. نفس المصدر، ص 222 - 225. 53. الموسوعة الفلسطينية، ص 616. 54. الحوت، ص 228 - 229. 55. مارشال، ص 60. 56. الحوت، ص 236، 238. 57. مارشال، ص 60 - 61. 58. الحوت، ص 283 - 290. 59. نفس المصدر، ص 298. 60. نفس المصدر، ص 300. 61. مارشال، ص 60 - 61. 62. الحوت، ص 331 - 342. 63. مارشال، ص 62. 64. الحوت، ص 349. 65. مارشال، ص 41. 66. نفس المصدر، ص 62. 67. نفس المصدر، ص 63. 68. نفس المصدر، ص 63. 69. الحوت، ص 344 - 346. 70. نفس المصدر، ص 357. 71. الموسوعة الفلسطينية ج 3، ص 628. 72. مارشال، ص 64 - 65. 73. المقاومة الفلسطينية، ص 68. 74. مارشال، ص 66. 75. نفس المصدر، ص 67 - 69. 76. نفس المصدر، ص 97. 77. نفس المصدر، ص 97. 78. نفس المصدر، ص 101 - 103. 79. الموسوعة الفلسطينية ج 2، ص 205. 80. مارشال، ص 104 - 105. 81. الموسوعة الفلسطينية ج 2، ص 205. 82. مارشال، ص 103. 83. نفس المصدر، ص 117. 84. نفس المصدر، ص 122 - 124. 85. نفس المصدر، ص 129 - 130. 86. نفس المصدر، ص 134 - 135. 87. ف.روبرت.هانتر.”Palestinian uprising: a war by other means" ، لندن، 1991، ص 63. 88. نفس المصدر، ص 64. 89. مارشال، ص 155. 90. نفس المصدر، ص 156. 91. نفس المصدر، ص 156. 92. نفس المصدر، ص 157. 93. نفس المصدر، ص 164. 94. الأهالي،16 أبريل، 1988، ص 2. 95. الأهالي،17 فبراير 1988، ص 2. 96. الأهالي،27 يناير 1988، ص 2. 97. الأهالي،23 ديسمبر 1987، ص 4. 98. مارشال، ص 165. 99. الأهالي،17 فبراير 1988، ص 1. 100. مارشال، ص 166. 101. الشعب، 22 ديسمبر 1987، ص 1. 102. الشعب، 29 ديسمبر 1987، ص 4. 103. الأهالي،23 ديسمبر 1987، ص 14. 104. الوفد، 28 ديسمبر 1987، ص. 105. الأهالي،6 يناير 1988، ص 4،5. 106. نفس المصدر، ص 1. 107. مارشال، ص 167. 108. الشعب، 5 يناير 1988، ص 1. 109. الأهالي،6 يناير 1988، ص 1. 110. الشعب، 12 يناير 1988، ص 3. 111. الشعب، 19 يناير 1988، ص 2. 112. الشعب، 12 يناير 1988، ص 1. 113. الأهالي،13 يناير 1988، ص 4. 114. الأهالي،27 يناير 1988، ص 2. 115. مارشال، ص 168. 116. الشعب،5 ابريل، ص 4. 117. الأهالي،6 ابريل، ص 2. 118. أخبار اليوم، 8 اكتوبر 1988، ص 1. 119. مارشال، ص 174. 120. الأهرام،11 أكتوبر 1988، ص 1. 121. الشعب، 10 يناير 1988، ص 3. 122. الشعب، 14 فبراير 1988، ص 2. 123. مارشال، ص 132. 124. هيكل، ج 3، ص 231. 125. نفس المصدر، ص 231. 126. نفس المصدر، ص 124، 135 كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير - غرامشي - 02-19-2005 سأعود و مثلي من يعود لأعلق على مقالة (القضية الفلسطينية .. رؤية ثورية ) المثيرة للجدل (f) كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير - روزا لوكسمبرج - 02-19-2005 "إن تاريخ البيان الشيوعي يعكس إلى حد بعيد تاريخ حركة الطبقة العاملة الحديثة، ولاشك أن البيان فى الوقت الحالي أكثر الأدبيات الاشتراكية انتشاراً وأكثرها صدوراً على المستوى العالمي، وهو الأساس المشترك المعترف به من قبل ملايين العمال من سيبيريا إلى كاليفورنيا" (1). هكذا كتب فريدريك إنجلز عن أثر البيان الشيوعي وهو على مشارف الموت. وبعد مائة وخمسين عاماً، يظل هذا الكلام صحيحاً حتى اليوم. فأثر البيان الشيوعي لازال جليا وبارزاً فهذا الكتاب الصغير ترجم إلى جميع اللغات الرئيسية ولا يزال مصدراً للإلهام بالنسبة لأجيال من الاشتراكيين. لقد دخل وجدان الطبقة العاملة بطريقة نادراً ما استطاعت أي أعمال سياسية أخرى أن تحاكيها. وغالبا ما كان أول كتابات ماركس وإنجلز، أو حتى كتابهما الوحيد، الذي قرأه عدد كبير من العمال. وهو يتمتع كذلك بصفات بلاغية مذهلة تجعله أحد الإصدارات الرائعة في الكتابة السياسية. فسجالاته القوية، ومضمونه الذي يقدم صورة شاملة، لا زالت تلقي الظلال على معظم الأعمال السياسية الحديثة. إن البيان يوضع في مصاف تلك الكتابات النادرة التي حازت سطورها الأولي والأخيرة شهرة واسعة في حد ذاتها. "هناك شبح يجول في أوربا، هو شبح الشيوعية" و"ليس لدي البروليتاريا ما تفقده إلا قيودها وأمامها عالم لتفوز به"، هذه هي العبارات التي دخلت لغة الاشتراكية الدولية. ولكن في قراءتنا للبيان الشيوعي، يستحيل ألا ندرك عدداً من العبارات الشهيرة الأخرى التي تلخص بعض الأفكار الأساسية للماركسية. "كل ما هو صلب يذوب في الهواء"، وأن الرأسماليين ينتجون "حفاري قبورهم"، "إن العمال ليس لهم وطن" و"إن التطور الحر لكل فرد هو شرط التطور الحر للمجموع". إن نجاح البيان الشيوعي يكمن في اثنين من مواطن القوة الجبارة التي يحتويها الكتاب. فهو أوضح عرض مختصر للأفكار الماركسية الثورية. وهو أيضاً مرشد للعمل بالإضافة إلي وضوحه على مستوي الفكر واللغة. كان لدي ماركس وإنجلز حس بالفوران الهائل في العالم المحيط بهما خلال أربعينات القرن التاسع عشر. وكان رأيهما أن التطور الرأسمالي الذي هيمن علي بريطانيا وبلجيكا، وإلي حد ما، علي فرنسا، تطور ثوري. فقد تمكن من تدمير المجتمعات الإقطاعية القديمة التي كانت لا تزال سائدة في جزء كبير من أوربا، وأدي إلي تقدم اجتماعي واقتصادي كبير بالنسبة للبشرية. وكان علي النظام الجديد بطريقتيه الجديدة تماماً في تنظيم الإنتاج أن يدخل في تناقض مع النظام القديم، وقد رأي ماركس وإنجلز الانتفاضة الثورية نتاجا حتميا لهذه الصدمات، خاصة في بلدهما ألمانيا، والتي كانت لا تزال تتكون من عدد كبير من الولايات والمدن الصغيرة رغم أنها كانت تخضع لهيمنة واسعة من قبل دولة بروسيا الشرقية ذات الطابع العسكري. إن الثورات القادمة ستكون "ثورات برجوازية"، ضرورية من أجل تمهيد الطريق للتطور الرأسمالي الكامل عن طريق إزالة الأوتوقراطيات السياسية القديمة، التي كانت لا تزال تعتمد علي أساليب الإنتاج الإقطاعية. لكن ماركس وإنجلز أدركا أن الطبقة العاملة ستكون عنصراً هاماً فيها. فكان الجانب الرئيسي في نظريتهما هو فهمهما أن الطبقة العاملة هي أقوي طبقة ثورية. كان لدي إنجلز خبرة مباشرة عن الطبقة العاملة الإنجليزية - فقد ذهب إلي إنجلترا في نهاية عام 1842 في أعقاب الإضراب العام في ذلك العام وكان علي دراية بأفكار الشارتيين السياسية. وكانت خبراته التي أعتمد عليها كتابه "حالة الطبقة العاملة في إنجلترا" عن رأسمالية استطاعت أن تخلق ثروة هائلة وقامت بتثوير العمل، ولكنها أيضا خلقت بؤساً إنسانياً مريعاً. وكانت قدرة الطبقة العاملة علي تغير العالم جزءاً أساسيا من الحالات التي شارك فيها ماركس وإنجلز ومع أولئك المنخرطين في العمل السياسي الاشتراكي أو الديمقراطي. وقد لخص البيان تحليلهما: أن المعارك الكبرى بين النظام الإقطاعي والبرجوازية كانت وشيكة، لكن هذه المعارك سيحل محلها قريبا معارك بين الطبقة الرأسمالية القوية حاليا والطبقة العاملة الثورية الناشئة. في 1847 كان ماركس وعائلته يعيشون في بروكسل بينما كان إنجلز يعيش في باريس. وكانا نشطين سياسياً أساساً في أوساط المهاجرين الألمان الآخرين في لجان المراسلة الشيوعية التي كانت موجودة في باريس وبروكسل ولندن، وكانا كذلك علي اتصال بالاشتراكيين المنظمين في عصبة الجوست، وهي منظمة أقامت قاعدتها السياسية علي الحرفيين الألمان الذين كانوا يعيشون في لندن. ومع أن الأفكار السياسية للعصبة كانت تحن إلي عالم يقوم علي الإنتاج الحرفي بدلاً من إنتاج المصانع، كان كثير من أعضائها كذلك يمرون بمرحلة من التحول الأيديولوجي السريع. وفي صيف 1847 غيرت العصبة اسمها إلي العصبة الشيوعية. وحتى قبل هذا التاريخ طلب أحد زعماء العصبة، وهو صانع الساعات جوزيف مول، أن ينضما إلي العصبة وأن يكتبا مبادئها الأساسية. في البداية بدأ إنجلز المشروع، وكتب كتابا صغيراً بعنوان "مبادئ الشيوعية" والذي يوصف أحيانا بالمسودة الأولي للبيان والذي أطلق عليه أسئلة وأجوبة في الشيوعية. ففي هذا الكتاب حاول إنجلز أن يجيب علي كثير من الأسئلة الرئيسية حول الأفكار الشيوعية التي أثارها مؤيدوها المرشحون.ý(2) يبدأ كتاب مبادئ الشيوعية من تطور نظام المصنع وكيف يفرض ذلك تقسيما للعمل، فيصبح العمل المطلوب لتنفيذ مهمة معينة مقسما إلي سلسلة من المهام المتكررة التي يمكن إنجازها بواسطة الآلة. وهكذا أدي انتشار المصانع والميكنة في كل فروع الصناعة إلي تزايد انقسام المجتمع إلي طبقتين رئيسيتين: البرجوازية التي تمتلك المصانع والمواد الخام، والبروليتاريا التي تضطر إلي بيع قوة عملها كسلعة حتى تتمكن من العيش ورغم ذلك، فإن فوضي النظام تعني أن انتشار الرأسمالية في كل مجالات الحياة، بدون أي خطة أو تفكير فيما يجب إنتاجه، يؤدي إلي أزمة فائض الإنتاج، حيث تترك البضائع بدون بيع، وتتوقف المصانع، ويتعطل العمال، إن التنظيم الرأسمالي للصناعة والإنتاج عائق أمام مزيد من التطور. "طالما أنه من غير الممكن إنتاج، ليس فقط ما يكفي للجميع، وإنما أيضا إنتاج فائض يظل وجود طبقة حاكمة تتحكم في قوي الإنتاج في المجتمع أمراً ضرورياً، وكذلك وجود طبقة فقيرة ومقهورة. وسوف تعتمد كيفية تكوين هذه الطبقات علي المرحلة التي يمر بها تطور الإنتاج. ففي العصور الوسطي التي تعتمد علي الزراعة، نجد السيد والقن،وتبين لنا مدن العصور الوسطي المتأخرة السيد رئيس الحرفة والعامل الحرفي وعامل اليومية، وفي القرن السابع عشر نجد صاحب المانيفاكتورة والعامل الصناعي، وفي القرن التاسع عشر نجد صاحب المصنع الكبير والبروليتاري. وواضح أنه حتى الآن لم تتطور بعد قوي الإنتاج بالدرجة التي تجعل بالإمكان إنتاج ما يكفي ليجعل الملكية الخاصة عائقاً أو عقبة أمام هذه القوي الإنتاجية." غير أنه في ظل الرأسمالية يعني التوسع الهائل في قوي الإنتاج وتطور كلا الطبقتين الرئيسيتين المتصارعتين أنه "الآن فقط … يصبح إلغاء الملكية الخاصة ليس فقط ممكنا وإنما أيضاً ضروريا بشكل مطلق"(3) كان شكل الأسئلة والأجوبة في "مبادئ الشيوعية" نقطة البداية لبيان الأهداف، ولكنه لم يكن إلا هيكلا عظمياً لما أصبح فيما بعد البيان. أخذ ماركس جزءاً من بنيانه وسجالاته، ولكنه صاغ منها كتيبا أكثر ثراءً وتماسكاً واشتباكاً منه بكثير. وقد فعل ذلك لأنه مع قرب نهاية عام 1847 قام مؤتمر العصبة الشيوعية في لندن بتفويض ماركس، الذي كان أحد الحاضرين، بكتابة بيان للمنظمة، والذي بدأ في صياغته بعد عدد من الخلافات حول القضايا السياسية. وأدي عجز ماركس عن كتابة مسودة البيان إلي خطاب غاضب من اللجنة المركزية للعصبة في نهاية يناير 1848 جاء فيه: وإذا لم يصل البيان "بيان الحزب الشيوعي". الذي تولي مسئولية كتابته في المؤتمر الأخير - إلي لندن بحلول يوم الثلاثاء 1 فبراير من هذا العام، سوف تتخذ ضده إجراءات أشد(4). وقد حقق التحذير هدفه واكتملت المسودة في أوائل فبراير وأرسلت إلي لندن حيث نشرت في فبراير 1848. ماذا يقول البيان الشيوعي: "إن تاريخ كل المجتمعات الموجودة حتى الآن هو تاريخ الصراع بين الطبقات" إن نقطة البداية بالنسبة للبيان هي كذلك نقطة البداية للنظرية الماركسية في التاريخ. ففي كل المجتمعات السابقة كان يوجد صراع بين الطبقات الذي ينتهي أخيراً إلي الحسم ويؤدي إما إلي خلق طريقة جديدة لتنظيم العمل والحياة، أي تغير ثوري في المجتمع ككل، أو إلي "التدمير المشترك للطبقات المتصارعة"(5). إذا لم تكن نتيجة الصراع بين الطبقات حاسمة، أي إذا لم يستطع أي من الجانبين الانطلاق، إذن فبدلاً من التقدم إلي الأمام، يمكن أن يندفع المجتمع ككل إلي الخلف. كانت هذه الصراعات الحاسمة تميز تطور المجتمع في فترات تاريخية معينة حيث ينتقل من أحد أنماط الإنتاج إلي نمط أخر. وأحدثها، كانت المعارك الكبرى في إنجلترا في أربعينيات القرن السابع عشر وفي فرنسا في ثمانينيات وتسعينات القرن الثامن عشر وتمثل نضال البرجوازية الناجح ضد قوي الإقطاعية. أن الثورات البرجوازية التي ستنتشر - هكذا افترض ماركس وإنجلز_ في أجزاء أخري من أوروبا سوف تشرع في مرحلة من التطوير السريع لقوي الإنتاج والتي في المقابل سوف تؤدي بسرعة هائلة إلي ثورة الطبقة العاملة أو ثورة بروليتارية. ولذلك يبدأ البيان تحليله بدراسة التقدم الذي تمثله الرأسمالية بالمقارنة بالمجتمعات السابقة، ويدرس بداية، ليس ظهور الطبقة العاملة، وإنما الطابع الثوري للطبقة الرأسمالية ذاتها. يرسم البيان صورة قوية ومدهشة للرأسمالية كنظام ديناميكي متغير باستمرار والذي يتغير تقريباً أمام أعين المؤلفين. وربما يعكس كذلك الإعجاب غير المتوقع لدي ماركس وإنجلز بكثير من إنجازات التطورالرأسمالي. ربما يكون عسيراً بالنسبة لنا أن نتخيل ذلك بعد مرور مائة وخمسين عاماً - حيث يوجد حيا في ذاكرتنا حربان عالميتان، وأزمات عديدة، والهولوكوست، وحيث الإبادة العرقية، والمجاعات والبؤس الشديد، كلها حقائق في المجتمع الرأسمالي الحديث_ لكن يجب أن نضع في أذهاننا الخلفية التي كتب في ظلها ماركس وإنجلز. فقد كان تطور الرأسمالية بالنسبة لهما تقدماً هائلاً بالنسبة لما كان يحدث من قبل. وبشكل خاص كان المجتمع الألماني متخلفاً بسبب الانقسامات السياسية والإقليمية، والأنظمة السياسية المستبدة، والقوانين التي عفا عليها الزمن وشروط التجارة المقيدة. وكانت العناصر الديناميكية في المجتمع الألماني تعوقها هذه العلاقات الاجتماعية التي كانت تمثل عقبة لمنع المجتمع من التقدم للأمام. وبحلول أربعينيات القرن التاسع عشر كان يوجد بالفعل انقسام واضح بين دينامية بعض المجتمعات، التي تندفع للأمام علي أساس التطور الرأسمالي السريع، وركود بعض المجتمعات الأخرى. كانت الرأسمالية في طريقها لتدمير المجتمع الإقطاعي القديم وإقامة سلطتها الخاصة. وهذا بدوره، كما رأي ماركس وإنجلز، سيخلق الشروط الأولي للنضال من أجل الاشتراكية - وعلي وجه الخصوص سوف يخلق إنتاجاً صناعياً كبيراً وطبقة عاملة ثورية جديدة. ويقدم البيان لوحة عبقرية مختصرة لتطور الرأسمالية: من نمو المدن في العصور الوسطي، ورحلات الاستكشاف التي أدت إلي ظهور الرأسمالية التجارية،إلي نمو الصناعة من أجل تلبية الطلب في الأسواق الجديدة: "إن نظام الصناعة الإقطاعي، والذي تحتكر في ظله الإنتاج الصناعي طوائف حرفية مغلقة، لم يعد كافياً لتلبية الاحتياجات المتزايدة للأسواق الجديدة. وقد حل محل نظام المانيفاكتورة وتنحي جانبا رؤساء الطوائف الحرفية أمام الطبقة الوسطي الصناعية، وتبدد تقسيم العمل بين مختلف الطوائف الحرفية الشاملة في مواجهة تقسيم العامل داخل كل ورشة علي حدة. في نفس الوقت استمرار نمو الأسواق وازدياد الطلب باستمرار. وحتى المانيفاكتورة لم تعد كافية. وعلي هذا حدث تثوير الإنتاج للإنتاج الصناعي عن طريق البخار والميكنة. وحلت الصناعة الحديثة العملاقة محل المانيفاكتورة، ومحل الطبقة الوسطي الصناعية جاء المليونيرات الصناعيون، قادة الجيوش الصناعية الكاملة، أي البرجوازية الحديثة."(6) تطور النظام إلي نظام عالمي، حيث يدفعه البحث عن الأسواق إلي السعي للوصول إلي كافة أرجاء الكرة الأرضية، ويجر وراءه المدن والسكك الحديدية ووسائل الاتصال الحديثة. لقد كانت البرجوازية طبقة ثورية لأنها غيرت الإنتاج ودمرت طرقاً للحياة والعمل كانت قائمة علي الأرجح لمئات السنين: "لا تستطيع البرجوازية أن تستمر في الوجود بدون تثوير مستمر لأدوات الإنتاج، وبالتالي لعلاقات الإنتاج، ومعها كل العلاقات الاجتماعية. إن المحافظة علي أنماط الإنتاج القديمة كانت الشرط الأول لوجود كل الطبقات الصناعية السابقة. أما التثوير الدائم للإنتاج، والاضطراب المستمر في كافة الظروف الاجتماعية، والقلق الدائم وعدم الاستقرار فهو ما يميز عصر البرجوازية عن كل العصور السابقة."(7) كان لهذه الثورة في الإنتاج أثر مماثل في كل مجالات الحياة. فاختفت الأديان والمعتقدات والعادات القديمة، وبدأ الرجال والنساء يفكرون بطريقة مختلفة تماما لأنهم يعيشون ويعملون بطريقة مختلفة: "تزول العلاقات الثابتة والمتجمدة وما كان يتبعها من أهواء وأفكار عتيقة ومحترمة، وتصبح تلك التي تحل محلها عتيقة قبل أن تأخذ في التجمد. فكل ما هو صلب يذوب في الهواء، ويدنس كل ما هو مقدس، وأخيراً يضطر الإنسان لأن يواجه الظروف الحقيقية للحياة وعلاقاته بالإنسان ببصيرة واعية"(8). لقد أدي تطور الإنتاج السلعي – حيث كل السلع يمكن بيعها وشراءها في الأسواق – بما فيها قوة العمل المأجورة، إلي أن نجد الحرف والمهن القديمة نفسها عاجزة عن منافسة الصناعة الكبيرة.فأصبحت الأعمال يقوم بها عمال مأجورون. وتحول الحرفيون إلي بروليتاريا. ودمرت الرأسمالية المجتمعات القديمة، واكتسحت كل شيء أمامها، ودمرت الوظائف القديمة، ومجتمعات بأكملها، وأقامت مجتمعات جديدة. أن ديناميكية النظام تعني أنه بمجرد أن بدأ انتشاره علي مستوي العالم، كانت له أثار تدميرية: مثلاً، تدمير الطرق التقليدية في الحياة مثل طرق حياة السكان الأصليين في أمريكا الذين وجدوا طريقتهم في الزراعة والحياة القبلية بل وحتى طرقهم في الحرب لا تقارن بالميكنة والسكك الحديدية والتلغراف والبنادق التي غزت القارة الأمريكية في عقود قليلة. وفي الهند دمرت صناعة القطن المحلية عن طريق استيراد القماش الرخيص من لانكشاير. أدي هذا الانتشار للإنتاج الرأسمالي إلي نهاية الكثير من الصناعات والمجتمعات، ومع ذلك يمنح البيان التقدم المريح للبرجوازية: "لقد أخضعت البرجوازية الريف لحكم المدن، وزادت إلي درجة كبيرة من سكان الحضر بالمقارنة مع سكان الريف، وبهذا أنقذت جزءاً كبيراً من السكان من بلاهة الحياة الريفية. "يسرد ماركس وإنجلز الإنجازات التي حققها الرأسماليون علي مدي قرن من الزمان تقريباً: إخضاع قوي الطبيعة للإنسان، والميكنة، تطبيق علم الكيمياء في الصناعة والزراعة، ملاحة بخارية، وسكك حديدية، والتلغراف الكهربائي، تهيئة قارات بأسرها من أجل الزراعة، ضبط وتوجيه الأنهار، شعوب بأسرها استنهضت من الأرض – أي قرن من القرون الماضية كان يخطر ببال مفكريه أن مثل هذه القوي الإنتاجية كانت كامنة في ثنايا العمل الاجتماعي".(9) ورغم ذلك، فهناك خلل جوهري في النظام يدفع ماركس وإنجلز إلي مقارنة المجتمع الرأسمالي بالساحر الذي لم يعد يستطيع السيطرة علي القوي التي قام بتحضيرها. فليس هذا النظام عقلانيا أو خاضعاً للتخطيط - ومحركه الوحيد هو تراكم رأس المال من أجل تراكم رأس المال. وهو لذلك عرضة بصورة دورية لما يصفه البيان بأزمات فائض الإنتاج، والتي وصفها مؤلفاه بصورة تفصيلية: "هناك مدنية أكثر من اللازم، ووسائل معيشة أكثر من اللازم، وصناعة زائدة، وتجارة زائدة."(10). وينتج فائض الإنتاج عن الطابع الفوضوي لهذا النظام: فالإنتاج القائم علي التراكم الأعمى يصبح هدفا في حد ذاته، وسيلة للحفاظ علي ربح الرأسمالي، بدلاً من أن يكون له أي علاقة بما إذا كانت البضائع المنتجة مطلوبة أم لا. أن المجتمع الرأسمالي – القائم علي الإنتاج السلعي الخاص وعلي استغلال العمل المأجور- يصبح عائقاً، بدلا من حافز، للإنتاج الجديد. وتمنع الملكية الخاصة قوي الإنتاج من أن تتطور إلي الحد الممكن لتلبية احتياجات البشرية كلها. وبدلاً من ذلك يكون رد فعل الرأسمالية تجاه الأزمة هو تدمير الثروة. فتغلق المصانع، ويترك العمال بلا عمل، وأولئك الذين كان من الممكن أن ينتفعوا بالبضائع المنتجة في تلك المصانع يضطرون إلي الحرمان منها. لذا فان نفس هؤلاء الناس الذين ينتجون الثروة للرأسماليين لا يحرمون فقط من أي نصيب من ثروات الرأسمالية، بل هم أيضاً ضحاياها في أوقات الأزمة حين يفقدون وسائل معيشتهم. ومع ذلك، يكمن بين أيديهم المخرج من هذا الحرمان. الطبقة العاملة "إن الطبقة العاملة أو البروليتاريا – بمعني الذين لا يملكون – هي المنتج المتميز للرأسمالية، التي تخلق طبقة من العمال ليس لديهم وسيلة للعيش باستثناء بيع قوة عملهم. ويصبح العمال عبيداً للآلات، وتهيمن علي حياتهم عملية الاستغلال. يصف ماركس وإنجلز التطورات المبكرة للطبقة العاملة كطبقة واعية. تميل صراعات العمال إلي أن تكون موجهة ضد الآلات التي تدمر حياتهم القديمة. ولا تتوجه أولى احتجاجاتهم السياسية ضد الرأسماليين أنفسهم ولكن ضد النظام القديم – ولذلك في هذه المرحلة لا يحارب العمال أعداءهم، وإنما أعداء أعدائهم، أي فلول الملكية المطلقة، وملاك الأرض، والبرجوازية غير الصناعية، والبرجوازية الصغيرة".(11) لكن هذا الميل يتغير مع نمو الصناعة. فالطبقة العاملة تنتظم في أعداد اكبر فاكبر، وتصبح أجور وظروف المهن المختلفة اكثر تشابهاً، وتدفعهم خبرة العمل في المصنع نحو التنظيم الجماعي، والنقابات والمنظمات السياسية. أن الصراع المستمر بين الطبقات،المرتكز علي الإنتاج في مواقع العمل، يدفع العمال إلي التعاون والتحرك الجماعي، وتطوير مبادئ الوحدة الجماعية والتضامن. يصف ماركس وإنجلز الطبقة العاملة بأنها الطبقة الوحيدة الثورية حقاً: إن وضع العمال كطبقة يجعلهم في موقف متفرد للإطاحة بالمجتمع الرأسمالي. ولا يهم في البداية إن ينظروا إلي أنفسهم كثوريين. فوضعهم مركزي في موقع العمل. فهنا تكون الإمكانية والقدرة علي إدارة المجتمع لأنهم ينتجون الثروة ولأنهم مضطرون عبر خبرة العمل إلي تنظيم أنفسهم جماعياً. وهذا يعني أنهم الطبقة الوحيدة القادرة علي قيادة ثورة. وبينما أدت الثورات السابقة حتى عندما انتصرت إلي أن تحل طبقة حاكمة أقلية محل طبقة أخري، فإن ثورة بروليتارية ناجحة، تعمل من أجل مصالحها هي، لا يمكن أن تؤدي إلي هذه النتيجة. فلا يمكن للطبقة العاملة أن تقوم بثورة إلا عبر القضاء علي المجتمع الطبقي الذي ينتج استغلالها، وبالتالي تحرير كل المحرومين: "إن كل الحركات التاريخية السابقة كانت حركات أقليات، أو لمصلحة الأقليات، أما حركة البروليتاريا فهي حركة مستقلة للأغلبية الساحقة الواعية بذاتها، لصالح الأغلبية الساحقة"(12). ولذلك فإن تطور الصناعة نفسه يخلق السلاح اللازم لتدمير الطبقة الرأسمالية ويوجد طبقة تمكنها قوتها الجماعية من إدارة المجتمع علي أساس عادل – وبالعبارة الشهيرة، إنها تخلق حفاري قبر الرأسمالية. تتميز الرأسمالية بتزايد سيادة البروليتاريا والبرجوازية، الطبقتين الرئيسيتين المتصارعتين. وتتجه الطبقات القديمة إلي التلاشي في مواجهة التطور الرأسمالي، والغالبية العظمي من أعضائها يدفعون إلي صفوف البروليتاريا. "إن الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطي – صغار التجار وأصحاب المحلات والحرفين وصغار الفلاحين عموماً – كل هؤلاء ينحدرون تدريجيا إلي صفوف البروليتاريا. جزئيا بسبب أن مالهم الضئيل لا يكفي بالنسبة للمستوي الذي يقوم عليه الصناعة الحديثة. ويتم إغراقهم خلال المنافسة مع كبار الرأسماليين، وجزئيا بسبب أن مهاراتهم المتخصصة تفقد قيمتها عبر أساليب الإنتاج الجديدة"(13). تضطر أعداد أكبر من الناس إلي بيع قوة عملهم من أجل كسب العيش – وهي عملية مازالت مستمرة في نهاية القرن العشرين. فمثلاً، خلال العقود الأخيرة، انتقل صغار الفلاحين من القرى إلي المدن، عبر المهاجرون العالم بحثا عن عمل في البلاد الصناعية المتقدمة، وتم جذب النساء في هذه البلاد بأعداد غير مسبوقة إلي أسواق العمل. عندما يبدأ العمال في التنظيم الجماعي لنضالاتهم عادة، إذا نجحت، ما يؤدي ذلك إلي أحداث تقدم في المجتمع ككل. ففي حين أن الطبقات القديمة عندما ناضلت كانت تميل إلي ذلك علي أساس محافظ، محاولة الحفاظ علي وضعها المهدد داخل المجتمع الرأسمالي، كان نضال العمال ضد الرأسماليين يتجه إلي إحداث تحسينات في المجتمع وفي أوضاع العاملين. وفي معظم المجتمعات الرأسمالية اليوم، التي يتمتع العمال فيها بمستوي معيشي ومكاسب مرتفعة نسبياً، نستطيع أن نجد بين هذه المكاسب وبين توقعات عالية لقدرات الطبقة العاملة، وغالبا ما نتجت عن مستويات عالية من التنظيم العمالي في الماضي أو في الحاضر. أسئلة وأجوبة يقف هذا القسم الأول من البيان متحدياً أولئك الذين يدعون أن الماركسية لا تستطيع فهم العالم الحديث. فقد تنبأ بسرعة واتجاه التطور الرأسمالي الفعلي في بلاد مثل الولايات المتحدة وألمانيا قبل حدوثه بعشرات السنين وتنبأ برأسمالية القرن العشرين،وخاصة في العديد من البلاد الشهيرة بالعالم الثالث. "كما إن وصفه لنمو البروليتاريا، وتراكم رأس المال وانفجار الأزمة، كل ذلك يمكن أن ينطبق علي التاريخ الحديث وللنمور الآسيوية. ولذا فليس غريباً أن عدداً متزايداً من الناس ينظرون مرة أخرى إلي أفكار الماركسية والاشتراكية في محاولة لتفسير مشكلة هذا العالم. كان ماركس وإنجلز ثوريين نشيطين وجدا جمهوراً من الاشتراكيين بالإمكانية والذين كانوا شديدي الغضب مما تفعله الرأسمالية في حياة العمال ويبحثون عن بديل. ويحاول القسم الثاني من البيان مناقشة أفكارهم. فهو فعلياً سلسلة من الأسئلة والأجوبة عن الاشتراكية والشيوعية وعما سوف تحققه. والكثير منها معتاد بالنسبة للاشتراكيين اليوم الذين يجدون أنفسهم مواجهين بأسئلة من أولئك الذين تجذبهم أفكار الثورة ولكن يعتقدون أنها لن تحدث أبداً. لنأخذ مثلا مسألة الملكية الخاصة. إن الحاجة إلي إلغاء الملكية الخاصة مركزية في رأي ماركس وإنجلز عن الشيوعية، حيث أنها تقوم علي استغلال الغالبية العظمي، إلا أنهما واجها اعتراضا لازال يثار اليوم وبشكل عام – وهو أليس معني هذا أنك تريد أن تصادر الممتلكات الشخصية للأفراد، وأنك تنكر عليهم وسيلتهم الشخصية في اختيار كيفية التعبير عن أنفسهم؟ وما هو الحافز للعمل لو لم يكن للناس ممتلكات خاصة بهم؟ إن البيان يوضح أن رأس المال – أو الملكية – ليس قوة شخصية وإنما قوة اجتماعية: "كون شخص رأسماليا معناه أن يكون له ليس فقط مركزا شخصياً وإنما أيضا مركزا اجتماعيا في الإنتاج"(14). ويضيف لذلك لا يؤدي إلغاء الملكية الخاصة إلي مصادرة كل شئ يملكه العامل. وبدلاً من ذلك سوف يتغير الجانب الاجتماعي للملكية: فلن يسيطر عليها أقلية طبقية ضئيلة ولن تشكل الأساس لاضطهاد الآخرين. وفي الحقيقة "لا تحرم الشيوعية أي إنسان من حقه في تملك منتجات المجتمع: فكل ما تفعله حرمانه من سلطة إخضاع عمل الآخرين بواسطة هذا التملك"(15). إن الشكوى حول الملكية هي علي كل حال نفاق من جانب الرأسماليين. فقد دمرت الرأسمالية ملكية صغار الفلاحين، والحرفيين وصغار رجال الأعمال. وأضطر الكثير منهم إلي بيع قوة عملهم في السوق؛ كما إن أجور العمال، والتي تغطي بالكاد تكاليف إعادة الإنتاج لهم ولأسرهم، لا تسمح لهم بحيازة ملكية شخصية ذات شأن: "يستولي عليكم الرعب لأننا نريد إلغاء الملكية الخاصة. ولكن في مجتمعكم القائم ألغيت الملكية بالفعل بالنسبة لتسعة أعشار السكان. إن وجودها عند الأقلية إنما يرجع فحسب لعدم وجودها في أيدي أولئك التسعة أعشار. انتم تلوموننا إذن لرغبتنا في إلغاء شكل الملكية، الشرط الضروري لوجوده هو عدم وجود أي ملكية بالنسبة للأغلبية الساحقة من المجتمع. باختصار، أنتم تلوموننا علي رغبتنا في إلغاء ملكيتكم أنتم. تماما، هذا هو ما نريد بالضبط"(16). فبرغم الحديث عن ديمقراطية الملكية في الرأسمالية الحديثة، لازال تركز الملكية بين أيدي أقلية ضئيلة يثير الاندهاش، خاصة عندما نستبعد السكن – أو الدين في شكل الرهن العقاري. ففي بريطانيا في الثمانينات، مثلا كان نصيب أغني 1% من السكان من الثروة القابلة للتسويق يبلغ 28%، بينما كان نصيب أغني 5% يبلغ 53% من الثروة (17). من الاعتراضات الشائعة الأخرى على الشيوعية هي أن أحداً لن يعمل إذا لم توجد الملكية الخاصة. ويجيب ماركس وإنجلز بأنه إذا كان الوضع كذلك لكان المجتمع قد انهار منذ زمن بعيد حيث "أولئك الذين يعملون لا يملكون شيئاً، وأولئك الذين يملكون، لا يعملون (18). يشير البيان كذلك إلي تناقض آخر فبينما تقلب قوي الرأسمالية العالم رأساً علي عقب، وتدمر الكثير من نسيج المجتمعات القديمة، يتمسك الرأسماليون أنفسهم بالعادات والتقاليد والأفكار القديمة كما لو أنها تنبع من طبيعة إنسانية أزلية. فيستطيع الرأسماليون أن يروا بوضوح عيوب المجتمع القديم أو الإقطاعي، ولكن لا يروا عيوب مجتمعهم هم. فلا يرون طريقة أخري للحياة أو العمل. "إن الفهم الأناني الخاطئ الذي يدفعكم إلي تحويل الأشكال الاجتماعية الناتجة عن أسلوب الإنتاج الحالي وشكل الملكية الخاصة بكم، هذه العلاقات التاريخية التي تظهر وتختفي مع تقدم الإنتاج، إلي قوانين أبدية للطبيعة والعقل – هذا الفهم الخاطئ تشتركون فيه مع كل الطبقات الحاكمة التي سبقتكم (19). ينتقد البيان بعنف تام بعض الأقاصيص البرجوازية الفظيعة عن الشيوعية التي تنتج عن تلك الاتجاهات. فرداً علي الاتهامات بأنهما يحاولان إلغاء العائلة، يجيب ماركس وإنجلز أن النظام الرأسمالي دمر بالفعل مجتمعات بأسرها، ومزق عائلة الطبقة العاملة إرباً، وأجبرهم علي الهجرة ودفع كل أعضاء العائلة، بما فيهم الأطفال الصغار، إلي سوق العمل. وهذا يفسر "غياب العائلة عمليا بين البروليتاريين والدعارة (20). إن تصور البرجوازية عن عائلتها الخاصة وقدسية الحياة العائلية لهو نفاق إلي أبعد الحدود. فهي تقيم عائلتها علي الملكية وآراءها علي الزواج الأحادي وتقيم الأخلاق الجنسية علي الميراث وفكرة النساء كملكية للرجال، يبعن ويشترين. إما كزوجات أو كمومسات. وبدلا من ذلك تحرر الشيوعية النساء من العلاقات الجنسية الإجبارية والخالية من الحب بإزالة القيود الاقتصادية التي تسيطر علي الحب والزواج في ظل الرأسمالية. إن أساس هذه الأفكار – وكذلك الأفكار الثورية المماثلة لماركس وإنجلز حول الجنسية والدين – هو فهم أنه في عملية تغيير المجتمع والانتقال من أسلوب معين للإنتاج (الرأسمالية) إلي أسلوب آخر (الاشتراكية) يلقي بكل الأفكار القديمة إلي العفن وتحل محلها أشكال جديدة من الوعي: هل هناك حاجة إلي إدراك ثاقب لفهم أن أفكار الإنسان وآراءه ومفاهيمه، وبكلمة واحدة، وعي الإنسان، إنما يتغير تبعا لكل تغير يحدث في ظروف وجوده المادي، وفي علاقاته الاجتماعية وحياته الاجتماعية ؟. وماذا يثبت تاريخ الأفكار غير أن الإنتاج الفكري يغير طبيعته بما يتناسب مع تغير الإنتاج المادي ؟. إن الأفكار الحاكمة كانت دائماً أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر".(21) إن أي مجتمع يقوم علي استغلال مجموعة معينة من قبل مجموعة أخري، كما يحدث في المجتمعات الطبقية، سيطور أفكاراً تبرر حكم المستغلين. وليس غريباً أن أفكار الرأسماليين تشرع الملكية وتحميها. إن النضال من أجل شكل جديد للمجتمع يتجاوز تلك العداءات الطبقية لا يعني فقط الصراع المادي ضد الاستغلال بل أيضاً تفسير أيديولوجي بديل للعالم. فيجب فهم تاريخ الأفكار، ليس كسلسة من الأديان المتباينة والمفكرين، وإنما بأنها ترتبط بتطور أنماط إنتاج معينة. إن فكرة إمكانية وجود حقائق مطلقة، تتجاوز اختلاف المجتمعات بل وحتى اختلاف العصور لا تتماسك أمام الدراسة التاريخية. إن التغيرات الاجتماعية الراديكالية التي أعلنها ماركس وإنجلز بل وتأسيس الشيوعية نفسها لا يمكن أن يتحقق إلا عبر إزالة النظام القديم للإنتاج، القائم علي الملكية الخاصة، الذي يسمح لأقلية بمراكمة الثروة بينما تعاني الأغلبية. ولا تستطيع الطبقة العاملة أن تبدأ في القضاء علي العداءات الطبقية التي تنتجها هذه الأوضاع إلا عبر تخليص نفسها منها. وفي النهاية يؤدي الإنتاج لتلبية الحاجات، القائم علي إدارة العمال الذاتية للمجتمع، إلي المجتمع اللاطبقى – أي الشيوعية – حيث يكون "التطور الحر لكل فرد شرط التطور الحر للمجموع"(22). أى نوع من الاشتراكية كان تحليل الاشتراكية العلمية الذي تم شرحه في البيان أول محاولة بسيطة من قبل المؤلفين لتعريف شكل الاشتراكية والشيوعية الخاص بهما بالمقارنة مع مختلف أشكال الاشتراكية الأخرى التي نشأت في إنجلترا وفرنسا وألمانيا خلال أربعينيات القرن التاسع عشر. وكان لديهما خبرة مباشرة بعدد من هذه الاتجاهات. فكان إنجلز علي اتصال مع كل أتباع روبرت أوين ثم مع الحركة التشارتية عندما ذهب إلي إنجلترا للمرة الأولي خلال السنوات الأولى من ذاك العقد. وكتب ماركس "بؤس الفلسفة" رداً علي أفكار الاشتراكي الفرنسي بيير جوزيف برودون. وكان الكثير من المنفيين الألمان في باريس وبروكسل ولندن خلال الأربعينيات من القرن الماضي متأثرين بأفكار "الاشتراكيين الحقيقيين" الألمان. كانت الأشكال المختلفة من الاشتراكية المطروحة في ذلك الوقت تميل إلي التطلع للوراء، نحو مجتمع يفترض أنه أفضل قبل تجاوزات الرأسمالية. وكان أنصارها يفتقدون أي استراتيجية لتغيير المجتمع فيما عدا تقديم النداءات لممثلي الطبقات القديمة الذين يعانون أنفسهم من هجمات الرأسمالية، أو الرأسماليين من ذوي العقلية الليبرالية، أو النداءات العامة والمجردة "للحقيقة" و "العدالة". وكان ماركس وإنجلز شديدي الحدة في نقدهما لتلك التيارات الاشتراكية المختلفة، كما بين القسم الأخير من البيان ببعض التفصيل. فبعد شرح نظريتهما عن الاشتراكية، ينخرطان في سجال ضد من يتنافسون علي كسب العمال لأفكار مغايرة. ويناقشان مختلف أشكال الاشتراكية التي راجت في السنوات السابقة علي كتابة البيان، ويبدأن بالتحليل المادي للأسباب التي جعلت هذه الأشكال من الاشتراكية تجد جمهوراً. إن النظريات الاشتراكية المختلفة تعبر عن محاولات شتي لطبقات وقوي اجتماعية مختلفة كي تتعامل مع ظاهرة الرأسمالية. إن كثيراً من الأشكال الأولي للاشتراكية كان يقودها ويلهمها ويؤكد عليها ممثلون لتلك الطبقات التي فقدت الكثير في الانتقال من الإقطاعية إلي الرأسمالية والذي كان نقدهما للنظام القديم يقوم علي الرغبة في الحفاظ علي وضعها القديم في النظام الاجتماعي. وحتى الأرستقراطية كانت مستعدة للهجوم علي البرجوازية الناشئة بالكلمات، رغم أنها كانت تساومها في الأفعال وفي اقتسام غنيمة الثروة. لم تكن حركة ”إنجلترا الفتاة" مطلقا حركة اشتراكية حقا ولكن كان لديها بعض الأتباع في أوائل أربعينات القرن التاسع عشر. كتب ديسرائيلي، الذي أصبح فيما بعد رئيسا للوزراء في حكومة المحافظين، روايتين، سبيل وكونينجسباي، اللتين يمكن قراءتهما كنصوص أساسية لمدرسة "إنجلترا الفتاة"، كان لدي أولئك الصغار من أبناء الأرستقراطية هدفا مثاليا: أن يقاوموا صعود البرجوازية ويعيدوا إنتاج سلطة الأرستقراطية بالتوجه إلي الطبقات العاملة في المصانع والمزارع، ليس ببساطة عبر ديماجوجية اجتماعية وإنما عبر التحسين الحقيقي لأوضاع جموع العمال – كليا علي حساب الطبقات الحاكمة المتصارعة"(23). كانت هذه القوي بالتالي تعبر عن انقسامات في صفوف الحكام وتناقض حقيقي في المصالح بين مختلف قطاعات الطبقة الحاكمة. ومع ذلك لم تكن لديهم أي رغبة في رؤية الطبقة العاملة تتحرك من أجل مصالحها الخاصة، حيث يهدد ذلك ملكية ومكانة كبار الملاك والكنيسة بنفس الدرجة التي يهدد بها ملاك المصانع. ولذلك كان نقدهم للرأسمالية يجذب أكثر العمال رضوخاً وأقلهم وعيا بطبقتهم، أي أولئك الذين يكونون أكثر احتراماً لمن "يفضلوهم". تقوم أفكار الاشتراكيين "البرجوازيين الصغار" كذلك علي أساس طبقة ولي عهدها ووجدت أن وجودها مهدد بسبب وجود الصناعة الحديثة ونمو البروليتاريا. وتوجد قاعدتها الاجتماعية بين طبقة صغار الفلاحين، التي كانت كبيرة الحجم في فرنسا وألمانيا، وبقايا منتجي القرون الوسطي القدماء. "هذا النوع من الاشتراكية، في أهدافه الإيجابية، يتطلع إما إلي العودة إلي وسائل الإنتاج والتبادل القديمة، ومعها علاقات الملكية القديمة والمجتمع القديم، أو إلي محاصرة وسائل الإنتاج والتبادل الحديثة داخل إطار علاقات الملكية القديمة التي فجرتها، أو كان محتوماً أن تفجرها هذه الوسائل. وفي كلتا الحالتين فهي اشتراكية رجعية وخيالية".(24) وأحد الأمثلة علي اشتراكية البرجوازية الصغيرة، كانت "الاشتراكية الحقيقية" الألمانية التي كانت مؤثرة قبل 1848. استمد "الاشتراكيون الحقيقيون"، أفكارهم من الأفكار الاشتراكية التي ظهرت للمرة الأولي في فرنسا ولكنهم بلوروها بطريقة جعلتها مشوهة تماماً. ولم يضعوا في اعتبارهم الفوارق الموجودة بين البلاد من حيث التطور الرأسمالي واختصروا الأفكار الاشتراكية إلي التفلسف المجرد بدلاً من كونها نتاجا للصراع الحقيقي بين الطبقات. لقد حاولت "الاشتراكية الحقيقية" أن تعلو فوق الصراع الأساسي بين الطبقات، ولذلك تأقلمت مع الوضع القائم. وحازت شعبية في ألمانيا بقدر ما كانت تمثل رفضا لفظائع الرأسمالية الصناعية، ولكنها أيضا دافعت عن الحفاظ علي قيم وأفكار البرجوازية الصغيرة ضد صعود الطبقة العاملة الثورية الجديدة. لقد وضعت خزينا من القيم الأزلية مثل "الحقيقة" التي افترضت أنها تجاوز حدود المجتمع الطبقي ولكنها في الواقع حاولت تجاهل الانقسامات الطبقية الجوهرية. وعند مواجهة اختبار الأحداث الواقعية، فشلت "الاشتراكية الحقيقية": لقد نسيت الاشتراكية الألمانية في اللحظات الأخيرة أن النقد الفرنسي، الذي كانت صداه التافه، يفترض أولاً وجود المجتمع البرجوازي الحديث، بشروطه الاقتصادية الملائمة لوجوده، والبناء السياسي الملائم لها، نفس الأمور التي كان تحقيقها هدفاً للصراع الوشيك في ألمانيا. وبالنسبة للحكومات المستبدة واتباعهما من الأفراد والأساتذة وملاك الأرض في الريف والمسئولين، ساعد (هذا النقد) كشبح مرغوب فيه ضد البرجوازية التي تهددها.(25) كان "الاشتراكيون الحقيقيون" رمزا للمصالح الرجعية في السياق الألماني ونتجت عن قاعدتهم الطبقية البرجوازية الصغيرة، وكانت محاولتهم للحفاظ علي طبقتهم تعني معارضة الثورة في ألمانيا، لأنهم كانوا يخشون سيطرة كل من البرجوازية الصناعية والبروليتاريا. فالتطور الرأسمالي في ألمانيا يعني أن البرجوازية الصغيرة تتعرض لضغوط شاملة، لهذا السبب، وبرغم الخطابة الزاعقة. "للاشتراكيين الحقيقيين"، لم يمثلوا تحديا حقيقيا للنظام القائم. لقد كانت الأفكار الاشتراكية والشيوعية موجودة قبل أن يبدأ ماركس وإنجلز في الكتابة بزمن طويل. ورغم ذلك، بدأت كل هذه النظريات السابقة من شعور مبرم تماماً بالفزع الأخلاقي ضد هجمات النظام، ولكنها لم تستطيع تفسير كيف يمكن إيقاف هذه "التجاوزات"، وكيف يمكن تغيير المجتمع. وقد قسم ماركس وإنجلز هؤلاء الاشتراكيون إلي قسمين: أولاً الاشتراكيين المحافظين أو البرجوازيين الذين يمثلهم برودون قبل كل شئ. وهؤلاء الاشتراكيون أنكروا العداء الطبقي الأساس في المجتمع الرأسمالي وحاولوا التقرب إلي القطاعات "التقدمية" من البرجوازية حول قضايا "إنسانية" وبالفعل كانت بعض القطاعات من البرجوازية تريد إصلاحات محدودة للنظام، لأنهم يشعرون أن احتمالات بقاء الرأسمالية مطلقة العنان ضئيلة، فتجاوزاتها تهدد وجودها ذاته. وكان هدفهم هو إزالة أسوأ جوانب الرأسمالية إصلاحاً لها، وبالتالي الحفاظ علي النظام. وكان البيان ينتقد بشدة كل هذه الأهداف التي صنفها طبقيا كالتالي:"ينتمي إلي هذا القطاع الاقتصاديون، وأصحاب الاتجاهات الخيرية والإنسانية، ومن يطالبون بتحسين أحوال الطبقة العاملة، ومنظمو الجمعيات الخيرية، وأعضاء جمعيات الرفق بالحيوان، والمتعصبون للاعتدال، ومصلحو الثغرات والأركان من كل نوع"(26). لقد قدم برودون ضرباً من اشتراكية السوق في القرن التاسع عشر فليست المشكلة هي السوق نفسه، وإنما تشويه البنوك والاحتكارات للسوق هو المشكلة. كان "الاشتراكيون الطوبويون" هم المجموعة الأخرى التي تناولها البيان. وكان لأفكارهم تأثير كبير علي ماركس وإنجلز اللذين حافظا علي درجة من الاحترام لهؤلاء الأشخاص وأفكارهم. ولكن حتى أفضل من فيهم، وهم الاشتراكيان الفرنسيان كلود هنري دى سان سيمون وشارل فوربيه والاشتراكي الإنجليزي روبرت أوين، خضعوا للانتقاد في البيان. فبعد أحداث 1848 بفترة قصيرة كتب إنجلز عن "الرجال الثلاثة الذين، برغم كل أفكارهم الخيالية ورغم كل طوبويتهم، لهم مكانتهم بين أكثر المفكرين تميزاً في كل العصور، والتي ابتكرت عبقريتهم أموراً عديدة نبرهن نحن الآن علي صحتها علمياً"(27). واستمر إنجلز بعد ذلك بسنوات في رد دينه النظري للاشتراكيين الطوبويين عندما مدحهم في كتابه الاشتراكية العلمية والاشتراكية الطوبوية. لقد صاغ الطوبويون نظريتهم عن الاشتراكية عندما كانت الطبقة العاملة في طفولتها. وأثر ذلك علي نظرتهم عن الكيفية التي يمكن بها تغيير الرأسمالية وعن أي القوي يمكن أن تكون وكيلاً للتغيير. وبدلاً من النظر إلي دور الطبقة العاملة في هذا التغيير، سعوا إلي صياغة خطط وبرامج عظيمة لبناء المجتمع الجديد. وتبلورت نظريتهم في بعض التجارب الاجتماعية الاعتباطية والفعلية – مثل "فالانسترية" فوربيه (أو القصور الاجتماعية) أو مستوطنة أوين النموذجية للعمال في نيولانارك – ولكن كانت هناك فجوة هائلة بين تصوراتهم عن المجتمع وبين وسائل تحقيقه. فقد نظر الطوبويون إلي الطبقة العاملة كضحية سلبية للاستغلال، وليس كوكيل للتغيير في حد ذاتها. فلم تمتد تصورات الطوبويين الرائعة لتشمل الطبقة العاملة، وبدلا من ذلك رأوا "مشهداً لطبقة بلا أي مبادرة تاريخية أو أي حركة سياسية مستقلة".(28) لذا، بالنسبة لمعظم الاشتراكيين الطوبويين "لم تكن البروليتاريا موجودة من وجهة نظرهم إلا كأشد الطبقات معاناة" ودفعهم ذلك، مثل كل الاشتراكيين الآخرين الذين رفض ماركس وإنجلز مناهجهم، نحو التطلع إلي قوي أخري غير الطبقة العاملة لتحقيق الاشتراكية: إن الوضع المتردي للصراع الطبقي... يدفع الاشتراكيين من هذا النوع إلي اعتبار أنفسهم أسمي بكثير من كافة العداءات الطبقية. إنهم يرغبون في تحسين أوضاع كل أعضاء المجتمع، وحتى أوضاع أحسن الناس حالاً. من هنا، فهم يوجهون نداءهم عادة للمجتمع عموماً، دون التمييز بين الطبقات، بل والأفضل، للطبقة الحاكمة. لأنه كيف يمكن للناس، بمجرد أن يفهموا نظامهم، أن يعجزوا عن فهم أفضل الخطط الممكنة لأفضل وضع ممكن للمجتمع ؟(29) ومع تزايد التطور الرأسمالي ونمو الطبقة العاملة المواكب له تآكلت أكثر قيمة انتقادات الاشتراكيين الطوبويين للرأسمالية. فكان أتباع المفكرين الاشتراكيين الطوبويين العظماء عاجزين عن الارتباط بالصراعات الحقيقية للعمال عندما انفجرت. وقد أوضح ماركس وإنجلز أن "أتباع أوين في بريطانيا وفورييه في فرنسا، علي التوالي، يعارضون الشارتين و"الإصلاحيين"،(30) فأصبح الطوبويون في وقت لاحق حلقات منعزلة كانت تحلم بإقامة مستعمرات اشتراكية، يمولها الأغنياء بالطبع. ولم يكن لهم أي تأثير علي الصراع الطبقي أو أي أهمية بالنسبة للعمال. والحقيقة أن رؤيتهم السياسية دفعتهمفي الاتجاه العكسي: فقد حاولوا بسبب اضطرارهم للاعتماد علي النوايا الطيبة (المحدودة) لدي الأغنياء، التخفيف من العداءات الطبقية وكانوا يعارضون التحرك المستقبل للعمال. فمن أجل تحقيق كل هذه القلاع المعلقة في الهواء كانوا مضطرين إلي التوجه إلي مشاعر وخزائن البرجوازي. وبالتدرج بدءوا يفرقون في صفوف الاشتراكيين المحافظين الرجعيين،(31) إن الفشل في إدراك العداءات الطبقية والتأثير منها والتي شكلت أساس الرأسمالية، أدت إلي ممارسة لها يماثلها في الحركة الاشتراكية اليوم. فالتشديد علي "الإنسانية" وعلي التوجه إلي "المجتمع ككل" واسع الانتشار في حركات البيئة والخضر، حيث يعتقد أن التوجه إلي النزعة الأخلاقية كافيا لحماية البيئة، وحيث يستطيع كبار الرأسماليين مثل أنيتا روديك (صاحبة مركز تجميل وتخسيس، واحدة من أغني سبع نساء في بريطانيا) أن تظهر في موقف صديقة البيئة. وكذلك يتضح التشابه في الحركات المناهضة للأسلحة النووية مثل حملات نزع السلاح النووي CND في أوائل الثمانينات، التي قللت بوعي من دور المصالح الطبقية التي أدت إلي تعبئة الأسلحة النووية في المقام الأول. ويحتوي تاريخ حركة الطبقة العاملة علي أمثلة عديدة من الحلقات التي لديها برنامجاً اشتراكيا بل وثوريا بشكل رسمي، ولكنها ترفض الانخراط في الصراعات اليومية للعمال، والتي وجدت أنها محكوم عليها بالانقراض. والقسم الأخير من البيان الشيوعي يفند أي أفكار عن أن ماركس وإنجلز قللا من أهمية بناء منظمة ثورية. فقد شرحا فيه أراءهما في المنظمات الموجودة في مختلف البلاد – مثال ذلك، تأييدهما للشارتين في إنجلترا. فقد أيدا كل الحركات الثورية ضد النظام القائم، ولكنهما أضافا شرطين: أن تضع دائماً في المقدمة مسألة الملكية كخط الانقسام الطبقي الأساسي، وأن تعلن تأييدها للثورة من أجل الإطاحة بكافة الأوضاع الاجتماعية القائمة.(32) فقد سبق وذكرا في البيان، "في أي علاقة يقف الشيوعيون بالنسبة للبروليتاريا ككل؟ إن الشيوعيين لا يمثلون حزب منفصل في مواجهة أحزاب الطبقة العاملة الأخرى. وليس لديهم أي مصالح منفصلة ومستقلة عن مصالح البروليتاريا ككل"(33). هل يعني هذا أن ماركس وإنجلز كانا ضد بناء منظمة ثورية خاصة للطبقة العاملة؟ أن أي معرفة بسيطة بحياتهما توضح أن ذلك ليس صحيحا. فبرغم وجود فترات طويلة لم يكونا خلالها أعضاء في أي منظمة أو حزب، فحيثما كان مستوي الصراع أو احتياجات حركة الطبقة العاملة تمكنها من بناء منظمة كانا ينخرطان في نسيجها. يصح ذلك بالنسبة للمنظمات الشيوعية الأولي خلال أربعينات القرن التاسع عشر، وبالنسبة للدور المركزي الذي لعبه ماركس في بناء الأممية الأولي خلال ستينات القرن التاسع عشر. ورغم أن إنجلز لم يكن منضما بصورة مباشرة في الأحزاب التي تأسست حول الأممية الثانية حتى نهاية القرن التاسع عشر، كان يلعب دوراً مركزيا في مناقشة المسائل التكنيكية والسياسية المتعلقة بتلك الأحزاب مع بعض القيادات المشاركة فيها. إن استخدام كلمة "حزب" يجب النظر إليها من زاوية مختلفة عن معناها اليوم. فقد كان معناها في 1848 أقرب كثيراً إلي فكرة التيار السياسي أو إلي مجموعة من الأفكار. وعندما جادل ماركس وإنجلز بأن الشيوعيين لا يمثلون حزباً منفصلاً، كانا يقصدان أن أفكارهم تتلاقى مع مصالح البروليتاريا وأنهم لا يقيمون حواجز مصطنعة ما بين الاثنين. وفي نفس الوقت، لم يكن نقدهم العنيف للأشكال الأخرى من الاشتراكية مجرد عملية أكاديمية: بل كانت جزءاً من السجال من أجل بناء العصبة الشيوعية. وهما أيضاً يشددان علي أهمية الوضوح النظري: "لذلك، فأن الشيوعيون هم من ناحية، وبشكل خاص، أكثر القطاعات تقدماً وتصميماً في أحزاب الطبقة العاملة في جميع البلاد، هذا القطاع الذي يدفع كافة القطاعات الأخرى للأمام؛ ومن ناحية أخري، فهم نظرياً، يتميزون عن الجماهير العريضة من البروليتاريا بفهمهم الواضح لخط سير وظروف والنتائج العامة النهائية للحركة البروليتارية"(34). إن هذا الوصف لدور الشيوعيين يدعو للالتزام ببناء منظمة من أشخاص نشيطين ومتطورين سياسياً توحدهم مجموعة من الأفكار والتزام بالنشاط قريبة جداً من الرؤية الحديثة للحزب. خلفية الثورة واكب نشر البيان الشيوعي في فبراير 1848، تقريباً في نفس الوقت، انفجار الثورة في كافة أنحاء أوربا. كانت علامات التمرد موجودة قبل ذل كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير - روزا لوكسمبرج - 02-19-2005 اقتباس: غرامشي كتب/كتبت اجمل تحية لك غرامشي.. أتمنى أن تنشر تعليقاتك (التي أنتظرها بإهتمام لكونك فلسطينياً بلأساس) في موضوع مستقل ليبقى هنا الكتاب وفقط.. (f) كتاب طريق الاشتراكيين للتغيير - روزا لوكسمبرج - 02-21-2005 أثناء حياة الثوريين العظماء، تعقبتهم الطبقات المضطهدة بدون توقف، استقبلت نظرياتهم بالتحقير الوحشي، وبالكره العنيف وبأبشع حملات الأكاذيب والتشهير.. بعد موتهم تحاول تلك الطبقات أن تحولهم إلى أيقونات غير ضارة لتضحيل أسمائهم بينما تفرغ - في الوقت ذاته - نظريتهم السياسية من مضمونها أن تنعم سنها الثوري وأن تفججها.. وتلتقي البرجوازية مع الانتهازيين داخل الحركة العمالية في هذه العملية… يحذفون أو يشوهون أو يشوشون على الجانب الثوري في النظرية، روحها الثورية إنهم يظهرون ويركزون على ما هو أو ما يبدو مقبولا للبرجوازية. لينين: الدولة والثورة توفى أنطونيو جرامشى منذ أكثر من ستين عاما في السابع والعشرين من أبريل 1937 نتيجة لسنوات طويلة من سوء المعاملة في سجون موسولينى، ولكن بشكل ما عانى أكثر منذ وفاته بسبب التحريف الذي حدث لأفكاره على يد هؤلاء الذين لا علاقة لهم بمبادئه الاشتراكية الثورية. عمل جرامشى كثوري محترف منذ 1916 وحتى وفاته. بقى طوال هذه الفترة مصمما على تحويل المجتمع ثوريا من خلال الإطاحة بالدولة الرأسمالية. كان هذا هو سبب وجوده أثناء عمله كصحفي في العديد من الجرائد الاشتراكية في مقدمة الذين طالبوا الحزب الاشتراكي بعمل ثوري في النضال ضد الرأسمالية والحرب بين (1916-1918). كان هذا هو سبب توجهه إلى قلب حركة لجان المصانع في تورينو عامي 1919، 1920. كان هذا أيضا هو الذي أدى إلى المشاركة في الانشقاق عن الحزب الاشتراكي الإصلاحي وتأسيس حزب شيوعي ثوري، هذا ما دفعه لتولى مسئولية هذا الحزب بين 1924-1926، وأخيرا كان هذا هو سبب دخوله سجون موسولينى، التي حاول فيها من خلال مذكراته (مذكرات السجن) الشهيرة أن يطور أفكاره الخاصة عن المجتمع الإيطالي، عن استراتيجية وتكتيك الصراع من أجل السلطة السياسية عن بناء الحزب الثوري وعن الصحافة الثورية، كان يأمل أن تساعد هذه المذكرات الآخرين الذين يشاركونه نفس الهدف الثوري، إلا أن كتاباته قد سطا عليها هؤلاء الذين يريدون تحويل الماركسية إلى مجال دراسة أكاديمي، غير ثوري، أصبح هذا ممكن بادئ ذي بدء بسبب التحريف المنظم لأفكار جرامشى على يد الحزب الشيوعي الإيطالي. فترة التحريف الأولى بدأت فترة التحريف الأولى بعد وفاة جرامشى مباشرة، ففي غضون أسابيع كانت مذكرات السجن قد وقعت في يد الزعيم الستالينى للحزب الشيوعي الإيطالي "بالميرو تولياتى" والذي تركها دون نشر لمدة عشر سنوات. عندما بدأت المذكرات أخيرا في الظهور عام1947 كانت بشكل مقطع ومشوه، وقد أوضح سلفاتور سبش الأشكال التي أخذها تقطيع وتشويه خطابات جرامشى من السجن: * حذف الإشارات للعديد من الماركسيين - بورديجا، تروتسكى، وحتى روزا لكسمبورج - الذين كان تولياني يصفهم كفاشيين في ذلك الوقت. * إخفاء حقيقة قطع جرامشى مع الخط السياسي للحزب الشيوعي الإيطالي منذ 1931. * وصف حياة جرامشى الخاصة أنها قامت على أساس مثالي، وهم يجعل الناس يؤمنون بالوفاء الشيوعي بوحدة العائلة ، واستخدم هذا كأداة في سياسة التعاون مع القوى اليمينية والتي انتهجها الحزب الشيوعي في فترة ما بعد الحرب. * مداراة حقيقة محاولات جرامشى المتكررة للحصول على كتب تعرفه بفكر تروتسكى بعد نفيه من روسيا عام 1929. استهدفت هذه التحريفات تقديم جرامشى كمناضل ستالينى مخلص مثالي. ليصبح جرامشى هكذا سلاحا مفيدا للغاية لأيديولوجية لم تكن تلهم أي مفكرين اجتماعيين يذكروا، سلاح يستخدم في إصهار المثقفين الإيطاليين بالتراث النظري "الغنى" الذي يتمتع به الحزب الشيوعي الإيطالي وللتغطية على الفقر الفكري الذي كان الكرملين وأتباعه يعانون منه، سلاح يستخدم أيضا ضد اليسار، لإظهار أن الحزب الشيوعي الإيطالي الذي كان يحكم إيطاليا بالاشتراك مع الديمقراطيين المسيحيين بعد عام 1945 كان هو نفس الحزب الذي انفصل عن الجناح الإصلاحي في الحزب الاشتراكي عام 1921. كان تقطيع وتشويه فكر جرامشى ضروريا، لأن حقيقة واقع جرامشى لم تكن لتتلاءم والخرافات الستالينية، لقد كان خطابه الأخير قبل دخوله السجن عبارة عن احتجاج مقدم لتولياتى عن المعاملة البيروقراطية التي تعامل بها ستالين مع المعارضة اليسارية وقد مزق تولياتى هذا الخطاب. في 1931 قام شقيق جرامشى بزيارته في السجن، وقد أبلغه جرامشى برفضه لسياسة (الفترة الثالثة) الستالينية المتطرفة اليسارية التي كان تولياتى ينفذها. (كان تولياتى قد طرد ثلاثة من أعضاء اللجنة المركزية لمعارضتهم لهذه السياسة، وتحت الاسم المستعار "أركول" كان تولياتى في مقدمة المدافعين عن هذا الخطأ السياسي ضد انتقادات تروتسكى). ولخوفه الشديد على أخيه لم ينقل شقيق جرامشى هذه الأخبار لتولياتى، فقد كان يعرف أن هذا سيعنى تخلى الحزب عن الدفاع عن أخيه ضد سجانيه الفاشيين، تخلى جرامشى عن محاولاته لفتح حوارات مع السجناء الشيوعيين الآخرين لأن بعضهم ممن كانوا يرددون كالببغاوات المخلصة كلام تولياتى أدانوا جرامشى على أنه "اشتراكي - ديمقراطي" (كان النهج الستالينى في ذلك الوقت يمنع التعاون مع الإصلاحيين على أساس أنهم اشتراكيون فاشيون)، وفى أحد آخر تصريحات جرامشى السياسية لأصدقائه قبل وفاته عبر عن عدم تصديقه للأدلة التي قدمت ضد زينوفييف في محاكمات موسكو. كان تولياتى، بالطبع، في موسكو يصفق لهذه المحاكمات. حاول تولياتى، بعد وفاة جرامشى، أن يقدم نفسه كصديق عمره السياسي. ولكن، ورغم أنهم عملوا سويا بشكل مقرب في أعوام 1919 - 1920 و1925 - 1926، إلا أنهم كانوا عادة مختلفين بشدة حول مسائل الإستراتيجية والتكتيك الثوري أثناء تلك الفترات. ولم تكن هناك أي اتصالات بالمرة بينهما بعد سجن جرامشى عام 1926. فترة تحريف "الشيوعية الأوروبية" في نهاية الأمر، وعلى الرغم من كل هذا، كان تولياتى هو الذي سمح بظهور حقيقة التحريفات السابقة عندما سمح بنشر خطابات ومذكرات جرامشى بدون حذف أو رقابة كان أحد أسباب ذلك هو اضطرار تولياتى لفعل هذا بعد أن بدأ بعض الشيوعيين القدامى في الحديث عن أفكار جرامشى الحقيقية. سبب آخر كان أنه مع مرور الوقت أصبح جرامشى شخص بعيد وأقل خطورة. لكن، فوق كل هذا كان الهدف الرئيسي هو تدشين فترة جديدة من تشويه أفكار جرامشى. كان الحزب الشيوعي الإيطالي قد اتخذ الخطوات الأولى في عملية انفصال الأحزاب الشيوعية الغربية عن موسكو، تلك الأحزاب التي ستسمى بعد ذلك "الشيوعية الأوروبية". كان الحزب الشيوعي الإيطالي قد أخذ الخطوات الأولى في عملية انفصال الأحزاب الشيوعية الغربية عن موسكو منذ بداية الستينات، كانت قيادته تحاول العودة للحكومة البرجوازية الإيطالية التي طردوا منها عام 1947، ولتحقيق هذا الهدف حاولت تلك القيادة أن تثبت للأحزاب البرجوازية أنها لم تعد تابعة للكرملين. كان تولياتى أحد أهم شركاء ستالين في الثلاثينات وأصبح بعد 1956 أحد أعنف منتقديه. أدى هذا التحول في النهج إلى صراعات مريرة مع المدافعين عن ستالين على المستوى العالمي ومع الستالينيين المخلصين بداخل الحزب الشيوعي الإيطالي ذاته. كانت المعركة تجرى على جبهتين- أولا، لتأكيد استقلال الحزب عن ورثة ستالين في الكرملين وثانيا، لإثبات أن انضمام الحزب الشيوعي الإيطالي إلى الحكومة لن يعنى تغير جذري في جهاز الدولة. أصبح نقد جرامشى لستالين، والذي كان خاضعا للرقابة في الماضي، سلاحا مهما على الجبهة الأخرى، وأصبح تشويه أفكار جرامشى عن الدولة سلاحا مفيدا على الجبهة الثانية. أصبح جرامشى قديسا للشيوعية الأوروبية، وحرفت أفكاره لتبرير التوفيق التاريخي الذي تم بين الحزب الشيوعي الإيطالي، وبين الديمقراطيين المسيحيين (المحافظين الإيطاليين). ولكن سرعان ما انطفأ نجم الشيوعية الأوربية، إلا أن ادعاءاتها عن جرامشى بقيت، وانتشرت عن طريق دوريات مثل "الماركسية اليوم" وسيل لا ينتهي من الكتب الأكاديمية وأكثر فأكثر كجزء من الفكر العام لمثقفي يسار الأحزاب الإصلاحية الأوروبية. ولكن، وعلى الرغم من كل هذه الادعاءات، لا يوجد مفكرون ماركسيون تبعد روحهم عن الإصلاحية مثلما تبعد روح جرامشى عنها، فقد بنيت أفكاره على مفاهيم يصنفها إصلاحيو اليوم على أنها "انتفاضوية"، "عمالوية"، "عفوية"، "قواعدية". الإنتفاضوية منذ دخوله الحركة الاشتراكية وجرامشى يكن احتقارا مريرا للبرلمانيين، ففي 1918 قال جرامشى، في عبارات يمكن أن تنطبق على إيطاليا اليوم: إن الانحطاط السياسي الذي يؤدى إليه التعاون الطبقي سببه الاتساع لحزب برجوازي لا يرضيه مجرد الالتصاق بالدولة بل يستخدم أيضا الحزب المعادى للدولة (الحزب الاشتراكي). لقد ركز جرامشى على مسألة بناء لجان المصانع في 1919 بسبب اقتناعه بأن الوسيلة الوحيدة أمام الطبقة العاملة لتحقيق ثورتها هي من خلال مؤسسات جديدة، غير برلمانية. لقد قبل البرلمانيون ببساطة الواقع التاريخي الناتج عن المبادرة الرأسمالية، إنهم يؤمنون بديمومة وجوهرية مؤسسات الدولة الديمقراطية، وفى نظرهم يمكن تصحيح أشكال هذه المؤسسات الديمقراطية، يمكن تحسينها هنا أو هناك، ولكن، في الأساس، يجب احترامها، أما نحن فما زلنا مقتنعين بأن الدولة الاشتراكية لا يمكن أن تتجسد في مؤسسات الدولة الرأسمالية، لابد للدولة الاشتراكية أن تكون إبداعا جديدا جوهريا. وإزاء عداء جرامشى للإصلاحية في السنوات التي تلت، لم يكن هذا العداء موجها فقط ضد الجناح اليميني من الاشتراكيين الديمقراطيين الملتفين حول تولياتى، بل أيضا ضد أقصى يسار الاشتراكيين الديمقراطيين تحت قيادة سيراتى - والمسمين بالمتطرفين القصويين - كان هؤلاء الإصلاحيين قد وقفوا جانبا وسمحوا بانعزال وهزيمة عمال تورين في إضراب1920 العظيم، ثم رفضوا تقديم قيادة ثورية في النضال المتصاعد الذي أدى في سبتمبر 1920 لاحتلال عمال المصانع في جميع أنحاء شمال إيطاليا، أدت هذه الخيانات بجرامشى إلى الانضمام للمنفصلين عن الحزب الاشتراكي وتكوين الحزب الشيوعي الإيطالي في سنة 1921. لم يكن عداء جرامشى لليمين ويسار الإصلاحية نتيجة "عدم نضج سياسي" تخطاه جرامشى فيما بعد كما يتوهم الكثير من محللي حياة جرامشى المعاصرين، فقد شدد جرامشى على هذه المسألة في الأطروحات التي قدمها للحزب الشيوعي الإيطالي في ليون1926 وكانت آخر مجهود ضخم له في الحزب قبل اعتقاله. تعتبر أطروحات ليون، أنضج كتابات جرامشى التي تم نشرها، كتبها في الأساس ضد مجموعة بورديجا المتطرفة - اليسارية والتي كانت حتى ذلك الوقت تسيطر على الحزب. كانت نقطة الخلاف الأساسية في إصرار جرامشى على كشف وفضح القيادات الإصلاحية من خلال طرح جبهات متحدة معهم في مسائل محددة، ولكنه كان في نفس الوقت يصر على أنه رغم أن الاشتراكية الديمقراطية تحافظ بدرجة كبيرة من أساسها الاجتماعي في البروليتاريا، إلا أنه بسبب ما تؤديه من مهام أيديولوجية وسياسية يجب اعتبارها الجناح اليساري للبرجوازية وليس الجناح اليميني للحركة العمالية ومن ثم يجب كشفها في أعين الجماهير. يعتبر هذا التعريف شبيه جدا بتعريف لينين للأحزاب الإصلاحية كأحزاب "عمالية برجوازية" وليس من المستغرب أنه رغم أن "أطروحات ليون" هي من أفضل تحليلات جرامشى، فهي كانت من أواخر الأعمال التي تم السماح بنشرها. تماشى عداء جرامشى للإصلاحية مع فهمه العميق لضرورة الانتفاضة المسلحة، تقول "أطروحات ليون": كانت هزيمة البروليتاريا الثورية في الفترة الحاسمة 1919-1920 نتيجة لقصور سياسي وتكتيكي وتنظيمي وإستراتيجي عانى منه الحزب العمالي، وكنتيجة لهذا القصور لم تنجح البروليتاريا في وضع نفسها على رأس انتفاضة الغالبية العظمى من الشعب وتوجيهها نحو خلق دولة عمالية، بدلا من ذلك وقعت هي نفسها تحت نفوذ طبقات اجتماعية أخرى شكلت نشاطها. العمالوية أعتبر جرامشى أن مفتاح الصراع من أجل السلطة هو الطبقة العاملة، جسد ولحم العمال الكادحين في مصانع تورين وليس العمال الأسطوريين المؤهلين طبقا للنظرة الستالينية أو الماوية. كتب جرامشى في 1919 "إن التمركز الرأسمالي ينتج تمركز موازى للجماهير الإنسانية العاملة- من هنا تبدأ كل الأطروحات الثورية الماركسية". كان هذا التشديد على الدور الرئيسي للطبقة العاملة سبب اشتراك جرامشى في حركة اللجان العمالية في تورين 1919و1920، نجد أن التشديد أيضاً في أطروحات ليون: لا بد أن يبنى التنظيم الحزبي على أساس الإنتاج، أي على أساس خلايا في مكان العمل يعتبر هذا المبدأ ضروريا لخلق حزب بلشفي، إنه يعتمد على ضرورة أن يكون الحزب مجهزا لقيادة الحركة الجماهيرية للطبقة العاملة والتي تتوحد بشكل طبيعي من خلال التطور الرأسمالي على أساس عملية الإنتاج ومن خلال تمديد الأساس التنظيمي في مكان الإنتاج يكون الحزب قد اختار الطبقة التي يؤسس نفسه عليها، ويعلن أنه حزب طبقي وحزب طبقة واحدة: الطبقة العاملة، إن كل الاعتراضات على المبدأ الذي يؤسس التنظيم الحزبي على مكان الإنتاج هي نتيجة مفاهيم طبقات غريبة عن البروليتاريا… إن تلك الاعتراضات تعبر عن الروح المعادية للبروليتاريا لدى مثقفي البرجوازية الصغيرة الذين يؤمنون بأنهم ملح الأرض وأن العمال ما هم إلا وسائل مادية للتغيير الاجتماعي وليسوا الفاعلين الواعين والمدركين في الثورة…. لابد أن يضم الحزب مثقفين وفلاحين، ولكن من الضروري أن نرفض بشكل قاطع وكمفاهيم مضادة للثورة تلك التي تجعل من الحزب توليفة من العناصر المختلفة بدلا من الإصرار وبدون أي تنازلات من هذه النوعية، على أن الحزب هو جزء من البروليتاريا وأنه يجب على البروليتاريا أن تلونه بطابعها التنظيمي الخاص… لابد أن يضمن للبروليتاريا الدور القيادي داخل الحزب ذاته. والسبب بسيط - فالطبقة العاملة هي القوة الثورية الحاسمة. لم ينكر جرامشى أبدا الأهمية الحيوية لكسب العمال الزراعيين والفلاحين للثورة.. كان يرى منفعة كبيرة للطبقة العاملة في كسب قطاعات من الطبقة الوسطى، إلا أنه بالنسبة له كان هذا يعنى أن تقود لا أن تخبئ أهدافها الاشتراكية، وعلى الثوريين أن يكونوا مستعدين لأن يناضلوا بجانب غير الثوريين حول شعارات بعيدة كل البعد عن الاشتراكية، مثل مطلب جمعية تأسيسية أكثر ديمقراطية، ولكن لابد أن يكون واضحا أنه: ليس هناك إمكانية لثورة في إيطاليا غير الثورة الاشتراكية، إن الطبقة الوحيدة في البلاد الرأسمالية القادرة على تحقيق تحول اجتماعي حقيقي وعميق، هي الطبقة العاملة، على هذا الأساس ظل جرامشى، وحتى بعد انفصاله عن بورديجا وسياسته اليسارية المتطرفة، معاديا بشدة للتيار اليميني في الحزب الشيوعي والذي قاده تاسكا. كان جرامشى مصرا على أنه من التشاؤم والتحريفية الاعتقاد بأنه: بما أن البروليتاريا لن تستطيع الإطاحة بالنظام قريبا فإن التكتيك الأفضل هو سلبية الطليعة الثورية وعدم تدخل الحزب الشيوعي في الصراع الرئيسي المباشر وبالتالي السماح للبرجوازية باستخدام البروليتاريا كقوة انتخابية ضد الفاشية، هذا إن لم يكن حلف برجوازي - بروليتارى من أجل التخلص دستوريا من الفاشية. وتعبر عن هذا البرنامج المعادلة التي تقول أنه يجب على الحزب الشيوعي أن يكون الجناح اليساري لكل القوى المعارضة الراغبة في إسقاط النظام الفاشي. قال جرامشى أنه على الحزب الشيوعي أن يطرح بعض الشعارات الديمقراطية التي تطرحها أيضا الأحزاب البرجوازية المعارضة ويكون هذا من أجل فضح هذه الأحزاب من خلال اختبار الأفعال، أمام الجماهير فتفقد تأثيرها عليه، ما من شك أنه إذا كان جرامشى حيا اليوم لسن معجبيه الحاليين في الحزب الشيوعي الإيطالي وأحزاب الشيوعية الأوروبية لعدم تفهمه للحاجة "لتحالف ديمقراطي واسع" "لكل القوى المناهضة للاحتكارية". العفوية إن أكثر المجالات تطورا في فكر جرامشى يتعلق بالنضال من أجل وعى ثوري للطبقة العاملة. يبدأ جرامشى بالإصرار على عدم إمكانية تدريب الطبقة العاملة بشكل ميكانيكي على النضال، مثل الجيش. فالنظام وانضباط الطبقة العاملة يعتمدان على وعيها. والوعي بدوره ينمو في علاقة مباشرة مع التجربة العملية للنضال. تطورت أفكار جرامشى في هذه المسألة من خلال سجاله ضد التيارات الثلاث الأخرى في اليسار الإيطالي في العام التالي للحرب العالمية الأولى. قاد أكبر تلك التيارات سيراتى وكان يرى أن الحزب الاشتراكي هو التجسيد للوعي الشيوعي - ديكتاتورية البروليتاريا هي ديكتاتورية الحزب الاشتراكي. كان سيراتى يعرف الوعي الشيوعي بالعملية البطيئة والمنهجية لبناء الحزب، أما التيار الثاني، الثوريون اليساريون، المتطرفون الملتفون حول بورديجا فكانوا يرون أن حزب سيراتى لن يجرؤ على الاستيلاء على السلطة. ولكنهم هم أيضا كانوا يرون أن الوعي الشيوعي يتجسد في حزب، الحزب الشيوعي وهو صفوة صغيرة من الكوادر المدربة أعلى تدريب والمنضبطة لأقصى حد. لن يستطيع العمال تكوين السوفيتات "المجالس العمالية" إلا بعد أن يستولي الحزب على السلطة من أجل الطبقة. كان التيار الثالث، الجناح اليميني بقيادة تاسكا، يركز من جهة على تعليم العمال ومن جهة أخرى على عقد اتفاقات مع يسار قيادات النقابات العمالية، كانت هذه المجموعات الثلاث تشترك، على الرغم من الاختلافات بينهم في فكرة أن الوعي الشيوعي هو شئ يقذف به قيادات الحزب للعمال كما تقذف الفتات للطيور. كانت العوامل التي تحدد تطور وعى العمال بالنسبة لجرامشى، على عكس تلك التيارات، هي طبيعة وقيادة النضالات والمؤسسات المتطورة عفويا. لم يمثل السوفييت بالنسبة لجرامشى، كما لم يكن يمثل بالنسبة للينين وتروتسكى، شئ مجرد يصنعه الحزب في اللحظة المناسبة بل شئ يولد كأداة لنضال العمال في المصانع، ربما يولد في البداية حول مسألة غير مهمة جدا، فعلى سبيل المثال نتجت إحتلالات العمال للمصانع (الشبيهة بالانتفاضة) في سبتمبر 1920 عن فشل المفاوضات بين النقابة والإدارة حول اتفاقية أجور الهندسيين على المستوى القومي. يجب أن ينتج السوفييت عن تنظيم يربط العمال بعضهم ببعض، بغض النظر عن حرفهم ونقابتهم، وبغض النظر عن كونهم أعضاء في نقابات أم لا، تنظيم يربطهم في مكان الإنتاج، يوحد نضالاتهم مع نضالات العمال الآخرين المرتبطين بهم في عملية الإنتاج، تنظيم يعبر عن وعيهم المتنامي بوحدتهم وقوتهم وقدرتهم على السيطرة على الإنتاج، لم تظهر لجان العمال في تورينو من فراغ. لقد بدأ تطورها كلجان داخلية في المصانع ذات وظيفة شبيهة بمنظمات لجان العنابر في بريطانيا. كان جرامشى يرى أن دوره ورفاقه في جريدة (العصر الجديد) التي كانوا يصدرونها في تورينو هو مساندة هذا التطور العفوي وتعميم هذه اللجان الداخلية وتوسيع قواعدها، تشجيعها على الاستيلاء على السلطة أوسع وأكثر من الإدارة، وأيضا على التوحد. كما كتب جرامشى: أصبحت مسألة تطور اللجان الداخلية هي المسألة الرئيسية بل كل الغرض من وجود العصر الجديد أصبحنا ننظر لها كالمسألة الجوهرية في الثورة العمالية: مسألة "التحرر البروليتارى" بالنسبة لنا ولأنصارنا أصبحت (العصر الجديد) هي (جريدة) لجان المصانع. أحب العمال (العصر الجديد) فلماذا أحبوها؟ لأنهم اكتشفوا في مقالاتها الجزء الأفضل من أنفسهم. لأنهم أحسوا أن مقالاتها تمتلئ بنفس روح البحث الذاتي التي كانوا يمرون بها: كيف يمكن أن نصبح أحرارا؟ كيف يمكن أن نصبح أنفسنا؟ لأن مقالاتها لم تكن أعمدة ثقافية باردة، بل نتيجة حواراتنا مع أفضل العمال لأنها كانت تعبر عن مشاعر وأهداف وآمال الطبقة العاملة في تورينو. قمنا باستفزازها وتجربتها بأنفسنا، لأن مقالاتها كانت فعليا "تدوين لوقائع حقيقية - وقائع ينظر إليها كلحظات في عملية تحرر داخلي وتعبير ذاتي من قبل الطبقة العاملة لهذا أحب العمال "العصر الجديد" وهكذا (تشكلت) فكرتها. عندما كتب جرامشى هذه السطور عام 1920 كان لا يزال عضوا بالحزب الاشتراكي. لم يرى جرامشى إلا في أواخر ذلك العام وبعد هزيمة حركة احتلال المصانع الحاجة للانفصال عن الإصلاحية اليسارية وتكوين حزب ثوري متجانس. لذا كانت كتاباته عن لجان العمال تفتقد أي أطروحات واضحة عن كيفية عمل الحزب الثوري بداخل تلك اللجان، ومع ذلك فإن تلك الكتابات تركز على الأساليب التي لا بد أن يتبعها الثوريون والجريدة الثورية من أجل الإمساك بالعناصر الجنينية للتنظيم الشيوعي والوعي الشيوعي في صعودهما العفوي، ولتعميم وتنسيق هذين (الوعي والتنظيم)- لجعل العمال واعيين بهما. عاد جرامشى لنفس المسألة في نقده الذاتي في 1923 لسماحه لأفكاره أن تدفن تحت دوجماتية بورديجا لمدة ثلاثة أعوام. لم نفهم الحزب كعملية جدلية تلتقي فيها الحركة العفوية للجماهير الثورية مع الإرادة التنظيمية والقيادية للمركز. ولكننا فهمنا الحزب كشيء يطير في الهواء، يتطور من ذاته ولذاته، تصل إليه الجماهير حين يصبح وضعها ملائما لذلك حين تصل الموجة الثورية إلى قمتها. إن بناء الحزب ليس مسألة حقن العمال بالأفكار من خلال الدعاية المجردة ولا هي مسألة الانتظار حتى يتحرك العمال تحت تأثير الأزمة الاقتصادية. إنها مسألة الارتباط بكل النضالات الجزئية العفوية ومحاول التعميم على أساها. عبر جرامشى عن نفس هذا الرأي في (مذكرات السجن) ولكن باللغة الأكثر تحديدا لتلك المذكرات - حيث كتب فيها أن مهمة الحزب هي استخلاص عناصر (النظرية) الموجودة ضمنيا في النضال الجماعي للطبقة العاملة. وطرح هذه النظرية ضد كل النظريات المتخلفة، سابقة الوجود في عقول العمال. من الممكن أن تبنى، في ممارسة محددة نظرية تستطيع من خلال تطابقها وتماثلها مع العناصر الحاسمة في الممارسة ذاتها أن تسرع من العملية التاريخية المادية وتجعل الممارسة أكثر كفاءة في كل عناصرها، وهكذا. وبكلمات أخرى، تطور إمكاناتها للحد الأقصى. يبعد هذا القصور كل البعد عن رؤية الشيوعيين الأوروبيين الذين يعتبرون أن النضال من أجل الاشتراكية هو عملية نقية - بطيئة من التعليم تجعل العمال يصوتون بشكل متزايد للتركيبة الصحيحة من البرلمانيين وقيادات النقابات. القواعدية لم يكنّ جرامشى إلا الاحتقار للسياسيين الإصلاحيين الذين أرادوا - ويريدون - تحديد الصراع الطبقي وإدخاله في قنوات ضيقة من صنعهم،لإعاقة طريقه الواضح بشكل تعسفي وذلك من خلال تركيبة معدة "مسبقا". فى1919 بدأ جرامشى في تحليل مصدر تلك الإعاقة وحدده في برلمانيي الحزب الاشتراكي وبيروقراطي النقابات. وشدد على الاغتراب الذي يشعر به الكثير من العمال تجاه نقاباتهم وذهب يحلل أصول هذه الظاهرة في أن النقابات تعمل من أجل كسب الإصلاحات بداخل الرأسمالية ويتم بناء وهيكلة تلك النقابات على هذا الأساس. إن النقابات نوعية من التنظيمات البروليتارية الخاصة بالفترة التاريخية التي يهيمن فيها رأس المال…. في تلك الفترة التي يقيم فيها الأفراد على أساس ملكيتهم للسلع وتجارتهم في ملكيتهم ويصبح العمال أيضا تجار في السلعة الوحيدة التي يملكونها- قوة عملهم…لقد خلقوا هذه الأجهزة الضخمة لتركيز العمل الحي وتحديد الأسعار وساعات العمل وتنظيم السوق.إن للنقابات، بالأساس، طبيعة تنافسية وليس شيوعية.ولا يمكن أن تكون أداة لإعادة البناء الراديكالي للمجتمع.وهكذا ظهرت شريحة من المسئولين النقابيين ذات سيكولوجيا جماعية متناقضة تماما مع سيكولوجيا العمال. دفع هذا التحليل وتجربة لجان المصانع بتورينو جرامشى لأن يعتبر، بشكل متصاعد بيروقراطية النقابات كمخرب فعال للصراع الطبقي، يرى المسئول النقابي الشريحة الصناعية كوضع دائم. وكثيرا ما يدافع عن نفس موقف المالك. أصبح جرامشى، بعد خيانة 1920، واعيا تماما بالدور المعادى للثورة الذي تقوم به قيادات النقابات. تصادم الإضراب العام بتورينو وبيمونت بشكل مباشر مع تخريب ومقاومة التنظيم النقابي… وقد أوضح الإضراب العام الحاجة العاجلة لمحاربة الجهاز البيروقراطي للنقابات والذي يشكل الحصن الصلب للنشاطات الانتهازية للبرلمانيين والإصلاحيين الذين يستهدفون خنق كل المبادرات الثورية للطبقة العاملة. كتب جرامشى في أطروحات ليون أنه: لابد أن تفهم المجموعة التي قادت كونفدرالية العمل (الاتحاد النقابي الرئيسي في إيطاليا في أوائل العشرينيات) من وجهة النظر هذه، أي كأداة لتفتيت الطبقة العاملة من قبل طبقات أخرى. لم يتخل جرامشى (مذكرات السجن) عن هذه المواقف "غير الناضجة" (العمالوية) و(القواعدية). فقد كتب في 1930: إن إهمال أو احتقار الحركات المسماة بالعفوية، أي الفشل في إعطاء تلك الحركات قيادة واعية ورفعها لمستوى أعلى من خلال إدماجها في السياسة، عادة ما يكون له عواقب وخيمة جداً. وقد ربط جرامشى بين هزيمة 1920، والتي مهدت الطريق أمام انقلاب موسولينى في عام 1922، وبين فشل سيراتى وبورديجا وتاسكا في تقديم تلك القيادة للحركات العفوية للعمال والفلاحين: كلما حدثت حركة (عفوية) للطبقات (الدنيا) (الجماهير العاملة) ترافقها في كل المرات تقريبا حركة رجعية للجناح اليميني للطبقة الحاكمة لنفس الأسباب. فمثلا، تؤدى أزمة اقتصادية، من جهة، لسخط الطبقات (الدنيا) وحركات عفوية، ومن الجهة الأخرى إلى مؤامرات للمجموعات الرجعية التي تستغل الإضعاف الموضوعى الذي يحدث للحكومة وذلك في محاولة للانقلاب. لابد أن نرى في أهم أسباب تلك الانقلابات فشل المجموعات المسئولة (الحزب الاشتراكي) في تقديم أي قيادة واعية للتمردات العفوية أو تحويلها إلى عامل سياسي إيجابي. لم يكن جرامشى، بالطبع، عمالوى، أو عفوي، أو قواعدي بالمعنى المباشر لتلك الكلمات، أي بمعنى التقليل من شأن الدور التدخلى للماركسيين في الصراع الطبقي. العكس هو الصحيح، فقد كان نشاطه في 1919- 1920، و1924-1926،مثالا رائعا، على الرغم من أخطائه بالطبع على هذا التدخل. الأطروحة الأساسية إن التحريفات الإصلاحية لفكر جرامشى مبنية على الأطروحة المثالية:يقال أن جرامشى كان يرى اختلافا كبيرا بين المجتمعات الغربية وروسيا القيصرية. تعتمد سلطة الطبقة الحاكمة في الغرب، ليس على السيطرة المادية المباشرة من خلال الجهاز العسكري – البوليسي - بل على سيطرتها الأيديولوجية التي تمارسها من خلال شبكة من المؤسسات الاختيارية التي تنتشر في (المجتمع المدني) - الأحزاب السياسية، النقابات، الكنائس ووسائل الإعلام. ويعتبر جهاز الدولة القمعي فقط أحد العديد من وسائل دفاع المجتمع الرأسمالي. يستنتج من كل هذا أن النضال الرئيسي للثوريين ليس الهجوم المباشر على السلطة السياسية، بل النضال من أجل السيطرة الأيديولوجية، ما أسماه جرامشى بـ (الهيمنة). تكتسب هذه الهيمنة من خلال عملية طويلة تستغرق سنوات عديدة وتتطلب قدرا هائلا من الصبر والتضحيات من جانب الطبقة العاملة. وبالذات لن تستطيع الطبقة العاملة أن تصبح صاحبة(هيمنة) مضادة إلا من خلال كسب القطاعات الرئيسية من المثقفين والطبقات التي يمثلونها بسبب الدور الحاسم الذي يلعبونه في تشغيل أجهزة السيطرة الأيديولوجية. لابد أن تكون الطبقة العاملة مستعدة للتضحية بمصالحها الاقتصادية قصيرة المدى من أجل هذا الهدف. وإلى أن يتحقق ذلك الهدف، أي إلى أن تصبح الطبقة العاملة هي المهيمنة، سيكون مصير أي محاولات للاستيلاء على السلطة السياسية الهزيمة. تم تبرير هذا الموقف بالزعم بأنه مبنى على أساس الفرق الذي تحدث عنه جرامشى في (مذكرات السجن) بين نوعين من الحرب: حرب المناورات: وهى تتضمن تحركات سريعة للجيوش المتحاربة بدفعات قوية للأمام وللخلف كلما حاول أحد الطرفين الاستيلاء على مواقع ومدن الطرف الآخر. حرب المواقع: وهو صراع طويل المدى يشل فيه الجيشان بعضهما البعض في المعركة، ولا يستطيع أي منهما التقدم، مثل حرب الخنادق (1914 - 1918). يؤكد الخبراء العسكريون أنه في حروب الدول الأكثر تقدماً صناعياً واجتماعياً تعد وظيفة حرب المناورات تكتيكية أكثر منها استراتيجية يجب أن يتم هذا أيضا في فن وعلم السياسة على الأقل في أكثر الدول تقدما، حيث أصبح (المجتمع المدني) بناءا شديد التعقيد محصن بدرجة كبيرة ضد (عواقب) الكوارث الاقتصادية المباشرة (الأزمات، الكساد،…,الخ). كانت آخر تجربة ناجحة - لحرب المناورات - أي الهجوم الأمامي المباشر على الدولة - هي ثورة أكتوبر 1917: يبدو لي أن إليتش (لينين) فهم ضرورة التحول من حرب المناورات، التي طبقت بنجاح في الشرق في 1917، إلى حرب المواقع والتي كانت الشكل الوحيد الممكن في الغرب. كان أساس هذا التحول في الإستراتيجية هو الاختلاف بين الأبنية الاجتماعية بين روسيا القيصرية و أوروبا الغربية: كانت الدولة في روسيا هي كل شئ، أما (المجتمع المدني) فكان بدائياً وهلامياً… في الغرب عندما كانت الدولة تهتز كان يظهر في الحال المجتمع المدني ببنيته القوية، لم تكن الدولة إلا حاجز أمامي يقف أمامه نظام قوى من القلاع و الخنادق. إن معادلة الثورة الدائمة تنتمي للفترة التاريخية التي سبقت ظهور الأحزاب السياسية الجماهيرية العظيمة والنقابات الاقتصادية العظيمة حين كان المجتمع لا يزال في حالة سيولة من أوجه كثيرة… في فترة ما بعد 1870.. أصبحت العلاقات التنظيمية الداخلية والخارجية للدولة أكثر تعقيدا وضخامة وحدث توسيع وتخطى معادلة (الثورة الدائمة) (كان ماركس قد تبنى هذا الشعار بعد ثورة 1848) في علم السياسة بمعادلة (الهيمنة المدنية). لا يجب أن تقبل صياغات جرامشى هذه بشكل غير نقدي، كما سأوضح، فيما يلي، ولكن يجب أولا أن يوضح أنها لا تسمح أبدا باستنتاجات إصلاحية، أولاً: حرب المواقع هي حرب وليست تعاونا طبقيا مثل الذي يقوم به الحزب الشيوعي الإيطالي اليوم. لم يتزحزح احتقار جرامشى للإصلاحيين المنادين بالتعاون الطبقي ولو شبرا واحدا في أثناء فترة السجن. قارن جرامشى سلبية الإصلاحيين بالقندس الذي يطارده الصيادون يريدون خصيتيه لاستخراج دواء طبي منهما، فينتزع القندس خصيتيه بنفسه ويعطيهما للصيادين لينقذ حياته (يجب على بعض القيادات النقابية اليسارية أن تتذكر جيدا هذا التشبيه!). ثانياً: لا يعتبر من الوعي المدهش بشيء القول بأن الممارسة السياسية الثورية ستقضى معظم الوقت في حرب المواقع. فقد دافع لينين وتروتسكى في المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية عن ضرورة أن تشترك الأحزاب الشيوعية في جبهات متحدة مع الأحزاب الإصلاحية تكسب أغلبية الطبقة العاملة للشيوعية، وذلك استنادا لتجربة البلاشفة الروس في الجبهات المتحدة. حارب لينين وتروتسكى بشدة ضد (نظرية الهجوم) اليسارية المتطرفة التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، بالذات في الحزب الشيوعي الألماني - فكرة أن الأحزاب الشيوعية تستطيع ببساطة أن تتقدم للعاصمة للاستيلاء على السلطة بدون تأييد أغلبية الطبقة ويتم ذلك من خلال مغامرات انتفاضية متكررة. وقد اعترف جرامشى بدور تروتسكى في تغيير خط الأممية الشيوعية في اتجاه تكتيك الجبهات المتحدة. كما طابق جرامشى صراحة بين (حرب المواقع) و (معادلة الجبهة المتحدة) حاول جرامشى في أطروحات ليون تطبيق تكتيك الجبهة المتحدة على إيطاليا. ولم يعبر تبنى جرامشى لهذا التكتيك عن حدوث أي ضعف في عداء جرامشى المستحكم للإصلاحيين. كتب جرامشى عن تكتيك الجبهة المتحدة كنشاط سياسي (مناورة) مصممة لكشف الأحزاب والمجموعات المسماة بالبروليتارية والثورية ذات القاعدة الجماهيرية. يتم تبنى هذا التكتيك في مواجهة التشكيلات الوسيطة التي يحاربها الحزب الشيوعي كمعوقات في طريق التحضير الثوري للبروليتاريا. ثالثاً: إن معركة الهيمنة ليست معركة أيديولوجية فحسب. من الصحيح أن جرامشى يرفض باستمرار مقولة أن الاستياء في أحوال العمال يؤدى مباشرة إلى الوعي الثوري. يشدد جرامشى على هذه النقطة لأنه يريد في (مذكرات السجن) أن يدحض أطروحة "الفترة الثالثة" الستالينية، التي ظهرت في ذلك الوقت، القائلة بأن الأزمة العالمية وحدها ستؤدى للثورة العالمية، يلوى جرامشى العصا ليواجه هذا الانحراف الميكانيكي عن الماركسية، لم يذكر جرامشى أبدا الدور الذي يلعبه الاقتصاد في الحياة السياسية، فمع أن الأزمات الاقتصادية في حد ذاتها لا تنتج الأحداث التاريخية المهمة، فمن الممكن أن تخلق البيئة الملائمة لنشر أنماط فكرية معينة لطرح وحل مسائل تتعلق بالتطور التالي كله في الحياة القومية. وحدد العلاقة بين الاقتصاد والأيديولوجيا بهذه العبارات: "دائما تتأخر العوامل الأيديولوجية المهمة وراء الظواهر الاقتصادية المهمة، ولذا ففي لحظات معينة يتباطأ أو يعوق أو حتى ينكسر الدفع الذاتي للعامل الاقتصادي بسبب عناصر أيديولوجية تقليدية، هذا التأخر الأيديولوجي وراء الاقتصاد هو سبب ضرورة تدخل الحزب الثوري في الصراع الاقتصادي للعمال من أجل كسبهم من الإصلاحيين. لذلك يجب أن يكون هناك نضال مخطط وواعى لضمان أن تفهم الجماهير الإمكانيات التي يطرحها وضعها الاقتصادي والتي من الممكن أن تتعارض مع سياسات القيادات التقليدية. إن المبادرة السياسية الملائمة ضرورة لتحرير الجماهير من ثقل السياسات التقليدية. وفى أحد المقاطع الرئيسية من "مذكرات السجن" عاد جرامشى لتجربة حركة لجان المصانع في تورينو 1919 - 1920 ليوضح الفرق بين تلاحم النظرية الماركسية مع نضال العمال العفوي الذي حدث في ذلك الوقت، وبين النضال الاقتصادي الضيق والجزئي المصحوب بسياسة المثقفين الإرادية والتي كانت توعظ للعمال سياسيا من خارج حركتهم. اتهمت حركة تورينو بالعفوية والإرادية معا… هذا الاتهام المتناقض، لو حللناه، يبرهن على أن القيادة لم تكن "مجردة"، لم تكن تردد مقولات علمية أو نظرية، ولم تخلط بين السياسة، أي الفعل الحقيقي، والطرح النظري. فقد توجهت لأناس حقيقيين تكونوا من خلال علاقات تاريخية محددة، بمشاعر وتصورات محددة وبمفاهيم مجزئة عن العالم، الخ، تلك التي جاءت نتيجة لتشابك عفوي لحالة معينة من الإنتاج المادي مع تجمع "عرضي" لعناصر اجتماعية مختلفة. لم يتم إهمال أو احتقار هذا العنصر العفوي بل تم تثقيفه وتوجيهه وتنقيته من العوامل الخارجية… كان الهدف هو تطويره في اتجاه النظرية الحديثة (الماركسية) ولكن بأسلوب حي وفعال تاريخيا. تحدثت القيادات نفسها عن منشط، عامل توجيه، وكان فوق كل شئ إنكار لفكرة أن الحركة اعتباطية أو مشروع مجهز بشكل مسبق، كان التشديد هنا على الضرورة التاريخية للحركة، أعطت القيادات للجماهير وعى "نظري" لكونهم قيم مؤسسية وتاريخية، لكونهم مؤسسين لدولة جديدة، هذه الوحدة بين العفوية والقيادة الواعية هي بالضبط الفعل السياسي الحقيقي للطبقات التحتية. رابعاً: لا يعنى النضال من أجل كسب الطبقات المضطهدة الأخرى (أو الشرائح المتأخرة في الطبقة العاملة) أن تتخلى الطبقة العاملة عن النضال من أجل مصالحها الذاتية، عندما أبرز جرامشى الفرق بين الاتجاه الإستيعابوى والاتجاه الهيمنى كان يفرق بين هؤلاء النقابيين الإصلاحيين الذين يدافعون عن مصالحهم هم داخل المجتمع الرأسمالي وبين الثوريين الذين يطرحون أن نضالهم هو مفتاح تحرر كل الفئات المضطهدة. في إيطاليا العشرينات والثلاثينات كان الاتجاه الهيمنى يعنى الانفصال عن استراتيجية الإصلاحيين القدامى في محاولتهم كسب تنازلات لعمال الشمال من خلال السكوت على إفقار الجنوب الواقع تحت سيطرة ملاك الأراضي والقساوسة. بدلاً من هذا كان على الطبقة العاملة، إلى جانب نضالها من أجل تحسين وضعها هي، إن تقدم الأرض للفلاحين ومجتمع مستقبلي أفضل للإنتلجنسيا، كان مفتاح كسب الفلاحين، كما كان مفتاح النضال من أجل وعى الطبقة العاملة هو ربط المسائل السياسية بالمطالب العملية. كان جرامشى ينتقد الإصلاحيين لفشلهم في أن يفعلوا الشيء الوحيد الذي كان بإمكانه وقف الرجعية والكاثوليكية بالريف- النضال من أجل تقسيم الأراضي على الفلاحين وأدى الفشل في حل المسألة الزراعية لاستحالة حل المسألة الرجعية الدينية. ليس هناك ما يدل في (مذكرات السجن) على أن جرامشى تخلى عن موقفه في أطروحات ليون بأن على العمال أن يبذلوا جهدا كبيرا لكسب الفلاحين وأن هذا لن يكون ممكنا إلى من خلال بناء لجان عمالية على أساس الموقع الاقتصادي للعمال في المصانع واستخدام تلك اللجان في تشجيع الفلاحين على تكوين لجانهم الخاصة. المثير للاهتمام هنا هو رغم أن جرامشى تحدث عن "التكتلات الحاكمة" وشدد على الحاجة لأن تكسب الطبقة العاملة الفلاحين، إلا أنه لم يستخدم التعبير الستالينى الشائع "كتل العمال والفلاحين". كما أنه لم يعتبر مثقفي الطبقة الوسطى حليفا متكافئ مع الطبقة العاملة. خامساً: وأخيرا لم يقل جرامشى أبدا في "مذكرات السجن" أن النضال من أجل الهيمنة يمكن وحده أن يحل مسألة سلطة الدولة. حتى في الفترات التي تلعب فيها حرب المواقع الدور الرئيسي يتحدث جرامشى عنها كعنصر "جزئي" في الحركة، وعن أن حرب المناورات تلعب دورا تكتيكيا أكثر منه استراتيجيا. لنطرح هذه النقطة بأسلوب مختلف: في أغلب الأحيان يكون الثوريون مندمجين في نضال أيديولوجي مستخدمين تكتيل الجبهة المتحدة في نضالات جزئية لكسب القيادة من الإصلاحيين. ولكن توجد لحظات متكررة من المواجهة العنيفة حين يحاول أحد الطرفين - العمال أو الطبقة الحاكمة - اقتحام خنادق الطرف الآخر بهجوم مباشر. ظلت الانتفاضة المسلحة بالنسبة لجرامشى، كما أوضح هو في محادثاته في السجن "اللحظة الحاسمة من الصراع" لابد من وضع مسألة التشديد على حرب المواقع في "مذكرات السجن" في إطارها التاريخي. إنها استعارة صممت للتأكيد على نقطة أساسية ملموسة - وهى أن الإرادة الثورية لبضعة آلاف من الثوريين وقت الأزمة لا تخلق الشروط الضرورية لانتفاضة ناجحة. لابد من إعداد هذه الشروط من خلال عملية طويلة من التدخل السياسي والنضال الأيديولوجي. إن الاعتقاد بغير ذلك، كما فعل تولياتى وآخرون من ستالينى "الفترة الثالثة" في أوائل الثلاثينات، كان محض جنون في تلك الظروف، كان جرامشى أقل اهتماما بطرح ضرورة الانتفاضة المسلحة - حيث كان الستالينيون في تلك الفترة مهووسون بتنظيم الهبات المسلحة مهما كانت يائسة، كان جرامشى أكثر اهتماما، كما فعل لينين في يوليو 1917 ومرة أخرى في حالة ألمانيا 1921، بالتشديد على عدم إمكانية نجاح انتفاضة إلا بالتأييد الإيجابي لأغلبية الطبقة العاملة. من الخطأ تطبيق مثل هذه الاستعارة، وكأن لها صلاحية مطلقة مستقلة عن إطارها التاريخي وحتى من وجهة نظر عسكرية بحتة، لا تعتبر سياسة "حرب المواقع" ملائمة في كل الظروف - وهو ما اكتشفه مثلا، قيادة الجيش الفرنسي عندما تخطت الدبابات الألمانية خط ماجينو عام 1940، وكان الثمن غاليا. الالتباسات فى صياغة جرامشى يجب أن نجعل من أي استعارة يمكن إساءة فهمها، وهذا حال تفرقة جرامشى بين "حرب المواقع" و "حرب المناورات"، موضعا للنقد. وقد أوضح بيرى أندرسون في مقال مهم أن استعارات جرامشى تتضمن العديد من الإلتباسات والتناقضات، تتضمن انزلاق مفاهيمي يصلح لأن يستخدمه الإصلاحيون في تشويش الجوهر الثوري لأعمال جرامشى. يتضح بالتأكيد من كل الحديث السابق أنه يوجد في تفرقة جرامشى بين "حرب المواقع" و"حرب المناورات" درجة من الغموض، ففي مرة يحدث الانتقال من سياسة حرب المواقع بعد 1917 لكن في أخرى يحدث هذا الانتقال في فترة ما بعد استقرار الاقتصاد الرأسمالي العالمي في أوائل العشرينات… هذا الالتباس حول التوقيت مهم لأنه يترك مسألة ما إذا كانت "حرب المواقع" استراتيجية أبدية أم أنها مناسبة فقط في فترات تاريخية محددة بدون حل. إن بعض صياغات جرامشى ترجح التفسير الأول، ولكن إصرار جرامشى المتكرر على التفاعل بين الحزب الثوري و"النضالات العفوية" الطبقية وإيمانه بضرورة الانتفاضة المسلحة يجعلانا نستبعد بشكل قاطع صحة التفسير الأول ونرجح الثاني. نجد الالتباس الثاني في مسألة تفرقة جرامشى بين روسيا والغرب. تقوم هذه التفرقة على تحليل خاطئ للحركة الثورية الروسية، ففي الواقع، كانت التجارب الأولى لحرب المناورات فاشلة –تماما- مثل الهجوم المسلح على القيصر من قبل الديسمبريين في عشرينات القرن الـ19 ومثل هجمات الشعبويين الذين استطاعوا اغتيال القيصر في 1881. كان على الأجيال التالية من الثوريين أن تتبنى استراتيجية مختلفة. إسقاط النظام القيصري "حرب المواقع" طويلة المدى –عشر سنوات من حلقات النقاش الماركسية وعشر سنوات أخرى من التحريض الإقتصادوى، وذلك لتجميع القوى، كانت حرب المواقع هذه ضرورية لتحضير المجال لـ "حرب المناورات" في 1905 - 1906 ثم في 1917. وإذا طورنا استعارة جرامشى نجد أن "حرب المواقع" تلك تفقد سبب وجودها وتصبح غير ضرورية متى اكتشف سلاح جديد يستطيع أن يخترق دفاعات الآخر - مثل الدبابة في أواخر الحرب العالمية الأولى (رغم أنها لم تستخدم بشكل مجد) وفى بداية الحرب العالمية الثانية، إن المعادل السياسي للدبابة هو "قوة دفع الجماهير من أسفل" هذه القوة العفوية، الثورية، المفاجئة… والتي فاجأت حتى لينين في فبراير 1917. لا يستطيع الثوريون التكيف مع هذه التغيرات المفاجئة بدون التحول السريع من موقف دفاعي إلى موقف يلائم حرب المناورات الجديدة.، توجيه والتأثير في هذا الاندفاع الأمامي. كانت عظمة لينين تكمن في قدرته على تفهم متى يجب أن يحدث مثل هذا التحول الإستراتيجي من "حرب المواقع" إلى "حرب المناورات". ما تفهمه لينين وتروتسكى وروزا لكسمبورج هو أن النضال الطويل الممتد من أجل الهيمنة وتنظيم وتحصين القوى هو أمر ضروري في مراحل معينة من تاريخ الحركة الثورية – إلى أن هذه السياسة تحتوى على خطر هو أن نجاح التنظيم في مرحلة من النضال يؤدى لخلق اتجاه محافظ عندما يحدث تحول في مزاج الجماهير. وفى النهاية، مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني النموذج الرئيسي للحزب المنتهج لسياسة "حرب المواقع" في أوروبا ما قبل الحرب العالمية الأولى. أنشأ ذلك الحزب شبكة ضخمة من التحصينات داخل المجتمع البرجوازى - مئات من الجرائد، مئات الآلاف من الأعضاء، وجمعيات ونوادي محلية، وحركة نسائية، وجهاز نقابي قوى، بل أيضا مجلة نظرية قادرة على جذب إعجاب بعض قطاعات المثقفين البرجوازيين. أدت محاولة هذا الحزب الحفاظ على هذه "المواقع" عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى إلى التحول من المعارضة إلى التعاون الطبقي، والمثير للاهتمام هو استعارة "حرب المواقع والمناورات" استخدمها كاوتسكى، بمدخل قريب جدا من مدخل جرامشى في دفاعه ضد هجوم روزا لكسمبورج في 1912 على القيادة الإصلاحية للحزب الاشتراكي- الديمقراطي الألماني. روسيا، إيطاليا، والغرب اتخذ جرامشى إيطاليا كنموذج للمجتمع الذي تنتهج فيه "حرب المواقع" لكن إيطاليا العشرينات والثلاثينات كانت أبعد ما تكون عن أن تصنف ضمن المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، إن الأشياء التي يعتبرها جرامشى خصائص "المجتمع المدني"- الكنيسة والمنظمات السياسية والثقافية والحضرية، تعددية الأحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، تأثير المثقفين الوظيفيين، مثل المحامين والمدرسين والقساوسة- نعتبرها اليوم مجرد ظواهر انتقالية عبرت عن تخلف إيطاليا في العشرينات والثلاثينات، عن الغلبة العددية للفلاحين والبرجوازية الصغيرة والبروليتاريا الرثة. تلك الطبقات والفئات الاجتماعية تقل مع مرور الوقت أهميتها في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة ونفس الشيء بالنسبة للمنظمات السياسية والثقافية الحضرية. تميزت فترة ما بعد الحرب في البلدان الرأسمالية المتقدمة بظاهرة اللا مبالاة- سقوط في المشاركة الجماهيرية في التجمعات السياسية والثقافية وتناقص عدد أعضاء الكنيسة إلى النصف في العشر سنوات الأخيرة، أما المثقفون الوظيفيون، المحامين والمدرسين والقساوسة والأطباء فلم يعد لهم أي دور رئيسي في تشكيل الرأي العام المحلى. تؤدى الرأسمالية إلى تمركز السلطة الأيديولوجية وإلى تفتيت الجماهير، باستثناء التنظيمات النقابية في أماكن العمل، وتؤدى أيضا إلى إضعاف التنظيمات السياسية والنقابية. من جهة، لعب تكثيف عملية الإنتاج دورا مهما، فقد أدى نظام ورديات العمل إلى صعوبة تنظيم التجمعات السياسية والسياسية والثقافية ومن جهة أخرى، أدت تجارية الحياة الاجتماعية ودخول الراديو التليفزيون وتمركز السيطرة على الإعلام إلى إضعاف جاذبية النشاطات الثقافية الأخرى. انخفض عدد الأبنية المؤثرة لـ "المجتمع المدني" بين الفرد والدولة، وأصبحت أدوات الاتصال العامة تعمل كوسيط مباشر بشكل متزايد، وفى الوقت ذاته، زادت أهمية وتأثير التنظيمات النقابية في أماكن العمل بشكل كبير لتصبح المؤسسة الوحيدة في "المجتمع المدني" التي لم يطح بها التفتيت. في هذه الظروف تصبح "شبكة الخنادق الدفا |