نادي الفكر العربي
حارة النصارى - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5)
+--- المنتدى: قــــــرأت لـك (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=79)
+---- المنتدى: مواضيـع منقــولة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=25)
+---- الموضوع: حارة النصارى (/showthread.php?tid=32081)

الصفحات: 1 2


حارة النصارى - Son of King - 01-30-2005

هذه القصة واقعية لمتنصر ...سوف اعرضها على حلقات .. اقراها وعلق

حارة النصارى [CENTER][/CENTER]

أحيانا نتعامل مع ذكرياتنا التي تغتصب لنفسها مقاعد في أوجه الطفولة والصبى بشيء من التجاهل والتناسى… ولكنى الآن أطرى على … أطرى على كامل ذكرياتي … أرى نفسي مهتما بل ومسؤولا عن حتمية الوقوف على ذكرياتنا التى دائما تفقأ عين حضور الواقع .

تنهال على الآن كل الذكريات … لم أجترها … ولكن قررت فجأة السفر بأخر قطار لألحق بعرس اللحظات الخوالي التي أستدعيها الآن ولا أعرف منها سوى طعم الذكرى … مرقت بصعوبة وسط الزحام من الباب العالي الحديدي – الذي دائما ما يكون في انتظاري في مثل هذه الأثناء – باب محطة القطار الذي ما يزال مفتوحا على مصراعيه … لم أكترث لا بقليل ولا بكثير أثناء حركتي تجاه العربة التي ستقلنى إلى قريتي قرية " ………………" إلى قدس أقداس الرصيد الذهبي من عمر أحزاني ….أفراحي……. خواطري ……أينائي ….. أبنائي الذين يفترشون جدار القلب تحت ملاءات العرى الصاخب - الأكثر صخبا من قريتي – بقرة عيني في ليلة باردة …. أبنائي الذين ساهم في وجودهم طقس القرية ….جهل القرية …. وحدة اللاائتلاف في حارتي …."حارة النصارى" .

على مسافة تقرب من خمسة وعشرين كيلو مترا غرب القاهرة تقع قريتي كلما كانت تقع عيناي بسرعة ذلك القطار الذي أقله سنويا كثيرا - بحثا عن الرطوبة مرة وعن الهدوء مرة وعن الجذور والهوية مرات ومرات – على المنازل المتراصة بعشوائيتها المنتظمة التي دائما تنبئ عن أهلي وتشير إلى دوران الرحى في أنسجة مخيلتي ولكن بغير اتجاه .

دائما كنت أرى لعبي في أكوام الرمال ….. وفى الطين الذي نشكله حسب رغباتنا التي نستقيها من سقف أحلام جنتنا … كنا نصنع حيوانات معلومة وأخرى خرافية ومن كان يحلم بالمدنية كان يصنعها …. السيارة ….وهذه السفينة التي لا يحصل على مقعد فيها سوى خيرة أهل القرية

" الحجيج" كنا نلعب ولا نعرف فروقا لألواننا … لم توقفنا مرة نظرتنا في أعين كل منا للآخر …. لم يدخل قاموسنا …."الصح والغلط " ….لم ننجح بعد إلا في الوحدة والفرح ….حتى الآن لم تكن قد اجتاحتني حمى الأسئلة المرهونة بإجابات تكبرني أو ليست في يدي …. ولكن شئ واحد كان يثير انتباهي وفضولي في آن ….كنت أرى رجلا يعد منتصف الليل بكثير يركب حماره ويحمل فانوسا موقد بشمعة شحيحة …يعلق طبلته المستديرة متدلية على صدره …يدقها قائلا " سحور …سحور " وفجأة أجد الحياة قد عادت الى طبيعتها في بيتنا بعد سكون طويل …فأتراقص فرحا لأني سآكل للمرة الرابعة خلال اليوم بدون تحفظ من أهلي !!

سريعا ما تمر الأشهر وفى شهر من أشهر الشتاء ألحظ انتشار القصب بطريقة لافتة للنظر في الكثير من المحلات والعديد من البيوت وكنا نشترى " حزمة " ونقطعها إلى " عقل " صغيرة وبعد المغرب نجتمع لنقشرها ونرتشف عصارتها اللذيذة والسكرية وعلمت من بعض الناس قد سمعتهم يهنئون بعضهم بموسم الغطاس !! .

لم أكن أدرك ما هو الغطاس … أو ماذا يعنى ؟ ….لكنني كنت أنتظره كل عام ……. لآكل القصب فقط !!!

وعلى الرغم من امتلاء قريتي بالتناقضات المعمارية والدينية والأخلاقية والأعرافية …إلا إنني لم ألحظ يوما ما أنني أشعر بهذا التناقض يخترقنى مثلما يخترقنى التناقض المعماري بين دوارنا ودوار " عم فوزي " والد " مجدي " … مجدي … ما زلت أذكرك يا مفتاحي ومفتاح كياني على ذاتي … ما زلت أذكر أنك مستصغر الشرر الذي قد أوقد نار جحيم الأسئلة في عقلي … يا من بوجوده العفوي …قد أيقظ كل مهارات العين على استنباط التناغم المصطنع في أنفس حارتنا .

ترصد عينى الآن هذى البيوت التى يعلوها الصليب الطينى على جدرانها يلاصقها بيوت أخرى قد انتشرت عليها السفن والبواخر التى تعلن عن مشاركة أحد أفرادها في عملية الحج … ترصد الآن عينى عبارات طبعت بداخلى ولم اكن اعرف لها مكنون أو مردود … ترصد عيناي الآن

" الله محبة " فباب للدار الذى يليه فـ " حج مبرور وذنب مغفور " على الجدار الآخر المكسو باللون الأخضر ….والمنازل التى لم يشارك أفرادها بالحج تعلو جدرانها " الله أكبر " …………

" لا اله إلا الله " وحتى الان كان كل ما يمكن أن أؤمن به أنها تجميل لأشكال بيوتنا … حتى الان لم أكن أدرك أن هناك دوافع لهذه الكتابات أو لهذا السعف المجدول ولهذه الصلبان الطينية …………

………………… الشئ الوحيد المشترك بين كل هذه البيوت القديم منها والحديث هو تعليق فانوس كبير على باب كل دار " لمبة نمرة عشرة " يتم إشعاله عند حلول الظلام فتجد الحارة كلها قد أضاءت .

لازلت حتى الان أذكر كيف كانت بنات حارتنا " حارة النصارى " التائهة بين خضم الحارات التى تشتهر بها قريتى تستيقظ يوميا بعد ساعات العصر وبدء إشعال اللمبات ملبية للنداء السحري المدوي بها " يا مغرفتنا يا منقرشة قومى سامية من ع العشا " وهذا هو نداء قائدة حركة اللعب الجماعى لبنات القرية …… زلزال من الأفراح لا يعرفن سره … هرولة بالحارة مارين بالزروع وصولا الى شجرة الجميز المعهودة .

هات هن بنات الحارة جاءوا من منازلهم تشدهم بهجة اللعب سويا …… كانت ألعابهن مألوفة … محفوظة … مرتبة … بمجرد سماعهن النداء يخرجن حتى يكتمل عددهن الذى غالبا لا يقل عن عشرة فتيات … بينما الأولاد يلعبون ألعابهم الخشنة العنيفة مثل سباقات الجرى( ولعبة الشجاعة ونطة الإنجليز ) …… ولم يكن لديهم طقوسا في تجمعهم أو في ترتيب ألعابهم بعكس هاته الفتيات ………

………………………… وعند سماعى لهذا النداء انطلقت مندفعا نحو الأولاد في طريقنا الى مكان اللعب وكانت أولى صداماتى في الحياة هو منعى من اللعب معهم بدعوى أنى صغير السن …… فذهبت اجر ذيل جلبابي "المقلم " الخشن حافى القدمين …… بى شعور يصعب على تحديده في هذه السن أو التعبير عنه ولكن من الجائز أنه كانت تعلو جبهتى امتعاضه أو "تكشيره" لا يذهبها سوى حبات الراحة التى سرعان ما تنفرط على صدرى عند وصولى الى اختى في مكان تجمع الفتيات وأجلس عند الشجرة أرقبهم وليس هذا فقط بل قد صنعوا لى دورا خاصا بى على عكس برود النفور الذى واجهته مع الأولاد فها هم يسلمونني أحذيتهن أعهدها برعايتي وبعد الانتهاء من اللعب أعطى كل واحدة منهن حذائها … وكنت أتقاضى نظير هذا العمل بعض من الحلوى تليق بمتعهد مثلى !!!!!

وكم كانت سعادتي لإحساسي بقيامي بدور في هذا العمل الجماعى " اللعب " …حتى انهم كانوا إذا تأخرت ينتظرونني …… ويسألونها عن " حارس الأحذية " !!

………………………………………… تتتالى على الفصول والسنوات …… ألحقتى والدي في الرابعة من العمر بالكتاب الذى كان بمثابة الحضانة …… أبهجتني فكرة دخول الكتاب إذ كان تجمع كبير لكل الأولاد …… أولاد الحارة … كما أنني بدأت أتعلم القراءة قيل دخولى المدرسة … ولكن الشئ الغريب في الكتاب أننى فوجئت بعدم وجود زملائي جميعا أصدقاء اللعب فكنت أسألهم بعد خروجي …… ورحت أسأل مجدى :

ـ لماذا لم يدخلك والدك الكتاب معى ؟

ـ لا أدرى …!!!!

وذات يوم قررت أن أسأل والدى صاحب كنوز الإجابات لكل أسئلتي المحيرة ……

ـ بابا … ليه مجدى جارنا … مابيروحش الكتاب معايا ؟

ـ " ضاحكا " ازاى يروح الكتاب ؟! ده " نصراني "

ـ ( مأخوذا بالدهشة ) يعنى إيه نصراني ؟!

ـ يعنى مسيحي … اسكت بقى وبلاش وجع دماغ ………!!

عندها تملكنى الضيق …… إذ أحسست أن هناك شئ قوى سيحول بينى وبين صديقى طوال فترة الكتاب .

سأحرم من قاموس الابتكارات في ألعابنا …… فمجدي هو صاحب أكبر العاب جديدة لم نـألفها من قبل … صاحب أكبر إحساس لا أعلمه … ولكن ما أعلمه جيدا هو أننى أحب أن أظل بجواره فترات طويلة …أحبه .

وكنت في بعض الأوقـات أشعر بالغـيرة من كونه صاحب أفكـارا جديدة في اللعـب فسرعان ما سألته :

ـ مجدى ازاى انت اتعلمت كل الألعاب دى فين ومين اللى علمها لك ؟

ـ المدرس بتاعنا في مدارس الأحد … ولو عايز تتعلم تعالى معايا وهو يعلمك .

تقافزت في الهواء سعادة وفرحا وأسرعت في طريقى الى المنزل قاطعا الحارة بأقصى سرعة مندفعا من الباب الخشبى الذى يتوسط جدار المنزل من الخارج وهرعت بطول المسافة بصحن الدار حتى غرفة أبى حتى اصطدمت به عند باب غرفته .

ـ بتجرى كده ليه ؟

ـ كنت عايز أقولك على حاجة يابا

ـ خير ؟

ـ أنا عاوز أروح مدارس الحد مع مجدى عشان أتعلم لعب جديدة

يارب يخليك يابا وديني المدرسة دى …

لم أشعر إلا بيد والدى وهى تهوى كالمطرقة على وجهي وسالت الدماء من فمى ولم أدرى لماذا ؟ فصرخت في ذهول وكنت أشعر أن الذى ضربنى ليس والدى فاندفعت نحوه أحتضنه وأقول :

ـ الحقنى يابا

فدفعني بعيدا عنه وقال :

ـ أوعى تقول كده تانى فاهم ولا لأ ؟

أحسست أننى قد تحدثت يشئ خطير يغضب منى والدى فاعتذرت وقلت :

ـ حاضر يابا … معلش مش هاقول كده تانى

وفى اليوم التالى قابلت مجدى فسألنى :

ـ هاه ..؟ قولت لابوك ؟

ـ اسكت يا عم مجدى عشان امبارح أبويا زعل منى وضربنى عشان الموضوع ده ……أنا خلاص يا عم بقى مش هاينفع أروح معاك .

أذكر أننى قد قلت هذا إرضاء لوالدى فقط وتجاوبا معه ولكن كان هذا الوقت هو وقت ميلاد أول وأكبر علامة استفهام تبتلعني خصوصا بعد أن قام مجدى بالمجيء معى الى الكتاب ولم يعترض والده على ذلك …… وأعتقد أنه كان سيظل يحضر معى دروس الكتاب اللهم أن سيدنا كان قد قام بطرده من مجلسنا وحرم عليه دخول الكتاب مرة أخرى ………………

………………………… تمر السنوات وأكبر في العمر وأدخل المدرسة الابتدائية .

بدأت معاملة والدى لى يتخللها نوع من التغيير والتطوير فقادني فيما يشبه الدرس وأخذ يشرح لى ويصرح بأشياء لم يذكرها من قبل …… فكشف لى لاول مرة أن هناك ما يسمى الإسلام وهو ديننا ملتنا ما نؤمن به ومسيحية وهى دين من يعرفون باسم النصارى اللى منهم عم فوزى وولاده ؟

ـ بص يابنى أنا عايزك تعرف انه ماينفعش تقول عم فوزى دى تانى …… كلمة عم دى تقدر تقولها لأى حد من المسلمين ومش عايز أتكلم تانى في الموضوع ده .

وما كان منى إلا أن سمعت وظللت صامتا وقمت بالذهاب الى المدرسة في الصباح بصحبة صديقى مجدى …………………………………………………

…………………… ذهب اليوم في متعة جديدة بالزي الجديد والتجمع الكبير لأولاد الحارة والحارات الأخرى وبعض الأولاد من القرى المجاورة .

استمتعت كثيرا بطريقة الدراسة هذه " فالمدرس " يقف أمام هذا الجمع من التلاميذ الجالسين على دكك خشبية نظيفة وتسع لثلاثة مجتمعين !!! مقارنة بجلستنا في الكتاب تلك الجلسة على الحصير بدون هذا الزى ولكن لم تختلف طريقة مدرسنا عن طريقة سيدنا في التحفيظ أبدا ولا في الرعب الذي أدخله علينا من أول لحظات هل فيها علينا .

وكان هناك وقتا لم نكن نعرف عنه من قبل ألا وهو " الفسحة " فانفردت بمجدى حيث أنني لم أكن أعرف غيره من التلاميذ إذ أنني أنا ومجدى الوحيدين من الحارة الذين نتمتع بعمر يؤهلنا للذهاب الى المدرسة وسألته :

ـ صحيح يامجدى انتم نصارى ؟

ـ لأ … إحنا مسيحيين !!!!!

ـ ليه يا مجدى ماكنتوش مسلمين عشان بابا ما يزعلش منكم ؟ بأقولك إيه يا مجدى

…………… ممكن تقول لأبوك يخليك تبقى مسلم عشان بابا مايزعلش منك وما يمنعنيش من اللعب معاك تانى ؟

ـ بس أنا أبويا ما بيزعلش منك …… ولا بيقوللى ما تلعبش مع محمد عشان كده قول لأبوك يخليك مسيحى أحسن !!!

حسنت الفكرة في عينى إذ أن المشكلة سوف تنفرج …… ذهبت للمنزل وببراءة الأطفال ونشوة وجود حل لمشكلتي مع مجدى فقلت لوالدى :

ـ ممكن يابا تخلينى مسيحى ……!! عشان أبقى زى مجدى وتخلينى ألعب معاه من غير ما تبقى زعلان منى ؟

( فجأة انفع والدى خارج المنزل مسرعا نحو منزل والد مجدى وعلا صوته بالحارة كلها وهو يهدد ويتوعد …… )

ـ إن ما بتلطوش اللى بتعملوه مع الواد والمصحف لأولعلكم في بيتكم …

( واخذ ينادى على شيوخ الحارة ليشهدهم على المعلم فوزى …… اللى بيسلط ابنه عشان يضحك عليا و أبقى مسيحى ).

لم تقف الدنيا عند هذه المشكلة فقط فقد سببت هذه المشكلة مضاعفات لا حصر لها إضافة الى ما كان قائما من قبل ……فازدادت كراهية المسلمين من أهل القرية لمسيحييها وازداد خوف المسيحيين من المسلمين ومن مضايقاتهم المتزايدة …… شعرت بألم وحسرة شديدين لاننى كنت السبب في كل ذلك …… علاوة على هذا……………………

فقد خسرت صديقى مجدى …… ومنعنى والدى من التعامل مع مجدى أو حتى مجرد مصافحته كما طلب من ناظر المدرسة أن يفرق بيننا فنقل مجدى الى فصل آخر!!!… ……………………

……………………………………………………… هذا وقد بدأت الواقعة تؤثر تأثيرا مباشرا على هدوء الحارة وعلى نفوس أهلها .

كانت أول واقعة في مسلسل الاحتكاك الدائم بين الفئتين تزلزل هذا الهدوء هى واقعة الاحتفال بالمولد النبوى الشريف ومن المعلوم لنا دائما أن الاحتفالية ذات طابع خاص وخاصة الاحتفال الذى تقيمه الفرق والطرق الإسلامية المختلفة وعلى الأخص الطريقة الحامدية الشاذلية الذى كان خالى أحد أقطابها … فكانوا يطوفون القرية بالأعلام الخضراء المنقوش عليها الهلال والمكتوب عليها " لا اله إلا الله " ويحملون السيوف و" السنج " رمز القوة الإسلامية .

كان الركب الاحتفالى يجوب الشارع الرئيسى الذى يتوسط القرية ثم يقومون برفع علم الطريقة على صاري خشبى يدقونه في أرض فضاء مقابلة لمنزل الشيخ ثم تتم الاجتماعات المسائية لقراءة الأوراد حتى موعد الليلة الكبيرة …………………………………………………. ولكن هذا العام الذى صادف ما كان من والدى ……… فقد أخذت الاحتفالية طابعا آخر ……

ولأول مرة يتعمد شيخ الطريقة اختراق الحارة الضيقة التى يقطنها غالبية مسيحية في ظاهرة لم تحدث من قبل .

فيطيلون الوقوف عند منازل المسيحيين ويبدلون إنشادهم بهتافات قائلين ( لا اله إلا الله …… محمد رسول الله )

ثم أخذوا بالطرق على الأبواب وكان الأطفال يبالغون لما لديهم من طفولية في ذلك بقذف النوافذ بالحجارة وتمزيق سعف النخيل وتحطيم للصلبان الطينية ………… وانفردت بى بعد ذلك كل علامات الاستفهام والاندهاش ثم تملكنى الخوف على صديقى وظللت أبكى بشدة وبهذا الخوف اندفعت مخترقا الموكب وجميع الأطفال بصورة لا إرادية طالبا منهم عدم قذف هذا المنزل …… فدفعنى أحد الشيوخ وهددنى بإبلاغ والدى……… ………………

………………… ومرت الليلة طويلة …… كئيبة وأنا قلقا مضطربا …… منتظرا الصباح لاطمئن عليه …… تتقاذفني الأسئلة …… هل أصابه ضر ؟……………… هل اصطدم به أحد من الأطفال أو الشيوخ ؟ …… هل … هل ؟

وها قد لاح الصباح وذهبت في طريقى الى المدرسة فشاهدته متجها للمدرسة ………فطرت سعادة وتمنيت لو ذهبت لأقبله وأهنئه على سلامته……… لكن منعنى عنه هذا الهلع الذى أحاطنى به والدى وصاحبنى في طريقى للمدرسة استعراض رد فعل المسيحيين إبان الاحتفال ……… ففى هذه الأثناء لم يبدر منهم سوى الهدوء …… إغلاق الأبواب والنوافذ …… التزام المنازل …… لماذا لم يبدر منهم رد فعل عنيف لذلك التعدى …. أهو الخوف أم الذوق الذى وان كان فلن يكون في موضعه أبدا هكذا ……………!!

واستمر حال هذه الاحتفالية منذ ذلك الحين وحتى يوم خروجى من الحارة الى القاهرة كما هو …… وكان المسيحيون يحفظون ذلك التاريخ جيدا فيشتروا حاجيات المنزل كلها قبل هذا التاريخ بيوم أو يومين حتى لا يضطروا الى مغادرة منازلهم في هذا اليوم ……… واستكمالا لسلسلة التناقضات أن عم فوزى أو المعلم فوزى كما يروق لوالدى أن أناديه يذهب في يومها صباحا لوالدى مهنئا إياه

ـ كل سنة وأنت طيب يابو أحمد

وكان والدى يرد له التحية بالفتور والتحفظ الشديدين والغيظ المستتر .

لقد احتدمت الحالة بينهم وتهديد والدى لا يزال يتردد في أصداء حارتنا كما يتردد في آذان عم فوزى……

والان وقد مر شهر ونصف الشهر على احتفالية المولد النبوى التى كانت بمثابة شبح الذعر الذى خيم على مسيحيي البلدة …. تدخل بعض من من نطلق عليهم عقلاء الحارة في محاولة للصلح بين والدى وعم فوزى ……كان يتردد دائما اسم الدكتور "………" وهو طبيب مسيحى يحظى باحترام المسلمين والمسيحيين وكان مديرا للوحدة الصحية بالقرية وقد اشترك هذا الرجل مع مقاول كبير وعضو مجلس الشعب عن دائرتنا ممن يحظون باحترام الجميع …………………………………………………………

وفى دوار العمدة وسط القرية كان لقاء والدى وعم فوزى وكنت أنا ومجدى نقف بخلفية المشهد بعيدا عن الأحداث والسعادة تغمرنا وننتظر بلهفة التصالح الذى سرعان ما سيسفر عن تلاقينا بلا تحفظ .

وما أن انتهت الجلسة بالصلح حتى قفزت في صدر مجدى أحتضنه ويحتضننى في الوقت الذى اخترقت فيه مشاعرى نظرة أبى نافذة الى دفئ صدرى …… !!

الى لقاء مع الجزء الثانى


حارة النصارى - Son of King - 01-30-2005

بدأت أكبر وبدأت الأشياء والمعارف من حولى في عريها وبدأت تتكشف لى أشياء غير التى أألف …… وتفقد المعارف براءتها …… ففجأة علمت أن هذا المنادى صاحب الحمار يدعى………….

" المسحراتى " وهو يقوم بهذا الواجب اليومى لإيقاظ الناس من سباتهم للاكل " السحور " تلك الوجبة التى تقض مضجعى أثناء النوم لعسر هضمها وعلمت أن هذا يحدث في شهر اسمه

" رمضان " واجب فيه الصيام على المسلمين ورغم صغر سنى داهمنى والدى بإرغامي على الصوم لاعتاد ذلك …… في الحقيقة لم يضايقنى هذا بل كنت سعيدا جدا بهذا الشهر

……………………فهناك العديد من الطقوس التى أتفاعل معها وأفرح بها كثيرا خاصة عندما يقترب موعد الإفطار ( آذان المغرب ) إذ كنا نجتمع ثلاثة أو أربع أفراد ونذهب عند أقرب مسجد قيل المغرب بنصف الساعة وكل منا يحمل معه نوعا ما مما في منزله من الفاكهة ليأكله وبمجرد سماع صوت " الصافرة " التى كانت تنطلق من ماكينة الغلال على مشارف القرية معلنة آذان المغرب ……… كانت لبهجة التلاقى وخصوصية هذا التجمع عظيم الأثر في وجدانى حتى يومنا هذا ولكن ما كان يعكر صفو هذا الاستمتاع ……… أن الأطفال بعدما نأكل ونصلى المغرب يذهبون في طريق عودتهم لمنازلهم منشدين ………

" يا فاطر رمضان يا خاسر دينك قطتنا السودا ها تقطع ديلك" أمام أبواب منازل المسيحيين.

في بادئ الأمر كنت أنهرهم ومع مرور الوقت أصبحت عادة ألفناها ولكن البيت الوحيد الذى لا أجد في نفسى الرغبة في قول هذا النداء أمامه هو منزل ……… كنت أسرع وأهرول حتى أصل للمنزل الذى يليه … نفس الشئ كان يتكرر مع السحور فكنا نلتف حول المسحراتى وحماره ونحمل له الفانوس وهو يدق على طبلته وكالعادة كان المسحراتى مدفوعا من رجال الحارة …… فيطيل الوقوف والنداء والدق على طبلته أمام بيوت المسيحيين فسألته :

ـ يا عم " على " دول مسيحيين بتخبط لهم كتير ليه ؟
ـ اسكت انت مش شغلك عاوز تخبط خبط …… مش عايز اسكت أنا عارف انهم زفت مسيحيين لكن لازم نقلق مناهم الكفرة دول !!……………

وتقدم البعض بشكوى للعمدة وشيخ الحارة وعضو مجلس الشعب مما يحدث لهم من إزعاج في رمضان فكانت الإجابة الذهبية ………

ـ دول عيال وبيلعبوا………… نمنع عيالنا من اللعب يعنى عشان المسيحيين يرتاحوا ؟!!!

والشئ المحزن إن والدى كان بيشجعنى مبتسما وكان بيفرح جدا لما يعرف انى كنت مع الولاد .

………………… ظلت الحياة تسير بنفس دورتها وسرعتها الرتيبة نفس الأحداث نفس الفراغ نفس الأحاسيس التى لا تنمو ولاترقى بدين .

فكياننا تأثر تأثرا كبيرا بهذا الهدوء الجغرافي الذى يحيط بنا في حقولنا في طريقة بناء منازلنا فالطبيعة الطينية قد أورثتنا البرود والحصير قد أورثنا الجفاء …… ولهيب الشمس في الحقول علمنا التناحر على الظل الوارف في طبيعة الفراغ .

الى أن اخترق هذا الهدوء ذلك النبأ الذى طار لنا من خلال راديو " عم إسماعيل " بأن الحرب قد نشبت بين مصر وإسرائيل ……………………………………………………

وكان الخامس من يونيو 1967 .

وفى هذه الأثناء كان والدى يعمل بورش الصيانة الميكانيكية بأحد جراجات القوات المسلحة ويوم نشوب الحرب لم يعد والدى الى منزلنا ……… تركنا أنا واخوتي تنهشنا مخالب الاستفسارات تركنا لدوامات الاستنتاجات المشوبة بالريبة .

لم يعد والدى في موعده المعتاد يوميا …… تأخر حتى دخل الليل علينا … كنت أسمع أصوات القذائف المضادة للطائرات تنطلق من حولنا وصافرات الإنذار تنتهك جلودنا …… الطيران الأسود في سماء القرية على ارتفاع منخفض وكلما اقترب الليل ازداد خوفى وهلعى وفجأة تملكنى الرعب وعلا صوتى بالبكاء ولم أكن أدرى أخوفا على والدى أم رهبة المدافع والصواريخ وأزيز الطائرات .

كان منزل عم إسماعيل هو مركز تجمع أهالى القرية لمتابعة أخبار الحرب من خلال الراديو الكبير والوحيد في البلدة الذى كان يملكه ……… ومضى أكثر من ثلاث أيام ولم يعد والدى …… لم يصلنا منه أى رسالة وانقطعت كل أخباره الذى صاحب انقطاع ظهور بعض المجندين من أهل الحارة ……………..وفى خضم هذه الأحداث حدث ما لم يكن يتوقعه أحد …… إذ في اليوم الرابع جاء المعلم فوزى الى منزلنا يسأل عن والدتى :

ـ يا محمد فين أمك ؟

ـ (أجبته في سرعة وشرود ذهن ) جوه هاندهالك .

(ثم ذهبت لنداء أمى وظللت أتابع حديثهم )

ـ هاه يا حاجة مفيش أخبار عن أبو أحمد ؟

ـ أبدا والله ( وانسكبت الدموع من عينيها )مش عارفين ايه اللى حصل له ؟ هوه بخير ولا حصل له حاجه الشر بره وبعيد .

ـ طيب يا حاجة اهدى كده أمال …… ممكن تديني العنوان وأنا هاروح اطمن عليه بنفسى ؟

ـ ازاى يامعلم …… دى حرب هتطمن عليه ازاى ؟!

ـ مش عارف بس مش مشكلة برضوا يا حاجة …… ما تقلاقيش انتى بس وهاتى العنوان وأنا هاتصرف .

ـ بس العنوان مش معايا …… خلاص لما ييجى أحمد من بره هو عارفه …

ولما عاد أحمد أخى الى الدار كتب العنوان وجاء عم فوزى وأخذ منه العنوان وانطلق … لا ندرى الى أين ………………………!؟

وعند غروب ذلك اليوم العاشر من يونيو 1967 عاد عم فوزى وهو مبتسم وعلى وجهه علامات السرور …… وأخذ يربت على كتفى :

ـ أمك فين يا محمد ؟ …… اطمن أبوك طيب وبخير يابنى (أسرعت والدتى من الداخل وهى تزغرد قائلة )

ـ صحيح يابو مجدى …… الحاج كويس … عايش مجرالوش حاجه ؟

ـ أيوه يا حاجة ومعايا أمارة كمان .

ـ إيه هيا ؟

ـ بطاقة التموين بتاعتكم أهيه ……ادهالى عشان أجيب لكم التموين بكره إن شاء الله .

أحسست ساعتها اننى لم أفقد بعد كل الأمن بتأخير والدى عنى ولكن عندما انفرد بنفسى وكلما يجن علي الليل تنفرد بى كل أحاسيس الخوف وفى مساء 11 يونيو 1967 سمعت أزيز تلك الطيران الأسود يحلق في سماء غرفتى ……فصرخت صراخا عاليا …… شعرت بأنها ستقتلنى بقذائفها على غرفتى فأسرعت خارجا ……… سمع عم فوزى صراخى ……فأتى الى نجدتى وضمنى إليه وقال :

ـ مالك يابنى ……في إيه ……؟ ما تخافش .

واستأذن والدتى في أن يصحبني الى داره لأجلس مع صديقى مجدى وألعب معه حتى أهدأ .

لم أستطع إدراك دافع عم فوزى نحو هذا التصرف وخصوصا أن كل تصرفات المسيحيين معنا في القرية لابد لها من تفسير ومردود هكذا تعودنا واعتقدت أن والدى ربما يكون قد مات الان وهو يعلم ذلك وهو يفعل ذلك من منطق العطف على طفل يتيم ……… فسألته :

ـ والنبى يا عم فوزى ربنا يخليك قوللى …… أبويا عايش صحيح ولا مات ؟

ـ صدقنى يا محمد ……… صدقنى يابنى أبوك بخير وكويس ويعلم ربنا كلها يوم ولا اتنين وهيرجع لكم بالسلامـة …… ياللا ……ياللا …… تعالى معـايا مش عـاوز تشوف صـاحبك مجدى ولا إيه ؟

كنت قد رأيت عينى أمى وهى تدمع لقولى فدموعها لم تقدر على حجز مقعد لنفسها خلف جفونها المنهكة والمبتلة دائما وجرت بعنف فاندفعت داخلة الى منزلنا بينما اتخذت أنا طريقى مع عم فوزى ……………… كانت هذه هى المرة الأولى التى تطأ فيها قدماى منزلا مسيحيا على الإطلاق وأنا لا أخفى اننى طالما راودتنى نفسى بالرغبة في استطلاع ذلك المجهول الذى طالما أخفوه وأحجبوه عنى أهلى وبيئتى …… وعند وصولى لعتبة الدار تملكنى الرعب إذ قد انصبت في آذانى كل العبارات التى كنت أسمعها آنفا من عدم حب المسيحيين لنا وأنهم من الممكن أن يضعوا لهم السم في الطعام أو الشراب ……… وأكد ذلك لدى أن والدتى كانت تحضر لى الطعام بنفسها في موعد تناوله من منزلنا ……… استعرضت بعينى كل تفاصيل المنزل بداية من الصور المعلقة وحتى أضخم قطعة أثاث ……… لقد لفت نظرى بشدة تلك المرأة الجميلة التى تحتضن طفل بارع الجمال …… أخبرونى أن هذه المرأة هى مريم العذراء ……أما الطفل فهو المسيح ……ثم استعرضت الجدار المقابل لاجد صورة أخرى لرجل كثيف اللحية ……مسبط الشعر ويجلس على مائدة طويلة وحوله رجال كثيرين يتناولون الطعام …… قالوا لى أن هذا الرجل هو المسيح والرجال هم اثنى عشر تلميذا " الحواريون " لقد كان البيت المسيحى بالنسبة الى مجهولا رغبت طيلة ما سبق من عمرى اكتشافه وفى نفس الوقت كنت أخشى الاقتراب منه …… وها هو الان قد أصبح هذا المجهول معلوما وفى هذه الأثناء بدأ يتلاشى خوفى تماما …… وبعد يومين من الإقامة هناك عاد والدى …… بعد انتهاء الحرب ……فجاء أخى يخبرنى ويطالبنى بالعودة سريعا …… لان والدى يسأل عنى وقال لى :

ـ إن سألك كنت فين أوعى تقول انك كنت هنا .

أسرعت نحو منزلى وارتميت في أحضان أبى في أحضان أمنه في دفئه الذى غاب عنى …… قبلنى والدى كثيرا في جميع أجزاء وجهى وقال لى :

ـ كنت فين يا محمد ؟

ـ كنت بره ……بـ ……ألعب .

لم يعلق والدى وكأنه يفهم أننى أكذب ودخل غرفته ودار بينه بين أمى هذا الحديث :

ـ بقى كده يا حاجة………!!؟

ـ في إيه يا حاج ……!؟

ـ على أخر الزمن تبعتيلى واحد مسيحى نجس يدور عليا …… هو أنا عيل صغير تايه ؟ إيه خلاص مفيش لا عقل ولادين …… فوزى العضمة الزرقا المعفن ده يدور على أنا ؟

ـ وماله يا حاج …… الناس لبعضيها ……… والراجل كتر خيره عمل اللى حتى اخواتك ما عملوه ……… مفيش ولا واحد قريب ولا بعيد جه يسأل عليك في غيابك ما احنا ما بنتعرفش غير في المشاكل بس …… احنا نشكره ونسيب ملته دى لربنا يا حاج .

ـ لكن في أصول …… على العموم أهى مرة وعدت ودى انشالله هتكون آخر مرة يحشر نفسه فيها الجدع ده .

ـ أنا مش عارفه انت بتكره الجدع ده دون عن خلق الله المسيحيين كلهم ليه ياحاج ……هو عمل إيه معاك ؟

ـ قلنا خلاص …… اتقفل الموضوع على كده ……ومحمد ابنك كان فين كده ؟

ـ كان …… كان…… كان عند المعلم فوزى .

ـ كمان …… كمان يا أم أحمد ابنى أنا يدخل بيت فوزى النصرانى ؟ وأظن ما كان بياكل ويشرب هناك ؟ …… مش كده ؟

ـ حد الله ياحاج أنا كنت بابعتله الاكل من عندنا …… بس أصل الواد كان مخضوض ياعينى من البتاعة دى ……… اللى اسمها ……أبصر إيه دى …… الطياره

عندها توقفت أذناى عن السمع لا إراديا…… تألمت كثيرا إذ ما الذى حدث لكى أكذب على والدى ثم يتكلم والدى عن عم فوزى بهذا الكلام وهو الذى فعل كل شئ لم يقم به غيره وظللت بسؤال واحد لماذا كل هذه الكراهية لرجل لم يفعل معنا إلا الخير ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟

لماذا لايشترك الناس جميعا فىكسب كراهية والدى ……؟‍

وكنت ألوم الأقدار التى جعلتنى أرتبط بشخص يحكم به على …… ولكن الشئ الذى لا نقدر على الهرب منه هو الزمن فالزمن يمضى …… يمر … ولايتوقف …… الحرب تنتهى ووالدى يزداد غضبه ……ويقل ……ويتوقف ……يعلو بحنوه…… تزداد قسوته …… ثم يعتدل …… كل الأضداد في والدى الذى هو صورة من هذه الحارة

هذه المدينة

ذاك الوطن…………



حارة النصارى - بسام الخوري - 02-01-2005

حارة النصارى رواية للمرحوم نبيل خوري...أرجو من الادارة منع هذه المهزلة والكذب...


حارة النصارى - بسام الخوري - 02-01-2005

http://www.adabwafan.com/display/product.asp?id=3234


حارة النصارى - Son of King - 02-01-2005

ما زلت حتى الان أتكئ بظهري على مقعدي الثابت من الأحداث في عربة القطار التى تخترق بى أفدنة طويلة وشاسعة وتقع عيناي على هذه الأرض المزروعة بالقطن …… القطن

…………… فقريتنا تشتهر بالقطن وزراعته على مساحات كبيرة فالقطن هو المحصول الرئيسى في القرية ويمثل القطن مصدرا أساسيا للدخل هناك إذ أن موسم جنى القطن هو موسم الزواج في القرية وفى فترة العطلة الصيفية وبالتحديد في شهر يونيو من كل عام تنظم الجمعية الزراعية بقريتنا " فرق " وهى مجموعات من الأفراد " ذكور _ إناث " يقودهم شاب " خولى " من طلبة الكليات الزراعية ……أو حملة الدبلومات…… تقوم هذه الفرق بالــــ اليدوية " لبيض ودودة القطن " المسمى " لطعة " وفى صيف عام 1969 …… كنت قد أنهيت المرحلة الابتدائية وعرضت على والدى أن أشترك في هذه المجموعات واستثمار ما أحصل عليه لقاء أجر لشراء مستلزمات العام القادم فوافق والدى على الفور ………… والحقيقة وراء طلبى هذا …… هو اننى علمت أن صاحبى مجدى سيشترك هو الآخر …ولكم كنت سعيد جدا لهذا خرجت في الصباح وعلى رأسي " الطاقية " أحمى بها رأسي من حر الشمس وأحمل في يدي" بؤجة " الطعام … إذ لم يكن مسموحا لنا بالعودة إلى منازلنا لبعدها عن الغيطان …….

وكنا كلما حان وقت الغذاء جلسنا سويا أنا ومجدى نأكل طعامنا ونعمل " الغديوه " وكانت في هذه الأثناء بالذات ترقبنا نظرات جميع الفرق المشتركة وتلاحقنا بالاشمئزاز المتواصل بل وتقذف علينا نظراتهم وابل العتاب والغيظ … وكان الحل الوحيد … أن أتجاهل ما يحدث وأستمر في نقائي تجاه من أحب … ثم اننى لا أجد سببا للابتعاد عنه … يحبنى … ويحب اللعب معى …لايؤذينى …يعلمنى الكثير والجديد من الألعاب …هو من دفعنى للاشتراك في هذه المجموعات …لم يكذب على … لم يضمر لى شرا … ولكن " الخولى " كان له رأى آخر … إذ كان من من نطلق عليهم " متدينين " وكان شديد الكره للمسيحيين بل كان يسئ الى درجات بعيدة في معاملتهم … وذات مرة واجهنى :

ـ حسك عينك أشوفك قاعد بتاكل مع الواد ده تانى فاهم ولا لأ ؟

ـ ليه ؟ هوه غلط ؟ أنا بأستريح معاه …

تركنى ولم يجيب لكنه توعد بأن يخبر والدى فعرفت أن اجابتى البريئة المستفهمة لم تريحه …!!

وهنا بدأت أكتشف سببا آخر لتعلقى بصديقى وهو اننى أمنع بقسوة وشدة عنه …!!

وفى المساء بعد عودتى … قامت الدنيا ولم تقعد …

ـ اياك تقعد مع الواد مجدى ده خالص بعد النهاردة … بقى إحنا بنمنعك من القعدة واللعب معاه تقوم تروح تاكل معاه …؟

ـ يابا انتوا ليه زعلانين انى بالعب معاه ولاحتى باكل ده صاحبى اشمعنى يعنى ده ؟

ـ لانه كافر …… مشرك واللى ياكل معاه … يبقى زيه فهمت بقى ياسيدى ودا مش كلامى … دا كلام الرسول " من أكل مع مشرك أو سكن معه فهو مثله " !!!

ـ طيب خلاص … أنا هابطل آكل معاه تانى … بس هابقى صاحبه …هاقعد معاه وألعب معاه …لاهاكل ولاهاشرب …

ـ لأ

ـ لأ … ليه ؟

ـ هى هى !!

ـ بس أنا باحب مجدى ؟! وبعدين هو ولد طيب ومؤدب !!

ـ يا محمد يابنى دا صحيح لكن الرسول منعنا إن إحنا نصاحبهم أو نحبهم دول مشركين فقال " يحشر المرء مع من يحب " انت عايز ربنا يحشرك مع الكفار في جهنم !!!!

ـ لأ

ـ خلاص اعمل اللى باقولك عليه .

ولما جاء الصباح … كان بمثابة موعد التنفيذ … أستطيع أن أواجه أبى وكل أهل الحارة من أجل صديقى ولكنى لا أستطيع مواجهة الله من أجل كل الحارة !!!

ذهبت كالعادة الى مكان تجمع الفرقة الخاصة بى …… استعدادا للذهاب الى موقعنا … ولكن كانت علامات الضيق والاكتئاب تبدو واضحة على قسمات وجهى … في نبرة صوتى … وعندما أقبل مجدى … ارتد للخلف خطوات في نفسه …قبل خطواته اللاهثة التى استمر فيها حتى وصوله الى شجرته العتيدة … التى كان دائب الذهاب إليها بمفرده من وقت لآخر …… ربما جرى هكذا ليبكى وربما لينفرد بنفسه ليفكر في سبب تحولى عنه … وربما …… وربما …

وعندما جاء وقت الغذاء … أخذت طعامى وذهبت بعيدا وحدى …… حتى لا ير انى … وبدأت في الأكل……… " بسم الله الرحمن الرحيم " وسمعت ……" باسم الأب والابن والروح القدس اله واحد آمين " لم أعبأ بوجوده وقبل أن أضع في فمى أول" لقمة " وجدت من يقول لى :



ـ إيه يا محمد انت هتاكل من غير ى مش عاويدك ؟!

(رافعا رأسي مواجها له فإذ بمجدى وعلى فمه ابتسامة غير مكتملة فقلت له باقتضاب ):

ـ مجدى أنا مش هاكل معاك تانى من النهاردة ماشى ؟

ـ إيه ؟ انت بتقول إيه يا محمد ؟

ـ مش هاكل معاك تانى … كل واحد ياكل لواحده وأرجوك بلاش تسلم على قدام الخولى …

ـ ليه يا محمد ؟

ـ ماعرفش هو كده وخلاص …… اسمع الكلام واسكت

فلم أجروء على إخباره بأنه سئ في عينى الله وسيحشر في جهنم … وظل مجدى ينظر الى وأنا متعمد أن لا أنظر الى عينيه … استمر هذا الوضع قليلا ثم قرر مجدى الفوز بكرامته والابتعاد عنى … وذهب مجدى الى مكان بالقرب منى وتبادلنا النظرات الحاسرة وفى داخلى أتسائل …… ما هذا الذى يحدث لنا ……!؟

لماذا يرضى ويسر الله لهذا !!؟

وما أن مرت لحظات إلا وقد وجدت هجوم أعضاء الفرقة نحوى لمشاركتى الطعام ………

فتسائلت :

ـ ما الذى حدث ؟

فلقد كنت أطلب منهم مرارا كثيرة أن يأتوا ويشاركوني أنا وصديقى مجدى ولكنهم كان يرفضون فما الذى حدث ……؟؟

ـ براوة عليك ياد يا محمد …… طردت النجس ده بعيد لواحده …!!

وساد الفتور علاقتى بمجدى وشيئا فشيئا وجدت نفسى أفقد حبى له واهتمامى به ومحاولة لقاءه … لا أدرى !؟

ولكن ربما كان الفوز بالجنة أفضل بكثير من مصافحة مشرك !!

وانتهت المرحلة الابتدائية هكذا ……

فحب الله أغلى

من حب أى مجدى ……







انتقلت إلى المدرسة الإعدادية …… وكانت المدرسة تبعد عن القرية بحوالى عشرة كيلو مترات فقريتنا بها مدرسة وحيدة ابتدائية ومن يريد إكمال مسيرة التعليم عليه مسيرة نحو عشرة كيلو مترات يوميا ذهابا وإيابا للمدينة المجاورة .

وساد الاعتقاد لدى اننى ببعدى هذا عن القرية سأنجح في اختيار أصحابى بعيدا عن أبراج المراقبة الأبوية …… ولكن لم أكن وحدى …… فقد كان معى كثير من الطلاب من حارتى …… ينقلون أخبارى لوالدى عندما يطلب منهم ذلك وبعد فترة أصبح ذلك يتم بدون أن يطلب منهم ……

……………………………………………………………

وكنت أشغل نفسى فى طريق عودتى من المدرسة بعد البيوت …… كم بيت في حارتنا ……!؟ بدأت العد وواصلت العد حتى اكتشفت انهم 75 منزلا بطول الحارة .

وذات يوم فكرت بأن حارتنا " حارة النصارى " هكذا تدعى …… فقررت أن أحصى عدد المنازل المسيحية وأحصى كذلك بيوتنا نحن …… فكانوا خمسة عشر منزلا لنا ……وستون بيتا لحاملى لقب الحارة ……!!

ولكنى اصطدمت بواقع عمرى فيها فهى " حارة المسلمين " إنها حارتنا فهى حارة الإسلاميين …… نعم فالنصارى فيها كثرة بلا صوت بلا فعل بلا ………………………………………………..

……………………………………………………………

كـان والـدى يمثـل القطب الأكبر بالنسبـة للمسلمين … وعلى الطرف الآخر فالمعلم فوزى هو القطب الأكبر للمسيحيين وكان كلاهما موضع احترام وتقدير في عشيرته أو طائفته …… وهم أصحاب النفوذ في فض اشتباكات ونزاعات أهل الحارة من الطائفتين .

كانت كل الأنظار تتجه نحو منزلنا ومنزل المعلم فوزى ولكن شتان الفرق بين كل منهما …… فمنزل المعلم فوزى الواسع والمؤسس تأسيسا جيد هو تماما عكس منزلنا المتواضع …… وكثيرا ما كنت أسأل نفسى وفى يوم من الأيام قررت أن أسأل والدى :

ـ ليه بيتنا فقير وشكله وحش والبيت بتاع المعلم فوزى حلو وهو كافر ومشرك واحنا اللى ربنا بيحبنا اشمعنى يعنى يابا !؟

ـ هما ليهم الدنيا بنعيمها …… واحنا لينا الجنة بريحها ……… !!!

وبالتأكيد لم تعجبنى الإجابة !!

وقد مكننى وضع والدى القيادى هذا من الاضطلاع عن قرب على كل خبايا القرية ومشاكل الأسر بكـل تفاصيلهـا والـتى دائما ما تشير الـى مدى تقدمهم أو تخلفهم وقدرتهـم على حـل النزاعات وفهمهم لها ……… والتى تنم كذلك عن مدى التناقض الغريب الذى يسرى في عروقهم وكم الزيف الذى يسترون به وجوههم …… كان ما يميز بيوتنا عن بيوت المسيحيين أثناء النزاع هو الصخب والعويل والصياح … وكنت أعجب بادئ الأمر ولكن سرعان ما أقنعت نفسى بأنه وضع اضطرارى للنصارى يعيشونه رغما عنهم خوفا من غضب المسلمين عليهم ……… إن هم تسببوا في إزعاج جيرانهم الملكيين " المسلمين " !!

كنت أرقد في ذلك العصر عندما أفاقت الحارة بأجمعها على صراخ شديد وتنابذ بالألفاظ فخرج الجميع للبحث عن مصدر هذا الصراخ وسببه … وكان هذا الصراخ يأتينا من لدن منزل المعلم عبده الجزار … وكانت زوجته هى التى تصيح وتصرخ وعندما وثبت الى النافذة لأرقب ما يحدث …… وجدت زوجة المعلم عبده تهرول الى منزلنا للاستغاثة بوالدى …… وخلفها يجرى أطفالها ويبكون بشدة وهم يتبادلون السقوط أثناء الجرى …… صحيح لم تكن هذه هى المرة الأولى ولكن هذه المرة كانت أشد هولا…… لدرجة جعلتنى اندفع الى الباب مستقبلا إياها لأسألها :

ـ في إيه يا خالتى ؟

ـ فين الحاج يا محمد …… اندهللى الحاج قوام أبوس ايدك …

( كان والدى قد خرج لتوه من غرفته يكمل إسدال جلبابه ……هدأ والدى من روعها وأجلسها …… وطلب من أمى أن تحضر لها كوبا من الماء )……

ـ واعملي لنا كوبيتين شاى يا أم أحمد .

مالك بقى يا أم سيد ؟ اهدى كده واحكيلى اللى حصل …

ـ أحكيلك ايه يا حاج ؟ هى دى أول مرة ما هو على يدك ……

استمر الحديث الذى يدور دورته كل مرة في نفس الاتجاه فلقد كان دائم الشجار معها وفى كل مرة يصلح بينهما والدى ويتعهد المعلم عبده بعدم تكرار ما بدر منه بلا فائدة !!

وسرعان ما تمر الأسابيع حتى يحدث ما قد حدث من جديد …… والذى أحيانا يصل للعنف وكالعادة جاء عم عبده ليأخذ زوجته وكأن شيئا لم يكن كما اعتاد .

ـ يا راجل خللى عندك دم …… احترم دقنك الى مالية وشك دى يا شيخ دا انت حتى لسه حاجج بيت ربنا …… بص يأخى للنصارى اللى قدامك ……ضحكتهم علينا كل شوية .

ـ أنا محقوق لك يا حاج

ـ قوم خد مراتك وطيب خاطرها بكلمتين قوم …… قومى معاه ياللا يا أم سيد وان حصل حاجة تانى أنا اللى هأقف له .

لم يمضى سوى أربعة أيام حتى تكرر ما حدث …… نفس الصراخ ولكن هذه المرة كان يضرب أولاده لانه علم بأنهم يدخنون …… وتطورت الأحداث فامسك عليهم السكين ليهدد به ابنه فهرعت إلينا زوجته طالبة النجدة . وخرج والدى مسرعا إلى منزل المعلم عبده ليفجأه المعلم فوزى وتقابل الاثنان معا على باب المنزل :

ـ ايه اللى جابك هنا ياسى فوزى ؟

ـ باحاول أساعد يا حاج

ـ طب مالكش صالح بيناتنا احنا نقدر نحل مشاكلنا من غيرك انت جاى تشمت فينا …… هى دى عادتكم يا مسيحيين …… شغل الكهانة دا …… تحبوا تصطادوا في الميه العكرة .

عندها انسحب المعلم فوزى الى منزله يضرب كفا على الآخر هذا وقد توقف المعلم عبده عن ما كان يفعله على صوت والدى ينهر المعلم فوزى …… !!

ثم ما أن لبث المعلم عبده يهدأ

ـ ايه اللى حصل يا معلم ؟

ـ ابن الكلب قال بيشرب دخان

ـ يعنى يا معلم عبده بتلوم ابنك ع الدخان وانت بتشربه ازاى يا راجل ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم )

ـ كمان يا حاج ابنى الأيام دى ماشى مع توفيق ابن المعلم فوزى النصرانى .

ـ بص يا معلم ولاد المعلم فوزى والشهادة لله ولاد كويسين قوى ومتأدبين كويس ومفيش واحد فيهم بيشرب دخان وشطار في مدارسهم اياكش بس انهم نيلة مسيحيين ……!!

عاد والدى للبيت شارد الذهن لا أدرى في ماذا ؟ حتى أنه لم يدرك أو يشعر بوجود خالى عندنا … إذ قد جاء لزيارتنا من القرية المجاورة:

ـ مالك يا حاج في ايه ؟ ايه اللى شاغل بالك ؟

ـ أهلا …… أهلا ….. يا حاج سعيد …. لا مؤاخذة …… حاجة غريبة ياخى المعلم عبده الجزار عاوز يذبح ابنه عشان بيشرب دخان وآل ايه شافه كمان ماشى مع الواد توفيق ابن المعلم فوزى المسيحى .

ـ طيب مالمعلم عبده نفسه بيدخن برضوا !

ـ تعرف يا حاج سعيد أنا ايه اللى شاغلنى ؟

ـ ايه يا حاج ؟

ـ العيال ولاد المعلم فوزى النصرانى عيال شطار وطيبين وبينجحوا كل سنة وعيال متأدبة وعيالنا احنا متنيلين بستين نيلة … أنا عارف ولاد فوزى دول ماكنوش مسلمين ليه !؟

ـ هدى نفسك يا حاج كده: الأدب والأخلاق مالهومش دعوة بالدين خليها على الله … انت عارف ولاد فوزى دول لو بقوا مسلمين هيكونوا عاملين ازاى يعنى ؟

ـ هيكونوا مفيش بعد كده

ـ أبدا ماهم ولاد المعلم عبده ليه ما بقوش كويسين…. ماهم ماشين معاهم …. عاوز الحق … يبقوا زى ما هما أحسن !!



حارة النصارى - Son of King - 02-01-2005

وكنت من فترة لأخرى أشعر بأن هناك بوادر لذوبان الفوارق الدينية هذه وأشعر كمسلم بأنه لا يوجد مسيحى في الحارة وبالرغم من قلة هذه الأوقات التى ترمينى في حضن هذا الإحساس الاانها كانت من أروع الفترات التى عشتها في الحارة وقد تجلى في مواقف كثيرة رائعة تناسى فيها أهل الحارة معتقداتهم وعبر كل منهم عن انتمائه للحارة …… فقط الانتماء للحارة ……فحارتنا كان يتوسطها بيت لرجل متوسط الحال ……بناه من الطوب اللبن وسقفه من الحطب والخشب والجريد …… وكان يخصص من سطح المنزل مخزنا لوقود الفرن من " القش " وسيقان القطن والذرة اليابسة …… وفى يوم الجمعة ووقت كان مسلمى الحارة يفترشون مسجدها الذى يبعد مسافة حوالى نصف الكيلو عن الحارة وإذا بالسنة اللهب تتصاعد من هذا المنزل البسيط …… وتعالى صوت النساء بالصياح والعويل …… حريقه …… حريقه فخرج جميع مسيحي الحارة في مظاهرة احتفالية لا تسفر عن شئ سوى الحب والوحدة والانتماء …… خرج كل المسيحيون في لوحة بدأت تتكامل حتى أصبحت بانوراما مضيئة لهذا المشهد المأسوى…… بانوراما لهذه الوحدة…… التى سرعان ما تذوب وتنسى …… التى سرعان ما تفسر بأوجه شتى …… خرج المسيحيون ومن منهم لم يك قد أكمل ثيابه …… خرجوا بالصفائح والقدور ولما بلغنا الخبر تركنا الصلاة ………… وأسرعنا …… فوجئنا بذلك الحشد …… بتلك المنظر البديع …… عم فوزى … نعيم الترزى … كمال السباك… وغيرهم يطفئون النار بصورة فريدة من الإخلاص وكأن المنزل الذى احترق هو منزلهم جميعا…… حتى الأطفال كانوا يحملون " الجرادل " الصغيرة ……وأصرح ولاول مرة اننى لم أساعد في إخماد نيران ذلك الحريق ……إذ اننى عندما أفقت من استتباع هذا المشهد ـ الذى ألب على كل ما سمعته عن المسيحيين والنصرانيين ـ كان الحريق قد أخمد …!!

وما كان من المسلمين إلا التقدم بالشكر المشوب بالغيرة وكظم الغيظ للمسيحيين وعلى رأسهم عم فوزى ……أقصد ……" المعلم فوزى " !!!

ولم يكن إخماد الحريق بهذه الطريقة هو النهاية للأحداث المأسوية لتلك المنزل البائس من فرط بؤس صاحبه وسوء أحواله …… فالنيران قد أتت على محتويات المنزل وأهمها كانت " بقرته " التى يعيش على ألبانها وزبدها وكذا " جاموسته " فقد نفقت في الحريق …… وقد جرت العادة انه في مثل هذه الظروف أن يتكاتف الجميع ويهبوا لجمع التبرعات لمن لحقت به الكارثة وكان من الطبيعى أن يتقدم كل من له المقدرة على المساعدة علاوة على مبلغ يقدم من مجلس الحارة الذى كان بحوزة المعلم عبده الجزار في تظاهرية اشتراكية بليغة المعنى والهدف خالية من التنظير الجاف …… ولكن في حالتنا تلك فكل الأمور تلك كانت غير كفيلة بحل المشكلة لهذا الرجل …… إذ احترق بيته وفراشه ……تقدم أكثر من شخص من المسلمين لاستضافته …… واستقر الرأى على منزل المعلم عبده الجزار لاستضافته هو وأولاده وزوجته .

وكانوا جميعا يرقدون في غرفة واحدة …… ولكم كان الوضع سيئا جدا …… وهنا يحدث ما لا يتوقع ـ بل الذى أصبح من كثرته لابد وأن يكون متوقعا ـ لقد ذهب المعلم فوزى للمعلم عبده طالبا استضافتهم في شقة بالطابق الثانى بمنزله حيث إنها شقة مخصصة لأى من أولاده في المستقبل عند زواجهم …… وهنا تعمل الغيرة في نفوس وقلوب سكان الحارة …… فيرفضون طلب المعلم فوزى .

ـ لما نبقى نقصر في حقه …… ابقى تعالى خده عندك ……!!

( وهنا تدخل والدى بحدة قائلا )

ـ الراجل ده مش ممكن يدخل بيتك حتى لو نام في الشارع يا جدع انت فاهم ولا لأ

ـ ليه يعنى يا أبو أحمد ؟…… دا احنا جيران والنبى وصى على سابع جار …… والناس لبعضيها …… دانا يا راجل لسه ايديا محروقة من حريق الراجل اللى انت مش عايزه يقعد عندى ……!!

ـ اسمع يا معلم فوزى …… صحيح النبى وصى على سابع جار ……لكن وصانا احنا مش انتم …… انت نسيت انت ايه ولامين ؟

وهنا ينتهى هذا الحوار وانسحب المعلم فوزى بحدة صامتة واتجه نحو منزله ……………

وألح على سؤالا ألست أنا من قاطنى هذه الحارة " حارة النصارى " !!!!!!!

كانت زوجـة الرجـل صاحب الكارثـة صغيـرة السن وعلى قـدر من الجمـال وكان المعلـم عبده ……يـ……عطف عليها وعلى أولادها !!!.

ولكن زوجته قد فسرت ذلك تفسيرا خاصا وما لبثت حتى نشبت بين الزوجين مشاجرة انتهت بمنح زوجة المعلم عبده الجزار مهلة يوم واحد لتبحث لها عن مأوى آخر لها ولأولادها ……!!!

وهنا يعود نجم المعلم فوزى من جديد في البزوغ …… لاعادة المحاولة مرة أخرى ولكن هذه المرة بدون استئذان أحد …… بل وأعلن في سابقة هى الأولى من نوعها في أذنى ……بل ولم أشهدها قط حتى الآن أن وقف أمام منزله وأعلن بجرأة !!

سأستضيفهم عندى مهما حدث ……

ـ أظن حرام على أى حد في الدنيا إن احنا نسيب عيال صغيرة تنام في الشارع يا رجالة!!!

وأسكنهم المعلم فوزى شقته وبدأ في جمع مبالغ من أصدقائه لاعادة ترميم المنزل وإزاء هذا التصرف لم يقدر أحد من المسلمين أن يعترض عليه كما حدث في السابق ………

ولكن هذا الهدوء ليس من سمات حارتنا ………فسرعان مادعى والدى لاجتماع يعرب فيه عن استيائه وشجبه من فكرة مكوث حسين وزوجته واقامتهم في شقة هذا النصرانى الذى يدعى والدى انه يرغب في تنصيرهم كما كانوا يحاولون معى بمساعدة ابنهم الصغير !!

وأخيرا قد قدر لى أن أستمع الى اعتراض واضح وصريح على حديث والدى من أحد أفراد الاجتماع

ـ لأ يا حاج ……… المعلم فوزى معملش حاجة غلط … يعنى كنت عايز حسين وولاده يناموا في الشارع …… بعد ما طردتهم مرات المعلم عبده الجزار ……الراجل فوزى ده عمل اللى ماحـدش فينا قدر يعمله ……ونسيبـنا بقى من موضـوع الدين ده …… ده موضوع بتاع ربنا .

لم يطرى والدى بهذا التعليق وانتهى الاجتماع على أن لا نتفق …… وتمر الأيام ويعيد حسين بناء بيته …… ويتبرع المعلم فوزى بكامل الأثاث من ورشته الخاصة ـ حيث كان من أمهر النجارين في القرية بأجمعها بشهادة جميع قاطنيها على السواء ـ مما أثار حقد وغضب الجميع …… ولكن ظلوا جميعا يضمرون الغيظ …… وما كنا فقط نستطيع عمله إذ ذاك هو إرسال الطعام في أوقاته إلى حسين وأفراد أسرته من نفس طعامنا بانتظام وكذلك المعلم عبده الجزار الذى كان يرسل به بين الحين والآخر ببعض اللحوم من دكانه الخاص ……والحاج بدوى الذى يرسل له بعض حاجيات البقالة كالزيت والسمن والسكر والحبوب…… مدفوعين جميعا بعدم ترك الساحة لفوزى

"واللى زيه" عدا المعلم عبده الجزار الذى كان يفعل هذا بعيدا عن مرأى ومسمع امرأته فقط !!

ثم ما أن لبث والدى حتى اقترح بأن يرد جميع أفراد الحارة ثمن الأثاث الذى تبرع به المعلم فوزى لحسين ولكن ما كان من المعلم فوزى إلا أن رفض هذا الإجراء الذى اعتبره إهانة وأمام إصرار الجميع اضطر لاخذ المبلغ وعلى الفور أهداه إلى حسين كى ما يبدأ به حياته ……الأمر الذى أثار الموقف اكثر من ذى قبل وكان وقتا عصيبا سرعان ما استتبت الأمور بعده بعض الشئ ولكن لم يسلم الجميع من الشعور بالخجل تجاه المسيحيين أجمعين ………………

……………… ولم يمضى وقت طويل حتى شاءت الأقدار وجاءت الرياح بما يشتهى أهل الحارة إذ قد هاجم مجموعة من اللصوص محل رجل مسيحى يدعى " زكى " ونهبوا كل ما فيه …… وفى الصباح جاءنا الخبر …… وعندها تهلل والدى بالحمد لله ……

ـ أهو جه اليوم اللى نرد فيه للملاعين جمايلهم علينا ونخلص……

وأسرع جميع أهالى الحارة من المسلمين وعلى الفور جمعوا مبلغا من المال يفوق ما جمعوه لحسين !؟ واشتروا لزكى ثلاجة جديدة وأغدقوا " الدكان " بضاعة وأصلحوا ما قد أتلفه اللصوص …… ثم وقفوا في كبرياء المعطى بسخاء وقال والدى :

ـ ناقصك حاجة ياسى زكى ؟ عايز حاجة تانى ؟

ـ أبدا يا حاج هو انتوا خليتو الواحد محتاج حاجة …… كتر خيركم ربنا ما يحرمناش منكم .

ـ طيب …طيب …… أصل احنا برضوا ما حدش أحسن مننا في حاجة … لو احتجت حاجة ابعتلى ابنك وشوف احنا هانعمل معاك ايه !!

واستمر الوضع على هذا الحال بيننا نحن المسلمين وبين المسيحيين في حلبة " حارة النصارى " …… التى يوميا ما كانت تشهد تخطيطا وتكتيكا لانزال الهزيمة بهذا الجنس البائد " المسيحيين " !!!

كان المأثور الشعبى لدينا في الثقافة " الحارتية " ملئ بعدم انتماء هؤلاء النصارى لبلادهم بل انهم يتمنون أن تغتصب هذه البلاد وأن تقع في أيدى الاستعمار الذى بالطبع سيورثهم حريتهم إذ أنهم من نفس الدين فهم لا ولاء لهم مطلقا وانهم سيسلمون البلاد للأعداء لإبادة جميع المسلمين …… بل كنا لانسر بدخولهم الجيش المصرى وكان من الصعب أن تتغير لدينا هذه الفكرة ……

ولكن دائما تعودنا الرياح بمجيئها بما لا تشتهى السفن …… فلقد جاء ذلك اليوم المهيب الذى كنا ننتظره بفارغ الصبر السادس من أكتوبر 1973 وهب جميع المجندين في الحارة الى ثكناتهم العسكرية …… وقد كان لدينا من حارتنا خمسة عشر شابا مجندا …… عشرة من المسيحيين وخمسة من المسلمين !!!

وطوال أيام الحرب ……لاحظنا جميعا اندفاع المسيحيين بقوة التغيير لأفكارنا المطبوعة عنهم في الأذهان ……فكانوا يقدمون جميع المواد الشحيحة بالسوق لكل سكان الحارة …… تبرع بالدماء …… تقديم لأولادهم في معسكرات الدفاع الشعبي في أثناء ثغرة الدفرسوار …… تقديم للتبرعات المادية والعينية …… ولكن ما رواه العائدين المسلمين والمسيحيين كان أروع جمالا وأشهى من كل ما رأيت وعاصرت ………

فلقد أصيب هانى ابن المعلم فوزى في المعركة وكان بحاجة الى عملية نقل دم سريع ولم تكن فصيلته متاحة ولم يجدوها سوى لدى ابن حسين الفلاح صاحب كارثة المنزل المحترق لتسطر واحدة من ملاحم الإخاء الحقيقى الذى لا يفصل فبه حقد أو رغبة في التعالى أو …… أو …… ولكم تمنيت أن تظل هذه الملاحم قائمة ولكن اصطدمت بحواجز وعقبات تارة باسم الدين وأخرى باسم العرف … وتارة باسم الكرامة …!!!

امتزجت دماء العنصرين وتاهت الدموع وتجلطت الأحقاد وتداخلت الضحكات لدرجة اللاتمييز وعدم القدرة على معرفة من أو من أين يأتى الضحك اللذيذ ……كانت علامات السعادة بنصر أكتوبر تملأ القلوب والبسمة لا تفارق شفاههم وغاصت حارة النصارى في أحلى أيامها … فلقد نام الحقد وهدأ الحسد ……………………………………………

……………………….. ولكن كان هذا الهدوء بمثابة الهدوء الذى يسبق العاصفة …… فلقد عادت الصيحات والصراخ والعويل تنبعث ثانية من بيوت الحارة …… صرخات …… وصرخات ……… هذه المرة من هذا المنزل المسيحى …… منزل نعيم الترزى .

ولا أخفى اننى كنت أهيم ولعا بأن أرى ما يحدث في البيوت المسيحية إبان المشاكل التى تعترضهم إذ كانت قلما تحدث والتى جميعها تحل بالهدوء ولكن خاب ما تمنيت إذ كان هذا الصراخ لوفاة ابن الأوسطى نعيم الترزى !!

توقف القطار فجأة فارتجت أوصالى فجأة وبدأت جفونى فى الاستيقاظ من الغفوة التى كنت قد ذهبت أغط فيها كان من الواضح أن هناك تعثر في طريق قطارنا الذى عادة ما يقابل مثل هذه الأعطال شأنه في ذلك شأن جميع ليالينا التى نستبق فيها عشق التآلف بدون جدوى ولكن هدوء الخارج لتوه من غفلته قد اخترق بصياح امراءة من الكرسى الخلفى يبدو أنها قد لامست أحد الوقوف صدفة أو عن قصد المهم أن ملامحها قد سرقتنى لتدخلنى الى ذلك الوجه الذى لم أنساه حتى الآن انه وجه زينب ففى صباح يوم ما فوجئنا بها وهى زوجة عم عبد الرازق تندفع داخل منزلنا باكية ونائحة تلطم خديها وتشق ثيابها عن صدرها …… وحاولت والدتى تهدئتها دون جدوى … فصاح والدى ـ لما له من نفوذ على جميع أعضاء الحارة ـ في وجهها طالبا منها الهدوء فكان !!

أخذت زينب تكفكف دموعها بهدوء وهى تحكى :

ـ أنى وحشة يا حاج ؟ …… شوفت على يا حاج حاجة مش كويسة ؟ …… قوللى يا أبو أحمد ايه رأيك في ……!؟

ـ جرى ايه يا وليه …… انت بنت ناس طبعا …… ومن أشرف ستات الحارة والدنيا كلها … في ايه ……!؟

ـ خمستاشر سنة يا حاج من يوم ما اتنيلت اتجوزت عبد الرازق وأنا خدماه هو وولاده وراضية بعيشتى معاه على الحلوة والمرة ……( صارخة تلطم خديها )

ـ كملى يا ست زينب …… قوليللى ايه اللى حصل ؟

ـ مصيبة يا حاج …… مصيبة !!

تصدق يا حاج …… عبد الرازق متجوز عليا !!

ـ ايه الكلام ده يا أم خميس !؟

ـ والمصحف الشريف يا حاج زى ما بقوللك متجوز عليا في السر هوه ناقص ايه بس ياخواتى …… ده حتى مش قادر يصرف على ولاده …… ودا انت شايف يا حاج أنا باروح أخبز لدى شوية ولدى شوية عشان يطلعلى قرشين يساعدونا ع المعايش …… يرضى ربنا بقى اللى هوه بيعمله معايا دا يا حاج

( لاطمة خديها مرة أخرى )

ـ مين اللى قالك يا أم خميس !؟

ـ كتير …… كتير كانوا بيقولولى من زمان لما كان بيتأخر بره ويقول آل كان عنده شغل … امبارح بعت الواد خميس وراه عرف العنوان وجه قاللى …… رحت ع العنوان اللى هو فيه وشفت اللى ياريتنى ما شوفته …… لقيته هناك في عزبة " العربى " …… في بيت مراته التانية … أبوس ايدك يا حاج ( مندفعة الى يده لتقبيلها وهو في سرعة شديدة ساحبا إياها ) خليه يطلقنى يا حاج أنا مش ممكن أعيش معاه بعد اللى حصل !

لم أنسى أبدا تلك الانكسار وهذى الدموع والثياب الممزقة وكسر الرأس وكأنها فقدت عزتها مع هذا التعس ولاترى أمامها سوى نظرات الإشفاق التى تهرب منها بسرعة أقوى من بكائها للنظر في الأرض قائلا :

ـ صحيح الكلام اللى بتقوله أم خميس دا يا عبد الرازق ؟ انت متجوز عليها ؟

ـ حصل يا عم الحاج!

ـ طب وهى قصرت معاك في حاجة يا عبد الرازق ؟

ـ أبدا !!!!

ـ طب ليه بقى يا أخى …… فراغة عين !؟

ـ بصراحة بقى دا حقى يا حاج والشرع حللى أربعة مش اتنين ؟ ولا ايه ؟ يبقى اللى أنا عملته كده غلط بقى في نظركم !؟

ـ يعنى هو الشرع في دى بس بيمشى …… ولخمره اللى بتشربها كل يوم دى مش في الشرع ما فيهاش شرع !!!؟

ـ الحمد لله ……بطلت وأم خميس عارفه حتى اسألها .

ـ طب كويس ياسيدى …… الولاد بقى هتعمل معاهم ايه ؟ ولما يجيلك عيال من التانية هتحب مين فيهم يا عبد الرازق ؟

ـ هحبهم زى بعض يا حاج دول من صلبى ودول من صلبى !!

ـ (هنا تتدخل زينب صارخة ) أبدا يا حاج لا يمكن أعيش معاه وأنا لى ضره إن كان عايزنى يطلقها وان كان عايزها يطلقنى .

ـ اسمعى يا أم خميس ما هو دا شرع ربنا ( تضرب على صدرها بشدة شاهقة مولولة " ياخرابى ياخرابى" ) ما احنا ما نقدرش نلومه قدام شرع ربنا يا زينب …… لكن لو هو قصر معاكى أو مع عياله هيبقى في كلام تانى ……ياللا …… ياللا قومى ارجعى لبيتك وعيالك وسيبي الموضوع لربنا ولينا .

(انحنى عبد الرازق مقبلا يد والدى قائلا ):

ـ ربنا يخليك لينا يا حاج وما يحرمناش منك .

ومع مرور الأيام …… وضح تقصير عبد الرازق مع زوجته الأولى وأولاده منها …… الأمر الذى انطبع على أولاده في ملابسهم الرثة وهبوط مستواهم الدراسى وكثرة مشاكلهم مع والدتهم بسبب عدم وجود أب ريفى …… تعلم أحدهم التدخين في سن صغيرة وتورط الأخر في أعمال سرقة .

ـ عاجبك حال ولادك يا عبد الرازق ومراتك هوه ده اللى احنا اتفقنا عليه ؟

ـ والله يا حاج بقى أنا باعمل كل اللى أقدر عليه …… وبعدين ياسيدى لا يكلف الله نفسا الاوسعها .!

ـ ماكان من الأول يا عبد الرازق ……لما انت عارف إن الله لا يكلف نفسا الاوسعها رحت اتجوزت تانى ليه ؟

ـ دا نصيبى يا حاج وكل شئ قسمة ونصيب …… لكن أنا عند وعدى شوفوا اللى انتوا عايزينه وأنا اعمله ..!

ـ ارجع لبيتك وعيالك يا عبد الرازق ……ابنك خميس باظ في المدارس وابنك عربى بيسرق خيار من مزرعة أبو قاسم .

ـ ما قدرش يا حاج …… مراتى التانية حامل …… لكن إن كانت زينب عايزه تطلق معنديش مانع !!!

(هنا بكت زينب وقالت ) :

ـ أمرى لله ……حسبى الله ونعم الوكيل فيك يا عبد الرازق … طلقنى … السرقة والبهدلة أهون من عشرتك يا ناقص …… طلقنى

ـ انت طالق …… طالق …… طالق .



حارة النصارى - Son of King - 02-01-2005

وبالتأكيد لم يكن الطلاق هو نهاية المشكلات في هذه الأسرة المنكوبة بنكبة عائلها …………………

………فبعد أن وقع الطلاق لم يلتزم عبد الرازق بنفقة أولاده …… وتضاعفت مشكلات الزوجة والأبناء ……ولما كانت زينب امراءة جميلة وفى أوائل عقدها الثالث فسرعان ما أصبحت مطمع الكثير من رجال الحارة …… وعرض عليها الكثير من رجال القرية الزواج بها فرفضت ……لكى لا تعيد ما فعله زوجها وتصبح امراءة ثانية مع رجل يحيا في بيته ووسط أسرته … ولكى تستطيع الاضطلاع بتربية أولادها … ولكن كانت الشكوك تطاردها كلما خرجت للعمل هنا أو هناك …… وسرت هذه الشكوك بسرعة النيران حتى خاف السادة المسلمين من أن تصبح زينب وسمة عار في جبينهم أمام مسيحي الحارة …… فعرضوا عليها أن تلزم دارها لقاء مبلغا من المال سيقام بجمعه لهذا الغرض الأمر الذى اعتبرته إهانة لكرامتها ..وما كان منها إلا أن وقفت على باب دارها وهى تقول :

ـ أنا أشرف م الشرف نفسه ومش هامد ايدى لحد طول ما أنا فيا نفس وهاشتغل وهاشقى على ولادى وأعلى ما فى خيلكم اركبوه … هوه ايه لا بترحموا ولا بتخلوا رحمة ربنا تنزل .

ولم يجب عليها أحد من الحارة …… هب كعادته دائما المعلم فوزى وعرض على زينب أن تساعده في محله حيث كانت زينب على قدر م الذكاء الفطرى علاوة على أنها ملمة بالقراءة والكتابة ووعدها براتب مجزى ووافقت على الفور إذ أن هذا العمل افضل من الخبيز ودخول بيوت الناس الأمر الذى يدفع لخروج الإشاعات عنها من فترة لأخرى …… ولكن اعترض طريقها كبار رجال الحارة … لكنها لم تستسلم لضغوطهم .

ـ عاوزينى ما أشتغلش عند المسيحى هاتولى انتوا شغل يامسلمين ولاهوه احنا بتوع كلام وبس … ماله المعلم فوزى …… صحيح هوه مسيحى بس راجل ونعم الرجالة بيضربه المثل في أدبه وأمانته وولاده ماش الله واحد دكتور والتانى مهندس ( مازالوا طلبة ولكن جرت العادة على دعوتهم بألقابهم منذ دخولهم الكلية ) ……

وبدأت تشعر بكيانها …… وتستشعر أن لها حقوق غافلة عنها في زحام أحداثها "فرفعت" قضية نفقة بأثر رجعى لعام ونصف العام ولم يقدر زوجها على دفع شئ وأقام هو الأخر قضية ضم للأولاد الولدان والبنت ………!!

وعلمت زينب بذلك فجن جنونها ولم تستطع عمل شئ أخر ولكنها قررت مساومته فطلب عبد الرازق منها التخلى عن القضية "النفقة" في مقابل التنازل عن قضية الضم فرفضت فأخذ الأولاد وتعهد للمحكمة بجدولة ما عليه من التزامات النفقة .

وعلمنا بعد ذلك أنه تورط في تجارة المخدرات وبدأ يستخدم أولاده في هذه التجارة مقابل الإنفاق عليهم ……… وتحت اصرار زوجته الثانية على إعادة الأولاد الى زوجته الأولى ولأنها لم تعد قادرة على خدمتهم ولا على رؤيتهم التى دائما تذكرها بأنها امراءة ثانية … وخيرته ما بين طلاقها أو إرجاعهم لزوجته فما كان منه إلا أن أعادهم الى أمهم … ولكن سبق السيف العزل فقد أدمن الولدين المخدرات ونجت البنت صفاء من براثن والدها وزوجة الأب وقضى الولدين ما تبقى من عمرهم نزلاء في السجون وهنا يسدل الستار على هذه العائلة لتعود المشاكل مرة أخرى ولكن في ثوب جديد …… فخطيئة الأب ترفض أن ترحل إلا بوداع الام لكل أبنائها .

فبعد مرور السنين تكبر الصغيرة صفاء لتصبح فتاة جميلة وسرعان ما خرجت للعمل لمساعدة والدتها ويوما بعد اليوم استطاعت الحارة بأسرها أن ترى الفتاة وقد ارتفعت بطنها معلنة عن خطأ أخلاقى تحمل به …!!

وبدأت الإشاعات تملاء الحارة كلها فالقرية عن تورط ابن المعلم فوزى في علاقة آثمة بالبنت … وحضرت الشرطة للتحقيق في الواقعة ولكن زينب أنكرت وكانت المفاجأة عندما هبت الفتاة معلنة الحقيقة بالاعتراف والإفصاح عن صاحب الجريمة الذى لم يكن ابن المعلم فوزى ………

………………… الى هنا لم أفق إلا على صوت المؤذن يعلن موعد آذان العصر وقد استقر القطار الذى أقله على المحطة قبل الأخيرة في رحلتى الى قريتي …

كان صوت المؤذن أقرب في مسامعي إلى صوت عم " عبد الباسط " ( شيخ جامع الفتح ) الذي كان على مشارف قريتنا وبالتحديد بالقرب من حارتنا . لقد بنى هذا المسجد خصيصاً بالقرب من قريتنا التي حرمت من المساجد لعهد قارب الخمسون عاماً كما يحكي أكابر رجالات البلدة ولكنه بني الآن ملاصقاً لهذا البناء الجديد الذي جاء زائراً ثقيلاً على صدور أهالينا " الكنيسة " …

وقد علقت على هذا المسجد مكبرات الصوت من جميع اتجاهاته لبعث الصخب والضوضاء على ذلك التأثير الموسيقي الذي ينبعث من نوافذ الكنيسة وإخماد ما قد ينبعث منها من أصوات ……

ولم يكن الجديد الذي دخل قريتنا هو هذا المبنى ( الكنيسة ) بل كذلك كنت قد طالعت لأول مرة ذلك الرجل المتشح بالسواد ذو اللحية الكثيفة والعمامة السوداء وخشن الثياب … !!

وكانت تتم كل ليلة عدة دروس دينية في المسجد يقوم بها " عم عبد الباسط " … لم أكن قادر على الاستماع إليه في كثير من الأحيان إذ أن الله قد حباه بمجموعة من الأحرف الساقطة من نطقه .. الأمر الذي دفع الجميع لمخاطبة العمدة وعضو مجلس الشعب … فتطور الأمر إلى إرسال وزارة الأوقاف عدد من الشيوخ للاضطلاع بخطبة الجمعة مناوبة مع " عم عبد الباسط " وكذلك للاستعانة بهم في بعض من هذه الدروس التي تلقى يومياً من بعد صلاة العصر وتستمر حتى آذان المغرب ثم بعد المغرب درسين حتى آذان العشاء .. وينتهي هنا اليوم …

ولا أنسى هنا أن أضيف أن هذا المتنفس الذي قد تفتق به ذهن القائمين على العملية الدينية قد كان بمثابة السهام الحربية الشريفة التي تنطلق في صدور من نبغي بهالة القداسة .

وفي ظل هذا الانتشار الديني كما ابتغاه أصحاب فكرة إنشائه انتقلت المشاكل الاجتماعية في منازل أهل الحارة من المسلمين إلى المسيحيين وبالتحديد في منزل كمال السباك . كان رجلاً على خلق طيب ولكنه كان مدمن للخمر وكانت زوجته تتغيب كثيراً عن المنزل غاضبة لأيام ثم تعود ولكن لم نكن ندري ماذا كان يدور بداخله … ربما كانت المشكلة هذه المرة أعمق بكثير من كل ما سبق بينهم في رحلة العمر .. الأمر الذي استدعى فيه قس القرية لحل مشكلة بمنزل أحد المسيحيين في سابقة هي الأولى من نوعها .

لم يكن من عادة المسلمين التدخل في مثل هذه الظروف الصعبة المتصاعدة في منازل المسيحيين ولكنهم كانوا يراقبون عن كثب وعن قرب وأحياناً يرسلون الأطفال لاستجلاب الأخبار المفصلة ولكن في مثل هذه الحالة فالأمور واضحة ومسموعة وبينة …

كانت زوجة كمال كثيرة الشكوى منه منذ سنوات وفي بعض المرات كانت تغادر المنزل بضعة أيام وتعود إليه بعد تدخل رجال الدين لكن الوضع لم يتغير فمازال زوجها كما هو لم يتغير ولذا قررت عدم الاستمرار معه … وفشلت محاولات القس الزائر وبعد مضي ما يقرب من ساعتين شاهدنا زوجة كمال تحمل حقيبتها في يدها وتغادر المنزل في هدوء وخلفها ولديها .

ـ يا خوانا واحدة مش عاوزة جوزها هو بالعافية ؟

يطلقها وخلاص وكل واحد يروح لحاله ويروح يراضي أبونا بقرشين !!

( كانت هذه العبارة منطلقة من فم صالح وهو شخص خفيف الظل سريع البديهة . كان مسلماً ولكنه محبوباً من المسيحيين كما من المسلمين رغم نقده اللاذع للمسيحيين ولكن نقده كان نابع من القلب…

تهكمه طاهر برئ غير مملوء حقد أو كراهية .. لذلك كان كلامه مقبول لدى الجميع مهما كان . قال صالح هذه العبارة عندما كان يجلس مع بعض رجال الحارة المسلمين لدينا بالمنزل والتقط صالح الحديث بعبارته هذه التي رد عليها والدي ) :

ـ طلاق إيه يا صالح هم دول عندهم طلاق زينا … كل ما واحد ولا واحدة تزعل من جوزها تقول طلقني .. ما هيبقى الطلاق زي اللبانة في بق كل واحد .. ما تشوف يا أخي ايه اللي حصل لعبد لرازق من ورا الطلاق اياكش هو بس شريعة ربنا

( شعر صالح بأن الحديث سيتجه إلى الشق الجاد فلم ينسى أن يتبادل الحوار مع والدي مبتدئاً بنكتة عن لشيخ والأسيس ثم تابع )

والله يا حاج هو إن جيت للحق الطلاق ده مصيبة يخرب الدنيا السليمة . واحد يطلق ويروح يتجوز وهي تتجوز وهوه يخلف وهي تخلف وهي عندها عيال منه وهو أصلاً عنده عيال منها ودول يلاقوا أم من غير أب ودول يلاقوا أب من غير أم ولو جدع طلعلي مين فيهم ابن مين ؟

( ضحك الجميع )

ومرت الليلة ككل لياليكِ يا حارة النصارى … كانت الأهداف المرجوة من دروس الجامع قد أتت ثمارها إذ قد جانب مسلمين الحارة جميع محلات البقالة التي يمتلكها المسيحيين ، ليس في الحارة وحدها ولكن امتدت العدوى للقرية بأكملها وليست البقالة فقط بل امتدت تقريباً لكل الحرف التي يعمل بها المسيحيين .

وابتدأت حمى مقاطعة المسيحيين تأخذ منحنى جديد في تطور مطرد إذ قد بدأ الصراع يأخذ لوناً ومذاقاً مختلفاً ولم يكن الاختلاف في الصراع فقط بل أخذ ينبئ عن تجذر الأحقاد في لقلوب فلم تعد مضايقاتهم هي الدافع بل الحقد مرة ودروس المسجد مرة والحضور الاقتصادي لهم في وسط الحارة مرات ومرات . وبدأت مشاورات جديدة في منزلنا للتخطيط والإجهاز على المسيحيين في عقر دارهم … في " لقمة عيشهم " .

ـ اسمع يا حاج إبراهيم بقى إنت عارف إن الأسطى نعيم الترزي واكلها والعة في البلد كلتها مش بس في الحارة وفلوسنا كلها رايحة لجيبه .. وإنت برضوا راسي إن دا ما يرضيش ربنا

ـ طبعاً … طبعاً يا حاج .. بس ايه اللي أنا ممكن أعمله ؟

ـ أنا عرفت إن ابن أختك ترزي شاطر

ـ أيوه يا أبو محمد بس ده في السعودية

ـ ما إحنا عارفين يا حاج إبراهيم . إنت تديلنا العنوان واحنا هنتصرف

ـ حاضر يا حاج حالاً أجيب لكم العنوان … بس انتوا ناويين تعملوا ايه إنشاء الله ؟

ـ هنبعت نجيبه يا سيدي وها نفتح له محل في الحارة جنب المعلم عبده الجزار وهنجيب له أحسن ماكينة خياطة من غير ما يدفع ولا مليم .

عندها إنصرف عم إبراهيم خارجاً ثم سرعان ما أرسل العنوان لوالدي الذي كلف أحد أبناء الحارة بكتابة رسالة عاجلة بنفس المضمون وبعد خمسة عشر يوماً جاء الرد بموافقة الأسطى عبد السلام على عرض الحارة وحدد موعداً أقصاه شهراً للحضور ومنذ ذلك الوقت بدأ الإعداد للافتتاح المرتقب يتم على قدم وساق وبلا توقف وقد تكاتف جميع مسلمي الحارة حينئذ للمساعدة في خروج هذا العمل للنور حتى المعلم عبده الجزار المعروف بالجشع والذي رفض قبل ذلك الكثير من العروض التي كانت تنهال عليه للتنازل عن ملحق محله بأعلى الأسعار طمعاً في أسعار أعلى تنازل عنه اليوم مقابل ما يقل عن ربع ما كان يعرض عليه للتنازل عنه في السابق … وقال " كويس إن الواحد يعمل حاجة لله "

وفي أقل من خمسة عشر يوماً تم تجهيز المحل وشراء أحدث ماكينة خياطة ووضعت على المحل لافتة عنوانها " خياطة التوحيد " .

وعاد " الأسطى المنتظر " حسب الموعد الذي حدده وجاء ليتسلم المحل في احتفالية صاخبة لم تخلو من الإثارة والاستفزاز .

وانهالت على المحل الطلبات الكثيفة لدرجة اعتقد فيها أن الأسطى المنتظر لو كان الطلب عليه هكذا في السابق لما فكر في الانتقال إلى السعودية مطلقاً . وكان مبغى جميع سكان الحارة عندما يريدون ثياب جديدة هو " خياطة التوحيد " … وللحقيقة كان هناك بعض زبائن للأسطى نعيم مترددين في تركه نظراً لمهارته الفائقة ودقة مواعيده وكانوا من أغنى الزبائن بل من أغنى أغنياء الناس في البلدة ويمثلون مصدراً مهماً لدخل الأسطى نعيم ولكنهم تعرضوا لضغوط شديدة كانت مفادها الامتناع عن الذهاب للأسطى نعيم والاتجاه المباشر للأسطى الموحد !!!

ولم يتسرب الركود إلى محل نعيم بل إن الركود قد داهم " دكانه " وذهب كالطبيعي يشكو حاله هذا لرجالات الحارة طالباً منهم التدخل وكانت هذه الشكوى مشفوعة بعروض تخفيض للأسعار في مصنعيته ولكن دون جدوى وحرمت الحارة لفترات طويلة من أحد أفراد اللوحة التي كانت ترسم يومياً في ساعة العصر عندما يعود جميع أصحاب المحلات المسلمين والمسيحيين إلى منازلهم من السوق حاملين معهم ما قد اختاروه لأولادهم من فاكهة وخلافه فلم يظهر بهذا الكادر الأسطى نعيم من بعد ذلك اليوم أبداً .

وعندما أحس أفراد الحارة بأن خطتهم نجحت وأتت ثمارها ، أحضروا الأسطى نعيم الذي بدأت علامات المرض ترتسم على وجهه فليس ما يعانيه الأسطى نعيم هو قلة الأموال فقط ولكن إحساسه أنه مهمل بل ومضطهد ، كان السبب الرئيسي في إبراز كل ملامح الهرم التي أخذت في طريقها إلى كل تجاعيد وجهه ورقبته . عرضوا عليه أن يبيع محله لهم لكنه رفض بشدة بل عرض عليهم تكوين ما يشبه الشركة بينه وبين الأسطى عبد السلام هو بخبرته وهم بإمكانياتهم وبهذا سيساهمون في حل المشكلة إن كانوا حقاً يبتغون حلها وجاء الرد عليه بالرفض وأصروا على طلبهم ببيع المحل وما كان منه إلا أنه رفض وأصر على التمسك بذكرياته التي كان يحيكها منذ الصبا مع كل قطعة ملابس كانت تخرج من بين يديه … وقرر الأسطى نعيم أن يظل كما هو بل أيقن أنه لابد من المحافظة على تلك الذكريات التي لم يبقى سواها . ولكن لم يطل إصرار الأسطى نعيم طويلاً .. فالفقر لا يعطي مساحات لأن تفكر أو تتشبث فالفقر والعوز هو سهم الانهيار الذي يخترق جدار عمرك فيصيب عمق قلب ذكرياتك وآنيتك ويمتد إلى نظرة عينيك في غدك . هكذا بدأ نعيم يعي … وبعد أن ضاقت به عينيه وضاقت به الدنيا جاء إلى والدي !

ـ يعني يرضيك كده يا حاج أولادي يموتوا من الجوع .. ده يرضي ربنا يا حاج ؟

ـ طب وأنا هأعملك ايه بس يا نعيم ؟ أروح أقول للناس خيطوا عند نعيم بالعافية ؟ ترزي وابن الحارة وإيده أحسن من إيدك وسعره حلو .

ـ ( قاطعه نعيم ) عموماً يا حاج إنت عارف كويس إنتم عملتم كده ليه فيَ وعلى العموم أنا جاي لك النهارده ابلغك إني مستعد أنفذ أي حاجة عايزني أعملها . يعني الدكان لو عايزين تشتروه هأبيعهلكم .

ـ لا يا سطى ! إحنا خلاص مش عاوزين الدكان ولا عاوزين منك حاجة

ـ بس أنا عاوز يا حاج

ـ عاوز إيه يا اسطي ؟

ـ يعني هتعمل يا حاج اللي أنا عاوزه ؟

ـ لو هاقدر

ـ أنا عايز أشتغل مع الأسطى عبد السلام حتى ولو صبي

ـ لا أنا عارف الأسطى عبد السلام مش هيرضى يشغل حد مسيحي عنده

ـ ليه ؟ وإيه اللي دخل الدين في الشغل بس يا حاج ؟

ـ لا لا لا يا أسطى ، الدين عندنا إحنا بيدخل في كل حاجة

ـ هو مش القرآن بيقول " لكم دينكم ولي ديني "

ـ لا .. مالكش دعوة بالقرآن وم الآخر يا نعيم لو عايز يبقالك أكل عيش في الحارة دي .. اسلم .

وكانت هذه الجملة بمثابة البوابة التي دخلت منها جميع فيروسات الاضطهاد الديني المعلن بجرأة بداية من أعيننا وحتى مداهمتها لمنازل المسيحية من الداخل .

امتلك أهل الحارة زمام الأمور وليس مع نعيم فقط ولكن بالقدر الذي مكن والدي بعد كل هذا التحرش بالمسيحيين لديه القدرة على المجاهرة بأسلمة المسيحيين أظن أنه أمر يدفعك إلى فهم ديناميكية الاضطهاد .

أكمل والدي حواره مع نعيم بعد سكوت نعيم الغير معلوم .

ـ إنت لما هتسلم هتكسب .. وهتضرب عصفورين بحجر .. زباينك هترجعلك وكمان هتدخل الجنة لأن ربنا بيقول في كتابه " إن الدين عند الله الإسلام " وكمان بيقول " في كتابه " فإن تابوا وآمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " ولما تسلم هتبقى إيه مش الأسطى نعيم بس ، لأ هتبقى أخونا ليك اللي لينا وعليك اللي علينا .. فكر .. فكر يا نعيم على مهلك وإنت حر .

وانصرف الأسطى نعيم من دون إبداء لأي رأي بل من دون أن يهمس حتى بكلمة .

ومضى وقت طويل دون عودة الأسطى نعيم بقرار .. والشئ اللافت فعلاً للنظر هو أن ما يحدث كان على مسمع ومرأى جميع مسيحيي الحارة الذين لم يتحرك لهم ساكن . الأمر الذي ينبئ عن أن جميع الأفعال التي كانوا يقومون بها مع المسلمين في السابق من وقوف بجانب ذوي الاحتياجات أو ظهورهم في الشدائد كان محاولة لصنع مبرر للتواجد الشرعي بالحارة . فلم ينهض أحد لمساعدة نعيم أو وضع حد لما كان يتعرض له من مهازل … حتى جاء اليوم الذي طار فيه هذا الخبر الذي أصم جميع الآذان المسيحية عندما جاء الأسطى نعيم طالباً إشهار إسلامه .

ويومها خيمت على جميع السكان المسيحية سحابات الصمت السوداء بل والانكسار الذي صاحب هذا الإعلان المباغت من الأسطى نعيم فهم لم يتوقعوا مطلقاً أن يفعلها وكأنه في موقف اختيار !!

وجاء الاثنين الأسود على سكان حارة النصارى - النصارى - في شهر ربيع الأول في هذا الحدث الجلل السنوي المولد النبوي .

وفي خضم الأعداد لهذا الحدث جاء الأسطى نعيم طالباً إشهار إسلامه الأمر الذي تم بأسرع من سرعة كالبروق التي توالت على نصارانا بل قبل إتمام المراسيم القانونية أسرعوا بأن أحضروا له جواداً أبيض إمتطاه الفاتح الأعظم وقد زين بالأعلام الخضراء وكتب عليها " عبارة التوحيد " لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وطاف الأسطى نعيم كل أرجاء القرية وكانت تصاحبه المزامير والطبول التي تدق بصخب ويطول الوقوف أمام جميع المنازل المسيحية بالقرية أجمعها .

ويرد المشيعون لا إله إلا الله محمد رسول الله في هتاف أقرب إلى هتاف جنودنا في حرب السادس من أكتوبر … الجميع يتشاركون ويتقاسمون الأدوار ، الأطفال يتسابقون في قذف النوافذ الزجاجية بالأحجار بوابل لا ينقطع إلى ما هو أكثر حدة واستفزاز من ذلك والمسيحيون لم يجرؤ أي منهم بالقرية كلها على الخروج وكأنهم أعلنوا الحداد بعد فوات الأوان .

وغاص الأسطى نعيم في نعيم الحياة الجديدة فعاش أحلى وأسعد أيام حياته إذ قد تدافع الناس على طلبات عدة وتكاثرت زبائنه وأعيد طلاء المحل له مرة أخرى وعلقت على جدرانه الآيات القرآنية وتم تغيير اسمه من " نعيم شنودة " إلى " محمد عبد الله " وكان كلما ذهب للمسجد للصلاة يقابل بحفاوة الأبطال واستقبال الفاتحين .

ولم يدم فرح الأسطى نعيم طويلاً ولم تكن فترة سعادته توازي المساحة التي اخترقها بداخله بترك دينه . فبعدما حصلت الحارة منه على ما تريد … بدأ رجال الحارة يعاملونه على أنه مواطن درجة خامسة فكان كلما ذهب يشكو لأحد شيوخ الحارة يطلبون منه الصبر ومحاولة تفهم الموقف .

وبدأ إتجاه محمد نحو الإسلام يفتر .. فلم يعد يراه أحد يذهب للمسجد كما كان ولم يعد يقابل بالحفاوة البالغة كما كان بالسابق .

وكلما مررت من أمام محل محمد عبد الله لا تجد لديه من الإسلام سوى بعض الآيات القرآنية المعلقة في أرجاء المحل وأيضاً هذه البقعة الدماغية السوداء التي تتوسط جبهته تعبيراً عن مداومته للصلاة ، ولكنها لم تشفع له لدى أهل الحارة الذين لم يكونوا على استعداد لمناصرة الدخيل الجديد على ابنهم الأصيل وهكذا إلى هنا أسدل الستار على قضية محمد عبد الله الذي نحل جسده وبدا عليه الشحوب كمن يحمل كل مشاكل العالم وأخذت فكرة الانتحار تداعب الأسطى " نعيم " - أقصد محمد عبد الله - كثيراً كما كان يصرح مراراً بأن حال الانتحار كان أهون عليه مما رآه ولمسته أحاسيسه من مهانة وازدراء .

وبينما أهل القرية عامة والحارة على وجه الخصوص منفكين لا يتحدثون في تجمعاتهم إلا عن قضية الأسطى نعيم حتى بدت تسري في القرية والحارة معاً شائعة مدوية لها أثر النار في الهشيم تقول هذه الشائعة أن شاباً من القرية كان صديقاً لآخر مسيحياً وكان يدرسان معاً في الجامعة ويسكنان معاً في المدينة الجامعية للطلبة وأن ذاك الشاب المسلم قد أصبح مسيحياً .

بقي لنا أن نعرف أن شائعة مثل هذه تحمل في ذاتها احتمالات اليقظة لكل عداوة واضطهاد دفين في كل من الفريقين الذين من كثرة ما اعتدت على رؤية مواقعهم الحربية أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تصديق فكرة أزلية هذا العداء .

وبمرور الأيام كانت تلك الشائعة تزداد وتنتشر بقوة … ولكن ما هي قصة هذا الشاب ؟!

هناك في منتصف الحارة تماماً يقع منزلاً من أعرق وأقدم وأجمل وأثرى بيوت الحارة ، هذا المنزل يمتلكه الحاج علي عبد الرحمن وهو من أكبر التجار المعروفين ليس بالقرية ولا بالحارة فقط ولكن في البلدة بأسرها وكان من المقربين للصف الأول من عتاة السياسة وأصحاب مقاليد الأمور في بلدتي .

كان للحاج علي عبد الرحمن ولدان وإبنة صغيرة ، الولد الأكبر وهو عماد والثاني وهو " عبد الرحمن " صاحب شائعة التنصير .



حارة النصارى - Son of King - 02-01-2005

بدأت معرفتي بالقصة وتفاصيلها يوم أن جاء الحاج علي عبد الرحمن لوالدي بمنزلنا وهو على مقربة البكاء وسرعان ما شرع فيه عندما بدأ يتكلم وهو يشتكي لوالدي .

ـ مالك يا حاج علي كف الله الشر خير ؟

ـ الكلام اللي مالي البلد عن ابني ده صحيح يا حاج

ـ عرفت إزاي يا حاج علي

ـ أمه وهي بتفضي شنطته علشان تغسل هدومه لما رجع من الجامعة لقيت كتاب غريب زي المصحف فوريتهوني فلقيته إنجيل يا أبو أحمد … والواد كمان ما بقاش يصلي خالص أعمل ايه يا حاج دي فضيحة كبيرة ومصيبة من عندك يا رب

ـ أصبر يا حاج كل مشكلة وليها حل المهم دلوقتي نعَرف المسيحيين إن الكلام ده محصلش ولا حاجة … عشان نعرف نرفع راسنا في الحارة .

ـ هاتعمل إيه يا حاج

ـ العمل عمل ربنا لكن اسمع يا أبو عبد الرحمن إنت دلوقتي تروح تقعد في دكان فيصل الحلاق وهو عنده أخبار البلد كلها واعرفلي بالضبط منه موضوع ابنك .

( نفذ أبو عبد الرحمن وصية والدي وعاد إليه قائلاً ! )

ـ أيوه يا حاج .. أيوه .. حتى المسيحية بيسألوا الحلاق إن كان الواد اتنصر ولا لأ ؟!

ـ بص يا حاج لما ييجي عبد الرحمن من الجامعة يوم الخميس الجاي قوله الحاج عاوزك وهاته وتعالى .

وفي يوم الخميس جاء عبد الرحمن ووالده إلى والدي بعد المغرب وسأل والدي عبد الرحمن قائلا له قوللى يا عبد الرحمن :

ـ إنت صحيح بقيت مسيحي يا عبد الرحمن ؟

ـ يا عم الحاج دي حاجة تخصني أنا لوحدي والدين هو العلاقة اللي بين الإنسان وربه ودي خصوصيات وأنا ما حبش حد يتدخل في خصوصياتي

( ثار والدي )

ـ خصوصيات إيه يا دكتور هي الفضيحة عندك خصوصيات .. هو لما نمش وروسنا في الأرض خصوصيات .. هو ده اللي إنت اتعلمته في المدرسة والجامعة .. هي الخصوصيات قالتلك خلي أبوك يمشي مكسور في الناس . قسماً بالله العظيم ثلاثة بالله العظيم إن الكلام ده لو كان من عيل من عيالي لقطعت رأسه دلوقتي حالاً .

( واستطرد والدي بعدما وجد الحاج علي غير مدفوع على إبنه )

ـ بص لأبوك اللي وشه بقى زي الطين ولا أمك اللي هتموت من ساعة ما عرفت وأهي لا بتاكل ولا بتشرب .. حرام عليك هي دي وصية ربنا بالأب والأم

واستمر حديث والدي في هذا الإتجاه الذي كان يقابله عبد الرحمن دائماً بالإتجاه المغاير بالحديث عن الله وعلاقته بالإنسان وخصوصية هذه العلاقة بعيداً عن كسر الأسرة في الأرض أو موت الآباء والأمهات . وأمام اصرار عبد الرحمن ولباقته عرض عليه والدي أحد أمرين :

ـ بص بقى يا عبد الرحمن أفندي إما إنك تعزل إنت وأهلك من الحارة وتبيعوا البيت بتاعكم ده كمان يا إما تحط الجزمة في بقك وتخلي يا سيدي علاقتك بربنا بتاعتك دي تنفعك وليك لواحدك وعن شرط تيجي كل جمعة للجامع عشان يشوفك كل أهالي الحارة ويفهموا إنها إشاعة ومش بجد وقدامك أسبوع واحد وترد علىَ وإلا قسماً بالله العظيم لأهد بيتكم بجرار أو أولع فيه النار إحنا مش مستعدين نبهدل كرامتنا ونحط روسنا في الطين عشان واحد زيك يا دكتور .

وانصرف عبد الرحمن ووالده من منزلنا وقد كان موقف عبد الرحمن صعب التنبؤ به فهو شخص يحمل وجه خالي من الانطباعات ولكن يغلب عليه العقل والحكمة أكثر من الانطباعات .

وما لبث أن مر يومان حتى جاء يوم الجمعة حاملاً معه عبد الرحمن ووالده وأعلن عبد الرحمن موافقته على الحل الثاني فطلب منه والدي الحضور إليه قبل الصلاة بساعة ليصطحبه معه إلى المسجد وكان والدي قد أعد " زفة " لعبد الرحمن لكي يجد عن طريقها أهل الحارة بأنه لم يزل مسلماً فألبسه والدي

" الطاقية البيضاء والشال الأبيض " وقد أمسكه مسبحة في يده وعند خروجهما من المنزل دوت زغاريد النساء وبدأن يوزعن الشربات والبعض منهن كن يهتفن هتافات موجهة للمسيحيين .

وهنا فقط وبعد طول انتظار تجرأ أحد المسيحيين من سكان الحارة وكأن كلمة السر " إمرأة " فخرج هذا المسيحي ووقف على باب منزله وصاح قائلاً :

ـ ما هو مش معقول يا خونا في الرايحة وفي الجاية تفضلوا تشتموا فينا وتخبطوا على بيوتنا إحنا مالنا . ماللي يسلم يسلم واللي يروح في ستين داهية يروح إحنا عملنا غيه يعني لكل ده ؟

أمال إزاي بيقولوا النبي وصى على سابع جار وأنا أول مش رابع ولا خامس جار حرام عليكم بقى … انتم يعني عوزينا نمشي من هنا ولا إيه ؟

رد عليه أحد رجالات الحارة لمسلمين

ـ أيوه يا سيدي النبي وصى على سابع جار لكن على الجار المسلم مش الكافر النجس اللي زيك استريحت ياللا بقى لم نفسك وخش بيتك أحسن لك

ـ يعني لو ما دخلتش ها تعمل إيه هتضربني ، اتفضل تعالى خدلك قلمين .. !!

وكادا يشتبكان لولا فصل بينهما بعض من أهالي الحارة وما أن بدأت تخمد روائح هذا الاشتباك إلا وقد إنطفئت معها نيران شائعة عبد الرحمن وبدأت تنزوي رويداً رويداً حتى لم يعد أحد يذكرها واستمر عبد الرحمن في الذهاب إلى المسجد كل صلاة جمعة حتى ترك الحارة هو وأسرته . ولا تعلم إلى أين ذهبوا وهكذا أسدل ستاراً آخر على رواية أخرى من روايات حارتنا حارة النصارى …… التي تنسدل فيها ستائر وقائع عديدة لا تكون ستائر نهاية ولكنها ستائر تعلن عن نهاية بعض الفصول الأولى من مسرحية طويلة .

وكالعادة التي تفوق أيادينا - عادة مرور عجلة الزمن بدون توقف - بدأ الزمن يلعب دوره في تشكيل ملامحي سواء الجسدية أو الفكرية أو النفسية فانتفت عن أفكاري البراءة التي خلعتها علي نفسها طيلة فترة كبيرة من حياتي وفقدت سذاجة الأسئلة البسيطة التي أبحرت فيها جزء كبير من حياتي .

فكما أشرت سابقاً أن البناء الجديد الذي لم يعد اليوم جديداً ( المسجد ) الذي بنى كرد فعل سريع لذلك البناية الوافدة إلينا ( الكنيسة ) ، قد بدأ يؤتي أول ثمار أو بذار للفتنة في داخلي بدأت تتولد بفعل تلك الدروس التي كانت تبث في أذني سواء إن كنت حاضراً الدرس نفسه بالمسجد أو أنا في منزلنا أو أنا قادم من طرف الحارة المهم أن هذه الدروس قد ملأت آذاني الخارجية والداخلية الأمر الذي دفعني عند أول حضور لي في هذا المسجد لدرس بين دروس المغرب كان يقوم بالتعليم فيها الشيخ عبد الجليل صاحب الكتاب فوجدتني أسأل

ـ يا سيدنا هو إحنا ليه بنعمل كده مع النصارى ؟ ( كانت " كده " هذه معلومة لدى سيدنا بل لدى الحارة بأسرها )

ـ لسه بدري عليك من الموضوع ده يا سيدي !!

ـ ( مندهشاً ومأخوذاً بالعجب ) لأ مش بدري أنا كبرت ولازم أعرف إن كان صح أشارككم وإن كان غلط يبقى حرام عليكم

ـ آه … طيب يا سيدي مدام عايز تعرف

ـ أيوه الله يكرمك يا سيدنا

ـ يا بني إحنا بنعمل كده من دماغنا ولا فيه حاجة بينا وبينهم لكن ده أمر الله ولازم نطيع ربنا

ـ ربنا أمر بكده يا سيدنا بجد ؟

ـ أيوه

ـ فين ؟

ـ قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في سورة المائدة آية 51 ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فهو منهم )

ـ لكن يا سيدنا في آية برضه بتقول ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك أن منهم قسيسين ورهباناً وهم

لا يستكبرون )

ـ أيوه يا بني دي برضه في سورة المائدة آية 82 والآية صحيحة وكلام ربنا زي السيف لكن بص الآية وشوف بتقول إيه ؟

ـ بتقول إيه يا سيدنا ؟

ـ ربنا بيقول إنهم أهل مودة وده صحيح لكن ده لما كانوا متواضعين ومش مستكبرين

ـ لكن يا سيدنا النصارى اللي في الحارة ناس طيبين ومش مستكبرين أبداً ، ده حتى ما بيطلعلهمش صوت ويمكن إنت كمان حاسس بكده برضه … صح ؟

ـ إنت عارف يعني إيه الاستكبار اللي في الآية يا بني ؟ الاستكبار اللي هنا مش زي اللي إنت فاهمه .. لأ ده الاستكبار هنا هو استكبار العبادة لأنهم استكبروا ورفضوا يؤمنوا بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وعشان كده أمرنا ربنا بأننا ما نصاحبش حد فيهم ولا نديهم وش عشان يعرفوا إنهم كفار ومشركين ولو في البلد دي إسلام حقيقي وبجد دول كانوا لازم يدفعوا الجزية غصب عنهم أو تتقطع رقابيهم عشان ربنا بيقول في كتابه العزيز في سورة التوبة آية 29 ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )

ـ لكن يا سيدنا مين اللي قال إنهم مش بيعبدوا ربنا ولا بيؤمنوا بيه ؟

ـ إله مين ده يا بني هما دول ليهم غله .. دول بيقولوا إن سيدنا عيسى عليه السلام هو ربنا شوفت الكفر دول مجانين ده لولا الملامة كنا حرقناهم بنار يا شيخ

ـ معقول بقوا بيقولوا إن سيدنا عيسى هو ربنا ؟

ـ يا خبر إسود ! دول يستاهلوا أكتر من اللي بيجرالهم الله يفتح عليك يا سيدنا .

وفي أثناء هذه المناقشة تحديداً بدأت تتأصل بداخلي كراهية شرعية تجاه النصارى بل وألتمس العذر لوالدي ولكل سكان الحارة لكل ما كانوا يصنعونه مع أي مسيحي فقد خرج الموضوع عن التماس الإنساني الذي يصعب على فيه رؤية اضطهاد المسيحية بل أصبح هناك مشروعية بل وقداسة لأي عمل عنيف موجه لهذه الطبقة من البشر التي تأله بني الله وتجعل منهم آلهة .

ثم أن استطردت الحديث مع سيدنا

ـ على الكلام اللي إنت بتقوله ده يا سيدنا نبقى إحنا على حق والنصارى على باطل مش كده برضه ؟

ـ أيوه طبعاً

ـ طب إزاي نخليهم يحسوا أو يعرفوا إنهم على باطل ؟

ـ هما عارفين كل حاجة وفاهمين كل حاجة لكن الاستكبار بيمنعهم م الاعتراف .. دول مية من تحت تبن .. كهنة ..

ـ يعني إحنا ممكن نرغمهم على الإحساس بأنهم مشركين وكفار وإن مش من حقهم إنهم يعيشوا لأن ربنا بيقول ( إن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) وهي مش كده .

ـ إنت عايز تقول إيه ؟

ـ دلوقتي مش ربنا حدد لنا عيدين هي العيد الصغير ( عيد الفطر ) والعيد الكبير ( عيد الأضحى )

ـ أيوه !!

ـ يبقى ليه نسمح للنصارى إنهم يبتدعوا أعياد جديدة من عندهم

ـ واحنا هنعملهم إيه ؟ هنمنعهم إزاي ؟

ـ ما أقصدش نمنع خالص .. ولا إحنا نقدر نرغمهم . إنهم ما يشتروش ولا يلبسوش هدوم جديدة لكن اللي أنا عايزه حاجة تانية

ـ أيوه ( وقد نفذ صبره ) إيه يعني ؟

ـ يوم الأحد الجاي بيقولوا عندهم عيد معرفش اسمه إيه لكن أنا سامع الناس بيقولوا إن فيه عيد

ـ إحنا ممكن نبوظ عليهم فرصتهم ونخليهم يحسوا إن مفيش عيد غير عيدنا … إحنا هنقول لصحاب الدكاكين اللي في الحارة إنهم يقفلوا محلاتهم اليومين بتوع العيد الأحد والأثنين فالعيال مايلاقوش حته يشتروا منها اللعب والبلونات والزمامير فيقعدوا في بيتهم إيه رأيك يا سيدنا ؟

ـ الله ينور عليك يا بني يحميك لشبابك ؟! هي دي الشباب اللي غيرانة على دينها .. ما هو صحيح ابن الوز عوام

ـ يعني موافق يا سيدنا

ـ أيوه طبعاً

وبالفعل قد تم الاتفاق عليه ففي يوم الأحد صباحاً فوجئ الأطفال النصارى بكل المحلات المغلقة وظلوا وقوفاً منتظرين ليشتروا ألعابهم ولكن لما طال انتظارهم عادوا من حيث أتوا كل إلى منزله حاملين أشياء غير التي كانوا يبتغون .. عادوا بدموعهم تلك التي كنت بدأت أبتغيها .. فيا لشدة سعادتي بهم وهم يبكون ويا لهذا الفرح الذي انتابتني وأنا أفسد عليهم فرحتهم بعيدهم المبتدع .. ولكن بعد أن انتهى اليوم وخيم على الحارة السكون الرهيب الذي يغلفها في كل أيامها .. وعندما استفردت بنفسي بداخل حجرتي .. تذكرت مشهد دموع هؤلاء الأطفال وأنبت نفسي كثيراً ولكن ما كان يعنيني على هذا التبكيت هو أنني أفعل ذلك لكي يعرفوا الإله الحقيقي وأن يتوبوا عن ابتداعاتهم . وفي صباح يوم من أيامي في حارة النصارى استقبلت صباحي كسيح الرجاء في كوني أستطيع قلب كل نظام الحارة وحدي ولم تمهلني الأحداث كثيراً إذ سرعان ما كان يذاع في الحارة عن وفاة أحد رجالاتها الأفاضل والمعروفين الحاج أحمد وكان لدينا بالقرية مكاناً يطلق عليه دار مناسبات يقام فيه مثل هذه المناسبات وفي المساء وقف أهل المتوفى يتلقون فيه العزاء كعادتنا وجاء ثلاثة من النصارى لتأدية واجب العزاء فاستقبلهم الرجل استقبالاً حسناً وأجلسهم في أماكنهم ولكن على غرار ما دائماً يحدث في حارتنا أن تسير الأحداث دائماً في اتجاه معاكس طلب والدي أثناء جلوس الثلاث نصارى من المقرئ أن يتلو علينا ربع من سورة المائدة وأخذ المقرئ يتلو إلى أن وصل إلى الآية 17 ( لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح إبن مريم ) وسرعان ما تتكرر مرة أخرى في الآية 72 وبمجرد أن سمع الرجال المسيحيون ذلك حتى تصببوا عرقاً وبدا عليهم الخجل .. ولكنهم تماسكوا وجلسوا حتى ينتهي المقرئ من التلاوة . وعندما تكررت مرة أخرى بفعل الإعادة في التجويد صرخ الشيخ عواد المهووس :

- الله .. الله .. الله يا عم الشيخ قول كمان الله يفتح عليك . قول كمان أصل التكرار يعلم .

هنا وقف النصارى الثلاث وقالوا :

ـ الله يكرمك يا شيخ ( ثم رد الثاني )

ـ كتر خيرك ( فرد الشيخ عواد )

ـ خيركم سابق يا خويا إنت وهو .. هو في إيه هو اللي على راسه بطحة بيحسس عليها ولا إيه ( رد ثالثهم )

ـ حسن ملافظك يا شيخ عواد .. دي جنازة .. واحترم المكان يا شيخ وهنا تدخل أهل المتوفى ووبخوا الشيخ وهنا تدخل أهل المتوفى ووبخوا الشيخ عواد وقبلوا رؤوسهم في سلوك هو الأول من نوعه في حارتنا ومن مسلميها .. والحقيقة ما من أحد تجرأ على الاعتراض عليه .

ولكن كان هذا السلوك خاص بموقف بعينه ولكن الحقيقة هو أن الموقف العام من النصارى بديهي ومعروف ومترجم بداخل جميع مسلميك يا حارة النصارى .

لا شك في أن الغموض الذي يكتنف نصارى حارتنا في العبادة إذ أنه محجوب عنا قد أرثنا بعض الأساطير حول ممارسة الدعارة بدون حرج بين حوائط الكنيسة أثناء الاحتفال بعيد رأس السنة في منتصف الليل وأصبحت هذه القصة .. قصة حقيقية في رؤوسنا جميعاً واستهوت هذه الفكرة بعضاً من شباب الحارة ممن هم لا ميول دينية لهم فقرروا أن يدخلوا الكنيسة في تلك الليلة تحديداً لينعموا بلمسات تروي ظمأ احتياجهم الذي تولده برودة طين منازلنا .. واتفقوا على أن يدخلوا الكنيسة على أن يتابع كل منهم فتاة ويدخل في إثرها وعند انطفاء الأنوار التي نظل في حالة انطفاء لأقل من عشرة ثوان معلنة عن انقضاء عام آخر في حياتنا على هذه الأرض وسرعان ما أمسك كل منهم بفتاته فصرخن وتجمع الناس حولهم واقتادوهم إلى نقطة الشرطة وهناك عرف أولياء الأمور النصارى أن الشباب الذين اقترفوا هذه الفعلة هم من المسلمين وما كان من مأمور النقطة إلا أن أطلق سراحهم في صباح اليوم التالي وأخذ عليهم التعهد بعدم تكرار الواقعة .. ومرت كواقعة عابرة ..

ومررنا جميعاً بمشاهد ووقائع وأحداث عديدة جداً في حلبة الصراع الأبدي بين قطبين كل منهما يريد البقاء إلى النهاية .. والنهاية كما أعرفها أنا وتعرفها أنت ، لمن ستكون !! ولكن لابد من أن تدور الدائرة دورتها ..

فلقد كان بقريتنا كسائر القرى المجاورة ظاهرة بدأت تنتشر وكانت من الظواهر التى أفادت قرانا بعد طول سنين وهى ظاهرة الاهتمام بالصحة العامة متمثلا فى إنشاء الوحدات الصحية الريفية …التى تقدم الرعاية الصحية المجانية لاهالى القرية .

وفى ذات يوم قامت الحكومة بتعيين طبيبا مسيحيا بهذه الوحدة الصحية وكان من خارج أهالى القرية … زادت شهرته بازدياد عدد أيام إقامته بالقرية وكان مثار حديث الناس فى القرية بأسرها عن مهارته وأخلاقه … ولما كان هذا الطبيب ذائع الصيت _ رغم أنوفنا جميعا ( الغائرين على الدين ) _ رجل مسيحى … فكرنا واتفقنا على ضرورة إرغام هذا الطبيب على الرحيل … كان منشأ الفكرة " شيوخ حارتنا " الأفاضل فتقدمنا بشكاوى لمركز الشرطة عن بعض المخالفات من الطبيب لقوانين مهنته " شكاوى كيدية " وليس لها أساس من الصحة وكان أنه فى كل مرة يتم فيها التحقيق بهذه الشكاوى لا يدان فيها … ثم أن تحفظ …!!

الى أن قررنا الاجتماع بالمسجد ذات ليلة للتفكير فى طريقة لإزاحته عن قريتنا … ثم أن هبطت علينا فكرة ذات أبعاد دراماتيكية وصفناها آنذاك بأنها الفكرة التى هبطت علينا من السماء … فأحضرنا فتاة ممن يتمتعن بسمعة سيئة لدى القرية ومعروفة للشرطة كذلك ولقاء مبلغ من المال اتفقنا معها على صياغة الفكرة وبداية تنفيذها .

فوجئ الطبيب فى ساعة متأخرة من الليل بالحاج " محمود أبو السيد " يصطحب فتاتنا الى مسكن الطبيب الخاص مدعية المرض … وما كان من الطبيب إلا أن دعاهم للدخول بسرعة وأثناء ذلك انسحب الحاج محمود خارجا بحجة الذهاب الى أهلها لطمأنتهم وأثناء قيام الدكتور بالكشف على " ناهد " أخذت تصرخ بأعلى صوتها وتدعى بأن الدكتور قد قام بمحاولة للاعتداء عليها … برعت فتاتنا جدا فى تصوير وتجسيم فكرة الاعتداء المصطنعة تلك … وكنا قد سبقناها لابلاغ الشرطة … لكى تلحق بهذا الجرم الاخلاقى الذى سيودى بهدوء القرية … والذى سيشعل نار الفتنة بين الطائفتين … الأمر الذى دفع برجال الشرطة لان يتحركوا سريعا على غير المعتاد والمألوف .

و بالطبع كنا نحن تحت المنزل مباشرة وما أن سمعنا صوتها حتى دخلنا بكسر باب المسكن وطلبنا من الدكتور أن لا يتحرك من مكانه حتى يأتى رجال الشرطة .

عندها دخل ضابط " المركز " الهمام الى شقة الدكتور فوجد " ناهد " فى حالة يرثى لها … تبكى وهى عارية تماما … وعندما سألها ضابطنا قالت :

ـ أنا يابيه … جيت هنا مع عم الحاج محمود أبو السيد باشكى من مغص فى معدتى ولما قاللى ادخلى اقلعى هدومك دخلت الاوضة وأنا مش عارفه إن دى أوضة النوم يابيه … ماكنتش أعرف يا بيه انه هيعمل كده ( وأخذت تولول وتصرخ )

ـ " الضابط وهو يرد عليها " خلاص بقى يابت يعنى هو انت أول مرة …

ـ " مقاطعة اياه " أيوه ياباشا بس مش بالغصب مش بالعافية … وبعدين ياباشا بص شوف عورنى ازاى وهو بيقلعنى غصب عنى … ( كانت هذه الجروح أثناء قيام الدكتور بمنعها من تمزيق ملابسها ومحاولة الإيقاع به )

وما كان من رجال الشرطة إلا انهم اقتادوه " للمركز " وعندها عند بداية التحقيق الرسمى طلبنا جميعا ـ من حضروا وقاموا بالتنفيذ ـ كشهود … وبالطبع أجمعنا أننا أوصينا الحاج محمود أبو السيد أن يصطحب الفتاة الى مسكن الدكتور حيث أن الفتاة ليس لها إلا أخ صغير وتعيش مع والدتها وما أن جاء إلينا الحاج محمود حتى وصلنا صراخها الذى دوى بالقرية كلها واندفعنا جميعا نحو منزل الدكتور " رياض " يغلف اندفاعنا صراخها المستغيث الذى لا يتوقف الى أن أعاننا الله على كسر باب الشقة … فوجدنا دكتور رياض جاثيا عليها فى محاولة الى تقبيلها عنوة … فجئنا إليكم على الفور … كانت هذه هى شهادتنا جميعا .

ولم يستطع الطبيب أ يتفوه بكلمة واحدة من فرط اندهاشه … عندها والحمد لله تم فصل الطبيب من مهمة الإشراف على الوحدة الصحية وتم نقله الى مكان آخر وعند خروجه من القرية كانت غالبية سكان القرية يبكون عليه إلا حارتنا " حارة النصارى " !!

بدأ والدى مع الأيام يطعن فى السن ويفتر حماسه وتقل حركته وفى نفس الوقت بدأت بعض العائلات المسيحية ترحل عن الحارة نتيجة الضغط الواقع عليهم إما ببيع منازلهم أو تركها مغلقة ولا شك أن هذا قد شجعنا على الاستمرار والتطوير فى طرق الإيذاء !!

وبدأت الأيام تمن على بظهور مشجع لى حالا محل والدى فى هذه النقطة وهو ابن عمى الأكبر سنا منى … تخرج فى الأزهر وقد عمل لفترة طويلة " إمام " مسجد و " خطيب " لإحدى مساجد الدول العربية ( الأردن ) … وأخذ يشجعنى على القراءة فى الفكر الاسلامى والتعمق فيه … بارك كل سلوكى ضد النصارى … بدأت بالفعل أشترى بعض الكتب لكبار الأئمة واستهوانى بالطبيعة البحث فى علاقة الدولة الإسلامية بالنصارى وبأهل الكتاب بصفة عامة … ووجدت ما فعله النبى " محمد " مع " يهود بنى قريظة " عندما حرق مزارعهم وسبى نسائهم وقتل رجالهم … وتعاهدت مع نفسى ألا أخالف سلوك النبى معهم …فالمشكلة واحدة ولكن الفارق الوحيد بيننا فى حارة النصارى وبين نبينا فى يهود بنى قريظة هو أنه كان يتعامل مع اليهود أما نحن فمع قطب آخر من أهل الكتاب هم النصارى … ولكنهم فى الكفر سواء فلا فرق بينهم إطلاقا .

بدأت علاقتى بابن العم تتطور انطلاقا من كوننا شباب غيور على دينه واسلامه وأخذنا نجمع من الشباب ما نقدر عليه ممن لديهم ذاك الحس الدينى المرتفع ونفس الغيرة حتى أصبحنا ما يشابه الجماعة … عاهدنا بعضنا البعض وعاهدنا الله على إكمال المسيرة التى بدأناها حتى طرد آخر مسيحى وتطهير حارة النصارى نهائيا من جميع مسيحييها .

وبالطبع فلن ينجح هذا التخطيط ولا هذه المعاهدات بدون أهل الحارة ومساعدتهم فأحيانا كنا نخطط وأهل الحارة يقومون بالتنفيذ وفى مرات أخرى نقوم نحن بالتخطيط والتنفيذ .

وكان من أحد مرات التنفيذ الذاتى أن كان من بين المسيحيين واحدا يمتلك أرضا زراعية تجاور أرض رجل من الحارة من المسلمين من أصحاب الدم الحار وكان معروفا بشره وسرعة غضبه وإثارته للمشاكل … فكان المسيحى يمتلك " مسقاة " يروى بها أرضه عن طريق " ……… " التى تقوم بدورها فى سحب المياه من الترعة المجاورة وقررنا أن يذهب ليلا أحد أفرادنا ونفتح المياه على أرض الرجل المسيحى من جهة أرض الرجل المسلم وعندما يبدأ المسيحى فى الرى تندفع المياه فى أرض المسلم فنسرع عندها ونخبره بذلك … وعندما تأكدنا من اندفاع المياه نحو أرض الرجل المسلم أسرعنا بإخباره … وعندما علم أسرع حتى من دون أن يكمل ملابسه .

وحمل فأسه وجرى كالبرق … فوجد أرضه غارقة … ولم يكن صاحبنا المسيحى يعلم شيئا عن ترتيبنا هذا فكان أن وجد الرجل المسلم ينهال عليه ضربا بالفأس فشق رأسه وتسبب له فى عاهة مستديمة … وفى المركز وعند بداية التحقيق … طلبنا عم عمر صاحب الأرض المغرقة للشهادة … فقلنا شهادتنا بأن سعد المسيحى قد فتح المياه على غيط عم عمر من القناية القريبة على أرضه فأغرقها … وتم تصعيد الموضوع الى النيابة التى أمرت بخروج عم عمر بكفالة ما لم يتوفى سعد المسيحى .

أو تظنون أن هذا كذب ؟ حاشا لله … إن هذا الكذب مباح بنص حديث رسول الله " ثلاثة أحل الله فيهم الكذب ( الحرب ، الرجل وامراءته ، الصلح ) وبما أننا فى حرب مع أهل الكتاب حتى يسلموا … فمباح هو الكذب … فلا تقرروا أرجوكم أنه كذب ولكن هناك أسباب قامت عليها أفعالنا …!!

وكان رد فعل النصارى لا يحتاج الى رصد كالمعتاد فرد فعلهم السلبى الممتد على طول دهر أحداث حارتنا كما هو مما جعلنى أؤكد دعوى أنهم ليسوا على حق مطلقا !! أو تتفقون معى … لو كانوا على حق لكانوا دافعوا عن أنفسهم ولو باللسان وهذا أضعف الإيمان …!! أقسم أنهم لو كانوا فعلوا لاحترمتهم … ولكنهم كانوا فى حالة ثبات ولا يديرون بالا لكل ضربة وأخرى … حتى عندما قررنا أن نكتب على جدران منازلهم " إن الدين عند الله الإسلام " وكذلك " لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم " … فلم نجد فى أى من المرتين أى أصداء فى الحارة سوى أصداء فرحتنا بإحراز تقدم جديد …!!

وفى يوم من الأيام قامت للنصارى قائمة جديدة فودوا فى شراء منزل صغير منهار ومتهدم منذ زمن بعيد هذا المنزل هو المنزل الملاصق للكنيسة مباشرة فرغبوا فى شراءه لتوسعة الكنيسة … وهبت الحارة عن بكرة أبيها واستطاعوا فى أقل من أربعة وعشرين ساعة أن يقوموا بجمع تبرعات … مبلغ لشراء ذلك المنزل … ثم تركوه بل وتعمدوا إلقاء القمامة به والأكثر من هذا هو تجميع بقايا ومخلفات محل جزارة عم عبده والقائها فيه الأمر الذى يجعل من المكان مكانا لا يطاق … مما أثارهم بشدة فلا هم استطاعوا شراء المنزل ولا هم قادرين على الاستمتاع المصطنع الذى يقومون به فى الكنيسة من فرط شدة الروائح المنبعثة باستمرار من ذلك المكان … !!

واستمر الوضع هكذا الى نهاية السنة الثمانين من القرن الماضى عندما فقدت الحارة رجالاتها وفقدت من نخوة رجالها الجدد من نحو دينهم وغيرتهم عليه … فلقد باعوا المكان وأقيم محله " مينا للملابس الجاهزة " لرجل مسيحى من خارج القرية !!

وعلى الرغم من ذلك إلا أن حصارنا لحارة النصارى قد نجح نجاحا ملحوظا لدرجة أنك تستطيع بسهولة أن تلاحظ السكون الذى يخيم على منازلهم فى الأعياد مثلا … إذ قد بدؤوا يرحلون الى المدينة البعيدة فى الأعياد بعدما تأكدوا تماما بأنه لن يكون لهم عيدا بالحارة مطلقا مدى الحياة أو على الاقل مادمنا بها وطالما أبقوا على نصرا نيتهم .

كانت قريتنا تحظى بمدرستين ابتدائيتين فقبط … وكانت إحدى هاتين المدرستين بالقرب من حارة النصارى والأخرى تبعد عنها مسيرة الكيلو متر لذا كان من الطبيعى أن يلحق الأطفال من الحارة " المسلمين " والمسيحيين بالمدرسة القريبة وكان بالمدرسة اثنان من المدرسين من خيرة أهل الحارة الذين يتمتعون بغيرة وحمية دينية … وفى أثناء حصة الدين كان المعتاد أن يتم عزل الأطفال المسيحيين فى فصول منفردة حيث كان يأتيهم مدرس من مدينة أخرى … مدرس للدين المسيحى .

وهنا قررنا بأن يقوم أحد أفراد عائلة الحارة بمتابعة هذا المدرس من الحضور الى المدرسة … إذ كيف يتم تدريس الكفر والشرك فى المدارس وان كانت الحكومة لا تلقى بالا فسنقوم نحن بالدور التى تنأى الحكومة عن القيام به تحت مبرراتها الخاصة وبالفعل تم تكليف أحد الشباب بمتابعة خط سير المدرس ورصد تحركاته من ساعة حضوره الى ساعة انصرافه وتبين أنه يأتى عن طريق القطار من مدينة بعيدة تاركا دراجة تقله الى المدرسة لدى عامل البلوك بالمحطة وكان يقل الدراجة يوميا مسيرة اثنين من الكيلو مترات حتى المدرسة وهنا كان من السهل الإيقاع به لتعطيله عن الحضور فى موعده .

ذهب أحد رجال الحارة الى عامل البلوك بمحطة السكة الحديد الذى لم يكن من أهالى القرية بل من قرية أخرى مجاورة مسلما عاديا تقليديا وتفاوض معه رجلنا على عدم السماح للمدرس المرصود بترك الدراجة لديه مرة أخرى ونحن سندفع له ما كان يدفعه ذلك المدرس وتم تحفيزه عن طريق إبراز أنه مدرس يدرس للأولاد الكفر والشرك فى مدارسنا الأمر الذى يلهب مشاعر أى فرد ويؤلب أى " بنى آدم " على آخر …!!

وبدأ عامل البلوك يمنع المدرس من ترك دراجته لديه … ولم يجد المدرس مكانا آخر وكان من الصعب عليه حملها بالقطار فى كل مرة … فبدأ يتعطل عن موعد حصته ولم ينتظم … ولما علم أهالى الحارة من النصارى أولياء أمور الطلبة المسيحيين بتأخر المدرس وعدم التزامه وانتظامه الأمر الذى ينعكس على سوء تعليم أبنائهم وبعد التقصى وجدوا أنه لا يجد مكان يترك به دراجته ففكروا وقرروا بأن يتولى أحد شباب الحارة من المسيحيين توصيل المدرس ذهابا وإيابا فى الأيام التى يكون بها حصص دين … وكان هذا الحل غير وارد ولا متوقع لنا جميعا …!!



حارة النصارى - Son of King - 02-01-2005

ولكن كل المشكلات لها حلول … فاجتمعنا بالمسجد وتشاور الشيوخ فيما بينهم ونحن بينهم ومعهم وتوصلنا الى الاتى :

يقوم شاب بقيادة موتوسيكل بشرط أن يكون من خارج القرية … ويقوم بالتصادم بالدراجة فى محاولة لتحطيمها وإصابة المدرس ومن يقله .

مقابل مبلغ مجز من المال … وفى أول محاولة … كسرت ساق المدرس وتحطمت الدراجة ولم يستطع أحد أن يتعرف على سائق الموتوسيكل … وانقطع المدرس عن المدرسة لمدة شهر كامل … فكان أن قامت إدارة المدرسة بإحضار مدرس آخر لكنه كان يأتى للمدرسة سيرا على الأقدام فكان هدفا سهلا للتعرض له والاعتداء عليه ومنعه نهائيا من الحضور … وبعدها قرر المدرسون رفض تدريس المادة بالمدرسة تلك !! وعندها تحرك المدرسان اللذان نشارك بهما فى المدرسة لاجبار الأطفال المسيحيين على حضور حصة الدين الاسلامى … لكن أهالى التلاميذ النصارى لما علموا بالواقعة اعترضوا بشدة وكادت تحدث مشاجرة بين الأهالي النصارى وبين أهل المدرس صاحب الفكرة … وفى أثناء ذلك قال الاسطى " جورج " :

- احنا معندناش مشكلة من ان الولاد تحضر حصة الدين الاسلامى خالص لكن مش بالعافية … ياجماعة دا احنا مسيحيين أة لكن عندنا المصحف فى بيتنا عشان احنا بنحب كل الناس … لكن مين فيكم انتم يامسلمين عنده إنجيل ولا توراة فى بيته ؟ ( عندها التقطت الحوار معه وبادرته بالإجابة ) :

- انت محتفظ بالمصحف فى بيتك لانك عارف ومتأكد انه كتاب ربنا وان فيه هدى ونور لكن لو كان انجيلك ده فعلا كتاب ربنا احنا كنا شيلناه فوق روسنا من فوق وحطيناه فى بيوتنا كمان .

عندها شعر الاسطى " جورج " بأن الأمر سيتطرق الى مشاجرة كلامية فانصرف .

كان اسم حارتنا مصدر قلق وانزعاج لجميع المسلمين ليس فقط الذين فى الحارة بل جميع القرية ولا يدرى أحد من ذا الذى أطلق عليها هذا الاسم وكانت هناك رغبة ملحة فى تغيير وإزالة هذا الاسم من ذاكرة الناس بالقرية وخارجها … وكنا نرى أن الحل هو إجبار سكان الحارة من المسيحيين على تركها وبرغم النجاح النسبى إلا أن الاسم ما زال قابعا عليها ملتصقا بها بجدرانها وأذهاننا جميعا حتى المعترضين من وكأنه القدر المحتوم .

وبعد فتة من الهدوء المؤقت … ترامى الى مسامع شيوخ الحارة أن النصارى مزمعين على بناء برج للكنيسة المأفونة والمدفونة وسط منازل المسيحيين وتعليق جرس به وعكف جميع شيوخ الحارة على دراسة الظاهرة الجديدة من الناحية الشرعية فوجدوا بعد البحث والتنقيب أنه طبقا لما تعاهد عليه الخليفة الثالث عمر بن الخطاب عند دخول بيت المقدس مع بطريرك النصارى فى البند الحادى عشر بأنه لايدق جرس ولاترمم كنيسة أو دير ولا تقام للنصارى أبراج للكنائس … فخرجت فتوى الحارة وقالت شيوخ " حارة النصارى " كلمتهم على لسان مشايخها بتحريم ارتفاع البرج وترميمه ومقاومة ذلك بكل الطرق وقامت الدنيا فى حملة قومية ثنائية الهدف … هدفها الأول هو إثارة الغيرة والحمية الدينية ضد النصارى ووقف تطوير الكنيسة والثانى هو جمع التبرعات لبناء مسجد عملاق ملاصق للكنيسة لإذاعة القرآن منه ليل نهار للتشويش على الأصوات المنبعثة من الكنيسة أثناء " قداساتهم " وعند بدء التنفيذ ذهب صفوة شيوخ الحارة الى عضو مجلس الشعب شافعين شكواهم بالتبرير الشرعى من تاريخ الدولة الإسلامية والتشريعات التى تحدد تعامل الدولة الإسلامية مع أهل الكتاب وأهل الذمة … ولكنه لم يفعل شئ … !! ثم قاموا بإرسال الشكاوى لوزارة الأوقاف وشئون الأزهر حول نفس الموضوع ولكن كلهم بدون جدوى .

وهنا كان القرار " اللجوء الى القدرات الذاتية " …… " التنفيذ الذاتى " وعقدت مساء يوم الخميس جلسة بالمسجد للتشاور حول ما يجب عمله واستمرت الجلسة حتى الفجر … وقد حضرها لفيف من الشباب الذين يتمتعون بحمية دينية مرتفعة ويحملون فى صدورهم قلوب غيورة وكنت أنا من بينهم … وتضاربت الأقوال والآراء والحلول وطالت المناقشات وفى نهاية الجلسة تقدمت بفكرة :

- أنا ومحمد وإبراهيم وياسين هنط على الكنيسة من فوق سطح بيت عم " أبو اسماعيل " الذى كان حاضرا أيضا معنا ثم الى الكنيسة لاحراقها ليكون بهذا أول انذار … نقول فيه ان احنا مش بنهذر ولا بنهدد … !!

واقترعوا على ذلك وفازت الفكرة بالاستحسان والغالبية العظمى ممن حضروا الجلسة وتم تحديد الموعد … وقمنا بمعاينة مبدأية للمكان الذى سنتسلل منه الى داخل الكنيسة ونفذنا " بروفة كاملة " وفى الموعد المحدد قمنا بتنفيذ العملية تحت هتافات مدوية … وبعد انتهائنا من العملية تعثرنا فى الرجوع مما أوقع بأحد الافراد فى يد النصارى وتم اصطحابه الى مركز الشرطة وهناك أخبر عنا جميعا … فطلبنا للمركز وتم حبسنا مدة ثلاثة أشهر … عوملنا خلالها أفضل معاملة من جميع رجال الشرطة ضباطا وجنودا الذين تعاملوا معنا كما لو كنا أبطالا فاتحين … وبعد مضى المدة … تم تحرير تعهد من أولياء أمورنا بعدم تكرار ذلك … وكانت المفاجأة عند خروجنا من المركز فاذ بحفلة استقبال لا تقل جمالا أو كثرة من احتفالية المولد النبوى … حملنا على الاعناق وطافوا بنا القرية كلها محفوفين بالهتافات التكبيرية ( الله أكبر ) والزغاريد وبعد أن انتهت زفتنا المثالية تم جمع مبلغ كبير من المال لشراء البيت الملاصق للكنيسة وهدمه واقامة مسجد بدلا منه وتم ذلك فى زمن قياسى جدا جدا … وارتفعت المئذنة عالية ووضع عليها أربع مكبرات للصوت إحداها موجه صوب الكنيسة …

كان للحفاوة التى استقبلنا بها عند خروجنا من المركز أكبر الأثر فى شحذ هممنا ودافع قوى لنا للتمادى فى محاربة أعداء الله … ليس فى حارة النصارى فحسب … بل كل أرجاء القرية … المحافظة … الجمهورية بأسرها …!!

كنا نجتهد فى البحث عن كل نص سواء بالقرآن أو السنة يحدد لنا ملامح علاقتنا بالنصارى أو ان شئت الدقة يقنن أو يشرع لنا علاقتنا بهم التى قد بدأت تحدد … وكانت حارة النصارى هى المفرخ الوحيد لقادة محاربة أعداء الله " الاضطهاد الدينى " .

وفى قريتنا كسائر قرى جمهوريتنا المنازل متراصة ومتلاصقة بجوارها بعضها البعض وكان منزلنا الوحيد فى الحارة فى ذاك الوقت الذى يعلو سطحه طبقة عازلة من الأسمنت تمنع تسرب المياه الى داخله وكان به " مزراب " لتسريب هذه المياه وكان يجاور منزل الحاج عبده الجزار منزل رجل مسيحى يدع " صفوت " كان هذا الرجل من المزارعين وفى الصيف بعد جمع محصول الذرة الشامية يقوم بنثره على السطح بعض الوقت حتى يجف ثم " بقرطه " وبعد ذلك " يحمصه " ويذهب به الى المطحنة لتحويله الى دقيق … فكنا أنا وابن المعلم عبده الجزار … نقوم " بحل " الأغنام واصعادها الى سطح المنزل لتأكل الذرة … وعندما يذهب لاحد أو يأتى لنا للشكوى يكون قولنا :

- دى غنم يا سى صفوت … هى دى بنى آدمين … هنعمل لها ايه !؟

ان ماكنش عاجبك … عزل من هنا لبيت مافيهوش غنم هو فى بيت ما فيهوش غنم ياجدعان ؟!

وكنا عندما يحين فصل الشتاء يتفتق ذهننا عن مكيدة جديدة له ولغيره فكنا نسرب المياه المتجمعة على سطحنا الى سطح المسيحى المجاور لنا … فتسقط فى داخل منزله … كنا سعداء جدا بلا شك مع كل صيحة وشكوى لاى كافر منهم وكان كل بيت فى القرية به ( فرن ) يخبز به العيش الفلاحى ومن لا يمتلك الفرن … كان يخبز بالاتفاق مع شخص آخر بالذهاب اليه والخبز عنده … وكان هذا عرفا شائعا فى القرية كلها يتساوى فى ذلك المسلم والمسيحى .

وذات مرة قررت الحارة منع المسيحيين من دخول منازل المسلمين حتى لخبز العيش ولكن التنفيذ تم بصورة مؤلمة … حيث أن القيام بالخبيز عمليات " ستات البيوت " وهن اللاتى يتعاملن سويا فى مثل هذه الامور … !!

جاءت صباح يوم من أيام حارتنا احدى جاراتنا المسيحيات لامى طالبة منها السماح لها بالقيام بخبز عجينها فوافقت أمى … فذهبت المسيحية الى منزلها تعد عجينها وتجهزه ثم أن جاءت مرة أخرى تستعلم إذ كان الوقت مناسبا الان للمجئ أم لا ؟

فقالت لها أمى :

- معلش يا أم سعد … " العرسة " بتاعة الفرن انكسرت … حتى أنا نفسى ما خبزتش …

( لفت نظر أم سعد أن أمى كانت تقوم بادخال أخر خبزتين كانا قد خرجا لتوهما من الفرن أثناء دخول أم سعد فقالت :

- طب أعمل ايه فى العجين ياحاجة …!!؟

- هو احنا كنا مغسلين وضامنين جنة يامو سعد … ولا كنا بنعلم الغيب يعنى …!؟

وذهبت أم سعد لتلقى بعجينها فى الشارع بعد أن فطنت أن المسألة مسألة اتفاق جماعى من كل أهل الحارة بعدم دخولهم بيوتنا .

وتستمر أحداث حارتي .. ذات الإيقاع السريع .. الذي دائماً ما يكون أسرع من تخيلاتي وتصوراتي .. فاجئني اليوم بوفاة والدي ومعظم شيوخ الحارة أخذوا يرحلون في تظاهرية احتفالية لصالح الموت ولغياب عن الأيام الحاضرة .. وتدخل حارة النصارى فترة من أهدأ الفترات التي مرت عليها لكنها فترة بمثابة الهدوء الذي يسبق لا العاصفة بل الإعصار .. بدأ ذلك الإعصار يوم طلبني والدي قبل حماته بأيام قليلة .. فقد كان يلاحظ حماسي واندفاعي نحو معاداة النصارى الأمر الذي جعله يجادلني على هذا النحو :

ـ دلوقتي يا بني أقدر أموت وأنا مستريح بعدما شفت بعيني ابني ماشي في طريق جهاده في سبيل إعلاء كلمة ربنا ورسوله ..

وحقاً كان قول والدي فقد نجح ليس وحده فقط بل كل الرعيل الأول من الشيوخ قد نجحوا جميعاً في إعداد رجال الصف الثاني الذي سار على نفس النهج بأشد جرأة وحماسة وبصورة أكثر تنظيماً .

وبدأنا نحن شباب حارة النصارى رجال اليوم وكبار رجالات الحارة بل تستطيع أن تطلق علينا رجال البلدة الآن .. نخطط من حين لآخر للتنكيل بهم في محاولة منا لردهم وروعهم عما يقترفونه في حق الله ويتركوا غيهم ويتجهوا إلى الله الواحد … ولشد ما كان هذا اليوم الذي أدعي أنه أسوأ يوم مر على الحارة إذ بدأت عيناي تنفتح على أن الفتيات المسيحيات قد تجرأن ويخرجن من منازلهن سافرات .. متبرجات .. يا لليوم الأسود الذي مر بي .. فما كان باستطاعتهم أن يفعلن هذا وقت كان الرعيل الأول من أسود الإسلام .. شيوخ الحارة على قيد الحياة .. كظمت غيظي لكن أقسمت أمام الله لأنتقمن منهن شر انتقام ولكن يجب علي أولاً أن أعد لذلك جيداً .. وفي حقيقة الأمر لم يكن سلوك الفتيات المسيحيات في الحارة وحده هو الذي كان يشغل تفكيري بل كان هناك أمر أدهى … إذ كان شباب الحارة من المسلمين قد بدأوا ولسابقة هي الأولى من نوعها يتواجهوا بلا أي رادع لمصاحبة شباب الحارة من المسيحيين وها أنا الآن قد اصبح على أن أحارب في جبهتين الأولى ضد النصارى أنفسهم والثانية محاولة إقناع الشباب المسلمين من عدم موالاة النصارى بإبراز ذلك أنه ضد إرادة الله ولكن كيف أقوم بذلك ؟ كيف ؟

بدأت أفكر مع مجموعة من الشباب وهم الذين قاموا معي بعملية تخريب الكنيسة في وضع خطة منظمة ومؤيدة ببراهين من القرآن وسنة الرسول نحو التعامل مع هؤلاء الكفرة لأنه في الحقيقة - كما كنا نسكن أرواحنا - ليس بيننا وبينهم شئ .. إلا حكم الله لأن الرسول أمرنا ألا نحب إلا الله ولا نكره إلا في الله والمسألة التي بيننا وبين النصارى .. هي أنهم كفروا بالله .. فكيف نحب من يكفر بالله .

وبالفعل بدأنا نخطط لذلك ولكن تنقصنا الأموال فقمنا فيما بيننا بالتخطيط لبعض عمليات السطو المسلح على بعض من محلات المسيحية في القرية للحصول على المال الكافي وبالطبع لم تكن هذه سرقة فنحن نقتدي به عملاً بقوله :

( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله .. فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ) . وقوله ( قولوا لا إله إلا الله تعصموا مني دماءكم وأموالكم ) وكان سراج سلوكنا نحو أهل الكتاب عامة والنصارى بخاصة هو ما حدث من النبي محمد مع اليهود في بني قريظة .. حين أخذ أموالهم وأحرق مزارعهم وقتل رجالهم وسبي نساءهم فتلك كانت معالم الطريق نحو سلوكنا في التصدي للكفرة من أهل الكتاب .. كذلك الطريق الإلهي للحصول على التمويل الخاص لأفكارنا .

وبالفعل توفر لدينا مبلغ لا بأس به .. قمنا على أثره بشراء مجموعات من الكتب لمن كنا نعتقد فيهم الإخلاص والأمانة أمثال " الإمام أبو محمد بن حزم الظاهري " فقد كانت كتاباته سيفاً بتاراً على النصارى والمشركين وقد فتح أمامنا الطريق أمامنا هذا في معرفة كلمات الرسول المنيرة بإباحته الكذب على العدو وإباحته التخفي بإظهار عكس ما نبطن وأخذت من هنا الحالة بيننا وبين المسيحيين تدخلاً مدخلاً جديداً وتتخذ لنفسها محيطاً وشكلاً مخالفاً فكنا في السابق تظهر لهم العداء علانية لكنا اليوم بدأنا نعتبر نفسنا في حرب مقدسة معهم مباح فيها ما أباحه الرسول .. فكنا نظهر للمسيحي المحبة والسلام ولكن قلوبنا مليئة بالعداوة والكراهية والانتقام .. واعتقد أن تلك المرحلة هي التي أنهت الهدوء النفسي لدى المسيحيين .. فقد كانت أقسى وأعنف من أي فترة سابقة فكنا نتعمد مصاحبتهم حتى يثقوا فينا جيداً .. ثم ننفذ ما أراده الله ؟ ما يسلب أموالهم أو سبي نساءهم وعلى الصعيد الآخر من الأحداث ازدادت شكاوي النصارى لدى أقسام البوليس بشكل ملحوظ التي تحكي عن قصص تعرض فتياتهن للاعتداء من شباب مسلمين .. والحقيقة أن بلاغاً كهذا كفيل بأن يحرق بلده ريفية كبلدتنا ونسف حارة بسيطة كحارتنا والحقيقة الأخرى أنه كان يصعب على أي مسيحي أن يدرك من هو الشخص الذي كنا ندفعه للقيام بهذه المهمة إذ كانوا جميعهم من خارج القرية والحارة وكان يرتدون الثياب اللائقة بشباب هذا العصر … فلا يخطر على بال أحد أنه من يلبس الجينز ويربي شعره هذا منا نحن من نلبس الجلباب الواحد .. خشن الملمس .. زاهدي الحياة ..

وكانت تمر كل تلك الوقائع ولم تتمكن الشرطة من الإيقاع بأي منهم أبداً … وبهذا فقد بدأت أحقق بالفعل إنجازات على صعيد جبهة المسيحيين بقيت الآن الجبهة الأخرى .. شباب المسلمين الذين يخالون ويصاحبون شباب الحارة الكفرة المسيحيين .

" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولاهم فلكم فهو منهم".

إن هذه الموالاة في هذا النص هي كل أشكال المحبة والود والعطف والصحيح هو إظهار عكس ذلك نحوهم مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم ( لا تسلموا على أهل الكتاب ولا تبدءوهم بسلام وإن قابلوكم في طريق فاضطروهم لأضيقه ) وفي رواية أخرى ( ضيقوا عليهم الطرقات ) وكذلك قال النبي في تفسير الآية 81 من سورة البقرة في قوله ( وقولوا للناس حسناً ) أن سبب نزول هذه الآية أن ابن عباس وجد أسد بن وداعة كلما خرج من منزله لا يلقى يهودياً ولا نصرانياً إلا سلم عليه .. فقال له بن عباس : ما بالك تسلم على اليهود والنصارى ؟ فقال أسد : إن الله يقول ( وقولوا للناس حسناً ) فقال له : ليس كما تقول .. كيف ذلك ورسول الله نهي عن السلام عليهم .. إنما معنى ( قولوا حسناً ) أي أخبروهم بالإسلام " ابن كثير .

وجاء في القرطبي كذلك وزاد بأن ابن عباس لما رأي أسد يفعل ذلك قال له : كان ذلك في الابتداء

( في أول الإسلام ) لكن الله نسخ ذلك بآية السيف … كانت هذه هي مقدمة الملزمة أو المذكرة التي كنت بدأت في إعدادها لتوزيعها على شباب حارتي من المسلمين وبالفعل فقد جاءت الملزمة بجزء .. هو بالفعل قليل إلى حد ما ولكنها نتيجة إيجابية على أي حال ..

وبالفعل السحري لمرور الزمن بدا تفكيرنا بتطور اكثر فأكثر وكانت تجربتنا في حارة النصارى قد صقلتنا جيداً وأكسبتنا خبرة ومهارة ومقدرة فائقة على المناورة في التعامل التحرشي مع المسيحية … وفي النصف الأخير من سبعينيات القرض المنقضي بدأت حملتنا ضد نصارى الحارة تؤتي ثمارها .. فها هي عائلات غفيرة بدأت ترحل عن الحارة بل عن القرية بأسرها تاركين خلفهم الكثير .. ولكنهم كانوا يجرون أذيال الألم والحسرة والشروخ الغائرة في الكرامة المفقودة وسط غابة من الذئاب الضارية … هكذا كانوا يرددون .. ولكن مرارة هذه الجملة في أذني كانت تذوب عندما كنت أشاهد السيارات تحمل منقولات الأسر الراحلة . كانت في كل مرة تغمرني سعادة عارمة ونشوة خاصة بالنصر حتى سالت دموعي من عيني فرحاً وأنا أهتف بصوت عال لم اقدر على كتمانه - بالرغم من انتقاد الناس لي - ( الله أكبر ، قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ) . وممن وقتها لم تعد فرحتي هذه تخفي نشوة الانتصار في حارة النصارى بل امتد الحلم لتغيير كل حارات وشوارع ومدن مصر كلها … في الشارع .. في المدرسة .. في الجامعة .. في العمل .. لإخضاعهم في كل مكان ولكن يتطلب الأمر الآن بعد التحاقي بالجامعة أن أتحور بأسلوب متطور وفكر متحضر .. فمثلاً لم يكن من السهل على الفرد منا أن يحتفظ بمظهره الإسلامي الخارجي مثل اللحية .. الجلابية .. عند التقرب من الأشخاص المسيحية لإقامة علاقات معهم .. فكنا نغير أشكالنا حسب مقتضيات عملياتنا وأهدافنا .. بدأنا نضع خططاً أوسع وأكثر تنظيماً لأماكن تجمع المسيحية سواء في القاهرة أو الصعيد وكان سلاحنا دائماً هو إذكاء روح الحمية الدينية لدى المسلمين ضد المسيحيين وأذكر الآن واحدة من هذه الحوادث في منطقة " شبرا " عندما خططنا لاقتحام محل أحد التجار المسلمين والاسميين وترك سلسلة ذهبية بها صليب في أرضية المحل حتى يعتقد البوليس أو صاحب المحل أن الجاني مسيحي إذ هنا سيحتدم الصراع ويشتعل لأن ذلك نصراً لله حين يتقاتل الفريقان فالمسلم الاسمي كافر والمسيحي يشاركه الصفة ذاتها وتقاتلهم هو نصر لله كما حدث بين الفرس والروم ( غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) وتعددت مثل هذه الحوادث في محافظات الصعيد .. وفي هذه الأثناء قد بدأت تبذر على ساحة الأحداث عدة جماعات إسلامية .. كل منها يدعى أنه على حق والآخرون على باطل تصديقاً للحديث الصحيح الذي يقول ( افترقت اليهود على إحدى وسبعون فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعون فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعون فرقة كلهم في النار إلا واحدة .. قيل : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : التي هي على ما أنا عليه ) .

لذلك كان كل منهم يعتمد في فكرة على الكتاب والسنة .. ولكن الاختلاف كان في مرجعية كل فرقة .. فمنهم من يأخذ من ابن تيميه مرجعاً له .. ومنهم من يتخذ من ابن قيم الجوزية مرجعاً آخر .. وأخرى لابن حزم تنتمي وبالفعل أتيحت لنا الفرصة للاطلاع على فكر كل جماعة من الجماعات .. حتى أن حارة النصارى بشبابها المسلم كانت مزرعة على هذه الجماعات فيما عدا جماعة واحدة كانت تدعى ( التكفير والهجرة ) .. فلم يجرأ أحد على الانخراط فيها لتشددها والتزامها الصارم كما تعلمنا ‍‍

وخلال دراستي بالجامعة التي لم تكتمل لم أقدر على أن أحيد عن كراهيتي للنصارى .. رغم الفارق الثقافي والحضري الذي كنت قد بلغته لأن كراهية النصارى كانت تلازمني .. تطاردني في كل ما أقرأ ..

( كان رسول الله إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ثم يقول " اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال : الإسلام ، الجزية ، القتال . وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة بنيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة بنيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، وإن أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك … ) مسلم حـ 2 462 .

وقد قال عمر بن الخطاب ( لا أكرهم ، إذا أهانهم الله ، ولا أعزهم إذا أذلهم الله ، ولا أدينهم إذ أقصاهم الله ) أحكام أهل الذمة حـ1 صـ211

والنص القرآني يصدمني " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " ( التوبة 29 )

وظلت بغضة المسيحيين في قلبي تتسع وتفسح لنفسها مكاناً في قلبي أكبر من أي مكانة أخرى حتى شعرت بنفسي في وقت من الأوقات أن هذا العداء هو الآن عملي الذي أكلف به في الدنيا وذات يوم ذهبت إلى مسجد الكلية لأصلي صلاة الظهر .. وها أن انتهيت من الصلاة حتى برز لي بجواري شاباً يدرس معي في الجامعة .. ذا ملامح إسلامية أصولية .. فهيئته الخارجية يحتفظ فيها بلحية كثيفة .. الأمر الذي كان مدعاة للمضايقات الأمنية المتعددة والكثيرة بالحرم الجامعي في ذات الفترة .. تعارفنا في المسجد وأخبرني أنه من أعضاء جماعة التكفير والهجرة وطلب مني أن نتقابل خارج أسوار الجامعة وحدث هذا بالفعل عدة مرات وتناقشنا في فكر جماعته . أخبرني أن هناك شخص ما بحارتي - حارة النصارى - من أعضاء الجماعة وأنه هو الذي ألح عليهم بالتقاطي ومحاولة ضمي .. وأنه كان يتابع تصرفاتي وأنه قد شعر بإخلاصي نحو الله لذا كان القرار وهو إقناعي بفكر الجماعة " جماعة التكفير والهجرة " أو جماعة " شكري أحمد مصطفى " للاستفادة من حماسي وإخلاصي لله كما قالوا لي … وبعد طول محادثات اقتنعت تماماً بفكر الجماعة بل وملأني إحساس أكيد بأن كل مسلم لا يدين لهذه الجماعة هو كافر حقاً ..

لا أنكر أنه بانضمامي للجماعة بعد أن تقابلت مع الأمير " شكري " وأعطيته " بيعتي " قد طرأ تحول جذري في تفكيري نحو كل القضايا الدينية فلم أعد هذا الشخص الذي يتخذ قراره بنفسه .. لم يعد لي حرية التصرف بعيداً عن إطار رؤية الجماعة والأمير فبدأت أنضبط بالتقنين السلوكي والفكري وهكذا ارتسمت في داخلي ملامحي الجديدة التي أبرزها لي انضمامي لهذه الجماعة التي يتطابق فيها فكر الجماعة إلى حد كبير مع اسمها .. إذ كانت نظرتها للدين الإسلامي قائمة على تكفير مرتكب المعصية .. المصر عليها مهما كان نوعها - المعصية - حتى لو كان تقليم الأظافر ‍‍‍!!!

وبدأت الدنيا تضيق جداً جداً في عيني .. فالدنيا الآن ليست هي الأشخاص الذين نقابلهم في الشارع أو في الجامعة .. لا .. ليسوا من نحيا بينهم .. ليسوا جيراننا وزملائنا بل هم هؤلاء الأشخاص حتى الذين يمثلون الدين القديم .. من يرفعون صحيح الدين فوق كل المصالح والعلاقات .. ومن هذا المنطق أصبحت حارة النصارى ليست هي قراري الأول ولكن أصبحت عائلتي هي الهم الأول .. هذا المنزل الذي أصبح بالنسبة لي حارة أخرى اقصر وأضيق لكنها أصعب .. عنق الزجاجة البداية الجهاد .. فأصبحت مطالب الآن بيني وبين نفسي - انطلاقاً من إخلاص لله وللجماعة وللأمير - بأن أتخذ قراراً ستبنى عليه كثيراً من الأمور .. لا مفر من الحكم على عائلتي بأسرها " بالكفر " !! جميعهم أمي واخوتي وأخواتي .. عمي .. خالي .. جدي .. أبناء عمومتي .. أبناء أخوالي !!!

إن لم يقبلوا الإسلام بصحيحه .. الإسلام الذي نفهمه .. الإسلام الذي ندين به ويعطون البيعة لأميرنا فهم لا مفر " كفار " ( لا إسلام بلا جماعة ولا جماعة بلا أمير ) هكذا أخبرنا رسولنا كما أخبرنا أيضاً بأنه ( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " أي على الكفر " )

ولماذا أفكر على عكس هذا وصحيح الأحاديث تفاجئني بالبخاري ومسلم كل لحظة بماذا أؤمن او أقتنع أمام قول رسول الله ( من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ) … لابد لى من أن أتخذ هذا القرار … لابد لى من تحديد علاقتى بأهلى … أقاربى … لابد من الانصياع لقوله تعالى ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو أزواجهم أو عشيرتهم ) المجادلة 22

ماذا أستطيع أن أفعل أمام هذا التصريح القرآنى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحيوا الكفر على الإيمان … ) التوبة 23 بالتأكيد إنني أمام هذه النصوص والتصريحات الإلهية التى تضعنى كل لحظة لم يكن لدى أي مساحة أو مجال للاختيار … ( وما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) الأحزاب 36 . كنت كل يوم أطلب من الله أن يسامحنى فى تأجيل هذا القرار الذي أود اتخاذه مع عائلتى إذ لم يكن من السهل على … لا أخفى أنني على الرغم من حبي لله ودينه وغيرتى كذلك على دينى بكيت كثيرا قبل أن أحاول إقناعهم حتى لا يقعوا فى دينونة الله التى تلزمنى بمعاداتهم شأنهم شأن أى كافر بل إن حالهم سيكون أسوأ من حال النصارى … ولقد تمزقت إربا حينما فشلت محاولاتي لاقناعهم وعندها جففت دموعي واستجمعت قواي وأنا أردد : إني أحب الله ورسوله أكثر من أهلي وعائلتى …… هنا صدقونى تحولت يداى التى جففت دموعى الى محراث فتت المتبقى من أحاسيس بقلبى وتحول عندها قلبى بالفعل الى مجرد حجر أصم ولكن ما كان يهون على هذه الصورة أن الرسول

يقول : "ستكون فتن كقطع الليل المظلم يبات الحليم فيها حيران ويمسى الرجل مؤمنا ويصبح كافرا ويصبح مؤمنا ويمسى كافرا " فاليوم أنا أحب فلان وغدا سأكرهه ولقد كنت بالأمس القريب أحب أبى وأمى وأسرتى بأسرها واليوم تبدلت مشاعرى نحوهم لا لشئ إلا إنني أحب الله ورسوله وتبدلت صورة الحب الصادق المثالى الذى يدعيه مدعون ليس لهم صلة بالله مطلقا فالحب الصادق الحقيقى هو إنني أفرط فى الحب لمن يبايعني بيعتي وإذا نقض البيعة لا حل وسط فعلاجه واتجاه قلبى من نحوه هو القتل … لا محالة ولا مفر … كل أنواع الولاء تختصر الآن فى لحظة أو ربما لحظتين فارقتهما الحياة … فارقتهما الحياة التى لا دين لها … ولائى اليوم لمن تبع دينى … من يؤمنون بفكرى … لم يعد لى وطن انتمى إليه … فديارى أصبحت ديار كفر على أن أهاجر منها ولكن قبل ذلك كان على أن أفارق أسرتي حتى لا أقع فى الكفر والشرك … فالرسول يقول : ( من أكل مع مشرك أو سكن معه فهو مثله ) والأعم من هذا أنه يقول : " أنا برئ من كل من أقام بين ظهرانى المشركين " من هنا قررت ترك منزلى الذى أطلقت عليه " زقاق الكافرين " وحارتى حارة النصارى واتخذت لى مسكنا خاصا وسط أسوأ الأحياء وأشدها انحطاطا اجتماعيا …!!

لم تعد عينى ترى كما كانت ترى فى السابق بيوتا معدودة فى حارة النصارى يجب على مقاومتها بل أصبحت عيناي ترى الآن آلاف بل ملايين من المنازل والحارات التى على أن أهجرها أو أقاتلها حتى يكون الدين كله لله ورغم ذلك فقد كانت كراهيتى للنصارى على ما هى عليه لأنها لم تكن مرتبطة بالحارة … بقدر ارتباطها بعقيدتى التى هى طاعة الله فكنت لا أطيق أن أرى أنسانا مسيحى ولا أعترض طريقه مثلا … بالإيذاء العلني تارة وبطريقة غير مباشرة تارة أخرى … ولا يمكن لشخص مجتهد محب لله وللإسلام مثلى أن لا يلقى الاهتمام والتقدير من شخص يقود آلاف الأفراد فى قالب دينى أخلاقى إلهي " الأمير " فبدأ

" شكرى مصطفى " يطلب مقابلتى على فترات متقطعة ومتباعدة وفى آخر لقاء جمع بيننا قال لى :

_ أعرف أن لديك غيرة شديدة على طاعة الله والتى تمثلت فى عدائك الشديد للنصارى .

_ نعم يا أمير … وهل فى هذا خطأ ؟

_ لا بالطبع … ولكننى أريد تغيير سلاحنا معهم من الآن فصاعدا … فسأعطيك مجموعة من الكتب التى تتناول أفكارهم بالنقد وعليك أن تدرسها جيدا وعندما تنتهى من دراستها سأخبرك بالخطوة التالية .

" كان حوارنا كما استمعتم إليه باللغة العربية الفصحى " فما عدت منذ التحاقى بالجماعة أتحدث العامية مطلقا … والسبب بالطبع معروفا !!

كانت الكتب التى أعطانى إياها " شكرى مصطفى " هى الآتي 1- كتاب الملل والنحل " لابن حزم " 2- الرد على النصرانية ط لابن تيميه " 3- إظهار الحق للإمام "رحمة الله الهندى " ومكثت على كتبى تلك بالدراسة طيلة ستة أشهر كاملة أدرس وأنقب وأفحص ما فيها من نصوص إنجيلية وتوراتية تحفل بالتناقض والاختلاف … وبمجرد ابلاغى ط شكرى " بانتهائي من الدراسة بالكتب تلك حدد لى موعدا وذهبت الى ملاقاته وأخذ يقص على شيئا غريبا انه سيتخذ دور الرجل المسيحي وأنا أتخذ دور الرجل المسلم الذى يحاوره وعليه أخذ المشهد فى المسير من هذه النقطة البادية واستمر الحوار لاكثر من أربع ساعات على هذا النحو وفى نهاية الحوار قد ظهرت نتيجة الاختبار العملى الأول بينى وبين صاحب مقاليد الأمور فى جماعتى … لقد نجحت … وبتفوق شهد به لى أميرى … وأمام هذا التفوق العجيب الذى بهره … ما كان منه إلا أن يخبرنى بضرورة التفرغ التام للدعوة … وبدأت المرحلة الحقيقية لى فى وسط هذه الجماعة .

طلب منى كذلك ترك الدراسة بالجامعة … وبالتأكيد لم يكن لدى تلك الذى يسمى بالاختيار فأنا أمام إرادة الله وأمره ولا يوجد سوى السمع والطاعة وتركت الدراسة الجامعية لانتقل الى دراسة من نوع جديد دراسة كانت بمثابة المدافع الآلية التى يحملها أفرادا أخرى من جماعتى لمقاتلة أعداء الدين والنصارى المشركين … فزعزعت الإيمان من عن طريق البحث والدراسة هو أقوى أسلحة الدمار لأى عقيدة بل وأصحها … وبدأت دراستى ليست على هذا النحو ولكنها بدأت بدراسة علوم الحديث ، علوم الكلام ، كيفية الدفاع عن فكر الجماعة ، إثبات صحته ، واستغرقت الدراسة عاما كاملا لم أدرس فيها أية كلمة عن الإنجيل أو التوراة ـ إذ كنت قد قطعت أكبر هذا الشوط بأكبر مجموعة كتب إسلامية ترمى العقيدة المسيحية فى صلبها بالسابق ـ وبعد إتمام الدراسة مباشرة طلب منى استخراج جواز سفر وبعد استخراج جواز السفر بدأت المرحلة الأخرى من دراسة الأديان المسيحية واليهودية مستكملة في سلسلة الكتب التى بدأ يساعدنى في التقاطها وتعريفى بها أفراد الجماعة . ثم بعدها أرسلوا لا حد الأشخاص لاستخراج جواز سفر لي باسم مستعار ويحمل في الوقت نفسه صورتى وطلب منى التوجه الى " الأردن دافعين أمامي بهدفين الأول : دعوة المسلمين الاسميين لفكر الجماعة . والثانى : دعوة المسيحيين الى الإسلام من خلال عرض بعض النصوص التى حفظتها عن ظهر قلب وتوضيح بعض التناقضات فيها إضافة الى إثبات حقيقة رسالة نبى الإسلام … في الحقيقة لم تكن هذه المهمة … ذات أى طابع خاص … فالمسيحيون هناك مثلا يجهلون تماما أشياء عديدة من دينهم ولا يعرفون سوى القليل الذي يمكنهم بجدارة من احتلال موقع قريب جدا من المسلمين فكانوا مثلا يطلقون على المسيح " سيدنا عيسى عليه السلام " ورغم عدم نجاحى في إقناع معظمهم إلى الإسلام إلا إنني حسبت ذلك نصرا إذ كانوا يرفضون التحول للإسلام لاسباب إما عاطفية أو أسرية ولكن خلال زيارتين للأردن نجحت في إقناع ثلاث من الشباب من مدينة نابلس والخليل للإسلام وكانوا ممن هاجروا من فلسطين واستقروا بالأردن .

ومن بعدها أخذت رحلاتى الخارجية في التعدد والتنوع متمثلة في زياراتى لبعض البلدان ذات الكثافة السكانية المسيحية المرتفعة ـ عربية كانت أم أجنبية ـ ولاشك في أن هذه الرحلات قد أصقلتنى … وأعطتني خبرة جديدة وقوية في التعامل مع مع المسيحيين بل وتغيرت معها كذلك أيدلوجيات التطاحن وأساليب الاحتكاك الاضطهادى … وبالفعل كان هناك نتيجة أخرى لهذا التطور والتغيير … ألا وهو تغيير أسلوب تعاملى مع أهلى وأسرتى … فلقد كانت تعتمل في فكرى خطة جديدة ولكن قبل الشروع فيها ينبغى لي أن أقابل الامير ومناقشته في فكرتى التى أبغيها وأخطط لها … وبالحقيقة أنه ترك لي الباب مفتوحا أمام ما أعلنته له من الافكار التى تدور برأسى … بمعنى أنه لم يعارض خطتى تلك التى كانت تهدف الى اعادة الصلة بأواصر الود المفقود وترميم آثار الهجر في علاقتى بأخواتى الفتيات ـ وكذا علاقتى بباقى أفراد الاسرة ـ … وبدأت من هنا بالفعل مرحلة جديدة في علاقتى بهن بعد طول هجر وغياب ووحشة انقطاع .

فقمت باقناعهن وتشجيعهن على اقامة علاقات مع الفتيات المسيحيات …!! وبعد توطيد العلاقة معهن يكون دورى في الظهور على ساحتهن وتنفيذ الخطة باحداث بلبلة بداخل أفكارهن … وبالفعل ما بين عدة محاولات نجحت واحدة منها واستطعت بفعل ما درسته أنا ودينها الذي تجهله باختراقها وتحويل مسارها الدينى من المسيحية الى الاسلام .

كانت فتاة تدرس بالمرحلة الثانوية فقمت بتدبير خطة لهروبها من منزلها الى لا يعلم عنها شيئا حتى لحظتنا تلك … وهناك وفى وسط الجماعة وأمام أميرها أعلنت الافتاة اسلامها … ثم تزوجت من أحد الاخوة …!! كنت سعيدا جدا بحياتى وسط الجماعة وخصوصا بعد هذا النجاح المروع والمتمثل في حالة تلك الفتاة وعلى الرغم من كل ما كان يشاع عن جماعتى من تشدد وتزمت والتزام صارم … لكننى بحق لم أندم في حياتى كلها وأعلن أننى أيضا لن أندم على أية لحظة عشت فيها في كنف هذه الجماعة

كنت داخل الجماعة ألمس معانى المحبة الصادقة لله والرغبة الشديدة لتقديم كل نفيس وغالى قربانا ……

واسمحوا لي ألان أن ولأول مرة من أن أعلن أو أستعرض قليلا من حياة الجماعة بالغوص داخلها ونقل حوائطها باخلاص وصدق وابراز ما كان يدور بداخلها وبين أعضاءها وكان مخفيا عليكم .

كان "شكري مصطفى" تلميذا نجيبا للشيخ الراحل "سيد قطب" ـ الأب الروحي لجماعة "الإخوان المسلمون" ـ وكانت أفكار سيد قطب تلقى قبولا واسع النطاق داخل جماعتنا اذ كان هو الوحيد الذي لم تطله أنصال التكفير في جماعتنا .

وبعد وفاة الشيخ "سيد قطب" … تدهورت أحوال "جماعة الاخوان المسلمون" من بعده وبدأوا في مرحلة جديدة عليهم متمثلة في نوع من أنواع المهادنة مع الدولة وانفصل على أثر ذلك الفعل المشين البعض من المخلصون لله عن هذه الجماعة التى تهادن في حق الله وتتساوم مع الحكومة وبدأوا يكونون ما عرف فيما بعد باسم جماعة "التكفير والهجرة" … ولكم أن تعلموا بأنا لم نطلق على أنفسنا هذا الاسم أو اللقب الذي أشيع وأطلق علينا بل كنا "الجماعة المسلمة" وكان التطفير والهجرة هذا هو المسمى الاعلامى الذي أشاعوه عنا والذى كان مشتقا مما كانوا يشعروه من جوهر أفعالنا وصلب أفكارنا .

لقد قامت جماعتنا على القرآن والسنة ـ أو قل أن الجماعة بنت أفكارها على القرآن والسنة ـ ولم نكن نسمح بقبول أية فكرة أو مبدأ ما لم يكن مدعما بنص قرآنى صريح أو حديث نبوى .

كان لدينا مخطوطاتنا التى تحتوى على أفكارنا وعلى كل عضو جديد أن يقرأها جيدا قبل تقديم البيعة للأمير … فان قبل هذه الافكار … قبلت منه بيعته … وكانت هذه المخطوطات تقع في جزئين :

الاول : كتاب الحجيات … وهو الذي يضم كل النصوص التى نستند اليها عند الحكم بتكفير أى فرد .

الثانى : الحد الادنى : وهو يبين أقل قدر من الفروض التى يجب على الفرد أن يؤديها حتى يصبح مسلما واذا انتقض منها واحدة يكون "كافرا" .

وهناك بحث ثالث يبين ما هو الايمان وما هو الاسلام … وكانت هذه الكتيبات تدرس لكل أفراد الجماعة دراسة وافية باتلشرح والتحليل .

والجدير بالذكر أن ذلك يعد تطورا لأفكار الجماعة حيث كانت في البدء تعتمد على أفكار سيد قطب كما ذكرت بالسابق والتى كانت تتمثل في :

1- دراسة كتاب الشيخ "سيد قطب" (معالم على الطريق)

2- حفظ ودراسة سورة الانعام من خلال تفسير (في ظلال القرآن) وقد كان كتاب سيد قطب يرسم الطريق نحو الله مبينا من هو المسلم الحقيقى ومن هو الكافر … وتحمل سورة الانعام معانى التوحيد الذي يجب أن يكون عليه كل مسلم .

كانت هذه هي الافكار والمبادئ التى قامت عليها الجماعة ولكن كيف كانت علاقة الاشخاص بعضهم البعض تحت لواء الجماعة ؟

كان لدى كل فرد من أفراد الجماعة ايمان راسخ وثابت بأن بقاءه في الجماعة هو الاعلان الوحيد عن اسلامه … وأنه ان فارق الجماعة قيد شبر خسر الدنيا والاخرة … لذا كان هناك طاعة عمياء للأمراء الذين كانوا معينين من قبل الامير "شكرى" … كل فرد فينا يقوم بتطبيق الاوامر والفروض على نفسه دون الانتظار أن يبادله الاخر نفس المبدأ … لا يتأخر أحد فينا في تنفيذ وتطبيق أية فروض ايمانية .

وكنا جميعا نشعر ونعلم ونتعلم أنه ان قال الرسول "لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه" فالواجب الفعلى علينا جميعا أن نحب اخوتنا كأنفسنا ولو من جانب واحد لأنه من ضروريات الايمان وكان أيضا الحب والولاء للامير من ضروريات الايمان اذ هو مرتبط بقول النبى (من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني) فطاعة الامير طاعة لله ورسوله ومعصية الامير معصية لله ورسوله .

كان كل فرد من الجماعة يسارع بأن يقدم الاخر على نفسه خاصة في الاحتياجات مما كان يضفى نوعا من الالفة والتعاضد بين الافراد وفى حالات البيع والشراء مثلا … كان يتم بين الاعضاء حسب قول الرسول (البيعات بالخيار مالم يتفرقا) فمثلا اذا باع فرد من الجماعة شيئا لأخر فيمكن للمشترى الرجوع عن عملية البيع مادام جالسا مع البائع … أما اذا افترقا الاثنان ولو لمسافة متر واحد أصبح البيع نافذا ولا يجوز الرجوع فيه … ولم تكن حدود البيع والشراء هي الاسس فقط بل كانت هناك أسسا أخرى هيئت لنا مناخا اجتماعيا يسوده الود والمشاركة والاحساس بالاخر … وتمثل هذا مثلا فيما يسمى بالعطاء الذي يعطيه الاخ لأخيه وهذا "العطاء" مجانى ولا يجوز رفضه ولا يجوز استرداده مهما كانت قيمته … فاذا أعطيتك شئ ولاأريد استرداده … وجب على أن أصرح أمامك بأن هذا الشئ هو "عطية" وعندها وجب عليك تقبله ولا يجوز لي استرداده لأن الحديث يقول (ان الذي يسترد عطاءه أشبه بالكلب) وكان عادة يتم ذلك من باب التفانى في حب كل منا للآخر … ومحاولة كل فرد التغيير عن ذلك الحب بصورة ملموسة لم يكن لأى فرد منا اعتراض على أى أمر من أوامر الامير مالم يكن هذا الامر ضد الله ورسوله … فكثيرا كنا نجلس ونتشاور حول أسرنا … أباءنا وأمهاتنا واخواتنا واخواننا … فينقل كل منا صورة أسرته الدينية حتى نصدر حكما اما بكفرهم أو بصحة اسلامهم . وفى حالة صدور الحكم بكفرهم كان على كل فرد منا ضرورة معاملتهم ككفار من حيث الولاء، النصرة، الحب، فيحب أخيه في الجماعة أكثر من والده ووالدته وأخوته … الكافرين … فكانت علاقاتنا بعضنا البعض هي العلاقات البديلة التى يهبها الله لنا … ولم يكن هناك تردد في قبول ذلك لأن الجميع كانوا يحبون بل ويحرصون على طاعة الله ورسوله .

ولم تقتصر أوجه التحضر في الجماعة على ذلك النوع من الحب والدفء الاجتماعى فقط … بل امتد الى ما هو أكثر من ذلك فكان لا يتم اتخاذ قرار من أى نوع من دون انعقاد مجلس للشورى … ولم يكن كذلك من حق أى فرد من أفراد الجماعة التعدى على أى من ممتلكات الاخر سوى باذن مسبق حتى ولو كان مجرد استخدام النعال … وكان لزاما في هذا أن نجلس معا ونعطى بعضنا البعض تصريحا أو اذنا مسبقا باستعمال حاجاتنا لأنه من دون ذلك نكون قد وقعنا في المصية لان ذلك يعتبر (أخذ بسيف الحياء) … كأن تطلب من أن أعطيك شيئا من حاجياتى فيأخذنى الحياء على عدم الرفض فاعطيه لك ولكن بدون رضا نفس تام وها هنا يعد هذا العطاء "حراما" مأفونا لأنه ينطبق على ما قاله الرسول في حديثه (ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام" .

كانت المساجد التى قامت ببنائها الحكومة هي مساجد من وجهة نظرنا كجماعة مساجد "ضرار" قال عنها الله (لاتقم فيه أبدا) ولكن ان وجد مسجدا أو زاوية بناها الاهالى بالجهود الذاتية فعندها ندخل ونقيم صلواتنا بلا حرج .

كنا كذلك نقدر جيدا قيمة الوقت للحد الذي يدفعنا للجلوس والاجتماع أسبوعيا لاسترجاع دراسة أفكار الجماعة والتدريب على قيادة حوار أو مناقشة مع عناصر من الجماعات الاخرى … والتى غالبا ما يدور الخلاف فيما بيننا حول النصوص العامة في القران … والتى غالبا ما نستند عليها في تكفير العاصى مهما كانت معصيته … فمثلا تقول النصوص :

(ومن يعصى الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) "النساء:14 " .

(ومن يعصى الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ……) "الاحزاب:36 " .

(ومن يعصى الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها أبدا) "الجن:33 "

فهذه النصوص تتحدث عن عموم المعصية ـ أى معصية ـ ومن يفعل المعصية فهو في نار جهنم خالدا فيها ولا يخلد في النار الا الكافر وبذلك يصبح العاصى كافرا .

كانت الزوجة تعرف وتعى ما هو معنى الخضوع للأزواج على اعتبار أن الزوجة اذا باتت وزوجها غضبان عليها أو منها "تلعنها" الملائكة حتى تصبح … لذا كانت الزوجة تخشى أن يغضب منها زوجها ودائما كانت تشعر بالاستضعاف والدونية … وان لم تطيع وتخضع لزوجها فعليها تحمل تبعات ذلك من ضرب وهجر … ولا تقدر على الهروب من ذلك وفى جميع الحالات التى كانت تعرض على الامير من مشكلات زوجية كان الحق الدائم في جانب الزوج بطبيعة الحال ولم يكن للمرأة الخروج من منزلها لأن صريح النص يقول : (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى ) "الاحزاب"

كنا نعيش بحق بهدى القران والسنة فيما بيننا بصدق واخلاص شديدين وبلا حرج فان جاء مثلا أخ في زيارتى ولم أكن جاهزا لاستقباله فعلى أن أطلب منه الانصراف ـ ولو من وراء الابواب والنوافذ من دون أن يرانى ـ وعليه أن يرجع من دون حرج له أو لي !!

فالنص يقول (فان قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم) "النور:28 " هذا بخلاف الكراهية الشديدة للكفار التى لم نكن نخترعها بل كان يحثنا عليها جميع النصوص التى تملاء القرآن بل والسنة أيضا .

وكنا نتجنب التعامل معهم الافى الحدود التى سمح بها رسول الله واعتبرنا أن أى مشاركة منا للمجتمع الكافر أو الحكومة هي موالاة صريحة لهم ولذا كنا لا نحبذ العمل في المصالح أو الهيئات الحكومية أو حتى الدراسة في مدارسهم أو جامعاتهم … حتى تلك المسماه "جامعة الازهر" اذ كان القائمون على الحركة التعليمية فيها بالنسبة لنا على الاقل "كفارا" بل حدث ولا حرج فهم أئمة الكفر الذين يجب مقاتلتهم بناء على صريح الاية (قاتلوا أئمة الكفر انهم لا ايمان لهم) "…… " اذ كانوا يخدمون الدولة الكافرة ولا يقولون الحقيقة للحاكم ولا يكفرونه ويختلقون في ذلك بعض الاحاديث ويحورون مفهوم النصوص القرآنية لصالح آرائهم وذلك يعد كفرا بينا بناء على الحديث (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده في النار) واستنادا وانطلاقا من تلك القاعدة لم نكن نقبل بتفسير النصوص التى تحدد المسلم من الكافر ونقبلها كما هي بدون تأويل أو تحريف وهذا كان أقرب الى مذهب ابن حزم الظاهرى .

كانت نظرتنا فى التحاكم للدولة الكافرة وأجهزتها كفرا صريحا (يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) "النساء:60 " . ومن هذا المنطلق كنا نلجأ الى تنفيذ كل أمور الحياة بأنفسنا بدون الرجوع للدولة .

· المرتد عن الجماعة يقتل بالتنفيذ الذاتى .

· مراسيم الزواج والعقد بدون متطلبات معثرة … فقط كان المهر عبارة عن أيات قرآنية ، ومايعادل ¼ جنيه ان لم يكن العريس من ذوى المال الوفير .

· قبول الاعتذار ممن يقترف اثما ويتوب عنه بضربه بالسوط على ظهره .

· تعليم أولادنا بأنفسنا من دون اللجوء الى مدارس الحكومة الكافرة … فالقرآن والسنة يحملوا في طياتهم كل علوم الدنيا التى سنتركها في مدارسهم .

· التحريض على عدم حمل البطاقات الشخصية أو العائلية اذ انها من أفعال الحكومة الكافرة وهى سمة من سمات المجتمع الكافر .

لم تكن السمات الداخلية هي التى تميز الجماعة فقط بل أيضا السمات الظاهرية من ملبس وهيئة وطريقة المأكل التى ربما كان البعض يعتبرها تخلفا … فمثلا كنا نؤمن بضرورة مخالفة أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكنا نعتبر البنطلون والقميص هو تشبه بهم فكنا نرتدى الجلباب القصير لا الطويل لأن الطويل به خيلاء والحديث يقول (من لبس ثوب خيلاء ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة) …

وكنا كذلك لا نأكل مع الكفار حتى ولو كانوا اخواتنا … آبائنا … أمهاتنا … ولا نسكن معهم … كنا نهجر البيوت ونبحث عن وسيلة هجرة المجتمع حيث كان العيش وسطه كفر ليس لأننا من ذوى العقول المختلفة ولكن بناء على صحيح الحديث (أنا برئ من كل من أقام بين ظهرانى المشركين) .

ولما كان لم يوجد مجتمع مسلم على صحيح الاسلام نهاجر اليه فكنا نقتصر على قضاء بعض الايام في جبال الصعيد في المغارات والكهوف … وكثيرا ما كنا نجد هناك تجارا للمخدرات وعلى الفور ننسحب لمكان آخر … كان لا يشغلنا عن ايماننا لا المال ولا الترف ولا لذة العيش … كان لدينا هدف واحد فقط هو طاعة الله ورسوله … أو اننى أستطيع التحدث عن نفسى فقط بشئ أكبر من الثقة فلم يكن لدى بالفعل أى رغبة أخرى داخلية أو باطنية في كيانى أو عقلى سوى طاعة الله ورسوله والحياة في ظل الله باخلاص … للفوز بجنته …!!

كنا كثيرا ما نقض أيام من دون طعام وفى بعض الحالات كنا نأكل العشب ونتدرب على أكل الضفادع والسحالى الجبلية … بحيث يكون كل فرد منا مؤهلا لتحمل كل الصعاب والازمات والالام في سبيل ارضاء الله ورسوله .

كان تلك بعض من الكثير الذي كان يدور في كواليس الجماعة والذى لا يتسع المجال لذكره هنا بالكامل … ولكن باختصار قل اننا "نذرنا أنفسنا لله" . وبقدر هذه الايجابية التى كنا نتمتع بها كجماعة الا أنه كان هناك بعض من نواحى القصور في فهم وتنفيذ القيادات للأوامر فمثلا :

1- كان الامير يتلاعب بالنصوص ويحول مفاهيمها حسب مايريد فمثلا ان كان يريد أن يحكم على والدى بالكفر … فهو يقدر … وان شاء أن يحكم عليه بالاسلام فعل …!! وحيث أن ذلك لا يعد كفرا فلابد لي أن أقبله .

2- كنا في تعاملنا نع الكفار لا ندقق كثيرا في ال


حارة النصارى - Son of King - 02-01-2005

نتيجة لذلك كله كنت أتفرس والغيظ يملأ قلبي عندما كنت أمر على أي نص في الإنجيل يتحدث عن المحبة والعفو والغفران والتسامح ، حتى أنني كثيراً ما كنت أشعر بالخجل بيني وبين نفسي وأنا أقرأ هذا في الإنجيل الذي نتهمه بالتزوير ، وأقول إذا كانوا هم قد زوروا واكتسبوا محبة الناس بشهادة المسلم والكافر فلماذا نحن الذين لم نزور شيء نفتقد لهذا ؟ بالتأكيد هناك شيء !!

كنت أحاول جاهداً أن أطرد ذاك الشبح الفكري الذي بدأ يطاردني :

ماذا لو لم تستطع أن تصل إلى نتيجة في بحثك ؟ لدرجة أنني كلما تطرقت إلى هذا التفكير صرخت بأعلى صوتي قائلاً : استغفر الله العظيم ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله ، وأسارع للصلاة لأتخلص من هذه الهواجس ولسان حالي يقول : كيف لا . لا . . لا . . محمد رسول الله حتى ولو لم أجد ما يؤكد ذلك في التوراة والإنجيل وبمرور الأيام بدأت المشكلة تتفاقم أمامي ، إذ بدلاً من أن أتفكر فيما يثبت صدق نبوة محمد في التوراة والإنجيل ، وجدت نفسي أمام مشكلة جديدة وهي : كيف ألغي تأثير هذا الكلام العذب الذي عرفته من التوراة والإنجيل ، أو كيف أقدر أن أثبت أن ما علمته ليس من عند الله بخصوص التوراة والإنجيل ، إذ أن كل الأفكار المدونة فيهما جيدة ويستحيل أن تكون من صنع بشر ، كيف يقدر البشر أن ينفذوا بهذه الطريقة إلى أعماق المستقبل ويتكلموا منذ ألفي عام عن أمور تحدث الآن ، لو سلمنا بأن هذا من صنع البشر لقلبنا كل الموازين الإلهية إذ نضع الإنسان معادلاً لله في الفهم والحكمة ، ونحن نعلم أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع العليم " وجدت نفسي فجأة أقرأ في سفر المزامير وهو المعروف لدينا بالزبور ، وانتقلت لقراءة سفر الأمثال حتى أنني حفظت آيات من مزمور 143 ، 23 وكنت أرددها في الصلاة ، وكلما سمعني أحد يعجب جداً بها ويطلب مني أن أكتبها له ليدعوا بها ، تكررت محاولاتي في البحث عن أدلة تتعلق بنبوة محمد ، وعدم صحة الكتاب المقدس ، كلها باءت بالفشل لكنها لم تتركني وشأني بل قلقلت الكثير من الأفكار والشكوك بداخلي ، تظاهرت بنسيان تلك الشكوك لكنها كانت أقوى مني لأنني أحب الله أينما كان ، لكن خلفيتي وحبي لديني كانا يمنعاني من مجرد التفكير في أن يكون دين الإسلام ليس هو طريق الله الذي رسمه لنا بدأت حياتي تضطرب وأفكاري لا تهدأ والقلق يملأني ، لم أقدر أن أنام كما كنت من قبل ، ولأول مرة وقفت دقائق معدودة وأنا أصلي الفجر وكنت أقرأ سورة الإسراء فإذا بي أتوقف عن القراءة وأشرد بذهني قائلاً : ترى ماذا سيكون موقفك لو فرضنا أن الإسلام ليس هو الطريق المؤدي إلى الجنة ؟

حاولت الهروب من الإجابة لكن لم أستطع ، لم أكمل الصلاة وانخرطت في بكاء شديد حتى غلبني النعاس فاستلقيت على السجادة حتى أيقظتني والدتي ، ذهبت إلى العمل وأنا شارد الذهن لا أدري إلى أين أسير ولا إلى من أتكلم ، وبعد عودتي للمنزل وجدت نفسي مدفوعاً بقوة للقراءة في الإنجيل فقرأت في إنجيل يوحنا من أول إصحاح حتى الإصحاح العاشر ، وجدت فيه كل ما يمكن أن يقال من بلاغة وفلسفة وتعابير لغوية غاية في الدقة والتناسق خاصة عندما تحدث عن الخراف والراعي والكرمة والكرام والأغصان المثمرة وغير المثمرة التي يجب أن تقطع وتلقى في النار فصرخت بصوت عال قائلاً : يــارب ارحمنــي أنـا عبـدك قل لي أين أنت أرجوك وإلى أي الفئتين تنتمي ، هل أنت عند النصارى أم اليهود أم المسلمين ؟

من فضلك تحنن علي فأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت .. أعترف بفضلك علي ، لا أقدر أن أقف أمامك ، ولا يليق بك أن تقف نداً أمام نفخة نفختها من روحك ، أنت الله الذي يقدر وأنا العبد الذي لا يقدر إلا إن أنت سمحت له ، أنت الله الرحمن الرحيم وأنا عبدك بلا حول ولا قوة ناصيتي بيدك كل أموري لديك ، لقد أحببتك من الصغر ، بذلت نفسي ليس طمعاً في جنتك ولكن حباً فيك ، لم أبالي بسجنٍ ولا بعذاب ولا بكل المسكونة إن وقفت أمام طريقي إليك ، لماذا تعاملني هكذا ؟ كنت أسير على درب محبتك التي أعلمنا إياها نبيك وها أنا أجد نفسي عاجزاً عن أن أستمر على نفس الطريق ، كلاهما يقول أنك إله لكن لا أدري أيهم على صواب وأيهم على خطأ ؟

يا رب هل أقسم لك إني أحبك ؟ كلا فأنت تعلم ، كم تحملت من الصعاب في مسيرتي نحوك ، تركت دراستي ، وأهلي ، وأصدقائي ، تغربت كثيراً وسجنت كثيراً ، وعُذبت كثيراً لأجلك فلماذا لا تتجاوب معي ؟ إن كنت أنت إله المسلمين فاخلع من فكري كل شيء عدا الإسلام وإن كنت أنت إله النصارى فأعطني بصيص من نور أقتدي به ؟

كنت لا أنام من الليل إلا سويعات قليلة وكل تفكيري منصبا نحو .. ماذا لو وجدت أن الإسلام ليس طريق الله ؟

بل أن طريق الله هو من خلال التوراة والإنجيل ؟

هل ستسلك مثلما يسلك النصارى ؟

كنت عندما تطوف بفكري هذه الجملة أشعر بقشعريرة شديدة وكأنني ذكرت شيئاً ألام عليه من الله والناس ، وذات يوم تخلى عنى الخوف والشك فوجدت نفسي أقول :

ماذا تريد ؟ كفاك مهاترات أنت الآن لست كما كنت من قبل ، أمامك طريقان كل منهم يبدو مستقيماً فلا تضيع الوقت وابحث جاهداً عن طريق الله وليس من المهم أن يكون عند اليهود أو النصارى أو المسلمين ، المهم أن يكون طريق الله ، هذا إن كنت حقاً تبحث عن الله هذا قدرك ولا بد أن تسلم بقدرك ، ثق أنه بقدر إخلاصك سيكون تجاوب الله معك ، إنسي أنك مسلم وابحث من جديد ، ماذا يمنعك ؟

قلت لا شيء يمنعني ؛ لكن قُد يارب خطواتي أنت واعطني قوة لأن هذه تجربة صعبة وإن لم تعينني عليها فسوق تتخبطني الشياطين وأمكث في الأرض حيران بلا سند ، أرجوك يا رب ساعدني وأعدك يا رب أن اتبعك أينما كنت حتى لو كنت عند النصارى الذين لا أطيق رؤيتهم ، بعد ذلك شعرت بهدوء غريب يسيطر على كل تفكيري وكياني ولأول مرة أجد نفسي أفكر بعقلانية وبلا عصبية ، فقررت الآتي :



إن النصارى قد كفروا لسببين :

الأول : أنهم قالوا إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم .

والثاني : أنهم يقولون أنه مات على الصليب وقام مكفراً عن خطايا الناس ، ترى ماذا يحدث لو أنني توجهت ببحثي نحو هاتين القضيتين لأتحقق من مدى صحة كل منهما بمفهوم إسلامي ، أي أن أرى ماذا قال علماء ومفسري الإسلام بخصوص هاتين القضيتين ؟ .

أولاً : بدأت أبحث في كتب التاريخ الإسلامي والسيرة والتفسير عن كل ما يتعلق بخصوص المسيح وهل تحققت في المسيح كل صفات الله المذكورة في القرآن أم لا ؟ كانت مصادر بحثي هي الكتب الصحيحة الخالية من الوضع والإسرائيليات ، مثل "تفسير ابن كثير" ، "تاريخ الإسلام" للذهبي ، "البداية والنهاية" لابن كثير ،"الملل والنحل" للشهرستاني ، "الفصل في الأهواء والنحل"للعلامة ابن حزم المعروف بأبو محمد ، "الأسفار المقدسة قبل الإسلام" ، "النصرانية بين العقل والنقل" ،وكانت نتيجة البحث أنني وجدت صفات للمسيح لم يتناولها المسيحيون أنفسهم في كتبهم ، ومن هذه:

1- القدرة على الخلق : قال القرآن في سورة الأنعام آية 102 "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء" ، وفي سورة الحجر "إن ربك هو الخلاق العظيم" ، وفي سورة الحج "إن الذين تدعون دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له" ، وفي النحل أيضاً "والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون" ، وفي سورة النمل "أم من يخلق كمن لا يخلق"

هذه بعض من النصوص التي تقصر وتحصر الخلق لله ، بل إن الله عندما أراد أن يقارن ذاته بالآلهة الأخرى استخدم خاصية الخلق وجعلها ميزة تجعله فوق كل الآلهة ، وكما علمنا فإن المسيح كان يخلق وباعتراف صريح وواضح من القرآن ، ففي سورة آل عمران قال المسيح عن نفسه : إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فتصير طيراً بإذن الله " وقال أيضاً في سورة المائدة : "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني " ، وعندما قرأت ذلك قلت في نفسي :

إن الله هو الذي أعطى المسيح هذه القدرة ، ولم يكن يمتلكها من عند ذاته ، لكن عدت لأقول :

حتى ولو أن هذا كان بسماح من الله فيكفي أنه الوحيد الذي أعطاه الله ليكون معادلاً له في خاصية من خصائصه اللاهوتية ،ولو كانت كرامة لكان محمد أولى بها ، بل إنه قال عن محمد :

"إنك لا تسمع الصم الدعاء" وهذه أبسط من الخلق إن الله قد منع محمد من مجرد أن يعيد السمع للأصم وهو خير خلق الله وخاتم رسله ، وتحدى الله الخلق أن يخلقوا مجرد ذبابة وهو ها هنا يعطي المسيح القدرة على خلق الطير ، والمسألة لا تقف عند حجم المخلوق بل هي من حيث المبدأ لأن من يخلق القليل يخلق الكثير وهذا لا يمكن أن يكون للناس من دون الله .

2- عــلم الغيــب : - قال الله عن نفسه في القرآن : " قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله " النمل : 65 "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " الأنعام :59 ، ففي الآية الأولى أسلوب قصر وحصر أي أن علم الغيب مهما كان محصور ومقصور على الله يستحيل أن يشاركه فيه أحد ، والآية الثانية تحوى "لا" نافية للجنس أي جنس المخلوقات التي يمكن أن تدعي علم الغيب إذ أن مفتاح الغيب عند الله وحده ، وقد حكى القرآن عن محمد أنه كان يلوم كل من ينسب إليه علم الغيب فقال : " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب " الأنعام 50 ، وقال لمعاذ عندما قال له إن شاء الله وشئت : أجعلتني لله نداً والله لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ؟ لكن بخصوص المسيح نجد كل الحواجز تزال والمحذور يباح والغير مستطاع للبشر مستطاع لديه فيقول القرآن : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " آل عمران 49والغريب أن المسيح في كل تلك الصفات يتكلم بضمير المخاطب وكان لا بد وأن يكون الله المتكلم لأنه المانح له هذه كما كان يحدث مع محمد فيقول له قل : ، لكن المسيح تفرد بأن قال عن نفسه ؛ وهذا يعني أن ذلك كان بيده ولم يكتسبه من أحد ، وهناك في كتاب البداية والنهاية لأبن كثير الجزء الثاني صفحة 86 رواية شعرت بالخجل عندما قرأتها إذ وجدت فيها إقرار لا يقبل الشك أن المسيح كان يمتلك قدرة غير عادية على الإخبار بالغيبيات ولطول هذه الرواية أنصح بقراءتها في الشاهد المذكور .

3- يشــفي المـرضى : قال القرآن أن الله وحده هو الشافي مرة على لسان إبراهيم ومرة على لسان محمد فيقول : " وإذا مرضت فهو يشفين " والحديث الصحيح : اللهم لا شفاء إلا شفاءك .

والمسيح يقول عن نفسه : " وأبرئ ألاكمه والأبرص " آل عمران: 49

4- يحيــي ويميــت : الله وحده هو صاحب سلطان الحياة والموت ولا يستطيع أحد أن يحيي ويميت فقال القرآن : " وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون " الحجر: 33 ، وقال : " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم " يـس : 12 ، وقال " إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير " ق :43

وبخصوص المسيح يحكي القرآن أنه قال : " وأحيي الموتـى بإذن الله " آل عمران: 49

ويروي ابن كثير في كتاب البداية والنهاية الجزء الاول صفحة 84، رواية مفادها باختصار أن المسيح رأى امرأة تبكي على أبنة لها ماتت منذ زمن طويل فسألها ما يبكيك يا امرأة قالت : ماتت ابنتي وليس لي ولد غيرها ، فقال أرأيت لو أحييتها لك أتريدين ذلك ؟ قالت نعم يا روح الله ، فوقف المسيح على رأس القبر ونادى ثلاث مرات على الصبية ففي الثالثة قامت تنفض عنها التراب وتكلمت مع أمها ، و[1]بعد ذلك طلبت من المسيح أن يعيدها للموت فقال لها عودي كما كنت فانغلق القبر عليها وماتت "

5- القدرة على الرزق : قال القرآن "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين" الذاريات: 57 ، وهذا أسلوب توكيد أن الرزق من عند الله وحده ، وقد وبخ الله كل من اعتقد أنه يقدر أن يرزق الناس ، وقد تحقق ذلك بالنسبة للمسيح فقال ابن كثير إن المسيح كان له كرامة أن يرزق من يشاء وتجلى ذلك عندما أطعم الخمسة آلاف نفس بقليل من الخبز والسمك # .

6- ليس كمثله شيء : يقول القرآن عن الله : " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " الشورى 14 وبخصوص المسيح لا جدال أنه ليس كمثله شيء ، فقد خلق من غير رجل ، وهو الوحيد الذي قيل عنه : كلمة الله وروح منه ، وهو الوحيد الذي ليس لإبليس سلطان عليه منذ ولادته ، وهو الوحيد الذي كان يحيطه حجاب من دون سائر البشر ، وهو الوحيد الذي امتلك صفات الله القدرية 7- يقول للشيء كن فيكون : يصف القرآن فيما يعدد من صفات الله قائلاً :" إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " النحل 40 ، وقوله " إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون " هذه صفة فريدة وصف الله بها نفسه أن يقول للشيء كن فيكون وهي ليست كالخلق وقد تحقق ذلك للمسيح في حادثة تحويل الماء إلى خمر كما يقول ابن كثير في كتابه البداية والنهاية $

8- كان عرشه علــى المـاء : يقول القرآن عن عرش الله : " وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا" " هود : 7 قال القرطبي والحدثي أن هذه الآية كانت تنطبق على المسيح الذي تدرع بالجسد وأن الله إنما جعل عرشه على الماء ليس على سبيل الدوام ولكن ليختبر إيمان الناس وقد سار المسيح لتلاميذه ليلاً على سطح بحر طبرية ليختبر إيمانهم ، وقال لهم في هذه الواقعة : يا قليلي الإيمان

9- لــه الحكم والأمــر : قال القرآن عن الله : " إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين " الأنعام 57 وقوله " فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين " الأعراف 87 ، وجاء عن المسيح على لسان محمد فيما يرويه البخاري عن ابن عباس : لا تقوم الساعة حتى ينزل ابن مريم حكماً عدلاً فيقضي بالحق ويمحو الظلم " .

10- يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار : جاء في سورة الأنعام 103 " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " هذه صفة أخرى من صفات الله التي تحققت للمسيح كما يروي ابن كثير والقرطبي من أن المسيح كان ذات يوم على الجبل فأراد الرومان أن يقبضوا عليه فمرق منهم دون أن يدركوه بينما هو أدركهم وقال بذلك أحمد بن خابط في الفرق بين الفرق #

11- هو الرحمن الرحيم : جاء في سورة البقرة لآية 163 " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " وجاء في سورة مريم آية 93 " إن كل من في السموات والأرض إلا أتي الرحمن عبدا"

ذكر الشهرستاني في كتابه الملل والنحل والأزرقي في دلائل النبوة أن المسيح كان على صورة الرحمن وكان رحيماً متحنناً على شعبه إذ أقام أبنة يايرس من الموت برحمته وترأف كثيراً على المرضى برحمته فخلق عيناً لرجل ولد بلا عين بوضع طين عليها لأن هكذا كانت سنة الله في الخلق منذ الأزل %

12- يضـرب الأمثال : جاء في القرآن أن من اختصاصات الله أنه وحده هو القادر أن يكلم الناس بأمثال ففي الآية 35 من سورة النور و الآية 25 من سورة إبراهيم " ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون " ، " وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتذكرون " ، قال ابن كثير والقرطبي والزمخشري في الكشاف أن الله يستخدم الأمثال لكي يقرب للناس ما يريده حتى يقيم عليهم الحجة ، وقد كان المسيح وسط قومه يفعل ذلك ، والكتاب المقدس في عهده الجديد مليء بالأمثال التي لم يتكلم بها أحد من الأنبياء .

13- يرسل رسلاً ويعطيهم سلطان ، ويؤيدهم بروحه : فقد جاء في مطلع سورة يس " واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون . إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث " ذكر ابن كثير وجميع المفسرون أن هذه القرية هي إنطاكية وهؤلاء الرسل هم رسل المسيح وذكر أسماءهم ، وأنهم كان لديهم سلطان من المسيح ، ترى من البشر كان يملك ذلك ؟

14- عبادة غيره كفر وشرك : جاء في الآية 29 / 30 من سورة التوبة " قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله تشابهت أقوالهم يضاهئون قول الذين كفروا . . . اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم " قال بن قتيبة أن هذه الآية مشكلة لأن فيها أن عبادة الله والمسيح فرض ولا يعبد من دونهما، لذا فيجب أن يُعرب المسيح كمفعول ثان وليس مضاف حتى لا يوافق أهل الكتاب من تأليه المسيح .

15- يأتي في ظلل من الغمام جاء في سورة البقرة 210 " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " قال ابن الفضل الحدثي أن المقصود هنا هو المسيح الذي سيأتي يوم القيامة على الغمام وهو المقصود بقوله " وجاء ربك والملك صفاً صفا " # ، الحقيقة أنني وجدت أكثر مما كنت أطلب أو أريد وقد لا يتسع المجال هنا لذكر كل ما توصلت إليه فقد أعددتها في بحث منفصل تحت عنوان " حتمية ألوهية المسيح " ذاك أنني بعد أن انتهيت من البحث ووجدت ما وجدت غيرت العنوان من " لاهوت المسيح " إلى حتمية لاهوت المسيح وختمته بعبارة تقول : إن لم يقل النصارى أن المسيح إله لكان لا بد وأن يكون إله " .

أما بخصوص الشق الثاني وهو موت المسيح كفارة عن الخطاة أو ما يسمى بالموت الكفاري ، وهو ما كنا نرفضه عملاً للآية التي تقول " و لا تزر وازرة وزر أخرى " إذ كيف يموت من لم يرتكب ذنباً عن آخرين أخطئوا هذا إلى جانب المعضلة الكبرى وهي هل حقاً مات المسيح ، لا أدري سبباً لشعوري بالثقة في إمكانية ألا أجد ما يؤكد موت المسيح وكنت متفائلاً جداً لأنني لن أجد ذلك وبالتالي أكون قد أرضيت ضميري وبحثت ولم أجد وعليه فتمسكي بالإسلام سيزداد أكثر وأكثر لذا اندفعت بكل حماس وقوة عسى أن أعوض ما وجدته من دلائل لا هوت المسيح في إثبات أنه لم يمت ولا يجوز أن يموت نيابياً ، فوجئت وأنا أبحث عن الموت الكفاري بما قرأته في تفسير ابن كثير لسورة البقرة وخاصة الآية التي تقول " وإذ قال موسى يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم . . " إذ وجدت نصاً صحيحاً بخصوص هذه الآية فيه أن بني إسرائيل أرادوا أن يتوبوا عن خطيتهم بعبادتهم للعجل فلم يتب الله علبهم ، وبعد توسط موسى طلب الله من موسى أب يبلغ بني إسرائيل أن السبيل الوحيد للتكفير عن خطيتهم هذه هو أن يقتل كل رجل أو شاب من بني إسرائيل كل من يقابله ، ولا تأخذه به شفقة ، وقيل كانوا يضعون عصابات على أعينهم حتى لا تأخذهم شفقة بذويهم فيمتثلوا لحكم الله ويقتل كل منهم الآخر ، ويقول ابن كثير أنه قد وقع ما لا يقل عن سبعون ألف قتيل ، حتى اكتفى الله وكانت الدماء تسير كالأنهار فأمر الله موسى أن يطلب منهم الكف فقد قبلت توبتهم وأما من بقي حياً فقد كفر عنه بدم من مات حتى ولو لم يكن قد عبد العجل معهم ، أي هناك شخص لم يعبد العجل مات لتتحقق كفارة من عبد العجل ولم يمت ، إذن فلماذا نرفض أن يموت المسيح الذي بلا خطية عمن أخطأ وما زال حياً فالأمرين سواء ، أحسست وكأن الله يطاردني بالأدلة ويفرض علي حصاراً بحيث لم يعد أمامي من سبيل لإنكار أو رفض دعوة المسيح لي لأتبعه ، حتى موت المسيح وجدت الكثير من النصوص تناولها ابن كثير في تعليقه على آية النساء 157 ، والآيات الأخرى التي تكلمت عن موت المسيح في آل عمران حتى أن الاختلاف كان يدور ليس على موت المسيح بل على مدة موته فمنهم من قال ثلاث ساعات ومنهم من قال يومين ومنهم من قال يوم واحد ، وهذا حسب قواعد اللغة يؤكد وقوع الموت ، وإزاء ذلك كله كنت أزداد غيظاً وتألماً لأنني وددت لو لم أجد شيء يبرهن على صحة الفكر المسيحي لا لشيء إلا لعزة نفسي وتفاخري وكراهيتي لهم ، لكن هذا أمر الله لا مفر منه ، لكن كيف أكيف نفسي مع هذا الواقع الجديد ، لا أدري ، ؟

لم انقطع عن القراءة في الإنجيل وأصبح لي صديقاً وكنت في كل مرة أكتشف حلاوته أكثر فأكثر ، وذات مرة ولأنا أقرأ فيه تسمرت عيناي على نص يقول : متى صليت فأدخل إلى مخدعك وصل لأباك الذي في الخفاء فهو يجازيك علانية ، وكذلك حديثه عن المرائين الذين يصلون في الأزقة والطرقات والحواري وقلت : عجيب أمر هذا الكتاب هل يجول في الشوارع ويكتب ما يحدث الآن منذ ألفي عام ، وبسرعة تذكرت أيام أن كنت أسجد على جبهتي وأضع شيئاً صلباً تحتها حتى تبرز ما يسمى بالزبيبة في جبيني أتفاخر بها بين الناس ، وكيف كنت أتباهى بصومي وتسبيحي وتعمد ارتداء ثياب محددة لتدل على تديني ، وعلى نفس الوتيرة قمت بالبحث عن موت المسيح وصلبه ، وهل حقاً مات أملا ، ودرست ما يعرف بالموت الكفاري ووجدت أكثر ما تناولته الكتب المسيحية بخصوص هذا الموضوع ، وفي نهاية الأمر أصبح عندي شبه اقتناع عقلي بلاهوت المسيح وصلبه ، وقد يعتقد البعض أنني كنت مسروراً بما وجدت ، كلا ، لقد كنت غاية في الضيق والضجر والتوتر وتمنيت لو أماتني الله قبل أن أكتشف أنني طوال الفترة الماضية من عمري كنت أطارد سراب لا أساس له من الصحة ، كان صعباً علي أن أكتشف أن النصارى الأذلاء ، المحتقرين ، ال. . ، ال., . على صواب وأنا مخطيء ، كنت لا أنام ، أسير بالشارع أتحدث مع نفسي ، تطاردني الأفكار أينما سرت ، سيطر علي شك رهيب خاصة عندما كنت أتوضأ لأصلي ، فكان أول رد فعل لي إزاء ذلك أن طلبت من الأخوة الذين كانوا يترددون علي ألا يكثروا من زيارتي بدعوى مراقبة الأمن لي ، وبالتدريج انقطعت علاقتي بهم ، كنت أسعر بالنعاس كلما حاولت أن أقرأ القرآن كعادتي كل يوم ، وفي نفس الوقت كنت لا أمل من قراءة الكتاب ، لا أخفي أنني تعلقت بالكتاب جداً واتضح ذلك عندما زارني الأمير آخر مرة ولم يجدني قد أنجزت شيئاً في البحث ، فقال : قدر الله وما شاء فعل هات الإنجيل سوف نبحث عن شخص آخر يقوم بذلك بدلاً منك ، لأنه يبدوا أنك غير مؤهل لذلك ، كان من الطبيعي أن أسر بذلك لأن هذا ما كنت أتمناه ، لكن الآن تغير الحال وطلبت منه أن يمهلني شهر آخر وإلا لسحب البحث مني لأنني استطعت أن أضع يدي على بداية الطريق ، والحقيقة هي أنني لم أكن أريد أن أفقد الرخصة في قراءة الكتاب المقدس ، ولا أن أفقده أيضاً ، وافق الأمير على هذا الاقتراح ، ولا أدري لماذا فعلت ذلك ، كان يمكنني أن أوافق على سحب البحث مني لأريح نفسي من التفكير والمصير المجهول الذي أحفر مساره بيدي ،كنت كلما هممت للصلاة أسمع وكأن هاتفاً يقول لي كيف تصلي لإله لست متأكداً من وجوده ؟ فانخرط في البكاء ، وفي مرة من المرات التي استطعت أن أقاوم وأقرأ القرآن لفت نظري آية في سورة العنكبوت تقول : " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا والذي أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون " وحاولت أن أتمعن فيها أكثر فرجعت إلى ابن كثير والقرطبي وكتاب الكشاف للزمخشري لأرى ماذا يقولون في هذه الآية ، فأول ما وجدت أن الجميع قد قالوا أنها نسخت بآية السيف الشهيرة التي في سورة التوبة ، لكن لفت نظري ما هو أكثر من مجرد النسخ إذ الآية تقول إن إلهنا وإله أهل الكتاب واحد ، وهنا توقف عقلي عن التفكير ؛ إذ أن إلهنا نحن المسلمون قد نسخ كل أنواع المهادنة مع غير المسلمين من الناس واستبدل مكانها القتل والمضايقة والإيذاء ، حتى أنه في بعض الآيات يجعل الله عذابه لهم عن طريقنا" قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " وهناك أكثر من 27 نص يتكلم عن القتال الواجب على المسلم نحو غير المسلم ، في حين إله أهل الكتاب يقول : أحبوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم " ويقول أيضاً : لا تقاوم الشر ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً " ، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً ، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين ، وأخذت أحدث نفسي أين هذا من قول الله : ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، وقوله لا يكن أحدكم إمعة يؤخذ حقه ولا يبالي ، ومن قوله أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ،وقوله من مات دون ماله فهو شهيد ، وقوله : " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " ، حقاً يستحيل أن يكون الأبيض والأسمر واحداً ويستحيل أن يكون الخير والشر واحداً ويستحيل أن يمكن الليل والنهار معاً ، لا بد لأحدهما أن ينفرد بذاته ، وعليه لا بد من أن يكون هناك إله واحد فقط وأنا واثق إنني سأتوصل إليه لأنني أحب الله ولن يمنعني مخلوق من الإيمان بالإله الحقيقي حتى ولو كان عند اليهود ، لكن أريد مساندتك يا رب ، لا تتخلى عني فأنا الآن غريب مشتت الذهن لا أدري أين أنت ، وإن كنت خُدعت فليس عن قصد أنت تعلم كم أحبك ، وكم تألمت من أجل محبتك ، يا رب أن كنت تقتص مني معصيةٍ عملتها فأسألك الرحمة في قضائك ، فأنت الإله وأنا عبدك على عهدك ووعدك ما استطعت أعترف بذنب فاغفر لي ولا تقسوا علي في عقابك ، وبدأت ترد على خاطري أفكار غريبة كنت عند مجرد استعادتها أمام ذاكرتي أشعر بالرهبة والخوف والفزع ، إذ قلت إنه لا يمكن أن يكون القرآن كلام الله والكتاب المقدس كلام الله أيضاً لا بد لأحدهما أن يلغي وجود الآخر ، عندما تطرقت لهذه الفكرة انتابني شعوراً بالرعب والخوف وكلما سمعت صوتاً اعتقدت أن الله سيدمر البيت فوق رأسي لأنني أفكر هكذا في القرآن ، وبدت حياتي كأصعب ما يكون ، كانت تلك الفترة أشد علي من فترة سجني بالقلعة وتعذيبي هناك ، لكن سرعان ما بدأ هذا الشعور يتلاشى وقررت أن أعيد دراسة القرآن من جديد لأبحث عن كل جانب من جوانبه وأضع الآية التي تقول : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيرا" وسأكون محايداً جداً ، والحقيقة أنني لم أكن محايداً إذ تمنيت لو لم أجد شيئاً في القرآن يقودني للتصديق بأنه ليس من عند الله ، كانت بداخلي مرارة تجاه المسيحيين قد أقبل كل شيء لكن ألا أكون مسيحياً وتمنيت لو أن الإنجيل هذا لم ينزل على المسيحيين ، كانت كلمة مسيحي تثيرني وتولد بداخلي رغبة شديد في الانتقام والعدوان تجاه كل ما هو مسيحي ، ولم أدر سبب هذا الشعور الذي تملكني ؛ ربما بسبب النشأة التي نشأت عليها وسط أسرة متدينة تحب الإسلام وتكره المسيحية بسبب تصورها على أنها كفر وشرك ، حتى أن آبائنا كانوا يحذروننا في طفولتنا من اللعب مع المسيحيين لأنهم خونة وألا نأكل طعامهم لأنهم من الممكن أن يضعوا لنا السم في الطعام ، هم لا إله لهم ولا إيمان ولا أمان لهم .



--------------------------------------------------------------------------------

[1] ابن كثير في البداية والنهاية ج2 ص 84

# تفسير ابن كثير لسورة آل عمران وكتاب البداية والنهاية ج1 ص90

$ ابن كثير - البداية ج1 ص 85

# الملل والنحل للشهرستاني ص 27

% الملل والنحل للشهرستان

# نفس المرجع ونفس الصفحة
بدأت أدرس القرآن دراسة دقيقة وعميقة وبدأت تبدوا لي أمور ذهلت عندما وصلت إليها وتعجبت لماذا لم أدرك ذلك من قبل ؟، قمت بإعداد بحث تحت عنوان " هل القرآن كلمة الله ؟ " استغرق مني هذا البحث قرابة الستة أشهر ، في خلالها زارني الأمير في وقت مفاجئ لم أكن أتوقعه ، وكنت في دورة المياه فاستأذن من والدتي ودخل غرفتي لأنه كان معروف عند أسرتي إذ قضينا سوياً فترة الاعتقال وكانوا يرونه معي في كل زيارة ، اعتقد الأمير عندما شاهد الأوراق المكتوبة مبعثرة هنا وهناك أنني قد أنهيت جزءاً من البحث المطلوب مني وسمعته يقول : بارك الله فيك ، هكذا تكون الرجال ، إن نظرتي لا تخيب ، لقد قلت أنك الوحيد القادر على عمل ذلك ، فقلت في نفسي ‘إنك لا تدري ما تحتويه هذه الأوراق ، وخرجت لملاقاته فإذا وجهه قد تغير إلى الحمرة وبدا مضطرباً فجذبني من ياقتي قائلاً : ماذا أقرأ ؟ هل أنت كتبت ذلك ؟ مش معقول أنت . . من ضحك عليك ؟ من خدعك ؟ من أغراك لتبيع دينك ؟ قلت له : لو كانت هناك خديعة فأنت صاحبها ولو كان هناك إغراء فأنت صاحبه ، ولو ارتكبت إثماً فهو عليك ؛ لأنك أنت الذي دفعتني لذلك كله ، اعتذرت إليك ولم تقبل عذري ، كنتم تعرفون كراهيتي للمسيحية والمسيحيين وأصررتم على أن أكون أنا من يقرأ كتبهم ، أقسم لك أنني أتمنى لو أن كل ما عرفته يكون خطأ لقد عشت معك أقصى وأصعب فترات حياتنا أليس كذلك ؟ قال نعم . قلت هل كنت تلاحظ علي شيئاً ؟ قال : لا : قلت إذن فاعذرني ؛ الأمر ليس بيدي ولا مجرد معلومات لكنه يتعلق بقلبي الذي لا سلطان لي عليه ، يا ليتك تقرأ ما قرأت وتعلم ما علمت ؟ فانتفض هائجاً وأراد أن يمزق الأوراق المكتوبة ( ألوهية المسيح ، القرآن ليس كلام الله ) ، دار بيننا شجار جاءت والدتي على آثره وغادر منزلي قائلاً : نحن قد علمنا ما بك لكن لي لطلب إن كنت تريد أن تبقى حياً قلت : ما هو ؟ قال : المجموعة التي أنت أميرها عساك أن تخبرهم بشيء من السموم التي تكتبها ، وأنا سأقول إنك قد ارتديت ولن أفصح لهم عن السبب ، وأحذرك لو حدث منك شيء غير هذا فإنك أفضل من يعرف ما ينتظرك . قلت الحقيقة التي تجهلها أنت هي : أن الأوضاع تغيرت والأيام غير الأيام ، وأنت خير من يعلم ذلك ، بصراحة أنا لا أقبل تهديد لسبب واحد هو أنك لن تقدر على شيء مما تهددني به ، ولعلمك لقد دفعتني أمانتي أن أطلب ممن معي ألا يزوروني هذه الأيام لأنني خشيت أن أستمر أعلمهم شيئاً أنا أشك في صحته ولذا صرفتهم عني لأنني كنت أميناً معهم ، لكن أؤكد لك أنني أحب الله وادع لي أن يعيد الله لي صوابي إن كنت قد فقدته ، انخرطت في بكاء شديد واسترجعت الذكريات الجميلة لحياتنا معاً في السجون والمعتقلات ، وكيف كنا نتحمل الصعاب معاً والحقيقة عز علي كل ذلك لكن إن كانت تلك إرادة الله فوداعاً لكل ذكرى طيبة بعيداً عنه وأهلاً بالأشواك إلى جوار الله ، بدأت الجماعة من خلال الأمير تقطع كل صلاتها بي حتى الذين كانوا يقابلونني يومياً لا يسلمون علي فعلمت على الفور أنني قد تم تكفيري ، ولم يكتفوا بذلك بل سحبوا مني المبالغ التي كنت آخذها من بيت المال لأنفق على نفسي منها ، ولم أتأثر ، لقد تصوروا أنني سوف أضيق بتصرفهم وسأعود إليهم تائباً هم لم يفهموا ما كان بداخلي ، كنا معاً قد اشتغلنا في ما يشبه توظيف أموال ، اشتركت أنا والأمير وشخص ثالث بالأموال التي عدنا بها من الخارج وكنا نتاجر في الملابس الجاهزة ، وكنت أنا مسئول الاستلام وتوقيع الشيكات لدى التجار الذين نتعامل معهم ، ولما حدث ذلك مني لم يسددوا المبالغ المطلوبة وأصبحت أنا مطالب بسدادها ، ورفعوا عليّ قضية بالمحكمة ، وتوقعوا من كل ذلك أن اعتذر وأتوب عن كفري ، وقالوا لي صراحة في المحكمة ( الأمير فقط ) إذ اقترب من القفص وقال نقدر أن نسحب القضية إذا راجعت نفسك وتبت إلى الله وأخبرتنا من أثر عليك لتسلك هذا السلوك ، كنت لا أجاوبهم ، وحكمت المحكمة بأن أرد المبلغ على أقساط قيمة كل قسط 160 جنيه ، وكانت تلك ضربة قوية لهم إذ أنهم كانوا يهدفون لحبسي ، ومرت التجربة بسلام والحمد لله لكنني أخذت أكلم الله بحدة وبثورة وأكرر لماذا يا رب تفعل ذلك معي ؟ هل خصصت العذاب لي وحدي . منذ الصغر وأنا أقاسي وأتحمل المتاعب ،لم يعد لي صديق لأنهم كفروا بك ، فقدت مودة أهلي لأنهم لم يقبلوك ، فقدت دراستي لأنها كانت عائق بيني وبينك ، والآن لا أدري ماذا أخبئت لي في جعبتك من الآلام ، من فضلك ترفق بي هون عليّ فأنا ضعيف لا حول لي ولا قوة ، لا تتركني في هذا البحر اللجي تتخبطني الأمواج ولا أدري لأي شاطئ تقودني ، قل ليّ أين أنت ؟ هل أنت الذي تقول عنه النصارى أم أنت إله موسى أم أنت إله محمد ، وإن كنت كذلك لما سمحت لي بكل هذا القلق في حياتي ليعكر علي صورتك الشفافة ، أرجوك يا رب لا تتركني وحدي وأنا أعدك أن أتبعك أينما كنت لأنني لا أخاف سواك وأنت تعلم ذلك علم اليقين ، ولم يقطع عليّ مناجاتي هذه سوى صوت والدتي تطلب مني أن آخذ الطعام ، لأنني لم أكن آكل معها لأنه لا يجوز لي أن آكل مع مشرك وكانت والدتي كذلك .

تطرقت بعد ذلك إلى موضوع غاية في الخطورة والأهمية ألا وهو إذا كان القرآن ليس من عند الله إذن فمن يكون محمد هذا ؟ حتماً لا بد وأن يكون كاذباً في ادعائه النبوة ، لكن كيف أثبت ذلك ، وبمجرد أن حدثتني نفسي بذلك ارتعبت رعباً شديداً وقلت مش ممكن ؛ محمد ليس نبي ؛ طيب معجزاته وإمبراطوريته التي كانت مترامية الأطراف ، وكل هذا الكم من الناس الذين اتبعوه ، كنت أشعر وكأنني على وشك أن يحل عليّ انتقام الله الشديد ويحيط بي عذابه ، لكن بعد أن هدأت ثورتي هذه بدأت أشعر بشجاعة وعزيمة نحو ضرورة أن أبحث في من هو محمد ؟ وهل هو نبي أم لا ؟ كانت دلائل نبوة محمد ترتكز على عاملين أساسيين هما أنه أمي ونزل عليه القرآن ، وأنه كان قبل النبوة معصوماً ولم يرتكب منكراً قط .

الأميـــة : لم يكن في اعتقادي أن أجد ما يدل على أن محمد كان يقرأ ويكتب لأن كل الذي أعلمه وتعلمته أنه يستحيل أن يكون محمد يكتب ويقرأ ، هذا دفعني لقراءة كتب السيرة مرة ثانية والحقيقة وجدت أمور تعجبت كيف كانت تمر عليّ من قبل ولم أدرك ما فيها ، وجدت أن محمد كان يخلو في نفس المكان الذي كان يجلس فيه ورقة والنضر بن الحارث وعمرو بن نفيل وابن ساعدة القس المشهور ، وجدت أن محمد كان يتاجر بأموال خديجة الكثيرة وأنه قد أبرم عقود واتفاقيات مع تجار اليمن والشام ، وما يقال عن أنه كان يحمل خاتم يوثق به اتفاقاته غير صحيح كدليل على أميته لأنه فعلاً كان لديه هذا الختم وإنما هذا كان شيئا متعارف عليه في أمور التجارة ، أن يكتب البائع والمشتري الاتفاقية ثم يطبع عليها بالخاتم للتوثيق وهو ما يشابه ختم شعار الجمهورية الآن ، وجدت أنه بعد النبوة كتب صلح الحديبية بيده ، وجدت أنه كان في كفالة عمه أبو طالب وكان أكبر من علي وكان علي يقرأ ويكتب ومن الصعب ألا يتعلم محمد من علي أمور الكتابة حتى ولو القليل منها ، وجدت أن محمد كان يجلس عند يسار النصراني ويأخذ منه نصوص من الإنجيل ويقرأها ، وجدت أن جبريل عندما نزل عليه طلب منه أن يقرأ ولم يكن من المنطقي أن يطلب من محمد أن يقرأ وهو لا يعرف القراءة ، ولو أضفت إلى ذلك ما وجدتنه عند البحث عن صدق نبوته الذي قادني لذلك كله فيصبح محمد لا نبي ولا صديق ، ويمكن دراسة البحث المنفصل عن هذا الموضوع في كتيب أعددته تحت عنوان " محمد في التوراة والإنجيل " .

ثم نأتي إلى مسألة عصمته ، هنا حدث ولا حرج وأي كتاب من كتب السيرة مثل السيرة الحلبية والطبقات الكبرى ، وسيرة ابن هشام حتى كتب التفسير التي تكلمت عن آية سورة النحل التي فيها " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منها سكراً لكم " هناك عدة أحاديث صحيحة تقول إن محمد كان يشرب النبيذ ، ويوصي صحابته أن إذا وجدوه شديد التركيز أن يكسروه بالماء ، وكان يأكل من الذبائح التي تذبحها قريش عند الكعبة على الأوثان ، وكان يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله ، وكان يطمع في نساء أتباعه إن استحسن منهن شيئاً كما حدث يوم خيبر عندما وقعت صفية بنت حيي بن أخطب في سهم عبد الله بن عمر فأخذها منه وتزوجها ، وكذلك زينب بنت جحش زوجة زيد ، كل ذلك أزال الصورة البراقة وهدم الهيكل المقدس الذي كنت أضع فيه الرسول ، ولا أخفي أنني كنت أتألم كلما اكتشفت شيئاً من هذا القبيل .

رغم كل ما وصلت إليه لكن للأمانة كنت تواقاً لأن أجد ولو القليل الذي يعينني على أن أبقى مسلماً لأنه الدين الذي رضعته في طفولتي ، كنت مجرد التفكير في تركه يقلب حياتي إلى جحيم وخوف ورعب ، كنت كلما وجدت شيئاً أو قرأت نصاً في الكتاب المقدس ذو معنى حسن، أزداد حقداً وحسداً وغيظاً على المسيحيين وتزداد قسوتي عليه لا أدري السبب ، وكان لي زميل يعمل معي فكلما وجدت شيئاً في الإنجيل ذهبت لأخرج كل غيظي فيه أتلف له متعلقاته الشخصية ، أدفع للآخرين فلوس لكي يكيدوا له ويشتكونه للسلطة العليا ، ومرة أحرقت له ملابسه حتى اضطر للعودة لمنزله بملابس العمل ، كنت أقف أما أحد المحلات التي يمتلكها رجلٌ مسيحي وأحذر الناس من الشراء منه قائلاً : إن بضاعته منتهية الصلاحية لا تشتروا منه إنهم مخادعون ويريدون أن يدمروا الإسلام ، إنهم كما قال القرآن :" لا إيمان لهم " حتى أن هذا الرجل المسن كان يقول لي : يا بني ماذا فعلت لك ؟ حرام عليك عندي أولاد أريد أن أربيهم " ، وتارة أخرى أحذر زملائي من السلام عليهم وأذكرهم بحديث الرسول لا تسلموا على أهل الكتاب ولا تردوا عليهم السلام وضيقوا عليهم الطرقات ، وأقول بصوت عال : هؤلاء خبثاء يتظاهرون بالحب وهم أشد عداوة لله وللمؤمنين لا تنخدعوا بما ترونه عليهم من مسكنة إن ذلك إلا تصديق لقول الله " ضربت عليهم الذلة والمسكنة "

وذات يوم حافل بمثل هذه التصرفات أحسست بهاتف داخلي يقول لي : كن صادقاً مع نفسك ، هل بعملك هذا ستقدر أن تزيل كل ما علمته من كتبهم ؟ أنت قلت أنك سوف تتبع الله أينما كان فلماذا كلما أضاء الله لك نوراً تحاول أن تطفئه بيدك ؟ كن أميناً مع نفسك حتى تستريح ؟ راجع نفسك هل تريد الله أم ماذا تريد ؟ ، الأمر ما زال في يدك ولا أحد يفرض عليك شيء ، رجعت إلى المنزل مهموماً ، حاولت أن أصلي لكن لم أقدر ، قرأت في الكتاب المقدس في إنجيل مت ووقعت عيناي على الصلاة التي علمها المسيح للتلاميذ وحفظتها ، وفجأة شعرت ببرود وهدوء غريب ينسكب عليّ أشبه بمن يسكب ماءً ليغسل من ذاكرتي شيئاً ما ، وقلت لنفسي : يا رب هل تقدر أن تجعلن على ما أرى المسيحيين عليه من هدوء وصبر وتحمل وبساطة ومحبة إن أنا صليت كما هو مكتوب في الإنجيل ؟ وشعرت بسعادة بالغة وكأني سمعت الرد يقول لي : نعم ، تهلل وجهي فرحاً وأخذت أنتظم في الصلاة الربانية ، أقوم في الفجر في مواعيد الصلاة التقليدية التي تعودت عليها وأتوضأ وأبسط السجادة وأقف وأقول : أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير " وفي النهاية أقول : السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله " استمريت على ذلك كثيراً لكن لم أجد تغير إذ ما زلت عدوانياً مع أسرتي ومع المسيحيين مما جعلني أقرر أن أترك كل الأديان فلا الإسلام نافع ولا المسيحية نافع ومن يدري فلعلي بعد أن أقتنع بالمسيحية لفترة ما يحدث أن أقرأ في كتاب ما فأجد ديناً آخر أفضل وأبقى طوال حياتي متنقلاً بين الأديان ، الأفضل في مثل حالتي هذه أن أعيش مثل ما يعيش الناس العاديين لماذا أشغل تفكيري بالدين عندما أموت يفعل الله بي ما يريد ، لكن هذا لم يكن حلاً وفجأة طرأت في بالي فكرة قلت إن سبب كل هذه المشاكل هذا الكتاب أي التوراة والإنجيل فلأمزقه وأسترح ، وهممت بذلك وإذا رعشة خفيفة تسري ببدني وهاتف يقول اتركه فقد تحتاجه ، ولماذا هذا بالذات ، لقد سبب لك القرآن أكثر من ذلك فلماذا لم تقطعه ؟ كنت إذا ركبت سيارة أقول : يا رب تنقلب السيارة وينجو الجميع إلا أنا ، ويا ليت البيت ينهار فوقي أنا وحدي يا رب إن كنت لا تريد لي الهداية فخذ نفسي أرحم مما أنا فيه ، وفي خضم هذه الأفكار والصراعات والهموم ، وكان ذلك في منتصف النهار أي الساعة الرابعة عصراً في يوم من أيام شهر يونيو كنت جالساً أستعيد ذكرياتي الطويلة مع الإسلام والجماعات والإرهاب وأخيراً مع الإنجيل والتوراة وما صار من الأمير تجاهي وأقول : يا رب أنك تعلم أنني في كل هذه الأحداث لم أكن أبحث إلا عنك فهل من عدلك ومحبتك أن تتركني هكذا ، حتى يا رب أن كنت تعاقبني عن جرم بدر مني فأعتقد أنك قد استوفيت حقك ، وأي جريمة تلك التي تستحق هذا العقاب ، أرجوك لا تتركني وحدي في هذا الصراع ، وفجأة وجدت باب غرفتي يفتح فاعتقدت أنها والدتي تحضر لي الغداء فإذا برجل طويل عريض المنكبين طويل الشعر كثيف اللحية وبجواره عمود من نور أبيض فاقع كالضوء المنبعث من لمبة النيون ولم أقدر أن أتتطلع آيه أو أوجه نظري نحوه وصوت يناديني قائلاً : قم اعتدل المسيح يريدك ، ولم أشعر بنفسي إلا خارج الغرفة أنادي على والدي ووالدتي وأخوتي ليروا المسيح ( سيدنا عيسى ) لأنه مكتوب في البخاري من رأى نبياً فقد رأى هدىً لأن الشياطين لا تتمثل بالأنبياء ، فعسى أن رأى أهلي المسيح أن يهتدوا ، ثم عدت لغرفتي ولم أجد شيئاً فحزنت جداً وقلت : حتى هذه المرة لم ترد أن تنصفني يا رب لماذا لم تنتظر لتبرهن لهم عن صدق حديثي ، إنهم الآن لن يقولوا أكثر من أنني جننت ، وفعلاً نزل كل اخوتي وأهلي وتوجهوا نحو غرفتي فلم يجدوا شيئاً وما توقعته حدث فقالت والدتي : يا رب لماذا كل ذلك ، لقد فرحنا بعودته وهدايتك له بالاستقرار وها أنت الآن تصيبه بالجنون وأخذت تبكي وتضمني إليها ، ويقول أخي :لا تقلق سأذهب بك لأفضل طبيب نفساني في مصر كلها ، وتقول أخواتي : كل هذا بسبب ما تكتبه طوال الليل هذه نهاية ذلك الجنون يا رب اشفيه وبعد أن انتهوا جميعاً من مراثيهم ، توجهت ناحيتهم وقلت لهم : الست أنت فلان ؟ قال نعم ،ألست أنت أمي ، وأنتي أختي وأنت أخي إني أعرقكم جميعاً ولو كنت مجنون ما عرفتكم لماذا لا تصدقوني لقد رأيته كنور عظيم وتكلم إلي ، كان رأيهم أقوى من كلامي حتى أنني قلت : ما دام الأمر كذلك لماذا لأكون كما قالوا ؟ صحيح إن هذا الكلام الذي أقوله كلام مجانين فعلاً أنا مجنون وعلي أن أستمع وأخضع لهم في كل ما يقولون وبدأت استسلم لكوني مجنون فرقدت في سريري لا أكلم أحد ، ويتوافد علي اخوتي يعزونني وأنا لا أنطق بحرف ، وفي الصباح اصطحبني أخي بالسيارة وذهبنا لأكبر طبيب نفساني في مصر ، ودخلت للطبيب بعد أن نادى عليّ وجلست أمامه وسألني ماذا بك ؟ قلت لا أدري أخي جاء بي إلى هنا ، قال إن أخيك يقول إنك تقول أنك رأيت سيدنا عيسى ؟ قلت نعم رأيته ، قال هل تقدر أن تصفه لي ؟ قلت وهل رأيته أنت من قبل ؟ قال : لا قلت وكيف ستعرف ما إذا كان الذي سأصفه لك هو أم لا ؟ قال إن حالتك صعبة وطلب أخي وأخبره أنني مصاب بحالة اكتئاب حاد ويلزمني جلسات كهرباء بسرعة تبدأ بست جلسات وتتدرج إلى اثنتين ، وطلب منه أن يحضرني للمستشفي مرتين في الأسبوع فقال أخي إننا بعيدين عن القاهرة بحوالي ساعتين ونصف سفر ومن الصعب أن نأتي كما يقول ، لكن من فضلك حدد لنا كيفية ‘جرائها ونبحث عن طبيب يمكنه القيام بذلك بالقرب من مدينتنا ، وافق الطبيب ووافقت أنا أيضاً قائلاً إنني لا أخاف من جلسات الكهربا فقد أخذتها كنوع من التعذيب بالمعتقل من قبل وبالتأكيد فهي للعلاج ستكون أخف ، ولماذا أرفض فلو كنت مجنوناً فسأستريح مما يدور بفكري وإن كان غير ذلك فإني أضيفها مع سابقتها من ألوان العذاب التي تحملتها في بحثي عن الله عسى الله أن يرحمني ، انتهيت من الجلسات والعلاج الذي قرره الطبيب وتوقعت أن أنسى كل ما كنت أفكر فيه من قبل إن كان ذلك وليد جنون أو توتر نفسي لكن بعد أن أنهيت العلاج وجدت نفسي كما كنت بل مدفوعاً أكثر لقراءة الكتاب المقدس ، ولم أكن أهدأ أو أقدر أن أنام إلا بعد قراءة شيء من الكتاب ، لكن أخذت على نفسي ألا أحدث أحد بأي شيء فيما بعد ، قررت أن أعيش كمسيحي لأرى عمل الله إن كان هذا هو طريقه فبالتأكيد لا بد وأن أرى ثمار ذلك وأري تأييده لي وإلا عدت كما كنت ، كما قلت من قبل كنت أواظب على الصلاة بطريقتي وهي خمس مرات كل يوم الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، لم أكن أقرأ شيء مما كنت أقرأه في صلاتي السابقة بل فقط أبانا الذي ، لكن احترت كيف أصلي كيف أزكي ما هي الطقوس المطلوبة مني حتى أتي بها كاملة لأكون مستحقاً أن يعمل الله في ، لا بد لي أن أذهب للكنيسة لأتعلم كيف أعبد الله ؟ لم يلقى هذا الرأي قبولاً لدي إذ كيف أذهب للكنيسة بهيئتي هذه أو كيف أذهب للكبيسة مذلولاً خاضعاً وأنا الذي كنت كذا وكذا لا . . لا . . نؤجل الكنيسة الآن ، ويمكنني أن أسأل بعض الأشخاص معي بالعمل لكن من منهم يوافق على مقابلتي بعد كل ما صنعته بهم ؟ وفعلاً رفضوا جميعاً الالتقاء بي لأنهم ظنوا فيّ إما أن أقتلهم أو أرغمهم على الإسلام ، لكن واحداً منهم وافق لكن بعد شهر ، كان ذلك طويلاً علي ففكرت أن أقرأ المزيد عن الأفكار التي يفكر فيها المسيحيين ماذا يقولون وهل هناك كتب لهم كما للمسلمين ،أولاً : قررت أن أقص لحيتي حتى لا تلفت الانتباه إلي ، وأن استعير قميص وبنطلون لأرتديهما بدلاً من الجلباب الذي كنت ارتديه طوال حياتي ، وذهبت للمكتبة التي اشترينا منها الكتاب المقدس من قبل ، ولم يعجبني كتاب فيها فذهبت لمكتبة أخرى بشارع الترعة البولاقية وأخذت أتفرج على المعروض من الكتب ، وأردت أن أدخل المكتبة لكن ترددت وشعرت أنني أرتعش إذ كيف أدخل مكتبة المسيحيين وأنا كنت لا أطيق مجرد النظر إليها ، وربما يطلبون مني بطاقتي ويستدعون الأمن فأذهب للمباحث وبالإطلاع على ملفي هناك أكون قد ألقيت بنفسي إلى التهلكة ، وبعد تردد شديد دخلت المكتبة ولفت نظري بعض الكتب ، لم أكن أعرف ماذا أريد أن أقرأ ، بل كل كتاب يستهويني عنوانه أشتريه ، فأخذت كتاب برهان يتطلب قرار ، وإيماني ، وكفارة المسيح ، وكنت كلما أنهيت قراءة كتاب أحرقه ، وعندما انتهيت من الكتب كلها ذهبت للمكتبة ثانية لأبحث عن كتب أخرى فوجدت كتاب أسمه التوحيد والتثليث ، علم اللاهوت الكتابي ، وعندما قرأت الأسعار ووجدت أن ما معي من نقود لم تكن كافية حاولت إرجاع الكتب إلى أماكنها ثاني ؛ فإذا برجل مسن يأتي إلي ويقول : لماذا أرجعت الكتب ؟ قلت لا أريدها قال ؟ لو أنك كنت لا تريدها لما أخذتها من مكانها ؟ قلت وما دخلك أنت ؟ هل تحقق معي لا أريدها فوضع يده على كتفي وابتسم وهو يربت على كتفي ويقول : يا بني خذ هذه الكتب وسأدفع ثمنها وسأريك عنواني إن أعجبتك فيمكنك إرجاع ثمنها إلي وإن لم تعجبك فيمكنك أن تمزقها أو تتخلص منها كما تحب ولن تخسر شيئاً . فقلت له من أدراك أنني لا أملك ثمن هذه الكتب ؟ قال