حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
د. فؤاد زكريا: الغرب، ذلك المتآمر الأزلى !! (في "وهم المؤامرة الغربية") - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3) +--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57) +---- المنتدى: مشاعل على الطريق (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=92) +---- الموضوع: د. فؤاد زكريا: الغرب، ذلك المتآمر الأزلى !! (في "وهم المؤامرة الغربية") (/showthread.php?tid=36759) |
د. فؤاد زكريا: الغرب، ذلك المتآمر الأزلى !! (في "وهم المؤامرة الغربية") - العلماني - 03-29-2010 الغرب: ذلك المتآمـر الأزلى! قصة هذا المقال غاية في البساطة. إنه رد فعل على مقال آخر قرأته حديثا، ولكن رد الفعل يخلق دوامة من الأفكار التي تتسع وتتسع حتى تصل إلى مناقشة بعض من أهم عيوبنا الفكرية في المرحلة الراهنة من تطورنا. وهذا هو بيت القصيد: فقضية التنبيه إلى أخطائنا العقلية كانت هي الشغل الشاغل، والهم العظيم، لكاتب هذه السطور في العقدين الأخـيرين على الأقل. وفي استطاعة أبسط موضـوع مقروء أن يكـون حافزا إلى التفكير في أعقد مشكلاتنا الفكرية والثقافية، لأن كل شيء يتوقف على العين التي تقرأ والذهن الذي يحلل. وليسمح لي القارئ، كيما أشركـه معي في التسلسل الفكري الـذي حفزني إلى كتابة هذا المقال، أن أبدأ بمجموعة من الاقتباسات التي تهيئ أرضا خصبة للمناقشة. هذه الاقتباسات مستمدة من مقـال جيد منشور في مجلة "المصـور" المصرية (عـدد الخميس 16 إبريل 1993)، ويتضمن عرضا مفيدا لكتاب حـديث للمـؤلـف المشهور "بـول كنيـدي " عنوانه: " الاستعداد للقرن الحادي والعشرين". وقد استطاع كـاتب هـذا العرض أن يضع إصبعه على النقاط المهمة في كتاب "بول كنيدي "، وأن يفتح أعين القراء على تحذيرات المؤلف مـن أخطار الانفجـار السكاني، ومن التفاوت الهائل في النمو التكنـولوجي بين الدول الغنية والدول الفقيرة، كـما قدم إلى القارئ صـورة واضحة عن أهم الكتل الاقتصـادية في العالم المتقدم وفي العالم الثالث (الذي أصبح الآن يحتاج إلى تسمية أخرى، بعد أن انهار العالم "الثاني" وحاول أن يذوب في العالم الأول). ولكن الجانب الأهم بالنسبة إلى موضوعنا هـو ما يقوله مقدم الكتاب عن المؤلف حين يقدم هذا الأخير وجهة نظره عن العالم العربي والإسـلامي، إذ يبـدأ مقدم هذا الكتاب بقوله: "وعندما يناقش المؤلف في صفحـات فصـول كتابـه المختلفـة أحـوال العالم الإسلامي نجده متأثرا بالنظرة الغربية الكلاسيكية في هذا الشأن، رغم أستاذيته وظهور المنطق والمعقولية في كثير من النقاط التي يناقشها في كتـابه، فهـذه الدول تقف (على الرغم من مشاكلها الحادة) في وجه القوى العالمية للتغيير بـدلا من أن تحاول التأقلم والاستجابة ولو بقدر لمثل هذه المتغيرات، كـما حدث في دول شرق آسيا. ويخرج بروفيسور كنيدي لأول مرة عـن وقار وهيبة أستاذيته، فتصدر عنـه عبارات تحمل منطلقـا غريبـا حقا، إذ إنه يرى أن معظم الـدول العربية والإسلامية (كـذا!) لم تستعـد بعـد للقرن الحادي والعشرين، لأنها لم تصل بعـد إلا إلى القـرن التـاسع عشر.. ". "ويعـود بروفيسور كنيدي إلى النعـرة الغربيـة ويبرز أن هناك انقساما بين هذه الأنظمة في العالم الإسلامي، ويضرب مثلا بعدوان العراق على الكويت عام 1990، ويكرر ما تردده الدوائر الغربية عن مستقبل المنطقة بأنها أكثر من أي منطقـة نامية أخرى تأثـرا بقضايـا الصراعـات والانقسـامات وقضـايـا الحرب.. ". "ونلاحظ أن بروفيسـور كنيدي عنـدمـا يصل إلى الشرق الأوسط، يتخلى عن حيـاده وأستـاذيتـه في التاريخ والاستراتيجيات، فيكرر أسطـوانة مشروخـة سئمنـا من سماعها من الـدوائر الغربيـة: فهو يوحي بأن الدول العربية متخلفـة عن الـركب الحضـاري.. مليئـة بالعداوات والتنافس، كـما أن الجماعات الإرهـابية تضع عـلامة استفهـام حـول مستقبل الجزائر والمغرب والأردن ومصر، وما حدث في لبنـان أخيرا درس مفيد في سياسات القوى، يوضح كيف يلتهم القوي الضعيف! ". ليس مهما أن نورد اسم صاحب هـذه التعليقات، ويكفي أن نقول إنـه أجـاد عرض الكتاب في سائر أجـزائه الأخـرى، وأنه يقـدم في هـذا الجزء الأخـير، المتعلق بالعـالم العـربي والإسلامي، مجمـوعة من الأفكار التي تنتشر في أيامنا هذه على أوسع نطاق بين المثقفين العرب، وهذا هو الموضوع الحقيقي لمناقشتنا. إن المتأمل لتطورنـا الفكري يشعر بأن هناك نـوعا من التناسب الطردي بين مدى تخلفنا ومدى إنكارنا حقيقة هذا التخلف. فكلما زادت أوضاعنا تدهورا، ازددنـا ميـلا إلى رفـض الاعتراف بهذا التدهـور، وازددنا شراسة في الهجـوم على من يشير إليـه، مجرد إشارة. ويصل الأمر، في الحالة التي نحن بصـددها، إلى حد الخداع الذاتي بأجلي معـانيه. فمقدم الكتاب، وهـو مثقف جيـد، يؤمن بـأن مؤلف الكتـاب كـان أستاذا متعمقا، صائب النظر، ثـاقب الفكر، عندما عرض أوضاع أمـيركا وأوربا واليابان والصين والهند وجميع مناطق العالم، ولكنه فجأة تخلى عن أستاذيته، وعن منطقه، وربـما عن عقله، عندما عرض أوضاعنا نحن. ومـن الطبيعي أن يتسـاءل المرء: ولماذا نحن بالذات؟ ما الذي جعله يلتزم الموضـوعية مع العالم كله، ويتخلى عنها مع العرب دون غيرهم؟ إذا كانت المسألة هي خضوع المؤلف لصـور نمطية عن العرب والمسلمين سـائدة في الغـرب، أو تحامـلا عليهم في وسائل الإعلام الغربية، ألم تكـن توجد لدى الغرب دائما صـور نمطية يمكن أن تـؤدي إلى التحـامل عن الحضارة اليابانية أو الصينية أو الهنـدية؟ وهل نحن أخطـر من هؤلاء جميعـا حتى يحتفظ المؤلف الكبير بأستاذيتـه مع الجميع، ثم يـدوسها بقـدميـه معنا نحن بالذات؟. القوانين الثابتة إن الكاتب لا يخطر بباله على الإطلاق احتمال أن يكون المؤلف قد قدم عنا أوصافا صحيحة، ففي رأيه أن وصفنا بأننا لم نعـد أنفسنا بعد لدخـول القرن الحادي والعشرين لأننا مازلنـا في القرن التاسع عشر، هذا الوصف يحمل منطقا غريبا حقا، وهو "خروج عن وقار الأستـاذيـة وهيبتهـا". وهكـذا يستبعـد الكـاتب، منذ البـدء أن يكـون هذا الوصف منطبقا علينا. مثل هذا الاستنكـار والاحتجـاج الشـديـد اللهجة ينطوي على قدر مذهل من الرضا عن الذات، في وقت نحن فيه أحوج ما نكون إلى التطلع إلى عيوبنا والاعتراف بها دون أي تجميـل زائف. ولكـم بحـت أصوات مفكـري التنوير، بجميع اتجاهاتهم، منادية بأن المشكـلات نفسهـا التي كنـا نختلف بشأنها في أواخر القرن التاسع عشر، هي التي ستظل تشغلنا على أعتاب القرن الحادي والعشرين، بل إن موقف الكثيرين إزاء هذه المشكـلات قد تدهور بـالقياس إلى ما كان عليه في أخـريات القرن الماضي، فـمازلنا نعـد حجاب المرأة مشكلة، وخـروجها إلى العمل مشكلة، ومازلنا نختلف حـول بدايـات الشهور القمرية، بما ينطوي عليه ذلك من شك في قيمة الأجهزة والمناهج العلمية، ومازلنا نشك في قيمة العلم ذاته، ونحتاج إلى جهد كبير كيما نقنع الناس بأن العالم يسير وفقا لقوانين ثابتة، ومازالت أهم أجهزة الإعلام لدينا تجد من يـدافع عن الخرافة والسحـر بكل إصرار. بل إنني أعتقـد أن مستوانـا الفكـري، في نهاية القرن الماضي، كان أرفع من أن يطرح مشكلة النقاب أو مـوضوع عذاب القبر، على النحو الذي تطرح به هذه الأيام في كثير من البلاد الإسـلاميـة. فأي منطق غريب إذن، وأي خروج عن وقـار الأستاذية وهيبتها، حين يشير باحث جاد إلى هذه الحقيقة؟ ويزداد هذا الـرضا عن الـذات وضـوحـا حـين يستنكر الكاتب حديث مـؤلف الكتاب عن الانقسام بين الأنظمـة في المنطقة التي نعيش فيها، بل إنه حين يضرب أمثلة لهذا الانقسام، كعـدوان العراق على الكـويت، وكالحرب العراقية الإيرانية، تستفحل جريمته في نظر الكاتب، فيصفه بأنه يردد "أسطوانة مشروخة" مللنا من ترديد الدوائر الغربية لها. وهكذا يفضل مثقفـونـا أن يغمضـوا أعينهم عن الحقـائق الصارخـة التي رأيناها رأى العين، واكتـوينا بنارها أمـدا طويـلا، وكأن الوئام والانسجـام والهدوء والاستقـرار هـو السـائد في عـالمنـا، وكأن كل الاضطرابـات التي شهدنـاها في العقدين الأخـيرين، والتي أرجعتنا سنين طويلة إلى الـوراء، كأن هذه كلها أكذوبة كبرى، وأسطوانة مشروخة تفتري بها علينا الدوائر الغربية. وهنـا نصل إلى سمة أخـرى أصبحت تشيع على نحو متزايد بين مثقفينا في السنوات الأخـيرة، وهي سمة الشك الأبدي في كل ما ينتمي إلى الغرب، تلك الكلمـة التي تتراكـم عليهـا المعاني السلبية إلى حـد يوشك أن يجعلها مرادفـة للشيطان، بل لقد تحقق هذا الترادف بـالفعل لدى بعـض المجتمعات والتيارات المتطرفة في العالم الإسلامي. ونحن على وعي تام بوجـود تراث طويل من الشك في هذا الغرب الذي أذاقنا مـرارة الاستعمار، ومازال يسعـى إلى فرض هيمنته علينا بشتى الأساليـب، هذا كله معروف، ولا أحد يحتاج إلى أن يدخل حـوله في مزايدة، ولكن حـين يصبح مـوقفنـا الفكـري مجرد بحث آلي عن الطريق المضاد للغرب كيما نسير فيه بكل ما نملك من حماسة، فهنا تصبح تلك ظاهرة مرضية تحتـاج إلى وقفة جادة مع النفس. فكرة المؤامرة ذلك لأن هذا البحث الآلي عن التضاد مع الغرب، أو معاناته بلا تفكير، يمكن أن يـوصل إلى تشوه فكـري مذهل، كـذلك الذي رأينـاه في إنكار حقائق نعيشها طوال سنوات عديدة لمجـرد أنها جاءت على لسان مؤلف ينتمي إلى الغرب، بل وتوجيه أشد ألوان اللوم والتقريع إليه لأنه أشار إلى ما نعـرفه جميعا عن أنفسنا. وأحسب أن هـذا التـوجه الفكـري ضد الغرب، بطريقة آلية بحتة لا تعمل حسابا لخصوصية الموقف ولطبيعـة العـوامل المتـداخلة فيه، كـان هـو أساس ذلك التأييد المستغـرب الـذي لقيه الغزو العراقي للكـويت من كثير من المثقفين العرب الذين كنـا نرى فيهم، قبل ذلك تجسيـدا للـوعي الناضج. وهكذا يبدو قطاع لا يستهان به من المفكرين العرب على استعـداد لإنكـار طلوع الشمس في الصباح لو جاءت هذه الحقيقة على لسان غربي. ومن وراء هذا كله تطل فكـرة المؤامرة الغـربيـة الأبدية على العرب والإسلام، وهي فكـرة أقنعنا بها أنفسنا واسترحنا إليها، لأنها تؤدي في حياتنا مجموعة من الوظائف المفيدة: فهي تعفينا من مواجهة عيوبنا وبذل الجهد اللازم من أجل إصلاحها مادمنا على الدوام ضحايا لتلك المؤامرة التي هي الشغل الشاغل، والهم الأزلي، لـذلك العالم الواسع الـذي نطلق عليه اسم "الغرب ". وهي تعطينا إحساسا جميلا بالأهمية. فنحن، وليس غيرنـا، هـدف تلك المؤامـرة التي يشغل بها الغرب نفسه ليل نهار. أجل، نحن، وليس اليابان أو الصين أو العالم الـذي يوشك على اللحـاق بـالغـرب وتضييق الخنـاق عليـه في كـل الميادين، نحـن فقط، من دون مجتمعات البشر الـذين نخيف الغـرب ونحرم عيـونه النوم. وعلى سبيل المثال، فقد كـان بول كنيدي أستاذا عظيما وباحثا موضوعيا عميقا حـين تحدث عن كل بقعة من بقاع الدنيا، ولكنه حين تطرق إلى منطقتنا، أصبح كذابا وسطحيا وإمعـة يردد ما يشيع في مجتمعه من أحكام محفوظة مستهلكة. ولا بد أن الذي دفعه إلى ذلك هو أننا أخطر وأهم وأعظم من عمالقة العالم، وإلا، فلماذا يظل الغـرب في أرق وسهـاد كيما يحكم أطراف المؤامرة ضدنا نحن بالذات؟ وأخيرا، فإن هذا الإيـمان الـواسع الانتشار بـوجود مؤامرة كونية يحيكها الغـرب لنا دون غيرنا، يدغدغ مشاعر الجـماهير ويجلب لها سعادة لا تدانيهـا سعادة المكيف أو المخدر فكل شيء لدينا على ما يرام، والخطأ كله خطأ الغرب المتآمر، وها هي ذي الفرصة تسنح لكي نقتص منـه في ذلك الثأر التاريخي الـذي لا تبدو له نهاية. وإني لأذكر، في تجربتي الشخصية، أن كل من يتحـدث بهذه النغمة في أي محاضرة أو ندوة تقـام في بلـد عربي يقابل بتصفيق الجماهير واستحسـانها بلا حـدود، على حين أن من يحاول أن يـوقظ في الناس روح المسئولية، ويفيقها من خدر " المؤامرة" الموهومة، يبعث في أي جمهور عـربي شعـورا بـالقلق وعـدم الارتياح. إن أحـدا لا يـود أن يبرئ الغـرب من محاولات السيطرة على العـالم، ولكن هذه المحـاولات لا تنجح إلا في نقـاط الضعف على سطح كـوكبنـا الأرضي. وأحسب أن من أشـد مظاهـر الضعف أن نستسلم لفكرة المؤامرة الغربية ضدنا نحن بالذات، وننسى أن المواجهـة الحقيقية لأي مؤامرة إنـما تكـون بـالعمل الشاق، الـدائب، من أجـل أن نبلغ المستوى الـذي نغدو فيـه أندادا للغرب، ثقافيا وعلميا وتكنولوجيا وسياسيا. صحيح أن هذا هدف بعيد وأن العقبات في وجهه ليست مما يسهل قهره. ولكن لنقف على الأقل عند بدايـة الطريق بدلا من أن نكتفي بالاستغاثة من "الـذئب " الذي لن يستطيع اقتحـامنا لو بـذلنـا من الجهد ما يجعل أسوارنا تعلو يوما بعد يوم. فؤاد زكريا مجلة العربي: العدد 415، 1 حزيران\يونيو 1993 RE: د. فؤاد زكريا: الغرب، ذلك المتآمر الأزلى !! (في "وهم المؤامرة الغربية") - العلماني - 03-29-2010 أفكار حول العلم والحضارة والإنسان سوف تستدرجنا السنوات القليلة القادمة لقراءة فؤاد زكريا ومراجعة أفكاره من جديد في مقالة " نظرتنا للغرب ذلك المتآمر الأزلي" ، أظهر فؤاد زكريا هدفه الذي كان يسعى إليه من الكتابة في مختلف القضايا حين قال : " فقضية التنبيه إلى أخطائنا العقلية كانت هي الشغل الشاغل، والهم العظيم لكاتب هذه السطور في العقدين الأخيرين على الأقل " ( مجلة العربي- (415)- 1993 ) . فما الذي حدث للعقل العربي في هذين العقدين .. أو قل في الربع الأخير من القرن العشرين؟ وما الذي كان يشغله من قبل؟ إن معظم مقالات ومؤلفات فؤاد زكريا في تلك الفترة، مثل : " آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة".. "خطاب إلى العقل العربي".. "العرب والنموذج الأمريكي" .. الصحوة الإسلامية في ميزان العقل".. "الحقيقة الوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة".. "الثقافة العربية وأزمة الخليج" وغيرها ، تكشف عن فكرة أساسية وهي : أن أغلب القضايا المثارة في ثناياها، كان يفترض أن يكون النزاع حولها قد حسم منذ عهد مضى، وأن هذه المجموعة البسيطة من الأفكار والمفاهيم المتناثرة في كتاباته، كان ينبغي أن تكون قد استقرت لدينا منذ ما يقرب من القرن. وهنا يبدو بوضوح "المأزق" الحقيقي الذي تعرض له أكبر مشروع ثقافي للتغيير الاجتماعي في القرن العشرين، الذي لم يتوافق أبرز فرسانه ( في النصف الثاني من القرن ) مع حركة التاريخ في المجتمع العربي، ومع هذا، أصّر في شجاعة على الإمساك براية العقلانية والتنوير، والإبقاء عليها مرفوعة عالياً ، رغم عواصف المتعصبين وسطوة المتعملقين. فقد أجبرته الانكسارات والارتدادات للعقل العربي في الربع الأخير من هذا القرن، على إعادة مناقشة الأسئلة والقضايا نفسها التي بدأنا بها القرن، ومن ثم تفنيد الأخطاء العقلية نفسها التي كان يفترض أن نكون قد تجاوزناها، وهذا كله وسط مناخ غير ممهد على الإطلاق. والواقع أن فؤاد زكريا كان من أوائل المفكرين الذين استشعروا "حجم المأساة" مبكّراً، بعد أن شهد في عقد واحد( 1967- 1977 ) التحولات والانقلابات الدرامية العنيفة التي زلزلت ركائز هذا " العقل " ومنجزاته : هزيمة يونيو 67 ، حرب أكتوبر 73 ، تصاعد المد الديني وضرب قوى اليسار، زيارة الرئيس السادات لإسرائيل ( في نفس العام 1997 ) ، حيث اختلطت الأوراق ، وتبدّلت أماكن اللاعبين، واشتدت القيود المفروضة على المثقفين الجذريين، مما دفع معظمهم إلى المنفى ( الاختياري) خارج مصر، أما الذين بقوا في الداخل فكانوا يعيشون منفى من نوع آخر، وأصبح لسان حال الجميع قول الشاعر الفلسطيني الكبير " محمود درويش" : ( الوطن ليس دوماً في الوطن، والمنفى ليس دائماً في المنفى ). ففي 9 مايو عام 1977 ، كتب فؤاد زكريا مقالاً قصيراً في مجلة "روز اليوسف" ، تحت عنوان " أزمة العقل العربي" ، جاء فيه : " الظروف التي يعمل فيها المفكرون تتجاوز قدراتهم ، فنحن نلتزم جانب الحذر في تعبيراتنا ، ونقول شيئاً ونخفي أشياء، ونعبّر عن أنفسنا بطرق ملتوية، ونفكر دائما في الأصداء المحتملة لما نكتبه، والقيود التي تكبّل العقل العربي من جميع جوانبه منعت وصوله إلى مرحلة التحرر، وكلما ازداد هذا العقل اقتراباً من مناقشة الجذور العميقة التي يعيش عليها المجتمع، اشتدت القيود التي تمنعه من الحركة، ومن المستحيل أن يصل إلى مرحلة التحرر إلا إذا استطاع أن يناقش الجذور". البحث عن مخرج كان فرسان هذا المشروع، الذي ضم أجيالاً عدّة من المثقفين الكبار، راح كل منهم يبحث عن مخرج منذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات ، فسارع لويس عوض إلى التعبير عن موقفه العلماني "عملياً" بتقديم استقالته من حزب " الوفد " الذي تحالف مع بعض الجماعات الدينية في انتخابات عام 1984 . أما من الناحية النظرية، فقد نشر سلسلة من المقلات في مجلة " المصور" عرض فيها قصة العلاقة بين الدين والدولة ، كما عرضها العالم المسيحي في الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة الأوربية، ليخلص في النهاية إلى أن الفكر الأوربي لم يتحرر إلا بعد أن خلع عن نفسه نير الوصاية الكنيسية. وجمع عوض هذه المقالات في كتابه عنونه بـ " ثورة الفكر في عصر النهضة الأوربية" ( صدر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر عام 1978 ) قال فيه : " كنا في جيلي ، كلما رأينا قصوراً في الحياة المصرية، ننظر وراءنا في غضب ونبحث عن الحلول في التاريخ الأوربي منذ عصر الثورة الفرنسية، أي منذ عام 1789 ، بقصد الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى. لكن يبدو أن حركة المجتمع العربي تدفعنا الآن إلى التراجع قروناً إلى الوراء ، حتى تجعلنا نقترب من العصور الوسطى، تدفعنا إلى نحو عام 1500 ، أو ربما قبل ذلك في بعض الأمور وهكذا غدا علينا أن نرى كيف خرجت أوربا الحديثة من العصور الوسطى، بينما كتب على عالمنا العربي أن يطول مخاضه، وأن يتعسّر فيه ميلاد الحياة الجديدة، وكلما تجدد في أوصاله إكسير الحياة والنماء حاصرته جراثيم المرض والهزال ( ص- 73 ) . وليس مصادفة أن يصدر في الفترة نفسها السندباد حسين فوزي كتاباً سمّاه على استحياء " تأملات في عصر الرينسانس" ، وأن ينشر زكي نجيب محمود مقالاته في جريدة الأهرام عن "العلمانية"، وهل هي بكسر العين أم بفتحها؟ ، وأن يحاضر فؤاد زكريا عن "النهضة الأوربية والنهضة العربية " ثم ينشر هذه المحاضرة في كتابه فيما بعد. أما توفيق الحكيم- أكبر الفرسان سنّاً- فقد خانته مهارته في المراوغة لأول مرة، واشتبك بالفعل مع أبرز رموز الإعلام الديني في مصر والعالم العربي وقتئذ، على صفحات جريدة الأهرام، وتكشف الرسالة التي بعث بها إلى لويس عوض في أوائل الثمانينات ، ونشرها عوض عقب وفاة الحكيم ( 1987 ) في الجريدة نفسها، عن تشاؤمه الشديد عن إمكان استمرار المشروع العقلاني المستنير الذي ناضل من أجله. وبلور فؤاد زكريا ذلك كله ( فلسفيا ) حين قال بأن " العلمانية في الربع الأخير من القرن العشرين أصبحت سلبية، وأمام سوء الفهم والضجة التي أثارتها لفظة " سلبية ، اضطر زكريا إلى توضيح فكرته ، بقوله :"إن العلمانية لا تكشف لنا عن الطريق الذي ينبغي أن نسير فيه ، وإنما تشير بوضوح إلى الطريق الذي ينبغي أن نتجنبه ثم تترك لنا بعد ذلك حرية اختيار المسير". ففي بداية القرن العشرين، كانت العلمانية مشروعاً متكاملاً، يقف مواجهة مشروع إسلامي آخر، كان موجوداً بصورة أكثر تواضعاً وأقل عنفاً وعدوانية، وتركت العلمانية أثرها في أجيال عدّة ( لطفي السيد ، سلامة موسى ، طه حسين، لويس عوض، زكي نجيب محمود ، فؤاد زكريا وغيرهم) ، وهو أثر ضمني ، بل إن جزءاً كبيراً من الثقافة العامة لمصر طوال الثلاثة أرباع الأولى من القرن العشرين كانت تصطبغ بالصبغة العلمانية ، ولا يكاد يوجد مفكر مهم في تلك الفترة إلا وكان له نصيب منها، ولم تكن هناك حاجة للمجاهرة بالعلمانية على اعتبر أنها موجودة ضمناً ، لأنا المواجهة الحادّة بينها وبين التيارات الإسلامية لم تكن قائمة حتى أوائل السبعينات. ومنذ تلك "اللحظة" لم تعد العلمانية تقدم مشروعاً متكاملاًن ومن ثم فهي " سلبية" بمعنى أنه من الممكن أن تكون ماركسياً وعلمانياً في الوقت نفسه، أو قومياً وعلمانياً في آن واحد، وهكذا، فالذي يجمع بن كل هذه الاتجاهات، والذي يجعل العلمانية قاسماً مشتركاً بينها جميعاً هو أن ( الهدف) واحد : بأن تترك التشريع للبشر، وتدعهم يخطئون ويجربون ويصححون ، فالإنسانية لا تتقدم إلا بهذه الطريقة، ولا يوجد شيء اسمه صالح لكل زمان ومكان في مجال الإنسان ، إذ إن الضعف الإنساني هو نفسه مصدر القوة. تحولات عالمية بين كتاب " مستقبل الثقافة في مصر " لطه حسين (1938 )، و"الإنسان والحضارة" لفؤاد زكريا ( 1975) ، عقدان من الزمان تقريباً، شهد تحوّلات عميقة، عالمياً وإقليمياً، أبرزها : نهاية الحرب العالمية الثانية ، انقسام العالم إلى معسكرين كبيرين، ظهور الاستقطاب الأيديولوجي والحرب الباردة، زرع إسرائيل في قلب العالم العربي، ظهور حركات التحرر والاستقلال في العالم الثالث، ثورة يوليو 1952 . أما الصيغ الفكرية التي كانت مطروحة آنذاك ، فقد تمثلت (عملياً) في صيغتين أساسيتين، وهاتان الصيغتان كانتا موجودتين أصلاً منذ نهاية القرن التاسع عشر في مصر، ولم تكن التحولات العميقة التي أشرنا إليها سوى تكريس وتدعيم لهما معاً. الصيغة الأولى عرفت بـ"التوفيقية" ، أما الصيغة الثانية فهي الابنة الشرعية للأولى، وهي صيغة (إما..أو). وتستطيع أن ترد "التوفيقية" وما يتفرّع عنها من مسمّيات مثل "الوسطية" و"التعادلية" و"الاتزان" وغيرها، إلى ما قرره الإمام محمد عبده منذ أن دشّن الصيغة التوفيقية قبل قرن ( من الآن ) إذ قال : "ظهر الإسلام لا روحياً مجرّداً، ولا جسدانياً جامداً، بل إنسانياً وسطاً بين ذلك، آخذاً من كل القبيلتين بنصيب، ثم لم يكن من أصوله ( أن يدع ما لقيصر لقيصر ) بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله ويأخذ على يده في عمله " . ( الإسلام والنصرانية بين العلم والمدينة، ط3 ،دار الهلال 1959 ، ص- 95 ). غير أن هذه التوفيقية لم تكن- في التحليل الأخير- توفيقاً متوازناً أو متكافئاً بين طرفين، وإنما كانت في حقيقتها ، انحيازاً وتغليباً وترجيحاً لطرف على حسبا الطرف الآخر، وإخفاء هذا الانحياز والترجيح خلف قناع ظاهري، ناهيك عن التوتر الخفي الذي ظل كامناً داخل الصيغة التوفيقية، ، حتى حانت الفرصة، وبرز في العلن ذلك الانشطار الحاد بين عنصري المعادلة. وظهر ذلك مبكّراً في صورة تيارين متعارضين انشقت عنهما توفيقية " الإمام" على أيدي تلامذته، فسار الشيخ رشيد رضا في اتجاه سلفي حنبلي النزعة ، وسار لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين في اتجاه ليبرالي علماني. وتبلور هذا الانشطار أخيراً في صورة المواجهة الحادة منذ أوائل السبعينات بين التيارات الإسلامية وأنصار المشروع العلماني . ( راجع الدراسة الرائدة للدكتور محمد جابر الأنصاري : الفكري العربي وصراع الأضداد ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، ط1 ، 1996 ) . بيد أن التكوين الفلسفي لفؤاد زكريا ومزاجه النقدي فضلاً عن حسّه التاريخي، كان يأبى الصيغتين معاً، ومن ثم كان لأبد من البحث عن مخرج : لا هو توفيقي ، ولا هو ( إما .. أو ) ، وهنا تحديداً سنعثر على أهم " لحظة " من اللحظات المضيئة النادرة في منتصف القرن العشرين، وهي لحظة لم ندرك بعد أبعادها أو مدلولاتها ، لأننا ببساطة لم ندرسها حتى الآن. فقد كانت هناك صيغة أخرى طرحت على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي في منتصف القرن، وهي صيغة "التحرر والاستقلال" ، التي وجدت طريقها إلى التطبيق في بعض الأمور مع ثورة يوليو 1952 ، إلا إن القوى الدولية أو قل النظام الدولي السابق لم يسمح للزعيم جمال عبد الناصر باستكمال تجربته حتى النهاية، وهو ما فعله النظام الدولي الأسبق مع تجربة محمد علي أيضاً . الفكر والواقع كان فؤاد زكريا في الثلاثين من عمره حين أصدر كتابه " الإنسان والحضارة"- لاحظ دلالة العنوان- الذي صفى فيه حساباته مبكّراً مع الصيغتين الفكريتين المطروحتين في النصف الأول من القرن العشرين، وسعى إلى تأصيل صيغة "التحرر والاستقلال" على مستوى الفكر والثقافة، التي ظلت على مختلف المستويات الأخرى مجرد "شعار"! ،.. وكأنه على موعد مع "نيتشه" الذي لم تبق من أقواله في أذن فؤاد زكريا سوى عبارة "كن نفسك". وتلك كانت مفارقة، تسترعي الانتباه والتأمل، بين (الفكر والواقع) في هذا المنعطف التاريخي، إذ إن من آمن به فؤاد زكريا وسعى إلى تأصيله بالفعل كان يتناقض عملياً مع مجريات الأمور في الواقع المصري الذي (أبى) بدوره أن يتنازل عن الصيغة التوفيقية أو صيغة ( إما .. أو)! ففي عام 1957 كان عبد الناصر قد تقلد مقاليد السلطة بالفعل، وكان قراره الشجاع بتأميم " قناة السويس"، وهو ما ألب عليه القوى الدولية بالعدوان الثلاثي على مصر 1956، الذي خرج منه منتصراً على المستوى السياسي والشعبي كأهم زعيم عربي في المنطقة، وتلك كانت المنطقة الخلفية التي ظهرت فيها كتاب " الإنسان والحضارة" الذي ضمنه زكريا مجمل أفكاره ورؤاه ومواقفه من مختلف "الثنائيات" القائمة (كانت الثورة نفسها تضم أجنحة متباينة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين). وبذكاء شديد اختار زكريا موضوعاً فلسفياً كان مطروحاً على بساط البحث، وهو التفرقة بين ( الحضارة ) و ( المدنية) ، في حين أن المفكرين السابقين عليه أو المعاصرين له ل تكن تشغلهم قضية " التعريف" بقدر ما شغلتهم إشكالية المحتوى، يقول زكريا : " الحضارة والمدنية مترادفان، لا سبيل إلى وضع حد فاصل بين المجالين- هذا الرأي هو ما نرجحه في النهاية". ( ص- 12 ) " إن فكرة ( الثنائية ) كامنة وراء مثل هذه التفرقات بين الحضارة والمدنية، بين وجهين للنشاط الإنساني : وجه روحي خالص ، ووجه يتصل بالمادة ، والاعتماد على هذه ( الثنائية) في توضيح معنى الحضارة يؤدي إلى عكس المقصود منه " ( ص- 17 ) . لذا " فالأجدر بنا أن نستخدم لفظي الحضارة والمدنية بمعنيين متقاربين، وأن نؤكد وجود اتصال مباشر بين الأوجه العملية لنشاط الإنسان وبين الأوجه الثقافية والروحية الخالصة له، فنشاط الإنسان لا يسير في طريقين منفصلين . وما دمنا نتحدّث في مجال الحضارة، فعلينا أن ننظر في أفعال الإنسان على أنها تكون في مجموعها وحدة متصلة الأهداف مشتركة وتأثيراتها متبادلة " _ ص- 19 ) . عند هذه النقطة أو قل " النتيجة" ، يبدأ زكريا في توجيه ضرباته المتتالية لمختلف الثنائيات وعينه على المجتمع المصري، فتجده يناقش العلاقة بين ( الفرد والمجتمع ) ومشكلة المساواة فيقول : "علينا أن نؤكد أن الناس يتفاوتون بالفعل في مواهبهم وقدراتهم، وأن هذا التفاوت يظل قائماً حتى بعد أن تتاح لهم فرص متكافئة تماماً في نقطة البداية ، فمن الواجب إذن أن يعاملوا على نحو يتناسب مع هذه القدرات. غير أن هناك مطالب أساسية لهم لا ينبغي المساس بها مهما كانت الظروف، بل يجب أن تسود- بالنسبة إلى هذه المطالب الأساسية- مساواة مطلقة بين الجميع، ما دامت هذه الحاجات ضرورية لهم لمجرد كونهم آدميين، ولاشتراكهم مع الباقين جميعاً في صفة الإنسانية" ( ص- 144 ). ويقول عن "المادية والروحية" : "إذا شئنا أن نعبّر تعبيرا دقيقاً عن العلاقة الحقيقية بين ما هو مادي وما هو روحي في الإنسان لقلنا إن المجالين متداخلان تماماً، لا يمكن تصوّرهما منفصلين، بل إن أي محاولة لإيجاد فصل قاطع بينهما تؤدي إلى تشويه طبيعتهما . والخطوة الأولى نحو الروحية في الإنسان هي الاهتمام بالمشاكل المادية" (ص :151- 152 ) . وفي العلاقة بين ( الغرب والشرق ) يؤكد على " إن حضارتنا في الشرق سوف تظل متخلفة عن ركب الحضارة العالمية طالما ظللنا متمسكين بوهم "الروحانية" هذا، وليس معنى قولي هذا الحط من قدر القيم الروحية، أو الاستخفاف بها، بل إن السبيل الأول إلى العلو بالمعاني الروحي في الإنسان، هو اهتمامه بمشاكله المادية وسعيه إلى حلّها" (ص : 152- 153 ) . ويختتم كتابه بقوله : " الخدعة القديمة التي وقعت فيها الإنسانية زمناً طويلاً هي أن الناس يعتقدون أن بين الوجه المادي والوجه المعنوي لنشاط الإنسان تضاداً أساسياً، وأن الاهتمام بأحدهما يستبعد الاهتمام بالآخر" (ص-155). تستطيع بشيء من الجهد والصبر أن تعيد قراءة فؤاد زكريا وتراجع أفكاره ، وأن تقيّم مواقفه ومعاركه في النصف الثاني من القرن العشرين، في ضوء ما تقدم ، بل تستطيع أن تتبين موقعه بوضوح داخل المشروع العلماني نفسه، فـ"فؤاد زكريا" لم يقل ( علينا أن نصبح أوربيين في كل شيء) ، ولم يبحث عن ( الحلول في التاريخ الأوربي) حتى لو بقصد الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى، ولم يدع إلى (التعادلية) ، ولم (يتعرّج) أو ( يسير من النقيض إلى النقيض) ، بل ستجده دائماً يطوّر أفكاره الخاصة، وينتقل بها من طور إلى طور في هارمونية سيمفونية تتصاعد فيها الأنغام وتهبط تبعاً للواقع الذي يعيش فيه. وستجد أيضاً أن الانتقادات التي وجهها إلى بعض رموز العلمانية في الثقافة العربية كانت أعنف مما وجهه إلى التيارات الإسلامية، والسبب واحد وهو أنه يرفض رفضاً قاطعاً "التبعية والتقليد" ، فإذا بدأنا بالقول بأنه سوف ينصلح حالنا في اللحظة التي نتابع فيها آراء السلف الصالح، أو نقلد فيها "الغرب" ، فإن القضية لا تعدو أن تكون مجرد تناقض في الألفاظ، كما أن إجراء أي مقارنات بين فترات زمنية تفصلها مساحات عريضة من الوقت ، وتفصلها أيضاً تجارب سياسية واجتماعية مختلفة، مغالطة علمية وتاريخية، فضلاً عن المخاطر والمزالق التي تكتنفها، والتي تؤدي إليها أيضاً. نحن والحضارة الأمريكية ففي عام 1980 ، وفي ذروة الهيام بالصديق الأمريكي في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، كتب فؤاد زكريا "لقد أصبحت الوصفة غاية في البساطة، أمريكا بنت نفسها في قرنين من الزمان، وأصبحت أعظم بلاد العالم. إذن فاتباعنا للنموذج الأمريكي سوف يجعلنا بدورنا عظماء متقدمين، وسينقلنا من الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوة، هذه العقيدة الجديدة لا توجد فقط في عقول بعض الزعماء بل تتسرّب بشتى الوسائل إلى عقول الناس العاديين" (العرب والنموذج الأمريكي) ، دار الفكر المعاصر، ويقول في موضع آخر " هذا هو المنطق نفسه الذي كان سائدا في أوساط المثقفين منذ بداية العصر الحديث، منذ الطهطاوي في كتابه " تخليص الأبريز" إذ إن أوربا حققت حضارتها بفضل اتباع أساليب معينة، ولا بد أن تلك هي الوصفة الأكيدة للنجاح والتقدم لكل مجتمع يريد ذلك". ولعل هذا ما يفسّر لنا انتقادات زكريا الحادة لأصحاب التوكيلات الفكرية الغربية- على امتداد القرن- فهذا "وجودي" وذاك "وضعي"، وثالث "مثالي" ... وهكذا. وفي مقالة "ثقافتنا الذين يزداد اعتمادهم يوماً بعد يوم على تلخيص الكتب الغربية وتقديمها إلينا على أساس أنها جهدهم الخاص، بذلك فهم لا يساهمون في (تحريرنا) بقدر ما يزيدون من اعتمادنا على ثقافة الغير". (مجلة العربي- (302 )- 1984 ). هكذا سنعود من جديد إلى صيغة (التحرر والاستقلال) التي ما انفك يناضل من أجلها، تلك التي تعني في جوهرها (الإبداع)، فالحرية والاستقلال الشرط الشارط للإبداع ، ولا يوجد إبداع دونهما. إن قراءة فؤاد زكريا النقدية لأغلب توجهات الفكر العربي، والقضايا والإشكاليات الفكرية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من بنية العقل العربي، جعلته يلح على إحلال إشكالية "الاتباع والإبداع" مكان أكبر إشكالية قتلت بحثاً على مدار القرن ( الأصالة والمعاصر)، ويرى : "إن التحدي الحقيقي الذي نواجهه ليس اختياراً بين الرجوع إلى الأصالة أو مسايرة العصر، وإنما هو إثبات (استقلالنا) إزاء الآخرين، ساء كان هؤلاء الآخرون معاصرون أم قدماء، وابتداع حلول من صنعنا نحن، تعمل حساباً لتاريخنا وواقعنا، وتكفل لنا مكاناً في عالم لا يعترف إلا بالمبدعين" ( خطاب إلى العقل العربي- ص :23. والإبداع عند فؤاد زكريا ليس تنظيراً عاجياًن بل كان سلوكاً واتجاهاً عملياً وخطة سار عليها سواء في مقالاته أو دراساته أو ترجماته، فهو يلعب دائماً على قيثارة الفكر وفايولينة الفلسفة، بأنامل الفنان وقوس المبدع، وما زال "فؤاد" ينبض. عصام عبدالله الإثنين 1 نوفمبر 1999 23/7/1420هـ / العدد 492 |