حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
بين حضارة القول وحضارة المقولة - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: عـــــــــلــــــــــوم (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=6) +--- المنتدى: فلسفة وعلم نفس (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=84) +--- الموضوع: بين حضارة القول وحضارة المقولة (/showthread.php?tid=37911) |
بين حضارة القول وحضارة المقولة - تيسير الفارس العفيشات - 07-07-2010 تيسير الفارس إذ نلح على هذا التمييز فإننا نقصد الإنسان بمطلقه وعمومه، بحاضرة ومستقبله، بوجوده ككائن يتحرك في مسار تاريخي محدد، وإذ نلح كذلك على التمييز بين حضارة وحضارة، فإننا لا نقصد المفاضلة بين حضارة أعلت من شأن الإنسان وحضارة حطت من مقامه ، بل نقصد الإنسان ذلك الكائن الذي ظل يشكل على الدوام المحور الذي تتحرك حوله الأشياء والوجود، حركة معرفة وشعور بالذات، نقصد الإنسان عندما صاغته الحضارة كمقوله وكقول، وهنا يتبدى مفهوما مغايرا للمعنى الذي ظل يشكله على مدار تاريخه القديم والحديث على السواء، إذ أصبح الإنسان ليس أكثر من رمز أو دلالة أو إشارة، وإذ كان القول لا يتعدى كونه مجازا ، فهنا تتبدى قيمة المفاهيم المغايرة التي نذهب إليها في أن الإنسان كونه إنسانا هو الوجود المرموز دائما إليه باللغة، بالقول، وبالتالي بالمجاز، ولأن المجاز هو الصيغة التي تتعدى الحقيقة و تعلو عليها، فلا معنى لستبطان الأشارات أو الملامح العامة للفكر كما تمت صياغته عبر التاريخ، ولا معنى كذلك لمفهوم النزعة الإنسانية إلا على هذا الأعتبار. الإنسان في النهاية خاضع لمفاهيم ومثل وقيم وأفكار تملكه ولا يملكها ، تجعله أسيرا لها، و للتصور الذي هو بذاته يضع حدوده، ويرسم خطوطه، ويصوغ مقولاته، ولقد بدا هذا واضحا منذ أخذ هذا الإنسان يبتكر أدوات العلم والفكر في الزمن البعيد ، لقد ضاع الإنسان في المتاهات القصية والضلال الكابية التي خلقها لذاته، و وقع في أسرشراكها. إن هذه النظرة لا تعني نسف العلوم الإنسانية من أساسها ، أو تجاوز المعارف التي أنجزها الإنسان حول نفسه، أو نبذ المقولات والمفاهيم التي صاغاها حول ذاتها فردا كان أوجماعة. وإنما تعني أن التساؤل حول هذه العلوم هو أمر مشروع ، وأن العلوم الإنسانية تتراوح بين العلوم التجريبية والفلسفة ، وأن معرفة الإنسان تبقى معلقة بين حدين الحسي والمتعالي ، المعقول واللامعقول ، ولذلك فإن نقد هذه العلوم يعني أولا إعادة دمج الإنسان بمحيطة الطبيعي والكوني ، والأعتراف بجسمانيته. وتعني أيضا مصالحة الحسي والعقلي والنوعي والعقلي والنوعي والكمي والطبيعي والإنساني ، حيث تصبح حقلا دلاليا واسعا يغطي كل المستويات للوجود من حيث مراتبه وآفاقه، فكل شيء يحيل الى كل شيء ، وفي الحقيقة الدلالة ذاتها هي احالة الشيء الى غيره ودلالة كل شيء على كل شيء ، لذا فمن خلال الدلالة ترتبط العوالم والأكوان وتتآلف العناصر والظواهر وتتكامل الأستعدادات والمواهب وتتناغم الأنفس والأرواح وإذا كان ذلك يمنح الأشياء دلالاتها ويضقي على الموجودات بهائها وجمالها ، إنه الأعتقاد بأن الكون ممتلئ بالدلالات ، وبأن كل شيء هو في النهاية رمز وبأن العبارات إشارات، كما يعني هذا أن لا معرفة للإنسان من دون بعده ، وبعده رمز وجوده وكينونته. فإلى أي حد يصبح الحديث عن غياب الإنسان في التراث أمرا ممكنا ، في حين أن العلوم الحديثة إذ تؤكد هويته تؤكد إنخلاعه ؟ وإلى أي مدى بمكن الحديث عن حصار الإنسان بين الإلهيات والطبيعيات، فيما التنقيب الحديث عن الإنسان لا يفضي بنا الى استعادته وبعثه، بل هو يفضي الى الهباء ؟ ألا يعني ذلك أن الأغلفة والأستار التي نتحدث عنها ليست إلا أوجها لا يمكن للإنسان أن يظهر إلا من خلالها ؟ فالإنسان في هذه الحضارة حاضر في كل علم، وماثلا في كل مذهب، وقابع وراء كل فكرة، كما يقول ميشال فوكو، ففي كل العلوم والمياديين يكتشف بعدا من أبعاد الإنسان، ويماط اللثام عن وجه من وجوهه ، وحقيقة من حقائقه، فلا علم مستقل للإنسان على ما يبدو، فكل ما في العالم جزء منه ، وما من شيء في الكون إلا وله أثر فيه ، ولهذا فلا نعثر على الإنسان في مبحث مستقل ، فخاصية العلوم الإنسانية أنها تتوكأ على غيرها من العلوم ، إنها تبحث عن الإنسان فيما وراء الطبيعة ، أو فيما تحتها تماما ، إنها تبحث عنه في الجنبات التي تحته فلا تجده، فترتد الى الجنبات التي فوقه لكي تعود من حيث بدأت ، فالمبتدى هو المنتهى ، والطبيعة البشرية تتأرجح بين النفس والهباء ، بين الوجود والعدم بين الملاك والشيطان بين المقدس والمدنس. إن الإلهيات في النهاية مقولات إنسانية ، والإنسان يتماهى دوما مع إبتكاراته ، لقد أثبت ذاته جوهرا مفارقا بلا طول ولا عرض ولا عمق ، وأسس وجوده على قاعدة أنا أفكرإذن أنا موجود . ولكن مهما كان مقدار الزعم والوهوم في هذا الإعتقاد، فما ينبجس في الذهن إنما هو حقيقة إنسانية، حقيقة قد تخفى بقدر ما تكشف، وتحجب بقدر ما تنبئء، وهكذا فإن التاريخ يقرأ من خلال الإنسان وصفاته وعقله ومصالحه ومقاصده واجتماعه ومصيره ومبتداه ومنتهاه، أي مجمل تاريخه لا يقرأ إلا من خلاله ، من خلال كينونته ، أي كونه موجودا. ولكن ما معنى أن يتحول الإنسان في الحضارة الحديثة الى موضوع لعلم؟ أن يصبح مبحثا مستقلا؟ أو أن يتحول إلى مقولة في الذهن ؟ فلا مقال برئي في النهاية والحقيقة ليست منزهة، بل لكل حقيقة ساستها، ولكل معرفة سلطانها ، وقيام علم حول الإنسان قد عنى استنادا الى من نظروا في علوم الإنسان ضبطه وتطويعه أو إخضاعه والتحكم به على صعيد الفرد والجماعة، فالعلم تقنية من تقنيات السيطرة . إنه استراتيجية ترمي إلى السيطرة على الأجسام والأجساد، وهو طريقة في التعامل مع الأشياء والتصرف بها بغية تسخيرها واستثمارها ، لذا العالم باخضاع مواضيعه من أفراد وجماعات للفحص والتدقيق يعمد الى ملاحظتها وتصنيفها، أو الى تشريحها وتحليلها وتفكيكها وتركيبها أو نمذجتها وتطبيعها ، وهكذا فالتقنية حولت العلم من غاية الى أداة ، وبذلك يتجه العالم الى تفجير مواضيعه لإعادة تركيبها، وفقا للنماذج المطلوبه ، وهذا الأمر لا يقتصر فقط على معالجة الأشياء وإنما يتعداه الى معالجة الإنسان ذاته ، والى معالجة الشعوب والأمم التي تفكك وترد الى ما قبل وحدتها بما يضمن إخضاعها والسيطرة عليها ، فهذا هو ما يعنيه تحول الإنسان الى مقولة مستقلة ، إنه محاولة القبض على فرادة الإنسان باحتواء خصائصه من خلال المفهوم أو الصورة ، أي بتحويله الى رقم أو حالة ، أو بالنظر إليه كقوة فيزيائية أو اقتصادية، أو بالتعامل معه ىكموضوع لنشوء دراسات أو لوضع برامج أو لرسم استراتيجيات. وبمعنى آخر إنه محاولة تطبيع الأفراد والجماعات ، فالمفهوم ينحو دوما الى احتواء الأختلاف بين الأشياء والقضاء على تباينها، إنه ينزع الى الإبقاء على ما تشابه منها، واسقاط ما تباين أي ينزع الى المماهاة، فهي المعيار الأوحد وكل ما اختلف أو تباين يعتبر انحرافا عن القاعدة، ينبغي نبذه أو نفيه ، فمع المماهاة لا وجود للمغايرة، إذ كل مغايرة هي ضرب من الشذوذ. وإذا كانت العلوم الإنسانية تهتم بفردية الإنسان، فإن لهذا الأهتمام منطقه الخفي . إنه منطق التطبيع ، فنحن نهتم بالفرد لمعرفة السوي من اللاسوي، والصحيح من المرضي ، ونهتم بأمر الجماعات لنميز بين الوحشي والمدني، أو بين المتحضر والمتخلف، وهكذا يصبح بالإمكان التمييز بين حضارتين حضارة المقولة، وحضارة القول ، ففي حضارة المقولة يخضع الناس للفحص والدرس من أجل تنظيمهم وتوظيفهم وإحتوائهم وتوحيدهم، فالإنسان الحديث موظف لا سيد ، من منا يملك السيادة على منزله، أو مؤسسته، أو على دولته على سبيل المثال؟. وفي حضارة القول يبرز التأكيد على فرادة الإنسان بإظهار أجلى خصائصه أي بإظهار ما به يستقل ويتميز عن غيره أو يتفرد به. إنه الفرق بين البرهان والبيان بين الأستدلال والحدس بين الحقيقة والمجاز. ولا يعني ذلك مرة أخرى نسف العلوم الإنسانية أو التغاضي عما وصلت إليه من حقائق، أو تجاوز المفاهيم التي عملت على بنائها، والمصطلحات التي صاغتها، ولكن ما نريد إيضاحه أن ثمة منحنيين في النظر الى الإنسان، أو لغتين في صوغه، الأولى تتجه الى تمثله عن طريق المفهوم والى تصوره كماهية ثابته، أو كمعنى مجرد، والثانية تتجه الى تحريره عن طريق القول، فتفسح المجال أمام الذات لكي تتجلى ولكي تعبر وتنطق، فهي غرف من الذاكرة ونبش للأحلام، حتى ينبسط الباطني ويطلق الغريزي وينفجر المكبوت، وفي الحقيقة هذا ما تفعله الفلسفة التنقيب عما بطن وكمن في الفكر من تصورات وماهيات عبر المقول من منطق التشابه والتماثل، بما يعني ذلك من أن حضارتنا هي حضارة القول بما هو بيان، بما هو مجاز واستعارة، أي بما هو اطلالة على الذات وتوغل في أغوار الفكر واستعادة الى الأهواء الضائعة. |