حدثت التحذيرات التالية: | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5) +--- المنتدى: المدونــــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=83) +--- الموضوع: إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام (/showthread.php?tid=38165) |
إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 07-26-2010 إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام ألف وجه لألف عام - «يوسف وإخوته» لتوماس مان: رواية أم نص تاريخي؟ ابراهيم العريس الحياة - 24/03/08// توماس مان (1875 – 1955) ليست رباعية «يوسف وإخوته» أشهر أعمال الكاتب الألماني توماس مان، هي – في نظر كثر من النقاد ومؤرخي الأدب - أقوى هذه الأعمال. لكنها في الوقت نفسه العمل الذي لم يكن احد يتوقعه من هذا الكاتب الروائي، الذي كان قبل ذلك أصدر معظم روائعه الكبرى لتدور غالبيتها في أجواء القرن العشرين. أما هذه العودة الى العصور القديمة، القرن الرابع عشر قبل الميلاد تحديداً، وإلى إعادة رواية فصول معينة من سفر التكوين، فمسألة حيرت المؤرخين كثيراً، خصوصاً ان مان كتب أجزاء الرباعية خلال ست عشرة سنة كانت الأصعب في تاريخ ألمانيا وتاريخه الشخصي، بل حتى تاريخ العالم بادئاً مع استيلاء النازيين على أذهان الشعب الألماني ثم على الحكم، منتهياً، مع بدء هزائم جيوش هتلر خلال الحرب العالمية الثانية (أي بين 1926 و 1943). ولعل أغرب ما في هذا الأمر هو أن توماس مان، كي يكتب وجهة نظره في حكاية يوسف استند الى المراجع اليهودية، في وقت كان اليهود بدأوا يعيشون حقبة اضطهاد فكري ثم جسدي طويلة تحت ربقة النازية. فهل كان هذا من صاحب «الجبل السحري» و «موت في البندقية» طريقته في الوقوف ضد النازية وفكرها في شكل موارب تماماً. أم كان الأمر مجرد مصادفة؟ بادئ ذي بدء، لا بد من الإشارة هنا الى ان «يوسف وإخوته» ليست رواية تماماً، كما انها ليست رواية تاريخية في الشكل المتعارف عليه. إنها تاريخ متصور من كاتب ذي خيال واسع، لم يضف من عنده الى التاريخ، لكنه حاول ان يعيد تفسيره، انطلاقاً من الاطلاع على كل وجهات النظر، بما فيها تلك المتناقضة كلياً في ما بينها، كما انطلاقاً من الأسطورة التي صيغت، شعبياً، من حول يوسف، ثم من الرؤى الدينية للحكاية، وصولاً الى العقلنة التاريخية التي حاولها كتّاب أرادوا أن يقرأوا حكاية يوسف على ضوء نظرة الشعوب إليها، وضمن إطار سيكولوجي – سوسيولوجي. ومن هنا أتت الرباعية حاوية لكل هذا في الوقت نفسه، مضافاً إليه المتعة المعتادة في لغة توماس مان. كما أشرنا يحدد توماس مان القرن 14 ق. م. زمناً للرواية وهو بهذا يجعل من أخناتون – الذي سيعرف لاحقاً بأبي التوحيد – فرعوناً على مصر يتخذ من يوسف حين يلجأ إليه نائباً له. ويكون يوسف بلغ الثامنة والعشرين من عمره حين وصول أخناتون الى السلطة. لكن هذا لن يحدث إلا في الجزء الثالث من الرباعية، وعنوانه «يوسف في مصر». أما الجزءان الأولان فيحملان العنوانين التاليين: «حكايات يوسف» و «يوسف يافعاً» أما الجزء الرابع والأخير فعنوانه «يوسف المعيل». من الناحية السردية، يبدو واضحاً ان توماس مان يتبع هنا التطورات الحدثية الواردة في سفر التكوين بين الفصل 27 والفصل 50، إذ ان أحداث الجزء الأول تشمل الفصول من 27 الى 36، والثاني الفصل 37 بأكمله، بينما يشمل الجزء الثالث الفصول من 38 الى 40، ويمتد الجزء الرابع من الفصل 41 الى الفصل 50. غير ان التغييرات والتبدلات الأساسية تتم داخل مجرى الأحداث وفي علاقات الشخصيات. إذ من الواضح أن ما أراد توماس مان التركيز عليه إنما هو – بحسب مفسري أعماله – سبر أغوار وضعية الأسطورة وتفسيراتها خلال الحقبة الأخيرة من عصر البرونز، وصولاً الى دراسة مدى الحقائق التاريخية التي تنطوي الأسطورة عليها، والانطلاق من هذا الأساس لدراسة بروز التوحيد. ومن هنا نرى الكاتب يربط الحكايات التي «يستعيرها» من سفر التكوين بأساطير مزامنة لها، تنتمي الى شعوب أخرى وثقافات أخرى لا علاقة لها – من الناحية المبدئية – بالعهد القديم والأديان التي جاء بها أو مهّد لها. وعلى هذا الأساس نجد توماس مان يقيم توازياً، متخيلاً، بين فكرة نزول يعقوب الى العالم السفلي وفكرة هرب ابنه يوسف الى مصر. وعلى هذا تصبح بلاد وادي النيل للابن، ما كانت عليه بلاد الرافدين للأب. وكذلك، على صعيد اصغر – ودائماً بحسب مفسري عمل توماس مان – تصبح حكاية انغلاق يوسف في البئر، موازية لحكاية عزل اينانا – عشتار وديمتري كما هو مروي في أسطورة تموز البابلية، ليخلص توماس مان من هذا معتبراً حكاية اسر اليهود في بابل، مجرد محاكاة على نطاق أوسع لكل حكايات الانغلاق والعزل هذه. في هذا الإطار، يتفق توماس مان، مع واضعي التراتبية في مسار الأنبياء والرسل، جاعلاً من ابراهيم، مؤسس الأحناف، أي الموحدين، ثم من يعقوب وريثاً له، مكلفاً بأن يتبعه في تركيز دين التوحيد. وفي هذه الحكاية نفسها، يصبح يوسف على علم بالدعوة الإبراهيمية التوحيدية. ومن هنا، إذ يصل الى مصر، وينضم الى حاشية الفرعون اخناتون يصاب بالدهشة إذ يجد هذا الأخير داعياً، بدوره، الى التوحيد، متعاطفاً مع النبي ابراهيم ودعوته. والحقيقة ان هذا الاقتراح الفكري التاريخي، لم يكن توماس مان أول من وضعه، بل سبقه الى ذلك عدد من العلماء، ومنهم فرويد، خصوصاً في كتابه «موسى والتوحيد» الذي شكل أول ربط علمي بين توحيدية اخناتون وتوحيدية ابراهيم. علماً بأن فرويد ضم الى اقتراحه فكرة أن موسى كان معاصراً لأخناتون، وهو شيء لا نراه عند توماس مان واضحاً في «يوسف وإخوته» لكنه سيرد لديه لاحقاً في رواية وضعها عام 1944. ولعل من الأمور الملفتة للنظر في رواية توماس مان هذه، ان يوسف بعدما أنقذ من البئر الذي رمي فيه، غيّر اسمه الى اوزارسيف، ملحقاً بأول هذا الأسم، أول اسم اوزيريس، ما يوحي برابط بين الاثنين يقترحه توماس ايضاً، من دون ان تكون لديه الرغبة في الذهاب بهذا الاقتراح بعيداً... أو بالأحرى، لمجرد ان يوحي بأن يوسف صار الآن في العالم السفلي كما كانت حال أوزيريس. والطريف ان هذا التبديل في الأسماء هو – بحسب مفسري رواية توماس مان – معادل لتبديل اخناتون اسمه من امنحوتب الى اخناتون. إن هذه التفسيرات كلها توحي هنا بأن توماس مان، انما سعى من هذا العمل الى إعطاء صدقية أدبية ما، للنظريات العديدة و «الغريبة» في ذلك الحين، التي كان سيغموند فرويد قد جاء بها من حول مثلث ابراهيم – اخناتون- موسى، غير ان هذه الفرضية لا تبدو لنا هنا دقيقة تماماً. الأرجح ان توماس مان، أراد في نهاية الأمر ان يكتب رواية تاريخية لا سابق لها، من دون ان يبدو على روايته انها تدنو حقاً من الشؤون الدينية أو من الشؤون العلمية – التاريخية. وفي يقيننا انه وفّق في ذلك، لأن قلة من الناس فقط، تعاملت مع رباعية «يوسف واخوته» من منطلق البحث عما اذا كان ما فيها من نقاط تاريخية أو دينية، مثبتاً تاريخياً أو لا. إذ منذ البداية استقبلت هذه الرباعية المكتوبة بلغة وأسلوب رائعين، بوصفها عملاً إبداعياً ترميزياً، أعطى الكاتب فيه لنفسه حق التصرف في الحقائق وفي التواريخ والعلاقات للوصول الى رسم صورة لزمن وفكر وشخصيات معظمها مستقى من التاريخ مباشرة، فيما أتى بعضها من مخيلة الكاتب مباشرة. ومن المعروف ان توماس مان (1875 – 1955)، كان في المقام الأول روائياً، حتى وإن كان كتب بعض النصوص السياسية والفكرية والنقدية. ذلك انه لم يكتب هذه الأخيرة إلا تحت ضغط الأحداث، مفضلاً دائماً ان يطور أفكاره وآراءه وخيالاته، في نصوص قصصية أدبية. غير ان هذا لا يمنع من القول ان ثمة بين رواياته ما يبدو في نهاية الأمر، وكأنه – بوصفه تلميذاً لغوته ونيتشه وشوبنهاور في آن معاً – مجرد تفسير لنظريات وأفكار. غير ان هذا لا يبرز إلا عند القراءة الأولى لأعمال مثل «الجبل السحري» و «د. فاوستوس» و «آل بودنبروك» و «وطونيو كروغر»... وغيرها من أعمال سرعان ما تكشف قراءتها الثانية انها لم تكن، بعد كل شيء سوى روايات من نوع ندر ان ضاهاه كتّاب آخرون في طول القرن العشرين وعرضه في مجال كتابة الرواية الفكرية ألف وجه لألف عام - من يصنع المجرم؟ سؤال فريدريك شيلر في رواية نادرة له ابراهيم العريس الحياة - 04/07/08// كان فردريك شيلر واحداً من أكبر الشعراء الألمان... وربما الأوروبيين ايضاً. وكان معروفاً ان الشعر يمثل جزءاً أساساً من كينونته. كان يقال عنه انه يأكل شعراً ويشرب شعراً. وهو كتب كل مسرحياته الكبيرة شعراً. ومن هنا لم يكن غريباً أن بيتهوفن، حين قرر ان يلحن سيمفونيته التاسعة - المعتبرة دائماً أحد أعظم الأعمال الموسيقية في تاريخ البشرية - مضيفاً الى حركتها الأخيرة إنشاداً شعرياً يقوم به الكورس، اختار من شيلر واحدة من أجمل وأقوى قصائده «نشيد الى الفرح». وبعد ذلك لم يكن مستغرباً ان أوروبا، حين اكتمل الجزء الأساس من توحيدها، وأرادت ان تجعل لنفسها نشيداً موحداً، اختارت بالتحديد تلك الأغنية التي لحنها بيتهوفن عن شيلر. ومع هذا كله ما كان في إمكان هذا الأخير، ان يكمل مساره الأدبي من دون ان يدنو من فن الرواية، ناهيك عن دنوه من فن التاريخ حين كتب سفراً يُعتمد عن حرب المئة عام. ففي الرواية كتب شيلر، خلال مرحلة من حياته روايتين قد تكونان منسيتين بعض الشيء اليوم، أشهرهما تلك التي أصدرها عام 1786، وكان بعد في السابعة والعشرين من عمره. ومهما يكن من امر علينا ألا ننسى هنا ان شيلر، الذي لم يعش سوى أربعة وأربعين سنة، كان بدأ ينشر أعماله، الشعرية والمسرحية، منذ كان في الثانية والعشرين، حيث انه ما إن بلغ الخامسة والعشرين حتى كان قد أضحى واحداً من أشهر كتّاب زمنه، لا سيما في مجال الكتابة المسرحية، إذ راحت الصالات تتلقف أعماله، تحديداً بدءاً من مسرحية «اللصوص». > إذاً، في السابعة والعشرين من عمره، نشر شيلر الرواية التي نتحدث عنها هنا وعنوانها «الرجل الذي صار مجرماً لأنه خسر شرفه». والحقيقة ان هذا هو العنوان الذي اختاره شيلر، على رغم كونه شاعراً لعمل أدبي من الواضح أنه، إذ يصل في تفسيره الى ما يقوله العنوان، كان يحتاج عنواناً أقل تفسيرية وأكثر جاذبية. ولكن شاعرية شيلر لم تمكنه من الوصول الى ذلك. ولعل السبب الأساس الذي يكمن وراء هذا الاختيار، هو ان شيلر بعد سنوات الإبداع الشعري، المسرحي وغير المسرحي، التي شهدت بروز أعماله، اراد في تلك الرواية ان يرتاح من همّ الشاعرية بعض الشيء ليكتب نصاً يستعرض فيه قدرته على التحليل الموضوعي والغوص في سيكولوجية أبطاله. ومن هنا كان هذا العنوان الذي يتسم بما يتراوح بين العلمية والموضوعية. > القصة التي بنى عليها شيلر حكايته هنا، قصة حقيقية اشتهرت في ألمانيا في ذلك الحين. وهي قصة صاحب شهرة ذاع صيته وعُرف باسم «فندقيّ الشمس»، مع انه كان لصاً معروفاً. اسم الرجل شوان وهو حوكم بعد ان قُبض عليه عام 1760. والحقيقة ان كل الوقائع التاريخية التي ترد في رواية شيلر، كانت معروفة في ذلك الزمن بحيث انه لم يسع للإتيان بأي جديد. والوقائع لم تكن - على اية حال - ما يهم شيلر. كان ما يهمه رسم دوافع ذلك اللص الشهير، وصورة العناصر التي أوصلته الى تلك الحال. ثم الأسباب التي جعلت الجمهور يتعامل معه تعامله مع بطل، لا مع لص خارج عن القانون. في اختصار، كان أول ما اراد شيلر ان يبرهن عليه في عمله هذا، هو ان الأشرار لا يكونون أشراراً بالفطرة. المجرم لا يولد مجرماً. بل ان تعامل المجتمع معه هو الذي يجعل منه ما سيصبح عليه. ولا شك في ان هذه الفكرة كانت فكرة هرطوقية في ذلك الزمن. وهرطوقيتها هذه، هي بالطبع ما جذب شيلر إليها وجعله يكرّس فترة طويلة من حياته لكتابة هذه الرواية. فما هي الحكاية؟ > تدور القصة من حول صاحب فندق - أو نزل - «الشمس» الذي سيُعرف هنا بـ «فندقيّ الشمس». فهو شخص ورث نزلاً حقيراً في منطقة غير مزدهرة. وقد ولد مشوه الخلقة، اصلاً، ما جعل الناس ينفرون منه وينصرفون عن معاشرته ضانّين عليه بالشيء الذي كان يحتاجه أكثر من أي شيء آخر: الحنان. وهو إذ أحس ذات يوم ان في وسعه ان يجد هذا الحنان لدى الصبية الحسناء جان، لا يجد منها إلا صداً يقوده الى اللصوصية السهلة. غير ان «منافسه» على قلب جان، المدعو روبير، لا يريد له - طبعاً - ان يغوي الفتاة بمآثره الجديدة، فيمكّن رجال الشرطة من القبض عليه بالجرم المشهود. فيودع السجن الذي إذ يخرج منه لاحقاً، لا يجد من المجتمع أي قبول له. يحاول جهده ان يتقرّب من جيرانه ومعارفه السابقين وأن يتودد إليهم، غير ان اياً منهم لا يريد ان يتعرف إليه. كما ان لا أحد يبدو راغباً في منحه عملاً يعتاش منه. في الوقت نفسه الذي يعبّر فيه عن أعلى درجات الحب تجاه الآخرين، لكنه في المقابل لا يحظى منهم بأية حرارة إنسانية. وأخيراً إذ يصده، بكل غلاظة طفل، كان توسل إليه بعض الطعام، يرى أنه لم يعد امامه إلا أن يسرق من جديد. وفي هذه المرة، لأنه كرر فعلته، يوضع في سجن قاس داخل قلعة حصينة. وهناك يجد نفسه مسجوناً وسط كبار اللصوص والمجرمين، لا يعود أمامه إلا أن يصبح واحداً منهم، فإذا بهؤلاء يقبلونه ويعلّمونه فنونهم. وهكذا يتحول، داخل ذلك السجن الى مجرم من العتاة. ويكون أول ما يفعله إذ يقضي هذه المرة محكوميته ويخرج، هو ان يقتل روبير ذاك الذي كان نافسه أول الأمر على قلب جان وتسبب له في ان يودع في السجن. ولأنه تمكن من قتل روبير، يصبح بسرعة زعيم عصابة لصوص قوية. غير ان ثمة دائماً، في أعماقه شعوراً يطالبه بأن يكون شيئاً آخر، وهكذا، حين تندلع حرب السبعة أعوام يتطوع جندياً فيها وكل أمله ان تنقذه الجندية من الشر والإجرام اللذين كانا من نصيبه. غير ان قادة الجيش لا يقبلون به جندياً على رغم كل إلحاحه. بل بدلاً من هذا، نراه يُعتقل من الشرطة العسكرية كمشتبه به... لكنه هذه المرة لن يعامل بالغلظة التي كان اعتاد ان يعامل بها في المرات السابقة، بل بشيء من الإنسانية، ما يخفف من غلواء مرارته وغضبه ويجعله يشعر انه، هذه المرة على الأقل، إنسان، ما يجعله يحس ايضاً ان عليه ان يسلم نفسه الى العدالة معترفاً بكل ما كان اقترفه من شرور وإجرام. وها هو الآن، أمامنا، قد فعل، ويجلس أمام القسيس راوياً له حكايته من الألف الى الياء قبل ان يلقى مصيره، الذي لم يكن ليشك انه سيكون له ذات يوم: أي الإعدام الذي حُكم به عليه... وهو حين يُعدم في نهاية الأمر لن يشعر بكثير من التعاسة. > لقد لاحظ كثر من الدارسين والنقاد ان ثمة تشابهاً كبيراً بين حكاية هذا اللص، وحكاية مايكل كولهاوس التي كتبها كليست (المسرحي والشاعر الألماني الكبير الآخر). غير ان الفارق الأساس بين ما أراد شيلر قوله، وما قاله كليست يكمن في أسلوب المعالجة والرسالة النهائية. فكليست ركّز في عمله على البعد الملحمي لشخصية اللص وعلى مغامراته، أما شيلر فإنه، ركز على الجانب السيكولوجي والاجتماعي. ومن هنا إذا كان لص كليست عومل كبطل ينال إعجاب القراء، فإن بطل شيلر عومل كإنسان نال تعاطف هؤلاء القراء. فهل كان يسعى في حياته الى شيء غير هذا؟ > ولد فردريك شيلر عام 1759، في مدينة مارباخ، ليرحل عام 1805 في فايمار. وهو كان في الرابعة عشرة حين دخل المدرسة العسكرية في شتوتغارت حيث درس الطب والحقوق. أما إطلالته على الحياة الأدبية فكانت بمسرحية «اللصوص» التي، على رغم نجاحها، لم تخلصه من مهنة الطب. غير انه لم يواصل هذه المهنة طويلاً، إذ سرعان ما نجده يغوص في الكتابة، لا سيما الكتابة للمسرح، أكثر وأكثر، في الوقت الذي اهتم فيه بالتاريخ، ثم صار استاذاً للتاريخ والفلسفة، قبل ان يلتقي غوته ويعمل معه ثم يدرس ويشتغل في المسرح في فايمار، خلال سنوات حياته الأخيرة. - «الملك لير» لشكسبير: مأساة الإنسانية في مرآة فجائعية....ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 03-12-2006 11:47 AM ألف وجه لألف عام - «الملك لير» لشكسبير: مأساة الإنسانية في مرآة فجائعية إبراهيم العريس الحياة - 11/03/06// موريس كارنوفسكي يؤدي «الملك لير» عام 1965 لا يماري أحد، بالطبع، في أن «هاملت» هي الأشهر بين مسرحيات شكسبير جميعاً، والأكثر اجتذاباً لجمهور المتفرجين حين تقدم، أو لجمهرة الدارسين والباحثين حين تكون ثمة حاجة الى البحث في علاقة الأدب بالتحليل النفسي. ونعرف أن فرويد أوصل ذلك التوجه في البحث الى غاياته، حين أعاد تفسير مسرحية شكسبير الشهيرة هذه على ضوء بحثه في أسطورة أوديب وعلاقتها بجوانية الإنسان. ومع هذا ثمة من بين النقاد والباحثين الشكسبيريين من يفضل على هاملت، عملاً آخر لشكسبير هو «الملك لير». ومن بين هؤلاء الباحث البولندي يان كوت، الذي يظل كتابه «شكسبير معاصرنا» المرجع الأفضل لقراءة مسرح شكسبير على ضوء إنسانية الفكر ودرامية التاريخ. وليان كوت هذا قول لافت يبدأ به الفصل الذي كرسه لـ «الملك لير» في كتابه المذكور إذ يكتب: «... لا ريب أن «الملك لير» ما زالت تعتبر رائعة، ازاءها تبدو حتى «ماكبث» أو «هاملت» أليفة عادية. وتشبّه «الملك لير» بـ «القداس» لباخ، أو السيمفونيتين الخامسة والتاسعة لبيتهوفن، أو «بارسيفال» لفاغنر، أو «يوم الدينونة» لمايكل أنجلو، أو «المطهر» أو «الجحيم» لدانتي... إلا أن «الملك لير» في الوقت نفسه توحي للمرء بأنها جبل شامخ يعجب به الجميع، ولكن ما من أحد يتمنى تسلقه...». والحقيقة ان كثراً يشاركون كوت رأيه هذا، حتى وإن بدت لهم المسرحية شديدة التعقيد في أحداثها، وتبدلات تلك الأحداث، شديدة الالتباس في استنتاجها الأخلاقي... وهو أمر لا يقرّ به كوت... ولكن يجمع عليه شكسبيريون آخرون. > منذ البداية لا بد هنا من الإشارة الى أن «الملك لير» التي تبدو في معظم جوانبها، وكأنها حكاية من حكايات الأخوة غريم ذات الهدف الوعظي الاخلاقي، والمقتربة جداً – مثلاً – من حكاية «سندريلا» الخرافية، هي في الأصل حكاية حقيقية، حدث ما يشبهها تماماً، في انكلترا العصور القديمة. وشكسبير لم يبتدع أحداثها، ولا القسم الأساس من شخصياتها. ربما يكون قد جمع شخصيات لم تجتمع حقاً في التاريخ، وربما يكون ضافر أحداثاً مع أحداث أخرى، لكن الأساس حقيقي، مثلما هي الحال بالنسبة الى معظم كما كتب شاعر الانكليز الكبير. وفي العادة، يحصي الباحثون عشرات المراجع والكتب، التاريخية والخيالية، التي يمكن القارئ أن يعثر فيها على أصول تلك الحكاية. بل انهم يذكرون أيضاً مسرحية تحمل الاسم نفسه «فاجعة الملك لير» لمؤلف مجهول طبعت أيام شكسبير وقرأها. ولكن لا بد من القول هنا وفوراً، إن الحكاية الأصلية تحولت على يدي شكسبير الى شيء آخر تماماً... وحسب المرء أن يقارن بين نص شكسبير، وبين نصين، على الأقل، للحكاية نفسها يمكن العثور عليهما في «ديكاميرون» بوكاشيو أو في كتاب «ملك الجن» لإدموند سبنسر، ليكتشف ليس «سر الصنعة» لدى شكسبير، بل سر الأدب ككل... وكيف يمكن هذا الأدب أن يستولي على نص سابق ليشتغل اليه محولاً إياه الى مأثرة فكرية وإبداعية نادرة. > ومن هنا فإن أي تلخيص لـ «الملك لير» الشكسبيرية، لن يكون من شأنه إلا أن يقربها من النصوص السابقة عليها... لأن السر هنا في التفاصيل لا في الأحداث، في الكيفية التي ينعكس بها كل حدث من الأحداث على المشاركين فيه. علماً أن الأحداث هنا بالغة التعقيد وتتجاوز ذلك الوصف الذي توصف به، عادة، المسرحية من أنها حكاية أب وبناته الثلاث، حكاية الجمود والتواضع، الظلم والأسى... وسقوط الانسان من شاهق في شكل مجاني. ان كل هذا موجود في «الملك لير» ولكن ليس على مثل هذا الوضوح، ولا في مثل هذه البساطة. ولعل في إمكان يان كوت هنا ان يوضح لنا بعض الأمور ولكن ليس من خلال «لير» أو بناته، أو منافسيه أو أصهرته أو حتى مأساته، بل من خلال «البهلول» تلك الشخصية التي إذ تكون أساسية في الفصلين الأولين، تختفي في الثالث، وذلك بكل بساطة، لأن الملك نفسه في عز مأساته صار بهلولاً، ولا تحتاج المسرحية لبهلولين ومفتاح هذا – كما يقول كوت – ان «البهلول الذي اعترف بأنه بهلول، ورضي بأنه مجرد مضحك في خدمة الأمير، يبطل ان يكون مهرجاً. غير ان فلسفة المهرج مبنية على فرضية ان كل امرئ في الدنيا بهلول، وأعظم البهاليل هو ذاك الذي لا يعلم انه بهلول: انه السيد نفسه هنا». > تبدأ مسرحية «الملك لير» بملك بريطانيا العظمى، في زمن غير محدد، وقد أضحى عجوزاً غير متماسك محاطاً ببناته الثلاث غونيريا دوقة آلباني، ريغان دوقة كونواي وكورديليا التي يتقدم الى خطبتها كل من ملك فرنسا ودوق بورغونيا. ذات يوم يقرر الأب ان يوزع مملكته بين بناته، فيستدعيهن ويطرح عليهن سؤالاً واحداً تكون حصة كل واحدة منهن من الأرض، متناسبة مع حسن جوابها عليه. والسؤال بسيط: كم مقدار الحب الذي تكنه كل واحدة منهن لأبيها؟ تحتج هنا الابنتان غونيريا وريغان... هل يجوز طرح مثل هذا السؤال؟ ان حب كل واحدة منهن لأبيها يتجاوز كل الحدود. فتنال كل واحدة منهن ثلث المملكة. أما كورديليا، الأكثر بساطة وتواضعاً فتجيب أنها تحب أباها حين تدعو الحاجة الى ذلك. ويغضب الأب، حارماً كورديليا من الأرض الباقية التي يوزعها على غونيريا وريغان... وتكون نتيجة ذلك أن ينسحب دوق بورغوني من طلب يد الأميرة الحسناء... أما ملك فرنسا فيقبل بها شرط أن يأخذها من دون مهر. وعلى هذا النحو يبدأ رحلة سقوط كورديليا من جراء موقفها البسيط الواضح. لكن السقوط الأكبر سيكون سقوط الملك لير، الذي – حين أقدم على ما فعل – لم يكن مدركاً أنه سيصبح ملكاً بالاسم وان ابنتيه المكافأتين ستضنان عليه حتى بالفرسان المئة الذين كان طلب من كل منهن تزويده بهم في مقابل حصتها من المملكة...انطلاقاً من هنا تتعقد الأحداث، وتتقاطع الشخصيات، تسود المعارك وضروب التنافس، ولا يجد الملك إذ أضحى ضريراً، فقيراً، شريداً بائساً، سوى كورديليا تأخذ بيده وتؤويه... هو الذي سرعان ما يصبح بؤسه صورة لبؤس الإنسانية كلها وكناية عن العبارة التي نسمعها من إدغار (ابن دوق غلوسستر المصاب بدوره بالجحود والفاقد هو الآخر كل كينونته ومكانه، بالتوازي مع حال الملك لير) مخاطباً إياه: «ان على البشر أن يعانوا خلال رحيلهم عن هذه الحياة الدنيا بقدر ما عانوا خلال مجيئهم اليها: والمهم هو أن يكونوا دوماً مستعدين لهذا». و «ويل للذين يغدر بهم الزمن من دون أن يكونوا مستعدين!». يبدو شكسبير وكأنه يقول لنا هذا، بوصفه الحكمة الحقيقية الوحيدة التي نخلص بها من هذه المسرحية التي تبدأ بمملكة واقتسامها، لتنتهي بأربعة متشردين هائمين على وجوههم في أرض جرداء وسط عواصف الداخل والخارج. هذه العواصف التي ليست في حقيقة أمرها سوى صورة حقيقية لـ «عالمنا الحزين»، إذ تعصف آخذة الملك لير وحياته وكرامته في طريقنا، فتجد الإنسانية كلها نفسها أمام مرآة حقيقية تصنعها لها، بقسوة ومرارة، عبارات الملك لير المعبرة عن مأساته. > تنتمي «الملك لير» الى مرحلة ذروة النضج في مسار ويليام شكسبير (1564 – 1616) المهني، مع ان ليس في وسع أحد أن يحدد ما إذا كانت كتبت قبل «ماكبث» أو بعدها... علماً أن العملين يتكاملان. مهما يكن فإن أكثر الترجيحات تميل الى أن شكسبير كتبها بين العامين 1605 – 1606، وانها قدمت للمرة الأولى في 1606 ثم كانت طباعتها للمرة الأولى في العام 1608... ولقد أثارت «الملك لير» دائماً إعجاباً وسجالاً كبيرين، ووضعت في مكانة متقدمة بين «تراجيديات شكسبير الكبرى» مثل «هاملت» و «عطيل» و «ماكبث» و «تيمون الاثيني». ألف وجه لألف عام - «الملك لير» لشكسبير: مأساة الإنسانية في مرآة فجائعية إبراهيم العريس الحياة - 11/03/06// موريس كارنوفسكي يؤدي «الملك لير» عام 1965 موريس كارنوفسكي يؤدي «الملك لير» عام 1965 لا يماري أحد، بالطبع، في أن «هاملت» هي الأشهر بين مسرحيات شكسبير جميعاً، والأكثر اجتذاباً لجمهور المتفرجين حين تقدم، أو لجمهرة الدارسين والباحثين حين تكون ثمة حاجة الى البحث في علاقة الأدب بالتحليل النفسي. ونعرف أن فرويد أوصل ذلك التوجه في البحث الى غاياته، حين أعاد تفسير مسرحية شكسبير الشهيرة هذه على ضوء بحثه في أسطورة أوديب وعلاقتها بجوانية الإنسان. ومع هذا ثمة من بين النقاد والباحثين الشكسبيريين من يفضل على هاملت، عملاً آخر لشكسبير هو «الملك لير». ومن بين هؤلاء الباحث البولندي يان كوت، الذي يظل كتابه «شكسبير معاصرنا» المرجع الأفضل لقراءة مسرح شكسبير على ضوء إنسانية الفكر ودرامية التاريخ. وليان كوت هذا قول لافت يبدأ به الفصل الذي كرسه لـ «الملك لير» في كتابه المذكور إذ يكتب: «... لا ريب أن «الملك لير» ما زالت تعتبر رائعة، ازاءها تبدو حتى «ماكبث» أو «هاملت» أليفة عادية. وتشبّه «الملك لير» بـ «القداس» لباخ، أو السيمفونيتين الخامسة والتاسعة لبيتهوفن، أو «بارسيفال» لفاغنر، أو «يوم الدينونة» لمايكل أنجلو، أو «المطهر» أو «الجحيم» لدانتي... إلا أن «الملك لير» في الوقت نفسه توحي للمرء بأنها جبل شامخ يعجب به الجميع، ولكن ما من أحد يتمنى تسلقه...». والحقيقة ان كثراً يشاركون كوت رأيه هذا، حتى وإن بدت لهم المسرحية شديدة التعقيد في أحداثها، وتبدلات تلك الأحداث، شديدة الالتباس في استنتاجها الأخلاقي... وهو أمر لا يقرّ به كوت... ولكن يجمع عليه شكسبيريون آخرون. > منذ البداية لا بد هنا من الإشارة الى أن «الملك لير» التي تبدو في معظم جوانبها، وكأنها حكاية من حكايات الأخوة غريم ذات الهدف الوعظي الاخلاقي، والمقتربة جداً – مثلاً – من حكاية «سندريلا» الخرافية، هي في الأصل حكاية حقيقية، حدث ما يشبهها تماماً، في انكلترا العصور القديمة. وشكسبير لم يبتدع أحداثها، ولا القسم الأساس من شخصياتها. ربما يكون قد جمع شخصيات لم تجتمع حقاً في التاريخ، وربما يكون ضافر أحداثاً مع أحداث أخرى، لكن الأساس حقيقي، مثلما هي الحال بالنسبة الى معظم كما كتب شاعر الانكليز الكبير. وفي العادة، يحصي الباحثون عشرات المراجع والكتب، التاريخية والخيالية، التي يمكن القارئ أن يعثر فيها على أصول تلك الحكاية. بل انهم يذكرون أيضاً مسرحية تحمل الاسم نفسه «فاجعة الملك لير» لمؤلف مجهول طبعت أيام شكسبير وقرأها. ولكن لا بد من القول هنا وفوراً، إن الحكاية الأصلية تحولت على يدي شكسبير الى شيء آخر تماماً... وحسب المرء أن يقارن بين نص شكسبير، وبين نصين، على الأقل، للحكاية نفسها يمكن العثور عليهما في «ديكاميرون» بوكاشيو أو في كتاب «ملك الجن» لإدموند سبنسر، ليكتشف ليس «سر الصنعة» لدى شكسبير، بل سر الأدب ككل... وكيف يمكن هذا الأدب أن يستولي على نص سابق ليشتغل اليه محولاً إياه الى مأثرة فكرية وإبداعية نادرة. > ومن هنا فإن أي تلخيص لـ «الملك لير» الشكسبيرية، لن يكون من شأنه إلا أن يقربها من النصوص السابقة عليها... لأن السر هنا في التفاصيل لا في الأحداث، في الكيفية التي ينعكس بها كل حدث من الأحداث على المشاركين فيه. علماً أن الأحداث هنا بالغة التعقيد وتتجاوز ذلك الوصف الذي توصف به، عادة، المسرحية من أنها حكاية أب وبناته الثلاث، حكاية الجمود والتواضع، الظلم والأسى... وسقوط الانسان من شاهق في شكل مجاني. ان كل هذا موجود في «الملك لير» ولكن ليس على مثل هذا الوضوح، ولا في مثل هذه البساطة. ولعل في إمكان يان كوت هنا ان يوضح لنا بعض الأمور ولكن ليس من خلال «لير» أو بناته، أو منافسيه أو أصهرته أو حتى مأساته، بل من خلال «البهلول» تلك الشخصية التي إذ تكون أساسية في الفصلين الأولين، تختفي في الثالث، وذلك بكل بساطة، لأن الملك نفسه في عز مأساته صار بهلولاً، ولا تحتاج المسرحية لبهلولين ومفتاح هذا – كما يقول كوت – ان «البهلول الذي اعترف بأنه بهلول، ورضي بأنه مجرد مضحك في خدمة الأمير، يبطل ان يكون مهرجاً. غير ان فلسفة المهرج مبنية على فرضية ان كل امرئ في الدنيا بهلول، وأعظم البهاليل هو ذاك الذي لا يعلم انه بهلول: انه السيد نفسه هنا». > تبدأ مسرحية «الملك لير» بملك بريطانيا العظمى، في زمن غير محدد، وقد أضحى عجوزاً غير متماسك محاطاً ببناته الثلاث غونيريا دوقة آلباني، ريغان دوقة كونواي وكورديليا التي يتقدم الى خطبتها كل من ملك فرنسا ودوق بورغونيا. ذات يوم يقرر الأب ان يوزع مملكته بين بناته، فيستدعيهن ويطرح عليهن سؤالاً واحداً تكون حصة كل واحدة منهن من الأرض، متناسبة مع حسن جوابها عليه. والسؤال بسيط: كم مقدار الحب الذي تكنه كل واحدة منهن لأبيها؟ تحتج هنا الابنتان غونيريا وريغان... هل يجوز طرح مثل هذا السؤال؟ ان حب كل واحدة منهن لأبيها يتجاوز كل الحدود. فتنال كل واحدة منهن ثلث المملكة. أما كورديليا، الأكثر بساطة وتواضعاً فتجيب أنها تحب أباها حين تدعو الحاجة الى ذلك. ويغضب الأب، حارماً كورديليا من الأرض الباقية التي يوزعها على غونيريا وريغان... وتكون نتيجة ذلك أن ينسحب دوق بورغوني من طلب يد الأميرة الحسناء... أما ملك فرنسا فيقبل بها شرط أن يأخذها من دون مهر. وعلى هذا النحو يبدأ رحلة سقوط كورديليا من جراء موقفها البسيط الواضح. لكن السقوط الأكبر سيكون سقوط الملك لير، الذي – حين أقدم على ما فعل – لم يكن مدركاً أنه سيصبح ملكاً بالاسم وان ابنتيه المكافأتين ستضنان عليه حتى بالفرسان المئة الذين كان طلب من كل منهن تزويده بهم في مقابل حصتها من المملكة...انطلاقاً من هنا تتعقد الأحداث، وتتقاطع الشخصيات، تسود المعارك وضروب التنافس، ولا يجد الملك إذ أضحى ضريراً، فقيراً، شريداً بائساً، سوى كورديليا تأخذ بيده وتؤويه... هو الذي سرعان ما يصبح بؤسه صورة لبؤس الإنسانية كلها وكناية عن العبارة التي نسمعها من إدغار (ابن دوق غلوسستر المصاب بدوره بالجحود والفاقد هو الآخر كل كينونته ومكانه، بالتوازي مع حال الملك لير) مخاطباً إياه: «ان على البشر أن يعانوا خلال رحيلهم عن هذه الحياة الدنيا بقدر ما عانوا خلال مجيئهم اليها: والمهم هو أن يكونوا دوماً مستعدين لهذا». و «ويل للذين يغدر بهم الزمن من دون أن يكونوا مستعدين!». يبدو شكسبير وكأنه يقول لنا هذا، بوصفه الحكمة الحقيقية الوحيدة التي نخلص بها من هذه المسرحية التي تبدأ بمملكة واقتسامها، لتنتهي بأربعة متشردين هائمين على وجوههم في أرض جرداء وسط عواصف الداخل والخارج. هذه العواصف التي ليست في حقيقة أمرها سوى صورة حقيقية لـ «عالمنا الحزين»، إذ تعصف آخذة الملك لير وحياته وكرامته في طريقنا، فتجد الإنسانية كلها نفسها أمام مرآة حقيقية تصنعها لها، بقسوة ومرارة، عبارات الملك لير المعبرة عن مأساته. > تنتمي «الملك لير» الى مرحلة ذروة النضج في مسار ويليام شكسبير (1564 – 1616) المهني، مع ان ليس في وسع أحد أن يحدد ما إذا كانت كتبت قبل «ماكبث» أو بعدها... علماً أن العملين يتكاملان. مهما يكن فإن أكثر الترجيحات تميل الى أن شكسبير كتبها بين العامين 1605 – 1606، وانها قدمت للمرة الأولى في 1606 ثم كانت طباعتها للمرة الأولى في العام 1608... ولقد أثارت «الملك لير» دائماً إعجاباً وسجالاً كبيرين، ووضعت في مكانة متقدمة بين «تراجيديات شكسبير الكبرى» مثل «هاملت» و «عطيل» و «ماكبث» و «تيمون الاثيني». ألف وجه لألف عام - «حياتي» لريتشارد فاغنر: أربعة أجزاء تبرر فكراً وتروي مسيرة ابراهيم العريس ريتشارد فاغنـر كان ريتشارد فاغنر، بكل تأكيد، واحداً من كبار الموسيقيين الذين أنجبتهم الثقافة الانمائية في تاريخها. وهو في هذا الاطار كان واحداً من كبار مبدعي فن الأوبرا في العالم كله خلال القرن التاسع عشر. غير ان عقلاً مركباً ومتمرداً مثل عقل صاحب «لوهنغرين» و «أساطين الغناء»، ما كان في امكانه أبداً أن يكتفي بأن يكون موسيقياً، مهما بلغت درجة ابداعه في هذا الفن. كذلك ما كان في امكانه أن يكتفي بأن يكتب مواضيع الأوبرات التي لحنها، وأشعارها. فهو، لأنه نال في حياته ثقافة رفيعة، وصادق كبار الفلاسفة والروائيين والمفكرين، وكان صاحب أفكار ثورية في السياسة والفكر، كما في الموسيقى والشعر، ولأنه، لاحقاً، سيصبح من أقرب المقربين الى الفيلسوف نيتشه، من ناحية، ومن ناحية أخرى الى الحاكم المتنور لودفيغ، ملك بافاريا، كان في مقدوره أن يتطلع دائماً حتى الى ما يتجاوز قدراته الآنية، بغية بناء قدرات مستقبلية يؤهله اليها استعداده. ومن هنا نجد له، الى مؤلفاته الموسيقية ذات المستوى الاستثنائي غالباً، مؤلفات فكرية وكتباً في السياسة وفي نظريات الفن، استقى معظمها من تجاربه الفكرية الشخصية، وبعضها من غوصه العميق في دراسة التراث الشعبي الجرماني، وبعضها الثالث من نضالاته السياسية التقدمية التي ضحّى في سبيلها بالكثير. غير أن أياً من تلك الأعمال، ولا حتى الأوبرات والقطع الموسيقية الأقل استعراضية التي وضعها فاغنر، لم يتمكن من أن ينهل تماماً من تجربته الحياتية الشخصية، اذ ان فاغنر، الذي راحت عشرات الكتب والدراسات تسرد فصول حياته وعلاقاته وانعطافاته الحميمة الىتقلباته في تلك العلاقات، كان هو، خلال مرحلة متأخرة من حياته، يميل الى التكتم حول الكثير من تلك الحياة، وكأنه تبعاً لعادة جرمانية عريقة، كان يريد أن يقول ان المرء انما هو افكاره وانجازاته، أما خصائص حياته فليست على تلك الأهمية التي قد تعتقدها أقوام أخرى. ومع هذا حدث لريتشارد فاغنر، ذات حقبة من عمره أن أحس، أخيراً، الحاجة الى أن يكتب عن نفسه، أن يؤرخ لحياته. وكان ذلك بدءاً من العام الذي بلغ فيه الخامسة والسبعين من عمره شاعراً أن سنواته باتت معدودة وان عليه هو أن يقوم بالمهمة، خوفاً من أن يقوم بها آخرون قد يشوهونها. وعلى هذا النحو، صدر في العام 1870، الجزء الأول من سلسلة من أربعة مجلدات ضخمة حملت كلها عنوان «حياتي» وتوقيع ريتشارد فاغنر. وقد تواصل نشر بقية الأجزاء حتى العام 1874، بحيث اكتمل الكتاب الذي سيقال لاحقاً على أية حال، ان فاغنر كان بدأ الاشتغال عليه، بتكتم، منذ ما قبل ذلك بأعوام. اذاً، وكعادته في تضخيم كل شيء انطلاقاً من حسّ عظيم كان مواكباً لشخصيته دائماً، لم يكتف فاغنر بأن يسرد حياته في كتاب، بل جعلها مسرودة في أربعة كتب، فمن يمكنه أن يزايد عليه في هذا المجال؟ ان فاغنر، منذ تقديمه الجزء الأول من كتاب حياته الضخم هذا، يعلمنا بأنه انما استند في صياغته الى عدد كبير من الصفحات والمدونات، التي كان بدأ يخطها في شكل منتظم منذ العام 1835، أي منذ كان في الثانية والعشرين من عمره، هو الذي منذ ذلك الوقت المبكر كان يعلم علم اليقين أنه سيصبح «شيئاً ما» ويصبح اسمه ملء السمع والبصر عما قريب – كما يقول لنا نيتشه في كناية لاحقة عن فاغنر -. أما هذا الأخير نفسه فإنه يفيدنا، أمام دهشة كثر، أن أول نص في السيرة الذاتية كتبه يعود الى العام 1842 حين لم يكن قد صار، بعد، المؤلف الموسيقي الكبير الذي نعرف. ومع هذا نراه يرسم في ذلك النص الأولي صورة «لمساره المهني العظيم». والحال أن هذا النص والمدونات التي سبقته لم تكن أول ما دبجه في هذا المجال، صاحب «بارسينال»، اذ انه كان ومنذ سن المراهقة يحمل كل الرسائل التي يبعث بها الى آخرين، فقرات عن حياته وأفكاره، ناهيك بفقرات أخرى كان يكتبها هنا وهناك. والواقع أن فاغنر عاد واستعمل تلك النصوص كلها في «حياتي». غير ان ما بات من الضروري قوله الآن هو أن فاغنر، لم يكن يريد لـ «حياتي» أن يطبع وينتشر بين عموم القراء الا بعد موته. ومن هنا فإن الطبعة الأولى للأجزاء الأربعة، والتي نحن في صددها هنا، انما صدرت اول الأمر في مدينة بال السويسرية، في طبعة على حساب المؤلف، محدودة النسخ: 18 نسخة لا أكثر. لقد تعمد فاغنر هذا لمجرد أنه كان يخشى للمخطوطة الأصلية أن تضيع، فأصدر تلك الطبعة الأولى لدى الناشر السويسري الذي جعله يقسم على أن يحتفظ بالحكاية كلها، سراً متعهداً بألا يصدر طبعة عامة الا بعد رحيل الموسيقي. وهذا ما حدث بالفعل، اذ ان النسخ المطبوعة احتفظ بها في خزائن العائلة لتصدر مكتملة بالفعل بعد موت فاغنر. مهما يكن من أمر، فإن هذا الاختيار لم يكن لا عن تعمد للغموض ولا عن نزوة... بل لأن فاغنر، انما كان يرغب في أن يُقرأ كتابه خارج اطار وجوده الشخصي والقدرة على مراجعته فيه، كذلك كان يريد أن يحترم الأشخاص الذين يذكرهم، بالأسماء في أجزاء كتابه، لأنه لم يكن ليريد أن يساء فهم ما يقوله عنهم، أو الاساءة الى سمعتهم، في حياته أو حياتهم. والمهم، في هذا كله هو ان فاغنر يروي هنا أحداث حياته بقدر كبير من البساطة والوضوح، في صفحات قد يخيل للمرء أمام بساطتها وهدوئها، ان من المستحيل أن يكون فاغنر كاتبها، وهو الذي اتسمت حياته دائماً بالصخب، وافكاره بالتعقيد وعواطفه بالجموح. اذ، من أين له الآن، كل هذه الرزانة، بل كل هذه الموضوعية التي يمكن أن تلحظ في الكتاب جزءاً بعد جزء وفصلاً بعد فصل، اسلوبياً، يتخلى فاغنر هنا، كما يقول كاتبو سيرة حياته من الذين اعتمدوا على هذه السيرة الذاتية، يتخلى عن كل تجريد، ليبدو على التوالي جاداً، مقداماً، متأملاً وربما حتى طيباً مع الآخرين... واصلاً الى حد التماهي التام مع الأحداث الكثيرة التي يروي لنا كيف مرت به وكيف مرّ بها، وظل على رغمها، حياً وحيوياً ومبدعاً خلاقاً، ففاغنر، وكما نعرف، لم يعش حياة مستقيمة محترمة دائماً، هو الذي – كما يقول بنفسه – كان يحدث له أن يكون اليوم قائد أوركسترا بائساً في مسرح ريفي، ليصبح غداً موسيقياً يكاد يموت من الجوع في باريس... ثم يجد نفسه معلماً في كاتدرائية في درسدن قبل أن يتحول بسرعة الى موسيقي وقائد أوركسترالي في بلاط ملك ساكسونيا، ولئن كنا نراه صديقاً للأمراء والملوك حيناً، فإننا لن ندهش إن رأيناه في اليوم التالي منفياً مشرداً... تفلت من الانتحار في اللحظة الأخيرة، ليجد نفسه سيداً محترماً في بلاط الأمير. ثم ينتقل من حياة عزلة مرعبة في تريبخن، الى مهندس يقوم ببناء مسرح في بايروت، وقد عاد من جديد ليصبح خليل الملوك والأمراء ونجيّيهم. ان هذا كله يرويه ريتشارد فاغنر (1813 – 1883) في هذا الكتاب الضخم... ولكن الأهم منه أنه يروي لنا في الكتاب حكاية ولادة كل عمل من أعماله ولا سيما الكبيرة منها، بحيث انه، منذ صدور الكتاب وانتشاره، لم يعد من المنطقي الحديث عن أوبرات فاغنر وعن موسيقاه لأي باحث لم يقم بقراءة «حياتي» قبل أن يشرع في أية كتابة عن صاحب «حياتي». ريتشارد فاغنر. عن " الحياة " دانتي// قصيدة سيمفونية لليست//ألف وجه لألف عام: وصولاً الى سمو الروح دانتي// قصيدة سيمفونية لليست// ألف وجه لألف عام: وصولاً الى سمو الروح منذ ازمان موغلة في البعد، تغري «الكوميديا الالهية{ لشاعر ايطاليا النهضوي دانتي، كبار الفنانين والادباء بالاقتراب منها، استيحاءً او محاكاة، او حتى في محاولات لترجمتها الى اصناف اخرى من الفنون. ومن المعروف ان الفن التشكيلي، منذ عصر النهضة وصولاً الى دوريه في القرن التاسع عشر، وسلفادور دالتي في القرن العشرين، جرب حظه مع «الكوميديا{ ونجح، على عكس فنون اخرى لم يحالفها التوفيق نفسه. ومرد ذلك بالطبع، صعوبة الدنو من عمل يستغرق مئات الصفحات وتنفرد احداثه في تلك الاماكن البعيدة البعيدة، ويكاد يكون بعده الجواني اكثر ثراء من بعده البراني. ومن هنا ظلت «الكوميديا{، مثلاً، عصية على المسرح وعلى الاوبرا، ثم، في ازمان اقرب الينا، عصية على السينما. غير ان الموسيقى الاوركسترالية، لا المسرحية/ الاوبرالية، لم تجابه بتلك الصعوبة نفسها، ومع هذا كان نادراً جداً اقتراب هذا الفن التجريدي الخالص، من عوالم الماوراء الدانتية. وحده المجري فرانز ليست حقق، الى حد علمنا، ذلك الاختراق، واضعاً عملاً كبيراً، من الغريب انه يكاد يبدو اليوم منسياً الى حد ما. وربما يعود هذا النسيان الجزئي الى غلبة اعمال اقل كلاسيكية واكثر شعبية وربما فولكلورية ايضاً على «ريبرتوار{ صاحب «الرابسودية الهنغارية.{ على رغم هذا، كان عمل ليست المقتبس من «الكوميديا الالهية{ هو نتاجه الاشهر خلال النصف الثاني من اربعينات القرن التاسع عشر، حين تجاوز المؤلف بداياته الخجولة بعض الشيء، ليلج مصاف الكبار. وبالنسبة اليه، حينها، لم يكن ذلك الولوج ممكناً من دون الاستناد الى كبار آخرين حقيقيين. وهكذا ما ان وجد في طريقه عملين ادبيين كبيرين يعتبران من شوامخ النصوص الاوروبية، حتى اندفع نحوهما دون وجل أو تردد. حدث ذلك اواسط الاربعينات من ذلك القرن، اذاً، وكان ليست بالكاد تجاوز الثلاثين من عمره... لكنه لن يقدم على التنفيذ الفعلي للعملين المرتبطين بالنصين المذكورين، الا بعد ذلك بعشرة اعوام حين كانت عدته الفنية والتقنية قد اكتملت و... حسناً فعل. العملان المعنيان هنا، هما «الكوميديا الالهية{ لدانتي، كما اشرنا، ثم «فاوست{ لغوته. وكان لافتاً ان العملين يتسمان معاً، بطابع تأملي فلسفي وربما ميتافيزيقي ايضاً، ما شكل، في الوقت نفسه، تحدياً للموسيقي، وعونا له ايضاً، طالما ان الموسيقى في ذلك العصر الذي غلبته الرومانسية كانت، ايضاً، مكاناً يمكن للأبعاد الروحية ان تتجلى فيه. فهل كان يمكن للروح ان تجد لنفسها تجلياً اروع مما يتيحه لها نص غوته، ونص دانتي؟ هكذا، اذاً، انطلق ليست في تأليفه الموسيقي المستوحى من العملين، واذا كنا هنا سنتوقف فقط عند «الكوميديا الالهية{، فان هذا لا يعني عدم وجود تواصل وتشابه - جوّاني - على الاقل بين العملين. كل ما في الامر اننا نتحدث عن الكوميديا الالهية، لأن «فاوست{ غوته يستأهل حديثاً مستقلاً آخر. والعمل الذي استوحاه فرانز ليست من رائعة دانتي، اطلق عليه موسيقياً اسم «دانتي - سيمفونية{، وهو جاء في نهاية الامر على شكل قصيدة سيفونية، اعتبرت دائماً - وايضاً - الى جانب «فاوست{ ابرز عملين طبق فيهما فرانز ليست نظريات موسيقية كان اعلنها، مركزاً على الملاءمة فيها بين رومانسية متخمة بالابعاد الروحية وكلاسيكية تحاول ان تدنو من الواقع والحياة نفسيهما. والحال ان نقاداً كثراً رأوا في العملين، وربما خصوصاً في «دانتي - سيمفونية{ مبالغة في التطبيق للنظرية يضع العمل ككل في خانة شبه اكاديمية، غير ان الجمهور العريض الذي احتفل بهذا العمل واحبه منذ البداية كان له رأي آخر: رأى في العمل تحفة من طراز نادر. وهو ما عاد النقاد والمؤرخون ليؤكدوا عليه بعد نسيان طويل. منذ البداية كان ليست مدركاً للصعوبات التي تمثلها الترجمة الموسيقية لعمل من طراز «الكوميديا الالهية{، حتى وان كان المنطق يفرض عليه بالطبع، ان يكتفي بالتعاطي مع فصول قليلة ومحدودة من ذلك العمل الفسيح. ومن هنا نراه يحاول هنا، بدلاً من التحقيب، خوض لعبة توليف واضحة بين المواقف والفصول تختصر النص ومساره، لتتوقف عند ما هو اساسي. وعلى هذا النحو، قسم ليست القصيدة السيمفونية هذه الى ثلاثة اجزاء، سندرك لاحقاً، ان الاثنين الاخيرين منها، مرتبطان ببعضهما بعضاً. اما الجزء الاول، ويحمل طبعاً عنوان «الجحيم{، فانه لحّن على شكل ثلاثية، تبدأ بمقدمة هي اشبه بمدخل الى العمل ككل، أتى قوياً ومفعماً بالبعد الدرامي، انطلاقاً من استخدام كلي الحضور، للآلات النحاسية التي حددت «التيمة{ الاساسية للعمل. وبعد ذلك المدخل تتحول الموسيقى الى بعد غنائي عاطفي يجسد امامنا حكاية الغرام بين باولو وفرانشسكا، قبل ان تنتقل بعد ذلك وفي شكل عاصف الى خاتمة ذلك القسم المثلث. بعد «الجحيم{ يأتي فصل «المطهر{ بالطبع... وهنا بدا من الواضح ان ليست يريد ان يلج استراحة معينة يصور فيها هدوء الارواح وقد ادركت انها باتت شديدة القرب من ابواب الفردوس. وأن لا شيء يمكنه منذ تلك اللحظة العودة بها الى الجحيم... وهكذا يبدأ هذا القسم بلحن رزين يقدم خصوصاً طريق آلات النفخ (الكورات، والاوبوا، مع اطلالات للكلارينات اتت دائماً ممهدة لتدخل الآلات الوترية). والحال ان هذا التدخل كان بدوره لفسح المجال امام ألحان شديدة العذوبة والهدوء تغرق السامع في احلام ما ورائية مدهشة... واذا كانت هذه الالحان تتزامن وتتقاطع متعددة، فان لحناً واحداً منها سرعان ما يتجلى وحيداً مؤكداً ذاته وحضوره على حساب الالحان الاخرى. وهذا اللحن هو المسمى «ماغنيفيكات{ والذي يتسم بطابع ديني احياناً، ويستخدم كثيراً في الاوراتوريو. اما هنا فانه، سرعان ما يسمح بظهور الكورس من دون سابق انذار ليندغم نشيد هذا الكورس في البعد السيمفوني اللاجئ الى دمج الآلات كلها في بوتقة لحنية واحدة. وهذا يمهد بالطبع للقسم الاخير من العمل حيث تبدو الموسيقى اكثر هدوءاً وجلالاً ما يختتم العمل كله على آفاق وجدانية روحية تذكر بأجمل ألحان باخ الدينية. اذا كان ليست، في بعض اعماله، قد توجه الى الادب يستلهمه، فان هذا يجب ان يذكرنا بأن حياته نفسها، هو الذي عاش بين ۱۸۱۱ و،۱۸۸۶ كانت تبدو طالعة من عمل روائي ينتمي الى القرن الذي عاش فيه، بكل ما شهدته تلك الحياة من اجواء رومانسية ودرامية. فهو قدم اول حفل له حين كان في التاسعة، ثم التقى بيتهوفن وهو في الثانية عشرة، وأثار اعجابه الى درجة انه بعد تقديم عزف في فيينا، صعد بيتهوفن الى المسرح وعانقه. ومنذ تلك اللحظة بدأت شهرته تكبر، وراح يجول بين المدن الاوروبية، عازفاً، مؤلفاً وعاشقاً... وانجب ثلاثة اطفال قبل ان يدخل ديراً في روما ويدرس اللاهوت. ابدى ليست دائماً اعجاباً كبيراً بباغانيني، ما جعله يرغب في ان يكون بالنسبة الى آلة البيانو ما كأنه المعلم الايطالي بالنسبة الى آلة الكمان. وكان لهذه الرغبة اثر في طغيان شهرته كعازف على شهرته كمؤلف... ومع هذا فإن التاريخ حفظ له مكانته كواحد من كبار مجددي الموسيقى الرومانطيقية، هو الذي معه ولد ما سمي لاحقاً «القصيدة السيمفونية.{ عرف ليست لاحقاً بمساعدته لكل زملائه الموسيقيين حين تواجههم صعوبات، وكان من بينهم فاغنز الذي ارتبط معه بصداقة لا سيما في بايروث التي لفظ فيها انفاسه الاخيرة. ألف وجه لألف عام - «الكابوس المكيّف» لهنري ميلر: الابن الضال يتفحص وطنه < >ابراهيم العريس الحياة - 05/11/06// --> «إذا سألوني: لماذا، إذاً، تريد أن تحصل على سمة دخول تعيدك الى فرنسا، ربما سيكون جوابي، كما كان في المرة السابقة: بحثاً عن لذتي الشخصية. أو، ربما، يكون الجواب: لرغبتي في أن أكون من جديد كائناً انسانياً». هذه الكلمات ترد على هذا النحو في الصفحات الختامية لكتاب عنوانه «ذهاباً واياباً الى نيويورك»، أصدر الكاتب هنري ميلر، طبعة جديدة ومنقحة منه في العام 1954، بعدما كان أصدر طبعة أولى، محدودة الانتشار، في العام 1935. ولسوف يقول ميلر لاحقاً أن الفارق الأساس بين الطبعتين يكمن في تخفيفه من حدة هجومه على يهود نيويورك. في الطبعة الأولى كان يوجه اليهم سهام اتهام حادة، أما في الطبعة الثانية فإنه محا كل ذلك. وفي وسعنا طبعاً أن نفهم هذا: في العام 1935، كان هناك هتلر والفاشية ولم تكن معاداة السامية تهمة رائجة ولا سيما في أميركا، أما في العام 1954، فإن معاداة السامية أصبحت تهمة يعاقب عليها مقترفها. غير أن هذا الجانب في الكتاب يبدو اليوم ثانوياً للغاية. لأن الأساس في مكان آخر: في النظرة التي ألقاها ميلر على نيويورك. وهي نظرة تتلاقى مع نظرة أخرى ألقاها الكاتب على أميركا كلها، في كتاب آخر له عنوانه «الكابوس المكيّف» أصدره في مرحلة وسط تماماً بين طبعتي «ذهاباً واياباً...»، أي في العام 1945. والحقيقة أن الكتابين معاً يتكاملان تماماً ليعطيا عن كتابة هنري ميلر، صورة جديدة تماماً، هو الذي تقوم «شعبيته» على افراطه في الحديث عن الجنس والدنو من المحظورات في أبرز كتبه وأشهرها. هذه المرة، في الكتابين، تختلف الأمور تماماً. بل ان ميلر يبدو فيهما مناضلاً ضد ذلك النزوع الحداثي الذي كان وطنه الأصلي يعيشه في ذلك الحين. ونقول: وطنه الأصلي لأن هنري ميلر كان من أولئك الأميركيين الذين آثروا دائماً العيش في أوروبا والكتابة فيها، بعيداً من الصخب الأميركي. > في كتاب «ذهاباً واياباً الى نيويورك» يقدم ميلر، اذاً، في نص وضعه على شكل رسالة موجهة الى صديقه ألفريد برليس يحدثه فيها عن رحلة، دامت بضعة أشهر، قام بها الى نيويورك، تلت سنوات عدة كان أمضاها في أوروبا. فكيف رأى هنري ميلر نيويورك بعد عودته الى الحاضرة الأميركية الكبيرة؟ هذا هو مضمون هذا النص الصغير الذي نشر أولاً في طبعة خاصة وزعت على المعارف والأصدقاء، هي الطبعة التي سيعود ميلر بعد عقدين الى تعديلها – معدلاً فيها موقفه من اليهود – كما أشرنا -. ولكن، في المقابل، لم يغير ميلر شيئاً من الصفحات التي تصف صورة نيويورك كما رآها، ومن خلال رموز المدينة – التي كانت بالتالي رموزاً للحياة الأميركية الحديثة نفسها، حيث يتحدث ميلر، بنفور وفي شكل فوضوي عن انطباعاته وأفكاره حول النساء وصالات العروض الموسيقية والدعاية التجارية الطاغية وهيمنة الآلة، والمطاعم المكتظة وحياة الضواحي النيويوركية، والعاهرات والمثقفين والبؤس وصالات السينما وأفلامها وبناية امباير ستايت وتوم وولف وبرودواي والعصابات ولا سيما عصابات المافيا. كل هذا يتحدث عنه ميلر بوصفه يشكل الأجزاء المكونة للنسيج الاجتماعي والمديني لنيويورك، التي يختم حديثه عنها بالقول انها أشبه بـ «حوض أسماك كبير، ما أن ننظر اليه عبر جدرانه الزجاجية حتى نجده مليئاً بشتى أنواع الوحوش المنتفخة...». > واذا كان ميلر قد بدا عديم الرحمة بنيويورك في هذا النص، سنلاحظ سريعاً في النص الآخر «الكابوس المكيف» ان قسوته تتعمم أكثر وأكثر لتشمل هذه المرة الشمال الأميركي كله، مقابل نظرة أكثر وداً وتفهماً يبديها إزاء الجنوب. ولهذا الكتاب، الثاني، حكاية خاصة بالطبع. ففي بداية سنوات الأربعين من القرن الفائت، وبعد تلك السنوات الكثيرة التي عاشها في أوروبا، راح هنري ميلر يشعر بقدر كبير من الحنين الى أميركا، فيما بدا أنه رد فعل خاص لديه على تلك النصوص القاسية التي كان خطها عن وطنه. وقال حينها: «لقد شعرت بالحاجة الى التصالح مع مسقط رأسي... غير ان شعوري هذا جاء مختلفاً عن شعور أمثالي من الذين كانوا يرغبون في العودة للبقاء الى الأبد في أحضان الوطن والعائلة. شعوري كان ان علي أن أعود مرة الى أميركا، لأهجرها بعد ذلك متنقلاً من مغامرة الى أخرى في مناطق نائية عنها. كنت أريد أن ألقي نظرة أخيرة على وطني قبل أن أعود وأهجره من دون أي حقد أو مرارة». والواقع أن هذه النظرة هي التي تُصوَّر لنا في «الكابوس المكيّف»، وهذه النظرة تشي لنا بكم ان أميركا، كما شاهدها هنري ميلر في العام 1940، بدت له منفرة وأكثر قبحاً مما كانت خلال اطلالته الأولى عليها قبل ذلك بخمس سنوات. ومع هذا فإن «معجزة ما» حلت منذ العام 1945، حين اكتشف ميلر ما سيسميه «مرفأ أمان وسعادة» في الجنوب الأميركي، حيث استقر راضياً منذ ذلك الحين مفضلاً البقاء هناك على العودة الى أوروبا. > والحقيقة أن نص «الكابوس المكيف» بقدر ما يتحدث بكراهية واشمئزاز عن القبح الأميركي في العام 1940، يصف في المقابل جمالاً أميركياً خالصاً، اكتشفه ميلر في الجنوب. ومن هنا أصبح نص الكتاب كله عبارة عن مقارنة بين ذلك الشمال وذلك الجنوب، لمصلحة الأخير بالطبع. ولنوضح هنا ان هنري ميلر بدأ في العام 1940 – 1941، جولة في طول أميركا وعرضها، في رفقة صديقه الرسام آب راتنر. وكتاب «الكابوس المكيف» انما هو الوصف المفصل لتلك الرحلة. أما «الكابوس» الذي يتحدث عنه عنوان الكتاب فهو، بحسب ميلر، الحياة الأميركية نفسها، هذه الحياة التي بدت خاضعة تماماً لمتطلبات الصناعة والاستهلاك وطغيان الآلة، وتطلعات الصعود الاجتماعي السريع، ومهما كان ثمنه، الذي كانت تسعى اليه، بضراوة، فئات اجتماعية عدة. غير ان من «حسن حظ أميركا» لدى هنري ميلر انه، وعلى عكس غيره من الغاضبين على أميركا، رأى – وعبَّر عن ذلك في الكتاب – ان الحضارة الإنسانية الوحيدة التي يمكن وصفها بأنها الحضارة الأميركية، انما هي حضارة الجنوب... حتى وان كان يستطرد بأن جغرافية هذه الحضارة، تتقلص، رقعةً، شهراً بعد شهر، أمام غزوة الشمال الصناعي وحضارة الاستهلاك التي لا هوية لها. بيد أن ميلر الذي يبدو لنا في الكتاب، متجدد الأمل، يتوقف مطولاً عند أناس عرفهم وقابلهم، ليجد انهم يقاومون بضراوة «وروعة» ذلك الهجوم الشمالي القبيح. هؤلاء الأشخاص الذين اعتبرهم نماذج حية لمقاومي سياسة الامتثال والخنوع، مثل الدكتور سوشون (وهو رسام وطبيب وجراح في الوقت نفسه) والموسيقي فاريز، والرسام ويكز هال. ولعل الصفحات التي يرسم فيها ميلر بورتريهات هؤلاء الأشخاص مشيداً بـ «أمركيتهم» الحقيقية هي أجمل ما في الكتاب، خصوصاً وانها تعوِّض على سذاجة بعض الصفحات التي يبدو أن ميلر لا يوضح تماماً الفوارق بين حياة اجتماعية عامة، تقاوم التفاهة حقاً، وبين صناعة حديثة تجر البلاد اليها. اذ لا ننسيّن هنا ان ميلر كاتب – عرف بانفعاليته – ولم يكن عالم اجتماع على الإطلاق. > مهما يكن تبقى لهذا الكتاب متعة قراءته كشهادة على كاتب ينظر الى وطنه، من الداخل ومن الخارج في آن معاً، نظرة موضوعية وذاتية في الوقت نفسه، وتظل قيمة الكتاب في المقارنة بينه وبين ما جاء، بقلم الكاتب نفسه، قبل ذلك بعقد من السنين. وهنري ميلر الذي كان حين كتب «الكابوس المكيف» في النصف الثاني من عقده الخمسيني، يعتبر من أشهر الكتّاب الأميركيين – والأوروبيين أيضاً! – أواسط القرن العشرين، حتى وان كانت شهرته قد قامت على كتب له «إباحية» مثل «نكسوس» و «بلكسوس»... عرفت حين صدورها منعاً من رقابات عدة، ومشاكل مع الهيئات القضائية في بلدان عدة. ألف وجه لألف عام - «هبوط أورفيوس» لتنيسي ويليامز: الانسان في وحدته المطلقة ابراهيم العريس «لا أحد منا يمكنه أن يعرف أي أحد آخر. اننا جميعاً محكومون بالبقاء أسرى وحدتنا داخل جلودنا... طوال حياتنا». هذه واحدة من العبارات التي يقولها بطل مسرحية «هبوط أورفيوس» لتنيسي ويليامز، للادي، في واحد من مشاهد هذه المسرحية. غير أن فال، البطل المعني، لا يقول هذا الكلام متحسراً، بل يقوله بقدر كبير من الحيادية والموضوعية، وكأنه يقرأ أمام السيدة خبراً لا يعنيه. والحال أن هذه الوحدة التي يتحدث عنها فال هنا، هي الموضوعة الاساسية في هذه المسرحية التي كتبها تنيسي ويليامز في لحظة صعبة من حياته، خلال النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين، حيث كانت رواياته الكبرى أضحت وراءه بنجاحاتها وأمجادها، وبات يجد صعوبة كبرى في مواصلة طريقه في التعبير عن نفسه وعن أفكاره وتأملاته للمجتمع في أفراده في أعمال جديدة له. ومن هنا، حين وجد عام 1957، أنه في حاجة الى كتابة عمل جديد، التفت الى الأساطير اليونانية القديمة، باحثاً عن عمل يستلهمه، فوجد أسطورة أورفيوس، التي تلبي احتياجاته من ناحية تصويرها وحدة الانسان وفقدانه النعمة. بيد أن الفقدان، لم يكن - كما تصوره ويليامز على الأقل - كارثة على الانسان... بل كان، وإن في شكل موارب، نوعاً من التحرير له، ذلك أنه حرره من المسؤولية وحتى - ربما - من التعاطف مع الأفراد الآخرين. ولربما يمكننا أن نقول هنا إن هذه الحرية الأليمة، كانت دائماً في خلفية أفكار تنيسي ويليامز، الذي حين صور ما هو نقيضها، جعل الفرد هو «المسبب» لنفسه بهذا، انطلاقاً من حسن المسؤولية والشغف، وبالتالي انطلاقاً من الرغبة في التواصل مع الآخرين. على هذا النحو، حتى وإن كان من الصعب اعتبار «هبوط أورفيوس» واحداً من أعمال تنيسي ويليامز الكبرى، فإن هذه المسرحية، تعبر، على الأقل، عن الزوايا الخبيئة، ليس في كتابات ويليامز فقط، بل في حياته أيضاً. ومعروف في عالم نوع معين من الدراسة السوسيولوجية - النقدية للأدب، أن الأعمال الصغيرة للمبدعين تكون، عادة، أكثر من أعمالهم الكبيرة، كشفاً لخبايا نفوسهم وتفسيراً لأوضاعهم على الأقل خلال الحقبة التي يكتبون العمل فيها. من هنا قد يصح القول إن «هبوط أورفيوس» تساعد في تلمس بعض ملامح سيرة تنيسي ويليامز، أكثر من مسرحيات كبيرة له مثل «عربة اسمها الرغبة» أو «طائر الشباب الجميل» أو «الحيوانات الزجاجية» حتى ولو رأى البعض في أعمال مثل هذه، ارتباطاً بين كتابة ويليامز وسيرته. > إذاً، اقتبس تنيسي ويليامز مسرحية «هبوط أورفيوس» من الأسطورة اليونانية المعروفة. وجعل أحداثها تدور في مخزن يصل اليه يوماً شاب وسيم الطلعة، غريب الاطوار، يحمل قيثارته ويرتدي سترة من جلد الأفعى. إنه شاب جوال يكاد لا يقر له قرار، لكنه هنا يسعى للحصول على وظيفة عامل في المخزن الذي تديره سيدة في مقتبل العمر تدعى لادي، تعيش وحدتها وحزنها في وقت يحتضر زوجها العجوز. يقع المخزن في بلدة صغيرة في الجنوب الأميركي، بلدة من النوع الذي اعتاد تنيسي ويليامز جعله مسرحاً لأحداث معظم رواياته وكتاباته الأخرى. إنها مدينة صغيرة تقليدية يطبعها استلاب جنسي عام تعاني منه معظم الشخصيات التي تجدها في المسرحية، كما يطبعها ضيق أفق مدهش وعنصرية واضحة الملامح. وسط هذا العالم يصل فال، ويحط رحاله لافتاً النظر بالغموض الذي يحيط بشخصيته وماضيه. ولكن أيضاً بوحشية نظراته وتمرده على كل ما هو تقليدي، بل حتى بحيوانية تصرفاته. إنه من النوع الصعب، لكن أيضاً من النوع الذي يمكن امرأة مثل لادي (حتى وإن كانت لا تقرّ بأخلاقياته) أن تقع في هواه ويصبح هو شغفها... فهي بعد كل شيء، وعلى رغم كل المظاهر، امرأة لها ماض هي الأخرى، ولها ضروب شغفها. ولربما كان شغفها الآن بفال، صورة مواربة لما كانت هي تريد أن تكونه. من هنا ترى نفسها منجذبة الى فال، واقفة من جراء هذا الانجذاب أمام امكانية حياة جديدة، حياة قد تكون الآن تعويضاً لها على استلاباتها اليومية ووحدتها ازاء وضعية زوجها المحتضر، لكنها - أي هذه الحياة - وبكل تأكيد تعويض لها عن ماض قريب، ربما لم يكن أقل سوءاً من حاضرها، مع كل ما في هذا الحاضر من ضجر وكآبة العيش في مدينة صغيرة كهذه. لذا لن يكون غريباً أن يستيقظ شغفها، متلاقياً مع شغف خفي لدى فال... وتنشأ بينهما تلك العلاقة التي كان مقدراً لها، على أي حال، أن تسفر عن نتائج درامية بالنسبة الى الاثنين معاً. > من الواضح هنا، في مسرحية تنيسي ويليامز، كما في الأسطورة الاغريقية القديمة - والتي حولت مرات عدة الى مسرحيات وأوبرات ولاحقاً الى أفلام - ان فال انما هو رمز: إنه رمز الرجولة والقوة والطاقة، رمز كل ما هو خلاق ودافع الى الخلق في الحياة. مجرد وجوده يكشف للآخرين ان كل قوتهم وطاقتهم وقدرة الخلق لديهم، كلها أمور كانوا دفنوها في عمق أعماقهم، أمام وطأة العيش اليومي والحياة المستلبة. وهكذا ما ان تظهر القوة الخلاقة حتى تنبعث الحياة من جديد. ولكن ما يبدو أول الأمر سعادة وانطلاقة جديدة، سرعان ما يتبدى، عند تنيسي ويليامز على الأقل، كارثة درامية مرعبة. > ربما يمكننا أن نقول في اختصار إن ما تعبر عنه هذه المسرحية، في نهاية الأمر، إنما هو الشغف الذي يتأرجح بين قمعنا له، ومحاولتنا استعادته... مهما كان الثمن، لكن المسرحية تعبر أيضاً عن محاولة الفرد أن يعيش عيشاً نزيهاً وشجاعاً، في عالم ساقط أخلاقياً. ومن هنا لأننا أمام عمل تعبيري، وربما رمزي أيضاً، سنشعر طوال الوقت اننا ازاء عمل يبتعد، أكبر قدر ممكن من الابتعاد، من تلك الواقعية السيكولوجية التي غالباً ما طبعت مسرحيات تنيسي ويليامز. هنا يحل بدلاً منها نوع من الواقعية الشعرية والنزعة التعبيرية، إذ علينا ألا ننسى بعد كل شيء أن «هبوط أورفيوس» عمل مأخوذ عن أسطورة، وليس مستقى من واقع الحياة اليومية. وبما أن تنيسي ويليامز، الواقعي بكثافة، لم يكن معتاداً على هذا النوع من العمل، لاحظ النقاد يوم عرضت المسرحية للمرة الأولى عام 1957 في برودواي، كيف أنها بدت، خلال جزئها الأول على الأقل بطيئة الانطلاق لا تعرف ما الذي تريد أن تقوله، أو تضيفه الى ما عهدناه في الأدب الجنوبي في الولايات المتحدة، خارج اطار رسم ضجر العيش وأخلاقية الشخصيات. لكنها خلال النصف الثاني منها تبدلت وصارت أكثر قوة ووضوحاً، إذ وصل ويليامز هنا، في حوارات شاعرية غير مألوفة لديه، الى تصوير علاقة الشغف بين كاتبين وحيدين يعيش كل منهما عزلته بطريقته الخاصة، بل بين ثلاثة كائنات إن نحن أخذنا في اعتبارنا شخصية أنثوية ثانية هي كارول. > عندما كتب تنيسي ويليامز (1911 - 1983) هذه المسرحية، كان في السادسة والأربعين من عمره. وعلى أي حال لم تكن كتابتها عام 1957، أول كتابة لها من جانبه. فهو كان كتب صيغة سابقة منها عام 1940 تحت عنوان «معركة الملائكة»، غير أن استقبال تلك الصياغة في ذلك الحين، كان من السوء بحيث ان ويليامز طواها ونسيها تماماً، ليعود اليها، من خلال أسطورة أورفيوس، بعد ذلك بنحو عقدين. وتنيسي ويليامز المولود في مدينة كولومبوس (ولاية ميسيسيبي) عام 1911، عرف أواسط القرن العشرين بصفته واحداً من أكبر كتاب المسرح الأميركي، كما أن مسرحياته الأساسية حولت الى أفلام يشكل بعضها علامات في تاريخ السينما. ومن أبرز أعماله «قطة على سطح من الصفيح الساخن»، «عربة اسمها الرغبة»، «وشم الوردة»، «صيف ودخان» «الحيوانات الزجاجية» و«ليلة الايغوانا ألف وجه لألف عام - «عيد السلام» لهولدرلن: حين يغمر الأرض نور السماوات ابراهيم العريس الحياة - 02/06/06// فردريش هولدرلن (1770 – 1843) «إنها المقدمة الأولى، لنشيد جديد لم يسبق لأحد أن كتب مثله في تاريخ الانسانية». كان هذا هو التعليق الأول الذي أطلقه في العام الأول من القرن التاسع عشر، الناقد الألماني المعروف آنذاك هلنغراث، في معرض حديثه عن قصيدة طويلة كتبها ونشر أجزاء عدة منها في ذلك العام الشاعر فردريش هولدرلن. القصيدة استقرت، بعد مداولات، على عنوان شديد الدلالة وشديد الارتباط بموضوعها هو «عيد السلام». وكان هذا العنوان طبيعياً، لأن هولدرلن تحدث في قصيدته عن ذلك السلام الذي عقد في شباط (فبراير) من العام 1801، وأُطلق عليه اسم «سلام لونفيل». ومن الواضح من خلال تاريخ هولدرلن، كما من خلال النشيد نفسه، أن هذا الشاعر الرومانسي الكبير كان يرى في الاتفاق السلمي ذاك، بداية جديدة للحياة الانسانية برمتها، انطلاقة لعصر جديد. صحيح ان النشيد ككل لم يتوقف كله عند ذلك الاتفاق، لكن مقاطع عدة منه كانت لا تكف عن الذهاب والمجيء بين ثنايا الاتفاق للتغني به وبالذين وقعوه وبما يعد الانسانية به، متجاوزاً الهويات الصغيرة، والحساسيات العصبية، ضارباً صفحاً عن التاريخ لصالح صانع التاريخ: الانسان نفسه. ومن هنا قد يكون منطقياً اعتبار «عيد السلام» أول قصيدة انسانية ظهرت في القرن التاسع عشر، بعد أعوام قليلة من الثورة الفرنسية التي ألهمت الكتّاب الألمان كثيراً وأعطتهم آمالاً مستقبلية جاءت حملات نابوليون لتنسفها. > غير ان هذا النشيد الذي كتبه هولدرلن في شكل متفرق ولم ينشره كاملاً في ذلك الحين، ظل على الدوام ناقصاً، اذ توزعت مقطوعاته بين البلدان والمدن لأسباب يصعب تصورها، اذ حتى العام 1952، ظلت تلك المقاطع تكتشف تباعاً، حيث عثر في لندن على ما اعتبر في ذلك الحين النسخة النهائية للمقاطع الأولى والتي تسبق عقد عيد السلام نفسه، هذا العيد الذي تختتم القصيدة بوصفه والعيش في أجوائه. أما مناخ النشيد في شكل عام، فاستخدم مسألة المصالحة بين «ألمانيا والمسيح» موضوعاً رمزياً له، انطلاقاً من الفكرة الكاثوليكية التي كانت تقول أن اختيار أباطرة الألمان الانتماء الى البروتستانتية، على الكاثوليكية، إنما كان ابتعاداً عن الكنيسة نفسها. غير أن هذا البعد الديني – المذهبي، في قصيدة «عيد السلام» لا يشكل جوهرها على الإطلاق – فالجوهر كما أشرنا انساني يدعو الى الوئام بين الشعوب والأجناس. يتحدث عن وحدة البشر. بل أكثر من هذا عن وحدة الفكر البشري، قبل المسيحية وبعدها، حيث رأى باحثون ونقاد كثر ان هولدرلن كان مهتماً، في شكل عام، بأن يصالح حتى بين المسيحية وبين الديانات غير التوحيدية السابقة عليها. هو كان ينطلق في هذا من اعتبار ان تلك الديانات القديمة كانت من اختراع الانسان الذي أحس بحاجة الى الوهية لم يقيض له نبي يرشده إليها قبل بروز الأديان التوحيدية. ومن هنا حين جاءت هذه الأخيرة – مجسدة في المسيحية بحسب هولدرلن – عاد الدين وتفكير الانسان الديني، الى حمى الإله الواحد فاقتنع الانسان به وآمن، من دون أن يعرف ماذا يفعل بآلهته القديمة، في أعماقه. > في نهاية الأمر، قد يبدو هذا الموضوع شائكاً، بل حتى خارجاً عن نطاق النشيد، ولكن كان لا بد من توضيحه من أجل فهم أفضل للنشيد. ومنذ البداية نعرف ان هدف هولدرلن من كتابة أشعار هذا النشيد، لم يكن فقط أن يعبر عن نفسه أو عن مواقفه كما هي حاله في أشعاره الأخرى، بل خصوصاً أن يُنشر وأن يُقرأ على نطاق واسع. ومن هنا كان غريباً، منه أن يكتب في ملاحظات تقديمية: «انني أطالب قارئي بأن يقرأ هذه الصفحة بكل رحابة صدر. لو فعل لن يصبح أي شيء فيها عسيراً على الفهم... بل ستصبح في النهاية ذات تأثير كبير. أما اذا كان من شأن بعض الناس أن يجدوا هذه اللغة التي استخدمها تقليدية... فإنني أعترف أمامهم أن ما كان في وسعي أن أفعل أي شيء آخر. فأنا حدث لي أن شعرت ذات يوم، في يوم معين جميل، أن كل أساليب الغناء صارت مسموعة، وان الطبيعة نفسها، والتي انطلق منها هذا كله، تستعيد هذا الغناء بدورها. والحال أن مؤلف هذه الصفحات يفكر بأن يضع أمام أنظار قرائه كل المجموعة التي تتألف منها هذه الأوراق، وليس فقط هذه الأوراق القليلة التي ليست سوى نماذج». ومن الواضح في هذا الكلام ان هولدرلن الذي كتب ما يشبه النشيد العام، كان يعرف وهو يقدم بعض أوراق النشيد أنه سينجزه لاحقاً، وانه إنما كتبه بلغة عادية آملاً منه أن يصل الى الناس أجمعين، لا أن يظل شعر نخبته كما كان حال شعره في زمنه. > يتألف النشيد في شكله الشامل، الذي من المؤكد أن فصوله لم تكتمل حتى اليوم في شكل نهائي، من أربع ثلاثيات... بيد أن هذا التقسيم الذي لم يتحدث عنه هولدرلن أبداً كما يبدو، لا يزال يثير سجالات حتى اليوم حول صوابه أو عدم صوابه. ونذكر ان السجال احتد بقوة بين العامين 1955 – 1956، في أوساط دارسي هولدرلن. أما السبب الأساس لأكبر قدر من السجال فكان الوصف الذي يورده هولدرلن لأمير العيد الغامض، الذي حار النقاد دائماً في تحديد هويته الحقيقية. فمن ناحية رأى عدد من الدارسين ان الأمير المعني لا يمكن أن يكون سوى بونابرت، على رغم نفور الأدباء والمفكرين الألمان من ذلك «العسكري الفرنسي القصير». ويرى آخرون ان الأمير الحقيقي انما هو العبقرية الألمانية، التي كان هولدرلن وأمثاله من الكتّاب يرونها عبقرية شديدة الخصوصية. وبين هذا الفريق وذاك كان ثمة فريق آخر يفضل أن يربط الأجزاء المعروفة من «نشيد السلام» بقصيدة لهولدرلن سابقة عليها، يرى كثر انها جزء منها عنوانها «المُصالح». وهذا الفريق الثالث كان ينطلق من هذا الاعتبار للقول ان أمير العيد، اذاً، لا يمكن إلا أن يكون «المُصالح» نفسه، أي السيد المسيح، الذي جاء الى هذا العالم لكي يخلص البشر. وها هو يعيد تخليصهم كلما احتاج الأمر ذلك. وفي هذا الإطار يرى هؤلاء أن هولدرلن كان ينظر الى صلح لونفيل على اعتبار أنه تجل حقيقي ومعاصر لرسالة السيد المسيح. > والحقيقة أن ثمة مفكرين كثراً، رأوا أن هذا التفسير هو الأقرب الى الصواب، طالما ان ثمة – في رأيهم – «نوراً سماوياً رائعاً يحيط بالقصيدة ككل ويضيئها». ومثل هذا النور ما كان في إمكان شاعر رهيف مثل هولدرلن أن يضعه في القصيدة لو كان يرى أن «أميرها» – أي أمير السلام – انما هو نابوليون. فبونابرت كان يمكن أن يغمره أي شيء الا النور الإلهي. مهما يكن فإن الباحثين اكتشفوا رسالة كان هولدرلن بعث بها الى صديقه كارل غوك، في العام 1801، أي عام كتابة النشيد يقول في بعض سطورها: «انني أرى أن الأنانية في كل تجلياتها، ستنسحب الآن وفي نهاية الأمر أمام قوة الحب والطيبة المقدسة (...). وأرى ان الروح الشاملة ستحكم الأرض... وان فؤاد المانيا سيزهر في النهاية من دون صخب أو ضجيج». > مهما يكن فإن هذه القصيدة التي يعود دارسو حياة هولدرلن وأشعاره الى الاهتمام بها من جديد في كل مرة صخب فيها العالم بضجيج الحرب والأسلحة، تعتبر من أبسط – وربما أيضاً أعمق – كتابات هذا الشاعر الذي عاش بين العام 1770 والعام 1843، وشهد بعض أصعب لحظات ولادة الفكر الانساني في الزمن الذي عاش فيه. وهولدرلن ولد في لاوفن ومات في توبنغن. وهو عاش في ظل أمه التي ظلت تشكل حماية له خلال مراحل حياته كلها. ولقد درس اللاهوت، لكنه لم يرغب أبداً في أن يكون رجل دين. وكان ولا سيما خلال النصف الثاني من حياته دائم الترحال... وعمل مدرساً خصوصياً لأبناء الأثرياء، ولا سيما منهم المصرفي غونتاذ والذي ربطت هولدرلن بزوجته علاقة غرامية ظلت قائمة حتى وفاتها (وخلدها تحت شخصية ديوتيما، التي نراها في الكثير من قصائده وكتاباته الأخرى). ومن أعمال هولدرلن «هيبوريون» و «موت أمبادوفلس»... ومجموعة «قصائد». ألف وجه لألف عام – «عن المانيا حكاية شتاء»: هايني ضد التعصب0 admins 28 May 2009 8:19am deutschland_ein_wintermaerchenابراهيم العريس عندما وقف المستشار الألماني بيسمارك، في مجلس النواب ذات يوم ليصرخ أمام أعضاء ذلك المجلس «الرايخستاغ» طالباً منهم أن يكفوا عن التهجم على الشاعر هينريش هايني، قال بصوت مدوٍ وهو يعرف مدى ما لصوته من تأثير، وما لمكانته من أهمية، هو موحّد المانيا وبطلها في ذلك الزمان: «لا تنسوا أيها السادة أنه هو، من بعد غوته، كان مؤلف أجمل الأغاني التي كتبت في اللغة الألمانية». وأعضاء «الريخستاغ» الذين كانوا يحاولون النيل من هايني في ذلك الحين كانوا، في الحقيقة، يعبرون عن رأي عام، يرى في ذلك الشاعر عدواً لألمانيا ومحباً لفرنسا. وكانت حجتهم في استنتاجهم ذاك، كتب هايني الكثيرة، خصوصاً قصيدته «عن المانيا، حكاية شتاء»، تلك القصيدة التي كتبها أصلاً في باريس، ليرد بها على سذاجة مدام دي ستايل، التي كانت اعتادت أن تكتب عن المانيا المجاورة كتابات تقطّر ماء الورد، ولا تنتمي الى الحقيقة بصلة. عندما كتب هايني «عن المانيا، حكاية شتاء Deutshland ein Wintermarchen، كان يعيش، إذاً، في فرنسا، تلك التي اختارها وطناً له، وأسأمه أن يواصل حياته في بلده الأصلي، المانيا، حين يسود التعصب وشتى النزعات القومية، ويقبب الفكر والعقلانية. وكان أشد ما يسئمه في ذلك أن البلد الذي يصل في التعصب القومي والوطني الى «هذا الدرك الأسفل» كان هو هو وطن العقلانية وكانط وهيغل، البلد الذي أعاد الى الفكر والفلسفة، مكانة كانت مفتقدة عملياً في أوروبا منذ خبوّ العصر الإغريقي. في الأصل كان هايني رومانسياً، بل انه لقب بـ «آخر الرومانسيين»، غير أن رومانسيته لم تكن لتمنعه من أن ينظر الى الأمور مواجهة، وأن تكون له آراؤه السياسية المنفتحة على آفاق العالم والفكر الإنساني. > عندما كتب هايني «عن المانيا» كان لا يزال متحمساً، بل ان سنواته الطويلة التي كان أمضاها في فرنسا، كانت أيقظت لديه ذلك الحنين الذي يمكن أن نتلمسه في معظم المقاطع الأولى من ذلك العمل الشعري الطويل. فهذا العمل، الذي شاء هايني من خلاله أن يرسم لوحة عاطفية وحسية لشجرة العائلة الألمانية منذ العصور الوسطى وصولاً الى هيغل، كرد على كتاب مدام دي ستايل «عن المانيا»، الذي لم يتعامل معه إلا بمقدار كبير من الهزء والتهكم، هذا العمل الذي نشر في المرة الأولى في العام 1844 مع «قصائد جديدة»، ثم أعاد المؤلف نشره في العام 1851 مع مقدمة شرح فيها انه لكي يتمكن من نشره في المانيا اضطر الى اجراء الكثير من التعديلات فيه، لكيلا يمعن الألمان في اتهامه بمعاداتهم، يتألف من نصوص شعرية، تصف عودة الشاعر الى وطنه المانيا بعد غياب 13 سنة قضاها في المنفى، فإذا بالحنين يختلط مع الذكريات، وإذا بأرض الوطن تصبح أرض المعرفة. في اللحظات الأولى من القصيدة الطويلة، يشتد الحنين ويروح الشاعر واصفاً روح المانيا «الحقيقية» في رأيه: روح التوق الى المعرفة، والعقل، ويصف الطبيعة وجمالها وما يتوقعه من الإنسان إذ ينسى كل أنواع التعصب. إن هايني يشرح هنا بكل بساطة وحب موقفه الحقيقي من المانيا وفكرها وأهلها من دون أن تلوح في كتاباته نزعة التعصب الشوفينية كما هي ماثلة لدى أبناء قومه، ولا حتى النزعة الشمولية والسياسية – الغيبية، كما تلوح لدى مواطنه الشاعر الرومانسي غوريش. إن مشاعر هايني هنا هادئة: وإن المانيا التي يصفها ويتوق الى العودة اليها، المانيا التي يحلم بها في ليالي الشتاء الباردة، ويريد أن يفسرها للعالم. وأن يبرر حتى مساوئها، هي المانيا «الحقيقية» التي، في رأيه تجمع بين الروح الجرمانية الأصيلة، والوعي العقلاني التنويري الأوروبي، كما تجلى في فكر الثورة الفرنسية كما في فكر كبار التنويريين الألمان الذين نظروا الى تلك الثورة بعين العقل، لا سيما قبل كارثة العام 1813 التي بدلت ذلك كله، وأدت الى نمو شوفينية المانية كريهة، ضد فرنسا والفرنسيين، وضد الفكر الفرنسي خصوصاً. كل هذه المشاعر تتنازع الشاعر وهو متوجه في طريق العودة الى وطنه. وأمله، يبدو طوال الرحلة كبيراً، بأن يجد هذا الوطن وقد اتسم بالمسوح المثالية التي يريدها له. > غير أن هذه الأحلام كلها سرعان ما تتبخر، إذ ما أن تطأ قدما الشاعر أرض الوطن، بعد غيبته الطويلة، ما ان يجابه الحقيقة بعيداً من أحلامه وتصوراته المثالية، حتى تعود اليه – وبقوة أكثر – كراهيته لأبناء وطنه. فهم، لم يبقوا فقط على الجهل والعمى اللذين كانوا عليهما، بل زادت حدة هذين عندهم، وصاروا أجهل وأعمى من ذي قبل، صاروا شوفينيين كارهين للعقل وللآخرين أكثر من أي وقت مضى. ويرى الشاعر هنا ان هذا سيكون وبالاً عليهم وعلى البشرية جمعاء أيضاً، ونعرف طبعاً أن التاريخ حقق لهايني نبوءته، هو الذي لم يغفر له الألمان ذلك التهكم عليهم أبداً. > اليوم، يعتبر هينريش هايني من كبار الشعراء الألمان، ومن الكتاب الأوروبيين الذين كتبوا نصوصاً مهمة، ابداعية وعلمية، في اللغة الفرنسية أيضاً. ولكن في حياته، كانت لعنة هايني كبيرة، وهو عرف الفشل في أمور كثيرة اشتغل بها، ما جعل الفشل يشكل سمة أساسية من سمات حياته وكتاباته. ومع ذلك نجده، كتب كثيراً، كتب شعراً وكتب للمسرح، وكتب في الفلسفة وفي السياسة. وكتب في تاريخ الفنون، وأناشيد (ليدر) لحنها كبار الموسيقيين الألمان، ومن بينهم شومان. كان يكتب بلا هوادة وكان يحزن ويحبط بلا هوادة. انه في هذا كمرآة تعكس اضطراب أوروبا وقلقها في زمنه. > وهايني ولد عام 1797 في دوسلدورف في المانيا، يوم كانت هذه المدينة خاضعة للسيطرة الفرنسية، ومات عام 1856 في باريس، بعد مرض أقعده ثماني سنوات كانت الأكثر ضراوة وايلاماً في حياته. وهو بدأ الكتابة باكراً، وتشبعت روحه بالأساطير الجرمانية الشمالية، وراح ينهل من الآداب الفرنسية والإنكليزية، ووعى في شبابه الفكر التنويري منتشراً، والرومانسية تعيش أزهى لحظاتها في زمن التغيرات الأوروبية الكبرى. المصدر: الحياة ألف وجه لألف عام - «الأمير السعيد» لأوسكار وايلد: الكاتب «المنحرف» حين يكتب للصغار من يعرف السمعة «غير العطرة» التي صنعها النقاد والمؤرخون الفيكتوريون، أواخر القرن التاسع عشر، للكاتب والشاعر أوسكار وايلد، يصعب عليهم ان يصدقوا ان هذا المبدع «المنحرف» في رأي أولئك، يمكن ان يكون هو كاتب تلك المجموعة من القصص والحكايات القصيرة التي تضمها مجموعة عنوانها «الأمير السعيد». ذلك ان في هذه القصص من الشفافية والشاعرية والعمق الرمزي، ما جعل كثراً من القراء لا يصدقون ان كاتباً منحرفاً ويخضع للمحاكمات يمكن ان يصيغها. ومع هذا كان وايلد هو الذي كتبها لتنشر مجموعة في كتاب عُرف بأنه ينتمي الى الأدب الموجه الى الصغار. غير ان هذا لم يحل دون الكبار وقراءتها واعتبارها اعمالاً أدبية أصيلة. والطريف ان هذه النصوص لم توضع كنصوص مكتوبة، بل ان وايلد كان يقصها شفاهية على أخيه، وهما في باريس، إذ كان ذلك الأخ يسأله ان يزوده بموضوعات تصلح مقالات لصحيفة كان يراسلها. إذاً، كان أوسكار وايلد يبتكر ويحكي وكان أخوه يسجل. في البداية حوّل الأخ الحكايات الى مقالات صحافية، ثم بعد ذلك استعاد أوسكار حكاياته ليكتبها بلغته الخاصة ويصدرها مجموعة، للمرة الأولى عام 1888. وهي طبعت مرات كثرة بعد ذلك ولا تزال تطبع الى اليوم، كما ترجمت، مفرقة أو مجموعة الى لغات عدة. بل اعتبرها بعض مؤرخي حياة وايلد ودارسي أعماله، من افضل هذه الأعمال. > وكما يمكننا ان نفهم هنا، تتألف المجموعة من قصص قصيرة عدة، أشهرها وأجملها، بالطبع، تلك التي أعطت اسمها الى المجموعة، حتى وإن كنا نعرف ان مبدعين لاحقين على زمن أوسكار وايلد, ومنهم موسيقيون، اتجهوا في تفضيلاتهم الى نصوص غير «الأمير السعيد»، إذ وجدوها أكثر ملاءمة كي تُقتبس في أوبرات أو أعمال موسيقية أو مسرحية أخرى، ومن هنا كانت حصة، ثاني حكايات المجموعة «العندليب والوردة» أكبر كثيراً، حيث نعرف انها اقتُبست مرات عدة، في أوبرات وأغنيات ومشاهد باليه وما الى ذلك. بينما لم تقتبس «الأمير السعيد» سوى مرة واحدة في شكل مباشر في عمل رسوم متحركة تلفزيوني (عام 1974). ومهما يكن فإن هذا الأمر لا يغير من الواقع شيئاً، لا سيما من واقع ان ملايين الأطفال، والكبار ايضاً قرأوا دائماً «الأمير السعيد» بمتعة وتأثروا بها. > تتحدث «الأمير السعيد» عن أمير عاش خلال حياته معزولاً عن الناس فلم يحس ابداً ببؤسهم ومعاناتهم. ثم حين مات أقيم له تمثال مرتفع وسط المدينة، كان يمكنه منه ان يطل على الناس والأحياء الفقيرة ما جعله يعي، في حاله الجديدة تلك، حقيقة اولئك الناس وبؤسهم وجوعهم. ولما كان غير قادر على الحركة، لأنه تمثال، استعان بسنونوة، صديقة له تحط عليه بين الحين والآخر، كي تنقل الى الناس البائسين تباعاً، قطعاً من الذهب وجواهر من التي تزين ثيابه. وكانت السنونوة تنفذ مطلب الأمير وتوصل تلك الثروات الصغيرة الى الناس فيسدون بثمنها بعض جوعهم. وفي نهاية الأمر، كان لا بد لتلك الثروة ان تنفد، ما جعل السنونوة تدرك انها ستموت من البرد، هي التي اعتادت اللجوء الى التمثال حين يشتد الصقيع، فتجد في ثيابه وزينته الثمينة دفئاً وملجأ لها. ولما أدرك الأمير خطورة ما فعل مع السنونوة وأنها لا محالة هالكة، حاول ان يبعث فيها الدفء من طريق طلبه منها ان تقبله على شفتيه. تفعل لكنها مع ذلك تموت وينفطر قلب الأمير... > في القصة الثانية، «العندليب والوردة»، وهي الوحيدة في المجموعة التي تضاهي شهرتها – الى حد ما – شهرة «الأمير السعيد»، لدينا عندليب يحدث له ذات يوم ان يسمع شكوى طالب من ان ابنة أستاذه لا تريد ان ترقص معه، بالنظر الى انه غير قادر على ان يأتي لها بوردة حمراء. على الفور يتوجه العندليب الى الحديقة حيث يتجول بين شجرات الورد، حتى تخبره واحدة من هذه الشجرات انها قادرة بالفعل على ان تبرعم وردة حمراء، شرط ان يكون العندليب مستعداً للتضحية بحياته في سبيل ذلك. يتردد العندليب اول الأمر، لكنه إذ يعود ويرى كمّ الدموع التي تذرفها عينا الطالب، يقرر ان عليه ان يقوم بتلك المهمة مهما كلفه الأمر. وهكذا يندفع نحو شجرة الورد غارزاً شوكها في جسده وقلبه خاصة، كي ينزل الدم القاني منه ويلون الوردة. وإذ يحصل الطالب العاشق على وردته الحمراء يحملها ويقدمها الى ابنة استاذه التي، ترفض عرضه هذه المرة، إذ خلال ذلك الوقت كان شخص آخر دنا منها وأهداها جوهرة «وكل الناس يعرفون بالطبع ان قيمة الجواهر تفوق كثيراً قيمة الورد ولو كان أحمر اللون». وهكذا إذ يفشل طالبنا المسكين في مسعاه، لا يكون منه إلا ان يخرج من المكان رامياً الوردة، عائداً الى دروسه، حيث ينكب على مادة الميتافيزيقا. > تحمل القصة الثالثة في المجموعة عنوان «العملاق الأناني». والعملاق الأناني هنا هو صاحب حديقة جميلة غنّاء يحب الأطفال ان يلعبوا في رياضها. ولكن إذ يعود العملاق ذات يوم من زيارة قام بها الى دار الغولة، لا يروقه تمتع الصغار بحديقته، فيطردهم بعنف، ثم يبني من حول الحديقة سوراً يمنعهم من دخولها في المستقبل. وتكون النتيجة ان يحلّ على الحديقة فصل شتاء لا ينتهي. ولكن ذات صباح يوقظ العملاق من نومه ليجد ان الربيع عاد الى الحديقة، إذ تمكن الأطفال من إحداث ثغرة في السور نفذوا منها وعادوا يلعبون. يدرك العملاق بالطبع خطأ أسلوبه فيقرر هدم السور. لكنه حين يخرج من داره الحصينة ليفعل ذلك، يرتعب الأطفال ويهربون، باستثناء واحد منهم كان يبكي قبل ذلك الى درجة انه لم يلاحظ وصول العملاق. يشاهد العملاق الصبي، فيساعده لتسلق شجرة كان هذا يريد تسلقها. وعلى سبيل الامتنان يقبل الصبي يد العملاق... الذي يقول له بكل لطف هذه المرة: «إن هذه الحديقة حديقتكم يا ايها الأطفال...». ثم يهدم السور ليتدفق الأولاد لاعبين من جديد ويعود الربيع. وتمر سنوات قبل ان يصل العملاق الى مشارف الموت، فينزل الى الحديقة وكان الفصل شتاء، ليلاحظ كيف ان الربيع يبرعم في قسم منها ويزهر اشجارها ومنها واحدة كان الطفل الضائع مستلقياً عليها... > «الخلّ الوفي» هو عنوان القصة الرابعة، التي تقل أهمية عن الثلاث السابقة، وبالتالي لم يتم اقتباسها، كما ان النقاد لم يتحدثوا عنها كثيراً. تدور هذه القصة من حول هانز، وهو جنيناتي صديق لطحان ثري. وهذا الطحان، يسمح لنفسه بأن يقطف ما يشاء، باسم الصداقة، من حديقة هانز على ان يعطيه في المقابل ما يعوض عليه ما كان باعه كي يؤمن لنفسه طعاماً. لكن الطحان الثري لا يعطي الأشياء بسهولة، ومن هنا يطلب من هانز ان يقدم له خدمات كثيرة في مقابل كل وعد بإعطائه شيئاً. وتصل الطلبات الى حد يثير معاناة هانز، ثم موته حين يسأله الثري ان يأتي له ذات ليلة عاصفة بطبيب يداوي ابنه المريض. طبعاً يأسف الطحان الثري لموت صديقه، لكنه لا يقدم شيئاً غير الأسف. > أما في القصة الخامسة «السهم الناري الملحوظ»، وهي التي قال النقاد دائماً انها الأضعف بين القصص الخمس، فإن الحكاية تتمحور من حول سهم ناري كان من بين مجموعة يجب إطلاقها لمناسبة زواج أمير من أميرته. ولما كان السهم مغروراً منتفخاً يريد دائماً ان يبدو مميزاً، يغرق في دموعه ليلة الإطلاق كي يبرهن على انه أكثر حساسية من بقية الأسهم. ويؤدي هذا، بالطبع، الى بلله، وثم الى عدم انطلاقه. وإذ يُرمى في القمامة في اليوم التالي يظل معتقداً انه فائق الأهمية ولا يمكن للجمهور ان يكون سعيداً من دونه. في النهاية ينشف ويطلق ولكن في وقت لا يكون فيه أحد قادراً على ملاحظة وجوده وانطلاقه. > لقد سعى أوسكار وايلد في قصص هذه المجموعة، الى المزاوجة بين الأدب الغرائبي والنقد الأخلاقي، بل حتى الفني، وذلك في لغة بسيطة هادئة. ومن هنا حتى إذا كان كثر في العالم لا يعرفون شيئاً عن روايات اوسكار وايلد (1854- 1900) وأشعاره ومسرحياته، لا شك في ان صغاراً كثراً وربما كباراً أكثر ايضاً، يعرفون هذه الحكايات التي صارت، منذ زمن بعيد جزءاً أساسياً من مخزون الأدب الغرائبي وأدب الأطفال في العالم. المصدر: دار الحياة RE: إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 07-26-2010 صحيفة الحياة لف وجه لألف عام - «الأب» لـ «سترندبرغ» : ملخص عداء كاتب للمرأة الجمعة, 02 أكتوبر 2009 ابراهيم العريس كان الكاتب السويدي اوغوست سترندبرغ يكره النساء في شكل عام. وقد يكون من الصعب العثور على سمات هذه الكراهية في كل اعماله المسرحية، ولكن ثمة مرحلة في حياته تشغل على الأقل ثمانينات القرن التاسع عشر، شهدت كتابته لعدد لا بأس به من مسرحيات تشهد على هذه الكراهية. فمثلاً في مسرحيته «الرفاق» تكذب البطلة برتا على زوجها اكسل وتغشه ليس فقط في مجال انتزاع المال منه، بل ايضاً من اجل تدمير سمعته كإنسان وفنان. وفي مسرحية «الدائنين» تدمر الزوجة تكلا إرادة زوجها ادولف وشجاعته وكذلك الحال في عدد من مسرحيات الفصل الواحد التي كتبها في ذلك الحين، وصولاً الى مسرحية «الأمومة» التي تتحدث عن فتاة هوى سابقة ترفض السماح لابنتها بأن تتصل بأبيها او تتلقى اي عون منه. وإذا كان هذا البعد نفسه يسري على لعبة الحب/ الكراهية التي تهيمن على مسرحية سترندبرغ الكبرى «الآنسة جوليا» حيث تؤدي سيطرة الأم وعدوانيتها الى الحيلولة دون نضوج جوليا، فإن مسرحية «الأب» التي كتبها اوغوست سترندبرغ في العام 1887، تبقى الأكثر دلالة على ما نقول. ولا شك في ان سترندبرغ، إذا كان قد جعل نتفاً من مشاعره وتفاصيل حياته الخاصة تبدو من مواقفه في كل هذه الأعمال، فإنه في «الأب» جعل الأمر كله يبدو اشبه بسيرة ذاتية. > في تلك الفترة من حياته كان صاحب «سوناتا الأشباح» يعيش وضعاً عائلياً مزرياً، إذ ان زوجته كانت لا تكف عن الإيحاء امام الأصدقاء والأهل بأن زوجها يعاني درجة اكتئاب وجنون متقدمة، وأن هذا يؤثر سلباً في أسلوب تعاطيه مع الأطفال وتربيته لهم، ما يستدعي وضعه تحت الوصاية وسحب الأطفال منه. كان من المعتقد ان زوجة سترندبرغ تود في ذلك الحين لو تراه يموت، وصولاً حتى الى قبض قيمة التأمين على حياته. فهل كان هذا كله صحيحاً؟ هل كانت زوجة سترندبرغ شريرة الى هذا الحد، ام ان نوعاً من البارانويا (رهاب الاضطهاد) كان يعتمل في داخل سترندبرغ مصوراً له الأمور على هذا النحو؟ مهما كان من شأن الجواب، من المؤكد ان كاتبنا عرف كيف يقاوم. والفعل الأساس في مقاومته تجلى في كتابته مسرحية «الأب» وسط اعمال اخرى له تحمل الذهنية نفسها، والرغبة العنيفة في «فضح اخلاقيات النساء». > إذاً، في «الأب» لدينا رجل (هو الأب والشخصية الأساس في المسرحية) وهو كابتن في سلاح الفرسان، ورجل أعمال إضافة الى ذلك ونحن لا نعرفه إلا باسم «الكابتن». والكابتن هذا يعيش محاطاً بعدد من النساء، وفي مقدمهن زوجته لورا، وابنتهما برتا، وهناك ايضاً الممرضة العجوز مرغريت، وحماة الكابتن، والمربية. ومن الطبيعي للكابتن ان يشعر بقدر ما من الاختناق وسط هذا المناخ. وهو، إذ يحب ابنته حباً جماً، من الواضح انه يرغب لها في ان تفلت من هذا الجو، فيقرر ان عليها ان تسافر بعيداً كي تستكمل دراستها. بيد ان الأم لورا تعارض هذا. إنها تريد لابنتها ان تبقى ها هنا. ثم اذ يحتدم الصراع حول هذا الأمر بين الكابتن ولورا، تبدأ هذه الأخيرة بنسج مؤامرة توحي من خلالها، وبدفع ومساعدة من طبيب العائلة، بأن برتا ليست في الحقيقة ابنة الكابتن، وإنما هي ابنة علاقة آثمة اقامتها لورا في الماضي. في البداية يقاوم الكابتن هذه الفكرة تماماً، غير ان شيئاً من الشك يبدأ بالتسرب إليه. ومناخ الشك هذا هو الذي يسيطر تدريجاً على المسرحية ككل، وإلى درجة يبدأ الكابتن معها في التساؤل حول ما اذا كان، هو، في كامل عقله ام انه مجنون. ولورا لا تتوقف عن تغذية مشاعره وأفكاره هذه الى درجة تفقده في نهاية الأمر كل هدوئه ورصانته حتى يصيبه ما يشبه المس الحقيقي، ما يدفع ممرضته - المتواطئة اصلاً مع لورا - الى ربطه بقميص المجانين وتكون النتيجة ان يصاب بذبحة قلبية ويموت. اما لورا فإنها ستسعد في ذلك الانتصار الذي حققته. > من ناحية مبدئية يبدو الموضوع بسيطاً في خطّيته، كما يبدو فوز لورا في الصراع حتمياً في مناخ يعيش فيه الكابتن محاطاً بالأعداء. ولكن من الواضح ان ما هو مهم هنا، ليس هذا الحدث بل دلالاته والكيفية التي عالج بها الكاتب شؤونه الخاصة مسقطاً إياها على شخوص مسرحيته. فالموضوع الجوهري هنا انما هو الصراع الذي تخوضه لورا، تلك المرأة التي لا تكف طوال الوقت عن تبرير تصرفاتها مضفية عليها طابع المشروعية، انطلاقاً من قناعتها التامة بأن الحب بين الجنسين إنما هو فعل صراع دائم. غير ان موقف المرأة «الشرير» هذا، لا ينبغي عليه ان يبعدنا عن رؤية ان دوافع الكابتن نفسه ليست دوافع طيبة، بمعنى ان سترندبرغ هو هنا ابعد من ان يصور لنا صراعاً بين الخير والشر. فالحب الذي يكنه الكابتن لابنته انما هو في حقيقته صورة لأنانيته ولرغبته في امتلاك ابنته. ومن هنا فإن الصراع الذي يصوره لنا اوغوست سترندبرغ انما هو صراع بين طبيعتين انانيتين. وفي هذا الصراع العنيف والذي تستخدم فيه كل ضربات ما دون الحزام، من قبل الطرفين، لا يكون الانتصار للأقوى، بل للأكثر سوءاً... لمن يستخدم القدر الأكبر من الشر. وبالنسبة الى سترندبرغ، المتشائم عادة إزاء الطبيعة الإنسانية، المرأة هي الأكثر شراً بين الطرفين، من دون ان يعني ذلك ان الرجل ليس شريراً، كل ما في الأمر ان لدى المرأة من الحيل وضروب المكر والخداع ومن القدرة على الكذب، ما يفوق ما يملكه الرجل. ومن هنا تكون هي المنتصر في نهاية الأمر. > وهكذا، على هذا النحو المثير بدوره للتساؤلات، تمكن سترندبرغ من ان يصور في هذه المسرحية القاسية والسوداء، هواجسه الحياتية ونظرته الى الصراع، الصامت احياناً والصارخ في احيان اخرى الذي كان يدور داخل حياته. وانطلاقاً من هنا صوّر سترندبرغ - ومن دون ان يوفر نفسه او مشاعره الخاصة او انانيته - مخاوفه إزاء المرأة: كل امرأة سواء اكانت زوجة او اماً او ابنة او حتى خادمة. لكنه صور ايضاً تواطؤ طبيب العائلة، ثم حمق الرجل بشكل عام وغرقه في شكوكه ما ان تجري امامه تلميحات. ولعل الأمور هنا تصل الى ذروة الإيلام حين يصور سترندبرغ كيف ان ابنته تقف الى جانب امها حين يحتدم الصراع ضاربة عرض الحائط بكل الخير الذي يريده الأب لها، وكذلك حين يصور خديعة الممرضة إذ تتواطأ عليه بعد ان تبدو لحين عاطفة عليه متفهمة له، فإذا بها تلهيه حتى تلبسه سترة المجانين. > حين كتب سترندبرغ مسرحية «الأب» كان في الثامنة والثلاثين من عمره، هو المولود في العام 1849 في ريدار هولم غير بعيد عن استوكهولم عاصمة السويد. وكان قد سبق له ان نشر، منذ العام 1869 من المسرحيات ما امن له شهرة كبيرة ومكانة اساسية في تاريخ المسرح السويدي، قبل ان يواصل مسار مسرحه الواقعي والقاسي، جاعلاً من نفسه واحداً من اقطاب الكتابة المسرحية في الأزمان الحديثة. ولقد كتب سترندبرغ حتى رحيله في العام 1912 مسرحيات تدور حول الصراعات الداخلية والحياة العائلية وعودة الماضي، ضمن أسلوب قاس، وتعمق في نفسيات شخصياته. ومن ابرز أعماله الأخرى «الى دمشق» في جزءيها و «طقس عاصف» و«رقصة الموت»، إضافة الى عدد كبير من المسرحيات التاريخية. إبراهيم العريس - ألف وجه لألف عام - «قوس النصر» لألبريشت دورر: بين السلطان والفنان قوس النصر لمجد ماكسيميليان الأول (1515) منذ أفلاطون والمثقف يسعى في شكل أو بآخر الى أن يجد لدى سلطة ما، حماية له ورعاية. ولكن معظم المثقفين والمبدعين، من صاحب «الجمهورية» الى ريتشارد فاغنر، مروراً بأمثال ابن خلدون وابن سينا وموليير وشكسبير، كانوا لا يرضون بأن تقدم لهم تلك الحماية والرعاية أية سلطة كانت: دائماً كانت لهم شروطهم التي لن نستغرب أن يكون في مقدمها كون صاحب السلطان والرعاية رجل فكر وتنوير. ولعل الرسالة السابعة، بين رسائل أفلاطون، توضح هذا الأمر خير توضيح. فإذا أضفنا إليها نصوصاً وردت، حول هذا الموضوع نفسه في سيرة ابن خلدون الذاتية، أو أشعاراً كتبها المتنبي في سيف الدولة، تتضح الصورة أكثر وتقول لنا ان الأمر على عكس ما قد يتصور كثر: الأمر هو أن المبدع كان – عن خطأ أو عن صواب – يرى في تقربه من صاحب السلطة، مكافأة لهذا الأخير على نهضويته ووعيه. وطبعاً يمكننا في نهاية الأمر أن نرى كم ان مثل هذه الأمور يبدو زئبقياً، وكم في إمكان المثقف أو المبدع أن يزوّر الحقائق إذا شاء، أو اقتضت مصلحته ذلك، فيغلف انتهازيته بغلاف براق ويسبغ على ولي نعمته صفات تبرر ما يناله منه من مكافآت. وإذا كان هذا الكلام، الذي يصبح بديهياً إن نحن درسنا هذا الأمر جيداً من خلال حكايات لا تعد ولا تحصى عن «علاقات» قامت دائماً بين المبدع والحاكم، ينطبق على إعداد كبيرة من مثقفي الأزمنة كلها لا سيما مثقفو زماننا هذا، الذي اتسم بمادية مفرطة وبقفدان تدريجي إنما خطير للقيم – والقيم الفنية خصوصاً -، فإن من الصعب ان نقول انه ينطبق على موقف الفنان الألماني الكبير ألبريشت دورر من الامبراطور ماكسيميليان الأول. وقد يصعب قبول هذه البديهة على من ينظر بعين الدهشة الى كم (ونوعية) الأعمال الفنية التي كرسها دورر لتمجيد هذا الحاكم، خلال حياته ثم بعد موته أيضاً. ومن هذا يبدو لنا الأمر حقيقياً. > ذلك ان سيرة ماكسيميليان الأول، ومن دون أن تكون لروايتها أية علاقة بدورر ترمي الى تبرير موقفه منه، تقدمه لنا على صورة رجل التنوير الحقيقي. فهو، وكان يلقب بـ «آخر الفرسان» كان ذا صورة فكرية وإنسانية تتطابق تماماً، في اتفاق المؤرخين، مع صورة «الانسان الكوني النهضوي» التي كان عصر النهضة يتوخى من صورة الحاكم – الفيلسوف ان تكون عليها، انطلاقاً – أصلاً – من مثل أفلاطون العليا. كان ماكسيميليان رجل ثقافة ووعي. وكان فضوله يقوده الى محاولة معرفة كل شيء عن كل شيء. ومن هنا تعهد دائماً أن يقرب منه كبار فناني عصره وكتّابه. كذلك جعل كبار الفنانين يصورونه ويصورون مآثره، وطلب خصوصاً من ألبريشت دورر أن يعمم وينفذ له كتاب صلواته. كما ان المحفورات العدة التي تبدو في نهاية الأمر وكأنها سيرة ذاتية للامبراطور حققت في محترف دورر. من هذا كله كان ماكسيميليان الأول يتوخى ان يخلف لمن سيأتون من بعده ذاكرة (ميموريا، بحسب تعبيره الخاص) تنتشر بين الحكام والجماهير بغية هداية الجمع الى درب الرقي والبناء. > وكانت العلاقة بين ماكسيميليان الأول والفنان النورمبورغي ألبريشت دورر، قد بدأت في العام 1512، حين طلب الامبراطور من أعوانه ان يعرفوه على أكبر فنان في المقاطعة، وكان دورر يسعى الى العثور على راع حقيقي لفنه. وهكذا قام جاكوب فوغر، وهو مصرفي كان يعمل في خدمة الامبراطور، بتعريف دورر بهذا الأخير. ومنذ ذلك الحين تواصلت العلاقة بين الامبراطور والفنان حتى رحيل الأول في العام 1519. ونذكر هنا ان البورتريه الرائعة التي حققها دورر للامبراطور، وتعتبر قمة من قمم فن دورر، لم تحقق إلا بعد موت هذا الأخير. > قد حقق دورر خلال السنوات القليلة التي ارتبط خلالها بالامبراطور عدداً كبيراً من الأعمال له، سواء بفنه الشخصي أو بحرفية مساعديه. ولكن العمل الأبرز الذي ارتبط باسم دورر بين كل الأعمال الفنية التي أسهمت في سمعة ماكسيميليان وفي مجده، يبقى قوس النصر الخشبي الضخم، الذي أنجز في العام 1515، ممجداً مآثر الامبراطور وذكراه الى الأبد. يبلغ عرض هذا القوس الرمزي مترين و95 سم. أما ارتفاعه فيزيد على ثلاثة أمتار ونصف المتر، وهو يعتبر أضخم قطعة فنية من هذا النوع (المسمى «كسيلوغرافيا») في تاريخ الفن. لقد كان دورر هو من صمم العمل، لكنه نفذه مع عدد كبير من المعاونين التابعين لمحترفه أو المتعاونين من الخارج. أما عمل الحفر الخشبي الرئيس فكان المعلم المشهور في ذلك الزمن هيروتيموس آندريا هو الذي قام به. أما ألبريشت ألتدورفر، الفنان الذي عاش بين 1480 و1538، ويعتبر المنافس الرئيس لدورر على لقب «أعظم فنان نهضوي ألماني» في ذلك العصر، فقد شارك في العمل بدوره منفذاً، وربما مشاركاً أيضاً في تصميم، الأقسام الجانبية من قوس النصر هذا. فما الذي حققه دورر بنفسه، في هذا العمل، الى جانب التصميم والإشراف العام؟ لا شك في أنه كان هو – وانطلاقاً من أواخر العام 1512 – من صمم ونفذ البرد الرئيس في القوس، وهو البرج البرج تزينه من ناحية الشجرة العائلية لنسب الامبراطور، ومن ناحية أخرى، ذلك الحيوان الخرافي الذي يحلق فوق صورة الامبراطور كرمز لقوته وعظمته. > في شكل عام يمكن القول ان العمل كله يمتّ بصلة نسب قوية الى الفنون الايطالية التي كانت على الموضة في ذلك الحين. ويقول باحثون كثر ان دورر، قبل ان يصل الى التصميم وأسلوب التنفيذ النهائيين اللذين نالا رضا الامبراطور ومستشاريه، درس الأساليب الإيطالية عن كثب. بل يبدو كذلك انه قام برحلة خاطفة الى ايطاليا بتمويل من الامبراطور الذي سيمنحه لاحقاً مرتباً شهرياً ظل يتقاضاه طوال حياته، ومن هناك عاد بجملة من المبتكرات الفنية التي يمكن للعين الدارسة ان تجدها منتشرة، ليس فقط في قوس النصر، بل في معظم تعبيرات دورر الفنية منذ ذلك الحين. > قوس النصر هذا أنجز نهائياً في العام 1515، وقدم في احتفال خاص، الى الامبراطور الذي أبدى سروره الفائق به، طالباً من دورر أن يبقى في خدمته. والفنان لم يخيب فأل الأمبراطور، إذ انه – وكما أشرنا – كرس منذ ذلك الحين معظم فنه لهذا الحاكم المتنور. وإذا كان قوس النصر قد عبر عن ماكسيميليان الأول وخلّده، فإن دورر عاد وحقق له، بين أعمال أخرى – ليس أقلها كتاب الصلوات -، عملاً ضخماً آخر هو «موكب النصر»... غير ان دورر، كعادته، لم يشتغل على ذلك الموكب (الذي يبلغ طوله 55 متراً ويتألف من 137 قطعة خشبية) وحده، بل انه اكتفى بتصميم وتنفيذ العربة المظفرة الخاصة بالامبراطور وتشكل الجزء الرئيس في العمل ككل. وهنا مرة أخرى نجد الفنان وقد استوحى الفنون الإيطالية جاعلاً الموكب كله، في تصميمه النهائي يتوجه ناحية قوس النصر. > عاش أولبريشت دورر بين 1471 و1538. وهو ولد في نورمبورغ ابناً ثالثاً لجوهري هنغاري الأصل فضل ان يترك وطنه ليعيش ويعمل في مدينة نورمبورغ الحرة، في ذلك الحين. وألبريشت الفتى، بعدما درس القراءة والحساب في مدرسة ابتدائية التحق بعمل أبيه... لكنه سرعان ما كشف عن مواهب فنية حقيقية، وخصوصاً من خلال رسم حققه ملأه بالرموز، ويرى الدارسون انه كان أشبه برسالة سرية وجهها الى أبيه معلناً فيها رغبته التحول الى الرسم. وفهم الأب الرسالة، لتبدأ رحلة الابن مع الفن، رسماً وحفراً. وهو إذ قام برحلات فنية عدة أواخر القرن الخامس عشر، عاد ليستقر في نورمبورغ ويتزوج ويؤسس محترفه. غير ان الزواج الذي لم يثمر أطفالاً، لم يمنع الفنان من مواصلة التجوال لا سيما في إيطاليا. ولسوف تكون سنواته التالية سنوات عمل وجهد، وحتى سنوات تدخل في السياسة والصراعات الدينية، إذ سنجده بدءاً من العام 1520 متبعاً مذهب مارتن لوثر. وإذ أمضى الفنان سنواته الأخيرة بين هولندا ونورمبورغ، توفي في العام 1528، ثرياً إنما من دون ذرية، غير مخلّف سوى فنه الذي خلده على مدار التاريخ تماماً كما خلد هو ذكرى الامبراطور الذي كان مناصره الأكبر. ألف وجه لألف عام - «ريح الأوراس» لمحمد الأخضر حامينا: الإنسان الأرض والثورة ابراهيم العريس الحياة - 29/01/09// في عام 1966، كانت الجزائر قد أصبحت، منذ سنوات، دولة مستقلة، وكانت ثورتها قد انتصرت بفضل ما سُمي يومها تضحيات المليون شهيد. خلال السنوات العشر السابقة، لم تكن السينما بعيدة من مواكبة الثورة، وغالباً، تقريباً، من منطلق يقف مع الثورة ويصور تضحيات أبناء الجزائر، والظلم الفرنسي. في إطار تلك السينما كانت هناك أفلام فرنسية وأخرى أوروبية، وكانت ثمة مساهمة أساسية من السينما العربية («جميلة الجزائرية» ليوسف شاهين). وكانت هناك أيضاً أفلام حققت في الجزائر، ولكن غالباً على يد سينمائيين ومناضلين جزائريين وفرنسيين، لكنها كانت إما أفلاماً قصيرة وإما أفلاماً تسجيلية. لم يكن الجزائريون قد خاضوا، بعد، تجارب الفيلم الروائي الطويل، باستثناء تجربتين، هما فيلم أحمد راشدي الطويل الأول «فجر المعذبين» وفيلم مصطفى بديع «الليل يخاف الشمس». ومن هنا حين حقق محمد الأخضر حامينا، في عام 1966، أي في العام التالي لتحقيق الفيلمين الآنفين، فيلمه الروائي الطويل الأول «ريح الأوراس» كان من حقه وحق النقّاد والمؤرخين أن يحتفلوا بالفيلم بصفته خطوة جبّارة على طريق ولادة سينما جزائرية حقيقية. أما بالنسبة الى حامينا نفسه، فإن هذا الفيلم سيكون باكورة أعماله الخاصة بعدما كان ساعد وشارك في بعض الشرائط من قبل، ولا سيما في اخراج فيلم «ياسمينا» (1961) لواحد من رواد السينما النضالية الجزائرية: جمال الشندرلي. ذلك أن «ريح الأوراس» أتى منذ البداية فيلماً متكاملاً، بل إنه – وعلى رغم موضوعه الذي يتناول فصلاً من فصول النضال الجزائري ضد المحتل الفرنسي إبّان اندلاع الثورة – لم يكن من النوع الذي يمكن أن ينضوي تحت مسمى «السينما المجاهدة» وهو الاسم الذي أطلق حينها على كل ذلك الرهط من الأفلام التي كان، حتى النقّاد التقدميون ينظرون اليها على اعتبار انها سينما نضالية دعائية، ينقسم العالم بالنسبة اليها الى طيبين (هم الجزائريون دائماً) وأشرار (هم دائماً الفرنسيون). > أمام كاميرا محمد الأخضر حامينا، تبدلت الأمور، وإن لم يكن التبدّل عميقاً بالطبع، فالوقت كان لا يزال أبكر من أن يسمح سينمائي مرهف، مثل حامينا، بأن يضع النقاط على الحروف وأن يكون أكثر دقة في خطابه، كما سيكون حاله في «وقائع سنوات الجمر» الذي سيفوز بعد أقل من عقد من السنين بـ «السعفة الذهبية» في مهرجان «كان» السينمائي. إذاً، في «ريح الأوراس» الذي كان، في ذلك الحين، علامة إضافية على امساك الجزائريين بسينماهم وبقضاياهم، بأيديهم، بعدما كان الأمر عبئاً على الآخرين، لدينا الثورة ولدينا الغضب والعنف وعذاب الشعب وحتمية انتصاره، ولكن لدينا في الوقت نفسه شخصيات فرنسية لا تخلو من طيبة، وشخصيات جزائرية لا تخلو من غش وشر. ولدينا أيضاً سينما شاعرية، وإن كان رشيد بوجدرة، الكاتب المعروف الذي كتب كثيراً عن السينما الجزائرية، سيؤكد لنا أنها شاعرية على الطريقة السوفياتية، أكثر منها شاعرية ذاتية تبتدع طريقة جزائرية. هنا أيضاً كان الوقت أبكر من أن يسمح لمحمد الأخضر حامينا، بأن يستنبط لغة خاصة به، حتى وإن كانت تجاربه، في «ريح الأوراس» قد مهّدت طريقه في ذلك الاتجاه. ثم إن هذا الفيلم، الى ذلك كله، لم يكن فيلماً عن «جبهة التحرير الجزائرية» ولا عن «المليون شهيد» ولا عن الرجال الذين حملوا السلاح ولا عن النساء اللواتي ناضلن كثيراً وبوَعي تام، قبل الانتصار وخيبات الأمل (كما تصورهما آسيا جبار في فيلمها اللاحق «نوبة نساء جبل شنوة»). «ريح الأوراس» هو، بكل بساطة عن الطبيعة والحق، عما يقف خلف النضال، عن امرأة ثم بعد هذا كله عن الشعب الذي هو «عصب الثورة» كما كان يقول واحد من شعارات جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، في ذلك الحين. > في الأساس إذاً، هناك الثورة والمرأة. والحقيقة أن ليس ثمة من رابط بين هاتين، سوى الشاب المدعو الأخضر، الذي هو من ناحية ابن المرأة (قامت بالدور الفنانة كلثوم في شكل رائع، من دون أن يكون لها أي اسم محدد في الفيلم)، ومن ناحية ثانية، العامل مع الثوار إذ اعتاد أن يوصل اليهم، وهم في مكامنهم في أعالي الجبال يقارعون الفرنسيين، مؤناً وحاجات مختلفة. وهذا كله سنعرفه بالتدريج، إذ أولاً، وكما يقترح علينا المخرج (الذي كتب سيناريو الفيلم بنفسه مع زميله توفيق فارس)، كان علينا أن نتمعن في تلك المنطقة في جبال الأوراس، حيث منذ اللقطات الأولى، تبدو الطبيعة ملتحمة بالبشر تشكل معهم كلاً واحداً. ومن بين هؤلاء البشر، يختار الفيلم ثلاثة يشكلون عائلة ريفية تعمل في الزراعة: أب وزوجته وابنه. وهذا الابن هو الذي يقوم نهاراً بمهامه الزراعية فيما يوصل، ليلاً، ما يحتاجه المناضلون. وذات يوم تقصف الطائرات الفرنسية المنطقة فيقتل الأب. وعقب ذلك يعتقل الفرنسيون الشاب، الأخضر، ويرمونه في معسكر اعتقال. وعلى هذا النحو، تصبح الأم (كلثوم)، محور الفيلم، في رواحها وغدوها من معسكر الى معسكر، ومن معتقل الى آخر، بحثاً عن ابنها. إنها تريد استرجاعه مهما كلفها الأمر، وهذه الفكرة تلح عليها – طبعاً – حد الجنون. تسأل المزارعين، تستجدي الضباط الفرنسيين، تجابه الثوار… ولكن لا أحد من هؤلاء جميعاً عنده الجواب. لا أحد يعرف أين هو الشاب. والحال أن هذا البحث الدؤوب والملحاح، هو الذي يصبح – هنا – موضوع الفيلم، أكثر مما هي الثورة موضوعه. ذلك أن المخرج ربط حركة الأم وتجوالها، الذي راح يزداد حزناً وصعوبة يوماً بعد يوم، بحركة الطبيعة، توقعاً لمجيء تلك الرياح العاتية التي ستسيطر على القسم الأخير من الفيلم، وتكاد تصبح هي السد العنيف في وجه حركة الأم، والتي تضبط ايقاع الفيلم في نهاية الأمر، بل تنهي الفيلم، في واحد من المشاهد الرائعة في تاريخ هذا النوع من السينما، من منطلق أن النهاية هذه تبدو هنا سوداء حزينة، بدلاً من أن تكون تفاؤلية – وبسذاجة غالباً – كما اعتادت نهايات الأفلام النضالية أن تكون. ففي المشهد الأخير هذا، ووسط عصف الرياح، تقع الأم ميتة وسط الغبار ووسط الاندماج بالتراب. قبل ذلك كانت الأم، في قفزة حياة أخيرة، قد عثرت على ابنها وباتت واثقة من أنه سيعود الى حريته، وبالتالي الى الحياة، من دون تأخير. وهو أكد لها هذا، طالباً منها الآن أن تسبقه الى البيت وسيتبعها سريعاً. بالنسبة اليها، حققت ما كانت ترجوه وما شغل زمنها الأخير وبالتالي لم يعد لديها من مهمة. فلتسترح أخيراً. أما راحتها هنا فليس شيئاً آخر سوى الموت. غير أن هذا الموت، كما صوره حامينا – وهذا هو الجانب الذي يعادل القوة السوداوية التي تنهي الفيلم – ليس موتاً مأسوياً، بل هو أقرب لأن يكون امتزاجاً بالتراب، وزواجاً مع الطبيعة، بعد الاطمئنان على مصير من سيكمل المسيرة (الابن). وهذا البعد المفتوح (بل ربما التفاؤلي أيضاً)، عبّر عنه حامينا، في الشكل الذي أعطاه للقطة، حيث يصعب علينا بداية أن ندرك أن هذا «الشيء» المكوّم فوق التراب والتربة ممتزجاً بهما، هو الأم، لكننا بالتدريج ندرك هذا، ولا نضيق به. انه انتصار الأرض بإنسانيتها، يكاد حامينا أن يقول لنا. > لا بد هنا من الإشارة الى أن هذا الفيلم، الذي حقق انتصارات كبيرة حين عرض في مناسبات ومهرجانات سينمائية عدة خارج الجزائر (وفي مهرجان «كان» بخاصة)، لم يلقَ كبير نجاح حين عرض تجارياً في الصالات الجزائرية. ومع هذا، فإن ردود الفعل الايجابية (أو السلبية) عليه كانت كافية لبدء انطلاقة محمد الأخضر حامينا (مواليد 1940) ليصبح لاحقاً واحداً من كبار السينمائيين الجزائريين والأفارقة في شكل عام. وهو بدأ حياته تلميذاً فاشلاً مشاكساً، ثم حين بلغ الشباب ذهب في منحة الى براغ حيث درس السينما (ومن هنا بداياته الموصوفة بـ «السوفياتية») ثم توجه الى تونس حيث عمل في مهن سينمائية متنوعة، وفي التصوير ومساعدة المخرج بخاصة، حتى كانت بدايته الحقيقية مع «ريح الأوراس»، الذي تلته أفلام عدة، أشهرها طبعاً «وقائع سنوات الجمر» (1975)، اضافة الى «الصورة الأخيرة» (1986). ألف وجه لألف عام - «بودلير» لسارتر: عن الحرية لا عن الشاعر الملعون ابراهيم العريس الحياة - 01/11/08// http://www.alhayat.com/opinion/ideas/10-20...9ac3/story.html يعتبر كتاب جان - بول سارتر عن فلوبير «أبله العائلة» (1971 - 1972) واحداً من أشهر كتب النقد الأدبي التي صاغها صاحب «الغثيان» و «الوجود والعدم»، بل لعله الكتاب الأشهر حول صاحب «مدام بوفاري»، ناهيك بأنه واحد من الكتب التي عرفت وبوفرة، كيف تطبق دراسات التحليل النفسي، المستقاة مباشرة من فرويد في مجال تحليل علاقة الكاتب، أي كاتب، بعمله الإبداعي. غير أن سارتر لم يكن، في سياق عمله الخاص نفسه، مجدداً في هذا المجال حين ألف «أبله العائلة» وهو في عز نشاطه الفكري والإبداعي عند بدايات الثلث الأخير من القرن العشرين، إذ سبق له أن وضع دراسات أدبية كثيرة، طويلة أو متوسطة، تسير على المنوال نفسه في مجال التحليل السيكولوجي للأدب. ومثل هذه الدراسات نجدها في أجزاء عدة من «المواقف» كما في كتاب سارتر الكبير «سان جينيه، كوميدياً وشهيداً» (1952). ثم، كما ان لكل شيء بداية، يمكننا أن نعود أبعد قليلاً في الزمن لنجد جذور هذا الاهتمام في كتاب مبكر لسارتر هو «بودلير» الذي نشره عام 1946، لكنه كان كتب فصوله قبل ذلك بسنوات. أو لنقل تحديداً منذ «اكتشف» إمكانية تطبيق نظريات التحليل النفسي على الإنتاج الأدبي، وعرف كيف يترجمها، عملياً، بنوع من النظرة السلوكية على الطريقة الأميركية. ومن هنا، في سياق عمل سارتر الأدبي، والذي لا يمكن بأية حال فصله عن عمله الفلسفي أو عن عمله العلمي في شكل عام، يمكن النظر الى كتاب «بودلير» على انه كتاب رائد، وعلى أنه الممهد الأساس لظهور ذلك الكتاب المدهش، والفريد، عن فلوبير. > منذ البداية يبدو واضحاً أن سارتر لم يكن يسعى الى رسم صورة ما لمسار بودلير الحياتي أو الكتابي. كان ما يهمه، في الدرجة الأولى، أن يسائل عمل بودلير نفسه، أن يسبر أغوار شعر بودلير على ضوء حياة هذا الأخير ليسأل السؤال الحاسم: هل أن بودلير، الذي يبدو أنه أخفق في كل شيء، لم يعش سوى الحياة التي يستحقها؟ وهل أن شعره لم يكن سوى صورة لهذه الحياة المخفقة؟ وهل حدث هذا بفعل الصدفة أم أن بودلير أراد هو نفسه أن تكون حياته وعمله متطابقين بهذه الصورة السلبية؟ وسارتر لا يكتفي، منذ صفحات كتابه الأولى بطرح الأسئلة، بل انه يسعى الى الوصول الى أجوبة: نعم، بالنسبة اليه، بودلير، ليس فقط عاش الحياة التي يستحقها، بل انه أراد هذه الحياة نفسها: أرادها بمشاكلها وضروب فشلها وإخفاقاتها، «لأنه كان يعرف منذ البداية انه كان سيكون شيئاً آخر تماماً لو أنه عاش حياة أخرى». ومن هنا يصبح، بالنسبة الى سارتر. من المنطقي أن نقول ان كل شيء في حياة بودلير، من التأزم والفوضى العائليين، الى الفقر الدائم، ومن المرض حتى المحاكمات... كل شيء جرى تماماً كما أراد له بودلير أن يجرى: هو أراد ذلك كله، لأنه منذ البداية اتخذ موقع الرجل الخانع المستسلم. ومن هنا نراه «يقبل من دون أي احتجاج أو تمرد النمط الأخلاقي الذي أدين انطلاقاً منه، وصولاً الى أن يحاكم بسبب «أزهار الشر» وان يحكم عليه...» ولكن لماذا؟ يجيب سارتر: لأن بودلير كان في حاجة الى من يحاكمه واضعاً فرادته وسط مؤسسة قانونية البعد: كان في حاجة الى مأسسة هذه القراءة. فبودلير «لم يكن في إمكانه أن يؤكد فرادته إلا ضمن بيئة المنطوقة الاجتماعية القائمة». لو حدث الأمر على الهامش لما كان مهماً بالنسبة اليه كثيراً...». > هل نحن، إذاً، أمام صورة ما للعبة جلد الذات؟... أجل، والى حد كبير، يقول لنا سارتر. وهنا، يبدو من الواضح انهم كانوا على حق أولئك النقاد والباحثون الذين رأوا، في هذا الإطار بالذات، أن سارتر يشتغل على الموضوع هنا اشتغال الفيلسوف لا اشتغال الناقد الأدبي أو المحلل النفسي، طالما انه - من ناحية - لا يدنو كما ينبغي من أشعار بودلير ليحللها في أعماقها، راسماً من خلال ذلك التحليل صورة ما لبطله مطلقاً عليها وعليه أحكام قيمة ما، ومن ناحية أخرى لا يوصل تحليله المعمق لحياة بودلير وتصرفاته الى التقاطه في لحظات حياته العادية ليدرس كل ما هو «استثنائي» فيها. على عكس هذا كله يحاول سارتر في هذا النص أن يعيد حياة بودلير الداخلية الى الحياة. أولى بكلمات أخرى ان ما يحاوله سارتر هنا هو أن يضع نفسه داخل التجربة البودليرية ليعايشها جوانياً، في شكل يتناسب تماماً مع عيش بودلير لها... واصلاً الى جواب - رآه هو حاسماً - حول سؤال أساسي: إذا كان بودلير، ولا يزال، يعتبر شاعراً ملعوناً؟ للوصول الى هذا يستخدم سارتر، بصورة جوهرية، كل ما أسرّ به بودلير حول نفسه وحول حياته، وذلك على هامش إنتاجه الإبداعي... سواء أتى ذلك في نصوص جانبية، أو في مراسلات الشاعر مع أهله وخلافه. ولعل في كون هذا النص أصلاً، كتب كمقدمة لطبعة من كتاب بودلير «كتابات حميمة»، ما يبرر هذا كله. فإذا أضفنا الى هذا ان سارتر يهدي النص، أصلاً، الى جان جينيه، الذي سيعود ويكتب عنه نصاً مشابهاً بعد سنوات، تصبح المسألة مفهومة أكثر طالما اننا نعرف أن جينيه كان بدوره ملعوناً، مثل بودلير، هو الذي بدوره حوكم وسجن ولعن على يد السلطات كما على يد المجتمع «إذا أضفنا هذا، تتضح لنا تماماً خلفية هذا الكتاب ومعناه. انه كتاب يحاول فيه مؤلفه أن يفصل داخل ما هو معروف عن الشاعر، جوانيته التي قد تظل عصية على الإدراك تحت وطأة الصورة الشعبية. وهنا قد يكون مفيداً أن نعود الى نقطة أساسية بدأنا بها هذا الكلام: فسارتر يرى في «بودلير» انه إذا كان الخيال الشعبي، المتواطئ هنا مع السلطات (الرسمية وبالتالي الاجتماعية)، قد رسم لبودلير صورة ملعونة سرعان ما نجدها تنعكس على حياته كما على شعره، فإن هذا لم يتم - في الحقيقة - إلا بالتواطؤ مع الشاعر نفسه. فبودلير، كما يقول سارتر، هو الذي حدد، بدايةً، صورة ذاته، ثم بعد ذلك استدعى الآخرين لتحديدها وهم واهمون انهم أصلاً هم الذين حددوها، إن لم يكونوا هم الذين صنعوها. > إذاً، انطلاقاً من هذا التأكيد، الذي من الواضح أنه يأتي هنا ليقلب المعادلات، يرسم جان - بول سارتر، ليس صورة للشاعر ولا لزمنه ولا حتى لجوانيته أو لشعره، بل في شكل أكثر وضوحاً: صورة للحرية. حرية الشاعر في تحديد صورة ذاته. فإذا كان بودلير قد اختار مصيره - مهما كانت تعاسة وملعونية هذا المصير، فإنه انما اختار معها حريته. فإذعانه أمام أن يدان، وقبوله الاستسلامي بمصيره، ليسا هنا سوى فعل حرية تقف بالشاعر خارج الدروب الممهدة... فرادته تكمن في خروجه، غير المألوف هذا، عن قبول الآخرين به. انها مجازفة... لكنها، بالطبع، أقرب الى ان تكون مغامرة حرة خطيرة خاضها الشاعر. فهل نجح فيها؟ أجل حتى ولو كان الثمن باهظاً. وبالنسبة الى سارتر دائماً ما يكون ثمن الحرية باهظاً. انه الاختيار الحر الذي يجعل الشاعر يحدد مصيره بنفسه مهما كان بؤس هذا المصير وبئسه. وبهذا يكون سارتر قد وضع بودلير على سكة اهتماماته، هو الخاصة. ففي ذلك الحين كان أهم ما يهم صاحب «الجدار» و «الأيدي القذرة» أن يغوص في مفهوم الحرية، ليس فقط كالتزام أخلاقي أو وسيلة للعيش ومبرر للوجود، بل كذلك بوصف الحرية مفهوماً فلسفياً. ومن هنا، حين احتج كثر على سارتر أبان صدور الكتاب متسائلين: بأي حق يتصرف في حياة بودلير ومشاعره على هذا النحو، كانت إجابته بسيطة: ... وهل تعتقدون حقاً أنني كتبت هنا عن بودلير؟ > حين وضع سارتر هذا الكتاب - الذي يكاد يكون منسياً في زمننا هذا - كان بالكاد تجاوز الأربعين، لكنه كان قد أضحى علامة وعلامات الفكر والإبداع و... الحرية في فرنسا وأوروبا. ومن المؤكد ان اشتغاله على «بودلير» انما نبع من تلك المكانة التي ظل بعد ذلك في محاولة دائمة لتأكيدها، ليس كمصدر فخر ذاتي، بل كفعل إيماني بالحرية. alariss@alhayat.com أنا هو الفارس الأندلسي! ألف وجه لألف عام... Zurück zu Nadorcity * Diskussionsforum * Themenübersicht Thema: أنا هو الفارس الأندلسي! ألف وجه لألف عام... Es wird der einzige Beitrag angezeigt. * Jawad Yoba Elghalid ألف وجه لألف عام... «دون كيشوت» لأورسون ويلز: أنا هو الفارس الأندلسي! لقطة ابراهيم العريس - الحياة من «نابوليون» ستانلي كوبريك، الى «كالييدوسكوب» ألفريد هتشكوك، ومن «هاملت» يوسف شاهين الى «جبران» برهان علوية، وصولاً الى «يوليسيز» و «لتحيا المكسيك» لأيزنشتاين، ثم بخاصة «قلب الظلمات» هذا المشروع الذي تنقّل بين أحلام عدد من كبار مبدعي السينما قبل أن «يحققه» فرانسيس فورد كوبولا، جزئياً في «يوم القيامة الآن»، هناك «أفلام» سينمائية صارت على مدى الزمن أسطورة وجزءاً أساسياً من «تاريخ» الفن السابع وتاريخ أصحابها، من دون أن تُحقق أبداً، أو من دون أن تنجز بعد أن بوشر في تحقيقها. بل لعلها استقت أسطوريتها وأهميتها لكونها لم تحقق أو لم تكتمل. ومن هذه الأعمال «دون كيشوت» الذي كان من أوائل مشاريع أورسون ويلز، لكنه بعد أن صور ما يقارب الـ 300 ألف قدم، لم يكمله أبداً، وأنهى حياته، عام 1985، مردداً أنه لا بد من أن يأتي يوم وينجز فيه هذا الفيلم الذي كان يعتبره أكبر أفلامه وأهمها. طبعاً نعرف أن أورسون ويلز رحل عن عالمنا من دون أن يحقق هذا الفيلم في شكل كامل. تماماً كما أن ستانلي كوبريك رحل من دون أن يحقق «نابوليون». ومع هذا هناك فيلم عرض في مهرجان «كان» السينمائي عام 1992، عنوانه «دون كيشوت» ويحمل اسم أورسون ويلز. تماماً كما أن هناك فيلماً سوفياتياً متداولاً أنجز عام 1978 عنوانه «لتحيا المكسيك» يحمل توقيع سيرغاي ايزنشتاين. وواضح لمن يتابع تاريخ السينما أن عزو كل من هذين الفيلمين الى مبدعه الكبير أمر منطقي، غير انه ليس صحيحاً تماماً. ذلك أن ثمة في الحالين، مساعدين أو هواة أو حالمين أو مجرد تجار، أخذوا على عاتقهم إكمال ما لم يتمكن المبدع الكبير من إكماله. فجيء بما هو مصوّر، ليركّب الى بعضه بعضاً وتكون النتيجة فيلماً يبدو الفارق، على أي حال، هائلاً فيه، بين المادة الأولية التي حققها المبدع، والتركيب النهائي الذي قام به الحرفي المتحمس. وهذه الحال تنطبق بخاصة على «دون كيشوت» أورسون ويلز. وكان هذا الأمر واضحاً عندما عرض الفيلم في مهرجان «كان»: كانت الغاية أن يشكل مفاجأة طيبة، لكن العمل أتى ليشكل مفاجأة سيئة. وقال كثر من النقاد: ليت الفيلم بقي نتفاً وحلماً في ضمير صاحبه، بدلاً من أن يهزه في قبره الآن. مهما يكن من أمر، ليس همنا هنا التوقف عند النسخة الجديدة، من «دون كيشوت»، كما حققت انطلاقاً من العمل الذي كان ويلز شرع في العمل عليه عام 1955. بل ما يهمنا هو أن نطل على الفيلم الأصلي نفسه متسائلين عن السبب الذي حال دون ويلز وإنجاز «مشروع حياته» هذا كما كان يسميه وظل يسميه حتى اللحظات الأخيرة من تلك الحياة. ولهذه المناسبة قد يكون مفيداً أن نذكّر بأن «دون كيشوت» لم يكن المشروع الوحيد الذي تركه ويلز من دون استكمال. فهو كان يحمل دائماً في عمق أعماقه عشرات المشاريع الكبرى، وثمة ما لا يقل عن نصف دزينة شرع فيها فعلاً. ولن نكون مبالغين ان قلنا إن ويلز أمضى عقد سنوات الخمسين من القرن العشرين وهو يتأرجح بين المشاريع، يكتب بعضها ويبدأ في تصوير البعض الآخر. ثم يضطر الى تحقيق أفلام لا تفرحه كثيراً، أو التمثيل في أفلام الآخرين، أو تأجير صوته الرخيم معلقاً إذاعياً أو على بعض الأفلام، لمجرد أن يجمع من المال ما يكفيه لتحقيق هذا المشروع أو ذاك. ولكن نعرف اليوم أن «دون كيشوت» كان المشروع الذي عاش معه أكثر من أي مشروع آخر. وربما يعود السبب الى ذلك التطابق المدهش، والذي وعاه هو نفسه باكراً، بين شخصيته وشخصية «الفارس» الإسباني العريق. إذ حسبنا هنا أن نضع هوليوود مكان طواحين الهواء، ونبدل معركة «دون كيشوت» من أجل إعادة الاعتبار للفروسية والفردية، بمعركة ويلز من أجل سينما جادة وعبقرية، حتى نفهم كنه تلك العلاقة الضمنية التي قامت دائماً بين حياة ويلز – أو على الأقل نظرته هو الى حياته – وبين مغامرات «دون كيشوت». إذاً، عام 1955، شرع ويلز يصور فيلمه بين المكسيك وإسبانيا وإيطاليا. وهو تصوير بات في مقدورنا الآن أن نقول انه لم ينجز أبداً... مع أنه تواصل طوال أكثر من عشر سنوات. كيف؟ لقد تحلقت حول ويلز، مجموعة من الممثلين وطاقم العمل. وراح – طوال السنوات التالية – يتنقل معهم تبعاً للمال الذي كان يتمكن من جمعه بين الحين والآخر لمواصلة التصوير. وهكذا، كلما كان يتمكن من إقناع صديق ما، أو تاجر ما، أو موزع ما، بتقديم بعض المال مؤكداً له أن ما سيقدمه سيكون كافياً لإنجاز الفيلم وجعله صالحاً للعرض، حتى يصور بعض المشاهد ثم يتوقف – وأحياناً شهوراً طويلة – لأن المبلغ الذي حصل عليه، يكون قد انفق ولا بد الآن من الانتظار للحصول على مبلغ آخر. وبين «المبلغ» و «المبلغ» يكون من حق ويلز ومن حق العاملين معه على الفيلم، الانصراف الى شؤونهم الخاصة وأعمالهم في انتظار المرحلة الجديدة. انطلاقاً من هنا، إذاً، قيل دائماً عن «دون كيشوت» انه – وفي الوقت نفسه، حُقِّق ولم يُحقق. وصار في الآن ذاته فيلماً شبحاً وفيلماً حقيقياً. ولعل في إمكاننا أن نقول عند هذا المستوى من الكلام، ان مجرد تركيب «دون كيشوت» في نسخة «معاصرة» وعرضه في «كان» بصفته فيلم أورسون ويلز المنتظر منذ ثلاثين سنة، في ذلك الحين وأكثر، أرجع العمل برمته الى شبحيته، سامحاً لـ «دون كيشوت» أن يُصنف – في شكل قاطع هذه المرة – بصفته واحداً من أفلام أورسون ويلز التي ظلت – بعد موت صاحبها – قيد التحقيق. ولكن ماذا عن صوغ – أو إعادة صوغ – أورسون ويلز لكتاب سربانتس الشهير، والذي يصنف بين الروايات والأعمال الأدبية الأكثر قوة وتعبيراً والأعلى مكانة في تاريخ الأدب العالمي، بل الذي يصنف بخاصة بداية لإنسانية الأدب. ان من الصعب علينا، اليوم، بالطبع، أن نسبر أغوار ما كان أورسون ويلز يريد قوله من خلال أفلمته لهذه الرواية الكبرى، خصوصاً أن نسخة عام 1992 خلطت الأمور ببعضها بعضاً، وقدمت فيلماً بالكاد يمكن اعتباره تصويراً بصرياً لمجرى الرواية بالشكل الأكثر سطحية. أما «الفيلم الحقيقي» فلعل في إمكاننا العثور عليه في أحاديث أورسون ويلز عن مشروعه هو الذي كان لا يفتأ يقول: «إن أكثر ما يثير اهتمامي – ولا يزال – في اتجاه هذا المشروع هو أنه يمكنني من التعبير عن قيم تبدو اليوم بائدة – مثل قيمة «الفروسية» على سبيل المثال لا الحصر -، ومن ثم التساؤل عما يجعل مثل هذه القيم لا تزال قادرة على أن تخاطبنا، بينما يقول لنا المنطق إنها لم تعد على أية علاقة معنا أو اتصال بنا». ومن الواضح أن هذه العبارات إذ قالها ويلز، تحدد تماماً الغاية التي كان يتوخاها من تحقيق الفيلم، ولكن كذلك، السبب الذي جعل المنتجين والموزعين غير راغبين أبداً في تمويل مشروع كهذا، خصوصاً أن صاحبه أراد في هذا الفيلم أن يقول لنا إن «دون كيشوت» شخصية تقف خارج كل زمان ومكان، في الوقت الذي تبدو داخل كل زمان ومكان.. وبالتالي لم يكن غريباً على ويلز، والحال هذه، أن يجعل بطله يبارح ذات لحظة أندلس القرن السادس عشر، التي كان يعيش ويغامر فيها ليصل الى إسبانيا المعاصرة ومن خلالها الى العالم والزمن المعاصرين. طبعاً رحل أورسون ويلز (1915 – 1985) من دون أن يتمكن من إنجاز هذا العمل. غير أن «دون كيشوت» يظل، الى جانب «المواطن كين» و «سيدة من شانغهاي» و «المحاكمة» و «فالستاف»، واحداً من أهم أعمال هذا السينمائي الساحر الروائي الكبير الذي، حتى وإن كان قد جعل معظم أعماله ينتمي الى التاريخ والى أعمال مستقاة من أدب ونصوص كبيرة، عرف دائماً كيف يطوّع هذا كله ليستحوذ عليه ويجعله، ليس فقط جزءاً من مشروعه الفني والفكري، بل كذلك جزءاً من سيرته الذاتية، علماً أنه، مع مبدعين مثل أورسون ويلز، لا ينفصل المشروع الفكري – الفني عن السيرة الذاتية RE: إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 08-02-2010 «خارج الصمت» لإيرل كوكس: ضدّ العنصرية أم تمهيد لمجيء النازية ؟ الإثنين, 02 أغسطس 2010 080224b.jpg إبراهيم العريس Related Nodes: 080224b.jpg مهما بحث المرء في الموسوعات، الأدبية أو العامة، لن يقيّض له أبداً أن يعثر على اسم إيرل كوكس، حتى ولو كانت تحمل اسم هذا الأخير، واحدة من الروايات الأنغلوساكسونية الأكثر خطورة ورواجاً خلال الربع الأول من القرن العشرين، بل الرواية التي يحتار النقد إزاءها، إذ يرى بعض أنها معادية للعنصرية ولمبدأ تفوق الجنس الأبيض، فيما يرى آخرون أن الرواية، حتى في شكل ملتبس، أتت مؤيدة لنوع ما من العنصرية، قبل عقدين من تصوّر أدولف هتلر، دكتاتور ألمانيا النازي، لما سمي بـ «الحل النهائي» وفحواه إبادة الأجناس الأخرى ومنها «الجنس» اليهودي لمصلحة بقاء الرجل الجرماني الأبيض... سيداً على القارة الأوروبية على الأقل، وربما مواطناً وحيداً فيها. > واذا كان اسم إيرل كوكس غائباً عن الموسوعات الأدبية، فإن صورته غائبة أيضاً. أما الصورة التي تنشر له بين الحين والحين، والمتداولة في أوساط المهتمين بأدبه وحياته، فهي لوحة رسمها الفرنسي أوليفييه كاري، ولم يزعم أبداً أنها تشبه المؤلف صاحب هذا الاسم. وأما الرواية الوحيدة التي عرفت لإيرل كوكس، وترجمت الى العشرات من اللغات فهي «خارج الصمت»، التي لا تكف عن إثارة المخيلات والسجالات منذ ظهورها الأول - الذي يثير بدوره سجالات، إذ ان البعض يعيد طبعتها الأولى الى العام 1921،- من دون أن يقدم كبرهان نسخة من تلك الطبعة - فيما يعيد البعض الآخر ظهورها الأول الى العام 1925، وهو تاريخ يحمل صدقيته من خلال توافر نسخ هذه الطبعة. إذاً، هذه الرواية التي قد يمكن القول انها وكاتبها، يشكلان واحداً من أكثر الألغاز الأدبية إثارة للحيرة خلال الربع الأول من القرن العشرين، تبدو في نهاية الأمر وكأنها من بنات خيال شخص يبدو هو الآخر وكأنه من بنات الخيال. إذ أن كل ما يعرف عنه، هو أنه استرالي، ولد عام 1873 ورحل عام 1950. والسؤال هو كيف قيّض له وقد عاش طوال النصف الأول من القرن الفائت، وعمّر ربع قرن بعد صدور روايته أن يبقى متكتماً وسرياً الى هذا الحد؟... سؤال آخر يزيد من غموض هذا الأمر برمته. > ولكن، إذا كان المؤلف غائباً الى هذا الحد، فإن الرواية حاضرة ومقروءة على نطاق واسع، بل ان كثراً استوحوا موضوعها وبعض أحداثها، وإن في شكل غير مباشر أحياناً، ومن هولاء الفرنسي رينيه بارجافيل، في روايته المعروفة «ليل الزمن». فما الذي تحاول هذه الرواية أن تقوله لنا؟ وكيف تمكّن الباحثون من إقامة نوع من الربط بينها وبين أفكار هتلر؟ > تدور أحداث «خارج الصمت» في القارة الأسترالية، خلال العشرية الثالثة (العشرينات) من القرن الفائت. وبطلها شاب يدعى آلان دانداس، يحدث له ذات مرة أن يكون في صدد حفر بئر للماء في حديقة منزله. وفجأة يصطدم معوله بما يخيل اليه أول الأمر انه صخرة جوفية صلبة... ولكن سرعان ما يتبين له أن الشيء الصلب ليس صخرة، بل قمة كرة ضخمة الحجم. سنعرف لاحقاً أنها مصنوعة من ذهب خالص تفوق قوته قوة أي معدن نعرفه. وبعد محاولات كثيرة ومخاطر وأهوال وضروب حيلة مدهشة في رحلة تبدو في نهاية الأمر رحلة معرفية تعليمية، يصل دانداس الى داخل الكرة. فما الذي يعثر عليه هناك؟ كنز حقيقي من المعارف العلمية والثقافية، وتراكم من العلوم والمؤلفات من شأنه أن يجعل من كل تراث حضارتنا الراهنة، لعبة أطفال. وإزاء هذا كله يحرص دانداس على ألا يخبر أحداً بما اكتشفه، ولكن باستثناء صديق له طبيب هو ريتشارد باري وسنقول لماذا بعد قليل. أما الآن فلنذكر أن دانداس يغرق في القراءة وفي المعارف التي عثر عليها، الى درجة أنه يهمل كل شيء، مزرعته وحياته اليومية وخصوصاً حبيبته ابنة الجيران الحسناء... ولا سيما أن «الجوهرة» الحقيقية في ذلك الكنز إنما هي امرأة رائعة الحسن جمدت داخل الكرة منذ 27 مليون سنة. وهي شقراء، رمادية العينين وذات جسد صحي ورائع... وكان من الطبيعي أن يقع دانداس في غرامها ثم يعرف، بعد أن يأتي بالطبيب صديقه للمساعدة على إعادتها من حال التجميد الى الحياة العادية، ان اسمها هيرانيا، وتعني بلغة شعبها «زهرة الحياة». وهيرانيا هذه، بقدر ما يطلعها دانداس على الحضارة الإنسانية الراهنة، تحدثه عن حضارة شعبها العظيمة التي كانت اختفت بفعل كارثة طبيعية. وفي خضم هذا الحديث، يبدأ الطبيب، لا دانداس، بالشعور بالقلق. ذلك انه يكتشف ان هيرانيا قوية للغاية وذات معارف هائلة، كما ان الوسائل المتوافرة لها داخل الكرة تمكنها من تحقيق أي مشروع تريد. ثم ها هي فجأة تعلن عن وجود كرة ذهبـــية ثانية في جبال الهيملايا يسكنها آنداكس، قرينها الذكر الذي يمثل الذكور الذين أنشأوا الكرات. وهنا يتضح للدكتور، وسط غفلة دانداس، أن في الأمر حضوراً عنصرياً واضحاً، ذلك ان حكاية هيرانيا تقول انه في الأزمان السحيقة تمكن العرق الذي تنتمي اليه من إزالة كل الأعراق الملونة تحت شعار «النوعية». وهكذا اندلعت حرب أعراق كان يؤججها رهبان لا يكفّون عن التحدث عن «التربية والتطور والحب الأخوي». وهكذا وسط تلك الازدواجية قضي على كل الشعوب الملونة، فيما راح العرق الأبيض المتفوّق يطوّر إمكاناته ويحســن مســـتويات ذكائه من دون أن يعترض طريقه معترض. وما هيرانيا وآنداكس، سوى النتاج الصافي لهذا العرق. وها هي هيرانيا الآن تحاول أن تســـتخدم دانداس لتحقيق مآربها قائلة له: «ترى ألم يدرك عالمك بعد أن ثمة عشباً فاســداً تجب إزالته؟». ومن هنا تفكر بالذهاب لمساعدة آنداكس على استعادة حريته ويحاول الدكتور منعها من دون جدوى. أما ما سينقذ العالم من هيرانيا فهو الحب: الجارة التي كان دانداس مولعاً بها، وها هي تأتي الآن لقتل هيرانيا بالسكين أما دانداس فإنه إذ يجن من أجل حبيبته البيضاء ينغلق مع جثتها داخل الكرة محركاً الأوالية التي تدمرها، وتدمرهما معها... وهنا تتوقف رواية إيرل كوكس، الذي يترك للقراء حرية تخيل النهاية. > هل كان هذا صحيحاً أو أن الكاتب الغامض كان ينوي أن يجعل لروايته تكملة ما، ثم حالت ظروف معينة بينه وبين ذلك؟ لا أحد يدري. فقط يعرف الباحثون أن موقف الرواية في حد ذاتها من المسألة الشائكة التي تطرحها موقف ملتبس غامض، يترك المجال لتفسيرات شتى. فهل ظهور النازية وهتلر، كان واحداً من تلك التفسيرات؟ alariss@alhayat.com RE: إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 08-05-2010 «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي على شاشة السينما فيلماً كبيراً الخميس, 05 أغسطس 2010 "مشهد من "قنديل أم هاشم".jpg ابراهيم العريس يعتبر فيلم «قنديل أم هاشم» للمخرج المصري كمال عطية، واحداً من أبرز مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية. لكن الأهم من هذا هو أن كمال عطية حين حقق هذا الفيلم عام 1968، إنما كان واحداً من مبدِعَين مصريين في مجال الفن السابع، اكتشفا - متأخرين، كثيراً طبعاً - الامكانات البصرية المدهشة في أدب يحيى حقي، الأديب المصري الكبير، الذي - مع هذا - كان وراء اكتشاف عدد كبير من أجيال الخمسينات والستينات في مصر، فن السينما الجاد والحقيقي، وذلك من خلال ندوة الفيلم المختار التي كان يقيمها ويشرف عليها، ويكتب - خدمة لها ولأعضائها - عشرات المقالات عن السينما وأفلامها. إذاً، مقابل اكتشاف كثر، من السينمائيين بخاصة، في مصر، أعظم أفلام تاريخ السينما بفضل يحيى حقي، تقاعست السينما المصرية حتى عام 1968 لتكتشف أدب يحيى حقي... حيث الى جانب كمال عطية، كان هناك أيضاً حسين كمال الذي حقق فيلمه الرائع «البوسطجي»، المعتبر بدوره واحداً من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية، وكان ذلك في العام نفسه. > أما يحيى حقي، فإن «قنديل أم هاشم» كان واحداً من اوائل النصوص الروائية التي كتبها هذا المبدع الكبير الذي كان غزير الانتاج متنوع الاهتمامات، ظريفاً في كتابته. ولعل في امكاننا هنا أن نستعيد السطور الأخيرة من هذا النص، لنقف عند مظهر من مظاهر ابداعه. فخاتمة الكتاب تقول: «الى الآن يذكره أهل حي السيدة بالجميل والخير، ثم يسألون الله له المغفرة. مم؟ لم يفض الى أحد بشيء، وذلك من فرط إعزازهم له. غير أنني فهمت من اللحظات والابتسامات أن عمي ظل عمره يحب النساء، كأن حبه لهن مظهر من تفانيه وحبه للناس جميعاً. رحمه الله...». > بهذه العبارات اذاً يختتم يحيى حقي «رواية» «قنديل أم هاشم». وقد تعمدنا هنا أن نضع كلمة رواية بين معقوفتين، أولاً لأنها تكاد في الحقيقة أن تكون قصة طويلة لا رواية، من ناحية ضآلة حجمها - إذ لا تزيد عن خمسين صفحة -، وثانياً لأن أسلوبها يغلب عليه طابع التقرير أو التحقيق، وكأن الكاتب يكتب هنا نصاً من دون أية أبعاد درامية عن شخص وقضية عايشهما ويريد أن يوصل أخبارهما لا أكثر. ومع هذا، أبدى النقاد دائماً إعجابهم بهذا العمل الأدبي معلنين أنه عمل تأسيسي حافل بالدلالات. بل إن واحداً منهم كتب أن «قنديل أم هاشم» هي «تعبير عن أزمة جيل من المثقفين نهل من علم الغرب، وعايش حضارته فاستأثر باعجابه، وبدلاً من أن يشفق على تخلف وطنه، وجد الراحة في التمرد عليه، لا التمرد من أجله، وازدرائه والفرار منه (...). في هذه الرواية الصدارة هي للبرهنة على قضيته. ولهذا تختزل الوقائع المادية الى الحد الأدنى». والحال أن الرواية تحمل هذا بالفعل لكنها في المقابل تبدو محيّرة في نهايتها، حيث إن يحيى حقي قسم الأحداث قسمين أحدهما يدور في أوروبا والثاني في مصر، واصلاً بهذه الأحداث الى موقف استخلاصي بدا من الرجعية بحيث إن الناقد رشاد رشدي يقف أمام كل هذا مندهشاً متسائلاً عن السبب الذي يمكّن البطل، اسماعيل، من النجاح في علاج حبيبته فاطمة من العمى، فقط بعد أن ارتد الى الغيبيات، خصوصاً أنها كانت فقدت بصرها تماماً، مضيفاً: «نحن نفهم أن زيت القنديل قد أفسد عيني فاطمة وزادهما فساداً، ولكننا لا نستطيع أن نفهم كيف أن زيت هذا القنديل نفسه كان السبب في شفائها بعد ذلك. ونحن قد نفهم أيضاً السبب في ايمان اسماعيل بالعلم وثورته على الأوهام والخرافات، ولكننا لا نستطيع أن نفهم السبب في ارتداده الى الغيبيات وكفره بالعلم». > والحقيقة أن رشاد رشدي لم يكن متفرداً في موقفه الاستنكاري هذا... والذي وجد في «قنديل أم هاشم» تناقضاً كبيراً، حتى وإن كان يحيى حقي برر هذا كله، إذ كان يقول لمن يسأله عن روايته هذه: «لقد أقمت في روما خمس سنوات عدت بعدها الى مصر فأحسست بصدمة كبيرة ورحت أسأل نفسي: ما الذي حدث؟ لماذا هذا التأخر؟ وأصابتني صدمة شديدة، اخترت أن أعبر عنها في شخصية شابة من عائلة فقيرة سافر الى أوروبا ليتعلم وعاد متنكراً لأصله. وقد حاولت تعرية هذه النزعة عند الشبان الذين ابتعثوا للدراسة فعادوا متنكرين لأصولهم مرتدين «البرنيطة وبين شفايفهم البايب» ينفثون دخانهم في وجوهنا باحتقار. لقد جعلت اسماعيل يرفض كل معتقداته المصرية... حتى الدين، الى درجة أنه يقول لأمه حين تحدثه عن قنديل أم هاشم المبارك الذي يحقق المعجزات (وسيتفوق على الطب في معالجة عيني فاطمة): «أنا لا أعرف أم هاشم هذه، ولا أعرف حتى أم عفريت». > أما بالنسبة الى الفيلم، فإنه لم يخرج عن الاطار العام للرواية. وهو في الحقيقة لم يكن في حاجة الى هذا الخروج. من ناحية لأن الرواية قصيرة (50 صفحة)، ثم لأن أسلوب يحيى حقي فيها كان أسلوباً أقرب الى أن يكون بصرياً. وكأنه كان صاحب مشروع لكتابة سيناريو، ثم استبدله بكتابة النص. فعمّ تتحدث الرواية، وعمّ - بالتالي - يتحدث الفيلم؟ عن الشاب اسماعيل الذي سافر الى الخارج وغرق في عالم أوروبا وثقافتها العقلانية الى درجة نسي معها تقاليد شعبه ومعتقداته. وهو حين يعود الى مصر أخيراً وقد تغير، يكتشف أن فاطمة، قريبته والتي هي بمثابة خطيبته، مصابة بمرض في عينيها يفقدها البصر تدريجاً، وأن الاهل يحاولون شفاءها باستخدام زيت قنديل أم هاشم المبارك. فيثور إذ يتبين له أن الزيت يزيد من مرض فاطمة... غير أنه حين يرمي القنديل وزيته جانباً، ويبدأ باستخدام أساليب الطب الحديث لمعالجة الفتاة، يكتشف هنا أن هذا الطب عاجز بدوره... فيكفر به، ويعود الى القنديل مستخدماً إياه لشفاء فاطمة... فتشفى. وكانت النتيجة ان ضرب عرض الحائط بكل ما كان تعلمه في أوروبا و «افتتح عيادته في حي البغالة بجوار التلال، في منزل يصلح لكل شيء إلا لاستقبال مرضى العيون. الزيارة بقرش واحد لا يزيد (...). وهنا كم من عملية شاقة نجحت على يديه بوسائل لو رآها طبيب أوروبا لشهق عجباً. استمسك من علمه بروحه وأساسه، وترك المبالغة في الآلات والوسائل واعتمد على الله، ثم على علمه ويديه فبارك الله في علمه ويديه. وتزوج فاطمة وأنسلها خمسة بنين وست بنات... وكان في آخر أيامه ضخم الجثة، أكرش، أكولاً نهماً، كثير الضحك والمزاح والمرح...». > في شكلها الظاهر هذا تبدو «قنيل أم هاشم» كرواية وكفيلم محاولة للمزاوجة بين الإيمان والعلم، غير ان كثراً رأوا فيها تخلياً عن العلم وحاروا في أمرهم، واصلين الى شتى التفاسير. ولعل التفسير الأقرب الى المنطق، هو ذاك الذي يضع «قنديل أم هاشم» في إطارها الزمني، إذ نعرف ان يحيى حقي كتبها بين عامي 1939 و1940. وهي في الحقيقة، حقبة كانت شهدت توجه عدد كبير من الكتّاب والمفكرين المصريين، وربما خارج مصر أيضاً، الى محاولة كتابة أعمال ونصوص فيها عودة الى قضايا الإيمان والمسائل الدينية. والمهم هنا هو ان معظم الذين حاولوا ذلك النوع من التوجه في الكتابة كانوا معروفين قبل ذلك بكونهم من اهم اصحاب الفكر الليبرالي العلماني، من طينة طه حسين ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم وغيرهم. وستقول دراسات لاحقة ان هؤلاء إنما دنوا من ذلك النوع من الكتابة، إثر اكتشافهم، على ضوء الازدهار الذي عرفه انتشار حركة الأخوان المسلمين وفكرهم، ان الشعب، بإيمانه العميق، في واد وهم في واد آخر. ومن هنا نما لديهم ذلك الشعور بأن من واجبهم الآن ان ينحوا في كتابتهم الى يحيى حقي.jpg نوع من التوفيق بين الفكر العقلاني والحساسية الشعبية، مع محاولة الإطلال على الدين وتاريخه عقلانياً (وهو توجه لعله وجد ذروته في «على هامش السيرة» لطه حسين و «حياة محمد» لهيكل... بين أعمال أخرى). ومن المرجح ان محاولة يحيى في «قنديل أم هاشم» لا تخرج عن هذا السياق. > ولعل اللافت هنا، وعلى عكس ما يحدث عادة بالنسبة الى أفلام كثيرة مأخوذة عن كتب أدبية، حيث ينسى الكاتب احياناً لمصلحة مخرج الفيلم ونجومه، اللافت هو ان «قنديل أم هاشم» ظل مرتبطاً، كفيلم، باسم يحيى حقي، بعد ان نسي كثر انه من إخراج كمال عطية... بل ان كثراً من متفرجي الفيلم ينسون انه من بطولة شكري سرحان الذي لا شك في انه قدم هنا أحد أقوى أدوار تاريخه السينمائي. RE: إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 08-07-2010 «راغتايم» لدوكتورو: أميركا... قبل خروجها الكبير الى العالم السبت, 07 أغسطس 2010 لقطة من الفيلم الذي حققه فورمان عن الرواية.jpg إبراهيم العريس Related Nodes: لقطة من الفيلم الذي حققه فورمان عن الرواية.jpg كيـــف كانت أميركــــا، في السنوات الأخــــيرة قبل أن تصبح أميركا، لا نعني هنا أميركا الهنود الحمر قبل أن «يكتشفها» كريستوف كولومبوس، بل أميركا بداية القرن الشعرين، قبل ان «تكتشف» هي العالم، من طريق الرئيس ويلسون، ومن طريق الحرب العالمية الأولى، وتكتشف دورها في هذا العالم. طبعاً أميركا، قبل ذاك كانت موجودة، وموجودة كأمة وقارة وعالم، ولكن كان عليها، بعد، ان تخرج الى ذلك العالم الفسيح الآخر في حركة سيعطيها الاقتصاد، والسينما والاختراعات، ثم بؤس السنوات التي تلت انهيار البورصة، طابعها المعولم. وهذا أمّنه لها بالطبع، تدخلها في الحرب العالمية الأولى ومبادئ ويلسون... كما امّنته أيضاً تلك السمة «الكوزموبوليتية» التي كانت قد صارت للولايات المتحدة في شكل نهائي مبررة صفتها كـ «عالم جديد». فكيف كانت أحوال تلك الأمة قبل ذلك «الخروج الكبير»؟ > للاجابة عن مثـــل هذا الســـؤال قد يحتــــاج المرء الى قراءة عشــــرات الكتب، ومراجعــــة الكثير من المدوّنات والصور، وخصوصاً أفلام السينما. ولكن قد يكفيه قراءة روايــــة واحدة، على سبيل المثال، وهذه الرواية التي نقترحها هنا ليست، كما قد يتوقع البعض، عملاً لجون دوس باسوس، الذي يعتبر من أفضل الذين أرّخوا لأميركا القرن العشريـــــن، ادباً، بل لكاتــــب أكثر معاصرة، وربما أقل شهرة من صاحب «مانهاتن ترانسفير» و «يو إس إي»، نعني به ادغار لورانس دوكتورو... أما الرواية فهي «راغتايم» التي حوّلها ميلوش فورمان، في الثمانينات فيلماً، لم ينجح كثيراً، لأن ساعتين سينمائيتين ما كانتا قادرتين عن نقل أحداث تلك اللوحة البانورامية المدهشة، من الورق الى شاشة الفن السابع. > في المقابل بدت صفحات الرواية التي تقل عن 300 صفحة قادرة على نقل صـــــــورة مدهشـــة لحيـــــاة بأكملها ولأمة تعــــيش ارهاصات ولادتها. ذلك ان «راغتايم» هي صـــــورة لكل التاريـــخ الأميركي كما كــــان يمكنه أن يظهــــر في العقــــد الأول من القــــرن العشريـــن. فإذا كان ليو فيريــــه، المغني الفرنسي الكبير، يتحدث في واحدة من أغانيــــه، عن عالم مملـــوء بالتظاهــــر والأنماط الاجتماعية والأحداث والهتاف، خالصـــاً الى وجـــــود «كاميرا تلفزيــون ملون» لتستوعــــب هذا كله... فإن ما لدينا هنا، في «راغتايم» هو تاريخ كامل متنوع وشديد التناقــــض... يبدو كلــــه وكأنه صنـــــع ليوضع داخل كتاب. فالرواية تتنقل بخفة وروعة بيـــــن الأحداث المتخيّلة والأحداث الحقيقية، بين الحياة العائلية الضيقة والأحداث السياسية الكبرى... تنتقــــل مـــن الحب والخيانــــة، الى الاقتصـــاد، الى الاختراعات والسينما ورجــــال الأعمال، والتمييز العنصري... في اختصار الى كل ما صنع أميركا التي نعرف. > وكل هــــذا، كما أشرنا، على خلفية حكاية عائلية، يحدث للقارئ أنه بالكاد يتذكر وجودها بين الحين والآخر في هذه الرواية. فدوكتورو، آثر أن يعطي «راغتايم» منذ البداية طابع العمل الذي تتعاقب فيه، الأحداث المتنوعة، عامة كانت أو خاصة، مؤثّرة كانت أو عرضية، في تتابع توليفي، كان سلفه دوس باسوس رائداً فيه، كحلّ صالح لكتابة عمل يتسم بالتوثيق والتخييل في آن معاً. أما الايقاع العام الرابط للعمل - وهو ما اكتشفه ميلوش فورمان حين حققه فيلماً، وكانت تلك فضيلته الوحيدة - فهو ايقاع الكوميديا الموسيقية. وليس فقط لأن حياة أميركا الصاخبة في ذلك الحين كانت تعكس ذلك الايقاع، وليس لأن العنوان يحيل الى شيء مثل هذا لأن ترجمته تتحدث عن «زمن الموسيقى الراقصة الصاخبة»، بل لأن ثمة من بين شخصيات الرواية، شخصية موسيقي ومغني أسود يلعب دوراً أساسياً تشاركه فيه موسيقاه. > اذاً، لدينا عمل صاخب متحرك، يربط التاريخ بصانعي التاريخ، والحياة بالخيال، ليقول في نهاية الأمر: هذه هي أميركا. فما هي أميركا «راغتايم» هذه؟ هي أولاً عائلة مهنة ربها صنع مواد تستخدم في الألعاب النارية، لكنه هنا يشارك في حملة المستكشف بيري نحو القطب الجنوبي. أما الأخ الأصغر في العائلة فإنه مغرم بامرأة حدث ان قتل زوجها عشيقاً لها. والشاب سيتعرف الى... ايما غولدمان، الزعيمة - في الحياة الواقعية - للتيار الفوضوي والنسوي في اليسار الأميركي. أما الأم، في العائلة فستلتقي بمهاجر اشتراكي يهودي ينتهي به الأمر الى الانطلاق في صناعة كانت حديثة ومجازفة في ذلك الحين: صناعة السينما. > غيــــر ان حياة هــــذه العائلـــــة تتقاطـــــع، منذ أول الرواية الى آخرها مع حياة أميركا الأوسع: المهاجــــرون الذين يصلون ويوضعون في ايليس آيلند قبــــل فرزهـــــم، بين مقبــــول ومرفـــــوض، الأطفـــال الذين يدفعـــــون الى العمل الشاق في المناجــــم والمصانع والمسالـــخ، ما يجعلهم أكثر عرضــــة من البالغين لحوادث العمــــل المميتة... ثم المئــــة زنجي الذين يتـــم سحلهم في شتى الأراضــــي الأميركية كــــل يوم، في مقابل مئـــــة عامل مناجم يحترقــــون ومئة طفــــل يتشوهون. الاضــــطرابات العمالية التي يقمـــع معظمها بقـــــوة السلاح... ثم من جديد ايما غولدمان تلك المرأة التعبة النشطة التي تروح وتجيء في الروايـــــة كما يحلو لها. واذ نذكر ايما، لا بد من أن نذكــــــر الثورة. لكنها هنا الثورة المكسيكية، التــــي يعبــئ الرئيس ويلسون، ألوف الجنود مرسلاً اياهم لكي يذبحوا الثوار، في الوقت نفســــه الذي كـــــان يستعــــــد لأن يقوم بدور رجل السلام الطيّب في طول العالم وعرضه. > اننــــا هنا في ازاء ولادة المستقبل. هذا المستقبل الذي يولد، فيما يولد، بيــــــن خطــــي سكة الحديــــد التي تمر هذه المرة داخل شوارع بوسطن، كما داخل شوارع نيويــــورك، وليـــــس كالحال القديمة، بين بوسطن ونيويورك: فالمترو - قطار اغوار المدن - ولــــد على تلك الشاكلة، وصار له ممر تحــــت الشوارع في المدينتين ما خلق عالماً جديداً كان من الصعب تصوّر وجوده قبلاً. المستقبل ولد، وكذلك الوهم، فالساحر «هوديني» موجود هنا أيضاً يلعب ألعاب الخفة أمام أعين تريد أن تصدقه، مع انها لا تريد ذلك... في جدلية جديرة بأن يبحث النمسوي فرويد في شأنها. وفرويد على أية حال، موجود هنا بدوره: انه يأتي، في الرواية زائراً نيويورك... فما هو أول تعليق له على المدينة؟ انه الدهشة أمام ندرة المراحيض العامة في مدينة لها كل هذه الحداثة! بيد ان رجل الاقتصاد القوي والماكر مورغان لا يهتم بالمراحيض، بل يجمع التحف القديمة حالماً بأن يبني لنفسه، يوماً، هرماً يكون قبراً له... > هكذا، اذاً، تتقاطــــع كل هــــذه الأحداث والشخصيات في روايـــة، صحيــــح انها كتبت في العام 1975، لكنـــها في حقيقتهــــا تحمل ذهنية بداية القرن بكل اجتهاد... ولكن مـــــن منطلق نسف الأساطير التي صنعــــت أميركا. وادغار لورانس دوكتورو (المولود في برونكس النيويوركية العام 1931)، استوحى في كل اعماله الكبيرة، وعلى الدوام، تاريخ أميــــــركا وأساطيـــــرها، هو الذي يعتبـــــر، وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، واحداً من أكبر الكتـــــاب الأميركيــــين الساخريــــن في لؤمهـــــم، والمبدعيـــــن في لجوئهم الى خيالهـــــم، وربطه بالتاريـــــخ الحقيقــــي والمتخــــيل لبلدهم، ومن أبرز أعمال دوكتورو، الى جانب «راغتـــــايم» «الترحيب بالأزمان الصعبة»، و «كتاب دانيال» و «بيلي باثغيت» (الرواية التي حولت فيلماً جيداً) و «معــــرض العالم» و «حياة الشعراء»، اضافـــة الى مسرحية له بعنـــوان «مشروبات قبل وليمة العشاء» صدرت في العام 1979. RE: إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 08-14-2010 «غروب الأصنام» لنيتشه: الإنسان خارج الأساطير السائدة الجمعة, 13 أغسطس 2010 فردريك نيتشه (1844-1900).jpg ابراهيم العريس Related Nodes: فردريك نيتشه (1844-1900).jpg «ليس الانسان سوى قطعة من القدر الحتمي، قطعة من كل متكامل: فإذا أردنا ان نبعده عن ذلك الواقع أو نغيّره، فإن معنى هذا أننا راغبون في إبعاد هذا الكل وتغييره، بيد أننا من أجل تحرير العالم يتعين علينا، بالتحديد، ان نعيد الى هذا العالم براءة الصيرورة الأولى». هذه العبارات التي ترد على هذا النحو في سياق كتاب فردريك نيتشه «غروب الأصنام»، يمكن ان تشكل، اذا تبحر المرء فيها، مفتاحاً أساسياً ليس لفهم هذا الكتاب، بل ربما لفهم فلسفة نيتشه ككل. ذلك ان «غروب الأصنام» حتى وإن كان يتألق، في تكوينه الظاهري من دراسات ومقطوعات متفرقة، فإنه في حقيقته، وفصلاً بعد فصل، يمكن ان يعتبر أقرب الى ان يكون مدخلاً الى فهم فلسفة صاحب «هكذا تكلم زرادشت». ففي هذا الكتاب، ومنذ البداية، يتناول نيتشه بالنقد والتحليل مجموعة أساسية من «الحقائق» و «المسلّمات» التي كانت طغت على الفكر العقلاني منذ الأغريق القدامى، ساعياً إما الى نقضها وإما الى نقدها، أو الى اعادة تركيبها. أما الغاية الأساسية التي يتوخاها نيتشه من هذا المسعى، فإنما هي الوصول الى الحقيقة. الحقيقة التي قد يعجز العقل دوماً عن الوصول إليها، لكنها ماثلة في الوجدان، وفي علاقة المرء بتاريخه وبالطبيعة، وبالفكر في صورة عامة. وفي شكل عام، يبدو في هذا الكتاب، الذي نشره نيتشه في مرحلة متأخرة من حياته، أن هذا المفكر يحاول اعادة تركيب مقتضيات الفكر، على ضوء نوع من العودة الى جذور الفكر في براءته الأولى. ومن هنا لا يكون غريباً ان نرى كيف أنه لا يتوانى في سبيل ذلك عن «تحطيم الأصنام» مستخدماً تلك المطرقة الرمزية التي يبني على وجودها جوهر الكتاب ككل: المطرقة التي يمكن ان تستخدم لتحطيم الوثن، أو أداة للنحات، أو أداة لإصاخة السمع، بحسب الظروف. ومن هنا، بسبب استخدام رمزية المطرقة هذه كان من حق بعض شارحي نيتشه ان يسمّوا الفلسفة التي يضمها هذا الكتاب «فلسفة ضربات المطرقة»! > ينطلق نيتشه في هذا الكتاب من فكرة ان «الانسانية قد عاشت، حتى الآن، على عبادة الأصنام: أصنام في الاخلاق، وأصنام في السياسة وأصنام في الفلسفة». ومن هنا كان يرى ان «مهمته هي الكشف عن هذه الأصنام وتحطيمها في كل من هذه الميادين الثلاثة». ولكن ما هي هذه الأصنام، في نهاية الأمر؟ ببساطة هي تلك الحقائق القديمة التي آمن بها الناس حتى الآن. وفي هذا السياق يصب نيتشه هجومه الأول على سقراط الذي كان قد سبق له ان تحدث عنه بشيء من الإسهاب في كتاب سابق له هو «ولادة التراجيدية». فما الذي يأخذه نيتشه على سقراط؟ يأخذ عليه إفساده الروح اليوناني باسم الوصول «الى العقل مهما كان الثمن»، انطلاقاً من فكرة تقول «ليس بالعقل وحده يحيا الانسان». واذ يبدأ نيتشه هجومه على «اصحاب الأصنام» بسقراط، يكون من الطبيعي له ان يصل لاحقاً الى كانط، ليهاجم ميتافيريقاه التجاوزية لأن «كل ميتافيزيقا، ولا سيما ميتافيزيقا كانط، انما تنحو الى فصل العالم الحقيقي، أي عالم المبادئ الخالدة والتي لا يمكن فسادها، عن «عالم الظاهر» الذي هو عالم المظاهر الذي نعيش فيه هذا». وبالنسبة الى نيتشه، فإن الازدواجية الكانطية بين العالم الحقيقي والعالم الظاهر، ليست سوى العارض الذي يحدثنا عن الحياة في انحطاطها. وبعد أن يوضح نيتشه هذا الأمر يعود الى موضوع اثير لديه هو موضوع «الاخلاق المعادية للطبيعة»، مؤكداً ان الممارسات الكنسية معادية للحياة، وأن الاخلاق ليست سوى عبث، لمجرد أنها تسعى الى أن تنمط، تبعاً لأشكال جاهزة وثابتة، أفراداً يحملون معهم الى هذا العالم، بصفتهم اجزاء من المصير ككل، قوانين جديدة وضرورات جديدة. ولهذا يرى نيتشه ان الاخلاق تنكر العالم وتطوره. وهنا يصل نيتشه الى تحليل «الاخطاء الأربعة التي حوّلت الناس عن الطريق القويم» وهي: الخلط بين السبب والنتيجة، وهو خلط يطالعنا، غالباً، في الطريق المشتركة التي بها تتم عقلنة الأمور، وتصور خاطئ للسببية تعاد فيه الاسباب الى «أحداث داخلية» ليس لها في واقع الأمر سوى قيمة نسبية، واللجوء الى أسباب وهمية من أجل تفسير أفعالنا، والحصول على شيء من الأمان في وجه ما هو مجهول في هذا العالم وداخل ذواتنا، وأخيراً مفهوم الاختيار الحر الذي يجعل الناس عبيداً لمسؤوليتهم الخاصة. > واذ يتوصل نيتشه الى هذا الحد في تحليله، ينتقل الى انتقاد كل أولئك الذين يسميهم «محسني البشرية» الذين لا يفعلون «في الواقع، شيئاً آخر سوى إفساد براءة الانسان الأولى والخاصة»، سواء أكان ذلك «عبر تدجين الانسان وإضعافه» (كما يفعل القساوسة) باستثارة وعيه الدائم بـ «خطيئته»، أو عبر ترسيخ اخلاقية مثل الاخلاقية الهندوسية التي تقوم على رفع شريحة معينة من البشر يصار الى التعامل مع سواها بصفتهم كائنات دنيا في بيئة تؤدي الى ولادة اكثر الثورات رعباً. > ونيتشه في هذا السياق لا يوفر حتى الفن، اذ انه بعد ذلك يكتب عن «سيكولوجية الفنان» نصاً ينظر فيه الى الفن باعتباره اهم محفّز على الحياة. يعلن ها هنا ان الشرط الأساس الذي لا بد من توافره للفنان قبل ان يقدم على ابتداع فنه انما هو «الثمالة» التي تغير من طبيعة الأمور وجوهرها عبر امثلتها. واذ يوضح نيتشه هذا يعود مرة أخرى، من طريق الفن هذه المرة، ليرينا كيف ان الاخلاق القائمة على مبدأ الاثرة وعلى أسس الحقد والخوف من الحياة، ليست سوى أخلاق متدهورة. أما الحرية، فإنها لا تعثر على منبعها إلا في الصراع وفي الألم اللذين، حين لا يحطمان الانسان نهائياً، يعززان من قوته، جاعلينه يحس حقاً، بقيمة مسؤوليته الشخصية. أما العبقرية، فإن نيتشه يعرّفها هنا بأنها مادة متفجرة تتراكم فيها قوة عظيمة... > وهكذا اذ يتابع نيتشه على هذا النحو، دحض الافكار والمسلّمات القديمة عبر منطقه الذي كان ساد في كتبه السابقة، ودائماً بحثاً عن مكانة في هذا الكون لإنسانه الأعلى، يصل الى خاتمة كتابه الداعية الى العودة الى الطبيعة في جوهرها... وليس الى الطبيعة كمهرب كما هو الحال عند جان - جاك روسو، بل الى الطبيعة بمعنى علاقتها بحب للمصير يسمح لنا بأن «نقبل حتى بشروط العيش الاكثر رهبة»: وهنا يعرّج نيتشه على غوته محيياً اياه على اعتبار انه ذاك الذي انجز المسعى الضخم القائم في تجاوز القرن الثامن عشر بالاستناد الى الارتباط بالطبيعة... أي عبر العودة الى تصوّر عصر النهضة - لا عقلانيّي القرن الثامن عشر - لمفهوم الطبيعة هذا... > عند نشر نيتشه «غروب الأصنام» (في العام 1888) كان في الرابعة والأربعين من عمره، وكان نشر العدد الأكبر من كتبه الكبرى، ولم يبق لديه للعيش سوى سنوات قليلة، اذ نعرف انه رحل عن عالمنا في العام 1900 في فايمار، بعد احد عشر عاماً من إصابته بذلك الجنون الذي غاص فيه سنواته الاخيرة. ونيتشه ولد العام 1844 في ريكن في مقاطعة ساكسونيا الألمانية لأب قسيس توفي باكراً. وقد أمضى نيتشه سنوات دراسته الأولى بالقرب من ناومبرغ، وهو قبل الدراسة الجامعية اكتشف ميوله الأدبية وانضم الى جمعية «جرمانيا» ثم تابع دراسة الفيلولوجيا واللاهوت، قبل ان يقضي خدمته العسكرية. ومنذ العام 1869 صار نيتشه استاذاً جامعياً، حتى من قبل حصوله على الدكتوراه. ومن الواضح ان ارتباطه بفاغنر، كما بباحث عصر النهضة الكبير يعقوب بوركهارت، كان ذا اثر كبير في حياته وفكره... وهو ما يمكن ان نرصده في كتبه الرئيسة التي راح ينشرها تباعاً فيثير كل منها ضجة ما بعدها من ضجة ومنها «هكذا تكلم زرادشت» و «المعرفة المرحة» و «المسافر وظله» و «انساني... انساني اكثر مما يجب» و «حالة فاغنر» وغيرها من كتب لا تزال تقرأ وتكتشف في أيامنا هذه وتلقى اعجاب الملايين، ولا سيما بفضل مزاوجتها بين روح الادب وروح الفلسفة، بين روح الفن وروح الطبيعة. RE: إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 08-15-2010 الفيلسوف الذي نظر للتاريخ بعين العقل مدخل فرنسي جديد إلى فلسفة هيغل مالئ الدنيا وشاغل الناس هيغل وفلسفة التاريخ المؤلف: جاك دوندوت باريس: هاشم صالح مؤلف هذا الكتاب هو الباحث جاك دوندوت أحد كبار المختصين الفرنسيين في فكر هيغل والفلسفة الألمانية. وهو يقدم هنا مدخلا ممتازا إلى فلسفة هذا المفكر، الذي ملأ الدنيا، وشغل الناس منذ قرنين ولا يزال. فالفكر الحديث كله ناتج عن هيغل بشكل من الأشكال، كما قال موريس ميرلو بونتي، صديق سارتر. وقد استطاع هذا الفيلسوف العبقري أن يشكل نظاما فلسفيا متكاملا، حيث درس فيه الدين والأخلاق والسياسة والدولة والمجتمع.. إلخ. لم يترك شيئا إلا وتحدث عنه، وربما كان آخر فيلسوف شمولي في التاريخ. إنه أرسطو العصور الحديثة، فكما أن المعلم الأول تحدث عن الفيزيقا والميتافيزيقا، والمنطق والبلاغة والشعر والسياسة والأخلاق والدين.. إلخ، فإن هيغل فعل الشيء ذاته في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولذلك اعتبره البعض ذروة الفلسفة المثالية الألمانية التي كانت تضم أيضا كانط، وفيخته، وشيلنغ، وآخرين. ثم يقول المؤلف: لقد تأثر هيغل بكانط من دون شك، لأن كانط كان أستاذا لكل مثقفي ألمانيا في ذلك الزمان، ولكنه حاول أن يتجاوز أستاذه، وقد تجاوزه في أشياء عديدة. من هنا عظمة هيغل. ذلك أنه من النادر أن يظهر فيلسوفان كبيران في الفترة نفسها. فهيغل كان معاصرا لكانط وإن كان أصغر سنا منه بكثير. وأما الأحداث الأساسية التي أثرت في فكر هيغل وفلسفته في التاريخ فهي الثورة الفرنسية التي اندلعت وكان عمره تسعة عشر عاما، ثم شخصية البطل نابليون بونابرت، الذي غزا ألمانيا ورآه لأول مرة على حصان، حيث تجسدت روح التاريخ كلها في شخصه، ثم الثورة الصناعية الإنجليزية التي غيرت وجه العالم. يقول المؤلف عن حياة هيغل ما معناه: لقد ولد هيغل في 27 أغسطس من عام 1770 لعائلة تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة، لأن والده كان موظفا في الدولة. وبعد أن أنهى دراسته الثانوية في مدينته الأصلية شتوتغارت، دخل كلية اللاهوت الشهيرة في مدينة توبنغين. وهناك درس التاريخ، وفقه اللغة الألمانية والرياضيات بصحبة صديقه هولدرلين، الذي سيصبح شاعرا كبيرا فيما بعد. وقد نشأت بينهما صداقة حميمة وعميقة. وهناك قرأ كتب جان جاك روسو، وكانط، على ضوء أحداث الثورة الفرنسية. ثم التحق به شاب آخر أصبح فيلسوفا كبيرا بعد ذلك أيضا، هو شيلنغ. وقد حصل تنافس بينهما أدى إلى نوع من الخصومة وسوء التفاهم. وفي عام 1790 نال هيغل شهادة التبريز في الفلسفة. وبعدئذ أصبح مربي أطفال لدى عائلة غنية في مدينة بيرن بسويسرا. وقد بقي هناك حتى عام 1796. وفي عام 1795 ألف أول كتاب له تحت عنوان «حياة يسوع». ثم راح يدرس بشكل منهجي منتظم مؤلفات كانط، وفيخته في مدينة فرانكفورت بين عامي (1797 - 1800). ثم يردف المؤلف قائلا: وفي عام 1801 انتقل إلى مدينة «يينا» التي تحتوي على جامعة مهمة، حيث إن شيلنغ حل محل فيخته كأستاذ جامعي. وهناك انخرط في الكتابة والبحث والمناقشات الفلسفية لأقصى حد ممكن. ثم أصبح أستاذا مساعدا في الجامعة نفسها. ولكن راتبه كان ضعيفا جدا. وفي عام 1807 أنهى هيغل تأليف كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح»، (أو علم تجليات الفكر والروح عبر التاريخ). ثم أصبح رئيس تحرير إحدى الجرائد الألمانية، ولكنهم طردوه من هذا المنصب بعد سنة واحدة لأسباب سياسية. فقد كانت أفكاره ثورية أو تقدمية أكثر من اللازم. ثم ألف كتابا مدرسيا في عدة أجزاء بين عامي (1812 -1816) تحت عنوان «علم المنطق». وقد تزوج هيغل عام 1811، وولد له طفلان: الأول أصبح أستاذ تاريخ، والثاني أصبح قسا بروتستانتيا.. ثم نال هيغل منصبا جامعيا مهما في جامعة هايدلبرغ عام 1816. وفي عام 1817 نشر كتابه «موسوعة العلوم الفلسفية». وعندما مات فيخته الذي كان يحتل كرسي الفلسفة في جامعة برلين، حل هيغل محله عام 1818. وكان ذلك أكبر منصب يمكن أن يحلم به فيلسوف في ذلك الزمان، أن يصبح أستاذ الفلسفة في جامعة برلين. وعندئذ ازدادت شهرته وأصبحت عالمية تقريبا. ولكن البعض أخذوا عليه موقفه السياسي المحافظ، واعتبروه بمثابة المفكر الرسمي للنظام الملكي البروسي. وهكذا هاجمه التقدميون أو الليبراليون. ولكن بعد فترة من الزمن راح النظام نفسه يشتبه به. وعندئذ أصبح يتلقى الضربات من كلا الطرفين. وفي عام 1821 نشر هيغل كتابه «مبادئ فلسفة القانون». وفي عام 1827 سافر إلى منطقة فايمار، حيث استقبله غوته، ثم سافر بعدئذ إلى باريس، حيث رحب به فيكتور كوزان، أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون، وبعض المثقفين الفرنسيين الآخرين. ومات هيغل بمرض الكوليرا عام 1831، وعمره واحد وستون عاماً فقط. وبالتالي فإن كتبه عن الجماليات، وفلسفة الدين، وفلسفة التاريخ، لم تنشر إلا بعد موته. ويرى المؤلف أن تلخيص فلسفة ضخمة كفلسفة هيغل أمر صعب جدا. فالمرء يخشى أن يشوه فكره إذا ما بسطه أكثر من اللزوم. كان هيغل يرى أن ما يتحقق في التاريخ عبر الصراعات الدامية والأهواء البشرية المتعارضة والهائجة هو الفكر أو الروح: أي العقلانية العميقة. فالتاريخ عقلاني، على الرغم من إنه يبدو لنا فوضويا، مليئا بالحروب والظلم والقهر والتناقضات. وذلك لأن العقل هو الذي يحكم العالم والتاريخ، بحسب النظرة المتفائلة لهيغل. فالتاريخ كان عقلانيا، وسيبقى، على الرغم من كل المظاهر الخادعة التي تقول العكس. والتاريخ لا يمكن أن يفهمه إلا عقل الفيلسوف. كان هيغل يقول بالحرف الواحد: ينبغي أن ننظر إلى التاريخ بعين العقل، القادرة وحدها على اختراق السطح المبرقش للأحداث اليومية. فالتاريخ، طبقا لتصورات هيغل، يسير في اتجاه هدف معين يدعوه فلسفيا بالفكرة العليا، أو الروح المطلقة: أي الوعي بالذات، هذا الوعي الذي يجعل الإنسان حرا. فالتاريخ يمشي في اتجاه المزيد من العقلانية، والأخلاق، والحرية. هذا هو هدف التاريخ النهائي والأخير. إنه يهدف لتحقيق السعادة للبشر على هذه الأرض، وكذلك تحقيق التقدم المادي والمعنوي. هل ينبغي أن نستنتج من ذلك أن الناس في عصرنا أكثر عقلانية وأخلاقا وحرية مما كانوا عليه في الماضي؟ لا.. ولكن ما هو مضاد للعقلانية والأخلاق والحرية، ما عادوا يتحملونه كما كانت عليه الحال في السابق، وإنما أصبحوا يشجبونه أكثر فأكثر. لنضرب على ذلك المثل التالي: عندما كانت الكنيسة الكاثوليكية تحاكم المفكرين في القرون الوسطى أو حتى في عصر النهضة وتعدمهم، كما حدث لجيوردانو برينو وآخرين، ما كان أحد يحتج على ذلك. كانوا يعتبرونه شيئا طبيعيا أو عاديا، لأن الكنيسة معصومة ولا تناقش. ولكن عندما قتلوا المفكرين أو حتى الناس العاديين في القرن الثامن عشر، احتج فولتير على ذلك ومعه كوكبة من المثقفين. وبالتالي فقد حدث تطور في التاريخ بالقياس إلى ما سبق. لقد تقدم التاريخ خطوة إلى الأمام. وأما في القرن التاسع عشر، فعندما أدانوا الضابط دريفوس بتهمة الخيانة العظمى وهو بريء، فإن إميل زولا احتج على ذلك، ومعه ليس فقط المثقفون، وإنما جزء لا يستهان به من الرأي العام.. وهنا تطور التاريخ درجة إضافية بالقياس إلى عصر فولتير، لأن الرأي العام نفسه استنار وأصبح مع زولا وليس فقط المثقفون. وهكذا نلاحظ أنه يوجد تطور على مدار التاريخ من قرن إلى قرن. واليوم أصبح الحكام في الدول الأوروبية يخشون رأيهم العام إلى حد لا يكاد يصدق. ولو سمع ذلك ملوك العصور السابقة، حيث لم يكن هناك أي وزن للشعب أو للرأي العام لجن جنونهم. وبالتالي، فالذين يقولون إنه لا يوجد تقدم في التاريخ مخطئون. ولكن هذا لا يعني أن هيغل أكثر عقلانية وأخلاقية من سقراط أو أرسطو.. فقط عصر هيغل يختلف عن عصر سقراط، وعصرنا أكثر تقدما من عصر هيغل، إلخ. كان هيغل يرى أن التاريخ الكوني أو تاريخ العالم لا يهتم بالأشخاص الفرديين، وإنما يهتم بـ«الفرد الكوني»، أي بالشعب ككل وبروح هذا الشعب. وهذا ما ندعوه الآن بخصوصية الشعب الألماني، أو الفرنسي، أو العربي الإسلامي.. إلخ. فكل شعب له روح جماعية لا يعرفها أو لا يحس بها إلا الأبطال أو الشخصيات الاستثنائية. ولهذا السبب ندعوهم بالأبطال. فهم مفعمون بروح الشعب ويتمتعون بحدس داخلي خارق، على عكس بقية البشر. وهؤلاء يصبحون عادة قادة للبشر. وبالتالي فالبطل التاريخي هو ذلك الشخص الذي يستشعر بما يطمح إليه وعي البشر في عصره ويحققه لهم. إنهم يطمحون إليه بشكل مبهم، غامض. ولكنه وحده يعرف ما هو هذا الشيء المبهم الغامض، ويعرف ما هو الطريق للوصول إليه. ولذلك فإنه يدل الناس على هذا الطريق من أجل تحقيق أمنية شعبه. نضرب على ذلك مثلا بلوثر أو نابليون أو ديغول أو تشرشل أو عبد الناصر في لحظة من اللحظات.. وهذا ما يفسر الإجماع الذي يتحقق حول الرجل العظيم أو البطل. فالرجل العظيم من دون الشعب لا شيء. ولكن الشعب من دون الرجل العظيم لا يعرف كيف يتجه، ولا كيف يمسك بأول الخيط الذي يؤدي إلى الخلاص.. إلى الحل.. إلى الفجر. وبالتالي، فالشعب في حاجة إلى الرجل العظيم، لكي يستشعر بمطامحه وآماله ولكي يحققها له. وكل شعب له خصوصيته التي يتجه نحوها والتي تشكل جوهره، أو غايته، أو هدفه الأعلى في الحياة. ويرى المؤلف أن مسار روح العالم بالنسبة لهيغل يهدف في النهاية إلى تأسيس الدولة التي تحقق الحرية والسعادة لكل المواطنين من دون استثناء. وفي الدولة تتحقق الحرية بشكل موضوعي. وبالتالي فغاية التاريخ هي الدولة، وغاية الدولة هي الحرية. وإذا كان العقل يحكم العالم ويتجسد في التاريخ، فإن المظهر السطحي للتاريخ يوحي لنا بأنه فوضى أو جنون أو عنف أعمى لا غاية له ولا عقلانية. ولذا ينبغي علينا أن نفرق بين التاريخ العميق أو الحقيقي الذي لا يرى بالعين المجردة، والتاريخ الظاهري السطحي الذي نراه كل يوم. والشر في نظر هيغل ليس كله شرا. فلولاه لما اكتشف (الناس) الذين يصنعون التاريخ معنى الخير. وبالتالي فهناك وظيفة إيجابية للشر أو للعامل السلبي. ولا ينبغي أن نستهين بها. فلولا السلبي لما كان الإيجابي: ولا بد دون الشهد من إبر النحل.. ضمن هذا المنظور الهيغلي الواسع يصبح للشر معنى ولا يعود شيئا عبثيا أو اعتباطيا أو شاذا. وإنما يصبح شيئا ضروريا لتحقيق التقدم في التاريخ. وعندئذ نستطيع أن نتحمل ما لا يحتمل أو نتقبل ما لا يقبل. هذه هي فلسفة التاريخ في خطوطها العريضة لهيغل. وهي فلسفة جديرة بالتمعن والاهتمام لأنها تنطبق على الواقع العربي والإسلامي اليوم إذا ما أحسنا فهمها وتطبيقها. فما يحصل من كوارث وفواجع اليوم في العراق أو فلسطين أو كل مكان ربما كان ضروريا لكي نفتح أعيننا على خطورة العوامل السلبية في التاريخ، فنحاول إيجاد مضادات حيوية لها. وأقصد بذلك تشخيصات فلسفية عميقة ومضيئة للواقع العربي والإسلامي. نحن بحاجة فعلا إلى هيغل عربي لكي يشرح لنا حقيقة ما يجري اليوم، لكي يساعدنا على أن نتحمل ما لا يحتمل ولا يطاق. ولكني أستطيع الرهان على أن عذابات الشعبين العراقي والفلسطيني وكل الشعوب العربية عموما لن تذهب سدى. RE: إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 08-17-2010 «فاوست» غونو: المسرح الفكري تحت رعاية موسيقى متفوّقة الثلاثاء, 17 أغسطس 2010 من مشاهد « فاوست» غونو.jpg ابراهيم العريس Related Nodes: من مشاهد « فاوست» غونو.jpg من يقرأ مسرحية «فاوست» لوولفغانغ غوته، وهي العمل الفني الأدبي المصنف عادة بين أعمال القمة في الآداب العالمية والانسانية، يستحيل عليه أن يتصور إمكان تحويل هذه المسرحية الى عمل أوبرالي، تدخل فيه الموسيقى طرفاً أساسياً، وتتحول الحوارات الى غناء إفرادي أو جماعي. ومع هذا تمكن الفرنسي شارل غونو، من وضع أوبرا في عنوان «فاوست»، تعتبر من أفضل الأعمال الفنية التي افتتحت النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما صنعت لغونو نفسه شهرة ومكانة في الموسيقى الأوروبية عادت وعززتهما أعمال لاحقة له، مثل «روميو وجولييت» عن مسرحية شكسبير المعروفة. واللافت ان التفاوت بين «فاوست» و «روميو وجولييت» مناخاً ومن الناحية الموسيقية والتعبيرية، هو من الضخامة الى درجة يصعب معها القول إن فناناً واحداً هو الذي وضع موسيقى العملين. وقد يكون من المفيد أن نذكر هنا ان كلاً من هذين العملين المسرحيين حوّل الى أوبرا على أيدي أكثر من موسيقي وفي أزمان مختلفة. ولكن يقيناً ان انجاز غونو في العملين يظل الأفضل والأبقى، اذا استثنينا، مثلاً، تفوق الروسي تشايكوفسكي حيث حوّل «روميو وجولييت»، الى باليه لا إلى أوبرا... لكن هذه تبقى مسألة أخرى. > ان موضوع «فاوست» كما تناوله غوته، نقلاً عن حكايات حقيقية أسطرت مع مرور الزمن، تعود الى عقود من قبله، اعتبر منذ بداية القرن التاسع عشر، واحداً من أكثر المواضيع انسانية في تاريخ الأدب الألماني، بل قيل دائماً ان تمكن غوته من أن يربط فيه بين ثلاث نزعات، تبدو لوهلة ما، متنافرة (هي الرومنطيقية، والواقعية والنزعة الانسانية المثالية) دنا من حدود الإعجاز في مجال الإبداع. والحقيقة أن موسيقى غونو عرفت كيف تنقل تلك الأجواء وتوصلها الى متفرج الأوبرا، حتى وإن كان يمكن القول إن هذا المتفرج ما كان يمكنه أبداً أن يتفاعل مع «فاوست» مباشرة، منحياً شبح غوته المظل في كل لحظة. وواضح هنا ان شارل غونو، بمقدار ما فتن بشخصية فاوست، فتن بشخصية غوته، الى درجة ان فاوست الأوبرا عمل يبدو أقرب الى غوته نفسه منه الى أية شخصية أخرى. > ومع هذا فإن ما حوّله غونو الى أوبرا كان جزءاً فقط من «فاوست» غوته (القسم الأول كما ترجمه جيرار دي نرفال الى الفرنسية)، أدغمه مع مسرحية فرنسية عنوانها «فاوست ومرغريت» كتبها ميشال كاري، اقتباساً من غوته. > لحّن غونو أوبرا «فاوست» عام 1857، لتقدم بعد ذلك بعامين في «تياتر ليريك» (المسرح الغنائي في باريس) في لعبة فنية جمعت بين الحوارات المغناة والحوارات المنطوقة في شكل عادي. ولقد أعطيت البطولة يومها (دور مرغريت) الى السوبرانو كارولين - ميولن كارفاليو، لتصبح أول مرغريت فاوستية في تاريخ فن الأوبرا. واللافت أن عمل غونو هذا، - وكما تفيدنا النصوص التاريخية والنقدية - لم يلق نجاحاً مباشراً أول الأمر، إذ رؤي انه شديد الأكاديمية، ويركز على العزف السيمفوني أكثر من تركيزه على الميلوديا. ومع هذا فإن غونو جدد في هذا العمل في شكل عاد وقلّده كثر من مواطنيه المؤلفين الموسيقيين من أمثال ديبوسي وبيزيه. وعلى ضوء ذلك التقليد عادت أوبرا «فاوست» وحازت مكانتها وراح النقاد يكتشفون «الجواهر» الكامنة في داخلها، بحسب رأي النقاد والمؤرخين. > تتبع أوبرا «فاوست» خط الأحداث المعروف، أو جزءاً منها على الأقل، وإن كانت في نهاية الأمر تختصرها مكثفة إياها، إذ ان احداث «فاوست» الأصلية كانت لتحتاج الى خمس ساعات لكي تروى وتغنى. والفصل الأول يدور في مكتب فاوست، الذي، إذ يئس من حياة عقيمة يعيشها كما يخبرنا غناء، يقرر أن يقضي على نفسه بالسم. ولكن هنا يظهر له الشيطان تحت اسم مفيستو، ويقترح عليه أن يمنحه القدرة على استعادة شبابه وكل الملذات، في مقابل ان يسلمه فاوست حياته كلها. ولكي يقنع مفيستو فاوست، بعدالة التبادل، يمكّنه من رؤية مرغريت، خيالياً، وهي صبية حسناء يعده مفيستو بأن تصبح له عما قريب. ولا يكون من فاوست إلا ان يقبل الرهان ويوقّع على الصك. في الفصل التالي يطالعنا احتفال (كرمس) يقام عند ابواب المدينة. الى اليسار ثمة ملهى فيه جنود وطلاب وبورجوازيون ينشدون صاخبين، كما فيه الشاب فالنتين، الجندي الذي يتوجب عليه ان يلتحق بالجيش المحارب... وها هو يوصي صديقيه فاغنر وسيبيل بأن يهتما بأخته مرغريت. وهنا يظهر مفيستو يتبعه فاوست. وحين يشاهد فاوست مرغريت يحاول أن يتحدث إليها، لكنها تصده وتركض الى غايتها مسرعة. > تدور أحداث الفصل الثالث في حديقة مرغريت، ونرى هنا سيبيل المتيم عشقاً بمرغريت هذه، يضع باقة من الزهر ويذهب. وعلى الفور يدخل فاوست ومفيستو الى الحديقة. ويبدأ فاوست بغناء نشيد مطلعه: «سلاماً... أبقى طاهرة ونقية الى أبد الآبدين» ثم يترك في المكان صندوق مجوهرات ويرحل. وإذ تعود مرغريت تكتشف الصندوق فتسأل مربيتها مارتا عمن يكون تارك هذه الجواهر يا ترى... وبالأحرى من هو المعجب الغامض الذي يقدم اليها هذه الهدية. وهنا يظهر مفيستو وفاوست. وإذ يلقي مفيستو بسحره على ورود الحديقة لا تجد مرغريت نفسها إلا وهي تعانق فاوست. وهنا ننتقل من الفصل الثالث الى الرابع الذي يدور في غرفة مرغريت، التي نفهم بسرعة أنها تضع الآن طفلاً حملت به من فاوست، لكنها حزينة لأن فاوست قد تخلى عنها. وها هو سيبيل، عاشقها الأمين أبداً، الى جانبها يرفه عنها أو يحاول على الأقل. وينتقل المشهد الى الساحة العامة حيث نشاهد الجنود العائدين من الحرب وفالنتين بينهم وقد آلى على نفسه أن ينقذ شرف أخته. ويظهر فاوست ليتبارز الاثنان. وإذ يصاب فالنتين خلال المبارزة بجرح قاتل، يلعن اخته الى أبد الآبدين... تحاول مرغريت هنا الصلاة والتوسل، لكن الشياطين المتكاثرة تمنعها من ذلك... فتصر على الصلاة حتى تسقط في آخر الأمر منهكة فاقدة الوعي. > في الفصل الخامس يرتفع الستار عن كهف مزيّن أفضل تزيين يملأه أهل بلاط آتون من ساحق العصور وفي وسط المكان طاولة ضخمة... أما في خلفية المشهد فنرى جبال هارز. وإذ يظهر مفيستو وفاوست معاً، نجدهما محاطين بالسحرة. وينقلب المشهد الى داخل سجن لنكتشف ان مرغريت قد قتلت طفلها. أما فاوست فإنه، بفضل مفيستو، حصل على مفاتيح الزنزانة التي وضعت فيها المرأة... وهكذا يتسلل الى الزنزانة حيث ينشد معها أغنية حب خالدة. ثم يطلب فاوست من مرغريت أن تهرب معه، لكنها تقاومه وتطلب من الرب الرحمة. وإذ ييأس هو من هذا كله يخرّ على ركبتيه فيما روح مرغريت تصعد الى السماء. > عندما وضع غونو ألحان «فاوست» كان في التاسعة والثلاثين، وهي تحتل مكانة وسطى زمنياً في أعماله الكثيرة والتي اقتبس معظمها من مسرحيات شهيرة مثل «الطبيب رغم أنفه» و «فليمون» و «بوسيس» و «اليمامة» (وكلها أوبراتات هزلية). وشارل غونو (1818 - 1893) عاش خلال سنواته الأخيرة مجداً كبيراً أمنته له أعمال أوبرالية ولكن أيضاً أعمال أوركسترالية وقداسات وشتى أنواع الأوراتوريو. وحين مات أقيمت له جنازة وطنية صاخبة. alariss@alhayat.com RE: إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 08-24-2010 «وصف مصر»: حملة بونابرت في وجهها الأقل قبحاً الثلاثاء, 24 أغسطس 2010 من لوحات «وصف مصر».jpg ابراهيم العريس Related Nodes: من لوحات «وصف مصر».jpg من المؤكد ان اتخاذ موقف نهائي من حملة بونابرت على الشرق الأوسط في شكل عام، وعلى مصر في شكل خاص، أمر غير ممكن، طالما ان التفسيرات والأحكام، اليوم كما الأمس، وكما سيكون الأمر غداً، تتوزع وتختلف باختلاف اهواء اليوم والأبعاد الأيديولوجية الراهنة لأصحابها. مع حملة مثل حملة بونابرت من المستحيل الوصول الى موقف نهائي: هل هي حملة استعمارية؟ هل هي نتاج طموح فردي؟ رغبة في التوسع العسكري؟ محاولة للتقريب بين الأمم والثقافات؟ مسعى للتصدي للتمدد الإنكليزي الاستعماري في العالم؟ وسيلة لنشر أفكار الثورة الفرنسية؟ إن هذه الاحتمالات وعشرات غيرها ممكنة ويحمل كل منها حججه ومبرراته. ومن هنا يمكن مثل هذا الموضوع ان يظل موضع خلاف الى الأبد. ولقد تجلت حدة هذا الخلاف قبل أعوام في القاهرة، حين، في مقابل الرغبة في الاحتفال بذكرى مرور عامين على الحملة البونابارتية، ثارت عواصف هوجاء نزعت الأمر برمته من قلب التاريخ ورمت به في قلب الأيديولوجية. والويل ثم الويل، يومها، لمن طالب بتحكيم العقل والموضوعية! اذ وكما يحدث دائماً في كل صغيرة وكبيرة وطالما ان اللاعقلانية الأيديولوجية لا تزال صاحبة الحظوة الأولى في حياتنا العربية، يخوّن على الفور اي شخص يدعو الى تحكيم العقل والمنطق في النظر الى الأمور والحكم عليها. غير أن هذه مسألة أخرى ليس هنا مكانها بالطبع! > في هذا الأطار إذاً، من الواضح انه لا يمكن الوصول الى حكم إجماعي على الحملة... ولكن من ناحيتها العسكرية والسياسية فقط. ذلك ان حملة بونابرت، على مصر وجوارها، وعلى عكس كل الحملات العسكرية في التاريخ، كانت لها سمات اخرى ايضاً، وهو امر من الصعب ان يختلف عليه مختلفان. وأبرز هذه السمات، السمة الثقافية الحضارية، حتى وإن كانت العقول المتحجرة تخلط السمات كافة وتمنع حتى الاحتفال بهذه السمة. ومع هذا يمكن التأريخ للانقلاب الفكري الجذري الذي اصاب العقل العربي خلال القرون الأخيرة، بحملة بونابرت نفسها. تلك الحملة التي، من بين ما فعلت، أنها نقلت المنطقة العربية المشرقية من ظلمات العصور الوسطى الى العصور الحديثة ممهدة لولادة ثورة محمد علي الفكرية التنويرية وولادة عصر النهضة العربية كله، ناشرة افكار الثورة الفرنسية وثورة الحداثة العقلية الفكرية في عالم كان الانحطاط قد تسرب إليه منذ غابت العصور الذهبية للثورة الإسلامية الكبرى ليحل مكانها حكم عثماني اقل ما يمكن ان يقال فيه انه كبّل العقول واعاد العرب وغيرهم الى غياهب القرون الوسطى وزمن الخرافة... مهما يكن من أمر ولم تكن السمة الحضارية - العلمية للحملة الفرنسية صدفة، كما نعرف، فنابوليون بونابرت، وكان يومها لا يزال بونابرت اكثر منه نابوليون، استهدف منذ البداية حمل نهضة فكرية اتى بها من اوروبا، في الوقت نفسه الذي كان مراده فيه ان يعود، من الشرق وهو يحمل، اضافة الى الكثير من الغنائم والمكاسب المادية، ما يتيسّر له من حضارة الشرق، ولا سيما الحضارة الفرعونية التي كانت قد بدأت تعرف على نطاق واسع في أوروبا وفرنسا. > طبعاً، ليس من مهامنا هنا، في هذه العجالة، ان نتوقف عند كل ما حققه، وعند كل ما نهبه، وما أفاده، وما استفاد به بونابرت من حملته التي لم تدم سوى أعوام قليلة عاد بعدها وقد هزمه الإنكليز، أو ربما التوقف عند عدم فهم الشرق لأهدافه والحظوظ التي أتى بها، غير أننا نتوقف عند سمة اساسية تتجلى في واحد من الكتب التي تبدت الأكثر تأثيراً وفاعلية في ذلك الحين: كتاب «وصف مصر» الذي أنتجه عدد من العلماء والمفكرين والفنانين الذين كان الضابط الفرنسي الطموح والشاب قد اصطحبهم معه في حملته. فالحال ان بونابرت لم يفته حين راح يرتب لحملته خلال العامين الأخيرين من القرن الثامن عشر، ان يضم الى الـ35 الف جندي مدجج بالسلاح، نخبة العلماء والمثقفين الفرنسيين في زمنه. إذ يذكر الباحث جيل نيريه ان الحملة ضمت مجموعة من نحو 500 مدني، من بينهم 167 عالماً وخبيراً منهم 21 عالم رياضيات، 3 فلكيين، و17 مهندساً مدنياً، و13 عالم طبيعة ومهندس مناجم، و4 مهندسين عمار، وثمانية رسامين وعشرة أدباء، و22 عامل طباعة يحملون آلاتهم وحروفاً لاتينية وإغريقية وعربية. ويقول لنا جيل نيريه انه «منذ اللحظة التي تمكّن فيها بونابرت، بالقرب من أهرامات الجيزة، من سحق قوات المماليك المتصدية له بعشرة آلاف خيال، ودخل الى القاهرة، شرع العلماء في عملهم... وكان في عداد هذا العمل العثور على كل ما يتعلق بالحضارة الفرعونية التي كان بونابرت يعتبرها «مهد العلوم والفنون بالنسبة الى البشرية قاطبة». وما كتاب «وصف مصر» سوى جزء من ذلك العمل الكبير والمتشعب الذي أنجزه اولئك العلماء، وهو عمل ضم أيضاً نهب كميات هائلة من الآثار المصرية تعيش اليوم موزعة في شتى متاحف العالم ومدنه، ولا سيما في متحف «اللوفر» الباريسي. > لكن كتاب «وصف مصر» لم يوضع أصلاً ككتاب. كل ما في الأمر ان بونابرت وزع علماءه وأرسلهم الى شتى المناطق المصرية لكي تعمل كل مجموعة منهم على رسم ووصف سمة او اكثر من سمات الحضارة المصرية، وفي المجالات كافة... وكان رائد الجميع ذلك العمل الفذ الذي كان أنجزه العالم فيفان دينون. وهكذا راح عالم الري يشتغل وكذلك المهندس والأديب والمؤرخ وعالم الحيوان وخبير الحضارة الفرعونية. وكان الرسامون جاهزين في كل مكان لرسم ما يشاهدونه، وغالباً من وجهة نظر العلماء الباحثين. وراح كل ذلك يظهر على شكل نشرات وبحوث متفرقة نشر اكثرها في صحف ومجلات ذلك الحين، ليحرك المخيلات الشعبية ناهيك بمخيلات المثقفين، مولداً في طريقه حركة اهتمام فرنسي بكل ما يمت الى مصر وتاريخها بصلة، حركة لم تخفت أبداً طوال القرنين التاليين ولا تزال حتى يومنا هذا تنتج مئات الكتب والأعمال الفكرية والفنية كل شهر في مصر، ما خلق نزعة يطلق عليها هناك اسم «الهوس المصري» Egyptomania. ولنذكر هنا أن بونابرت، ومنذ شباط (فبراير) من عام 1802 أصدر أوامره الى «المطبعة الإمبريالية» للبدء في طباعة ونشر المخطوطات الثقافية والعلمية التي عاد بها مثقفو الحملة وعلماؤها. ولا سيما الرسوم الكثيرة الرائعة، والتي يصل بعضها الى مستوى الأعمال الفنية المتميزة. وهكذا، بدأ أربعمئة حفار على النحاس يعملون طوال عشرين سنة تالية، لإنجاز رسوم كتاب «وصف مصر»، الرسوم التي يمكن ان تملأ، وحدها، متحفاً متوسط الحجم. وهكذا أسفر ذلك كله عن محصلة علمية، فكرية تاريخية تصف حال مصر ايام الحملة البونابرتية. ولئن كان الجانب الفرعوني والأركيولوجي قد طغى على صفحات ذلك السفر، فإنه امتلأ في الوقت نفسه بصفحات ترصد الثروة النباتية والحيوانية في مصر، وكذلك احوال المعادن والمناجم. ومن الواضح ان هذا الجانب الأخير لم يخل من ابعاد اقتصادية كانت تخامر ذهن بونابرت الذي كان يخيل إليه حينها انه إنما حل في مصر لكي يبقى فيها. والكتاب كله تبدّى في نهاية الأمر «توليفة اناسية وجغرافية وعلمية» ترصد الواقع والتاريخ، وتتوزع على عشرة مجلدات ضخمة ومجموعتين. والكتاب في شكله الأكمل - ذلك ان له مختصرات كثيرة - يحتوي على 837 لوحة محفورة على النحاس، وتضم اكثر من 3000 رسمة بعضها لا يقل ارتفاعه عن متر بكامله. > والحال ان وجود هذا السفر وتداوله وتأثيراته هو الذي يجعل الباحثين يقولون دائماً ان «هذه المغامرة الملحمية الغريبة، التي كانتها حملة بونابرت على مصر، إن كانت لم تأتِ بثمارها السياسية والعسكرية والاقتصادية المتوخاة، فإنها على الأقل حققت أهدافاً من نوع آخر: ولدت علم المصريات، أتاحت فك اللغة الهيروغليفية، عرّفت مصر إلى العالم، وعرّفت العالم إلى مصر، اطلقت مبادرة شق قناة السويس، بعثت من رقاده علم التنقيبات الأثرية في مصر، جعلت لمصر في أوروبا تاريخاً وحضوراً كانا غائبين منذ كتابات هيرودوتس... وقبل هذا وذاك، اطلقت من عقالها حركة فكرية طباعية علمية عمّت الشرق العربي بكامله، حركة تلقفها محمد علي ليفتتح عصوراً جديدة عرف الفكر النهضوي العربي كيف يمهد لها ويصيغها. RE: إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 09-14-2010 «حوار المنفيين» لبريخت: عن الذين ينظرون الى العالم بالمقلوب الثلاثاء, 14 سبتمبر 2010 برتولد بريخت.jpg ابراهيم العريس Related Nodes: برتولد بريخت.jpg «آه لو كانت للبشر انانية المدرعات والأسلحة والأجهزة الميكانيكية، فهي وحدها التي ترفض الصبر على الجوع والعطش. وهي في هذا المجال تبقى مصمخة الآذان في وجه كل الحجج مهما كانت حججاً قوية... فما جدوى تذكيرها بذكريات ماضيها المجيد؟ انها لا تؤمن بالزعيم ولا تخشى هراوات رجال الشرطة. وإن انت لم تهتم بها وبجوعها او عطشها، فلن تبدي اي غضب ولن يظهر عندها اي تفهم للأمر. إنها تصدأ بكل بساطة. تصدأ لا اكثر ولا أقل. في بلادنا، يمكن القول، انها هي التي لا تجد اقل صعوبة في الحفاظ على كرامتها». ترد هذه السطور في واحد من اجمل وأقوى النصوص التي كتبها المسرحي الألماني الكبير برتولد بريخت «حوار المفنيين». وهو نص كتبه صاحب «دائرة الطباشير القوقازية» و «الأم شجاعة»، في العام 1941، حين كان بدأ رحلة منفاه التي أبعدته عن وطنه ألمانيا، لتصل به الى الولايات المتحدة الأميركية، قبل ان يعود لاحقاً الى ألمانيا، إذ انتهت الحرب وهزم هتلر والنازيون الذين كانوا سبب سلوكه درب المنفى. > «حوار المنفيين» هذا كتب في فنلندا في ذلك العام، حين كانت الحرب العالمية الثانية لا تزال في بداياتها، لكنه لن ينشر إلا بعد موت بريخت (في العام 1956). وحين كتب بريخت هذا النص، كانت اوضاع العالم لا تزال شديدة الغموض، في وقت تكتسح قوات هتلر اجزاء من ذلك العالم. ومن هنا لم يكن غريباً ان يختتم النص على رصد متشائم، حتى وإن كان مفتوحاً على اسئلة اكثر من انفتاحه على يقين سلبي، حيث فيما كان متحاوراً هذا النص، السيد كاله والسيد زيغل، يواصلان كلامهما كان «السيد آلة يلقي بثقله الكثيف على اليونان، وروزفلت يواصل قيامه بجولة انتخابية (في ربوع بلاده البعيدة)، وتشرشل والأسماء ينتظرون فرصة للإقلاع، اما السيد - الذي لا أعرف له اسماً - فإنه كان يرسل قواته إلى رومانيا لتحتلها، فيما الاتحاد السوفياتي صامت مستمراً في صمته». «إذاً، نحن هنا امام نص يرصد احوال العالم من خلال حوارات تدور بين منفيين. غير ان النص في تفاصيله يبدو اعمق من هذا وأبعد غوراً: فهو لا يكتفي بأن يقارب القضايا السياسية الراهنة، بل انه يغوص، حتى، في مسبباتها وخلفياتها الفكرية، يقول ان ما يحدث ليس مصادفة، وأن هيمنة غبي كهتلر على السلطة ليست امراً عارضاً. ولقول هذا كله، جمع بريخت في نصه غريبين هاربين من ألمانيا النازية يلتقيان، مصادفة، في مستودع سكة حديد في هلسنكي عاصمة فنلندا: الأول طويل عريض هو عالم الفيزياء زيغل. والثاني قصير سمين يدعى كاله. ومن الواضح منذ البداية ان بريخت جعل هذين الغريبين ينطقان معاً باسمه ويتحاوران على الشاكلة التي كان هو نفسه يطرح بها اسئلته على ذاته. اما الحوارات بينهما فإنها تطاول اموراً عدة، منها ما هو شخصي واجتماعي، ومنها ما هو فكري وسياسي وتاريخي. > كان السيد كاله مرّ بمعسكر اعتقال نازي ما اكسبه خبرة بتصرفات الأسرى والجلادين سواء بسواء، اما زيغل فإنه مثقف عاطل من العمل. والاثنان كانا يعيشان في المنفى وضعاً سيئاً طالما ان القوات الألمانية كانت تقترب... وهذا الأمر، اذا كان يشكل ضغطاً عليهما، فإنه في الوقت نفسه حرّر لسانيهما، ما جعل حوارهما يتسم بكثير من الصراحة، والجرأة. والجرأة تطاول في ذلك الحوار كل شيء، بما في ذلك الفيلسوف هيغل، الذي له «قماشة مهرج كبير» من حيث ان منطقه، الذي يعاني من روماتيزم دائم، يبدو مسلياً جداً إذ يصف لنا كيف ان الثنائيات تتصادم، لكنها تبرر بعضها بعضاً في النهاية: وهكذا يجلس النظام والفوضى الى طاولة واحدة، مثلاً. وما هذا سوى نتيجة للديالكتيك الذي يجعل المرء في حاجة الى شيء من حس الفكاهة حتى يفهمه ويفهم مبتدعه. وعلى هذا النحو تمضي الآراء: «الإنسانية لا يمكنها ان تعيش من دون فوضى او فساد. النظام خطير والإنسانية غير مستعدة له بعد». فماذا عن المادية؟ ان السيد زيغل يبدي دهشته هنا لأن الكتاب اليساريين، الراغبين حقاً في ايصال الفلسفة والأخلاق الى اهل الطبقات السفلى، لا يهتمون ايّما اهتمام بوصف ملذات العيش (ملذات الفم على سبيل المثال)، وهكذا يغيب عن نصوصهم «وصف ولو بسيط لمختلف انواع الجبنة، او وصف ملموس وموحي على يد فنان حقيقي لطبق من البيض المقلي الجديد بهذا الاسم»، فلو وجد هذا الوصف لـ «كان، من دون ريب، امراً من شأنه ان يساهم حقاً في تربية النفوس والعقول». فالحقيقة، يقول المتحاوران ان «كوباً جيداً من شراب البيض، لن يتناقض ابداً مع فلسفة المذهب الإنساني». > ولأن النقاش يدور، حول ألمانيا بخاصة، كما حول الحرب، يتناول المتحاوران مسألة الحرب. فماذا عنها؟ «انه من الواضح ان السكان المدنيين يقفون عقبة مزعجة في وجه العمليات العسكرية. ومن اجل الاستخدام الأمثل للأسلحة الحديثة، من الضروري استبعاد الشعوب كلية، بل ان الأمر يستوجب اخلاء دائماً للسكان المدنيين لأن الحروب الحديثة تندلع كالزوبعة، ولا يمكن احداً ان يعرف في اي اتجاه ستسير «اما الخيار المنطقي فإنه في منتهى البساطة: إما ان نبيد السكان، وإما ان نعترف - آسفين - بأن الحرب مستحيلة...». > على هذا النحو «الجدلي» تدور بقية الحوارات بين مثقف يلعب بمهارة ولا يسعى ابداً الى إخفاء تقنياته الحوارية المستخدمة بوفرة لمصطلحات البطولة والضرورة والأنانية، اي «كل ذلك الجنون الذي يقوم على مطالبة الإنسان بأن يكف عن كونه انساناً»، وبين عقل بسيط يصرخ فجأة «آه... ايها الصديق ها أنذا أقول لك انني سئمت الفضائل كلها، وأرفض ان اصبح بطلاً...». > ثم إذ يصل حديث المتحاورين الى التربية الألمانية، يتنبه الاثنان الى ضرورة تعريف كلمة «ألماني» أولاً. فما الذي تعنيه هذه الكلمة، على ضوء استشراء الهتلرية النازية؟ «ان تكون ألمانياً، يقول احدهما للآخر، معناه ان تفعل الأمور حتى منتهاها، سواء تعلق الأمر بتشميع ارضية البيوت، او بإبادة الساميين جميعاً. في داخل كل ألماني هناك استاذ فلسفة يغط في نومه...». وهنا يقول كاله: «ان كل قول عن الكرامة، لا أجده ينطبق على مواطنينا الألمان، فهؤلاء هم من الطاعة بحيث يمكن تحويلهم فوراً الى ابطال وسادة. وبواسطة مفاهيم مثل الدم والأرض في الإمكان اقناعهم بأن الألماني له وحده الحق في بذل دمه من اجل الفوهرر. وأن الألماني وحده له الحق في ان ينتزع من كائن آخر، الأرض التي يمتلكها هذا الأخير...». ولسوف ينتهي الحوار بأن يقول كاله لزيغل: «لقد افهمتني، اذاً، انك تبحث عن وطن تكون فيه فضائل جذرية مثل الوطنية والظمأ الى الحرية والطيبة والتجرد، عائمة على سطح الأنانية والقسوة والزلفى... وميل الإنسان لأن يقول لوطنه في نهاية الأمر: تباً لك!...». > إن برتولد بريخت (1898 - 1956) الذي كتب هذا النص، كان منفياً يشعر بالكثير من المرارة، ويشهد قيماً كبيرة وأساسية تنهار امام ناظريه بفعل الهجمة النازية على العالم وعلى كل ما هو انساني في هذا العالم، لكن بريخت كان واعياً في الوقت نفسه، ان ضعف القوى الخيرة أو تعثر خطواتها كان بدوره يساهم في الانتصارات النازية. وفي هذا الإطار، ما جوهر «حوار المنفيين» سوى تأكيد وتكثيف لعدد من الأفكار التي لطالما دق عبرها ناقوس الخطر، وملأ بها اعماله الكبيرة السابقة مثل «قديسة المسالخ جان» و «الأم» و «أوبرا القروش الثلاثة» و «حياة غاليلي» و «آرتورو أوي». |