حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
شبهات المشككون - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5)
+--- المنتدى: الحوار الديني (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=58)
+---- المنتدى: للقراءة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=11)
+---- الموضوع: شبهات المشككون (/showthread.php?tid=40085)



شبهات المشككون - حنيفا على الفطرة - 11-07-2010

بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم للأستاذ الدكتور/ محمود حمدى زقزوق
وزير الأوقاف
قصة الصراع بين الحق والباطل والخير والشر قصة قديمة بدأت فصولها مع بداية وجود الأنسان على الأرض، وسوف تتواصل فصولها طالما كان هناك إنسان فى هذا الوجود.
وعندما ظهر الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان لم يتوقف سيل الشبهات التى يثيرها المشككون من خصوم هذا الدين تشكيكا فى مصادره أو فى نبيه أو فى مبادئه وتعاليمه. ولا تزال الشبهات القديمة تظهر حتى اليوم فى أثواب جديدة يحاول مروجوها أن يضيفوا عليها طابعا علميا زائفا.
ومن المفارقات الغريبة فى هذا الصدد أن يكون الأسلام - وهو الدين الذى ختم الله به الرسالات ، وكان آخر حلقة فى سلسلة اتصال السماء بالأرض - قد اختص من بين كل الديانات التى عرفها الأنسان سماوية كانت أم أرضية بأكبر قدر من الهجوم وإثارة الشبهات حوله.
ووجه الغرابة فى ذلك يتمثل فى أن الإسلام فى الوقت الذى جاء فيه يعلن للناس الكلمة الأخيرة لدين الله على لم ينكر أيا من أنبياء الله السابقين ولا ما أنزل عليهم من كتب سماوية ، ولم يجبر أحد من أتباع الديانات السماوية السابقة على اعتناق الإسلام . ولم يقتصر الأمر على عدم الإنكار ، وإنما جعب الإسلام الإيمان بأنبياء الله جميعا وما أنزل عليهم من كتب عنصرا أساسيا من عقيدة كل مسلم بحيث لاتصح هذه العقيدة بدونه.
ومن شأن هذا الموقف المتسامح للإسلام إزاء الديانات السابقة أن يقابل بتسامح مماثل وأن يقلل من عدد المناهضين للإسلام.
ولكن الذى حدث كان على العكس من ذلك تماما. فقد وجدنا الإسلام - على مدى تاريخه - يتعرض لحملات ضارية من كل اتجاه . وليس هناك فى عالم اليوم دين من الأديان يتعرض لمثل ما يتعرض له الإسلام فى الإعلام الدولى من ظلم فادح وإفتراءات كاذبة.
وهذا يبين لنا أن هناك جهلا فاضحا بالإسلام وسوء فهم لتعاليمه سواء كان ذلك بوعى أو بغير وعى ، وأن هناك خلطا واضحا بين الإسلام كدين وبعض التصرفات الحمقاء التى تصدر من بعض أبناء المسلمين باسم الدين وهو منها براء.
ومواجهة ذلك تكون ببذل جهود علمية مضاعفة من اجل توضيح الصورة الحقيقة للإسلام ، ونشر ذلك على أوسع نطاق.
ولم يقتصر علماء المسلمين على مدى تاريخ الإسلام فى القيام بواجبهم فى الرد على هذه الشبهات كل بطريقته الخاصة وبأسلوبه الذى يعتقد أنه السبيل الأقوم للرد ، وهناك محاولات جادة بذلت فى الفترة الأخيرة للدفاع عن الأسلام فى مواجهة حملات التشكيك.
وقد نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية العديد من الرسائل فى سلسلتى "قضايا إسلامية" و "دراسات إسلامية" ، قام فيها العديد من العلماء بالرد على هذه الشبهات(1).
ولم يتوان المجلس عن تتبع ما يثار بين الحين والآخر من شبهات جديدة أو قديمة حول الإسلام والرد عليها بالعربية وغيرها من لغات أخرى . وقد رأينا أن الحاجة قد أصبحت ماسة لتجميع كل الشبهات المعروفة التى قام بها المشككون والرد عليها تفصيلا فى كتاب واحد ييسر للباحثين والمهتمين بهذه القضايا فرصة الإحاطة بما تفتق عنه ذهن المشككين والاطلاع على الرد الإسلامى على ما أثاروه من مزاعم.
والكتاب الذى نقدمه اليوم إلى القارئ الكريم يتضمن الرد على مائة وسبع وأربعين شبهة، وقد اشترك فى هذا العمل العلمى الكبير عدد من العلماء المعروفين ممن لهم باع طويل فى مجال الدراسات الإسلامية.
وفى خطة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية القيام بترجمة هذا الكتاب إلى عدد من اللغات الأجنبية حتى تعم الفائدة ويطلع المسلمون وغير المسلمين على هذه الشبهات والرد عليها.
ونأمل أن يسهم هذا الكتاب فى توضيح الصورة الحقيقية للإسلام وإزالة ما علق بالأذهان من سوء فهم لتعاليمه وعقائده.
والله من وراء القصد....
تحريرا فى 18 من صفر 1423 هجرية / 1 مايو 2002م.



1- جمع القرآن


اتخذ المعترضون من وقائع جمع القرآن وليجة يتسللون من خلالها للنيل من القرآن ، وإيقاع التشكيك فى كونه وحيًا من عند الله عز وجل .
والواقع أن الذى ألجأهم إلى التسلل من هذه " الوليجة " وهى وقائع جمع القرآن أمران رئيسيان :
الأول : محاولتهم نزع الثقة عن القرآن وخلخلة الإيمان به حتى لا يظل هو النص الإلهى الوحيد المصون من كل تغيير أو تبديل ، أو زيادة أو نقص .
الثانى : تبرير ما لدى أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من نقد وجه إلى الكتاب المقدس بكلا عهديه : القديم (التوراة) والجديد (الأناجيل) ليقطعوا الطريق على ناقدى الكتاب المقدس من المسلمين ، ومن غير المسلمين .
ومواطن الشبهة عندهم فى وقائع جمع القرآن والمراحل التى مرَّ بها ، هى :
أن القرآن لم يُدوَّن ولم يكتب فى مصحف أو مصاحف كما هو الشأن الآن ، إلا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم أما فى حياته ، فلم يكن مجموعاً فى مصحف . وأن جمعه مرًّ بعدة مراحل :
الأولى : فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - وهو جمع ابتدائى غير موثق تمام التوثيق كما يزعمون ؟ .
الثانية : فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وقد كان الجمع فى هذه المرحلة قابلاً لإدخال كثير من الإضافات التى افتقر إليها تدوين القرآن فيما بعد . لأن القرآن لم يكن فيهما مضبوطًا مشكولاً .
الثالثة : الإضافات التى أُلْحِقَتْ بالنص القرآنى وأبرزها :
* نَقْط حروفه لتمييز بعضها من بعض ، مثل تمييز الخاء من الجيم والحاء ، وتمييز الجيم من الخاء والحاء ، وتمييز التاء بوضع نقطتين فوقها عن كل من الياء والباء والنون والثاء .
1- ضبط كلماته بالضم والفتح والكسر والجزم ، مثل : " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين " وهذا أمر طارئ على جمع القرآن فى مرحلتيه السابقتين .
2- علامات الوقف:مثل :ج صلى لا قلى م 00 00
3- وضع الدوائر المرقوم فيها أرقام الآيات فى كل سورة .
إن كل هذه الإضافات لم تكن موجودة فى العصر النبوى ، بل ولا فى عهد الخلفاء الراشدين .
يذكرون هذا كله ليصوروا أن الشبهة التى لوحظت فى جمع المصحف الحاوى للقرآن الكريم ، تزرع الشكوك والريوب (جمع ريب) فى وحدة القرآن واستقراره وسلامته من التحريف . فعلام إذن يصر المسلمون على اتهام التوراة التى بيد اليهود الآن أنها لا تمثل حقيقة التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه السلام ؟ أو لماذا يطلقون هذا الوصف على مجموعة " الأناجيل " : التى بيد النصارى الآن ؟
الرد على هذه الشبهة :
إنًّ تأخير تدوين القرآن عن حياة النبى صلى الله عليه وسلم وجمعه فى مصحف فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، لامساس له مطلقًا بوحدة القرآن وصلة كل كلمة بالوحى الإلهى ؛ لأن القرآن قبل جمعه فى مصاحف كان محفوظًا كما أنزله الله على خاتم المرسلين .
والعرب قبل الإسلام ، وفى صدر الإسلام المبكر كانوا ذوى ملكات فى الحفظ لم يماثلهم فيها شعب أو أمة ، من قبلهم أو معاصرة لهم ، ومن يعرف الكتابة والقراءة فيهم قليلون فكانوا يحفظون عن ظهر قلب ما يريدون حفظه من منثور الكلام ومنظومه .
وروعة نظم القرآن ، ونقاء ألفاظه ، وحلاوة جرسه ، وشرف معانيه ، هذه الخصائص والسمات فاجأت العرب بما لم يكونوا يعرفون ، فوقع من أنفسهم موقع السحر فى شدة تأثيره على العقول والمشاعر ، فاشتد اهتمامهم به ، وبخاصة الذين كانوا من السابقين إلى الإيمان به ، وكانوا يترقبون كل جديد ينزل به الوحى الأمين ، يجمعون بين حفظه والعمل به .
وكان النبى صلى الله عليه وسلم كلما نزل عليه شئ من الوحى يأمر كُتًّاب الوحى بكتابته فورًا ، سماعًا من فمه الطاهر ثم ينشر ما نزل من الوحى بين الناس .
وقد ساعد على سهولة حفظه أمران :
الأول : نزوله (مُنَجَّمًا) أى مفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة ؛ لأنه لم ينزل دفعة واحدة كما كان الشأن فى الوحى إلى الرسل السابقين .
والسبب فى نزول القرآن مُفَرَّقًا هو ارتباطه بتربية الأمة ، والترقى بها فى مجال التربية طورًا بعد طور ومعالجة ما كان يجد من مشكلات الحياة ، ومواكبة حركة بناء الدعوة من أول شعاع فيها إلى نهاية المطاف .
الثانى : خصائص النظم القرآنى فى صفاء مفرداته ، وإحكام تراكيبه ، والإيقاع الصوتى لأدائه متلوًّا باللسان ، مسموعًا بالآذان ، وما يصاحب ذلك من إمتاع وإقناع ، كل ذلك أضفى على آيات القرآن خاصية الجذب إليه ، والميل الشديد إلى الإقبال عليه ، بحيث يجذب قارئه وسامعه واقعًا فى أسره غير ملولٍ من طول الصحبة معه .
وتؤدى فواصل الآيات فى القرآن دورًا مُهِمًّا فى الإحساس بهذه الخصائص . ولنذكر لهذا " مثلاً " من سور القرآن الكريم :
بسم الله الرحمن الرحيم (والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحًا * فأثرن به نقعًا * فوسطن به جمعًا * إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بُعثر ما فى القبور * وحُصل ما فى الصدور * إن ربهم بهم يومئذ لخبير)(1) .
عدد آيات هذه السورة [ العاديات ] إحدى عشرة آية ، وقد وزعت من حيث الفواصل ، وهى الكلمات الواقعة فى نهايات الآيات ، على أربعة محاور ، هى : الثلاث الآيات الأولى ، وكل فاصلة فيها تنتهى بحرف الحاء : ضبحا قدحا صبحا .
والآيتان الرابعة والخامسة ، كل فاصلة فيهما انتهت بحرف العين : نقعا جَمْعا .
والآيات السادسة والسابعة والثامنة ، انتهت فواصلها بحرف الدال : لكنود لشهيد لشديد .
أما الآيات التاسعة ، والعاشرة ، والحادية عشرة ، فقد انتهت فواصلها بحرف الراء : القبور الصدور لخبير .
مع ملاحظة أن حروف الفواصل فى هذه السورة ماعدا الآيات الثلاث الأولى مسبوقة بحرف " مد " هو " الواو " فى : " لكنود " و " الياء " فى : " لشهيد لشديد " .
ثم " الواو " فى : " القبور الصدور ثم " الياء " فى : " لخبير " وحروف المد تساعد على " تطرية " الصوت وحلاوته فى السمع . لذلك صاحبت حروف المد كلمات " الفواصل " فى القرآن كله تقريبًا ، وأضفت عليها طابعًا غنائيًا من طراز فريد (2) جذب الإسماع ، وحرك المشاعر للإقبال على القرآن بشدة أسره إياهم عن طريق السماع ، ليكون ذلك وسيلة للإقبال على فقه معانيه ، ثم الإيمان به .
ومن سمات سهولة الحفظ فى هذه السورة أمران :
أنها سورة قصيرة ، حيث لم تتجاوز آياتها إحدى عشرة آية .
قصر آياتها ، فمنها ما تألف من كلمتين ، وهى الآيات الثلاث الأولى . ومنها ما تألف من ثلاث كلمات ، وهى الآيتان الرابعة والخامسة . ومنها ما تألف من أربع كلمات ، وهى الآيات : السادسة والسابعة والثامنة . وآيتان فحسب كلماتها خمس ، وهما العاشرة والحادية عشرة . وآية واحدة كلماتها سبع ، هى الآية التاسعة .
ونظام " عقد المعانى " فى السورة رائع كروعة نظمها . فالآيات الثلاث الأولى قَسَمٌ جليل بِخَيْلِ المجاهدين فى سبيل الله .
والآيتان الرابعة والخامسة استطراد مكمل لمعانى المقسم به ، شدة إغارتها التى تثير غبار الأرض ، وسرعة عَدْوِِهٍَا ومفاجأتها العدوّ فى الإغارة عليه .
ثم يأتى المقسم عليه فى الآية السادسة : " إن الإنسان لربه لكنود " : عاص لله ، كفور بإنعامه عليه .
وفى الآية السابعة إلماح إلى علم الإنسان بأنه عاق لربه ، شهيد على كفرانه نعمته .
وفى الآية الثامنة تقبيح لمعصية الإنسان لربه ، وإيثار حطام الدنيا على شكر المنعم .
أما الآيات الثلاث الأخيرة من (9) إلى (11) فهى إنذار للإنسان الكفور بنعم ربه إليه .
وهذه السمات ، ليست وقفًا كلها على سورة " والعاديات " بل هى مع غيرها ، سمات عامة للقرآن كله ، وبهذا صار القرآن سهل الحفظ لمن حاوله وصدق فى طلبه وسلك الطريق الحق الموصل إليه (3) .
إن الحفظ كان العلاقة الأولى بين المسلمين وبين كتاب ربهم وكان الحفظ له وسيلة واحدة ضرورية يعتمد عليها ، هى السماع . وهكذا وصل إلينا القرآن ، من بداية نزوله إلى نهايته .
وأول سماع فى حفظ القرآن كان من جبريل عليه السلام الذى وصفه الله بالأمين .
وأول سامع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمع القرآن كله مرات من جبريل .
وثانى مُسَمِّع كان هو عليه الصلاة والسلام بعد سماعه القرآن من جبريل .
أما ثانى سامع للقرآن فهم كُتَّابُ الوحى ، سمعوه من النبى عليه الصلاة والسلام فور سماعه القرآن من جبريل ؛ لأنه كان إذا نزل الوحى ، وفرغ من تلقى ما أنزله الله إليه دعا كُتَّابَ الوحى فأملى على مسامعهم ما نزل فيقومون بكتابته على الفور .
ثم يشيع عن طريق السماع لا الكتابة ما نزل من القرآن بين المؤمنين ، إما من فم الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو من أفواه كتاب الوحى .
وقد يسَّر الله تعالى لحفظ القرآن واستمرار حفظه كما أنزله لله ، أوثق الطرق وأعلاها قدرًا فكان صلى الله عليه وسلم يقرؤه على جبريل فى كل عام مرة فى شهر رمضان المعظم . ثم فى العام الذى لقى فيه ربه تَمَّ عرض القرآن تلاوة على جبريل مرتين . زيادة فى التثبت والتوثيق .
وفى هذه الفترة (فترة حياة النبى) لم يكن للقراء مرجع سوى المحفوظ فى صدر النبى عليه الصلاة والسلام ، وهو الأصل الذى يُرجع إليه عند التنازع ، أما ما كان مكتوبًا فى الرقاع والورق فلم يكن مما يرجع إليه الناس ، مع صحته وصوابه .
وكذلك فى عهدى الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما كان الاعتماد على الحفظ فى الصدور هو المعول عليه دون الكتابة ؛ لأنها كانت مفرقة ، ولم تكن مجموعة .
وكانت حظوظ الصحابة ، من حفظ القرآن متفاوتة ، فكان منهم من يحفظ القدر اليسير ، ومنهم من يحفظ القدر الكثير ، ومنهم من يحفظ القرآن كله . وهم جمع كثيرون مات منهم فى موقعة اليمامة فى خلافة أبى بكر سبعون حافظًا للقرآن ، وكانوا يسمون حفظة القرآن ب " القُرَّاء " .
ولا يقدح فى ذلك أن بعض الروايات تذهب إلى أن الذين حفظوا القرآن كله من الصحابة كانوا أربعة أو سبعة ، وقد وردت بعض هذه الروايات فى صحيحى البخارى ومسلم لأن ما ورد فيهما له توجيه خاص ، هو أنهم حفظوا القرآن كله وعرضوا حفظهم على رسول الله تلاوة عليه فأقرهم على حفظهم ، وليس معناه أنهم هم الوحيدون الذين حفظوا القرآن من الصحابة (4) .
أول جمع للقرآن الكريم
لم يجمع القرآن فى مصحف فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم ، ولا فى صدر خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، وكان حفظه كما أنزل الله فى الصدور هو المتبع .
وفى هذه الأثناء كان القرآن مكتوبًا فى رقاع متفرقًا . هذه الرقاع وغيرها التى كتب فيها القرآن إملاء من فم النبى صلى الله عليه وسلم ، ظلت كما هى لم يطرأ عليها أى تغيير من أى نوع .
ولما قتل سبعون رجلاً من حُفَّاظِه دعت الحاجة إلى جمع ما كتب مفرقًا فى مصحف واحد فى منتصف خلافة أبى بكر باقتراح من عمر رضى الله عنهما .
وبعد وفاة أبى بكر تسلم المصحف عمر بن الخطاب ، وبعد وفاته ظل المصحف فى حوزة ابنته أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها (5) .
وفى هذه الفترة كان حفظ القرآن فى الصدور هو المتبع كذلك .
وانضم إلى حُفَّاظه من الصحابة بعد انتقال النبى عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى ، التابعون من الطبقة الأولى ، وكانت علاقتهم بكتاب الله هى الحفظ بتفاوت حظوظهم فيه قلة وكثرة ، وحفظًا للقرآن كله ، وممن اشتهر منهم بحفظ القرآن كله التابعى الكبير الحسن البصرى رضى الله عنه وآخرون .
كان هذا أول جمع للقرآن ، والذى تم فيه هو جمع الوثائق التى كتبها كتبة الوحى فى حضرة رسول الله ، بمعنى تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها على نسق نزولها ، ولا معنى لهذا الجمع إلا ما ذكرناه ، وإطلاق وصف المصحف عليه إطلاق مجازى صرف . والقصد منه أن يكون مرجعًا موثوقًا به عند اختلاف الحفاظ .
ومما يجب التنبيه إليه مرات أن الجمع فى هذه المرحلة لم يضف شيئًا أو يحذفه من تلك الوثائق الخطية ، التى تم تدوينها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام إملاءً منه على كتبة وحيه الأمناء الصادقين .
مرحلة الجمع الثانية (6)
كانت هذه المرحلة فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وكان حافظًا للقرآن كله كما ورد فى الروايات الصحيحة . والسبب الرئيسى فى اللجوء إلى هذا الجمع فى هذه المرحلة هو اختلاف الناس وتعصبهم لبعض القراءات ، إلى حد الافتخار بقراءة على قراءة أخرى ، وشيوع بعض القراءات غير الصحيحة .
وهذا ما حمل حذيفة بن اليمان على أن يفزع إلى أمير المؤمنين عثمان ابن عفان ، ويهيب به أن يدرك الأمة قبل أن تتفرق حول القرآن كما تفرق اليهود والنصارى حول أسفارهم المقدسة . فنهض رضى الله عنه للقيام بجمع القرآن فى " مصحف " يجمع الناس حول أداء واحد متضمنًا الصلاحية للقراءات الأخرى الصحيحة ، وندب لهذه المهمة الجليلة رجلاً من الأنصار (زيد بن ثابت) وثلاثة من قريش : عبد الله بن الزبير ، سعد بن أبى وقاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام . وزيد بن ثابت هذا كان هو رئيس الفريق الذى ندبه عثمان رضى الله عنه لهذه المهمة الجليلة؛ لأنه أى زيد بن ثابت قد تحققت فيه مؤهلات أربعة للقيام بهذه المسئولية وهى :
كان من كتبة الوحى فى الفترة المدنية .
كان حافظًا متقنًا للقرآن سماعًا مباشرًا من فم رسول الله .
كان هو الوحيد الذى حضر العرضة الأخيرة للقرآن من النبى عليه الصلاة والسلام على جبريل عليه السلام .
كان هو الذى جمع القرآن فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه .
منهج الجمع فى هذه المرحلة
وقد تم الجمع فى هذه المرحلة على منهج دقيق وحكيم للغاية قوامه أمران :
الأول : المصحف الذى تم تنسيقه فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، وقد تقدم أن مكوّنات هذا المصحف هى الوثائق الخطية التى سجلها كتبة الوحى فى حضرة النبى عليه صلى الله عليه وسلم سماعًا مباشرًا منه .
فكان لا يُقبل شئ فى مرحلة الجمع الثانى ليس له وجود فى تلك الوثائق التى أقرها النبى عليه الصلاة والسلام .
الثانى : أن تكون الآية أو الآيات محفوظة حفظًا مطابقًا لما فى مصحف أبى بكر عند رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأقل . فلا يكفى حفظ الرجل الواحد ، ولا يكفى وجودها فى مصحف أبى بكر ، بل لابد من الأمرين معًا :
1- وجودها فى مصحف أبى بكر .
2- ثم سماعها من حافظين ، أى شاهدين ، وقد استثنى من هذا الشرط أبو خزيمة الأنصارى ، حيث قام حفظه مقام حفظ رجلين فى آية واحدة لم توجد محفوظة إلا عند أبى خزيمة ، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين عدلين .
قام هذا الفريق ، وفق هذا المنهج المحكم ، بنسخ القرآن ،لأول مرة ، فى مصحف واحد ، وقد أجمع عليه جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعارض عثمان منهم أحدًا ، حتى عبد الله بن مسعود ، وكان له مصحف خاص كتبه لنفسه ، لم يعترض على المصحف "الجماعى" الذى دعا إلى كتابته عثمان رضى الله عنه ، ثم تلقت الأمة هذا العمل الجليل بالرضا والقبول ، فى جميع الأقطار والعصور .
ونسخ من مصحف عثمان ، الذى سمى " المصحف الإمام " بضعة مصاحف ، أرسل كل مصحف منها إلى قطر من أقطار الإسلام ، مثل الكوفة والح
جاز ، وبقى المصحف الأم فى حوزة عثمان رضى الله عنه ، ثم عمد عثمان إلى كل ماعدا " المصحف الإمام " من مصاحف الأفراد المخالفة أدنى مخالفة للمصحف الإمام ، ومنها مصحف الصحابى الجليل ابن مسعود وأمر بحرقها أو استبعادها ؛ لأنها كانت تحتوى على قراءات غير صحيحة ، وبعضها كان يُدخل بعض عبارات تفسيرية فى صلب الآيات أو فى أواخرها .
الفرق بين الجمعين
من نافلة القول ، أن نعيد ما سبق ذكره ، من أن أصل الجمعين اللذين حدثا فى خلافتى أبى بكر وعثمان رضى الله عنهما كان واحدًا ، هو الوثائق الخطية التى حررت فى حضرة النبى صلى الله عليه وسلم إملاءً من فمه الطاهر على كتبة الوحى ، ثم تلاوتهاعليه وإقرارها كما تليت عليه هذه الوثائق لم تدخل عليها أية تعديلات ، وهى التى نراها الآن فى المصحف الشريف المتداول بين المسلمين .
وكان الهدف من الجمع الأول فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه هو جمع تلك الوثائق المتفرقة فى مكان واحد منسقة السور والآيات ، دون نقلها فى مصحف حقيقى جامع لها . فهذا الجمع بلغة العصر مشروع جمع لا جمع حقيقى فى الواقع .
ولهذا عبَّر عنه أحد العلماء بأنه أشبه ما يكون بأوراق وجدت متفرقة فى بيت النبى فربطت بخيط واحد ، مانع لها من التفرق مرة أخرى .
أما الجمع فى خلافة عثمان رضى الله عنه فكان نسخًا ونقلاً لما فى الوثائق الخطية ، التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام وأقرها بعد تلاوتها عليه ، وجمعها فى مصحف واحد فى مكان واحد . وإذا شبهنا الوثائق الأولى بقصاصات ورقية مسطر عليها كلام ، كان الجمع فى خلافة عثمان هو نسخ ذلك الكلام المفرق فى القصاصات فى دفتر واحد .
أما الهدف من الجمع فى خلافة عثمان فكان من أجل الأمور الآتية :
1- توحيد المصحف الجماعى واستبعاد مصاحف الأفراد لأنها لم تسلم من الخلل . وقد تم ذلك على خير وجه .
2- القضاء على القراءات غير الصحيحة ، وجمع الناس على القراءات الصحيحة ، التى قرأ بها النبى عليه الصلاة والسلام فى العرضة الأخيرة على جبريل فى العام الذى توفى فيه .
3- حماية الأمة من التفرق حول كتاب ربها . والقضاء على التعصب لقراءة بعض القراء على قراءة قراء آخرين .
وفى جميع الأزمنة فإن القرآن يؤخذ سماعًا من حُفَّاظ مجودين متقنين ، ولا يؤخذ عن طريق القراءة من المصحف ؛ لإن الحفظ من المصحف عرضة لكثير من الأخطاء ، فالسماع هو الأصل فى تلقى القرآن وحفظه . لأن اللسان يحكى ما تسمعه الأذن ، لذلك نزل القرآن ملفوظًا ليسمع ولم ينزل مطبوعًا ليُقرأ .
فالفرق بين الجمعين حاصل من وجهين :
الوجه الأول : جمع أبى بكر رضى الله عنه كان تنسيقًا للوثائق الخطية التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام على صورتها الأولى حسب ترتيب النزول سورًا وآيات .
وجمع عثمان رضى الله عنه كان نقلاً جديدًا لما هو مسطور فى الوثائق الخطية فى كتاب جديد ، أطلق عليه " المصحف الإمام " .
أما الوجه الثانى فهو من حيث الهدف من الجمع وهو فى جمع أبى بكر كان حفظ الوثائق النبوية المفرقة فى نسق واحد مضمومًا بعضها إلى بعض ، منسقة فيه السور والآيات كما هى فى الوثائق ، لتكون مرجعًا حافظًا لآيات الذكر الحكيم .
وهو فى جمع عثمان ، جمع الأمة على القراءات الصحيحة التى قرأها النبى صلى الله عليه وسلم فى العرضة الأخيرة على جبريل عليه السلام .
أما المتون (النصوص) التى نزل بها الوحى الأمين فظلت على صورتها الأولى ، التى حررت بها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام .
فالجمعان البكرى والعثمانى لم يُدْخِِِِِلا على رسم الآيات ولا نطقها أى تعديل أو تغيير أو تبديل ، وفى كل الأماكن والعصور واكب حفظ القرآن تدوينه فى المصاحف ، وبقى السماع هو الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن على مدى العصورحتى الآن وإلى يوم الدين.
فذلكة سريعة :
العرض الذى قدمناه لتدوين القرآن يظهر من خلاله الحقائق الآتية :
1- إن تدوين متون القرآن (نصوصه) تم منذ فجر أول سورة نزلت بل أول آية من القرآن ، وكان كلما نزل نجم من القرآن أملاه عليه الصلاة والسلام على كاتب الوحى فدونه سماعًا منه لتوه ، ولم يلق عليه الصلاة والسلام ربه إلا والقرآن كله مدون فى الرقاع وما أشبهها من وسائل التسجيل . وهذا هو الجمع الأول للقرآن وإن لم يذكر فى كتب المصنفين إلا نادرًا .
2- إن هذا التدوين أو الجمع المبكر للقرآن كان وما يزال هو الأصل الثابت الذى قامت على أساسه كل المصاحف فيما بعد ، حتى عصرنا الحالى .
- إن الفترة النبوية التى سبقت جمع القرآن فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، لم تكن فترة إهمال للقرآن ، كما يزعم بعض خصوم القرآن من المبشرين والمستشرقين والملحدين بل العكس هو الصحيح ، كانت فترة عناية شديدة بالقرآن (7) . اعتمدوا فيها على ركيزتين بالغتى الأهمية :
الأولى : السماع من الحفظة المتقنين لحفظ القرآن وتلاوته .
الثانية : الحفظ المتقن فى الصدور .
والسماع والحفظ هما أقدم الوسائل لحفظ وتلاوة كتاب الله العزيز . وسيظلان هكذا إلى يوم الدين .
- إن القرآن منذ أول آية نزلت منه ، حتى اكتمل وحيه لم تمر عليه لحظة وهو غائب عن المسلمين ، أو المسلمون غائبون عنه ، بل كان ملازمًا لهم ملازمة الروح للجسد .
إن تاريخ القرآن واضح كل الوضوح ، ومعروف كل المعرفة ، لم تمر عليه فترات غموض ، أو فترات اضطراب ، كما هو الشأن فى عهدى الكتاب المقدس (8) التوراة والإنجيل . وما خضعا له من أوضاع لا يمكن قياسها على تاريخ القرآن ، فليس لخصوم القرآن أى سبب معقول أو مقبول فى اتخاذهم مراحل جمع القرآن منافذ للطعن فيه ، أو مبررًا يبررون به ما اعترى كتابهم المقدس من آفات تاريخية ، وغموض شديد الإعتام صاحب وما يزال يصاحب ، واقعيات التوراة والأناجيل نشأة ، وتدوينًا ، واختلافًا واسع المدى ، فى الجوهر والأعراض التى قامت به .
وقد بقى علينا من عناصر شبهاتهم حول جمع القرآن ومراحله ما سبقت الإشارة إليه من قبل ، وهى : النقط والضبط وعلامات الوقف .
المراد بالنَقْط هو وضع النُّقط فوق الحروف أو تحتها مثل نقطة النون ونقطة الباء .
أما الضبط فهو وضع الحركات الأربع : الضمة والفتحة والكسرة والسكون فوق الحروف أو تحتها حسب النطق الصوتى للكلمة . حسبما تقتضيه قواعد النحو والصرف .
أما علامات الوقف فهى كالنقط والضبط توضع فوق نهاية الكلمة التى يجوز الوقف عليها أو وصلها بما بعدها . وهذه الأنواع الثلاثة يُلحظ فيها ملحظان عامَّان :
الأول : أنها لا تمس جسم الكلمة من قريب أو من بعيد ولا تغير من هيكل الرسم العثمانى للكلمات ، بل هى زيادة إضافية خارجة عن " متون " (أصول) الكلمات .
الثانى : أنها كلها أدوات أو علامات اجتلبت لخدمة النص القرآنى ، ولتلاوته صوتيًا تلاوة متقنة أو بعبارة أخرى :
هى وسائل إيضاح اصطلاحية متفق عليها تعين قارئ القرآن على أدائه أداء صوتيًا محكمًا ، وليست هى من عناصر التنزيل ، ولو جرد المصحف منها ما نقص كلام الله شيئًا . وقد كان كتاب الله قبل إدخال هذه العلامات هو هو كتاب الله ، إذن فليست هى تغييرًا أو تبديلاً أو تحريفًا أدخل على كتاب الله فأضاع معالمه ، كما يزعم خصوم القرآن الموتورون .
فالنقط أضيفت إلى رسم المصحف للتمييز بين الحروف المتماثلة كالجيم والحاء والخاء ، والباء والتاء والثاء والنون والسين والشين ، والطاء والظاء والفاء والقاف والعين والغين ، والصاد والضاد .
وقبل إضافة النقط إلى الحروف كان السماع قائماً مقامها ، لأن حفاظ القرآن المتقنين المجوِّدين ليسوا فى حاجة إلى هذه العلامات ، لأنهم يحفظون كتاب ربهم غضًا طريًا كما أنزله الله على خاتم رسله ، أمَّا غير الحفاظ ممن لا يستغنون عن النظر فى المصحف فهذه العلامات النقطية والضبطية والوقفية ترشدهم إلى التلاوة المثلى ، وتقدم لهم خدمات جليلة فى النظر فى المصحف ؛ لأنها كما قلنا من قبل وسائل إيضاح لقراء المصحف الشريف .
فمثلاً نقط الحروف وقاية من الوقوع فى أخطاء لا حصر لها ، ولنأخذ لذلك مثالاً واحدًا هو قوله تعالى : (كمثل جنة بربوة)(9) .
لو تركت " جنة " بغير نقط ولا ضبط لوقع القارئ غير الحافظ فى أخطاء كثيرة ؛ لأنها تصلح أن تنطق على عدة احتمالات ، مثل : حَبَّة حية حِنَّة خبَّة جُنة حِتة خيَّة جيَّة حبة جبَّة .
ولكن لما نقطت حروفها ، وضُبطت كلماتها اتضح المراد منها وتحدد تحديدًا دقيقًا ، طاردًا كل الاحتمالات غير المرادة .
وأول من نقط حروف المصحف جماعة من التابعين كان أشهرهم أبوالأسود الدؤلى ، ونصر بن عاصم الليثى ، ويحيى بن يَعْمُر ، والخليل ابن أحمد ، وكلهم من كبار التابعين (10) .
والخلاصة : أن نقط حروف الكلمات القرآنية ، وضبط كلمات آياته ليس من التنزيل ، وأنه حدث فى عصر كبار التابعين ، وإلحاق ذلك بالمصحف ليس تحريفًا ولا تعديلاً لكلام القرآن .
وهو من البدع الحسنة وقد أجازه العلماء لأن فيه تيسيرًا على قُرَّاء كتاب الله العزيز ، وإعانة لهم على تلاوته تلاوة متقنة محكمة ، وهو من المصالح المرسلة ، التى سكت الشرع عنها فلم يأمر بها ولم ينه عنها .
وتحقيق المصلحة يقوم مقام الأمر بها ، ووقوع المضرة يقوم مقام النهى عنها .
وهذه سمة من سمات مرونة الشريعة الإسلامية العادلة الرحيمة. أما علامات الوقف فلها أدوار إيجابية فى إرشاد قراء القرآن وتوجيههم إلى كيفية التعامل مع الجمل والتراكيب القرآنية حين تُتلى فى صلاة أو فى غير صلاة .
والواقع أن كل هذه المضافات إلى رسم كلمات المصحف فوق أنها والله سبحانه وتعالى أعلم وسائل إيضاح كما تقدم ، اجتلبت من أجل خدمة النص القرآنى ، تؤدى فى الوقت نفسه خدمة جليلة لمعانى المفردات والتراكيب القرآنية . وقد أشرنا من قبل إلى مهمات النقط فوق أو تحت الحروف ، وعلامات الضبط الأربع : الفتحة والضمة والكسرة والسكون ، فوق أو تحت رسم الكلمات .
ونسوق الآن تمثيلاً سريعًا للمهام الجليلة التى تؤديها علامات الوقف ، التى توضع فوق نهايات الكلمات التى يُوْقَفُ عليها أو لا يُوقف :
قوله تعالى(وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هوصلى ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير)(11) .
نرى العلامة (صلى) فوق حرف الواو فى كلمة " هو " وهى ترمز إلى أن الوقف على هذه الكلمة " هو " جائز ووصلها بما بعدها وهو " وإن يمسسك " جائز كذلك إلا أن الوصل ، وهو هنا تلاوة الآية كلها دفعة واحدة بلا توقف ، أولى من الوقف .
والسبب فى جواز الوقف والوصل هنا أن كلاً من الكلامين معناه تام يحسن السكوت عليه ، وكذلك يحسن وصله بما بعده لأنهما كلامان بينهما تناسب وثيق ، ومن حيث البناء التركيبى ، هما شرط " إنْ " ، وفِعْلا الشرط فيهما فعل مضارع ، وهما فعل واحد تكرر فى شرطى الكلامين " يمسسك " والفاعل هو " الله " فيهما . الأول اسم ظاهر ، والثانى ضمير عائد عليه ، أما كون الوصل أولى من الوقف ، فلأن التناسب بين الكلامين أقوى من التباين لفظًا ومعنى ، مع ملاحظة أن جواز الوقف يتيح لقارئ القرآن نفحة من راحة الصمت ، ثم يبدأ رحلة التلاوة بعدها وقوله تعالى (قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل قلى فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرًا)(12) .
علامة الوقف (قلى) موضوعة فوق اللام الثانية من كلمة "قليل" وترمز إلى جواز الوصل والوقف على كلمة " قليل " وأن الوقف عليها أولى من وصلها بما بعدها ، وفى الوقف راحة لنفس القارئ كما تقدم .
وجواز الوقف لتمام المعنى فى الجزء الأول من الآية .
وجواز الوصل ، فلأن الجزء الثانى من الكلام مفرع ومرتب على الجزء الأول (13) .
أما كون الوقف على كلمة " قليل " أولى فى هذه الآية فلأن ما قبلها جملتان خبريتان ، وهما واقعتان مقول القول لقوله تعالى (قل ربى ..).
أما جملة " فلا تمار فيهم " فهى جملة إنشائية (14) فيها نهى عن الجدال فى شأن أهل الكهف كم كان عددهم والكلام الإنشائى مباين للكلام الخبرى . إذن فالكلامان غير متجانسين . هذه واحدة .
أما الثانية فإن " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرًا ولا تستفت فيهم منهم أحدًا " ، غير داخل فى مقول القول الذى أشرنا إليه قبلاً .
وهذان الملحظان أحدثا تباعدًا ما بين الكلامين لذلك كان الوقف أولى ، إلماحًا إلى ذلك التباين بين الكلامين . والوقف هو القطع بين كلامين بالسكوت لحظة بين نهاية الكلام الأول، وبداية الكلام الثانى ، وله شأن عظيم فى تلاوة القرآن الكريم ، من حيث الألفاظ (الأداء الصوتى) ومن حيث تذوق المعانى وخدمتها ، وقوله تعالى (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منهج ذلك من آيات الله)(15) .
علامة الوقف (ج) موضوعة فوق " الهاء " نهاية كلمة " منه " وترمز إلى جواز الوقف على " منه " وعلى جواز وصله بما بعده " ذلك من آيات الله " وهذا الجواز مستوى الطرفين ، لا يترجح فيه الوقف على الوصل، ولا الوصل على الوقف. وهذا راجع إلى المعنى المدلول عليه بجزئى الكلام ، جزء ما بعد " منه " وجزء ما قبله .
وذلك لأن ما قبل " منه " كلام خبرى لا إنشائى وكذلك ما بعدها " ذلك من آيات الله .. " فهما إذن متجانسان .
والوقف مناسب جدًا لطول الكلام قبل كلمة " منه " وفى الوقف راحة للنفس ، والراحة تساعد على إتقان التلاوة .
والوصل مناسب جدًا من حيث المعنى ؛ لأن قوله تعالى : " ذلك من آيات الله " تركيب واقع موقع " الخبر " عما ذكره الله عز وجل من أوضاع أهل الكهف فى طلوع الشمس وغروبها عنهم .
وقوله تعالى (الذين تتوفاهم الملائكة طيبينلا يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة ..)(16) .
علامة الوقف (لا) موضوعة على " النون " نهاية كلمة "طيبين" ترمز إلى أن الوقف على " طيبين " ممنوع .
والسبب فى هذا المنع أن جملة " يقولون " وهى التالية لكلمة "طيبين" حال من " الملائكة " وهم فاعل " تتوفاهم " .
أما " طيبين " فهى حال من الضمير المنصوب على المفعولية للفعل " تتوفاهم " وهو ضمير الجماعة الغائبين " هم " ولو جاز الوقف على " طيبين " لحدث فاصل زمنى بين جملة الحال " يقولون " وبين صاحب الحال " الملائكة " ولم تدع إلى هذا الفعل ضرورة بيانية .
لذلك كان الوقف على " طيبين " ممنوعًا لئلا يؤدى إلى قطع "الحال" وهو وصف ، عن صاحبه " الملائكة " وهو الموصوف . وهذا لا يجوز بلاغة ؛ فمنع الوقف هنا كان سببه الوفاء بحق المعنى ، ومجىء الحال هنا جملة فعلية فعلها مضارع يفيد وقوع الحدث بالحال والاستقبال مراعاة لمقتضى الحال ؛ لأن الملائكة تقول هذا الكلام لمن تتوفاهم من الصالحين فى كل وقت لأن الموت لم ولن يتوقف .
وقوله تعالى (إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولدم له ما فى السماوات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا )(17) .
علامة الوقف (م) موضوعة على حرف الدال من كلمة " ولد " للدلالة على لزوم الوقف على هذه الكلمة " ولد " وامتناع وصلها بما بعدها وهو : " له ما فى السماوات وما فى الأرض " .
وإنما كان الوقف ، هنا لازمًا لأن هذا الوقف سيترتب عليه صحة المعنى وليمتنع إيهام غير صحته أما وصله بما بعده فيترتب عليه إيهام فساد المعنى .
بيان ذلك أن الوصل لو حدث لأوهم أن قوله تعالى : " له ما فى السماوات وما فى الأرض " وصف ل " الولد " المنفى ، أى ليس لله ولد ، له ما فى السماوات والأرض ، وهذا لا يمنع أن يكون لله سبحانه ولد ولكن ليس له ما فى السماوات والأرض ؟! وهذا باطل قطعًا .
أما عندما يقف القارئ على كلمة " ولد " ثم يستأنف التلاوة من " له ما فى السماوات وما فى الأرض " فيمتنع أن يكون هذا الوصف للولد المنفى ، ويتعين أن يكون لله عز وجل ، وهذا ناتج عن قطع التلاوة عند " ولد " أى بالفاصل الزمنى بين تلاوة ما قبل علامة الوقف " لا " وما بعدها حتى آخر الآية .
فأنت ترى أن الوقف هنا يؤدى خدمة جليلة للمعنى المراد من الآية الكريمة . ومثله قوله تعالى (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهمم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون )(18) .
علامة الوقف (م) موضوعة فوق الميم من كلمة " همم " للدلالة على لزوم الوقف عليها ، وامتناع وصلها بما بعدها ، وهو " الذين خسروا أنفسهم " .
وسر ذلك اللزوم ؛ أن الوصل يوهم معنى فاسدًا غير مراد ، لأنه سيترتب عليه أن يكون قوله تعالى : " الذين خسروا أنفسهم " وصفًا ل " أبناءهم " وهذا غير مراد ، بل المراد ما هو أعم من "أبناءهم" وهم الذين خسروا أنفسهم فى كل زمان ومكان . فهو حكم عام فى الذين خسروا أنفسهم ، وليس خاصًا بأبناء الذين آتاهم الله الكتاب .
هذه هى علامات الوقف ، وتلك هى نماذج من المعانى الحكيمة التى تؤديها ، أو جاءت رامزة إليها ، وبقيت حقيقة مهمة ، لابد من الإشارة إليها .
إن خصوم القرآن يعتبرون علامات الوقف تعديلاً أُدْخِل على القرآن ، بعد عصر النزول وعصر الخلفاء الراشدين .
وهذا وهم كبير وقعوا فيه ، لأن هذه العلامات وغيرها ليست هى التى أوجدت المعانى التى أشرنا إلى نماذج منها ، فهذه المعانى التى يدل عليها الوقف سواء كان جائز الطرفين ، أو الوقف أولى من الوصل أو الوصل أولى من الوقف ، أو الوقف اللازم أو الوقف الممنوع . هذه المعانى من حقائق التنزيل وكانت ملحوظة منذ كان القرآن ينزل ، وكان حفاظ القرآن وتالوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبقونها فى تلاوتهم للقرآن ، قبل أن يُدوَّن
القرآن فى " المصحف " هذا هو الحق الذى ينبغى أن يكون معروفًا للجميع ، أما وضع هذه العلامات فى عصر التابعين فجاءت عونًا لغير العارفين بآداب تلاوة القرآن ، دون أن تكون بشكلها جزءا من التنزيل (19) .
تنسيق المصحف :
نعنى ب : تنسيق المصحف " الفواصل بين سوره ب : " بسم الله الرحمن الرحيم " وترقيم آيات كل سورة داخل دوائر فاصلة بين الآيات ، ووضع خطوط رأسية تحت مواضع السجود فى آيات القرآن ، ثم الألقاب التى أطلقت على مقادير محددة من الآيات مثل :
الربع الحزب الجزء . لأن هذه الأعمال إجراءات بشرية خالصة أُلْحِق بعضها بسطور المصحف ، وهو ترقيم الآيات وَوُضِع بعضها تحتها ، كعلامات السجود فى أثناء التلاوة .
أما ماعدا هذين فهى إجراءات اعتبارية عقلية ، تدل عليها عبارات موضوعة خارج إطار أو سُور الآيات .
وليس فى هذا مطعن لطاعن ؛ لأنّاَ نقول كما قلنا فى نظائره من قبل إنها وسائل إيضاح وتوجيه لقرَّاء القرآن الكريم توضع خارج كلمات الوحى لا فى متونها ، وتؤدى خدمة جليلة للنص المقدس مقروءاً أو متْلُوًّا .
ولا يدعى مسلم أنها لها قداسة النص الإلهى ، أو أنها نازلة من السماء بطريق الوحى الأمين .
والمستشرقون الذين يشاركون المبشرين (20) فى تَصيُّد التهم للقرآن ، ينهجون هذا النهج " التنسيقى " فى أعمالهم العلمية والفكرية، وبخاصة فى تحقيق النصوص فيضعون الهوامش والملاحق والفهارس الفنية لكل
ما يقومون بتحقيقه من نصوص التراث . ولهم مهارة فائقة فى هذا المجال ، ولم نر واحدًا منهم ينسب هذه الأعمال الإضافية إلى مؤلف النص نفسه ، كما لم نر أحدًا منهم عدَّ هذه الإضافات تعديلاً أو تحريفًا أو تغييرًا للنص الذى قام هو بتحقيقه وخدمته .
بل إنه يعد هذه الأعمال الإضافية وسائل إيضاح للنص المحقق . وتيسيرات مهمة للقراء .
وهذا هو الشأن فى عمل السلف رضى الله عنهم فى تنسيق المصحف الشريف ، وهو تنسيق لا مساس له ب " قدسية الآيات " لأنها وضعت فى المصحف على الصورة التى رُسِمَتْ بها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تاريخ القرآن (21)
هذا هو تاريخ القرآن ، منذ نزلت أول سورة منه ، إلى آخر آية نزلت منه ، كان كتابًا محفوظا فى الصدور ، متلوًّا بالألسنة ، مسطورًا على الرقاع ، ثم مجموعًا فى مصاحف ، لم يخضع لعوامل محو وقرض، ولا آفات ضياع ، وضعته الأمة فى " أعينها " منذ نَزَلَ فلم يضل عنها أو يغب ، ولم تضل هى عنه أو تغب ، تعرف مصادره وموارده ، على مدى عمره الطويل ، تعرفه كما تعرف أبناءها ، بلا زيغ ولا اشتباه .
هذا هو تاريخ القرآن ، وضعناه وضعًا موجزًا ، لكنه مُلِمٌّ بمعالم الرحلة ، كاشفًا عن أسرارها . وضعناه لنقول لخصوم القرآن والإسلام :
هل فى تاريخ القرآن ما يدعو إلى الارتياب فيه ، أو نزع الثقة عنه ؟
وهل أصاب آياته المحكمة خلل أو اضطراب ؟
وهل رأيتموه غاب لحظة عن الأمة، أو الأمة غابت عنه لحظة؟
وهل رأيتم فيه جهلاً بمصدره ونشأته وتطور مراحل جمعه وتدوينه ؟ أو رأيتم فى آياته تغييرًا أو تبديلاً ؟
تلك هى بضاعتنا عرضناها فى سوق العرض والطلب غير خائفين أن يظهر فيها غش أو رداءة ، أو تصاب ببوار أو كساد من منافس يناصبها العداء .
هذا هو ما عندنا . فما هو الذى عندكم من تاريخ الكتاب المقدس بعهديه (22) .
القديم (التوراة) التى بين أيدى اليهود الآن ، والجديد (الأناجيل) التى بين أيدى النصارى الآن .
ما الذى تعرض له الكتاب المقدس فى تاريخه الأول المقابل لفترة تاريخ القرآن ، التى فرغنا من عرضها ؟
تعالوا معنا نفحص تلك الفترة من تاريخ الكتاب المقدس فى رحلته المبكرة :
مولد التوراة وتطورها :
يضطرب أهل الكتاب عامة ، واليهود خاصة حول تاريخ التوراة (مولدها وتطورها) اضطرابًا واسع المدى ويختلفون حولها اختلافًا يذهبون فيه من النقيض إلى النقيض ، ولهذا عرضوا لتاريخ القرآن بالطعن والتجريح ليكون هو والتوراة سواسية فى فقد الثقة بهما ، أو على الأقل ليُحرجوا المسلمين بأنهم لا يملكون قرآنًا مصونًا من كل ما يمس قدسيته وسلامته من التحريف والتبديل . وقد عرضنا من قبل تاريخ القرآن ، وها نحن نعرض تاريخ التوراة حسبما هو فى كتابات أهل الكتاب أنفسهم ، مقارنًا بما سبق من حقائق تاريخ القرآن الأمين .
الكتاب المقدس بعهديه : القديم والجديد تتعلق به آفتان قاتلتان منذ وجد ، وإلى هذه اللحظة التى نعيش فيها :
آفة تتعلق بتاريخه متى ولد ، وعلى يد من ولد ، وكيف ولد ، ثم ما هو محتوى الكتاب المقدس ؟ وهل هو كلام الله ، أم كلام آخرين ؟ (23) .
والمهم فى الموضوع أن هذا الغموض فى تاريخ الكتاب المقدس لم يثره المسلمون ، بل أعلنه أهل الكتاب أنفسهم يهودًا أو نصارى ممن اتسموا بالشجاعة ، وحرية الرأى ، والاعتراف الخالص بصعوبة المشكلات التى أحاطت بالكتاب المقدس ، مع الإشارة إلى استعصائها على الحلول ، مع بقاء اليهودية والنصرانية كما هما .ومعنى العهد عند أهل الكتاب هو " الميثاق " والعهد القديم عندهم هو ميثاق أخذه الله على اليهود فى عصر موسى عليه السلام ، والعهد الجديد ميثاق أخذه فى عصر عيسى عليه السلام(24) .
والمشكلتان اللتان أحاطتا بالكتاب المقدس يمكن إيجازهما فى الآتى :
- مشكلة أو أزمة تحقيق النصوص المقدسة ، التى تمثل حقيقة العهدين .
- مشكلة أو أزمة المحتوى ، أى المعانى والأغراض التى تضمنتها كتب (أى أسفار) العهدين ، وفصولهما المسماة عندهم ب"الإصحاحات " .
والذى يدخل معنا فى عناصر هذه الدراسة هو المشكلة أو الأزمة الأولى ؛ لأنها هى المتعلقة بتاريخ الكتاب المقدس دون الثانية .
متى ؟ وعلى يد مَنْ ولدت التوراة :
هذا السؤال هو المفتاح المفضى بنا إلى إيجاز ما قيل فى الإجابة .
وهو تساؤل صعب ، ونتائجه خطيرة جدًا ، وقد تردد منذ زمن قديم . وما يزال يتردد ، وبصورة ملحة ، دون أن يظفر بجواب يحسن السكوت عليه .
وممن أثار هذا التساؤل فى العصر الحديث وول ديورانت الأمريكى الجنسية ، المسيحى العقيدة ، وكان مما قال :
" كيف كُتبت هذه الأسفار (يعنى التوراة) ومتى كُتبت ؟ ذلك سؤال برئ لا ضير فيه ، ولكنه سؤال كُتب فيه خمسون ألف مجلد ، ويجب أن نفرغ منه هنا فى فقرة واحدة ، نتركه بعدها من غير جواب ؟! (25) .
فقد ذهب كثير من الباحثين إلى أن خروج موسى من مصر كان فى حوالى 1210 قبل ميلاد السيد المسيح ، وأن تلميذه يوشع بن نون الذى خلفه فى بنى إسرائيل (اليهود) مات عام 1130 قبل الميلاد . ومن هذا التاريخ ظلت التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه السلام مجهولة حتى عام 444 قبل الميلاد ، أى قرابة سبعة قرون (700سنة) فى هذا العام . (444) فقط عرف اليهود أن لهم كتابًا اسمه التوراة ؟
ولكن كيف عرفوه بعد هذه الأزمان الطويلة ؟ وول ديورانت يضع فى الإجابة على هذا السؤال طريقتين إحداهما تنافى الأخرى .
الطريقة الأولى :
أن اليهود هالهم ما حل بشعبهم من كفر ، وعبادة آلهة غير الله ، وانصرافهم عن عبادة إله بنى إسرائيل " يهوه " وأن " الكاهن خلقيا " أبلغ ملك بنى إسرائيل " يوشيا " أنه وجد فى ملفات الهيكل ملفًا ضخمًا قضى فيه موسى عليه السلام فى جميع المشكلات ، فدعا الملك " يوشيا" كبار الكهنة وتلا عليهم سفر " الشريعة " المعثور عليه فى الملفات ، وأمر الشعب بطاعة ما ورد فى هذا السفر ؟
ويعلق وول ديورانت على السفر فيقول: "لا يدرى أحد ما هو هذا السفر؟ وماذا كان مسطورًا فيه ؟ وهل هو أول مولد للتوراة فىحياة اليهود " ؟ .
الطريقة الثانية :
أن بنى إسرائيل بعد عودتهم من السبى البابلى شعروا أنهم فى حاجة ماسة إلى إدارة دينية تهىء لهم الوحدة القومية والنظام العام ، فشرع الكهنة فى وضع قواعد حكم دينى يعتمد على المأثور من أقوال الكهنة القدماء وعلى أوامر الله ؟
فدعا عزرا ، وهو من كبار الكهان ، علماء اليهود للاجتماع وأخذ يقرأ عليهم هو وسبعة من الكهان سفر شريعة موسى ولما فرغوا من قراءته أقسم الكهان والزعماء والشعب على أن يطيعوا هذه الشرائع ، ويتخذوها دستورًا لهم إلى أبد الآبدين (26) .
هذا ما ذكره ديورانت نقلاً عن مصادر اليهود ، وكل منهما لا يصلح مصدرًا حقيقيًا للتوراة التى أنزلها الله على موسى ؛ لأن الرواية الأولى لا تفيد أكثر من نسبة الملف الذى عثر عليه " خلقيا " إلى أقوال موسى وأحكامه فى القضاء بين الخصوم .
ولأن الرواية الثانية تنسب صراحة أن النظام الذى وضعه الكهان ، بعد قراءتهم السفر كان خليطًا من أقوال كهانهم القدماء ، ومن أوامر الله ؟!
__________
(1) العاديات : 1-11 .
(2) سورة " والعاديات " من قصار السور التى قد بدأ بها الوحى فى مكة ، قبل الهجرة ، ويرى بعض الباحثين أن القرآن بدأ بهذه السور ذات الطبيعة الغنائية فى مكة ، لجذب أهل مكة إليه عن طريق السمع أولاً ، ثم لتدبر معانيه ثانيًا.
(3) انظر تفسير سورة " والعاديات " فى أى تفسير شئت من التفاسير المتداولة : الكشاف روح المعانى التفسير الواضح للدكتور حجازى ، أو فى غيرها .
(4) ينظر : البرهان فى علوم القرآن للإمام الزركشى (1/241) وما بعدها .
(5) هو مصحف فرد لا متعدد ، فلم يكن متداولاً بين أيدى المسلمين ، لأن حفظ القرآن فى الصدور كان هو المرجع .
(6) انظر : جمع القرآن فى خلافة عثمان فى " البرهان فى علوم القرآن " و " الاتقان فى علوم القرآن والأول للإمام الزركشى ، والثانى للإمام جلال الدين السيوطى
(7) لأن القرآن لو كان جمع فى مصحف من أول الأمر ، لاتكل الناس على المصحف المكتوب ، وقل اهتمامهم بحفظه .
(8) سيأتى حديث مفصل عما تعرض له الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد من أوضاع وآفات شديدة الخطورة .
(9) البقرة : 265 .
(10) المقنع لأبى عمرو الدانى ص 129 تحقيق محمد الصادق قمحاوى .
(11) الأنعام : 17 .
(12) الكهف : 22 .
(13) التفريع هو تولد كلام من كلام آخر ، وتأتى الفاء دليلاً على هذا التفريع كما فى الآية الكريمة .
(14) الكلام كله قسمان : خبر ، وإنشاء ، فكل كلام أخبرت فيه غيرك بأمر قد حدث قبل زمن التكلم أو بعده مثل : حضر فلان أمس ، أو سيحضر غدًا هو كلام خبرى ، أما إذا طلبت شيئًا لم يكن حاصلاً فى زمن التكلم مثل : أطع والديك فهو كلام إنشائى .
(15) الكهف : 17 .
(16) النحل : 32
(17) النساء : 171 .
(18) الأنعام : 20 .
(19) هى مثل علامات الإعراب كالفتحة والضمة والكسرة والسكون . لم تُوجد هى أحكام الإعراب ، وإنما هى مجرد رموز دالة عليها .
(20) المبشرون هم الذين يريدون فتنة عامة الناس بما يكتبونه عن الإسلام ، وهم أساتذة المستشرقين . أما المستشرقون فيقصدون فتنة المثقفين والطبقات العليا ، ويصورون الإسلام فى غير صورته إلا قليلاً منهم تجدهم منصفين للإسلام .
(21) نقصد بتاريخ القرآن رحلته عبر تاريخه المبكر ، إلى أن تم جمعه فى المصاحف ، وما لحق بهذا الجمع من رموز واصطلاحات لتيسير تلاوته مجودًا ، ولسهولة الإحاطة بما فيه من الألفاظ والمعانى .
(22) اليهود يؤمنون بالعهد القديم وحده ، ويكفرون بالعهد الجديد (الأناجيل) أما النصارى فيعتبرون العهد القديم شطرًا من الكتاب المقدس ، ويؤمنون بالعهدين معًا .
(23) نقصد بتاريخ القرآن رحلته عبر تاريخه المبكر ، إلى أن تم جمعه فى المصاحف ، وما لحق بهذا الجمع من رموز واصطلاحات لتيسير تلاوته مجودًا ، ولسهولة الإحاطة بما فيه من الألفاظ والمعانى .
(24) نقصد بتاريخ القرآن رحلته عبر تاريخه المبكر ، إلى أن تم جمعه فى المصاحف ، وما لحق بهذا الجمع من رموز واصطلاحات لتيسير تلاوته مجودًا ، ولسهولة الإحاطة بما فيه من الألفاظ والمعانى .
(25) قصة الحضارة (ج2 ص : 367) ترجمة محمد بدران .
(26) قصة الحضارة (ج2 ص356) .
2- تعدد مصاحف القرآن
يقولون: لم تعددت المصاحف ؛ أليس فى ذلك دليل على الإختلاف المؤذن بالتحريف ؟
الرد على الشبهة: وهى وثيقة الصلة بالشبهة السابقة ونقول لهم:
التعدد الذى عندنا:
بدأ جمع القرآن فى " المصحف " فى عهد أبى بكر رضى الله عنه وكان هذا جمعًا لما كتب فى حضرة رسول الله كما تقدم.
ثم كان نسخ ما جُمع فى عهد أبى بكر فى مصاحف أربعةأو سبعة فى عهد عثمان رضى الله عنه ، فالجمع الأول كان بمعنى ضم الوثائق الخطية فى حياة النبى وترتيب سورها سورة بعد أخرى ، دون إعادة كتابتها من جديد.
وكان الجمع الثانى هو إعادة كتابة الوثائق النبوية فى مصحف نقلاً أمينًا لها دون أن يمسها أدنى تغيير أو تبديل.
ومن " المصحف الإمام " الذى تم نسخه من الوثائق النبوية مطابقًا لها ، ثم نسخ مصاحف أربعة ، أو سبعة وزعت على الأمصار الإسلامية فى ذلك الوقت.
الحجاز البصرة الكوفة الشام. وهذه المصاحف كانت أشبه ما تكون بالصورة الضوئية للوثائق الحديثة عندما يتم تصويرها فيتوغرافيًا ، شديدة الوضوح. ووجه الشبه هو التطابق التام بين المصحف " الأم " والمصاحف التى نسخت منه ، وأصل هذه المصاحف كلها هو " الوثائق الخطية النبوية ".
هذا لون من ألوان تعدد المصحف عندنا ، وهو أول تعدد ظهر فى تاريخ القرآن. لكنه تعدد أوراق لا تعدد كلام ؛ فالكلام الذى كُتِبَ فى جميع المصاحف كلام واحد ، مثل الكتاب الذى تُطبع منه مئات النسخ أو آلافها ، فإن كل نسخة منه تكرار حرفى للنسخ الأخرى.
أما اللون الثانى من تعدد المصاحف عندنا فهو مصاحف الأفراد التى كتبت بعد جمع القرآن لأول مرة فى عهد أبى بكر ، أو كتبت قبله ، قيل:إن عثمان جمع هذه المصاحف وحرقها. وقيل إنه لم يحرقها بل استبعد غير الصحيح منها. ومنها مصحف ابن مسعود لخلاف غير كبير بينه وبين المصحف الإمام.
ثم تعددت نسخ المصحف بعد ذلك ، باتساع الأقطار الإسلامية ، ومع هذا التعدد فإن النصوص الموحى بها من الله عز وجل واحدة فى جميع المصاحف فى العالم الإسلامى كله.
أما ما استحدث من إضافات فهى إجراءات خارجية لا صلة لها بالنصوص المنزلة. وكل المصاحف كانت تكراراً لمصحف عثمان ، الذى جمع عليه الأمة ، وأعدم أو استبعد ما عداه من مصاحف الأفراد ، لأن العمل الفردى عرضة للخطأ والسهو أو النسيان.
" وإذا كان إعدام هذه المخطوطات الفردية يبدو فيه شىء من القسوة فى الوقت الذى لم يوجد فيه بالفعل أى تحريف على الإطلاق ، فإنه يدل مع ذلك على أن عثمان كان بعيد النظر ، وعميقًا فى إدراك حقيقة الأمور ، ويرجع فضل تمتع المسلمين اليوم بوحدة كتابهم واستقراره إلى هذا العمل المجيد من جانب عثمان.
ومهما أضيف إلى المصحف العثمانى من علامات خارجية ابتكرها أبو الأسود الدؤلى وأتباعه ، ونصر بن عاصم ويحيى بن يعمر ، والحسن البصرى ، والخليل بن أحمد فإن النص (الإلهى) باق كما هو على الدوام ، يتحدى فعل الزمن ، ووجود بعض الحروف الزائدة (لحكمة) أو الكلمات المدغمة التى اقتصرت على كتابة المصحف فى جميع نسخ القرآن إلى اليوم ، المطبوع منها والمخطوط ، يُعد شهادة بليغة على الأمانة التى انتقل بها البناء القرآنى من جيل إلى جيل ، حتى وصل إلينا بهذا الكمال المنقطع النظير (1).
فإن قالوا: إن بعض المصاحف تختلف فى عدد سور القرآن من أربع عشرة ومائة سورة ، إلى اثنتى عشرة ومائة سورة ، إلى ست عشرة ومائة سورة (2).
وكذلك تختلف المصاحف فى عدِّ آيات القرآن كله ، وفى كلماته وعدد حروفه. فكيف تقولون إن تعدد المصاحف عندكم كائن على صورة واحدة. وإن كل مصحف تكرار لما عداه من مصاحف ؟
إن قالوا هذا قلنا لهم ، إن الاختلاف فى هذه الأعداد كلها لا يخرج " المصاحف " عن الوحدة والتطابق التام بينها ؛ لأن النصوص الموحى بها من الله عز وجل إلى خاتم رسله واحدة فى جميع المصاحف ، فمثلاً من قال إن عدد سور القرآن ثلاث عشرة ومائة سورة اعتبر سورة الأنفال وسورة التوبة سورة واحدة ؛ لإنهما لم يفصل بينهما ب " بسم الله الرحمن الرحيم " ، وكذلك الاختلاف فى عدد آيات القرآن الكريم مرجعه جَعْل آيتين آية واحدة ، وهكذا. وسواء عدت الآيتان آية واحدة ، أو عدتا آيتين فنصهما موجود فى المصحف الشريف. والاختلاف فى العدد لا مساس فيه بالمعدود ، وهو النصوص التى نزل بها الوحى الأمين. فالنصوص مسطورة فى المصحف ، أما تعدادها فأمر اعتبارى خارج عنها ، ووصف عارض طارئ عليها. فالإصابة والخطأ فيه لا ينعكس بأى حال على حقيقة النصوص المذكورة
فى المصحف وإن قالوا: إن الشيعة يقولون إن عثمان رضى الله عنه حذف من القرآن شيئًا يتعلق بعلى بن أبى طالب رضى الله عنه ، وبعضهم يذكر سورة باسم " سورة النورين " كانت مما نزل فى القرآن واستبعدها عثمان عند جمع المصحف. وهذا يُعد تعديلاً فى النصوص الموحى بها فكيف تقولون إن القرآن لم يمس ، وإن المصاحف متطابقة تمامًا ؟.
إن قالوا ذلك وهم قد قالوه فعلاً فإننا نقول لهم: إن كان هذا القول قد حدث من بعض الشيعة فالشيعة كان منهم غلاة دخلاء على التشيع ، وقد انقرضوا من الوجود الآن.
ومما يدفع هذه الفرية عن عثمان رضى الله عنه ، أن التشيع فى خلافته كان خافتًا ، بل وفى دور النشأة ، وعلى يد عبد الله بن سبأ ، الذى كان المسلمون يطلقون عليه: ابن السوداء وهو يهودى حاقد على الإسلام. ومولد التشيع كان بعد حادثة التحكيم بين علىّ رضى الله عنه ومعاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه.
ومعنى هذا أن الحاجة إلى غمط حق علىّ رضى الله عنه لم يكن لها وجود فى خلافة عثمان. فما الذى يحمل عثمان إذن على غمط حقه وهب أن ذلك حدث منه فهل كان حُفاظ القرآن من الصحابة سيتركونه يعبث بكتاب الله ، والأهم من هذا أن عليًا نفسه رضى الله عنه أثنى على ما قام به عثمان من جمع القرآن ، وكذلك كل أصحاب رسول الله الذين كانوا أحياء فى خلافة عثمان (3).
ومهما يكن من أمر ، فإن هذا المصحف (العثمانى) هو الوحيد المتداول فى العالم الإسلامى بما فيه من فرق الشيعة ، منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان ، ونذكر هنا رأى الشيعة الإمامية (أهم فرق الشيعة) كما ورد بكتاب أبى جعفر " الأم ":
إن اعتقادنا فى جملة القرآن ، الذى أوحى الله تعالى به إلى نبيه محمد هو كل ما تحويه دفتا المصحف المتداول بين الناس لا أكثر، وعدد السور المتعارف عليه بين المسلمين هو 114 سورة. أما عندنا " أى الشيعة " فسورة الضحى والشرح تكونان سورة واحدة ، وكذلك سورتا الفيل وقريش ، وأيضًا سورتا الأنفال والتوبة.
أما من ينسب إلينا أن القرآن أكثر من ذلك فهو كاذب (4).
فماذا يقول خصوم القرآن بعد هذا البيان ؟
إن الاختلاف بين مصاحف السنة والشيعة هو فى تعداد السور فحسب ، يدمج بعض السور فى بعض عند الشيعة ، مع اعتماد كل النصوص الموحى بها فى مصاحف الفريقين. وهذا لا يضير فى قضية الإيمان ، ولا فى وحدة المصحف فى العالم الإسلامى.
__________
(1) مدخل إلى القرآن الكريم (50-51) د. محمد عبد الله دراز.
(2) انظر: البرهان فى علوم القرآن (1/249) مرجع سبق ذكره.
(3) انظر: مدخل إلى القرآن الكريم (36) مرجع سبق ذكره.
(4) مدخل إلى القرآن الكريم (39) مرجع سبق ذكره
3- تعدد قراءات القرآن


مقدمة: تعدد القراءات ألا يدل على الإختلاف فيه ، وهو نوع من التحريف ؟
القراءات: جمع قراءة ، وقراءات القرآن مصطلح خاص لا يراد به المعنى اللغوى المطلق ، الذى يفهم من اطلاع أى قارئ على أى مكتوب ، بل لها فى علوم القرآن معنى خاص من إضافة كلمة قراءة أو قراءات للقرآن الكريم، فإضافة " قراءة " أو "قراءات " إلى القرآن تخصص معنى القراءة أو القراءات من ذلك المعنى اللغوى العام ، فالمعنى اللغوى العام يطلق ويراد منه قراءة أى مكتوب ، سواء كان صحيفة أو كتابًا ، أو حتى القرآن نفسه إذا قرأه قارئ من المصحف أو تلاه بلسانه من ذاكرته الحافظة لما يقرؤه من القرآن ومنه قول الفقهاء:
القراءة فى الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء تكون جهرًا ، فإن أسرَّ فيهما المصلى فقد ترك سُنة من سنن الصلاة ، ويسجد لهما سجود السهو إن أسر ساهيًا. فقراءة القرآن هنا معنى لغوى عام ، لا ينطبق عليه ما نحن فيه الآن من مصطلح: قراءات القرآن. وقد وضع العلماء تعريفًا للقراءات القرآنية يحدد المراد منها تحديدًا دقيقًا. فقالوا فى تعريفها:
" اختلاف ألفاظ الوحى فى الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما (البرهان فى علوم القرآن (1/318)).
وقد عرفها بعض العلماء فقال:
" القراءات: هى النطق بألفاظ القرآن كما نطقها النبى صلى الله عليه وسلم .." (القراءات القرآنية تاريخ وتعريف).
ومما تجب ملاحظته أن القراءات القرآنية وحى من عند الله عزَّ وجل ، فهى إذن قرآنً ، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنْفُسِكُمْ )(1). هذه قراءة حفص عن عاصم ، أو القراءة العامة التى كُتب المصحف فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه عليها ، والشاهد فى الآية كلمة "أنفُسِكُم" بضم الفاء وكسر السين ، وهى جمع: " نَفْس " بسكون الفاء ، ومعناها: لقد جاءكم رسول ليس غريبًا عليكم تعرفونه كما تعرفون أنفسكم لأنه منكم نسبًا ومولدًا ونشأة ، وبيئة ، ولغة.
وقرأ غير عاصم: " لقد جاءكم رسول من أَنْفَسِكُمْ " بفتح الفاء وكسر السين ، ومعناها: لقد جاءكم رسول من أزكاكم وأطهركم.
و" أنْفَس " هنا أفعل تفضيل من النفاسة. فكلمة " أنفسكم " كما ترى قرئت على وجهين من حيث النطق. وهذا هو معنى القراءة والقراءات القرآنية.
مع ملاحظة مهمة ينبغى أن نستحضرها فى أذهاننا ونحن نتصدى فيما يأتى للرد على الشبهة التى سيوردها خصوم القرآن من مدخل: تعدد قراءات القرآن أن هذه القراءات لا تشمل كل كلمات القرآن ، بل لها كلمات فى الآية دون كلمات الآية الأخرى ، وقد رأينا فى الآية السابقة أن كلمات الآية لم تشملها القراءات ، بل كانت فى كلمة واحدة هى " أنفسكم ".
وهذا هو شأن القراءات فى جميع القرآن ، كما ينبغى أن نستحضر دائمًا أن كثيرًا من الآيات خلت من تعدد القراءات خلوًّا تامًّا.
ومثال آخر ، قوله تعالى:
" مالك يوم الدين " والشاهد فى الآية كلمة " مالك " ، وفيها قراءتان:
" مالك " اسم فاعل من " مَلِكَ " وهى قراءة حفص وآخرين. " مَلِك " صفة لاسم فاعل ، وهى قراءة: نافع وآخرين.
ومعنى الأولى " مالك " القاضى المتصرف فى شئون يوم الدين، وهو يوم القيامة.
أما معنى " مَلِك " فهو أعم من معنى " مالك " أى من بيده الأمر والنهى ومقاليد كل شىء. ما ظهر منها وما خفى.
وكلا المعنيين لائق بالله تعالى ، وهما مدح لله عز وجل.
ولما كانت هذه الكلمة تحتمل القراءتين كتبت فى الرسم هكذا "ملك " بحذف الألف بعد حرف الميم ، مع وضع شرطة صغيرة رأسية بين الميم واللام ، ليصلح رسمها للنطق بالقراءتين.
ومثال ثالث هو قوله تعالى:
(يوم يُكشف عن ساق )(2).
والشاهد فى الآية كلمة " يُكشَف " وفيها قراءتان الأولى قراءة جمهور القراء ، وهى " يُكشف " بضم الياء وسكون الكاف ، وفتح الشين. بالبناء للمفعول ، والثانية قراءة ابن عباس " تَكْشِفُ " بفتح التاء وسكون الكاف ، وكسر الشين ، بالبناء للفاعل ، وهو الساعة ، أى يوم تكشف الساعة عن سياق. قرأها بالتاء ، والبناء للمعلوم ، وقرأها الجمهور بالياء والبناء للمجهول.
والعبارة كناية عن الشدة ، كما قال الشاعر:
كشفت لهم ساقها * * * وبدا من الشر البراح (3).
هذه نماذج سقناها من القراءات القرآنية تمهيدًا لذكر الحقائق الآتية:
- إن القراءات القرآنية وحى من عند الله عز وجل.
- إنها لا تدخل كل كلمات القرآن ، بل لها كلمات محصورة وردت فيها ، وقد أحصاها العلماء وبينوا وجوه القراءات فيها.
- إن الكلمة التى تقرأ على وجهين أو أكثر يكون لكل قراءة معنى مقبول يزيد المعنى ويثريه.
- إن القراءات القرآنية لا تؤدى إلى خلل فى آيات الكتاب العزيز ، وكلام الله الذى أنزله على خاتم رسله عليهم الصلاة والسلام.
ومع هذا فإن خصوم الإسلام يتخذون من تعدد قراءات بعض كلمات القرآن وسيلة للطعن فيه ، ويرون أن هذه القراءات ما هى إلا تحريفات لحقت بالقرآن بعد العصر النبوى.
وكأنهم يريدون أن يقولوا للمسلمين ، إنكم تتهمون الكتاب المقدس بعهديه (التوراة والإنجيل) بالتحريف والتغيير والتبديل ، وكتابكم المقدس (القرآن) حافل بالتحريفات والتغييرات والتبديلات ، التى تسمونها قراءات ؟
وهذا ما قالوه فعلاً ، وأثاروا حوله لغطًا كثيرًا ، وبخاصة جيش المبشرين والمستشرقين ، الذين تحالفوا إلا قليلاً منهم على تشويه حقائق الإسلام ، وفى مقدمتها القرآن الكريم.
ونكتفى بما أثاره واحد منهم قبل الرد على هذه الشبهة التى يطنطنون حولها كثيرًا ، ذلكم الواحد هو المستشرق اليهودى المجرى المسمى: " جولد زيهر " الحقود على الإسلام وكل ما يتصل به من قيم ومبادئ.
إن هذا الرجل لهو أشد خطرًا من القس زويمر زعيم جيش المبشرين الحاقدين على الإسلام فى عهد الاحتلال الإنجليزى للهند ومصر.
أوهام جولد زيهر حول القراءات القرآنية:
المحاولة التى قام بها جولد زيهر هى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله ، نزل به الروح الأمين إلى كونها تخيلات توهمها علماء المسلمين ، وساعدهم على تجسيد هذا التوهم طبيعة الخط العربى ؛ لأنه كان فى الفترة التى ظهرت فيها القراءات غير منقوط ولا مشكول ، وهذا ساعد على نطق الياء ثاء فى مثل " تقولون " أو " تفعلون " ! فمنهم من قرأ بالتاء " تقولون " ومنهم من قرأ بالياء " يقولون ".
هذا من حيث النقط وجودًا وعدمًا ، أما من حيث الشكل أى ضبط الحروف بالفتح أو الضم مثلاً ، وأرجع إلى هذا السبب قوله تعالى: (وهو الذى أرسل الرياح بُشرًا..)(4).
فقد قرأ عاصم: " بُشرا " بضم الباء وقرأها الكسائى وحمزة: " نَشْرا " بالنون المفتوحة بدلاً من الباء المضمومة عند عاصم.
وقرأ الباقون: " نُشُرا " بالنون المضمومة والشين المضمومة ، بينما كانت الشين فى القراءات الأخرى ساكنة (5).
وفى هذا يقول جولد زيهر نقلاً عن الترجمة العربية لكتابه الذى ذكر فيه هذا الكلام (6):
" والقسم الأكبر من هذه القراءات يرجع السبب فى ظهوره إلى خاصية الخط العربى ، فإن من خصائصه أن الرسم الواحد للكلمة قد يقرأ بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها ، كما أن عدم وجود الحركات النحوية ، وفقدان الشكل (أى الحركات) فى الخط العربى يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب. فهذه التكميلات للرسم الكتابى ثم هذه الاختلافات فى الحركات والشكل ، كل ذلك كان السبب الأول لظهور حركة القراءات ، فيما أهمل نقطه أو شكله من القرآن ".
إن المتأمل فى هذا الكلام ، الذى نقلناه عن جولد زيهر ، يدرك أن الرجل يريد أن يقول فى دهاء وخبث. إن هذه القراءات تحريفات معترف بها لدى المسلمين خاصتهم وعامتهم ، وأن النصوص الإلهية المنزلة على رسولهم أصابها بعض الضياع إنه لم يقل صراحة بالتحريف وإنما وضع المبررات لوجود التحريف فى القرآن الحكيم.
ثم أخذ بعد ذلك يورد أمثلة من القراءات وينسبها إلى السببين اللذين تقدم ذكرهما ، وهما:
- تجرد المصحف من النقط فى أول عهده.
- تجرد كلماته من ضبط الحروف.
فإلى السبب الأول نسب قوله تعالى:
(ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون)(7).
والشاهد فى كلمة " تستكبرون " وهى قراءة الجمهور. وقد قارنها جولد زيهر بقراءة شاذة " تستكثرون " بإبدال الباء ثاء ، يريد أن يقول: إن الكلمة كانت فى الأصل " يستكبرون " غير منقوطة الحروف الأول والثالث والخامس فاختُلِف فى قراءتها:
فمنهم من قرأ الخامس " باء " والأول تاء فنطق: تستكبرون ، ومنهم من قرأ الخامس " ثاء " فنطق " تستكثرون.
هذا هو سبب هاتين القراءتين عنده.
وكذلك قوله تعالى(وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه..)(8).
والشاهد فى كلمة " إياه " ضمير نصب منفصل للمفرد الغائب الذكر.
ثم قارنها بقراءة شاذة لحماد الراوية هكذا " اباه " بإبدال الياء من " إياه " باء " اباه " أى وعدها إبراهيم عليه السلام أباه ؟ (9).
أما اختلاف القراءات للسبب الثانى ، وهو تجرد كلمات المصحف عن الضبط بالحركات ، فمن أمثلته عنده قوله تعالى:
(ومَنْ عِنْدَهُ علم الكتاب )(10).
وقارن بين قراءاتها الثلاث: " مَنْ عنْدَهُ " " مِنْ عِنْدِه " "مَنْ عِنْدِهِ " ؟ !
هذا هو منهجه فى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله ، إلى كونها أوهامًا كان سببها نقص الخط العربى الذى كتب به المصحف أولاً عن تحقيق الألفاظ من حيث حروفها ومن حيث كيفية النطق بها. واقتفى أثره كثير من المبشرين والمستشرقين.
الرد على هذه الشبهة:
لقد حظى كتاب الله العزيز بعناية منقطعة النظير ، فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم ، وبعد وفاته. ومن الحقائق الراسخة رسوخ الجبال أن طريق تَلَقِّى القرآن كان هو السماع الصوتى.
- سماع صوتى من جبريل لمحمد عليهما السلام.
- وسماع صوتى من الرسول إلى كتبة الوحى أولاً وإلى المسلمين عامة.
- وسماع صوتى من كتبة الوحى إلى الذين سمعوه منهم من عامة المسلمين.
- وسماع صوتى حتى الآن من حفظة القرآن المتقنين إلى من يتعلمونه منهم من أفراد المسلمين.
هذا هو الأصل منذ بدأ القرآن ينزل إلى هذه اللحظة وإلى يوم الدين ، فى تلقى القرآن من مرسل إلى مستقبل.
وليست كتابة القرآن فى مصاحف هى الأصل ، ولن تكون. القرآن يجب أن يُسمع بوعى قبل أن يقرأ من المصحف ، ولا يزال متعلم القرآن فى أشد الحاجة إلى سماع القرآن من شيوخ حافظين متقنين ، وفى القرآن عبارات أو كلمات مستحيل أن يتوصل أحد إلى نطقها الصحيح عن مجرد القراءة فى المصحف ، ولو ظل يتعلمها وحده أيامًا وأشهرا.
وبهذا تهوى الأفكار التى أرجع إليها جولد زيهر نشأة القراءات إلى الحضيض ، ولا يكون لها أى وزن فى البحث العلمى المقبول ؛ لأن المسلمين من جيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان لم يتعلموا القرآن عن طريق الخط العربى من القراءة فى المصاحف ، وإنما تعلموه سماعًا واعيًا ملفوظًا كما خرج من فم محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم قيض الله لكتابه شيوخًا أجلاء حفظوه وتلوه غضًا طريًا كما كان صاحب الرسالة يحفظه ويتلوه كما سمعه من جبريل أمين الوحى.
أجل.. كان سيكون لأفكار جولد زيهر وجه من الاحتمال لو كان المسلمون يأخذون القراءة قراءة من مصاحف. أما وقد علمنا أن طريق تلقى القرآن هو السماع الموثق ، فإن أفكار جولد زيهر تذهب هباء فى يوم ريح عاصف.
ثانيًا: إن القراءات الصحيحة مسموعة من جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسموعة من محمد صلى الله عليه وسلم لكتبة الوحى ، ومسموعة من محمد ومن كتبة الوحى لعموم المسلمين فى صدر الإسلام الأول ، ثم شيوخ القرآن فى تعاقب الأجيال حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد سمع المسلمون من محمد المعصوم عن الخطأ فى التبليغ " فتبينوا " و " فتثبتوا " فى قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا )(11) بالباء والياء والنون.
وسمعوها منه " فتثبتوا " بالتاء والثاء والباء والتاء وكلا القراءتين قرآن موحى به من عند الله. وليس كما توهم جولد زيهر، إنهما قراءتان ناشئتان عن الاضطراب الحاصل من خلو كلمات المصحف من النقط والشكل فى أول أمره ؟.
والقراءتان ، وإن اختلف لفظاهما ، فإن بين معنييهما علاقة وثيقة ، كعلاقة ضوء الشمس بقرصها: لأن التبين ، وهو المصدر المتصيد من " فتبينوا " هى التفحص والتعقب فى الخبر الذى يذيعه الفاسق بين الناس ، وهذا البَين هو الطريق الموصل للتثبت. فالتثبت هو ثمرة التبين. ومن تبيَّن فقد تثبت. ومن تثبت فقد تبين.
فما أروع هذه القراءات ، ورب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، إن قراءات القرآن لهى وجه شديد الإشراق من وجوه إعجاز القرآن ، وإن كره الحاقدون.
وكما سمع المسلمون من فم محمد ، الذى لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فى الآية السابقة: " فتبينوا " و " فتثبتوا " سمعوا منه كذلك ، " يُفَصِّل " و " نُفصِّلُ " فى قوله تعالى
(ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون )(12).
و " نفصل الآيات "
وفاعل الفصل فى القراءتين واحد هو الله عز وجل:
وقد اختلف التعبير عن الفاعل فى القراءتين ، فهو فى القراءة الأولى " يفَصِّل " ضمير مستتر عائد على الله عز وجل فى قوله:
(ما خلق الله ذلك إلا بالحق)أى يفصل هو الآيات. فالفاعل هنا مفرد لعوده على مفرد " الله ".
وفى القراءة الثانية عُبِّر عن الفاعل بضمير الجمع للمتكلم "نُفَصِّل" أى نفصل نحن.
والله واحد أحد ، ولكن النون فى " نفصل " لها معنى فى اللغة العربية هو التعظيم إذا كان المراد منها فردًا لا جماعة. ووجه التعظيم بلاغةً تنزيل الفرد منزلة " الجماعة " تعظيمًا لشأنه ، وإجلالاً لقدره.
وفى هاتين القراءتين تكثير للمعنى ، وهو وصف ملازم لكل القراءات.
وللبلاغيين إضافة حسنة فى قراءة " نفصل " بعد قوله: " ما خلق الله.. " هى الانتقال من الغيبة فى " ما خلق الله " إلى المتكلم فى " نفصل " للإشعار بعظمة التفصيل وروعته.
وبعد: إن إرجاع القراءات القرآنية لطبيعة الخط العربى الذى كان فى أول أمره خاليًا من النقط والشكل ، كما توهم " جولد زيهر " ومن بعده " آثر جيفرى " فى المقدمة التى كتبها لكتاب المصاحف ، لأبى داود السجستانى ، وتابعهما المستشرق " جان بيرك " ، إن هذه النظرية مجرد وَهْمٍ سانده جهل هؤلاء الأدعياء على الفكر الإسلامى، مبدؤه ومنتهاه الحقد على الإسلام والتطاول على القرآن ، لحاجات فى نفوس " اليعاقيب ".
وقد قدمنا فى إيجاز ما أبطل هذه الأوهام ، وبقى علينا فى الرد على هذه الشبهة أن نذكر فى إيجاز كذلك جهود علمائنا فى تمحيص القراءات ، وكيف وضعوا الضوابط الدقيقة لمعرفة القراءات الصحيحة ، من غيرها مما كان شائعًا وقت جمع القرآن فى عهد عثمان بن عفان " رضى الله عنه ".
تمحيص القراءات:
وضع العلماء الأقدمون ضوابط محكمة للقراءات الصحيحة التى هى وحى من عند الله. وتلك الضوابط هى:
1- صحة السند ، الذى يؤكد سماع القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2- موافقة القراءة لرسم المصحف الشريف ، الذى أجمعت عليه الأمة فى خلافة عثمان رضى الله عنه مع ملاحظة أن الصحابة الذين نسخوا القرآن فى المصحف من الوثائق النبوية فى خلافة عثمان ، نقلوه كما هو مكتوب فى الوثائق النبوية بلا تغيير أو تبديل. ورسم المصحف الذى بين أيدينا الآن سنة نبوية ؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم أقر تلك الوثيقة ، واحتفظ بها فى بيته حتى آخر يوم فى حياته الطيبة.
ولذلك أجمع أئمة المذاهب الفقهية على تحريم كتابة المصحف فى أى زمن من الأزمان ، على غير الرسم المعروف بالرسم العثمانى للمصحف الشريف. ونقل هذا الإجماع عنهم كثير من علماء تاريخ القرآن (13).
3- أن تكون القراءة موافقة لوجه من وجوه تراكيب اللغة العربية ؛ لأن الله أنزل كتابه باللسان العربى المبين.
4- أن يكون معنى القراءة غير خارج عن قيم الإسلام ومقاصده الأصول والفروع.
فإذا تخلف شرط من هذه الشروط فلا تكون القراءة مقبولة ولا يعتد بها.
وعملاً بهذه الضوابط تميزت القراءات الصحيحة من القراءات غير الصحيحة ، أو ما يسمى بالقراءات الشاذة ، أو الباطلة.
ولم يكتف علماؤنا بهذا ، بل وضعوا مصنفات عديدة حصروا فيها القراءات الصحيحة ، ووجهوها كلها من حيث اللغة ، ومن حيث المعنى.
كما جمع العلامة ابن جنى القراءات الشاذة ، حاصرًا لها ، واجتهد أن يقومها تقويمًا أفرغ ما ملك من طاقاته فيه ، وأخرجها فى جزءين كبيرين.
أما ذو النورين عثمان بن عفان رضى الله عنه ، حين أمر بنسخ الوثائق النبوية فى المصاحف ، فقد أراد منه هدفين ، ننقل للقارئ الكريم كلامًا طيبًا للمرحوم الدكتور/ محمد عبد الله دراز فى بيانهما:
" وفى رأينا أن نشر المصحف بعناية عثمان كان يستهدف أمرين:
أولهما: إضفاء صفة الشرعية على القراءات المختلفة ، التى كانت تدخل فى إطار النص المدون يعنى المصحف ولها أصل نبوى مجمع عليه ، وحمايتها فيه منعًا لوقوع أى شجار بين المسلمين بشأنها ، لأن عثمان كان يعتبر التمارى (أى الجدال) فى القرآن نوعًا من الكفر.
ثانيهما: استبعاد ما لا يتطابق تطابقًا مطلقًا مع النص الأصلى (الوثائق النبوية) وقاية للمسلمين من الوقوع فى انشقاق خطير فيما بينهم ، وحماية للنص ذاته من أى تحريف ، نتيجة إدخال بعض العبارات المختلف عليها نوعًا ما ، أو أى شروح يكون الأفراد قد أضافوها إلى مصاحفهم " (14).
هذه هى عناية المسلمين من الرعيل الأول بالقرآن الكريم وتعدد قراءاته ، وحماية كتاب الله من كل دخيل على نصوص الوحى الإلهى.
هذا ، وإذا كان جولد زيهر ، وآثر جيفرى المبشر الإنجليزى ، وجان بيرك قد أجهدوا أنفسهم فى أن يتخذوا من قراءات القرآن منفذًا للانقضاض عليه ، والتشكيك فيه ، فإن غيرهم من المستشرقين شهدوا للقرآن بالحق ، ونختم ردنا على هذه الشبهة بمستشرق نزيه ، أثنى على القرآن وقال إنه النص الالهى الوحيد ، الذى سلم من كل تحريف وتبديل ، لا فى جمعه ، و فى تعدد مصاحفه ، ولا فى تعدد قراءاته. قال المستشرق لوبلوا: [ إن القرآن هو اليوم الكتاب الربانى الوحيد ، الذى ليس فيه أى تغيير يذكر ]. ومن قبله قال مستشرق آخر (د. موير) كلاما طيباً فى الثناء على القرآن ، وهو: [ إن المصحف الذى جمعه عثمان ، قد تواتر انتقاله من يد ليد ، حتى وصل إلينا بدون أى تحريف ، ولقد حفظ بعناية شديدة ، بحيث لم يطرأ عليه أى تغيير يذكر ، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أى تغييرعلى الإطلاق فى النسخ التى لا حصر لها ، المتداولة فى البلاد الإسلامية الواسعة ، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية
المتنازعة وهذا الاستعمال الإجماعى لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم حجة ودليل على صحة النص المُنزل، الموجود معنا والذى يرجع إلى عهد الخليفة عثمان بن عفان رضى الله عنه الذى مات مقتولا(15).
__________
(1) التوبة: 128.
(2) القلم: 42.
(3) معانى القرآن للقراء (3/177).
(4) الفرقان: 48.
(5) انظر: رسم المصحف (29) للدكتور / عبد الفتاح شلبى ، مكتبة وهبة.
(6) المذاهب الإسلامية (ص4) ، ترجمة د. محمد يوسف موسى.
(7) الأعراف: 48.
(8) التوبة: 114.
(9) رسم المصحف (30) ، مرجع سبق ذكره.
(10) الرعد: 43.
(11) الحجرات: 6.
(12) يونس: 5.
(13) ينظر: البرهان فى علوم القرآن ، مرجع سبق ذكره.
(14) " مدخل إلى القرآن الكريم " (ص43) مرجع سبق ذكره.
(15) حياة محمد : تأليف w.MUIR نقلا عن (مدخل إلى القرآن الكريم).


RE: شبهات المشككون - حنيفا على الفطرة - 11-08-2010

4- الكلام الأعجمى
جاء فى سورة الشعراء(نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين) (1). وجاء فى سورة الزمر(قرآنا عربياً غير ذى عوج ) (2). وجاء فى سورة الدخان(فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) (3). وجاء فى سورة النحل: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين) (4).
ونحن نسأل: " كيف يكون القرآن عربيًّا مبينًا ، وبه كلمات أعجمية كثيرة ، من فارسية ، وآشورية ، وسريانية ، وعبرية ، ويونانية ، ومصرية ، وحبشية ، وغيرها ؟ ".
هذا نص الشبهة الواردة فى هذا الصدد ، وتأكيدا لهذه الشبهة ذكروا الكلمات الأعجمية حسب زعمهم التى وردت فى القرآن الكريم وهى:
آدم أباريق إبراهيم أرائك استبرق إنجيل تابوت توراة جهنم حبر حور زكاة زنجبيل سبت سجيل سرادق سكينة سورة صراط طاغوت عدن فرعون فردوس ماعون مشكاة مقاليد ماروت هاروت الله.
الرد على هذه الشبهة:
هذه هى شبهتهم الواهية ، التى بنوا عليها دعوى ضخمة ، ولكنها جوفاء ، وهى نفى أن يكون القرآن عربيًّا مثلهم كمثل الذى يهم أن يعبر أحد المحيطات على قارب من بوص ، لا يلبث أن تتقاذفه الأمواج ، فإذا هو غارق لا محالة.
ولن نطيل الوقوف أمام هذه الشبهة ، لأنها منهارة من أساسها بآفة الوهن الذى بنيت عليه. ونكتفى فى الرد عليها بالآتى:
- إن وجود مفردات غير عربية الأصل فى القرآن أمر أقر به علماء المسلمين قديماً وحديثاً. ومن أنكره منهم مثل الإمام الشافعى كان لإنكاره وجه مقبول سنذكره فيما يأتى إن شاء الله.
- ونحن من اليسير علينا أن نذكر كلمات أخرى وردت فى القرآن غير عربية الأصل ، مثل: مِنْسَأَة بمعنى عصى فى سورة " سبأ " ومثل " اليم " بمعنى النهر فى سورة " القصص " وغيرها.
- إن كل ما فى القرآن من كلمات غير عربية الأصل إنما هى كلمات مفردات ، أسماء أعلام مثل: " إبراهيم ، يعقوب ، إسحاق ، فرعون " ، وهذه أعلام أشخاص ، أو صفات ، مثل:" طاغوت ، حبر" ، إذا سلمنا أن كلمة " طاغوت " أعجمية.
- إن القرآن يخلو تمامًا من تراكيب غير عربية ، فليس فيه جملة واحدة إسمية ، أو فعلية من غير اللغة العربية.
- إن وجود مفردات أجنبية فى أى لغة سواء كانت اللغة العربية أو غير العربية لا يخرج تلك اللغة عن أصالتها ، ومن المعروف أن الأسماء لا تترجم إلى اللغة التى تستعملها حتى الآن. فالمتحدث بالإنجليزية إذا احتاج إلى ذكر اسم من لغة غير لغته ، يذكره برسمه ونطقه فى لغته الأصلية ومن هذا ما نسمعه الآن فى نشرات الأخبار باللغات الأجنبية فى مصر ، فإنها تنطق الأسماء العربية نُطقاً عربيَّا. ولا يقال: إن نشرة الأخبار ليست باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مثلاً ، لمجرد أن بعض المفردات فيها نطقت بلغة أخرى.
والمؤلفات العلمية والأدبية الحديثة ، التى تكتب باللغة العربية ويكثر فيها مؤلفوها من ذكر الأسماء الأجنبية والمصادر التى نقلوا عنها ، ويرسمونها بالأحرف الأجنبية والنطق الأجنبى لا يقال: إنها مكتوبة بغير اللغة العربية ، لمجرد أن بعض الكلمات الأجنبية وردت فيها ، والعكس صحيح.
ومثيرو هذه الشبهة يعرفون ذلك كما يعرفون أنفسهم فكان حرياًّ بهم ألا يتمادوا فى هذه اللغو الساقط إما احتراماً لأنفسهم ، وإما خجلاً من ذكر ما يثير الضحك منهم.
- إنهم مسرفون فى نسبة بعض هذه المفردات التى ذكروها وعزوها إلى غير العربية:
فالزكاة والسكينة ، وآدم والحور ، والسبت والسورة ، ومقاليد ، وعدن والله ، كل هذه مفردات عربية أصيلة لها جذور لغُوية عريقة فى اللغة العربية. وقد ورد فى المعاجم العربية ، وكتب فقه اللغة وغيرها تأصيل هذه الكلمات عربيَّا فمثلاً:
الزكاة من زكا يزكو فهو زاكٍ. وأصل هذه المادة هى الطهر والنماء.
وكذلك السكينة ، بمعنى الثبات والقرار ، ضد الاضطراب لها جذر لغوى عميق فى اللغة العربية. يقال: سكن بمعنى أقام ، ويتفرع عنه: يسكن ، ساكن ، مسكن ، أسكن.
- إن هذه المفردات غير العربية التى وردت فى القرآن الكريم ، وإن لم تكن عربية فى أصل الوضع اللغوى فهى عربية باستعمال العرب لها قبل عصر نزول القرآن وفيه.. وكانت سائغة ومستعملة بكثرة فى اللسان العربى قبيل نزول القرآن وبهذا الاستعمال فارقت أصلها غير العربى ، وعُدَّتْ عربية نطقاً واستعمالاً وخطاًّ.
إذن فورودها فى القرآن مع قلتها وندرتها إذا ما قيست بعدد كلمات القرآن لا يخرج القرآن عن كونه " بلسان عربى مبين "
ومن أكذب الادعاءات أن يقال: إن لفظ الجلالة " الله " عبرى أو سريانى وإن القرآن أخذه عن هاتين اللغتين. إذ ليس لهذا اللفظ الجليل " الله " وجود فى غير العربية:
فالعبرية مثلاً تطلق على " الله " عدة إطلاقات ، مثل ايل ، الوهيم ، وأدوناى ، ويهوا أو يهوفا. فأين هذه الألفاظ من كلمة " الله " فى اللغة العربية وفى اللغةاليونانية التى ترجمت منها الأناجيل إلى اللغة العربية حيث نجد الله فيها " الوى " وقد وردت فى بعض الأناجيل يذكرها عيسى عليه السلام مستغيثاً بربه هكذا " الوى الوى " وترجمتها إلهى إلهى.
إن نفى عروبة القرآن بناء على هذه الشبهة الواهية أشبه ما يكون بمشهد خرافى فى أدب اللامعقول.
5- الكلام العاطل

يدعى المشكِّكُون أنه جاء فى فواتح 29 سورة بالقرآن الكريم حروف عاطلة ، لا يُفهم معناها نذكرها فيما يلى مع ذكر المواضع التى وردت فيها:
الحروف:السورة
الر: يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، الحجر
الم: البقرة ، آل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة
المر: الرعد
المص: الأعراف
حم: غافر، فصلت ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف
حم عسق: الشورى
ص: ص
طس: النمل
طسم: الشعراء ، القصص
طه: طه
ق: ق
كهيعص: مريم
ن: القلم
يس: يس
ونحن نسأل: " إن كانت هذه الحروف لا يعلمها إلا الله (كما يقولون) فما فائدتها لنا ، إن الله لا يوحى إلا بالكلام الواضح فكلام الله بلاغ وبيان وهدى للناس ".
الرد على هذه الشبهة:
أطلقوا على هذه الحروف وصف " الكلام العاطل " والكلام العاطل هو " اللغو " الذى لا معنى له قط.
أما هذه الحروف ، التى أُفتتحت بها بعض سور القرآن ، فقد فهمت منها الأمة ، التى أُنزل عليها القرآن بلغتها العريقة ، أكثر من عشرين معنى(1) ، وما تزال الدراسات القرآنية الحديثة تضيف جديداً إلى تلك المعانى التى رصدها الأقدمون فلو كانت " عاطلة " كما يدعى خصوم الإسلام ، ما فهم منها أحد معنى واحداً.
ولو جارينا جدلاً هؤلاء المتحاملين على كتاب الله العزيز من أن هذه " الحروف " عاطلة من المعانى ، لوجدنا شططاً فى اتهامهم القرآن كله بأنه " كلام عاطل " لأنها لا تتجاوز ثمانى وعشرين آية ، باستبعاد " طه" و" يس " لأنهما اسمان للنبى صلى الله عليه وسلم ، حذف منهما أداة النداء والتقدير: يا " طه " يا " يس " بدليل ذكر الضمير العائد عليه هكذا:
(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) (2) و (إنك لمن المرسلين) (3).
وباستبعاد هاتين السورتين من السور التسع والعشرين تُصبح هذه السور سبعاً وعشرين سورة ، منها سورة الشورى ، التى ذكرت فيها هذه الحروف المقطعة مرتين هكذا:
"حم ، عسق " فيكون عدد الآيات موضوع هذه الملاحظة ثمانى وعشرين آية فى القرآن كله ، وعدد آيات القرآن الكريم 6236 آية. فكيف ينطبق وصف ثمانٍ وعشرين آية على 6208 آية ؟.
والمعانى التى فُهمتْ من هذه " الحروف " نختار منها ما يأتى فى الرد على هؤلاء الخصوم.
الرأىالأول:
يرى بعض العلماء القدامى أن هذه الفواتح ، مثل: الم ، و الر ، والمص ". تشير إلى إعجاز القرآن ، بأنه مؤلف من الحروف التى عرفها العرب ، وصاغوا منها مفرداتهم ، وصاغوا من مفرداتهم تراكيبهم. وأن القرآن لم يغير من أصول اللغة ومادتها شيئاً ، ومع ذلك كان القرآن معجزاً ؛ لا لأنه نزل بلغة تغاير لغتهم ، ولكن لأنه نزل بعلم الله عز وجل ، كما يتفوق صانع على صانع آخر فى حذقه ومهارته فى صنعته مع أن المادة التى استخدمها الصانعان فى " النموذج المصنوع " واحدة وفى هذا قطع للحُجة عنهم.
ويؤيد هذا قوله سبحانه وتعالى
(أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ) (4).
يعنى أن اللغة واحدة ، وإنما كان القرآن معجزاً لأمر واحد هو أنه كلام الله ، نازل وفق علم الله وصنعه ، الذى لا يرقى إليه مخلوق.
الرأى الثانى:
إن هذه الحروف " المُقطعة " التى بدئت بها بعض سور القرآن إنما هى أدوات صوتية مثيرة لانتباه السامعين ، يقصد بها تفريغ القلوب من الشواغل الصارفة لها عن السماع من أول وهلة. فمثلاً " الم " فى مطلع سورة البقرة ، وهى تنطق هكذا.
" ألف لام ميم " تستغرق مسافة من الزمن بقدر ما يتسع لتسعة أصوات ، يتخللها المد مد الصوت عندما تقرع السمع تهيؤه ، وتجذبه لعقبى الكلام قبل أن يسمع السامع قوله تعالى بعد هذه الأصوات التسعة:
(ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) (5).
وإثارة الانتباه بمثل هذه المداخل سمة من سمات البيان العالى ، ولذلك يطلق بعض الدارسين على هذه " الحروف " فى فواتح السور عبارة " قرع عصى " (6) وهى وسيلة كانت تستعمل فى إيقاظ النائم ، وتنبيه الغافل. وهى كناية لطيفة ، وتطبيقها على هذه " الحروف " غير مستنكر. لأن الله عز وجل دعا الناس لسماع كلامه ، وتدبر معانيه ، وفى ذلك يقول سبحانه وتعالى:
(وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) (7).
الرأى الثالث:
ويرى الإمام الزمخشرى أن فى هذه " الحروف " سرًّا دقيقاً من أسرار الإعجاز القرآنى المفحم ، وخلاصة رأيه نعرضها فى الآتى:
" واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه فى الفواتح من هذه الأسماء يقصد الحروف وجدتها نصف حروف المعجم ، أربعة عشر سواء ، وهى: الألف واللام والميم والصاد ، والراء والكاف والهاء ، والياء والعين والطاء والسين والحاء ، والقاف والنون ، فى تسع وعشرين سورة ، على حذو حروف المعجم ".
ثم إذا نظرت فى هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف ، بيان ذلك أن فيها:
من المهموسة نصفها:
" الصاد ، والكاف ، والهاء والسين والخاء ".
ومن المجهورة نصفها:
الألف واللام والميم ، والراء والعين والطاء ، والقاف والياء والنون.
ومن الشديدة نصفها:
" الألف والكاف ، والطاء والقاف ".
ومن الرخوة نصفها:
" اللام والميم ، والراء والصاد ، والهاء والعين ، والسين والحاء والياء والنون ".
ومن المطبقة نصفها:
" الصاد والطاء ".
ومن المنفتحة نصفها:
" الألف واللام ، والميم والراء ، والكاف ، والهاء والعين والسين والحاء ، والقاف والياء والنون ".
ومن المستعلية نصفها:
" القاف والصاد ، والطاء ".
ومن المنخفضة نصفها:
" الألف واللام والميم ، والراء والكاف والهاء ، والياء ، والعين والسين ، والحاء والنون ".
ومن حروف القلقلة نصفها: " القاف والطاء " (8).
يريد أن يقول: إن هذه الحروف المذكورة يلحظ فيها ملحظان إعجازيان:
الأول: من حيث عدد الأبجدية العربية ، وهى ثمانية وعشرون حرفاً. فإن هذه الحروف المذكورة فى فواتح السور تعادل نصف حروف الأبجدية ، يعنى أن المذكور منها أربعة عشر حرفاً والذى لم يذكر مثلها أربعة عشر حرفا:
14+14 = 28 حرفاً هى مجموع الأبجدية العربية.
الثانى: من حيث صفات الحروف وهى:
الهمس فى مقابلة الجهارة.
الشدة فى مقابلة الرخاوة.
الانطباق فى مقابلة الانفتاح.
والاستعلاء فى مقابلة الانخفاض.
والقلقلة فى مقابلة غيرها.
نجد هذه الحروف المذكورة فى الفواتح القرآنية لبعض سور القرآن تعادل نصف أحرف كل صفة من الصفات السبع المذكورة. وهذا الانتصاف مع ما يلاحظ فيه من التناسب الدقيق بين المذكور والمتروك ، لا يوجد إلا فى كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم . وهو ذو مغزى إعجازى مذهل لذوى الألباب ، لذلك نرى الإمام جار الله الزمخشرى يقول مُعقباً على هذا الصنع الحكيم:
" فسبحان الذى دقت فى كل شىء حكمته. وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته. فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التى منها تراكيب كلامهم ، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم ، وإلزام الحُجة إياهم (9).
ثم أخذ الإمام الزمخشرى ، يذكر فى إسهاب الدقائق والأسرار واللطائف ، التى تستشف من هذه " الحروف " التى بدئت بها بعض سور القرآن ، وتابعه فى ذلك السيد الشريف فى حاشيته التى وضعها على الكشاف ، والمطبوعة بأسفل تفسير الزمخشرى. وذكر ما قاله الرجلان هنا يخرج بنا عن سبيل القصد الذى نتوخاه فى هذه الرسالة. ونوصى القراء الكرام بالاطلاع عليه فى المواضع المشار إليها فى الهوامش المذكورة وبقى أمرٌ مهمٌّ فى الرد على هذه الشبهة التى أثارها خصوم الإسلام ، وهى شبهة وصف القرآن بالكلام العاطل. نذكره فى إيجاز فى الأتى:
لو كانت هذه " الحروف " من الكلام العاطل لما تركها العرب المعارضون للدعوة فى عصر نزول القرآن ، وهم المشهود لهم بالفصاحة والبلاغة ، والمهارة فى البيان إنشاءً ونقداً ؛ فعلى قدرما طعنوا فى القرآن لم يثبت عنهم أنهم عابوا هذه " الفواتح " وهم أهل الذكر " الاختصاص " فى هذا المجال. وأين يكون " الخواجات " الذين يتصدون الآن لنقد القرآن من أولئك الذين كانوا أعلم الناس بمزايا الكلام وعيوبه ؟!
وقد ذكر القرآن نفسه مطاعنهم فى القرآن ، ولم يذكر بينها أنهم أخذوا على القرآن أىَّ مأخذ ، لا فى مفرداته ولا فى جمله ، ولا فى تراكيبه. بل على العكس سلَّموا له بالتفوق فى هذا الجانب ، وبعض العرب غير المسلمين امتدحوا هذا النظم القرآنى ورفعوه فوق كلام الإنس والجن.
ولشدة تأثيره على النفوس اكتفوا بالتواصى بينهم على عدم سماعه ، والشوشرة عليه.
والطاعنون الجدد فى القرآن لا قدرة لهم على فهم تراكيب اللغة العربية ، ولا على صوغ تراكيبها صوغاً سليماً ، والشرط فيمن يتصدى لنقد شىء أن تكون خبرته وتجربته أقوى من الشىء الذى ينقده. وهذا الشرط منعدم أصلاً عندهم.

6- الكلام المتناقض
" جاء فى سورة النساء: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً) (1).
ولكننا نجد فيه التناقض الكثير مثل:
كلام الله لا يتبدل: كلام الله يتبدل
(لا تبديل لكلمات الله ) (2): (وإذا بدلنا آية مكان آية..) (3)
(لا مبدل لكلماته ) (4): (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) (5)
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (6): (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) (7)
هذه طريقتهم فى عرض هذه الشبهة يقابلون بين بعض الآيات على اعتبار تصورهم ، وهو أن كل آية تناقض معنى الآية المقابلة لها ، على غرار ما ترى فى هذا الجدول الذى وضعوه لبيان التناقض فى القرآن حسب زعمهم.
الرد على هذه الشبهة:
الصورة الأولى للتناقض الموهوم بين آية يونس: (لا تبديل لكلمات الله) وآية النحل (وإذا بدلنا آية مكان آية..) لا وجود لها إلا فى أوهامهم ويبدو أنهم يجهلون معنى التناقض تمامًا. فالتناقض من أحكام العقل ، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبداً فى الوجود فى محل واحد ، ولا يرتفعان أبداً عن ذلك المحل ، بل لا بد من وجود أحدهما وانتفاء الآخر ، مثل الموت والحياة. فالإنسان يكون إما حيًّا وإما ميتا ولا يرتفعان عنه فى وقت واحد ، ومحال أن يكون حيًّا و ميتاً فى آن واحد ؛ لأن النقيضين لا يجتمعان فى محل واحد.
ومحال أن يكون إنسان ما لا حى ولا ميت فى آن واحد وليس فى القرآن كله صورة ما من صور التناقض العقلى إلا ما يدعيه الجهلاء أو المعاندون. والعثور على التناقض بين الآيتين المشار إليهما محال محال ؛ لأن قوله تعالى فى سورة يونس (لا تبديل لكلمات الله) معناه لا تبديل لقضاء الله الذى يقضيه فى شئون الكائنات ، ويتسع معنى التبديل هنا ليشمل سنن الله وقوانينه الكونية. ومنها القوانين الكيميائية ، والفيزيائية وما ينتج عنها من تفاعلات بين عناصرالموجودات ،أو تغييرات تطرأ عليها. كتسخين الحديد أو المعادن وتمددها بالحرارة ، وتجمدها وانكماشها بالبرودة. هذه هى كلمات الله عزّ وجلّ.
وقد عبر عنها القرآن فى مواضع أخرى ب.. السنن وهى القوانين التى تخضع لها جميع الكائنات ، الإنسان والحيوان والنبات والجمادات. إن كل شئ فى الوجود ، يجرى ويتفاعل وفق السنن الإلهية أو كلماته الكلية ، التى ليس فى مقدور قوة فى الوجود أن تغيرها أو تعطل مفعولها فى الكون.
ذلك هو المقصود به ب " كلمات الله " ، التى لا نجد لها تبديلاً ، ولا نجد لها تحويلاً.
ومن هذه الكلمات أو القوانين والسنن الإلهية النافذة طوعاً أو كرهاً قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) (8). فهل فى مقدور أحد مهما كان أن يعطل هذه السنة الإلهية فيوقف " سيف المنايا " ويهب كل الأحياء خلوداً فى هذه الحياة الدنيا ؟
فكلمات الله إذن هى عبارة عن قضائه فى الكائنات وقوانينه المطردة فى الموجودات وسننه النافذة فى المخلوقات.
ولا تناقض فى العقل ولا فى النقل ولا فى الواقع المحسوس بين مدلول آية: (لا تبديل لكلمات الله) وآية: (وإذا بدلنا آية مكان آية..).
لأن معنى هذه الآية: إذا رفعنا آية ، أى وقفنا الحكم بها ، ووضعنا آية مكانها ، أى وضعنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضون الأولى. قال جهلة المشركين: إنما أنت مفتِرٍ (9).
فلكل من الآيتين معنى فى محل غير معنى ومحل الأخرى.
فالآية فى سورة يونس (لا تبديل لكلمات الله) والآية فى سورة النحل: (وإذا بدلنا آية مكان آية..) لكل منهما مقام خاص ، ولكن هؤلاء الحقدة جعلوا الكلمات بمعنى الآيات ، أو جعلوا الآيات بمعنى الكلمات زوراً وبهتاناً ، ليوهموا الناس أن فى القرآن تناقضاً. وهيهات هيهات لما يتوهمون.
أما الآيتان (لا مبدل لكلماته) و(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) وقد تقدم ذكرهما فى الجدول السابق.
هاتان الآيتان بريئتان من التناقض براءة قرص الشمس من اللون الأسود:
فآية الكهف (لا مبدل لكلماته) معناها لا مغير لسننه وقوانينه فى الكائنات. وهذا هو ما عليه المحققون من أهل العلم ويؤيده الواقع المحسوس والعلم المدروس.
وحتى لو كان المراد من " كلماته " آياته المنزلة فى الكتاب العزيز " القرآن " فإنه ـ كذلك ـ لا مبدل لها من الخلق فهى باقية محفوظة كما أنزلها الله عز وجل ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (10).
أما آية البقرة: (ما ننسخ من آية ) فالمراد من الآية فيها المعجزة ، التى يجريها الله على أيدى رسله. ونسخها رفعها بعد وقوعها. وليس المراد الآية من القرآن ، وهذا ما عليه المحققون من أهل التأويل. بدليل قوله تعالى فى نفس الآية: (ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير ).
ويكون الله عز وجل قد أخبر عباده عن تأييده رسله بالمعجزات وتتابع تلك المعجزات ؛ لأنها من صنع الله ، والله على كل شىء قدير.
فالآيتان ـ كما ترى ـ لكل منهما مقام خاص بها ، وليس بينهما أدنى تعارض ، فضلاً عن أن يكون بينهما تناقض.
أما الآيتان الأخيرتان الواردتان فى الجدول ، وهما آية الحجر: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وآية الرعد: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فلا تعارض بينهما كذلك ؛ لأن الآية الأولى إخبار من الله بأنه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير ، ومن كل آفات الضياع وقد صدق إخباره تعالى ، فظل القرآن محفوظاً من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين عليه فى الوجود الزمنى ، ومن أشهرها التوراة وملحقاتها. والإنجيل الذى أنزله الله على عيسى عليه السلام.
أما الآية الثانية: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فهى إخبار من الله بأنه هو وحده المتصرف فى شئون العباد دون أن يحد من تصرفه أحد. فإرادته ماضية ، وقضاؤه نافذ ، يحيى ويميت ، يغنى ويفقر ، يُصحُّ ويُمْرِضُ ، يُسْعِد ويُشْقِى ، يعطى ويمنع ، لا راد لقضائه ، ولا معقب على حكمه (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ) (11). فأين التناقض المزعوم بين هاتين الآيتين يا ترى ؟ التناقض كان سيكون لو ألغت آية معنى الأخرى. أما ومعنى الآيتين كل منهما يسير فى طريقٍ متوازٍ غير طريق الأخرى ، فإن القول بوجود تناقض بينهما ضرب من الخبل والهذيان المحموم ، ولكن ماذا نقول حينما يتكلم الحقد والحسد ، ويتوارى العقل وراء دياجير الجهالة الحاقدة ؟ نكتفى بهذا الرد الموجز المفحم ، على ما ورد فى الجدول المتقدم ذكره.
وهناك شبه أخرى يمكن سردها بإيجاز:
1- إنهم توهموا تناقضاً بين قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) (12). وبين قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) (13). وفى عبارة شديدة الإيجاز نرد على هذه الشبهة الفرعية ، التى تصيدوها من اختلاف زمن العروج إلى السماء ، فهو فى آية السجدة ألف سنة وهو فى آية المعارج خمسون ألف سنة ، ومع هذا الفارق العظيم فإن الآيتين خاليتان من التناقض. ولماذا ؟ لأنهما عروجان لا عروج واحد ، وعارجان لا عارج واحد.
فالعارج فى آية السجدة الأمر ، والعروج عروج الأمر ، والعارج فى آية المعارج هم الملائكة والعروج هو عروج الملائكة.
اختلف العارج والعروج فى الآيتين. فاختلف الزمن فيهما قصراً أو طولاً. وشرط التناقض ـ لو كانوا يعلمون ـ هو اتحاد المقام.
2- وقالوا أيضًا: إن بين قوله تعالى: (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) (14). وقوله تعالى: (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) (15) تناقضا. وشاهد التناقض عندهم أن الله قال فى الآية (13)(وقليل من الآخرين (وقال فى الآية (40) (وثلة من الآخرين) إذ كيف قال أولاً: (ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين) ثم قال ثانياً (ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين (ولو كان لديهم نية فى الإنصاف ، ومعرفة الحق ناصعاً ونظروا فى المقامين اللذين ورد فيهما هذا الاختلاف لوصلوا إلى الحق من أقصر طريق. ولكنهم يبحثون عن العيوب ولو كلفهم ذلك إلغاء عقولهم.
هذا الاختلاف سببه اختلاف مقام الكلام ؛ لأن الله عز وجل قسم الناس فى سورة الواقعة ، يوم القيامة ثلاثة أقسام. فقال: (وكنتم أزواجاً ثلاثة):
*السابقون السابقون. *وأصحاب الميمنة. * وأصحاب المشئمة.
ثم بين مصير كل قسم من هذه الأقسام فالسابقون السابقون لهم منزلة: " المقربون فى جنات النعيم "
ثم بيَّن أن الذين يتبوأون هذه المنزلة فريقان:
كثيرون من السابقين الأولين ، وقليلون من الأجيال المتأخرين
وذلك لأن السابقين الأولين بلغوا درجات عالية من الإيمان وعمل الباقيات الصالحات. ولم يشاركهم من الأجيال المتأخرة عن زمنهم إلا قليل.
أما أصحاب اليمين أو الميمنة فبلاؤهم فى الإسلام أدنى من بلاء السابقين الأولين. لذلك كانت درجاتهم فى الجنة أدنى من درجات السابقين الأولين ويشاركهم فى هذه المنزلة كثير من الأجيال اللاحقة بهم ؛ لأن فرصة العمل بما جعلهم أصحاب اليمين ، متاحة فى كل زمان.
ويمكن أن نمثل للسابقين الأولين بأصحاب رسول الله(ولأصحاب اليمين) بالتابعين ، الذين أدركوا الصحابة ولم يدركوا صاحب الرسالة. واذا صح هذا التمثيل ، ولا أظنه إلا صحيحاً ، صح أن نقول:
إن قليلاً منا ، بل وقليل جداً ، من يسير فى حياته سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كثيراً منا من يمكن أن يسير سيرة التابعين رضى الله عنهم.
وعلى هذا فلا تناقض أبداً بين الآيتين:
(ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين).
و(ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين).
3- وقالوا أيضًا: إن فى القرآن آية تنهى عن النفاق ، وآية أخرى تُكره الناس على النفاق أما الآية التى تنهى عن النفاق ـ عندهم ـ فهى قوله تعالى(: وبشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليما) (16).
وأما الآية التى تُكره الناس على النفاق ـ عندهم ـ فهى قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أَنَّى يؤفكون ) (17).
من المحال أن يفهم من له أدنى حظ من عقل أو تمييز أن فى الآية الأولى نهياً ، وأن فى الآية الثانية إكراهاً ويبدو بكل وضوح أن مثيرى هذه الشبهات فى أشد الحاجة إلى من يعلمهم القراءة والكتابة على منهج: وزن وخزن وزرع.
ويبدو بكل وضوح أنهم أعجميو اللسان ، لا يجيدون إلا الرطانة والتهتهة ؛ لأنهم جهلة باللغة العربية ، لغة التنزيل المعجز. ومع هذه المخازى يُنَصَّبُون أنفسهم لنقد القرآن ، الذى أعجز الإنس والجن.
لا نهى فى الآية الأولى ، لأن النهى فى لغة التنزيل له أسلوب لغوى معروف ، هو دخول " لا " الناهية على الفعل المضارع مثل: لا تفعل كذا.
ويقوم مقامه أسلوب آخر هو: إياك أن تفعل ، جامعًا بين التحذير والنهى ، ولا إكراه فى الآية الثانية. وقد جهل هؤلاء الحقدة أن الإكراه من صفات الأفعال لا من صفات الأقوال أما كان الحرى بهم أن يستحيوا من ارتكاب هذه الحماقات الفاضحة.
إن الآية الأولى: (وبشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) تحمل إنذاراً ووعيداً. أما النهى فلا وجود له فيها والآية الثانية تسجل عن طريق " الخبر " انحراف اليهود والنصارى فى العقيدة ، وكفرهم بعقيدة التوحيد ، وهى الأساس الذى قامت عليه رسالات الله عز وجل.
وليس فى هذه الآية نفاق أصلاً ، ولكن فيها رمز إلى أن اليهود والنصارى حين نسبوا " الأبنية " لله لم يكونوا على ثقة بما يقولون ، ومع هذا فإنهم ظلوا فى خداع أنفسهم.
وكيف يكون القرآن قد أكرههم على هذا النفاق " المودرن " وهو فى الوقت نفسه يدعو عليهم بالهلاك بقبح إشراكهم بالله:
(قاتلهم الله).


7- الكلام المفكك
جاء فى سورة الإسراء: (وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) (1). (وقرآنا فرقناه) : نزلناه مفرقاً منجماً " فإنه نزل فى تضاعيف عشرين سنة " (لتقرأه على الناس على مكث): على مهل وتؤدة. فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم (ونزلناه تنزيلا) حسب الحوادث ، بعد هذه المقدمة قالوا:
" كيف يكون القرآن وحياً ، وهو متقطع مفرق يأتى بعضه فى وقت ، ويتأخر بعضه إلى وقت آخر ، لقد كان محمد يرتبك عندما كان العرب أو اليهود أو النصارى يسألونه. وأحياناً كان يحتج بأن جبريل تأخر.
الرد على هذه الشبهة:
إنهم يستبعدون أن يكون القرآن وحياً لأنه لم ينزل مرة واحدة. فنزوله مفرقاً على مدى ثلاث وعشرين سنة ينفى عنه كونه وحياً من عند الله ، هذه واحدة ويثبت أنه كلام مفكك ، وهذه ثانية ونقول لهم على وفق طريقتهم:
ونحن نسأل:
من أين لكم هذا الدليل ؟ أَنَزل عليكم وحى من الله قال لكم فيه: إن كل وحى من عندى يكون نزوله دفعة واحدة. وكل ما خالف هذا لا يكون وحياً ؟ ! هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. هذا عن الأولى.
أما عن الثانية ، فمن يجاريكم من العقلاء على هذا المعيار الذى وضعتموه لمعرفة الكلام المفكك الذى تتهمون كلام رب العالمين به ؟
إن الكلام المفكك عند العقلاء هو الكلام الذى لا يناسب بعضه بعضاً ، لامن حيث المفردات والتراكيب ولا من حيث المعانى والدلالات. وهذا معيار عام لا يخص كلاماً دون كلام ، فمن الناس من يكتب كتاباً فى سنة ، أو خمس ، أو عشر ، ويأتى ما كتبه آية فى الجودة والإتقان. ولو قدر لإنسان أن يكتب كتاباً من مائة صفحة فى ساعة أو ساعتين أو ثلاث لجاء كتابه " تخاليط " يصد عنه الناس.
والقرآن ، الذى نزل مفرقاً فى ثلاث وعشرين سنة ، ليس له مثيل ولاحتى مقارب فى إحكام نسجه ، وتآلف نظمه وصحة معناه وصفاء عباراته ، وسلامة لغته من كل عيب أو قصور.
كتاب قطع عمراً من الدهر يقترب من الألف ونصف الألف من السنين ، ومع هذا فهو كتاب كل عصر سام فوق كل كلام قيل بعده أو قبله أو فى عصر نزوله و معانيه تكشف للناس فى كل عصر سبقاً فى ميادين المعرفة يذهل ويدهش. وكفاه فضلاً سبقه للحضارات الحديثة فى مختلف ميادين المعرفة العلوية والأرضية وما بين السماء والأرض ، وما فى أعماق الأنهار والبحار والمحيطات ، وما فى أعماق الأرض.
وكل هذا وفاء بالوعد الإلهى ، الذى ورد فى القرآن(سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (2).
إن القرآن الذى تفترون عليه هو كتاب الوجود كله ، كم حاول الحاقدون قبلكم ومعكم أن يحدثوا فيه شرخاً فأعياهم ، وبقى هو كلمة الله العليا السابحة فى الآفاق يتحدى تعاقب الدهور والعصور ، وهو المنارة الشامخة يتلألأ ضوؤها ماحياً حيالك الظلام. (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيماً لينذر بأسا شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً * ماكثين فيها أبداً * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) (3).


RE: شبهات المشككون - حنيفا على الفطرة - 11-08-2010

8- الكلام المكرر
هذه الشبهة من الشبهات التى أكثروا اللغو حولها. واتخذوها كذلك منفذاً للطعن فى القرآن الكريم بأنه ليس وحياً من عند الله.
وركزوا كل التركيز على تكرار القصص فى القرآن وذكروا بعض القصص الذى تكرر ، مع الإشارة إلى مواضعه فى سور القرآن ، كما ذكروا تكرار بعض العبارات والجمل.
ولغوا لغواً كثيراً ، حول تكرار قصة آدم فى القرآن ، وقالوا إنها تكررت خمس مرات. ونحن نقول بل تكررت سبع مرات.
كما فعلوا الشىء نفسه مع التكرار الوارد فى سورة " الرحمن " وادعوا أن القرآن إذا حُذف منه المكرر لم يبق منه إلا ما يملأ كراسة واحدة.
لذلك فإننا فى الرد عليهم سنقف وقفة متأنية ، نلقنهم فيها درساً بليغاً حول التكرار الوارد فى القرآن المحفوظ وبخاصة فى سورة الرحمن ، وتكرار قصة آدم (فى مواضع سبعة. لنقيم الحجة لله.
* الرد على هذه الشبهة:
يقع التكرار فى القرآن الكريم على وجوه:
مرة يكون المكرر أداة تؤدى وظيفة فى الجملة بعد أن تستوفى ركنيها الأساسيين.
وأخرى تتكرر كلمة مع أختها لداع ، بحيث تفيد معنى لا يمكن الحصول عليه بدونها.
فاصلة تكرر فى سورة واحدة على نمط واحد.
قصة تتكرر فى مواضع متعددة مع اختلاف فى طرق الصياغة وعرض الفكرة.
بعض الأوامر والنواهى والإرشادات والنصح مما يقرر حكماً شرعيًّا أو يحث على فضيلة أو ينهى عن رذيلة أو يرغب فى خير أو ينفر من شر.
وتكرار القرآن فى جميع المواضع التى ذكرناها ، والتى لم نذكرها مما يلحظ عليها سمة التكرار. فى هذا كله يباين التكرار القرآنى ما يقع فى غيره من الأساليب لأن التكرار وهو فن قولى معروف. قد لا يسلم الأسلوب معه من القلق والاضطراب فيكون هدفاً للنقد والطعن. لأن التكرار رخصة فى الأسلوب إذا صح هذا التعبير والرخص يجب أن تؤتى فى حذر ويقظة.
* وظيفة التكرار فى القرآن:
مع هذه المزالق كلها جاء التكرار فى القرآن الكريم محكماً. وقد ورد فيه كثيراً فليس فيه موضع قد أخذ عليه دَعْ دعاوى المغالين فإن بينهم وبين القرآن تارات ؛ فهم له أعداء وإذا أحسنا الفهم لكتاب الله فإن التكرار فيه مع سلامته من المآخذ والعيوب يؤدى وظيفتين:
أولاهما: من الناحية الدينية.
ثانيهما: من الناحية الأدبية.
فالناحية الدينية باعتبار أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وتشريع لا يخلو منها فن من فنونه ، وأهم ما يؤديه التكرار من الناحية الدينية هو تقرير المكرر وتوكيده وإظهار العناية به ليكون فى السلوك أمثل وللاعتقاد أبين.
أما الناحية الأدبية فإن دور التكرار فيها متعدد وإن كان الهدف منه فى جميع مواضعه يؤدى إلى تأكيد المعانى وإبرازها فى معرض الوضوح والبيان. وليكن حديثنا عنه على حسب المنهج الذى أثبتناه فى صدر هذا البحث.
* تكرار الأداة:
ومن أمثلتها قوله تعالى: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحِيِم) (1).
(ثم إن ربك للذيِن عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) (2).
والظاهر من النظر فى الآيتين تكرار " إنَّ " فيهما. وهذا الظاهر يقتضى الاكتفاء ب " إنَّ " الأولى. ولم يطلب إلا خبرها. وهو فى الموضعين أعنى الخبر " لغفور رحيم " لكن هذا الظاهر خولف وأعيدت " إنَّ " مرة أخرى.ولهذه المخالفة سبب.
وهذا السبب هو طول الفصل بين " إنَّ " الأولى وخبرها. وهذا أمر يُشعِر بتنافيه مع الغرض المسوقة من أجله " إنَّ " وهو التوكيد. لهذا اقتضت البلاغة إعادتها لتلحظ النسبة بين الركنين على ما حقها أن تكون عليه من التوكيد.
على أن هناك وظيفة أخرى هى: لو أن قارئاً تلا هاتين الآيتين دون أن يكرر فيهما " إنَّ " ثم تلاهما بتكرارها مرة أخرى لظهر له الفرق بين الحالتين: قلق وضعف فى الأولى ، وتناسق وقوة فى الثانية.
ومن أجل هذا الطول كررت فى قول الشاعر (3):
وإن امرأً طَالَتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ *** عَلَى مِثْلِ هَذاَ إنَّهُ لَكَرِيمُ
يقول ابن الأثير رائياً هذا الرأى: ".. فإذا وردت " إنَّ " وكان بين اسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام. فإعادة " إنَّ " أحسن فى حكم البلاغة والفصاحة كالذى تقدّم من الآيات " (4).
* تكرار الكلمة مع أختها:
ومن أمثلتها قوله تعالى: (أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم فى الآخرة هم الأخسرون) (5).
فقد تكررت " هم " مرتين ، الأولى مبتدأ خبرها: " الأخسرون ". والثانية ضمير فصل جئ به لتأكيد النسبة بين الطرفين وهى: هُمْ الأولى بالأخسرية.
وكذلك قوله تعالى: (أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال فِى أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (6).
تكررت هنا " أولئك " ثلاث مرات. ولم تجد لهذه الكلمة المكررة مع ما جاورها إلا حسناً وروعة. فالأولى والثانية: تسجلان حكماً عامًّا على منكرى البعث: كفرهم بربهم وكون الأغلال فى أعناقهم.
والثالثة: بيان لمصيرهم المهين. ودخولهم النار. ومصاحبتهم لها على وجه الخلود الذى لا يعقبه خروج منها.
ولو أسقطت(أَولئك (من الموضعين الثانى والثالث لرك المعنى واضطرب. فتصبح الواو الداخلة على: (الأغلال فى أعناقهم (. واو حال. وتصبح الواو الداخلة على:(أَصحاب النار هم فيها خالدون (عاطفة عطفاً يرك معه المعنى.
لذلك حسن موضع التكرار فى الآية لما فيه من صحة المعنى وتقويته. وتأكيد النسبة فى المواضع الثلاثة للتسجيل عليهم بسوء المصير.
***
* تكرار الفاصلة:
سبق أن ذكرنا فى مبحث الفواصل بسوء المصير من تكرار الفاصلة مرتين بدءاً وثلاث مرات نهاية. وقد وجهنا أسلوب التكرار فى تلك الصور. ولكنَّا هنا أمام فاصلة لم تقف فى تكرارها عند حد المرات الثلاث. بل تعدت ذلك بكثير. لذلك آثرنا أن نبحثها هنا إذ هى بهذا الموضع أنسب (7).
ونعتمد فى دراستنا لتكرار الفاصلة على ثلاث سور هى: " الرحمن القمر المرسلات ". وهى السور التى برزت فيها هذه الظاهرة الأسلوبية. بشكل لم يرد فى غيرها ، كما ورد فيها.
فقد تكررت: (فبِأى آلاء ربكما تكذبان ) (8) فى " الرحمن ". وتكررت (فكيف كان عذابى ونذر) (9) فى " القمر ". وتكررت: (ويل يومئذ للمكذبين) (10) فى " المرسلات ".
* تكرار الفاصلة فى " القمر ":
ولهذا التكرار فى المواضع الثلاثة أسباب ومقتضيات. ففى سورة القمر " نجد العبارة المكررة وهى: (فكيف كان عذابى ونذر(قد صاحبت فى كل موضع من مواضع تكرارها قصة عجيبة الشأن ، وكان أول موضع ذُكِرت فيه عقب قصة قوم نوح. وبعد أن صوَّر القرآن مظاهر الصراع بينهم وبين نوح عليه السلام ثم انتصار الله لنوح عليهم. حيث سلَّط عليهم الطوفان. فأغرقهم إلا مَن آمن وعصمه الله.
ونجد أن الله نجَّى نوحاً وتابعيه. ولكن تبقى هذه القصة موضع عظة وادكار، ولتلفت إليها الأنظار وللتهويل من شأنها جاء قوله تعالى عقبها: (فكيف كان عذابى ونذر(مُصدَّراً باسم الاستفهام " كيف " للتعجيب مما كان ، ولقد مهَّد لهذا التعجيب بالآية السابقة عليه. وهى قوله تعالى: (ولقد تركناها آية فهل من مدكِر) (11).
والموضع الثانى لذكرها حين قص علينا القرآن قصة عاد وعتوها عن أمر الله وفى " عاد " هذه نجد العبارة اكتنفت القصة بدءاً ونهاية. قال تعالى: (كذبت عادُ فكيف كان عذابىِ ونذر *ِإنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً فى يومِ نحْسٍ مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابى ونذر ) (12).
وتكرار العبارة هكذا فى البداية والنهاية إخراج لها مخرج الاهتمام. مع ملاحظة أن أحداث القصة هنا صُورت فى عبارات قصيرة ولكنها محكمة وافية.. ولم يسلك هذا المسلك فى قصة نوح أعنى قصر العبارات والسبب فيما يبدو لى أن إهلاك قوم نوح كان بالإغراق فى الماء. وهى وسيلة كثيراً ما تكون سبب هلاك. فقد كانت سبب هلاك فرعون وملئه.. أما أن يكون الإهلاك بالريح فذلك أمر يدعو إلى التأمل والتفكر.
ولعل مما يقوى رأينا هذا. أن هذه القصة قصة عاد وردت فى موضع آخر من القرآن يتفق مع هذا الموضوع من حيث الفكرة ، ويختلف معه قليلاً من حيث طريقة العرض وزيادة التفصيل.
جاء فى سورة الحاقة: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصرٍ عاتية* سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حُسوماً فترى القوم فيها صرعَى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية) (13).
فإرسال الريح هكذا سبع ليال وثمانية أيام حسوماً مدعاة للعظة والاعتبار.
ومثله: (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) (14). (فأما عاد فاستكبروا فى الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً فى أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى فى الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ) (15).
فقد بطرت " عاد " نعم ربها عليها. وغرها ما فيه من أسباب التمكين فى الأرض وقوة البطش أن تبارز ربها ومولى نعمها بالمعاصى ، فأهلكها الله بما لا قبل لها به. وفى كل موضع يذكر القرآن فيه قصة هؤلاء ، تأتى عباراته قوية هادرة واعظة زاجرة..
جاء فى موضع آخر: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يُخلق مثلها فى البلاد ) (16)
وكانت عاقبتها خسراً وهلاكاً مع من طغى فى الأرض بغير الحق: (فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد) (17).
أما الموضع الأخير الذى ذكرت فيه هذه العبارة: (فكيف كان عذابى ونذر (فحين قص الله علينا قصة " ثمود " ، وقد جاءت فيها كذلك مهيئة لتلقى صورة العقاب بعد التشويق إليها عند السامع. ولفت نظره إليها: (فكيف كان عذابى ونذر* إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) (18).
ومن هنا ندرك شدة اقتضاء المقام لهذا التكرار. فليست إحدى العبارات فى موضع بمغنية عن أختها فى الموضع الآخر. إنما هو اتساق عجيب تطلبه المقام من الناحيتين: الدينية والأدبية.
من الناحية الدينية حيث تحمل المومنين على التذكر والاعتبار عقب كل قصة من هذه القصص ، ومن الناحية الأدبية لأن العبارة: (فكيف كان عذابى ونذر(تأتى عقب كل قصة أيضاً لافتة أنظار المشاهدين إلى " كنه " النهاية وختام أحداث القصة.
وقد مهد القرآن لهذا التكرار حيث لم يأت إلا بعد خمس عشرة آية تنتهى كلها بفاصلة واحدة تتحد نهاياتها بحرف " الراء " مع التزام تحريك ما قبلها. وذلك هو نهج فواصل السورة كلها. وقد أشاع هذا النسق الشاجى نوعاً من الإحساس القوى بجو الإنذار. والسورة فوق كل هذا مكية النزول والموضوع.
كما أن الطابع القصصى هو السائد فى هذه السورة. فبعد أن صور القرآن الكريم موقف أهل مكة من الدعوة الجديدة. وبَيَّن ضلال مسلكهم. وقد كان الرسول (حريصاً على هدايتهم فى وقت هم فيه أشد ما يكونون إعراضاً عنه. لهذا اقتضى الموقف العام سوق عِبَر الماضين ليكون فى ذلك تسلية للرسول(ومن اتبعه وزجر لمن عارضه وصد عنه.
وما دام هذا هو طابع السورة فإن أسس التربية خاصة تربية الأمم تستدعى تأكيد الحقائق بكل وسيلة ومنها التكرار الذى لمسناه فى سورتنا هذه ؛ حتى لكأنه أصيل فيها وليس بمكرر.
* تكرار آخر فى سورة " القمر ":
وفى هذه السورة " القمر " مظهر آخر من مظاهر التكرار ، هو قوله تعالى:(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (19). حيث ورد فى السورة أربع مرات ، وهذه دعوة صالحة للتأمل فيما يسوقه الله من قصص.
وقد اشتملت هذه الآية: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (على خبر واستفهام ، والخبر تمهيد للاستفهام الذى فيها ولفت النظر إليه.
***
* التكرار فى سورة " الرحمن ":
أما التكرار الوارد فى " الرحمن " فى قوله تعالى: (فبأى آلاء ربكما تكذبان(حيث تكررت الآية فيها إحدى وثلاثين مرة فله أسبابه كذلك. ويمكن أن نسجل هذه الملاحظات:
أولاً: إن هذا التكرار الوارد فى سورة " الرحمن " هو أكثر صور التكرار الوارد فى القرآن على الإطلاق.
ثانياً: إنه أى التكرار فى هذا الموضع قد مُهِّدَ له تمهيداً رائعاً.حيث جاء بعد اثنتى عشرة آية متحدة الفواصل. وقد تكررت فى هذا التمهيد كلمة " الميزان " ثلاث مرات متتابعة دونما نبو أو ملل:
(والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا فى الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) (20).
وهذا التمهيد قد أشاع كذلك لحناً صوتيًّا عذباً كان بمثابة مقدمة طبيعية لتلائم صور التكرار ولتألفها النفس وتأنس بها فلا تهجم عليها هجوماً ؛ لأن القرآن قد راعى فى فواصل المقدمة التمهيدية ما انبنت عليه فواصل الآية المكررة.
ثالثاً: إن الطابع الغالب على هذه السورة هو طابع تعداد النعم على الثَقَلين: الإنس والجن ، وبعد كل نعمة أو نِعَم يعددها الله تأتى هذه العبارة: (فبأى آلاء ربكما تكذبان(.
وعلى هذا الأساس يمكن بيسر فهم عِلّة التكرار الذى حفلت به سورة الرحمن أنه تذكير وتقرير لنعمه. وأنها من الظهور بمكان فلا يمكن إنكارها أو التكذيب بها.
" فتكرار الفاصلة فى الرحمن.. يفيد تعداد النِّعَم والفصل بين كل نعمة وأخرى لأن الله سبحانه عدَّد فى السورة نعماءه وذكَّرعباده بآلائه. ونبههم على قدرها وقدرته عليها ولطفه فيها. وجعلها فاصلة بين كل نعمة لتعرف موضع ما أسداه إليهم منها. ثم فيها إلى ذلك معنى التبكيت والتقريع والتوبيخ ؛ لأن تعداد النِعَم والآلاء من الرحمن تبكيت لمن أنكرها كما يبكت منكر أيادى المنعَم عليه من الناس بتعديدها" (21). ولقائل أن يسأل: إن هذه
الفاصلة قد تكررت بعدما هو ليس بنعمة من وعيد وتهديد. فكيف يستقيم التوجيه إذن بعد هذه الآيات ؟
(يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأى آلاء ربكما تكذبان) (22).
(يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى والأقدام * فبأى آلاء ربكما تكذبان) (23).
(هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن * فبأى آلاء ربكما تكذبان) (24).
وظاهر هذه الآيات بلاء وانتقام وليس بنعم.
والجواب: ولكن المتأمل يدرك أن فى الإنذار والوعيد وبيان مآل الضالين عصمة للإنسان من الوقوع فيما وقعوا فيه فيكون مصيره مصيرهم.
ومن هذا الاعتبار يتبين أن هذه المواضع مندرجة تحت النعم ، لأن النعمة نوعان: إيصال الخير. ودفع الشر. والسورة اشتملت على كلا النوعين فلذلك كررت الفاصلة.
* التكرار فى سورة " المرسلات ":
بقى التكرار الوارد فى سورة " المرسلات". وقد صنع ما صنع فى نظيريه فى " القمر " و " الرحمن " من التقديم له بتمهيد.. وله مثلهما هدف عام اقتضاه.
بيد أن التمهيد يختلف عما سبق فى " القمر و " الرحمن ". فقد رأينا فيهما اتحاد الفاصلة فى الحروف الأخيرة مع التزام نهج معين فيما قبله. أما هنا فإن الأمر يختلف.



RE: شبهات المشككون - حنيفا على الفطرة - 11-20-2010

9- الكلام المنسوخ
النسخ فى اللغة هو الإزالة والمحو ، يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ ، يعنى أزالته ومحته ، وأحلت الضوء محله.
ثم تطورت هذه الدلالة فأصبح النسخ يطلق على الكتابة ، سواء كانت نقلاً عن مكتوب ، أو ابتدأها الكاتب بلا نقل.
والنُّساخ أو الوراقون هم جماعة من محترفى الكتابة كانوا ينسخون كتب العلماء (ينقلون ما كتب فيها فى أوراق جديدة فى عدة نسخ ، مثل طبع الكتب الآن).
أما النسخ فى الشرع فله عدة تعريفات أو ضوابط ، يمكن التعبيرعنها بالعبارة الآتية:
" النسخ هو وقْفُ العمل بِِحُكْمٍٍ أَفَادَه نص شرعى سابق من القرآن أو من السنة ، وإحلال حكم آخر محله أفاده نص شرعى آخر لاحق من الكتاب أو السنة ، لِحكمة قصدها الشرع ، مع صحة العمل بحكم النص السابق ، قبل ورود النص اللاحق (1) والنسخ موجود بقلة فى القرآن الكريم ، مثل نسخ حبس الزانيات فى البيوت حتى الموت ، وإحلال الحكم بالجلد مائة ، والرجم حتى الموت محل ذلك الحبس (2).
النسخ و وروده فى القرآن ، على أن القرآن ليس وحياً من عند الله. ونذكر هنا عبارة لهم صوَّروا فيها هذه الشبهة:
" القرآن وحده من دون سائر الكتب الدينية ، يتميز بوجود الناسخ والمنسوخ فيه ، مع أن كلام الله الحقيقى لا يجوز فيه الناسخ والمنسوخ ؛ لأن الناسخ والمنسوخ فى كلام الله هو ضد حكمته وصدقه وعلمه ، فالإنسان القصير النظر هو الذى يضع قوانين ويغيرها ويبدلها بحسب ما يبدو له من أحوال وظروف.
لكن الله يعلم بكل شئ قبل حدوثه. فكيف يقال إن الله يغير كلامه ويبدله وينسخه ويزيله ؟
ليس الله إنساناً فيكذب ، ولا ابن إنسان فيندم ؟!
* الرد على هذه الشبهة:
نحن لا ننكر أن فى القرآن نسخاً ، فالنسخ موجود فى القرآن بين ندرة من الآيات ، وبعض العلماء المسلمين يحصرها فيما يقل عن أصابع اليد الواحدة ، وبعضهم ينفى نفياً قاطعاً ورود النسخ فى القرآن (3).
أما جمهور الفقهاء ، وعلماء الأصول فيقرونه بلا حرج ، وقد خصصوا للنسخ فصولاً مسهبة فى مؤلفاتهم فى أصول الفقه ، قل من لم يذكره منهم قدماء ومحدثين. والذى ننكره كذلك أن يكون وجود النسخ فى القرآن عيباً أو قدحاً فى كونه كتاباً منزلاً من عند الله. ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار.
إن الناسخ والمنسوخ فى القرآن ، كان إحدى السمات التربوية والتشريعية ، فى فترة نزول القرآن ، الذى ظل يربى الأمة ، وينتقل بها من طور إلى طور ، وفق إرادة الله الحكيم ، الذى يعلم المفسد من المصلح ، وهو العزيز الحكيم.
أما ما ذكرتموه من آيات القرآن ، ساخرين من مبدأ الناسخ والمنسوخ فيه فتعالوا اسمعوا الآيات التى ذكرتموها فى جداول المنسوخ والناسخ وهى قسمان:
أحدهما فيه نسخ فعلاً (منسوخ وناسخ).
وثانيهما لا ناسخ فيه ولا منسوخ فيه ، ونحن نلتمس لكم العذر فى هذا " الخلط " لأنكم سرتم فى طريق لا تعرفون كيفية السير فيه.
القسم الأول: ما فيه نسخ:
من الآيات التى فيها نسخ ، وذكروها فى جدول الناسخ والمنسوخ الآيتان التاليتان: (واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) (4).
ثم قوله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله 000 ) (5).
هاتان الآيتان فيهما نسخ فعلاً ، والمنسوخ هو حكم الحبس فى البيوت للزانيات حتى يَمُتْنَ ، أو يجعل الله لَهُنَّ حكماً آخر.
وكان ذلك فى أول الإسلام. فهذا الحكم حكم حبس الزانية فى البيت ، حين شرعه الله عز وجل أومأ فى الآية نفسها إلى أنه حكم مؤقت ، له زمان محدد فى علم الله أزلاً. والدليل على أن هذا الحكم كان فى علم الله مؤقتاً ، وأنه سيحل حكم آخر محله فى الزمن الذى قدره الله عز وجل هو قوله: (أو يجعل الله لهن سبيلاً (. هذا هو الحكم المنسوخ الآن وإن كانت الآية التى تضمنته باقية قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
أما الناسخ فهو قوله تعالى فى سورة "النور" فى الآية التى تقدمت ، وبين الله أن حكم الزانية والزانى هو مائة جلدة ، وهذا الحكم ليس عامّا فى جميع الزناة. بل فى الزانية والزانى غير المحصنين. أما المحصنان ، وهما اللذان سبق لهما الزواج فقد بينت السنة قوليًّا وعمليًّا أن حكمهما الرجم حتى الموت.
وليس فى ذلك غرابة ، فتطور الأحكام التشريعية ، ووقف العمل بحكم سابق ، وإحلال حكم آخر لاحق محله مما اقتضاه منهج التربية فى الإسلام.
ولا نزاع فى أن حكم الجلد فى غير المحصنين ، والرجم فى الزناة المحصنين ، أحسم للأمر ، وأقطع لمادة الفساد.
وليس معنى هذا أن الله حين أنزل عقوبة حبس الزانيات لم يكن يعلم أنه سينزل حكماً آخر يحل محله ، وهو الجلد والرجم حاشا لله.
والنسخ بوجه عام مما يناسب حكمة الله وحسن تدبيره ، أمَّا أن يكون فيه مساس بكمال الله. فهذا لا يتصوره إلا مرضى العقول أو المعاندين للحق الأبلج الذى أنزله الله وهذا النسخ كان معمولاً به فى الشرائع السابقة على شريعة الإسلام.
ومن أقطع الأدلة على ذلك ما حكاه الله عن عيسى عليه السلام فى قوله لبنى إسرائيل: (ولأحل لكم بعض الذى حُرِّم عليكم) (6).
وفى أناجيل النصارى طائفة من الأحكام التى ذكروها وفيها نسخ لأحكام كان معمولاً بها فى العهد القديم.
ومثيروهذه الشبهات ضد القرآن يعرفون جيداً وقوع النسخ بين بعض مسائل العهد القديم والعهد الجديد. ومع هذا يدعون بإصرار أن التوراة والأناجيل الآن متطابقان تمام الانطباق (7).
ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
(يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) (8).
وقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) (9).
والآيتان فيهما نسخ واضح. فالآية الأولى توجب مواجهة المؤمنين لعدوهم بنسبة (1: 10) ، والآية الثانية توجب مواجهة المؤمنين للعدو بنسبة (1: 2).
وهذا التطور التشريعى قد بين الله الحكمة التشريعية فيه ، وهى التخفيف على جماعة المؤمنين فى الأعباء القتالية فما الذى يراه عيباً فيه خصوم الإسلام ؟
لو كان هؤلاء الحسدة طلاب حق مخلصين لاهتدوا إليه من أقصر طريق ، لأن الله عزوجل لم يدع مجالاً لريبة يرتابها مرتاب فى هاتين الآيتين. لكنهم يبحثون عن " العورات " فى دين أكمله الله وأتم النعمة فيه ، ثم ارتضاه للناس ديناً.
وقد قال الله فى أمثالهم:
(ولو نزلنا عليك كتاباً فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) (10).
ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج...) (11).
وقوله تعالى:(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً...) (12).
أجل ، هاتان الآيتان فيهما نسخ ؛ لأن موضوعهما واحد ، هو عدة المتوفى عنها زوجها.
الآية الأولى: حددت العدة بعام كامل.
والآية الثانية: حددت العدة بأربعة أشهر وعشر ليال.
والمنسوخ حكماً لا تلاوة هو الآية الأولى ، وإن كان ترتيبها فى السورة بعد الآية الثانية.
والناسخ هو الآية الثانية ، التى حددت عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ليال ، وإن كان ترتيبها فى السورة قبل الآية المنسوخ حكمها.
وحكمة التشريع من هذا النسخ ظاهرة هى التخفيف ، فقد استبعدت الآية الناسخة من مدة العدة المنصوص عليها فى الآية المنسوخ حكمها ثمانية أشهر تقريباً ، والمعروف أن الانتقال من الأشد إلى الأخف ، أدعى لامتثال الأمر ، وطاعة المحكوم به.. وفيه بيان لرحمة الله عز وجل لعباده. وهو هدف تربوى عظيم عند أولى الألباب.
القسم الثانى:
أما القسم الثانى ، فقد ذكروا فيه آيات على أن فيها نسخاً وهى لا نسخ فيها ، وإنما كانوا فيها حاطبى ليل ، لا يفرقون بين الحطب ، وبين الثعابين ، وكفى بذلك حماقة.
وها نحن نعرض نموذجين مما حسبوه نسخاً ، وهو أبعد ما يكون عن النسخ.
النموذج الأول:
(لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) (13).
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (14).
زعموا أن بين هاتين الآيتين تناسخاً ، إحدى الآيتين تمنع الإكراه فى الدين ، والأخرى تأمر بالقتال والإكراه فى الدين وهذا خطأ فاحش ، لأن قوله تعالى (لا إكراه فى الدين) سلوك دائم إلى يوم القيامة.
والآية الثانية لم ولن تنسخ هذا المبدأ الإسلامى العظيم ؛ لأن موضوع هذه الآية " قاتلوا " غير موضوع الآية الأولى: (لا إكراه فى الدين).
لأن قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) له سبب نزول خاص. فقد كان اليهود قد نقضوا العهود التى أبرمها معهم المسلمون. وتآمروا مع أعداء المسلمين للقضاء على الدولة الإسلامية فى المدينة ، وأصبح وجودهم فيها خطراً على أمنها واستقرارها. فأمر الله المسلمين بقتالهم حتى يكفوا عن أذاهم بالخضوع لسلطان الدولة ، ويعطوا الجزية فى غير استعلاء.
أجل: إن هذه الآية لم تأمر بقتال اليهود لإدخالهم فى الإسلام. ولو كان الأمر كذلك ما جعل الله إعطاءهم الجزية سبباً فى الكف عن قتالهم ، ولاستمر الأمر بقتالهم سواء أعطوا الجزية أم لم يعطوها ، حتى يُسلموا أو يُقتلوا وهذا غير مراد ولم يثبت فى تاريخ الإسلام أنه قاتل غير المسلمين لإجبارهم على اعتناق الإسلام.
ومثيرو هذه الشبهات يعلمون جيداً أن الإسلام أقر اليهود بعد الهجرة إلى المدينة على عقائدهم ، وكفل لهم حرية ممارسة شعائرهم ، فلما نقضوا العهود ، وأظهروا خبث نياتهم قاتلهم المسلمون وأجلوهم عن المدينة.
ويعلمون كذلك أن النبى (عقد صلحاً سِلْمِيًّا مع نصارى تغلب ونجران ، وكانوا يعيشون فى شبه الجزيرة العربية ، ثم أقرهم عقائدهم النصرانية وكفل لهم حرياتهم الاجتماعية والدينية.
وفعل ذلك مع بعض نصارى الشام. هذه الوقائع كلها تعلن عن سماحة الإسلام ، ورحابة صدره ، وأنه لم يضق بمخالفيه فى الدين والاعتقاد.
فكيف ساغ لهؤلاء الخصوم أن يفتروا على الإسلام ما هو برئ منه ؟
إنه الحقد والحسد. ولا شىء غيرهما ، إلا أن يكون العناد.
النموذج الثانى:
(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) (15).
(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (16).
والآيتان لا ناسخ ولا منسوخ فيهما. بل إن فى الآية الثانية توكيداً لما فى الآية الأولى ، فقد جاء فى الآية الأولى: " فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما "
ثم أكدت الآية الثانية هذا المعنى: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)فأين النسخ إذن ؟.
أما المنافع فى الخمر والميسر ، فهى: أثمان بيع الخمر ، وعائد التجارة فيها ، وحيازة الأموال فى لعب الميسر " القمار " وهى منافع خبيثة لم يقرها الشرع من أول الأمر ، ولكنه هادنها قليلاً لما كان فيها من قيمة فى حياة الإنسان قبل الإسلام ، ثم أخذ القرآن يخطو نحو تحريمها خطوات حكيمة قبل أن يحرمها تحريماً حاسماً ، حتى لا يضر بمصالح الناس.
وبعد أن تدرج فى تضئيل دورها فى حياة الناس الاقتصادية وسد منافذ رواجها ، ونبه الناس على أن حسم الأمر بتحريمها آتٍ لا محالة وأخذوا يتحولون إلى أنشطة اقتصادية أخرى ، جاءت آية التحريم النهائى فى سورة المائدة هذه: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) هذه هى حقيقة النسخ وحكمته التشريعية ، وقيمته التربوية ومع هذا فإنه نادر فى القرآن.
__________
(1) هذا التعريف راعينا فيه جمع ما تفرق فى غيره من تعريفات الأصوليين مع مراعاة الدقائق والوضوح.
(2) الجلد ورد فى القرآن كما سيأتى. أما الرجم فقد ورد قوليا وعمليا فى السنة ، فخصصت الجلد بغير المحصنين.
(3) منهم الدكتور عبد المتعال الجبرى وله فيه مؤلف خاص نشرته مكتبة وهبة بالقاهرة ، والدكتور محمد البهى ومنهم الشيخ محمد الغزالى.
(4) النساء: 15.
(5) النور: 2.
(6) آل عمران: 50.
(7) انظر كتابنا " الإسلام فى مواجهة الاستشراق العالمى " طبعة دار الوفاء.
(8)الأنفال: 65.
(9)الأنفال: 66.
(10) الأنعام: 7.
(11)البقرة: 240
(12) البقرة:234.
(13) البقرة: 256.
(14) التوبة: 29.
(15) البقرة: 219.
(16) المائدة: 90.
10- الكلام الغريب
فى القرآن كثير من الكلمات الغريبة ، وهاكم بعضاً منها: فاكهةً وأبًّا ، غسلين ، حنانا ، أوَّاه ، الرقيم ، كلالة ، مبلسون ، أخبتوا ، حنين ، حصحص ، يتفيؤا ، سربا ، المسجور ، قمطرير ، عسعس ، سجيل ، الناقور ، فاقرة ، استبرق ، مدهامتان..
ونحن نسأل: أليست هذه الألفاظ الغريبة مخالفة للسليم من الإنشاء.. ؟!
* الرد على هذه الشبهة:
لا وجود فى القرآن لكلمة واحدة من الغريب حقًا ، كما يعرفه اللغويون والنقاد.
فالغريب ـ الذى يعد عيباً فى الكلام ، وإذا وجد فيه سلب عنه وصف الفصاحة والبلاغة ـ هو ما ليس له معنى يفهم منه على جهة الاحتمال أو القطع ، وما ليس له وجود فى المعاجم اللغوية ولا أصل فى جذورها.
والغريب بهذا المعنى ليس له وجود فى القرآن الكريم ، ولا يحتج علينا بوجود الألفاظ التى استعملت فى القرآن من غير اللغة العربية مثل: إستبرق ، وسندس ، واليم ، لأن هذه الألفاظ كانت مأنوسة الاستعمال عند العرب حتى قبل نزول القرآن ، وشائعة شيوعاً ظاهراً فى محادثاتهم اليومية وكتاباتهم الدورية.
وهى مفردات وليست تراكيب. بل أسماء مفردة لأشخاص أو أماكن أو معادن أو آلات.
ثم إنها وإن لم تكن عربية الأصل ، فهى ـ بالإجماع ـ عربية الاستعمال. ومعانيها كانت ـ وما تزال ـ معروفة فى القرآن ، وفى الاستعمال العام.
ومنها الكلمات التى ذكروها مما هو ليس عربييًّا ، مثل:غسلين ، ومعناها: الصديد ، أى صديد أهل النار ، وما يسيل من أجسادهم من أثر الحريق ، ولما كان يسيل من كل أجسامهم شبه بالماء الذى يُغسَل به الأدران. أما بناؤه على: فعلين فظاهر أنه للمبالغة. ومثل: " قمطريرا " ومعناها: طويلاً ، أو شديداً. ومثل: " إستبرق " ومعناها: الديباج. وهكذا كل ما فى القرآن من لغة غير عربية الأصل فهى عربية الاستعمال بألفاظها ومعانيها. وكانت العرب تلوكها بألسنتها قبل نزول القرآن.
واستعارة اللغات من بعضها من سنن الاجتماع البشرى ودليل على حيوية اللغة. وهذه الظاهرة فاشية جداً فى اللغات حتى فى العصر الحديث. ويسميها اللغويون بـ " التقارض " بين اللغات ، سواء كانت لغات سامية أو غيرها كالإنجليزية والألمانية والفرنسية وفى اللغة الأسبانية كلمات مستعملة الآن من اللغة العربية.
أما مااقترضته اللغة العربية من غيرها من اللغات القديمة أو ما له وجود حتى الآن فقد اهتم به العلماء المسلمون ونصوا عليه كلمة كلمة ، وأسموه بـ " المعرَّب " مثل كتاب العلامة الجواليقى ، وقد يسمونه بـ " الدخيل " هذا بالنسبة لما ذكروه من الكلمات غير العربية الأصل ، التى وردت فى القرآن الكريم.
أما بقية الكلمات فهى عربية الأصل والاستعمال ولكن مثيرى هذه الشبهات قوم يجهلون فكلمة " حنان " لها جذر لغوى عربى ، يقال: حنَّ ، بمعنى. رق قلبه ومال إلى العطف على الآخرين. والمضارع: يحن والمصدر: الحنان والحنين ، وقد يستعملان استعمال الأسماء.
ومنه قول الشاعر:
حننت إلى ريَّا ونفسك باعدت * مزارك من رياء ونفساكما معا
وأما " أوَّاه " فهو اسم فاعل من " التأوُّه " على صيغة المبالغة " فعَّال ".
وكذلك " حصحص " ومعناه: ظهر وتبيَّن.
ومنه قول الشاعر العربى القديم:
من مُبْلغٌ عنى خِداشاً فإنه * كذوب إذا ما حصحص الحق كاذب
أما الناقور فهو اسم من " النقر " كالفاروق من الفراق.
وحتى لو جارينا هؤلاء الحاقدين ، وسلمنا لهم جدلاً بأن هذه الكلمات غريبة ؛ لأنها غير عربية ، فإنها كلمات من " المعرَّب " الذى عرَّبه العرب واستعملوه بكثرة فصار عربياً بالاستعمال. ومعانيه معروفة عند العرب قبل نزول القرآن. وما أكثر الكلمات التى دخلت اللغة العربية ، وهجر أصلها وصارت عربية. فهى إذن ـ ليست غريبة ، لإن الغريب ما ليس له معنى أصلاً ، ولا وجود له فى المعاجم اللغوية ، التى دونت فيها ألفاظ اللغة.
* * *
قد يقال: كيف تنكرون " الغريب " فى القرآن ، وهو موجود باعتراف العلماء ، مثل الإمام محمد بن مسلم بن قتيبة العالم السنى ، فقد وضع كتاباً فى " غريب القرآن " وأورده على وفق ما جاء فى سور القرآن سورة سورة ؟
وكذلك صنع السجستانى وتفسيره لغريب القرآن مشهور.
ومثله الراغب الأصفهانى فى كتابه " المفردات " فى شرح غريب القرآن.
ثم الإمام جلال الدين السيوطى ، العالم الموسوعى ، فله كتاب يحمل اسم " مبهمات القرآن ".
ألا يُعد ذلك اعترافاً صريحاً من هؤلاء الأئمة الأفذاذ بورود الغريب فى القرآن الكريم ؟ ومن العلماء المحدثين الشيخ حسنين مخلوف ، مفتى الديار المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين ، وكتابه " كلمات القرآن لا يجهله أحد ".
كما أن جميع مفسرى القرآن قاموا بشرح ما رأوه غريباً فى القرآن. فكيف يسوغ القول ـ الآن ـ بإنكار وجود الغريب فى القرآن أمام هذه الحقائق التى لا تغيب عن أحد ؟
من حق غير الملم بفقه هذه القضية ـ قضية الغريب ـ أن يسألوا هذا السؤال ، ومن واجبنا أن نجيب عليه إجابة شافية وافية بعون الله وتوفيقه.
والجواب:
هذا السؤال جدير بأن نستقصى جوانب الإجابة عليه لوجاهته وأهميته. فنقول مستمدين الهداية والتوفيق من الله العلى الحكيم.
فأولاً: إن الغريب الذى نسب فى كتب العلماء ـ رضى الله عنهم ـ إلى القرآن ، إنما هو غريب نسبى وليس غريباً مطلقاً.
فالقرآن فى عصر الرسالة ، وعصر الخلفاء الراشدين كان مفهوماً لجميع أصحاب رسول. صلى الله عليه وسلم
ولم يرد فى رواية صحيحة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غاب عنهم فهم ألفاظ القرآن من حيث الدلالة اللغوية البحتة ، وكل ما وردت به الرواية أن بعضهم سأل عن واحد من بضعة ألفاظ لا غير. وهى روايات مفتقرة إلى توثيق ، وقرائن الأحوال ترجح عدم وقوعها ، والألفاظ المسئول عنها هى:
غسلين ، قسورة ، أبَّا ، فاطر ، أوَّاه ، حنان. وقد نسبوا الجهل بمعانى هذه الكلمات إما إلى عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ، وإما إلى ابن عباس رضى الله عنهما ، وكلا الرجلين أكبر من هذه الاتهامات.
ومما يضعف إسناد الجهل إلى عمر رضى الله عنه ، بمعنى كلمة " أبًّا " أن عمر كما تقول الرواية سأل عن معناها فى خلافته ، مع أن سورة " عبس " التى وردت فيها هذه الكلمة من أوائل ما نزل بمكة قبل الهجرة ، فهل يُعقَلُ أن يظل عمر جاهلا بمعنى " أبًّا " طوال هذه المدة (قرابة ربع قرن) ؟
أما ابن عباس رضى الله عنه فإن صحت الرواية عنه أنه سأل عن معانى " غسلين " و " فاطر " فإنه يحتمل أنه سأل عنها فى حداثة سنه. ومعروف أن ابن عباس كان معروفاً بـ " ترجمان القرآن " ومعنى هذا أنه كان متمكناً من الفقه بمعانى القرآن ، وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له قائلاً: [اللهم فقهه فى الدين ، وعلمه التأويل].
هذا فيما يتعلق بشأن الروايات الواردة فى هذا الشأن.
أما فيما يتعلق بالمؤلفات قديماً وحديثاً حول ما سمى بـ " غريب القرآن " فنقول:
إن أول مؤلف وضع فى بيان غريب القرآن هو كتاب " غريب القرآن " لابن قتيبة (فى القرن الثالث الهجرى) وهذا يرجح أن ابن قتيبة ، لم يكتب هذا الكتاب للمسلمين العرب ، بل كان القصد منه هو أبناء الشعوب غير العربية التى دخلت فى الإسلام ، وكانوا يتحدثون لغات غير اللغة العربية.
أما مسلموالقرنين الأول والثانى الهجريين ، والنصف الأول من القرن الثالث ، فلم يكن فيها ـ فيما نعلم ـ كتب حول بيان غريب القرآن ، سوى تفسير عبد الله بن عباس ـ رضى الله عنه ـ ، وكتاب " مجازات القرآن " لأبى عبيدة معمر بن المثنى (م 210هـ) وهما أعنى تفسير ابن عباس ، ومجازات أبى عبيدة ، ليسا من كتب الغريب ، بل هما: محاولتان مبكرتان لتفسير القرآن الكريم مفردات وتراكيب (1).
ولما تقادم الزمن على نزول القرآن ، وضعف المحصول اللغوى عند الأجيال اللاحقة ، قام بعض العلماء المتأخرين ـ مثل: الراغب الأصفهانى ، صاحب كتاب " مفردات القرآن " ، وجلال الدين السيوطى ، صاحب كتاب " مبهمات القرآن " ـ بوضع كتب تقرب كتاب الله إلى الفهم ، وتقدم بيان بعض المفردات التى غابت معانيها واستعمالاتها عن الأجيال المتأخرة.
وهذا يسلمنا إلى حقيقة لاحت فى الأفق من قبل ، نعيد ذكرها هنا فى الآتى:
إن ما يطلق عليه " غريب القرآن " فى بعض المؤلفات التراثية ومنها كتب علوم القرآن ، وما تناوله مفسرو القرآن الكريم فى تفاسيرهم ، هو غريب نسبى لا مطلق ، غريب نسبى باعتبار أنه مستعار من لغات أخرى غير اللغة العربية ، أو من لهجات عربية غير لهجة قريش التى بها نزل القرآن وغريب نسبى باعتبار البيئات التى دخلها الإسلام ، وأبناؤها دخلاء على اللغة العربية ، لأن لهم لغاتٍ يتحدثون بها قبل دخولهم فى الإسلام ، وظلت تلك اللغات سائدة فيهم بعد دخولهم فى الإسلام وغريب نسبى باعتبار الأزمان ، حتى فى البيئات العربية ، لأن الأجيال المتأخرة زمناً ضعفت صلتهم باللغة العربية الفصحى مفردات وتراكيب. وكل هذه الطوائف كانت ، وما تزال ، فى أمس الحاجة إلى ما يعينهم على فهم القرآن ، وتذوق معانيه ، والمدخل الرئيس لتذوق معانى القرآن هو فهم معانى مفرداته ، وبعض أساليبه.
والغريب النسبى بكل الاعتبارات المتقدمة غريب فصيح سائغ ، وليس غريباً عديم المعنى ، أو لا وجود له فى معاجم اللغة ومصادرها ، وهذا موضع إجماع بين علماء اللغة والبيان ، فى كل عصر ومصر. ولا وزن لقول من يزعم غير هذا من الكارهين لما أنزل الله على خاتم أنبيائه ورسله.
مسائل ابن الأزرق
بقى أمر مهم ، له كبير صلة بموضوع " الغريب " فى القرآن ذلك الأمر هو ما عرف فى كتب الأقدمين بـ " مسائل ابن الأزرق " ونوجز القول عنها هنا إيجازاً يكشف عن دورها فى الانتصارللحق ، فى مواجهة مثيرى هذه الشبهات ومسائل ابن الأزرق مسطورة فى كثير من كتب التراث مثل ابن الأنبارى فى كتابه " الوقف " والطبرانى فى كتابه " المعجم الكبير " والمبرد فى كتابه " الكامل ". وجلال الدين السيوطى فى كتابه " الإتقان فى علوم القرآن " وغيرهم.
ولهذه المسائل قصة إيجازها: أن عبد الله بن عباس كان جالساً بجوار الكعبة يفسر القرآن الكريم ، فأبصره رجلان هما: نافع بن الأزرق ، ونجدة بن عويمر ، فقال نافع لنجدة " قم بنا إلى هذا الذى يجترئ على القرآن ويفسره بما لا علم له به. فقاما إليه فقالا له:
إنَّا نريد أن نسألك عن أشياء فى كتاب الله ، فتفسرها لنا ، وتأتينا بما يصادقه من كلام العرب. فإن الله أنزل القرآن بلسان عربى مبين.
فقال ابن عباس: سلانى عما بدا لكما. ثم أخذا يسألانه وهو يجيب بلا توقف ، مستشهداً فى إجاباته على كل كلمة ، " قرآنية " سألاه عنها بما يحفظه من الشعر العربى المأثور عن شعراء الجاهلية ، ليبين للسائلين أن القرآن نزل بلسان عربى مبين.
وكان الإمام جلال الدين السيوطى قد جمع هذه المسائل وذكر منها مائة وثمانٍ وثمانين كلمة ، وقد حرص على ذكر إجابات ابن عباس عليها رضى الله عنه ، وقال: إنه أهمل نحو أربع عشرة كلمة من مجموع ما سئل عنه ابن عباس (2).
وها نحن أولاء نورد نماذج منها ، قبل التعليق عليها ، ولماذا أشرنا إليها فى مواجهة هذه الشبهة التى تزعم أن ألفاظ الكتاب العزيز " غريبة " وغير مفهومة.
النموذج الأول: " عزين "
قال نافع بن الأزرق لابن عباس:
أخبرنى عن قوله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال عزين) (3).
قال ابن عباس: عزين: الحلق من الرفاق. فسأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك ؟
فقال ابن عباس: نعم ، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
فجاءوا يُهرعون إليه حتى يكونوا حول منسره عزينا
يعنى جماعات يلتفون حول الرسول(، وهو مشتق من الاعتزاء ، أى ينضم بعضهم إلى بعض ، قال الراغب فى المفردات: العزين: الجماعة المنتسب بعضها إلى بعض (4).
النموذج الثانى: " الوسيلة "
قال نافع: أخبرنى عن قوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) (5). قال ابن عباس: الوسيلة: الحاجة ، قال نافع: وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال ابن عباس: نعم ، أما سمعت قول عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة
أن يأخذوك تكحلى وتخضبى
يعنى: اطلبوا من الله حاجاتكم. واستعمال الوسيلة فى معنى الحاجة كما فسرها ابن عباس فيها إلماح أن طريق قضاء الحوائج يكون إلى الله ؛ لإن معنى الوسيلة: الطريق الموصل إلى الغايات.
النموذج الثالث: " شرعةً ومنهاجاً "
وسأله نافع عن الشرعة والمنهاج فى قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ) (6). فقال ابن عباس: الشرعة: الدين ، والمنهاج: الطريق ، واستشهد بقول أبى سفيان الحارث بن عبد المطلب:
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى
وبين للإسلام ديناً ومنهجاً.
النموذج الرابع: " ريشاً "
وسأله نافع عن كلمة " ريشاً " فى قوله تعالى: (يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يوارى سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير.. ) (7).
ففسره ابن عباس بالمال ، واستشهد بقول الشاعر:
فريشى بخير طالما قد بريتنى
وخير الموالى من يريش ولا يبرى
النموذج الخامس: " كَبد "
وسأله نافع عن كلمة " كَبد " فى قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان فى كبد ) (8).
فقال ابن عباس: فى اعتدال واستقامة. ثم استشهد بقول لَبِيد بن ربيعة:
يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم فى كبد
وهكذا نهج ابن عباس فى المسائل الـ (188) التى وجهت إليه ، يجيب عنها بسرعة مذهلة ، وذاكرة حافظة لأشعار العرب ، وسرعة بديهة فى استحضار الشواهد الموافقة لفظاً ومعنى للكلمات القرآنية ، التى سئل عنها (9).
وهذا يؤكد لنا حقيقتين أمام هذه الشبهات التى أثارها الحاقدون ضد القرآن الكريم.
الأولى: كذب الادعاءات التى نسبت لابن عباس الجهل ببعض معانى كلمات القرآن.
الثانية: أن القرآن كله لا غريب فيه بمعنى الغريب الذى يعاب الكلام من أجله ، وأن نسبة الغريب إليه فى كتابات السلف ، تعنى الغريب النسبى لا الغريب المطلق ، وقد تقدم توضيح المراد من الغريب النسبى فى هذا المبحث ، باعتبار الزمان ، وباعتبار البيئة والمكان ، وأن ما وضعه القدماء من مؤلفات تشرح غريب القرآن إنما كان المقصود به إما أبناء الشعوب التى دخلت الإسلام من غير العرب. وإما للأجيال الإسلامية المتأخرة زمنا ، التى غابت عنها معانى بعض الألفاظ.
وقد يضاف إلى هذا كله الألفاظ المشتركة والمترادفة والمتضادة، والاحتمالية المعنى.
أما أن يكون فى القرآن غريب لا معنى له وغير مأنوس الاستعمال. فهذا محال ، محال.. والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) هذا وقد ظهرت مؤلفات أخرى فى هذا الموضوع مثل " معانى القرآن " للفراء ، وغيره من الأقدمين. وهى ليست من كتب الغريب، بل لها مجالات بحث أخرى كالقراءات.
(2) الإتقان فى علوم القرآن. فصل ما يجب على المفسر لكتاب الله.
(3) المعارج: 37.
(4) ومنه قول العامة " عزوة " أى جماعة انظر حرفى العين والزاى فى كتاب الراغب.
(5) المائدة: 35.
(6) المائدة:48.
(7) الأعراف 26
(8) البلد: 4.
(9) انظر " الإعجاز البيانى للقرآن. د/عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ط: دار المعارف بالقاهرة.
11- الكلام المنقول عن غيره دعوى أن القرآن مقتبس من التوراة
الشبهة التى تمسكوا بها وُرُودُ مواضع بينها تشابه فى كل من التوراة والقرآن الكريم. ومن أبرزها الجانب القصصى. وبعض المواضع التشريعية تمسكوا بها ، وقالوا: إن القرآن مقتبس من التوراة ، وبعضهم يضيف إلى هذا أن القرآن اقتبس مواضع أخرى من " الأناجيل ".
* الرد على هذه الشبهة:
كيف يتحقق الاقتباس عموماً ؟
الاقتباس عملية فكرية لها ثلاثة أركان:
الأول: الشخص المُقتَبَس منه.
الثانى: الشخص المُقتَبِس (اسم فاعل).
الثالث: المادة المُقتَبَسَة نفسها (اسم مفعول).
والشخص المقُتَبَس منه سابق إلى الفكرة ، التى هى موضوع الاقتباس ، أما المادة المقُتَبَسَة فلها طريقتان عند الشخص المُقِتَبس ، إحداهما: أن يأخذ المقتبس الفكرة بلفظها ومعناها كلها أو بعضها. والثانية: أن يأخذها بمعناها كلها أو بعضها كذلك ويعبر عنها بكلام من عنده.
والمقتبس فى عملية الاقتباس أسير المقتبس منه قطعاً ودائر فى فلكه ؛ إذ لا طريق له إلى معرفة ما اقتبس إلا ما ذكره المقتبس منه. فهو أصل ، والمقتبس فرع لا محالة.
وعلى هذا فإن المقتبس لابد له وهو يزاول عملية الاقتباس من موقفين لا ثالث لهما:
أحدهما: أن يأخذ الفكرة كلها بلفظها ومعناها أو بمعناها فقط.
وثانيهما: أن يأخذ جزءً من الفكرة باللفظ والمعنى أو بالمعنى فقط.
ويمتنع على المقتبس أن يزيد فى الفكرة المقتبسة أية زيادة غير موجودة فى الأصل ؛ لأننا قلنا: إن المقتبس لا طريق له لمعرفة ما اقتبس إلا ما ورد عند المقتبس منه ، فكيف يزيد على الفكرة والحال أنه لا صلة له بمصادرها الأولى إلا عن طريق المقتبس منه.
إذا جرى الاقتباس على هذا النهج صدقت دعوى من يقول إن فلاناً اقتبس منى كذا.
أما إذا تشابه ما كتبه اثنان ، أحدهما سابق والثانى لاحق ، واختلف ما كتبه الثانى عما كتبه الأول مثل:
1- أن تكون الفكرة عند الثانى أبسط وأحكم ووجدنا فيها مالم نجده عند الأول.
2- أو أن يصحح الثانى أخطاء وردت عند الأول ، أو يعرض الوقائع عرضاً يختلف عن سابقه.
فى هذه الحال لا تصدق دعوى من يقول إن فلانا قد اقتبس منى كذا.
ورَدُّ هذه الدعوى مقبول من المدعى عليه ، لأن المقتبس (اتهامًا) لما لم يدر فى فلك المقتبس منه (فرضاً) بل زاد عليه وخالفه فيما ذكر من وقائع فإن معنى ذلك أن الثانى تخطى ما كتبه الأول حتى وصل إلى مصدر الوقائع نفسها واستقى منها ما استقى. فهو إذن ليس مقتبساً وإنما مؤسس حقائق تلقاها من مصدرها الأصيل ولم ينقلها عن ناقل أو وسيط.
وسوف نطبق هذه الأسس التى تحكم عملية الاقتباس على ما ادعاه القوم هنا وننظر:
هل القرآن عندما اقتبس كما يدعون من التوراة كان خاضعاً لشرطى عملية الاقتباس وهما: نقل الفكرة كلها ، أو الاقتصار على نقل جزء منها فيكون بذلك دائراً فى فلك التوراة ، وتصدق حينئذ دعوى القوم بأن القرآن (معظمه) مقتبس من التوراة ؟
أم أن القرآن لم يقف عند حدود ما ذكرته التوراة فى مواضع التشابه بينهما ؟ بل:
1 عرض الوقائع عرضاً يختلف عن عرض التوراة لها.
2 أضاف جديداً لم تعرفه التوراة فى المواضع المشتركة بينهما.
3 صحح أخطاء " خطيرة " وردت فى التوراة فى مواضع متعددة.
4 انفرد بذكر " مادة " خاصة به ليس لها مصدر سواه.
5 فى حالة اختلافه مع التوراة حول واقعة يكون الصحيح هو ما ذكره القرآن. والباطل ما جاء فى التوراة بشهادة العقل والعلم إذا كان الاحتمال الأول هو الواقع فالقرآن مقتبس من التوراة..
أما إذا كان الواقع هو الاحتمال الثانى فدعوى الاقتباس باطلة ويكون للقرآن فى هذه الحالة سلطانه الخاص به فى استقاء الحقائق ، وعرضها فلا اقتباس لا من توراة ولا من إنجيل ولا من غيرهما.
لا أظن أن القارئ يختلف معنا فى هذه الأسس التى قدمناها لصحة الاتهام بالاقتباس عموماً.
وما علينا بعد ذلك إلا أن نستعرض بعض صور التشابه بين التوراة والقرآن ، ونطبق عليها تلك الأسس المتقدمة تاركين الحرية التامة للقارئ سواء كان مسلماً أو غير مسلم فى الحكم على ما سوف تسفر عنه المقارنة أنحن على صواب فى نفى الاقتباس عن القرآن ؟.
والمسألة بعد ذلك ليست مسألة اختلاف فى الرأى يصبح فيها كل فريق موصوفاً بالسلامة ، وأنه على الحق أو شعبة من حق.
وإنما المسألة مسألة مصير أبدى من ورائه عقيدة صحيحة توجب النجاة لصاحبها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أو عقيدة فاسدة تحل قومها دار البوار يوم يقدم الله إلى ما عملوا من عمل فيجعله هباءً منثوراً.
الصورة الأولى من التشابه بين التوراة والقرآن. لقطة من قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز
تبدأ هذه اللقطة من بدء مراودة امرأة عزيز مصر ليوسف (عليه السلام) ليفعل بها الفحشاء وتنتهى بقرار وضع يوسف فى السجن. واللقطة كما جاءت فى المصدرين هى:
أولاً: نصوصها فى التوراة: (1)
" وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينها إلى يوسف وقالت: اضطجع معى ، فأبى وقال لامرأة سيده: هو ذا سيدى لا يعرف معى ما فى البيت وكل ما له قد دفعه إلى يدى ، ليس هو فى هذا البيت أعظم منى. ولم يمسك عنى شيئا غيرك لأنك امرأته. فكيف أصنع هذا الشر العظيم ، وأخطئ إلى الله ، وكانت إذ كلمت يوسف يومًا فيوما أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها..
ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك فى البيت فأمسكته بثوبه قائلة اضطجع معى فترك ثوبه فى يدها وخرج إلى خارج ، وكان لما رأت أنه ترك ثوبه فى يدها ، وهرب إلى خارج أنها نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة:
" انظروا قد جاء إلينا برجل عبرانى ليداعبنا دخل إلىّ ليضطجع معى فصرخت بصوت عظيم ، وكان لما سمع أنى رفعت صوتى وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبى وهرب وخرج إلى خارج. فَوَضَعَتْ ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة دخل إلىَّ العبد العبرانى الذى جئت به إلينا ليداعبنى وكان لما رفعت صوتى وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبى وهرب إلى خارج فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذى كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بى عبدك أن غضبه حمى..
فأخذ سيدُه يوسف ووضعه فى بيت السجن المكان الذى كان أسرى الملك محبوسين فيه ".
نصوص القرآن الأمين
(وَرَاوَدَتْهُ التى هوَ فى بيتها عن نفسه وغلّقتِ الأبوابَ وقالتْ هيت لك قال معاذ الله إنهُ ربى أحسنَ مثواى إنهُ لايُفلحُ الظالمون *ولقد هَمَّتْ به وَهَمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرفَ عنهُ السوءَ والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين * واستبقا الباب وقدت قميصه من دُبرٍ وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاءُ من أراد بأهلكَ سوءًا إلا أن يُسجن أو عذابُ أليم * قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهدٌ من أهلها إن كان قميصَه قُد من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قُد من دُبرٍ فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قُد من دُبرٍ قال إنه من كيدكُنَّ إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفرى لذنبكِ إنك كنتِ من الخاطئ... (2) ثم بدا لهم من بعد مارأوا الآيات لَيَسْجنُنَّهُ حتى حين ) (3).
تلك هى نصوص الواقعة فى المصدرين:
وأدعو القارئ أن يقرأ النصين مرات قراءة متأنية فاحصة. وأن يجتهد بنفسه فى التعرف على الفروق فى المصدرين قبل أن يسترسل معنا فيما نستخلصه من تلك الفروق. ثم يكمل ما يراه من نقص لدينا أو لديه فقد يدرك هو ما لم ندركه ، وقد ندرك نحن ما لم يدركه وربَّ قارئ أوعى من كاتب..
الفروق كما نراها
التوراة: القرآن الأمين
المراودة حدثت مرارًا ونُصح يوسف لامرأة سيده كان قبل المرة الأخيرة: المراودة حدثت مرة واحدة اقترنت بعزم المرأة على يوسف لينفذ رغبتها.
تخلو من الإشارة إلى تغليق الأبواب وتقول إن يوسف ترك ثوبه بجانبها وهرب وانتظرت هى قدوم زوجها وقصت عليه القصة بعد أن أعلمت بها أهل بيتها.: يشير إلى تغليق الأبواب وأن يوسف هم بالخروج فَقَدَّتْ ثوبه من الخلف وحين وصلا إلى الباب فوجئا بالعزيز يدخل عليهما فبادرت المرأة بالشكوى فى الحال.
لم يكن يوسف موجوداً حين دخل العزيز ولم يدافع يوسف عن نفسه لدى العزيز.: يوسف كان موجوداً حين قدم العزيز ، وقد دافع عن نفسه بعد وشاية المرأة ، وقال هى راودتنى عن نفسى.
تخلو من حديث الشاهد وتقول إن العزيز حمى غضبه على يوسف بعد سماع المرأة: يذكر تفصيلاً شهادة الشاهد كما يذكر اقتناع العزيز بتلك الشهادة ولومه لامرأته وتذكيرها بخطئها. وتثبيت يوسف على العفة والطهارة.
تقول إن العزيز فى الحال أمر بوضع يوسف فى السجن ولم يعرض أمره على رجال حاشيته.
يشير إلى أن القرار بسجن يوسف كان بعد مداولة بين العزيز وحاشيته.
تخلو من حديث النسوة اللاتى لُمْنَ امرأة العزيز على مراودتها فتاها عن نفسه ، وهى فجوة هائلة فى نص التوراة.
يذكر حديث النسوة بالتفصيل كما يذكر موقف امرأة العزيز منهن ودعوتها إياهن ملتمسة أعذارها لديهن ومصرة على أن ينفذ رغبتها
هذه ستة فروق بارزة بين ما يورده القرآن الأمين ، وما ذكرته التوراة. والنظر الفاحص فى المصدرين يرينا أنهما لم يتفقا إلا فى " أصل " الواقعة من حيث هى واقعة وكفى ، ويختلفان بعد هذا فى كل شىء. على أن القرآن قام هنا بعملين جليلى الشأن:
أولهما: أنه أورد جديداً لم تعرفه التوراة ومن أبرز هذا الجديد:
(1) حديث النسوة وموقف المرأة منهن.
(2) شهادة الشاهد الذى هو من أهل امرأة العزيز.
ثانيهما: تصحيح أخطاء وقعت فيها التوراة ومن أبرزها:
(1) لم يترك يوسف ثوبه لدى المرأة بل كان لابساً إياه ولكن قطع من الخلف.
(2) غياب يوسف حين حضر العزيز وإسقاطها دفاعه عن نفسه.
اعتراض وجوابه:
قد يقول قائل: لماذا تفترض أن الخطأ هو ما فى التوراة ، وأن الصواب هو ما فى القرآن ؟! أليس ذلك تحيزاً منك للقرآن ؛ لأنه كتاب المسلمين وأنت مسلم ؟ ولماذا تفترض العكس ؟ وإذا لم تفترض أنت العكس فقد يقول به غيرك ، وماتراه أنت لا يصادر ما يراه الآخرون. هذا الاعتراض وارد فى مجال البحث. وإذن فلابد من إيضاح.
والجواب:
لم نتحيز للقرآن لأنه قرآن. ولنا فى هذا الحكم داعيان:
الأول: لم يرد فى القرآن - قط - ما هو خلاف الحق ؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وقد ثبتت هذه الحقيقة فى كل مجالات البحوث التى أجريت على " مفاهيم " القرآن العظيم فى كل العصور. وهذا الداعى وحده كافٍ فى تأييد ما ذهبنا إليه.
الثانى: وهو منتزع من الواقعة نفسها موضوع المقارنة وإليك البيان: كل من التوراة والقرآن متفقان على " عفة يوسف "وإعراضه عن الفحشاء. ثم اختلفا بعد ذلك:
فالتوراة تقول: إن يوسف ترك ثوبه كله لدى المرأة وهرب والقرآن يقول: إنه لم يترك الثوب بل أمسكته المرأة من الخلف ولما لم يتوقف يوسف عليه السلام اقتطعت قطعة منه وبقيت ظاهرة فى ثوبه.
فأى الروايتين أليق بعفة يوسف المتفق عليها بين المصدرين ؟! أن يترك ثوبه كله ؟! أم أن يُخرق ثوبه من الخلف ؟!
إذا سلمنا برواية التوراة فيوسف ليس " عفيفاً " والمرأة على حق فى دعواها ؛ لأن يوسف لا يخلع ثوبه هكذا سليماً إلا إذا كان هو الراغب وهى الآبية.
ولا يقال إن المرأة هى التى أخلعته ثوبه ؛ لأن يوسف رجل ، وهى امرأة فكيف تتغلب عليه وتخلع ثوبه بكل سهولة ، ثم لما يمتنع تحتفظ هى بالثوب كدليل مادى على جنايته المشينة ؟!
وهل خرج يوسف " عريانًا " وترك ثوبه لدى غريمته..؟!
والخلاصة أن رواية التوراة فيها إدانة صريحة ليوسف وهذا يتنافى مع العفة التى وافقت فيها القرآن الأمين.
أما رواية القرآن فهى إدانة صريحة لامرأة العزيز ، وبراءة كاملة ليوسف عليه السلام .
لقد دعته المرأة إلى نفسها ففر منها. فأدركته وأمسكته من الخلف وهو ما يزال فاراً هارباً من وجهها فتعرض ثوبه لعمليتى جذب عنيفتين إحداهما إلى الخلف بفعل المرأة والثانية إلى الأمام بحركة يوسف فانقطع ثوبه من الخلف.
وهذا يتفق تماماً مع العفة المشهود بها ليوسف فى المصدرين ولهذا قلنا: إن القرآن صحح هذا الخطأ الوارد فى التوراة.
.. فهل القرآن مقتبس من التوراة ؟!
فهل تنطبق على القرآن أسس الاقتباس أم هو ذو سلطان خاص به فيما يقول ويقرر ؟.
المقتبس لا بد من أن ينقل الفكرة كلها أو بعضها. وها نحن قد رأينا القرآن يتجاوز هذه الأسس فيأتى بجديد لم يذكر فيما سواه ، ويصحح خطأ وقع فيه ما سواه.
فليس الاختلاف فيها اختلاف حَبْكٍ وصياغة ، وإنما هو اختلاف يشمل الأصول والفروع. هذا بالإضافة إلى إحكام البناء وعفة الألفاظ وشرف المعانى (4).
إن الذى روته التوراة هنا لا يصلح ولن يصلح أن يكون أساساً للذى ذكره القرآن. وإنما أساس القرآن هو الوحى الصادق الأمين. ذلك هو مصدر القرآن " الوضىء " وسيظل ذلك هو مصدره تتساقط بين يديه دعاوى الباطل ومفتريات المفترين فى كل عصر ومصر.
الصورة الثانية من صور التشابه بين التوراة والقرآن
قصة هابيل وقابيل ابنى آدم
نصوص التوراة:
" حدث من بعد أيام أن قابين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب ، وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ، ومن سمانها ، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه ولكن إلى قابين. وقربانه لم ينظر. فاغتاظ قابين جداً وسقط وجهه. فقال الرب لقابين لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك ؟ إن أحسنت أفلا رفع ؟؟. وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها ، وأنت تسود عليها. وكلم قابين هابيل أخاه. وحدث إذ كانا فى الحقل أن قابين قام على هابيل أخيه وقتله. فقال الرب لقابين أين هابيل أخوك فقال لا أعلم أحارس أنا لأخى ؟ فقال ماذا فعلت ؟ صوت دم أخيك صارخ إلىَّ من الأرض. فالآن ملعون أنت من الأرض التى فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك متى عملت الأرض ؟؟ تعود تعطيك قوتها. تائهاً وهارباً تكون فى الأرض فقال قابين للرب: ذنبى أعظم من أن يحتمل أنك قد طردتنى اليوم على وجه الأرض ، ومن وجهك أختفى وأكون تائهاً وهارباً فى الأرض فيكون كل من وجدنى يقتلنى فقال له الرب: لذلك كل من قتل قابين فسبعة أضعاف ينتقم منه. وجعل الرب لقابين علامة لكى لا يقتله كل من وجده. فخرج قابين من لدن الرب وسكن فى أرض نود شرقى عدن " (5).
نصوص القرآن الأمين
(واتل عليهم نبأ ابنى آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبلُ الله من المتقين * لئن بسطت إلىَّ يدك لتقتلنى ما أنا بباسطٍ يدى إليك لأقتلك إنى أخافُ الله ربَّ العالمين * إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين* فطوعت له نفسهُ قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابًا يبحث فى الأرض ليُرِيَهُ كيف يوارى سوءة أخيه * قال ياويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارىَ سوءة أخى فأصبح من النادمين * من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك فى الأرض لمسرفون ) (6).
الفروق بين المصدرين
اتفق المصدران حول نقطتين اثنتين لا ثالث لهما واختلفا فيما عداهما. اتفقا فى: مسألة القربان. وفى قتل أحد الأخوين للآخر. أما فيما عدا هاتين النقطتين فإن ما ورد فى القرآن يختلف تماماً عما ورد فى التوراة ، وذلك على النحو الآتى:
التوارة/القرآن الأمين
تسمى أحد الأخوين بقابين وهو " القاتل " والثانى " هابيل " كما تصف القربانين وتحدد نوعهما./ لايسميهما ويكتفى ببنوتهما لآدم كما اكتفى بذكر القربانين ولم يحددهما.
تروى حواراً بين قابين والرب بعد قتله أخاه ،وتعلن غضب الرب على قابين وطرده من وجه الرب إلى أرض بعيدة./ لا يذكر حواراً حدث بين القاتل وبين الله ، ولا يذكر أن القاتل طرده الله من وجهه إلى أرض بعيدة ، إذ ليس على الله بعيد.
التوراة تخلو من أى حوار بين الأخوين./ يذكر الحديث الذى دار بين ابنى آدم ويفصل القول عما صدر من القتيل قبل قتله وتهديده لأخيه بأنه سيكون من أصحاب النار إذا قتله ظلماً..
لا مقابل فى التوراة لهذه الرواية ولمْ تبين مصير جثة القتيل ؟! / يذكر مسألة الغراب ، الذى بعثه الله لٍِيُرى القاتل كيف يتصرف فى جثة أخيه ، ويوارى عورته.
تنسب الندم إلى " قابين " القاتل لما هدده الله بحرمانه من خيرات الأرض ، ولا تجعله يشعر بشناعة ذنبه./ يصرح بندم " القاتل " بعد دفنه أخيه وإدراكه فداحة جريمته.
لا هدف لذكر القصة فى التوراة إلا مجرد التاريخ. فهى معلومات ذهنية خالية من روح التربية والتوجيه. /يجعل من هذه القصة هدفاً تربوياً ويبنى شريعة القصاص العادل عليها. ويلوم بنى إسرائيل على إفسادهم فى الأرض بعد مجىء رسل الله إليهم.
أضف إلى هذه ما تحتوى عليه التوراة من سوء مخاطبة " قابين" الرب ، فترى فى العبارة التى فوق الخط: " أحارس أنا لأخى " فيها فظاظة لوصدرت من إنسان لأبيه لعد عاقًّا جافًّا فظًّا غليظًّا فكيف تصدر من " مربوب " إلى " ربه " وخالقه..؟!
ولكن هكذا تنهج التوراة فلا هى تعرف " قدر الرب " ولا من تنقل عنه حواراً مع الرب.
ولا غرابة فى هذا فالتوراة تذكر أن موسى أمر ربه بأن يرجع عن غضبه على بنى إسرائيل ، بل تهديده إياه سبحانه بالاستقالة من النبوة إذا هو لم يستجب لأمره.
والواقع أن ما قصَّهُ علينا القرآن وهو الحق من أمر ابنى آدم مختلف تماماً عما ورد فى التوراة فى هذا الشأن.
فكيف يقال: إن القرآن اقتبس هذه الأحداث من التوراة وصاغها فى قالب البلاغة العربية ؟!
إن الاختلاف ليس فى الصياغة ، بل هو اختلاف أصيل كما قد رأيت من جدول الفروق المتقدم.
والحاكم هنا هو العقل فإذا قيل: إن هذه القصة مقتبسة من التوراة قال العقل:
* فمن أين أتى القرآن بكلام الشقيق الذى قتل مع أخيه ، وهو غير موجود فى نص التوراة التى يُدعى أنها مصدر القرآن ؟!
* ومن أين أتى القرآن بقصة الغراب الذى جاء ليُرى القاتل كيف يوارى سوءة أخيه وهى غير واردة فى التوراة المُدَّعى أصالتها للقرآن ؟!
* ولماذا أهمل القرآن الحوار الذى تورده التوراة بين " الرب " وقابين القاتل وهذا الحوار هو هيكل القصة كلها فى التوراة ؟!
إن فاقد الشىء لا يعطيه أبداً ، وهذا هو حكم العقل. والحقائق الواردة فى القرآن غير موجودة فى التوراة قطعاً فكيف تعطى التوراة شيئاً هى لم تعرف عنه شيئاً قط..؟!
لا.. إن القرآن له مصدره الخاص به الذى استمد منه الوقائع على وجهها الصحيح ، ومجرد التشابه بينه وبين التوراة فى " أصل الواقعة " لا يؤثر فى استقلال القرآن أبداً.
الصورة الثالثة من صورالتشابه بين التوراة والقرآن مقارنة بين بعض التشريعات
المحرمات من النساء
قارَنَّا فيما سبق بين بعض المسائل التاريخية التى وردت فى كل من التوراة والقرآن الأمين. وأثبتنا بأقطع الأدلة أن القرآن له سلطانه الخاص به فيما يقول ويقرر ، ورددنا دعوى أن القرآن مقتبس من التوراة. وبَيَّنَّا حكم العقل فى هذه الدعوى كما أقمنا من الواقع " المحكى " أدلة على ذلك.
ونريد هنا أن نقارن بين بعض المسائل التشريعية فى المصدرين ؛ لأنهم يقولون: إن المسائل والأحكام التشريعية التى فى القرآن لا مصدر لها سوى الاقتباس من التوراة.
وقد اخترنا نص المحرمات من النساء فى التوراة لنقابله بنص المحرمات من النساء فى القرآن الحكيم ليظهر الحق.
النص فى المصدرين
أولاً: فى التوراة:
" عورة أبيك وعورة أمك لا تكشف. إنها أمك لا تكشف عورتها. عورة امرأة أبيك لا تكشف. إنها عورة أبيك. عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة فى البيت ، أو المولودة خارجاً لا تكشف عورتها. عورة ابنة ابنك أو ابنة بنتك لا تكشف عورتها إنها عورتك. عورة بنت امرأة أبيك المولودة من أبيك لا تكشف عورتها إنها أختك. عورة أخت أبيك لا تكشف إنها قريبة أبيك. عورة أخت أمك لا تكشف إنها قريبة أمك عورة أخى أبيك لا تكشف ، إلى امرأته لا تقرب إنها عمتك. عورة كنتك لا تكشف. إنها امرأة ابنك لا تكشف عورتها.
عورة امرأة أخيك لا تكشف إنها عورة أخيك. عورة امرأة ، وبنتها لا تكشف ، ولا تأخذ ابنة ابنتها أو ابنة بنتها لتكشف عورتها إنهما قريبتاها. إنه رذيلة. ولا تأخذ امرأة على أختها للضر لتكشف عورتها معها فى حياتها (7).
ثانياً: فى القرآن الحكيم:
(ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ماقد سلف إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا * حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيما والمحصنات من النساء.. ) (8).
هذان هما النصان فى المصدرين. نص التوراة ، ونص القرآن الحكيم. فما هى أهم الفروق بينهما ياترى ؟!
وقبل إجراء المقارنة نفترض صحة النص التوراتى وخلوه من التحريف إذ لا مانع أن يكون هذا النص فعلاً مترجماً عن نص أصلى تشريعى خلا مترجمه من إرادة تحريفه.
والمهم هو أن نعرف هل يمكن أن يكون نص التوراة هذا أصلاً اقتبس منه القرآن الحكيم فكرة المحرمات من النساء ، علماً بأن النص التوراتى قابل إلى حد كبير لإجراء دراسات نقدية عليه ، ولكن هذا لا يعنينا هنا.
الفروق بين المصدرين:
التوراة:
1- لا تقيم شأنًا للنسب من جهة الرضاعة.
2- تحرم نكاح امرأة العم وتدعوها عمة.
3- تحرم نكاح امرأة الأخ لأخيه.
4- لا تذكر حرمة النساء المتزوجات من رجال آخرين زواجهم قائم.
5- تجعل التحريم غالباً للقرابة من جهة غير الزوج مثل قرابة الأب الأم العم 000 وهكذا.
القرآن الأمين:
1- يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.
2- لا يحرم نكاح امرأة العم ولا يدعوها عمة.
3- لا يحرم نكاح امرأة الأخ لأخيه إذا طلقها أو مات عنها أخوه.
4- يحرم نكاح المتزوجات فعلاً من آخرين زواجاً قائماً ويطلق عليهن وصف المحصنات من النساء.
5- يجعل التحريم لقرابة الزوج ممن حرمت عليه. أو قرابة زوجته أحياناً.
هذه الفروق الواضحة لا تؤهل النص التوراتى لأن يكون أصلاً للنص القرآنى ، علميًّا ، وعقليًّا ، فللنص القرآنى سلطانه الخاص ومصدره المتميز عما ورد فى التوراة. وإلا لما كان بين النصين فروق من هذا النوع المذكور.
وقفة مع ما تقدم:
نكتفى بما تقدم من التوراة وإن كانت التوراة مصدراً ثَرَاً لمثل هذه المقارنات ، ولو أرخينا عنان القلم لما وقفنا عند حد قريب ولتضاعف هذا
الحجم مئات المرات. ومع هذا فما من مقارنة تجرى بين التوراة وبين القرآن إلا وهى دليل جديد على نفى أن يكون القرآن مقتبساً من كتاب سابق عليه ، فالقرآن وحى أمين حفظ كلمات الله كما أنزلت على خاتم النبيين (وقد رأينا فى المقارنات الثلاث المتقدمة أن القرآن فوق ما يأتى به من جديد ليس معروفاً فى سواه إنه يصحح أخطاء وقعت فيما سواه وهذا هو معنى " الهيمنة " التى خَصَّ الله بها القرآن فى قوله تعالى: (مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه ) (9).
فالأمور التى لم يلحقها تحريف فى التوراة جاء القرآن مصدقاً لها أو هو مصدق لكل من التوراة والإنجيل بالصفة التى أنزلها الله عليهما قبل التحريف والتبديل.
أما الأمور التى حُرفت ، وتعقبها القرآن فقصها قصًّا صحيحاً أميناً ، وصحح ما ألحقوه بهما من أخطاء ، فذلك هو سلطان " الهيمنة " المشهود للقرآن بها من منزل الكتاب على رسله.
فالقرآن هو كلمة الله " الأخيرة " المعقبة على كل ما سواها ، وليس وراءها معقب يتلوها ؛ لأن الوجود الإنسانى ليس فى حاجة مع وجود القرآن إلى غير القرآن.
كما أن الكون ليس فى حاجة مع الشمس إلى شمس أخرى تمده بالضوء والطاقة بعد وفاء الشمس بهما.
ولنأخذ صورة مقارنة من العهد الجديد أيضًا حيث يختلف عن العهد القديم وذلك لأن نص الإنجيل الذى سندرسه يقابله من القرآن نصان كل منهما فى سورة مما يصعب معه وضع النص الإنجيلى فى جدول مقابلا بالنصين القرآنيين. ولهذا فإننا سنهمل نظام الجدول هنا ونكتفى بعرض النصوص ، والموازنة بينها والموضوع الذى سنخضعه للمقارنة هنا هو بشارة زكريا عليه السلام بابنه يحى عليه السلام وذلك على النحو الآتى:
الصورة الرابعة من الإنجيل والقرآن
بشارة زكريا ب " يحيى " (عليهما السلام)
النص الإنجيلى:
" لم يكن لهما يعنى زكريا وامرأته ولد. إذ كانت اليصابات يعنى امرأة زكريا عاقراً.وكان كلاهما متقدمين فى أيامهما فبينما هو يكهن فى نوبة غرفته أمام الله حسب عادة الكهنوت أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب ويبخر ، وكان كل جمهور الشعب يصلى خارجاً وقت البخور. فظهر له ملاك الرب واقفاً عن يمين مذبح البخور. فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف. فقال له الملاك: لاتخف يا زكريا ؛ لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك اليصابات ستلد لك ولداً وتسميه يوحنا ، ويكون لك فرح وابتهاج. وكثيرون سيفخرون بولادته ؛ لأنه يكون عظيماً أمام الرب. وخمراً ومسكراً لا يشرب ، ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس ويرد كثيرين من بنى إسرائيل إلى الرب إلههم ، ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء.والعصاة إلى فكر الأبرار ، لكى يهئ للرب شعباً مستعدًّا. فقال زكريا للملاك: كيف أعلم هذا و أنا شيخ وامرأتى متقدمة فى أيامها..؟!
فأجاب الملاك وقال: أنا جبرائيل الواقف قدام الله. وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا. وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذى يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامى الذى سيتم فى وقته. وكان الشعب منتظرين زكريا ومتعجبين من إبطائه فى الهيكل. فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم ففهموا أنه قد رأى رؤيا فى الهيكل. فكان يومئ إليهم. وبقى صامتاً.." (10).
النصوص القرآنية:
(1) سورة آل عمران:
(هنالِكَ دعا زكريا ربَّهُ قال رب هب لى من لدُنك ذريةً طيبةً إنك سميعُ الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن الله يُبشرك بيحيى مصدقاً بكلمةٍ من الله وسيداً وحصوراً ونبيًّا من الصالحين * قال رب أنى يكون لى غلامٌ وقد بلغنى الكبر وامرأتى عاقر قال كذلِكَ الله يفعلُ ما يشاء * قال ربِّ اجعل لى آية قال آيتك ألا تُكلم الناسَ ثلاثةَ أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشى والإبكار) (11).
(2) سورة مريم:
(ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربَّه نداءً خفيًّا * قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًّا * وإنى خفت الموالى من ورائى وكانت امرأتى عاقراً فهب لى من لدنك وليًّا * يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله ربِّ رضيًّا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميًّا * قال رب أًنَّى يكون لى غلام وكانتً امرأتى عاقراً وقد بلغت من الكبر عتيًّا * قال كذلكَ قال ربكَ هو علىَّ هينٌ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويًّا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيًّا * يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيًّا * وحناناً من لدنَّا وزكاةً وكان تقيًّا * وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصيًّا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيًّا) (12).
ذلك هو نص الإنجيل. وذان هما نصا القرآن الأمين. والقضية التى نناقشها هنا هى دعوى " الحاقدين " أن القرآن مقتبس من الأناجيل كما ادعوا قبلا أنه مقتبس من التوراة.
وندعو القارئ أن يراجع النص الإنجيلى مرات ، وأن يتلو النصوص القرآنية مرات ، ويسأل نفسه هذا السؤال:
هل من الممكن علميًّا وعقليًّا أن يكون النص الإنجيلى مصدرًا لما ورد فى القرآن الأمين ؟!
إن المقارنة بين هذه النصوص تسفر عن انفراد النصوص القرآنية بدقائق لا وجود لها فى النص الإنجيلى. ومن أبرز تلك الدقائق ما يلى:
أولاً: فى سورة آل عمران:
(أ) تقدم على قصة البشارة فى" آل عمران" قصة نذر امرأة عمران ما فى بطنها لله محرراً. وهذا لم يرد فى النص الإنجيلى.
(ب) الإخبار بأنها ولدت أنثى " مريم " وكانت ترجو المولود ذكرا وهذا لم يأت فى النص الإنجيلى.
(ج) كفالة زكريا للمولودة "مريم " ووجود رزقها عندها دون أن يعرف مصدره والله سبحانه وتعالى أعلم سؤاله إياها عن مصدره. وهذا بدوره لم يرد فى النص الإنجيلى.
(د) القرآن يربط بين قصة الدعاء بمولود لزكريا وبين قصة مولودة امرأة عمران. وهذا لا وجود له فى النص الإنجيلى.
(ه) دعاء زكريا منصوص عليه فى القرآن وليس له ذكر فى النص الإنجيلى.
ثانياً: فى سورة مريم:
(أ) ما رتبه زكريا على هبة الله له وليًّا ، وهو أن يرثه ويرث من آل يعقوب. ولم يرد هذا فى النص الإنجيلى.
(ب) السبب الذى حمل زكريا على دعاء ربه وهو خوفه الموالى من ورائه والنص الإنجيلى يخلو من هذا.
(ج) كون زكريا أوحى لقومه بأن يسبحوا بكرة وعشيًّا. ولا وجود لهذا فى النص الإنجيلى.
(د) الثناء على المولود " يحيى " من أنه بار بوالديه عليه سلام الله يوم ولادته ويوم موته ويوم بعثه حيًّا ورد فى القرآن ولا مقابل له فى النص الإنجيلى.
هذا كله جديد خاص بالقرآن لا ذكر له فى سواه. وهذا يعنى أن القرآن قد صور الواقعة المقصوصة تصويراً أمينًا كاملاً.
وهذه هى المهمة الأولى التى تعقب بها القرآن المهيمن ما ورد فى الإنجيل المذكور.
وبقيت مهمة جليلة ثانية قام بها القرآن المهيمن نحو النص الإنجيلى ، كما قام بمثلها نحو النصوص التوراتية المتقدمة. وتلك المهمة هى: تصحيح الأخطاء التى وردت فى النص الإنجيلى.
ومن ذلك:
(أ) النص الإنجيلى يجعل الصمت الذى قام بزكريا عقوبة له من الملاك.
فصحح القرآن هذه الواقعة ، وجعل الصمت استجابة لدعاء زكريا ربه. وقد حرص على هذا النصان القرآنيان معاً. ففى آل عمران (قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً(وفى مريم: (قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا (.
فالصمت فكان تكريما لزكريا عليه السلام من الله ، وليس عقوبة من الملاك ، وقد انساق بعض مفسرى القرآن الكريم وراء هذا التحريف الإنجيلى فقال: إن الصمت كان عقوبة لزكريا ، ولكن من الله لا من الملاك.
وها نحن نرفض هذا كله سواء كان القائل به مسلما أو غيرمسلم.
فما هو الذنب الذى ارتكبه زكريا حتى يعاقب من الله أو حتى من الملاك ؟!
هل إقراره بكبر سنه وعقر امرأته هو الذنب ؟!
لقد وقع هذا من إبراهيم عليه السلام حين بشر بإسحق ، ووقع من سارة حين بشرت به فلم يعاقب الله منهما أحداً.
وقد وقع هذا من " مريم " حين بُشِّرَتْ بحملها بعيسى ولم يعاقبها الله عليه. فما السر فى ترك إبراهيم وسارة ومريم بلا عقوبة وإنزالها بزكريا وحده مع أن الذى صدر منه صدر مثله تماماً من غيره.
أفى المسألة محاباة..؟! كلا.. فالله لا يحابى أحداً.
إن أكبر دليل على نفى هذا القول هو خلو النصوص القرآنية منه ، وليس هذا تعصباً منا للقرآن. وإنما هو الحق ، والمسلك الكريم اللائق بمنزلة الرسل عند ربهم.
إن الصمت الذى حل بزكريا كان بالنسبة لتكليم الناس ، ومع هذا فقد ظل لسانه يلج بحمد الله وتسبيحه فى العشى والإبكار كما نص القرآن الأمين.
(ب) النص الإنجيلى يحدد مدة الصمت بخروج زكريا من الهيكل إلى يوم أن ولد يحيى.
وهذا خطأ ثانٍ صححه القرآن المهيمن فجعل مدته ثلاثة أيام بلياليهن بعد الخروج من المحراب.
(ج) النص الإنجيلى يجعل البشارة على لسان ملاك واحد ، بينما النصان القرآنيان يجعلانها على لسان جمع من الملائكة: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب ) (13).
(يا زكريا إنا نبشرك بغلام.. ) (14).
وهذا خطأ ثالث وقع فيه النص الإنجيلى فصححه القرآن الأمين.
(د) النص الإنجيلى يجعل التسمبة ب " يحيى " يوحنا من اختيار زكريا بيد أن الملاك قد تنبأ بها.
وهذا خطأ رابع صححه القرآن الأمين فجعل التسمية من وحى الله إلى زكريا: (.. اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) (15).
(ه) النص الإنجيلى يقول: " إن زكريا حين جاءه الملاك وقع عليه خوف واضطراب ".
وقد خلا النص القرآنى من هذا.. فدل خلوه منه على أنه لم يقع.
ذلك أن القرآن الحكيم عَوَّدَنَا فى قَصِّهِ للوقائع المناظرة لهذه الواقعة أن يسجلها إذا حدثت ولا يهملها ، بدليل أنه قد نَصَّ عليها فى واقعة السحرة مع موسى عليه السلام فقال: (فأوجس فى نفسه خيفة موسى ) (16). وقال فى شأنه كذلك عند انقلاب العصى حية لأول مرة: (فلما رآها تهتز كأنها جَانُّ وَلَّى مُدبِراً ولم يُعَقِّبْ ) (17). وحكاها عن إبراهيم عليه السلام حين جاءته الملائكة تبشره فقال حكاية عن إبراهيم لضيوفه: (إنا منكم وجلون ) (18). وحكاها عن مريم حين جاءها الملك: (قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) (19).
وحِرْصُ القرآن على ذكر هذا الانفعال (الخوف ، إذا حدث) يدل على أن خلوه منه بالنسبة لزكريا دليل على أنه لم يقع منه خوف قط ، وهذا " الخلو "يعتبر تصحيحاً لما ورد فى الإنجيل من نسبة حدث إلى زكريا هو فى الواقع لم يصدر منه.
فهذه خمسة أخطاء قام بتصحيحها القرآن الأمين نحو نصوص الإنجيل المذكورة هنا فى المقارنة. وبهذا نقول:
إن القرآن أدى هنا فى تعقبه للنص الإنجيلى مهمتين جليلتين:
الأولى: تصوير الواقعة المقصوصة تصويراً أميناً كاملاً.
الثانية: تصحيح الأخطاء الواردة فى النص الإنجيلى المقارن.
وقفة أخيرة مع دعوى الاقتباس:
موضوع الدعوى كما يروج لها المبشرون أن القرآن اقتبس من الكتاب المقدس كل قَصَصِهِ التاريخى.
والواقعة التى هى موضوع دعوى الاقتباس هنا هى حادثة تاريخية دينية محددة ببشارة زكريا عليه السلام بيحيى عبد الله ورسوله ووثائق تسجيلها هما: الإنجيل ، ثم القرآن الأمين.
وصلة الإنجيل بالواقعة المقصوصة أنه سجلها فرضًا بعد زمن وقوعها بقليل ؛ لأن عيسى كان معاصراً ليحيى عليهما السلام وصلة القرآن الأمين بها أنه سجلها بعد حدوثها بزمن طويل " حوالى سبعمائة سنة ".
وقرب الإنجيل من وقوع الحادثة المقصوصة ، وبُعد القرآن الزمنى عنها يقتضى إذا سلمنا جدلاً بدعوى الاقتباس المطروحة أن يأتى الاقتباس على إحدى صورتين:
أولاهما: أن يقتبس القرآن جزءًا مما ورد من القصة الكلية فى الإنجيل. وتظل القصة فيه ناقصة عما هى عليه فى المصدر المقتبس منه (الإنجيل) على حسب زعمهم.
ثانيهما: أن يقتبس القرآن القصة كلها كما هى فى الإنجيل بلا نقص ولا زيادة ، سواء أخذها بألفاظها أو صاغها فى أسلوب جديد (البلاغة العربية كما يدعون) ، بشرط أن يتقيد بالمعانى الواردة فى المصدر المقتبس منه ؛ لأن الفرض قائم (حتى الآن) على أن القرآن لم يكن له مصدر يستقى منه الواقعة غير الإنجيل المقتبس منه.
ومحظور على القرآن عملا بهذه القيود التى تكتنف قضية الاقتباس للوقائع التاريخية من مصدرها الأوحد أن يأتى بجديد أو يضيف إلى الواقعة ما ليس فى مصدرها الأوحد.
فماذا صنع القرآن إذن ؟
هل اقتبس من الإنجيل جزءًا من الواقعة ؟ أم الواقعة كلها ؟!
دائراً فى فلك الإنجيل دورة ناقصة أو دورة كاملة ؟!
لو كان القرآن قد فعل هذا: اقتبس جزءاً من الواقعة كلها ، وَ لَوْ مع صياغة جديدة لم تغير من المعنى شيئا ؛ لكان لدعوى الاقتباس هذه ما يؤيدها من الواقع القرآنى نفسه. ولما تردد فى تصديقها أحد.
ولكننا قد رأينا القرآن لم يفعل شيئًا مما تقدم. لم يقتبس جزءاً من الواقعة ولا الواقعة كلها.
وإنما صورها تصويراً أميناً رائعاً. سجل كل حقائقها ، والتقط بعدساته كل دقائقها. وعرضها عرضاً جديداً نقيًّا صافياً ، وربط بينها وبين وقائع كانت كالسبب الموحد لها فى بناء محكم وعرض أمين.
ولم يقف القرآن عند هذا الحد.. بل قام بإضافة الكثير جدًّا من الجديد الذى لم يعرفه الإنجيل. وصحح كثيراً من الأخطاء التى وردت فيه بفعل التحريف والتزوير. إما بالنص وإما بالسكوت. وهذا لا يتأتى من مقتبس ليس له مصدر سوى ما اقتبس منه.
وإنما يتأتى ممن له مصدره ووسائله وسلطانه المتفوق ، بحيث يتخطى كل الحواجز ، ويسجل الواقعة من " مسرحها " كما رآها هو ، وعقلها هو ، وسجلها هو. وكان هذا هو القرآن.
إن المصدر الوحيد للقرآن هو الوحى الصادق الأمين.. وليس ما سجله الأحبار والكهان ، والفريسيون ، والكتبة فى توراة أو أناجيل.
إن مقاصد القرآن وتوجيهاته وكل محتوياته ليس فى التوراة ولا فى الإنجيل منها شىء يذكر. وفاقد الشىء لا يعطيه. هذا هو حكم العقل والعلم ، ومن لم يخضع لموازين الحق من عقل وعلم ونقل فقد ظلم نفسه.
__________
(1) سفر التكوين الإصحاح (39) الفقرات (7 19).
(2) لم نذكرالنص القرآنى الخاص بحديث النسوه إذ لا مقابل له فى التوراة.
(3) يوسف: 23-29 ثم آية 35.
(4) تأمل عبارة التوراة " اضطجع معى " تجدها مبتذلة فاضحة تكاد تجسم معناها تجسيماً. ثم تأمل عبارة القرآن (و راودته التى هو فى بيتها عن نفسه (تجدها كناية لطيفة شريفة بعيدة عن التبذل والإسفاف. والألفاظ أوعية المعانى والمعانى ظلال الألفاظ..
(5) سفر التكوين (4-3-16)
(6) المائدة: 27-32.
(7) سفر اللاويين (18 7 18).
(8) النساء: 22-24.
(9) المائدة: 48.
(10) إنجيل لوقا (7- 22) الإصحاح الأول.
(11) آل عمران: 38-41. وراجع قبله الآيات من 35-37 للأهمية
(12) مريم: 8 - 15
(13) آل عمران: 39.
(14) مريم:7.
(15) مريم:7.
(16) طه: 67.
(17) القصص: 31.
(18) الحجر: 52.
(19) مريم: 18.
12- رفع المعطوف على المنصوب
منشأ هذه الشبهة:
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (1).
هذه الآية هى منشأ هذه الشبهة عندهم ، لأنهم نظروا فيما بعد " الواو " فى " الصابئون " وقارنوا بينه وبين " الذين آمنوا " الواقع بعد " إن " وهى حرف ناسخ ينصب " المبتدأ " ويرفع " الخبر " واسم " إن " هنا هو " الذين " وهو مبنى لأنه اسم موصول.
وقد عطف عليه " الذين هادوا " أما " الصابئون " فجاءت مرفوعة ب"الواو" لأنها جمع مذكر سالم وجاء بعدها " النصارى ".
وكل من " الذين " فى الموضعين السابقين على " الصابئون " وكذلك " النصارى " إعرابها تقديرى لا يظهر لا فى الخط ولا فى النطق ، وذلك لأن الاسم الموصول " الذين " من المبنيات على حالة واحدة ، أما "النصارى" فهو اسم مقصور ، يتعذر ظهور حركة الإعراب عليه ، وهى هنا الفتحة ، و " الراء " مفتوحة أصالة ، ومحال أن تظهر فتحتان على موضع واحد. سواء كانت الحركتان مختلفتين ، كفتحٍ وضمٍ ، أو متجانستين ، كفتحتين وضمتين.
وخصوم القرآن نظروا فى نظم هذه الآية الحكيمة وقالوا إن فيها خطأ لغوياً (نحوياً) ؛ لأن " الصابئون " معطوفة على منصوب " إن الذين آمنوا " فكان حقها أن تنصب ، فيقال " والصابئين " لكنها جاءت مرفوعة ب " الواو " هكذا " والصابئون " وهدفهم من تصيد هذه الشبهات إثبات:
- أن فى القرأن تحريفاً لمخالفته بدهيات القواعد النحوية.
- أو هو ليس من عند الله ، لأن ما كان من عند الله لا يكون فيه خطأ.
الرد على الشبهة:
للنحاة والمفسرين فى توجيه رفع " الصابئون " فى هذه الآية عدة آراء ، منها ما هو قوى مشهود له فى الاستعمال اللغوى عند العرب الخلص ، ومنها ما هو دون ذلك ، وقد بلغت فى جملتها تسعة توجهات نذكر منها ما يلى:
الأول: ما قاله جمهور نحاة البصرة ، الخليل وسيبويه وأتباعهما ، قالوا: إن " الصابئون " مرفوع على أنه " مبتدأ " وخبره محذوف يدل عليه خبر ما قبله " إن الذين آمنوا " قالوا: والنية فيه التأخير ، أى تأخير " والصابئون " إلى ما بعد " والنصارى ". وتقدير النظم والمعنى عندهم: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون كذلك " (2).
ومن شواهد هذا الحذف عند العرب قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأى مختلف
فقد حذف الخبر من المبتدأ الأول ، وتقديره " راضون " لدلالة الثانى عليه " راض ".
والمعنى: نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راض.
وقول الآخر:
ومن بك أمسى بالمدينة رحله
فإنى وقيَّار بها لغريب
والتقدير: فإنى لغريب وقيار كذلك.
وقول الشاعر:
وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم
بغاة ما بقينا فى شقاق
الشاعر يصف الفريقين أنهم " بغاة " إن استمروا فى الشقاق ، والتقدير:
اعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك.
وهكذا ورد فى الاستعمال اللغوى عند العرب ، أن الجملة الاسمية المؤكدة ب " إن " يجوز أن يذكر فيها مبتدأ آخر غير اسم " إن " وأن يذكر خبر واحد يكون لاسم " إن " ويحذف خبر المبتدأ الثانى لدلالة خبر اسم "إن " عليه ، أو يحذف خبر اسم " إن " ويكون الخبر المذكور للمبتدأ الثانى دليلاً على خبر اسم " إن " المحذوف ونظم الآية التى كانت منشأ الشبهة عندهم لا يخرج عن هذه الأساليب الفصيحة ، التى عرفناها فى الأبيات الشعرية الثلاثة ، وهى لشعراء فصحاء يستشهد بكلامهم.
الثانى: أن " إن " فى قوله تعالى: " إن الذين آمنوا " ليست هى " إنَّ " الناسخة ، التى تنصب المبتدأ وترفع الخبر ، بل هى بمعنى: نعم ، يعنى حرف جواب ، فلا تعمل فى الجملة الاسمية لا نصباً ، ولا رفعاً ، وعلى هذا فالذى بعدها مرفوع المحل ، لأن " الذين " اسم موصول ، وهو مبنى فى محل رفع ، وكذلك " الصابئون " فإنه مرفوع لفظاً ، وعلامة رفعه " الواو " لأنه جمع مذكر سالم ، مفرده " صابئ ".
وقد استعملها العرب كذلك. قال قيس بن الرقيات:
برز الغوانى من الشباب
يلمننى ، وآلو مهنَّهْ
ويقلن شيبٌ قد علاك
وقد كبرتَ ، فقلت إنَّهْ (3)
أى فقلت: نعم.
وعلى هذا فإن كلا من " الذين " و " الصابئون " والنصارى ، أسماء مرفوعة إما محلاً ، وهما: الذين " فهى مبنية فى محل رفع ، والنصارى مرفوعة بضمة مقدرة لأنها اسم مقصور لا تظهر على آخره حركات ، وإما لفظاً مثل: " الصابئون " فهى مرفوعة لفظاً بواو الجماعة.
وعليه كما كان فى المذهب الأول فلا خطأ فى الآية كما زعم خصوم القرآن.
أما المفسرون فقد اختار الزمخشرى منهم المذهب الأول المعزو إلى جمهور علماء البصرة ، ومن شيوخهم الخليل وسيبويه ، فقال:
" والصابئون " رفع على الابتداء ، وخبره محذوف والنية به (4) التأخير عما فى حيز إن من اسمها وخبرها كأنه قيل:
" إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا ، والصابئون كذلك " (5).
وقال الإمام الشوكانى:
" والصابئون " مرتفع على الابتداء ، وخبره محذوف والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك " (6).
وقد ألمح الإمام الشوكانى إلى إضافة جديدة خالف بها كلا من الخليل وسيبويه والزمخشرى ؛ لأن هؤلاء جعلوا " الصابئون" مقدما من تأخير كما تقدم ، أما هو فجعله قاراًّ فى موضعه غير مقدم من تأخير بدليل قوله:
" والصابئون والنصارى كذلك " وهذه إضافة حسنة ومقبولة. وعليه يمكن جَعْل " النصارى " مرفوعة عطفاً على " الصابئون " ولا حاجة إلى جعلها منصوبة عطفاً على " إن الذين آمنوا " ، والواقع أن هذا المذهب على جملته الذى ذهب إليه جمهور علماء البصرة ، وتابعهم فيه الإمام الشوكانى هو أقوى ما أورده النحاة فى توجيه رفع " الصابئون " فى هذه الآية الكريمة. أما بقية الآراء ، فهى دون ذلك بكثير (7).
هذا هو توجيه رفع " الصابئون " عند جمهور النحاة والمفسرين ، أما توجيهه بلاغة فهو ما يأتى:
إن مخالفة إعراب " الصابئون " عما قبلها سواء كانت مقدمة من تأخير على رأى الجمهور أو غير مقدمة على رأى الإمام الشوكانى وآخرين (8)
وعما بعدها إن قدرنا " والنصارى " معطوفاً على " إن الذين آمنوا والذين هادوا ، بأن هذه المخالفة لمحة بلاغية رائعة ؛ تشير إلى وجود فرق كبير بين هذه الطوائف الأربع:
- الذين آمنوا.
- الذين هادوا.
- النصارى.
- الصابئون.
فالطوائف الثلاث الأولى يربط بينها رابط قوى هو أن كل طائفة منها لها كتاب ورسول من عند الله عز وجل.
فالذين آمنوا لهم كتاب هو القرآن ، ورسول هو محمد صلى الله عليه وسلم .
والذين هادوا لهم كتاب هو التوراة ، ولهم رسول هو موسى عليه السلام.
والنصارى لهم كتاب هو الإنجيل ، ولهم رسول هو عيسى عليه السلام.
أما الصابئون ، فليس لهم كتاب ولا رسول ، وهم على ضلال مطبق لا ذرة من هداية فيه.
والمقام الذى تتحدث عنه الآية هو فتح باب القبول عند الله لكل من آمن إيماناً صحيحاً صادقاً وداوم على عمل الصالحات. فالإيمان يمحو ما قبله ولا ينظر الله إلى ماضيهم الذى كانوا عليه من كفر ومعاصٍ ، والآية بدأت بالذين آمنوا ليستمروا على إيمانهم الذى هم فيه ، ويلتزموا بعمل الصالحات والله سيجزيهم خير الجزاء على إيمانهم المستمر ، وصلاحهم الدائم (9).
ثم ثنت بالذين هادوا ، يعنى: اليهود ، وهم كانوا فى عصر نزول القرآن قد غالوا فى دينهم ، وحادوا عن الحق ، وغيَّروا وبدَّلوا فيما أنزله الله على أنبيائهم فوعدهم الله إذا آمنوا إيماناً صحيحاً صادقاً ، وتابوا إلى الله من كل ما ابتدعوه فى عقائدهم واتبعوا ما أنزل الله على خاتم رسله ؛ بأنهم سيكونون فى أمنٍ من عذاب الله ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وكذلك النصارى حيث جعلوا لله صاحبة وولدا وغالوا كثيراً فى دينهم ، إذا آمنوا إيماناً صحيحاً صادقاً ، وبرئوا من عقائدهم التى ابتدعوها ، وأصلحوا شأنهم ، وآمنوا بما أنزله الله على خاتم رسله ، ولزموا العمل الصالح ، كان سعيهم عند الله مشكوراً ، ووقاهم الله عز وجل من الخوف والحزن يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ثم زاد الله فى ترغيب هذه الفرق الثلاث فيما عنده بأن يجعل هذا الفضل للصابئين الذين خرجوا عن جميع الرسالات السماوية ، وإذا كان الله يقبل منهم إيمانهم إذا آمنوا ، ويثيبهم على عمل الصالحات. فإن الذين آمنوا واليهود والنصارى أولى بالقبول عند الله ، إذا آمنوا وعملوا الصالحات.
ومن أجل هذا خولف إعراب و " الصابئون " ليلفت الأذهان عند قراءة هذه الآية أو سماعها إلى الوقوف أمام هذه المخالفة ، وليتساءل القارئ أو السامع ما سبب هذه المخالفة ، ثم يقوده هذا التساؤل إلى الحصول على هذا المعنى الذى تقدم.
فهذه المخالفة أشبه ما تكون بالنبر الصوتى فى بعض الكلمات ، التى يراد لفت الأنظار إليها عند السامعين ؛ قالوا: والواو فى " والصابئون " ليست لعطف المفردات على نظائرها ، وإنما هى لعطف " الجمل " و" الواو " التى تعطف جملة على أخرى لا تعمل فى مفردات الجملة المعطوفة ، لا رفعاً ولا نصباً ولا جراً. بل تربط بين الجملتين المعطوفة والمعطوف عليها فى المعنى دون الحركات الإعرابية.
ولهذه الآية نظائر فى مخالفة إعرابها لما قبلها اتخذ منها خصوم القرآن منشأ لشبهات مماثلة وسيأتى الحديث عنها كلا فى موضعه إذا شاء الله تعالى.
والخلاصة:
إن هذه الآية: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر (تخلو من أى خطأ نحوى أو غير نحوى. بل هى فى غاية الصحة والإعجاز ، وقد بينا وجوه صحتها ، والمعانى البيانية التى ألمح إليها رفع " الصابئون " وهؤلاء الذين يلحدون فى آيات الله لا دراية لهم بالنحو ولا بالصرف ولا بالبلاغة ، وليسوا هم طلاب حق ، ولا باحثين عنه ، والذى سيطر على كل تفكيرهم هو البحث " عن العورات " فى كتاب لا عورات فيه بل هو أنقى وأبلغ وأفصح وأصح ، وأصدق بيان فى الكون كله ، ولا يأتوننا بمثل إلا جئناهم بالحق وما هم بسابقين.
__________
(1) المائدة: 69.
(2) انظر: الدر المصون للسمين الحلبى (4/354).
(3) البيتان فى ديوانه (66) والكتاب لسيبويه (1/475).
(4) الضمير فى " به " عائد على " الصابئون " يعنى أن حقه أن يذكر بعد النصارى ، ولكنه قُدِّم من تأخير.
(5) الكشاف (1/630).
(6) فتح القدير (2/71).
(7) انظر: تفاصيل هذه الآراء وشواهدها ومناقشتها فى " الدر المصون " للسمين الحلبى (4/352) وما بعدها.
(8) انظر: المصدر السابق (4/360).
(9) بعض العلماء يفسر " الذين آمنوا " فى الآية بأنهم المنافقون لأنهم غير مؤمنين فى الباطن. والأصوب ما أثبتناه ، وهو أن المراد هم الذين آمنوا فعلاً ، ويكون المطلوب منهم أمرين ثباتهم على هذا الإيمان. ثم إدامة عمل الصالحات. كما فى قوله تعالى:(يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله (النساء: 136. أى: دوموا على إيمانكم.
13- نصب المعطوف على المرفوع
وتكلموا على هذه الشبهة فى آيتين:
الأولى:
هو قوله تعالى: (لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً ) (1).
نظروا فى هذه الآية، فوقعت أعينهم على كلمة " المقيمين " فقارنوا بينها وبين ما قبلها: " الراسخون " ـ " المؤمنون " وبين ما بعدها " المؤتون " ـ " المؤمنون " فوجدوا ما قبلها وما بعدها مرفوعاً بـ " الواو " لأنه جمع مذكر سالم ؛ أما " المقيمين " فوجدوها منصوبة بـ " الياء " لأنها كذلك جمع مذكر سالم.حقه أن يرفع بـ " الواو " ينصب ويجر بـ " الياء ". وسرعان ما صاحوا وقالوا إن فى القرآن خطأ نحوياً من نوع جديد ، هو " عطف المنصوب على المرفوع ، أو نصب المعطوف على المرفوع ". ثم علقوا قائلين:
" وكان يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع فيقول: " والمقيمون الصلاة " ، هذا هو مبلغهم من الجهل ، أو حظهم من العناد وكراهية ما أنزل الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم .
الرد على الشبهة:
هذه الآية وردت فى سياق الحديث عن اليهود تنصف من استحق الإنصاف منهم ، بعد أن ذم الله تعالى من عاند منهم ، وحاد عن الحق ، فى الآيات التى سبقت هذه الآية.
ومجىء " المقيمين " بالياء خلافاً لنسق ما قبله وما بعده لفت أنظار النحاة والمفسرين والقراء ، فأكثروا القول فى توجيهه ـ مع إجماعهم على صحته.
وقد اختلفت أراؤهم فيه وها نحن نقتصر على ذكر ما قل ودل منها فى الرد على هؤلاء الكارهين لما أنزل الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ولن نذكر كل ما قيل توخياً للإيجاز المفهم.
وأشهر الآراء فيها أن " المقيمين " منصوب على الاختصاص المراد منه المدح فى هذا الموضع بدلالة المقام ؛ لأن المؤدين للصلاة بكامل ما يجب لها من طهارة ومبادرة وخشوع وتمكن ، جديرون بأن يُمدحوا من الله والناس.
يقول الإمام الزمخشرى:
" و " المقيمين " نُصِبَ على المدح ، لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً فى خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم فى النصب على الاختصاص من الافتنان " (2).
الزمخشرى أوجز كلامه فى الوجه الذى نُصب عليه " المقيمين " وهو الاختصاص مع إرادة المدح (2).
الاختصاص هو مخالفة إعراب كلمة لإعراب ما قبلها بقصد المدح كما فى هذه الآية ، أو الذم. ويسمى الاختصاص والقطع.
ومع إيجازه فى عبارته كان حكيماً فيها ، ومن الطريف فى كلامه إشارته إلى خطأ من يقول إن نصب " المقيمين " لحن فى خط المصحف ـ لا سمح الله ـ ثم وصفه بالجهل بمذاهب العرب فى البيان ، والتفنن فى الأساليب ، وكأنه ـ رحمه الله ـ يتصدى للرد على هؤلاء الطاعنين فى القرآن ، الذين نرد عليهم فى هذه الرسالة.
والرأى الذى اقتصر عليه الإمام الزمخشرى هو المشهور عند النحاة والمفسرين والقراء.
وقد سبق الزمخشرى فى هذا التوجيه شيخ النحاة سيبويه وأبو البقاء العكبرى (4).
وهذا الاختصاص أو القطع بيان لفضل الصلاة التى جعلها الله على الناس كتاباً موقوتاً ، وأمر عباده بإقامتها والمحافظة عليها فى كثير من آيات الكتاب العزيز ومثَّلها رسوله صلى الله عليه وسلم ـ كما فى صحيحى البخارى ومسلم ـ بالنهر ، الذى يستحم فيه المكلف فى اليوم خمس مرات ، فيزيل كل ما علق بجسمه من الأدران والأوساخ ، وكذلك الصلوات الخمس فإنها تمحو الخطايا ، وتزيل المعاصى كما يزيل الماء أدران الأجسام.
أما الآراء الأخرى فكثيرة ، ولكنها لا تبلغ من القوة والشيوع ما بلغه هذا الرأى ، وهو النصب على الاختصاص أو القطع.
وقد أوردوا عليه شواهد عدة من الشعر العربى المحتج به لغوياً ونحوياً. ومن ذلك ما أورده سيبويه:
ويأوى إلى نسوة عُطَّلٍ
وشُعْثاً مراضيع مثل الثعالى
ومنها قول الخرنق بنت هفان:
لا يبعدنْ قومى الذين همو
سًمُّ العداة وآفة الجزْر
النازلين بكل معتركٍ
والطيبون معاقد الأُزْر (5)
والشاهد فى هذه الأبيات ، نصب " شُعثا " فى البيتين الأوليين وهو معطوف على مجرور " عُطَّلٍ ".
والشاهد فى البيتين الآخرين نصب " النازلين " وهو معطوف على مرفوع ، وهو " سمُّ العداة ".
هذا ، وقد قلنا من قبل إن القرآن غير مفتقر إلى شواهد من خارجه على صحة أساليبه ، ومع هذا فإن ورود هذه الشواهد نرحب به ولا نقلل من شأنه ، ومنهم من جعل " المقيمين " مجروراً لا منصوباً ، وقال إن جره لأنه معطوف على الضمير المجرور محلاً فى " منهم " والمعنى على هذا:
لكن الراسخون منهم والمقيمين الصلاة.
وبعضهم قال إنه مجرور بالعطف على الكاف فى " أنزل إليك " وبعضهم قال إنه مجرور بالعطف على " ما " فى " بما أنزل إليك ".
أو هو مجرور بالعطف على " الكاف " فى " قبلك " (6).
والخلاصة:
إن الذى ينبغى الركون إليه ـ لقوته ـ هو الرأى الأول ، المنسوب إلى سيبويه وأبى البقاء العكبرى والزمخشرى وابن عطية ، أما ما عداه من آراء فلا تخلو من التكلف أو الضعف.
أما النصب على الاختصاص فلا مناص من قبوله ؛ لأنه أسلوب شائع فى الاستعمال اللغوى العربى ، وفيه من البلاغة أمر زائد على مجرد التوجيه النحوى ، الذى لا يتجاوز بيان عامل النصب أو الجر.
الثانية:
قوله تعالى: (.. والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس ) (7).
وشاهدهم على هذه الشبهة هو قوله سبحانه: " والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس " لأنه جاء منصوباً بـ " الياء " بعد قوله تعالى: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ".
وكان يجب أن يرفع المعطوف ـ يعنى: الصابرين ـ على المرفوع ـ يعنى: الموفون ـ فيقول: والموفون والصابرون "، هذا قولهم.
الرد على الشبهة:
يُحسن بنا أولاً أن نذكر هذه الآية بتمامها لننظر فيها نظرة جُملية قبل مواجهة ما آثاره الخصوم حولها:
(1) (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين).
(2) (وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب).
(3) (وأقام الصلاة وآتى الزكاة).
(4) (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا).
(5) (والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
ترى أننا وزعنا كلمات هذه السورة على وحدات كل وحدة منها تضم معانى وقيماً متجانسة.
الوحدة الأولى: قيم إيمانية تنتظم تحت مفهوم العقيدة وهى: الإيمان بالله ، وباليوم الآخر ، وبالملائكة ، وبالوحى ، ثم بالأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم .
والوحدة الثانية: تنتظم عناصرها تحت مبدأ " الإنفاق المالى الحر (غير الزكاة) ويبين الله فيها الصفات التى تتحقق فى المنفق عليه ، وهم:
- ذوو القربى من النسب.
- اليتامى مهما تباعدت صلتهم عن المنفق.
- المساكين ، الذين ليس لهم مصدر رزق كسبى ، إما لعدم وجود عمل ، أو لعجز عنه.
- الغرباء الذين تعوزهم الحاجة فى السفر ، وليس معهم مال وإن كانوا أغنياء فى بلادهم.
- المحتاجون ـ حقاً ـ الذين يستعطفون الناس لسد حاجتهم فى غير معصية.
- عتق الرقاب من الرق ، إما تطوعاً ، أو كاتب السيد عبده على مقدار من المال ليصير حراً.
والوحدة الثالثة: يندرج عنصراها: الصلاة والزكاة تحت ركنين عمليين من أركان الإسلام ، والزكاة إنفاق واجب ، وليس حراً.
والوحدة الرابعة: هى حسن المعاملة مع الناس بوفاء الوعد العهد.
والوحدة الخامسة: تنتظم عناصرها تحت مبدأ الصبر الجميل فى كل عمل خير يؤديه المكلف ، وبخاصة فى الشدائد والمحن وملاقاة العدو.
أما الوحدة السادسة: فهى بيان فضل هؤلاء المذكورين فى الآية ، وبخاصة ما ذكر قبل الفاصلة مباشرة ، ومنزلتهم عند الله:
" أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ".
وإذا تأملت هذه الوحدات ، وعناصرها المندرجة تحتها ، وجدت أن أشدها وقعاً على النفس ، وأكثرها أعباء ، وأشقها كلفة ، هى الصبر فى المحن والشدائد والأخطار ، وبخاصة فى ملاقاة العدو ، والتعرض لزحفه وسلاحه ، وقد يفضى بالإنسان إما إلى حدوث عاهات مؤلمة فى الجسم ، وإما إلى الموت. فالمقاتل فى ساحات الكر والفر إنما يصارع الموت ، ومقدمات الموت.
ولهذا جاء إعراب " الصابرين " مخالفاً لإعراب ما قبلها ، ليلفت الله أذهان العباد إلى أهمية الصبر فى هذه المجالات ، وهذا الإعراب المخالف لما قبله يفيد مع تركيز الانتباه ، وتوفير العناية بتأمُّل هذا الخلق العظيم ، يفيد أمراً آخر مبهجاً للنفوس ، هو مدح هؤلاء الصابرين شديدى العزيمة ، قويى الاحتمال.
فانظر إلى نفائس هذه المعانى ، التى دل عليها نصب " الصابرين " مع كون ما قبله مرفوعاً. إنها بلاغة القرآن المعجز ، وعبقرية اللغة العربية لغة التنزيل الحكيم.
وهذا الإعراب المخالف لإعراب ما قبله ، هو الذى يسميه النحاة واللغويون بـ " القطع " كما تقدم فى نظيريه فى هذه الدراسة ، إما للمدح كما فى هذه الآية ، وآية النساء " والمقيمين الصلاة " وقد تقدمت.
وإما بقصد الذم ، كما فى قوله تعالى فى سورة المسد " وامرأته حمالةَ الحطب " أى امرأة أبى لهب التى كانت تحمل الشوك وتنثره فى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤذيه. لأن كلمة " حمالة " جاءت منصوبة بعد رفع ما قبلها ، وهى " امرأتُه " فهذا قطع كذلك ، القصد منه الذم ، أى: أذم أو ألعن حمالة الحطب.
وأياً كان القطع للمدح أو الذم ، فإنه من أرقى الأساليب البلاغية ، يحتوى على فضيلة الإيجاز وهى أن تكون المعانى أكثر وأوفر من الألفاظ التى تدل عليها ، أو المستعملة فيها ، لأن كل كلمة قُطِعَ إعرابها عما قبلها نابت هذه الكلمة مناب ثلاثة قيم بيانية ، رامزة إلى وجودها فى المقام ، وإن كانت محذوفة وهى:
1 ـ الكلام الذى عمل الإعراب المخالف فى الكلمة المقطوع إعرابها عن إعراب ما قبلها ، وهو فى " الصابرين " أمدح أو أخص الصابرين بالمدح. وفى آية " المسد " أذم أو ألعن.
2 ـ إفادة المدح أو الذم بغير الألفاظ التى تدل عليهما.
3 ـ فضيلة الإيجاز البيانى المفعم بالمعانى الآسرة والدلالات الساحرة. فسبحان من هذا كلامه !
والخلاصة:
بعد هذا البيان الموجز ، وإن طال ، لا أرانا فى حاجة إلى ذكر توجيهات النحاة والمفسرين وعلماء القراءات واللغويين ، لمجئ " الصابرين "
منصوباً بعد مرفوع فى هذه الآية ، لأن توجيهاتهم ـ هنا ـ مثل توجيهاتهم هناك ، ولسنا فى حاجة كذلك إلى الاستشهاد بالمأثور عن العرب الذين يحتج بكلامهم على قواعد اللغة ، وطرائق استعمالاتها ، لسنا فى حاجة إلى ذلك ، وإن كان مفيداً ، لأن القرآن الكريم حُجة فى نفسه ، غير مفتقر لإقامة الدليل من خارجه على صحة شىء فيه ، فهو النموذج الممتاز الأعلى للغة العربية ، قواعدها ، ونحوها ، وصرفها ، وبيانها ، وبلاغتها. وحسبنا فى هذه الآية المعانى التى أمطنا عنها اللثام فى مجىء " الصابرين " منصوباً بعد مرفوع.
__________
(1) النساء: 162.
(2) الكشاف (1/582).
(3) الكتاب (1/248).
(4) إملاء ما من به الرحمن (1/202).
(5) انظر: فى هذه الشواهد الدر المصون (4/154).
(6) انظر: الدر المصون (4/155).



الرد على: شبهات المشككون - فلسطيني كنعاني - 11-20-2010

اعتقد من ناحية لغوية أنها شبهات المشككين ....


RE: الرد على: شبهات المشككون - حنيفا على الفطرة - 11-23-2010

(11-20-2010, 03:00 PM)فلسطيني كنعاني كتب:  اعتقد من ناحية لغوية أنها شبهات المشككين ....

صح صح مشككين و ليس مشككون.... مشكور الزميل فلسطيني كنعاني و أسف على الخطأ مني
و ليت الأدارة تصلح العنوان الى شبهات المشككين
لاني لا أستطيع التعديل


RE: شبهات المشككون - حنيفا على الفطرة - 12-25-2010

14- نصب الفاعل
هذه شبهة خفيفة الوزن ، تدل على أمرين راسخين فيهم:
الأول: جهلهم الفاضح بقواعد اللغة العربية.
الثانى: تهافتهم الأعمى على تصيُّد الشبهات ، والبحث عن العيوب والنقائص.
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماماً ، قال: ومن ذريتى قال لا ينال عهدى الظالمين ) (1).
اطلعوا على هذه الآية فى المصحف الشريف ، ووقع بصرهم على كلمة " الظالمين " وصورت أوهامهم أن فيها خطأً نحوياً ؛ لأنها عندهم فاعل ، والفاعل حكمه الرفع لا النصب ، فكان حقه أن يكون هكذا.
لا ينال عهدى الظالمون ، لأنه جمع مذكر سالم ، وعلامة رفعه " الواو " وبهذا تخيلوا ، بل توهموا أن القرآن لا سمح الله قد أخطأ فنصب الفاعل " الظالمين " ولم يرفعه " الظالمون " ؟! هذا هو منشأ هذه الشبهة.
الرد على الشبهة:
الفعل " نال " فعل متعدٍ إلى مفعول واحد ، قال الله تعالى:
(ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً ) (2).
الفاعل " واو الجماعة " والمفعول " خيراً ".
أما فى هذه الآية التى اتخذوها منشأ لهذه الشبهة " لا ينال عهدى الظالمين " فالفاعل هو " عهدى " ، مرفوع بضمة مقدرة ، منع من ظهورها اشتغال المحل (3) بحركة المناسبة ل " ياء " المتكلم ، والمفعول به هو " الظالمين " وعلامة نصبه هى " الياء " لأنه جمع مذكر سالم ، ينصب ويجر ب " الياء " والمعنى: لا ينفع عهدى الظالمين. ومجئ " الظالمين " منصوباً هو قراءة الجمهور من القراء.
وليس فى مجئ " الظالمين " منصوباً على المفعول به خلاف بين العلماء. بل إنهم نصوا على أن خواص الفعل " نال " أن فاعله يجوز أن يكون مفعولاً ، ومفعوله يجوز أن يكون فاعلاً ، على التبادل بينهما ، قالوا: لأن ما نالك فقد نلته أنت.
وقد جاء قوله تعالى: (لن ينال الله لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) (4).
على خلاف نسق آية البقرة ، التى نحن بصدد الحديث عنها. حيث كان الوالى للفعل فيها هو الفاعل " لا ينال عهدى والواقع بعد الفاعل هو المفعول " الظالمين ".
أما فى آية الحج فإن الذى ولى الفعل " لن ينال الله " هو المفعول ، وما بعده هو الفاعل " لحومُها ".
والمعنى: لن يصل الله لحومُها ولا دماؤها ، وكذلك قوله " ولكن يناله التقوى منكم " فالضمير فى " يناله " هو المفعول به ، أما " التقوى " فهى الفاعل.
__________
(1) البقرة: 124.
(2) الأحزاب: 25.
(3) المحل هنا هو " الدال " من " عهدى ".
(4) الحج: 37.
15- تذكير خبر الاسم المؤنث
الشبهة:
هو قوله تعالى: (ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين ) (1).
وموضع الشاهد عند المعترضين فى الآية الكريمة هو كلمة " قريب " وهى " خبر " اسم " إن " " رحمة ".
وحين نظروا فى نظم هذه الآية توهموا كذلك أن فيها خطأً نحوياً منشؤه عدم التطابق بين المبتدأ " رحمة " والخبر " قريب " فى التأنيث ، لأن المبتدأ " رحمت " مؤنث. أما الخبر " قريب " فهو فى الآية مذكر قالوا:
وكان يجب أن يتبع خبر " إن " اسمها فى التأنيث فيقال: قريبة.
الرد على الشبهة:
ذكر علماؤنا فى توجيه هذا " التذكير " الحاصل بحذف علامة التأنيث من الخبر ، عدة وجوه ، لا نريد أن نطيل بذكرها كلها ، لذلك نكتفى بما يرد كيد هؤلاء الطاعنين فى نحورهم.
- بعضهم يجعل " رحمة الله " فى معنى الغفران [ أو الرضوان ] فلذلك جاء الخبر " قريب " مذكراً.
وقد اختار هذا الرأى النضر بن شميل والزجاج (2).
* ومنهم من جعل " قريب " صفة لخبر محذوف مذكر تقديره: شىء أو أمر قريب ، ودليل هذا الحذف هو تذكير " قريب ".
* ومنهم من جعله من باب النسب ، أى ذات قرب ، كقولهم فى حائض: ذات حيض.
* ومنهم من جعل " قريب " مصدراً مستعملاً استعمال الأسماء مثل النقيق ، وهو صوت الضفادع. والضغيب وهو صوت الأرنب. والمصدر يُلتزم فيه
الإفراد وإن جرى على جمع ، والتذكير وإن جرى على مؤنث كما فى هذه الآية الكريمة.
* ويرى آخرون أن تأنيث " رحمة " لما كان تأنيثاً مجازياً لا حقيقياً جاز فى الاستعمال اللغوى تأنيث خبره وصفته ، وجاز تذكيرهما على حدٍ سواء. سواء كان فى ضرورة الشعر ، أو فى النثر.
وقال الحلبى تلميذ أبى حيان ، وهما من الأئمة الأعلام فى النحو:
" وهذا يجئ على مذهب ابن كيسان ، فإنه لا يقصر ذلك على ضرورة الشعر ، بل يجيزه فى السعة " (3).
وقال الفراء: " قريبة وبعيدة إما أن يراد بهما قرابة النسب أو عدمها فيؤنثها العرب ليس إلا ، كقولهم: فلانة قريبة منى أى فى النسب وبعيدة منى أى فى النسب. أما إذا أريد بها القرب المكانى أو الزمانى فإنه يجوز الوجهان ؛ لأن قريباً وبعيداً قائم مقام المكان أو الزمان ، فتقول:
فلانة قريبة وقريب ، وبعيدة وبعيد ، والتقدير هى فى مكان قريب وبعيد. قال الشاعر:
عشية لا عفراء منك قريبة
فتدنو ولا عفراء منك بعيد " (4)
يعنى أن الشاعر جمع بين الوجهين التأنيث والتذكير والموصوف مؤنث ؛ لأن " قريب " و " بعيد " أريد بهما القرب فى المكان والبعد فيه.
والآية الكريمة ليس القرب المذكور فيها مراداً به قرب النسب فيلزم تأنيثه ، وإنما المراد قرب الزمان ، والعرب تجيز فيه الوجهين: التأنيث والتذكير.
ولأمرئ القيس ، وهو من شعراء الجاهلية ، وشعرهم حُجة فى إثبات اللغة ، بيت نحا فيه هذا المنحى ؛ فقال:
له الويل إن أمسى ولا أم سالم
قريب ، ولا البسباسة ابنته يُشكرا (5)
والشاهد فى البيت تذكير " قريب " مع جريانه على مؤنث " أم سالم " وهو نظير " قريب " فى الآية الكريمة.
والخلاصة:
رأينا فى الرد على هذه الشبهة أن القرآن الكريم لم يخرج عن سنن البيان العربى حين ذكَّر " قريب " فى الآية ، وهى مجراة على مؤنث مجازى غير حقيقى " رحمة الله ".
وكان أصح وأثبت ما ذكرناه فى الرد على خصوم القرآن ، هو ما قاله الفراء رحمه الله ، من أن العرب كانوا يفرقون بين القرب والبعد من النسب وبين القرب والبعد فى المكان والزمان:
فالأول: يلتزم فيه تأنيث ما جرى خبراً أو صفة لمؤنث.
أما الثانى: وهو القرب والبعد فى المكان والزمان فإنهم يجيزون فيه الوجهين: التأنيث والتذكير ، وقد ذكر رحمه الله بعض الشواهد الشعرية لشعراء هم حُجة فى إثبات اللغة ، وطرائق استعمالاتها. وبهذا تظهر براءة القرآن الناصعة مما حاول خصومه إلصاقه به من خطأ.
__________
(1) الأعراف: 56.
(2) وعلى هذا يكون التذكير قرينة على صحة حمل " رحمة الله " على غفران الله ، أو رضوانه. انظر: معانى القرآن للزجاح (2/380).
(3) يعنى فى النثر دون اشتراط ضرورة تدعو إليه. انظر: الدرر المصون (5/345).
(4) معانى القرآن (2/382) والبيت لعروة بن حزام. وقد أورده للغرض نفسه أبو حيان فى البحر (4/313).

16- تأنيث العدد ، وجمع المعدود
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطاً أمماً وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرِب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم.. ) (1).
وشاهدهم على اللغط بهذه الشبهة هو قوله عز وجل " اثنتى عشرة أسباطاً أمماً " والصواب الذى توهموه عبروا عنه بقولهم:
" كان يجب أن يُذَكَّر العدد ، ويأتى بمفرد المعدود فيقول: اثنى عشر سبطا ".
الرد على الشبهة:
وجَّه النحاة تأنيث العدد فى الآية بأن السبط فى بنى إسرائيل كالقبيلة عند العرب. يعنى أنه أراد بالأسباط القبائل ، ولذلك أنث جزئى العدد المركب ، وهما: اثنتى ، وعشرة (2).
هذا وجه ، ووجه آخر هو تأويل السبط بالجماعة أو الفرقة أو الطائفة.
أما جمع أسباط ، وكان حقه أن يفرد فقد روعى فيه المعنى دون اللفظ ، ومراعاة المعنى دون اللفظ ، أو اللفظ دون المعنى كثير الورود فى النظم القرآنى ، ويبدو أن هؤلاء الطاعنين فى سلامة القرآن من كل خطأ يجهلون هذه الأساليب فى القرآن خاصة ، وفى اللغة العربية عامة ، ويتشبثون بظواهر العبارات حباً فى ترويج ما يريدون ترويجه من الشبهات الواهية وكان العرب النازل بلغتهم القرآن يذكِّرون عدد المؤنث مراعاة للفظ فيقولون: ثلاثة أنفس ، أى رجال ويقولون عشر أبطن.
ففى الأول " ثلاثة أنفس " ذكَّروا العدد نظراً للمعنى ؛ لأن المعدود مذكر " رجال " وفى الثانى أنثوا العدد " عشر أبطن " لأن المعدود هو القبيلة أى عشر قبائل. وهذا باب واسع لا تحصر شواهده (3). أما جمع المعدود الذى فى الآية " أسباطاً أمماً فله نظائر فى الاستعمال المأثور الوارد عن العرب ومنه قول الشاعر:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سُوداً كخافية الغراب الأسحم
فقد وصف الشاعر " حلوبة " وهى مفرد ، بقوله " سُوداً " وهو جمع سوداء.
ولهذه.. الشواهد نظائر من المأثور عن العرب الخلَّص.
والخلاصة:
فقد طاحت هذه الشبهة ، وانمحت آثارها ، كما طاحت نظائرها من قبل. ومن الدلائل القوية على صحة تأنيث العدد ، فوق ما تقدم ، أن بعض النحاة أضاف إلى بدلية " أمما " من " أسباطا " أن " أمما " وقعت نعتاً ل " أسباطا " و " أمماً " مؤنثة لفظاً. وسواء كانت " أمماً " بدلاً من " أسباطاً " أو كانت نعتاً له. فإن الذى لا نزاع فيه أن المؤنث لا يبدل من المذكر ، ولا يقع نعتاً له. وهذا دليل قاطع على أن المراد من " أسباطاً " وإن كان مذكَّراً فى اللفظ ، معنى مؤنث لا محالة. ولذلك أنث النظم القرآنى جزئى العدد المركب " اثنتى عشرة ".
أما جمع المعدود " أسباطاً أمماً " وإن وجهه النحاة توجيهاً صائباً ، فقد بقى فى مجيئه جمعاً ملمح بلاغى دقيق ذلك الملمح نوضحه فى الآتى:
بدأت الآية الكريمة بهذا الفعل " قطَّعناهم " بتشديد " الطاء " على وزن " فَعَّل " وهذا التشديد يفيد التكثير ، أى كثرة التقطيع والتفريق. وهذا يناسبه بلاغة جمع " أسباطاً أمماً " لا إفرادهما ، والمعانى البلاغية من هذا النوع تزال من أجلها كل الموانع والسدود. ولغة القرآن وبلاغته أوسع من قواعد اللغة وفنونها البلاغية.
__________
(1) راف: 160.
(2) انظر: الدر المصون (5/485).

17- جمع الضمير العائد على المثنى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ) (1).
يقولون:
كان يجب أن يثنى الضمير العائد على المثنى ، فيقول: " خصمان اختصما فى ربهما " !.
الرد على الشبهة:
أشرنا من قبل إلى طريقتين من طرق التعبير اللغوى الفصيح ، وهما:
- طريقة مراعاة اللفظ.
- وطريقة مراعاة المعنى
فحيث جمع القرآن الضمير العائد على المثنى ، فهو من استعمالات الطريقة الثانية ، التى يراعى فيها جانب المعنى على جانب اللفظ.
وينبغى أن نعرف أن المثنى نوعان:
- مثنى حقيقى ، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ) (2).
ف " رجلان " مثنى حقيقى ؛ لأن واحده فرد فى الوجود ؛ أو ذات واحدة ؛ هذا هو المثنى الحقيقى. وإذا وُصِفَ أو استؤنف الحديث عنه وجب تثنية الضمير العائد عليه.
* أما النوع الثانى من المثنى ، فهو المثنى اللفظى ومثاله من القرآن قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) (3).
وهذا النوع من المثنى ضابطه أن واحده جمع فرد من عدة أفراد ، وليس فرداً واحداً.
والنوع الأول (المثنى الحقيقى) يسمى مثنى لفظاً ومعنى.
أما الثانى (المثنى غير الحقيقى) فيسمى مثنى فى اللفظ ، وجمعاً فى المعنى. وفى وصفه أو استئناف الحديث عنه يجوز أن يراعى فيه جانب اللفظ ، أو جانب المعنى.
ومنه ما ورد فى آية " الحج ": " هذان خصمان " لما كان معناه جمعاً روعى فيه جانب المعنى فقال عز وجل: " اختصموا فى ربهم " ومعروف أن مفرد الخصمين خصم ، وهو اسم جنس يندرج تحته - هنا - أفراد كثيرون وبهذا نزل القرآن فى هذه الآية ، فتحدث عن الخصمين بضمير " الجمع " الذى هو " واو الجماعة " " اختصموا " ثم بضمير الجماعة " هم " فى قوله تعالى: " فى ربهم ".
ونظيره فى القرآن قوله تعالى:
(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) (4). أعاد الضمير جمعاً " اقتتلوا " هذا فى جملة الخبر ، مع أن المبتدأ مثنى " طائفتان " وذلك لأن هذا اللفظ مثنى غير حقيقى ، بل هو مثنى فى اللفظ ، جمع فى المعنى.
وفى هذه الآية راعى النظم القرآنى المعجز المعنى فى جملة الخبر وحدها " اقتتلوا " ثم راعى اللفظ فى بقية الآية هكذا:
(فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما (.
وكلا المنهجين فصيح صحيح بليغ.
والذى سوَّغ مراعاة المعنى فى " اقتتلوا " وقوعه بعد جمعٍ ، هو " المؤمنين " ، وليس فوق ذلك درجة من الصحة والإصابة ، وإن كره الحاقدون.
والخلاصة:
أن " اختصموا " و " فى ربهم " الذوق السليم يشهد أن " اختصموا " أبلغ من اختصما ، وأن " ربهم " أبلغ من ربهما.
لأن " اختصموا " يفيد تبادل الخصومة بين جميع أفراد ال " خصمان " من أول وهلة ، وكذلك " ربهم ؛ إن ضمير الجمع فيه " هم " يفيد من أول وهلة ربوبية الله لكل فرد منهم.
والاختصام هو الحدث الرئيسى فى هذه الواقعة. فعُبِّر عنه بهذا اللفظ الفخم " اختصموا " ومحال أن يستقيم لو قيل بعده " فى ربهما " فسبحان من هذا كلامه ، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد.
__________
(1) الحج: 19.
(2) المائدة: 23.
(3) هود: 24.

18- الإتيان باسم الموصول العائد على الجمع مفرداً
منشأ هذه الشبهة:
ومنشأ هذه الشبهة - عندهم - قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ، وخضتم كالذى خاضوا أولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ) (1).
والشاهد - عندهم - فى الآية هو قوله تعالى: " وخضتم كالذى خاضوا " وآثرنا ذكر الآية بتمامها لأن الرد على هذه الشبهة يقتضى النظر فى الآية كلها لا فى الجزء الذى استشهدوا به وحده.
وكان تعليقهم على قوله عز وجل: (وخضتم كالذى خاضوا (هو قولهم: " وكان يجب أن يجمع اسم الموصول العائد على ضمير الجمع فيقول: (خضتم كالذين خاضوا (!
الرد على الشبهة:
هذه الآية - بتمامها - وردت فى سياق الحديث عن المنافقين ؛ لأن ما قبلها هو قوله عز وجل: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ) (2).
والآية مسوقة لتهديد المنافقين والكفار ، لعلهم يقلعون عما هم فيه من نفاق وكفر.
وقد أدير الحديث فيها على تشبيه المخاطبين (المنافقين والكفار) بالأمم الغابرة ، كانت أشد منهم قوة ، وأكثر مالاً وولدا ، وانغمسوا فى شهواتهم الفانية ، فسار المنافقون والكفار سيرتهم فركنوا إلى متع الحياة الدنيا الفانية ، ولم يبتغوا ما عند الله ، وأن المنافقين والكفار فعلوا كل ما فعله من قبلهم من المعاصى والسيئات.
ثم بين الله عز وجل أنهم الخاسرون فى الدنيا والآخرة فالذى معنا فى الآية فريقان:
- فريق سابق فى الزمن ، لم يكن موجوداً فى عصر نزول القرآن.
- فريق كان حاضراً فى عصر نزول القرآن ، وهم الذين خاطبهم الله فى هذه الآية الكريمة. وليس فى هذه الآية فريق ثالث تحدثت عنه الآية.
ومن هذا يتضح أن تعقيب خصوم القرآن على هذه الآية ، بأن الصواب أن يقال: " وخضتم كالذين خاضوا " فاسد من كل الوجوه ؛ لأن معنا فى الآية فريقان لا ثلاثة ، ولو قيل: " خضتم كالذين خاضوا " لانفكت رابطة الكلام ، ولبرز فى النظم طرف ثالث لا وجود له فى سياق الآية.
بيان ذلك:
أن المقارنة جرت فى الآية بين الفريقين " المنافقين والكفار " و " الأمم الغابرة ". ودارت المقارنة على هذا المنهج:
- فاستمتعوا بخلاقهم.
- فاستمتعتم بخلاقكم.
- كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم.
- وخضتم كالذى خاضوا.
والمعنى: وخضتم خوضاً مثل خوضهم (3).
فالذى فى الآية اسم موصول مفرد ، يعود على المصدر المفهوم من الفعل الماضى " خضتم " فشبه الله عز وجل خوض المنافقين بخوض الذين من قبلهم. وهذا هو النسق الذى دارت عليه المقارنة فى الآية تشبيه سلوك اللاحقين بسلوك السابقين من الأمم الغابرة ، التى عتت عن أمر ربها وعصت رسله.
واختار الإمام الشوكانى أن المعنى: " كالخوض الذى خاضوا " (4) ، ومن قبله قال الإمام الزمخشرى: " وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا " (5).
هذا هو الحق فى هذه العبارة ، لا كما قال خصوم القرآن الكارهون لما أنزل الله عز وجل.
__________
(1) التوبة: 69.
(2) التوبة: 68.
(3) انظر: الدر المصون (6/84).
(4) فتح القدير (2/433).

19- جزم الفعل المعطوف على المنصوب
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول ربِّ لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدَّق وأكن من الصالحين ) (1).
وشاهد هذه الشبهة - عندهم - هو قوله تعالى: " وأكن " لأنه محذوف الواو ساكن النون ، وهو فعل معتل الوسط بالواو (أجوف) ولا يحذف الواو منه إلا إذا سكن آخره ، ولا يسكن آخره إلا إذا كان مجزوماً ، ويجزم المضارع إذا دخل عليه جازم أو عطف على مجزوم.
ولما لم يدخل على الفعل - هنا - جازم ، ولم يتقدم عليه مجزوم يصح جزمه بالعطف عليه ، ساغ لخصوم القرآن أن يقولوا إن هذا الفعل " أكن " جزم مع أن المعطوف عليه منصوب ، وهو الفعل " فأصدق " وعلقوا على هذا فقالوا: " كان يجب أن ينصب الفعل المعطوف على المنصوب فيقال: " فأصدق وأكون ".
الرد على الشبهة:
لفتت هذه الآية أنظار النحاة والمفسرين ، وقد اختلفت توجيهاتهم لورود الفعل المجزوم مردوفاً على الفعل المنصوب ، مع اتفاقهم جميعاً على صحة هذا التركيب نحوياً لأن نظم القرآن مشهود له بالصحة من ألد خصومه الذين بلغوا الذروة فى الفصاحة والبلاغة ، وهم مشركو العرب ، حيث لم يُرو عنهم أنهم طعنوا فى القرآن فى صحة أساليبه ، وضروب تراكيبه ، والتسليم له بالسمو والرفعة فى هذا المجال.
فعلى كثرة ما اتهموه بأنه سحر ، أو شعر ، أو أساطير الأولين تملى على النبى صلى الله عليه وسلم بكرة وأصيلا لم يذكروا - قط - أن به أخطاء لغوية ، أو نحوية أو صرفية أو بيانية ، بل على العكس من ذلك نراهم أثنوا عليه على لسان الوليد بن المغيرة ، لما سمع من النبى صلى الله عليه وسلم الآيات الأولى من سورة " فصلت " حين نفى عنه كل عيب أو نقص فى أساليبه ونظمه المحكم البديع ولو كان ما يؤخذه خصوم القرآن - الآن - من الشبهات التى نعرض لها - هنا - حقاً لبادروا بإعلانها ، ولاتخذوها حرباً ضروساً ضده. وسكوتهم المطبق عن ذكر عيوب من هذا القبيل تسليم منهم له بالسلامة من جميع الأخطاء ، وهذه هى عقيدة الأمة وكل العقلاء المنصفين ، وقد أشرنا من قبل إلى أن القرآن أوسع من قواعد اللغة وأسمى من أساليب البيان المعروفة عند البشر فإذا ورد فيه شىء على غير قاعدة نحوية أو صرفية معروفة لدى الناس ، فليس معناه أن القرآن قد أخطأ أو سها. لأن القرآن نفسه مصدر من مصادر إثبات اللغة فى نفسها وفى طرق استعمالاتها.
فما جاء منه على ما نعرفه أو نألفه من القواعد فلا مشاحنة فيه. وما جاء على غير ذلك وجب الإيمان بصحته ، وعلينا أن نجتهد فى التماس العلة فيه ، فإن أدركناها فالحمد لله وإلا فوضنا الأمر فيها لله ، كما هو فى بعض المتشابهات القرآنية من الألفاظ والمعانى ، كما قال عز وجل: (هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ) (2).
وبعد هذه الوقفة الكاشفة الشافية نعود إلى ما قاله النحاة والمفسرون فى توجيه مجىء الفعل المجزوم مردوفاً على الفعل المنصوب فى الآية الكريمة ، التى اتخذ منها الذين فى قلوبهم زيغ وسيلة للطعن فى القرآن ، ابتغاء الفتنة:
وجّه الإمام الزمخشرى مجئ الفعل " وأكن " مجزوماً مردوفاً على الفعل المنصوب " فأصدق " بأن قوله تعالى " لولا أخرتنى.. " فى محل جزم لتضمنه معنى الشرط ، فكأنه قيل: إن أخرتنى أصدقْ وأكن من الصالحين (3).
وكذلك قال ابن عطية (4) ، وأبو على الفارسى (5).
الخلاصة:
لم تكن هذه القراءة هى الوحيدة فى جزم الفعل " أكن " فقد قرأه أبو عمرو " وأكون " بالنصب عطفاً على " فأصدق ".
ونرى أن التوجيه بأن هذا الفعل مجزوم على تضمن عبارة التمنى " لولا أخرتنى إلى أجل قريب " أو على الشرط المقدر ب- " إن أخرتنى " هو توجيه سديد ، وقد سبق إلى القول به علمان من أئمة النحو ، هما الخليل وسيبويه (6).
والذى سوَّغ إيثار عبارة التمنى " لولا أخرتنى " على الشرط الصريح " إن أخرتنى " أن قائل هذه العبارة يقولها فى ساعة يملكه فيها اليأس من التأخير وهى ساعة حضور الموت ، والتمنى كما نعلم يستعمل فى طلب المحال أو المتعذر ، أما الشرط فيستعمل فى الأمور التى لا استحالة فيها ولا تعذر. فهو إذن من تبادل الصيغ وإحلال بعضها محل بعض لداع بلاغى. وقرينة إرادة الشرط من عبارة التمنى هو جزم الفعل " أكن " وسره البلاغى أن من حضرته الوفاة وهو مقصر فى طاعة الله تدفعه شدة الحاجة التى نزلت به إلى طمعٍ من نوع ما ، مما هو مستحيل أو متعذر الوقوع. ومما تقدم يظهر لنا استقامة العبارة القرآنية وبُعْدها عن كل خلل ، ووفاؤها بالمعنى المراد نحواً وبياناً.
__________
(1) المنافقون: 10.
(2) آل عمران: 7.
(3) الكشاف (4/112).
(4) المحرر الوجيز (16/23).
(5) الحجة فى القراءات (4/386).

20- جَعْلُ الضمير العائد على المفرد جمعاً
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون ) (1).
ذكروا هذه الآية ، ووقفوا عند قوله تعالى: (الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ) (ذهب الله بنورهم (وعلقوا عليه قائلين: وكان يجب أن يجعل الضمير العائد على المفرد مفرداً ، فيقول: " استوقد ـ ذهب الله بنوره " !.
الرد على الشبهة:
هذه الآية مضروبة مثلاً لبيان حال المنافقين فى تذبذب أحوالهم وتقلبهم فى مواقفهم ، وانتهازهم الفرص السانحة لتحقيق أغراضهم الدنيوية. وعدم ثباتهم على مبدأ خلقى قويم ، وقد تقدم على هذه الآية آية أخرى تصف سعيهم الضال ، وإيثارهم منافع الدنيا العاجلة الفانية ، على ما عند الله ـ عز وجل ـ مقضياً عليهم بالخسران المبين ، وهى قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) (2).
ثم استأنف القرآن الحديث عنهم فى: (مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون (.
والمثل ـ بفتح الثاء ـ هو الشأن والقصة الغريبة التى يكون عليها المتحدث عنه ، وهو ـ هنا ـ المنافقون ، مَثَّلَ الله حالهم وشأنهم الذى هم عليه ، وقصتهم الغريبة الراسخة فى طباعهم بمثل رجل ، أو فريق من الناس طلب إيقاد نارٍ للانتفاع بها فى تحقيق الرؤية ، وإبصار الطريق للسير فيه ، فلما أضاءت النار ما حوله وفرح بها سرعان ما أطفاها الله فأظلمت عليه الدنيا ، فوقع فى حيرة وارتباك.
وجمع الضمير فى " بنورهم " ليس عائداً على " الذى " المفرد المذكور فى (كالذى استوقد ناراً (، وقد وجَّه النحاة جمع الضمير بعد " الذى " فقالوا: إن الذى ليس بمعنى المفرد ، بل هو بمعنى " الذين " وذكروا أن " الذى " فى الاستعمال اللغوى له معنيان:
الأول: أن يكون بمعنى المفرد ، وهو الغالب والكثير فيه.
والثانى: أن يكون بمعنى الجمع ، ويُفرَّق بينهما بالقرائن ، ففى الآية التى معنا: " الذى " بمعنى الفريق أو الفوج الذى استوقد النار.
هذا رأى فى توجيه رد الضمير جمعاً على " الذى " وقد عبروا عن هذا بقولهم: أراد بالذى جنس المستوقد ، لا فرداً معيناً (3).
ويرى الإمام الزمخشرى أن " الذى " هو ـ هنا ـ "الذين " حذفت منه " النون " لاستطالته ، وهو مثل " وخضتم كالذى خاضوا " وليس فى الكلام تشبيه الجماعة بالواحد على هذا التأويل ، وأن المشبه هو حال المنافقين ، بحال الذى استوقد ناراً. تشبيه معنى مركب بمعنى مركب ، وليس تشبيه ذوات المنافقين بذات الذى استوقد ناراً ، فهذا غير مقصود ، وإنما المقصود هو تشبيه قصة المنافقين المضروب لها المثل ، بقصة المستوقد للنار ، وأن وجه الشبه بين القصتين هو: " فبقوا خابطين فى ظلام ، متحيرين متحسرين على فوت الضوء ، خائبين بعد الكدح فى إحياء النار " (4).
ويقول الإمام الشوكانى:
و " الذى " موضوع موضع الذين ، أى كمثل الذين استوقدوا ، وذلك موجود فى كلام العرب ، كقول الشاعر:
وإن الذى حانت بفلج دماؤهم
همُ القوم ، كل القوم ، يا أم خالد
ومنه " وخضتم كالذى خاضوا " و " والذى جاء بالصدق وصدَّق به ، أولئك هم المتقون " (5).
والخلاصة:
بعد هذا العرض لأئمة النحاة والمفسرين يتضح جلياً أن الاستعمال القرآنى فى " مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم " استعمال عربى فصيح فى غاية الفصاحة ، وله شواهد فى كلام العرب المحتج بكلامهم ، وإن كان القرآن غنياً عن الاستشهاد من خارجه على عروبته وسلامته من كل خطأ ؛ لأنه من أصح مصادر اللغة العربية ، ومع هذا فإن ما قاله الأئمة الأعلام يحيل شبهة هؤلاء المتطاولين على كتاب الله العزيز هباءً منثوراً ، هذا هو دور النحو فى إبطال هذه الشبهة ، وللبلاغة دور مهم فى الرد عليهم نلخصه فى الآتى:
إن المثل فى الآية مسوق أساساً لتمثيل شأن المنافقين ، أما قوله تعالى: " كمثل الذى استوقد ناراً " ، فأمر عارض اقتضاه مقام الحديث عن تمثيل حال المنافقين فهو أشبه ما يكون بالجملة الاعتراضية ، لولا أنها مشبه به ، ولما أدت الدور المراد منها تحول الحديث إلى الأصل المسوق من أجله الكلام ، وبدأ هذا التحول من قوله تعالى: " ذهب الله بنورهم " فَجَمْعُ الضمير فى " بنورهم " منظور فيه إلى نظيره فى " مثلهم " فكان ضمير الجمع فى " بنورهم " مطابقاً أصالة لمقام الحديث أما " الذى استوقد ناراً " فصار مسكوتاً عنه بعد آداء دوره المراد منه.
وعلى هذا فإن التوجيه البلاغى لجمع الضمير فى " بنورهم " يغنى عن التوجيهات التى أبداها النحاة والمفسرون إذ لا معول فى التوجيه البلاغى على اعتبار " الذى " بمعنى الذين ، أو هو " الذين " حذف منه النون.
ومحال أن يستقيم ما قاله مثيرو هذه الشبهة أن الصواب هو إفراد الضمير فى " نورهم " لأنه لو قيل: ذهب الله بنوره وتركه فى ظلمات لا يبصر ، لتحول الكلام إلى غير المنافقين المضروب لهم المثل ، ولزالت كل الروابط بين صدر الآية وعجزها. وهذا لا يقول به عاقل.
__________
(1) البقرة: 17.
(2) البقرة: 16.
(3)انظر: أنوار التنزيل للإمام البيضاوى (1/30) وحاشية الشهاب على البيضاوى (1/365).
(4) الكشاف (1/199).
(5) فتح القدير (1/55).
21- الإتيان بجمع كثرة فى موضع جمع القلة
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون ) (1).
أخذوا من هذه الآية كلمة " معدودة " وتوهموا أن القرآن أخطأ فيها ؛ لأنها ـ عندهم ـ جمع كثرة ، والمقام الذى استعملت فيه يتطلب جمع القلة ، ثم علقوا قائلين:
" وكان يجب أن يجمعها جمع قلة ، حيث إنهم أرادوا القلة ، فيقول: أياماً معدودات ".
هكذا عبروا عن جهلهم ، وهم يحسبون ـ أو لا يحسبون ـ أنهم العلماء الأفذاذ الذين يعلمون ما لم يعلمه أحد ـ حتى الله ـ من شئون اللغة والبيان ، وهم ـ بحق ـ لا يكادون يفقهون حديثاً.
الرد على الشبهة:
هذه الآية نزلت تحكى قولاً قاله اليهود ، يكشف عن الغرور الذى ملأ أنفسهم ، فقد زعموا أنهم إذا دخلوا النار ، فإنها لا تمسهم إلا مساً خفيفاً ، وأنهم لن يُخلدوا فيها ، بل يقضون عدة أيام.
وهذا تطاول منهم ، لأن شئون الآخرة لا يعلمها إلا الله.
لذلك كذَّبهم الله ، وألزمهم الحُجة البالغة له عليهم وحصر مصدر هذا الذى ادعوه فى أمرين:
الأول: أن يكون عندهم من الله عهد بما قالوا ، والله لا يخلف عهده ، وهم فى الواقع لا عهد عندهم من الله يحدد فيه مدة مكثهم فى النار ، ودرجة العذاب الذى سيصيبهم فيها.
الثانى: أو هُمْ يفترون على الله عز وجل ، وماداموا ليس عندهم عهد من الله ، فهم ـ إذاً ـ كاذبون والذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.
أما مسألة الكثرة والقلة ، التى بنى عليها هؤلاء الكارهون لما أنزل الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ، فلا اعتبار لها هنا ، وهم وإن حفظوا شيئاً فقد غابت عنهم أشياء. ولذلك أوقعهم جهلهم فيما حاولوا أن يفروا منه ؛ لأنهم قالوا إن معدودة ، جمع كثرة ، واستعمال جمع الكثرة ـ هنا ـ خطأ ؟ ؛ لأن اليهود أرادوا جمع القلة ـ أى أنهم يمكثون فى النار أياماً قليلة. فجاء تعبير القرآن غير وافٍ بالمعنى الذى كانوا يقصدونه ، وكان الواجب على القرآن أن يقول: أياماً معدودات ، بدلاً من (أياماً معدودة (هذا هو قولهم ، وهو محض الخطأ لو كانوا يعلمون وذلك للاعتبارات الآتية:
فأولاً: لأن " معدودة " ليست جمعاً بل مفردًا ، ليست جمع كثرة ولا جمع قلة. وهؤلاء " العباقرة " جعلوها جمع كثرة ، بسبب جهلهم باللغة العربية ، لغة الإعجاز.
وثانياً: أن " معدودات " التى يقولون إنها الصواب وكان حق القرآن أن يعبر بها بدلاً من " معدودة " ظانين أن " معدودات " جمع قلة. وهى ليست جمع قلة كما توهموا ، فهى على وزن " مفعولات " وهذا الوزن ليس من
أوزان جموع القلة (2) بل من أوزان جموع الكثرة ولا ينفعهم قولهم إن اليهود أرادوا القلة ، لأن هذه القلة يدل عليها سياق الكلام لا المفردات المستعملة فى التركيب.
وثالثاً: إن هذا التعبير لا ينظر فيه إلى جانب قلة أو كثرة ، ولكن ينظر فيه من جانب آخر ليس عند هؤلاء الأدعياء شرف الاتصاف به ؛ لأنهم دخلاء على لغة الإعجاز والتنزيل.
هذا الجانب هو: معاملة غير العاقل معاملة العاقل أو عدم معاملته (3).
ووصف الأيام بـ " معدودة " فى ما حكاه الله عن اليهود هو وصف لها بما هو لائق بها ، لأن الأيام لا تعقل فأجرى عليها الوصف الذى لغير العقلاء ، وما جاء على الأصل فلا يسأل عنه ، ولكنهم لجهلهم المركب بلغة الإعجاز حسبوا الصواب خطأ ، والخطأ صواباً. لأنهم زجوا بأنفسهم فيما لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
أما معاملة غير العاقل معاملة العاقل ، فلها دواعٍ بلاغية لا يعرف عنها مثيرو هذه الشبهات كثيراً ولا قليلاً.
وهى فى النظم القرآنى من الكثرة بمكان ، ولا يعامل غير العاقل معاملة العاقل إلا بتنزيله منزلة العاقل لداع بلاغى يقتضى ذلك التنزيل.
وإذا كان القرآن قد عبَّر فى وصف " أياماً " فى آية البقرة هذه بـ " معدودة " وهو وصف غير العاقل جارٍ على الأصل ، فإنه عبَّر عن وصفها بـ " معدودات " فى موضع آخر ، هو قوله تعالى:
(ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون ) (4).
فكان ينبغى أن يسأل هؤلاء عن اختلاف التعبير فى الموضعين بدل أن يخطِّئوا الصواب وهم جاهلون. وها نحن نضع بين أيديهم الحق ناصع البياض.
فى آية البقرة جاء وصف " أياماً " ـ " معدودة " بصيغة الإفراد ، وليس جمع كثرة كما زعموا.
وفى آية آل عمران جاء وصف " أياماً " ـ " معدودات " جمعاً لا إفراداً.
فلماذا ـ إذاً ـ اختلفت صيغة الوصف ، والموصوف واحد ، هو " أياماً " ؟
إذا قارنَّا بين الآيتين وجدنا آية البقرة مبنية على الإيجاز هكذا:
" وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة.. ".
ووجدنا آية آل عمران مبنية على الإطناب هكذا:
" ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ".
وازن بين صدر آية البقرة " وقالوا ".
وبين صدر آية آل عمران " ذلك بأنهم قالوا ".
تجد أن جملة " ذلك بأنهم " هذه العبارة اشتملت على اسم الإشارة الموضوع للبعيد ، الرابط بين الكلامين السابق عليه ، واللاحق به.
ثم تجد " الباء " الداخلة على " إن " فى " بأنهم ".
ثم " إن " التى تفيد التوكيد ، ثم ضمير الجماعة " هم ".
هذه الأدوات لم يقابلها فى آية البقرة ، إلا واو العطف " وقالوا " إذاً المقامان مختلفان ، أحدهما إيجاز ، والثانى إطناب.
وهذا يبين بكل قوة ووضوح لماذا كان " معدودة ". فى آية البقرة ؟ و " معدودات " فى آية آل عمران ؟
كان وصف " أياماً " فى آية البقرة " معدودة " لأن المقام فيها مقام إيجاز كما تقدم فناسب هذا المقام الإيجازى أن يكون الوصف موجزاً هكذا " معدودة ".
وكان الوصف فى آية آل عمران مطنباً " معدودات " بزيادة " الألف " ليناسب مقام الآية الإطنابى كما تقدم (5).
فانظر إلى هذه الدقائق واللطائف البيانية المعجزة التى عميت عنها مدارك " الخواجات " المتعالمين.
__________
(1) البقرة: 80.
(2) أوزان جموع القلة هى: فِعْلَة ـ أفْعَال ـ أفعُل ـ أفْعِلَة.
(3) غير العاقل هو ماعدا الإنسان من مخلوقات الله الأرضية.
(4) آل عمران: 24.

22-الإتيان بجمع قلة فى موضع جمع الكثرة
منشأ هذه الشبهة:
أما منشأ هذه الشبهة فهو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياماً معدودات ) (1).
والشاهد ـ عندهم ـ هو قوله عز وجل " معدودات " لأنهم يفهمون جهلا ـ أن " معدودات " جمع قلة ، وأن " معدودة " جمع كثرة ، وأيام الصيام فى شهر رمضان ثلاثون يوماً. فهى أيام كثيرة يناسبها جمع الكثرة عندهم وهو " معدودة " ولكن القرآن أخطأ فوضع كلمة جمع قلة عندهم ، موضع " معدودة " وهى جمع كثرة عندهم كما تقدم. ثم عقبوا على هذا فقالوا " وكان يجب أن يجمعها جمع كثرة ، حيث أن المراد جمع كثرة ، عدته ثلاثون يوماً ، فيقول: " أياماً معدودة ".
الرد على الشبهة:
سبق أن عدوا الأربعين جمع قلة ، وهنا جزموا بأن الثلاثين يوماً الرمضانية ، أو التسعة والعشرين يوماً جمع كثرة ، وأن القرآن أخطأ مرة أخرى حين عبَّر عنها بجمع القلة " معدودات " أليست هذه نادرة من نوادر الدهر ؟ كيف تكون الأربعون أقل من الثلاثين أو التسعة والعشرين ؟ هل هذا يصدر عن عاقل على وجه الأرض ؟
وما عدوه خطأً فى هذه الآية ، وهو قوله تعالى: " معدودات " فهو عين الصواب لغة وبياناً ، وقد أشرنا من قبل إلى أن معاملة غير العاقل معاملة العاقل أسلوب بلاغى رفيع المستوى ، وهو عند البلاغيين استعارة ، شبه فيها غير العاقل بالعاقل لداعٍ بلاغى ، يراعيه البليغ فى كلامه.
وكلمة " معدودات " فى وصف أيام الصيام أتى بها القرآن لخصوصية بيانية ، هى تعظيم شأن تلك الأيام ، حتى لكأنها لرفعة منزلتها عند الله عز وجل صارت من ذوى العقول ، وهى أوقات لا روح فيها كالأحياء العاقلين.
فليس المدار فيها اعتبار قلة ، أو كثرة ، بل المراد التنويه بفضلها ، وعلو منزلتها عند الله تعالى.
أما القلة فتفهم من سياق الكلام ، الذى حدد أيام الصيام بالشهر الواحد:
(شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (2).
ولهذا التنزيل مواضع أخرى كثيرة فى القرآن الكريم وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.
__________
(1) البقرة: 183-184.

23 - جَمْعُ اسمِ عَلَمٍ يجب إفراده
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين * إذْ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين * فكذبوه فإنهم لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه فى الآخرين * سلام على إلياسين ) (1).
موضع الشاهد على الشبهة عندهم هو " إلياسين " ولكنهم ـ لسوء قصدهم ـ اتبعوا طريقة حذف مزرية فى هذه الآيات ، وكان يكفيهم بدل هذه الحذوفات أن يقتصروا على " إلياسين " وحدها ، وقد يكون الداعى إلى ذكر ما ذكروا هو أن يقولوا إن القرآن تحدث عن " إلياس " والضمائر العائدة عليه حديث المفرد ، ثم عاد فجمع " إلياس " وهو علم مفرد ، جمع المذكر السالم المجرور بـ " الياء " ، هكذا " إلياسين " ، ثم علقوا على هذا الذى فهموه بقولهم:
" فلماذا قال " إلياسين " بالجمع عن " إلياس " المفرد ؟ فمن الخطأ لغوياً تغيير اسم العَلَم حباً فى السجع المتكلف.
وجاء فى سورة " التين " (والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الآمين ) (2).
فلماذا قال سينين بالجمع عن سيناء ؟ فمن الخطأ لغوياً تغيير اسم العَلَمَ حباً فى السجع المتكلف " ؟
هذا قولهم ، ذكرناه بالحرف الواحد. وكما يرى القارئ الكريم أن هذه الشبهة شبهتان: إحداهما فى " إلياسين " ، والثانية فى " سينين " وإن كان المقصود لهم من الشبهتين واحداً.
الرد على الشبهة:
عرض المفسرون واللغويون عدة توجيهات لمجىء إلياس على إلياسين ، فالإمام الزمخشرى قال مرة إن زيادة الياء والنون ربما كان له معنى فى اللغة السريانية ، وقال مرة إن إلياسين لغة فى إلياس ، كما أن إدريسين لغة فى إدريس ، وعلى هذا فإن " إلياسين " ليس جمعاً. وإذا كان جمعاً فإن المراد إلياس مضموماً إليه من آمن به من قومه ، كما قالوا الخبيبون والمهلبون ، فى الخبيب والمهلب أى تسمية الاتباع اسم المتبوع (3).
ويقوى هذا قراءة نافع وابن عامر وعلى: آل ياسين ، وياسين ، وأن " ياسين " هو أبو " إيليا " واحد (4) من أنبياء بنى إسرائيل.
ويرى هذا الرأى آخرون غير من تقدم ذكرهم (5).
ويرى باحث حديث أن " إلياس " هو " إيليا " أحد أنبياء بنى إسرائيل ، المذكور فى سفر الملوك الأول بهذا الاسم " إيليا " (6).
وأن أصله فى اللغة العبرية " إلياهو " أى " إيل + ى + ياهو:
أى إيلى ياهو ، أو يهو. ومعناه: الله إلهى أو الله ربى.
وأن مجيئه فى القرآن مرتين (إلياس) فى حالة المنع من الصرف للعلمية والعجمة. أما فى سورة الصافات فكان مجيئه مصروفاً هكذا " إلياسين " ، وأن علامة صرفه هى " التنوين " أما " الياء " فتولد عن إشباع الكسرة تحت " السين " أى أن أصله فى حالة الصرف " إلياسن " فلما أشبعت الكسرة صار " إلياسين " وأن المقتضى لصرفه هنا هو رؤوس الآى.
هذا فيما يختص بالشبهة الأولى. أما الشبهة الثانية وهى " طور سنين " فالرد عليها فى الآتى:
ليست " سينين " جمعاً كما توهم مثيرو هذه الشبهات ، الذين يقفون عند ظواهر الكلمات فإن وجدوا فيها ما يشبع رغبتهم فى التشفى من القرآن والتحامل عليه ملأوا الدنيا ضجيجاً ، وإن لم يجدوا ملأت قلوبهم الحسرة ، ورجعوا خائبين.. نعم ليست " سينين " جمعاً كما زعموا ، بل هى لغة فى "سيناء" بكسر السين ، كما أن " سَيناء " بفتح السين لغة فيها. وبهاتين اللغتين: سِيناء ، بالكسر ، وسَيناء بالفتح وردت القراءات ، فهى إذن فى القرآن لها ثلاثة لغات:
- سِيناء بكسر السين.
- سَيناء بفتح السين.
- وسِنيين ، بكسر السين وياءين ونونين.
كما أن البلد الحرام لها فى القرآن عدة أسماء(7):
- مكة
- بكة
- أم القرى
- البلد الأمين.
__________
(1) الصافات: 123-130.
(2) التين: 1-3.
(3) الكشاف (3/352).
(4) الدر المصون (9/328).
(5) معانى القرآن للفراء (2/391) وعلل القراءات (579).
(6) الإصحاح (16) الفقرات (31-33).



RE: شبهات المشككون - حنيفا على الفطرة - 12-25-2010

24- الإتيان بالموصول بدل المصدر
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين..(1)
وموضع الشاهد على الشبهة ـ عندهم ـ هو قوله عز وجل:
" من آمن بالله " وعلقوا عليه فقالوا: " والصواب أن يقال: ولكن البر أن تؤمنوا بالله ، لأن البر هو الإيمان لا المؤمن ".
الرد على الشبهة:
قالوا فى العنوان الذى وضعوه العبارة الآتية:
" أتى باسم الفاعل بدل المصدر ".
يقصدون قوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله ".
وليس فى هذا القول اسم فاعل على الإطلاق: فلا " البر " اسم فاعل ؟ ولا " من " اسم فاعل ؟ ولا " آمن " اسم فاعل ؟ ولا " الله " اسم فاعل ؟
وهم ـ قطعاً ـ يقصدون " من آمن " و " مَنْ " هذا اسم موصول ، وصلته " آمن " أى الذى آمن فمن أين أتوا باسم الفاعل الموضوع موضع المصدر فى الآية يا ترى ؟
إنهم أتوا به من دائرة جهلهم الواسعة ببدهيات اللغة ، التى هم أميون فيها ، ومع هذا ينصبُّون أنفسهم قضاة على كتاب الله العزيز ذروة البيان المعجز ، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكان يجب عليهم أن يلتحقوا بمدارس أولية يتعلمون فيها " فك الخط " إذا أرادوا أن يبحثوا لأنفسهم عن مكان مناسب لأوضاعهم. ولهذا الخطأ الشنيع عدلنا عن عنوانهم إلى العنوان الذى وضعناه لهذه الشبهة " الإتيان بالموصول بدل المصدر ".
هذا ، وللعلماء فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن " البر " وهو خلاف الأصل ؛ لأن البر معنى ذهنى و " من آمن " ذات ، والذوات لا يخبر بها عن " المعانى الذهنية " ، للعلماء فى هذه المسألة ستة توجيهات نذكر منها أقواها فى الآتى:
الإمام الزمخشرى أورد فيها ثلاثة توجيهات:
الأول: أن فى الكلام مضافاً محذوفاً ، والتقدير. ولكن البر بر من آمن. وهذا التوجيه اشتهر بين جمهور العلماء ، وردده كثير منهم.
الثانى: تأويل " البر " بـ " ذو البر " يعنى أن فى الكلام حذف مضاف لكن تقديره قبل " البر " أما التوجيه الأول فكان تقدير المضاف المحذوف قبل " من آمن " وهذا المضاف خبر " البر " الذى هو اسم " ليس ".
الثالث: أن يكون المصدر ، وهو " البر " موضوع موضع اسم الفاعل للمبالغة ، كما فى قول الخنساء تصف فرس أخيها صخر.
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت
فإنما هى إقبال وإدبار
فإقبال وإدبار مصدران حلا محل اسم الفاعل ، والتقدير ؛ هى مقبلة مدبرة.
وقد سبق الزمخشرى إلى الرأى الأول. ولكن البر برُّ من آمن ، شيخ النحاة سيبويه. وقد اختار سيبويه هذا الرأى ورجحه لاعتبار قوى فحواه.
أن السابق عليه هو نفى كون البر هو تولية وجوه المخاطبين نحو المشرق والمغرب.
ثم قال: والذى يستدرك ينبغى أن يكون من جنس ما وقع عليه النفى ، وهو ـ هنا ـ البر (3)
يريد شيخ النحاة أن يقول:
إن " لكن " أداة استدراك فى المعنى ، وإن طرفى الاستدراك ينبغى أن يكونا متجانسين ، والاستدراك: إما إثبات بعد نفى ، أو نفى بعد إثبات ، فمثلاً قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (4)
ما قبل أداة الاستدراك " لكن " هو الإيمان والتقوى ، وما بعدها هو التكذيب ، فبين ما قبلها وما بعد تجانس ظاهر ، لأنهما سلوكيات قلبية وخلقية.
وكذلك ما قبل لكن فى الآية موضوع الدراسة هو البر الظاهرى المنفى ، وما بعدها ينبغى أن يكون هو البر الحقيقى المثبت.
وهذه لمحة طيبة من شيخ النحاة ، ولها صلة وثيقة بالتوجيه البلاغى لهذه المسألة ، سنعرضها فى الخلاصة إن شاء الله.
ومن الآراء التى طرحت فى هذا الصدد أن " البر " وقع موقع اسم الفاعل لإرادة المبالغة على وزان قول العرب " رجل عدل " حيث عدلوا عن رجل عادل ، إلى الإخبار عنه بالمصدر ، على اعتبار أن هذا الرجل لما كان كثير العدل صار كأنه العدل نفسه ، لا فرق بينهما. وهذا رأى نحاة الكوفة.
أما الفراء فقد جعل " من آمن " واقعاً موقع الإيمان وقال:
والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل ، واستشهد على هذا بقول الشاعر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
ولكنما الفتيان كل فتى نَدِى
حيث جعل الشاعر نبات اللحية خبراً عن الفتيان.
والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى.
نكتفى بهذا القدر ـ مما ذكره النحاة ، ويكاد يجمع عليه المفسرون ـ فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن البر ، مع تسليم الكافة بصحة الاستعمال اللغوى فيه ، واجتهادهم هذا كان محاولة لفهم هذا الاستعمال.
والخلاصة:
من خلال النقول التى تقدمت عن النحاة واللغويين والمفسرين ، بطلت هذه الشبهة ولم يبق لها أثر ، فلا غرابة فى وضع " من آمن " خبراً عن " البر " سواء أخذنا بتوجيه شيخ النحاة سيبويه ؛ أن فى الكلام حذف مضاف تقديره " ولكن البر بر من آمن " أو أخذنا بالتوجيه الذى أجاز وقوع المصدر موقع اسم الفاعل أو الفاعل.. فهذه كلها أساليب عربية فصيحة مستعملة ، ومن شواهدها فى القرآن كذلك قوله تعالى: " وأنت حل بهذا البلد " فوقع المصدر " حل " موقع اسم الفاعل " حالٌّ " أى مقيم بهذا البلد.
فإذا ولينا وجوهنا شطر البلاغة بعد النحو واللغة ، والبلاغة أوسع خطى منهما ، فإننا نلمح فى التعبير القرآنى " ولكن البر من آمن " معنى لطيفاً دقيقاً ذا مغزى كبير لأن " من آمن " يدل على ذوات تمكن الإيمان فى قلوبها. فالإيمان " حالٌّ " فى تلك القلوب ، ولو كان قد قيل: " ولكن البر الإيمان " لكان هذا الإيمان مجرد فكرة لا محل لها ، بل هى مفصولة عن الذوات. يعنى إيمان نظرى لا عملى. وهذا ليس بسديد ، لكن لما جعل هذا وصفاً للذوات المدلول عليها بـ " من " التحم الإيمان بالمؤمن ، والمؤمن بالإيمان ، فتحول إلى إيمان عملى متمكن فى القلوب ، فى مقابلة الإيمان الشكلى الذى لم يرضه القرآن ، وهو توجه الوجوه نحو المشرق والمغرب. وهذا ما ألمح إليه سيبويه من قبل.
__________
(1) البقرة: 177.
(2) الكشاف (1/330).
(3) الكتاب (1/108).

25- وضع الفعل المضارع موضع الماضى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله عز وجل: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (1).
ذكروا هذه الآية ، ثم قالوا فى تصويب الخطأ الذى توهموه فيها:
" كان يجب أن يعتبر المقام الذى يقتضى صيغة الماضى ، لا المضارع فيقول: " قال له كُنْ فكان " ؟!
الرد على الشبهة:
وجَّه المفسرون والنحاة قوله تعالى " كُنْ فيكون " فأوجز الزمخشرى القول فيها فقال: هى حكاية حال ماضية (2).
وقد أخذ هذه العبارة عن الزمخشرى الإمام البيضاوى ولم يزد عليها (3).
وهى عبارة تحتاج إلى بيان ما هى حكاية الحال الماضية ؟
يريد الإمامان أن المضارع " يكون " دلالته فى الآية أن الله عز وجل يصور للمخاطبين ترتيب الأحداث ساعة حدوثها فى الزمن الذى خلق الله فيه آدم ، وفائدته نقل أذهانهم إلى تلك اللحظة كأنهم يعاينونها بأبصارهم.
وهذه هى دلالة المضارع إذا وضع موضع الماضى عند علماء المعانى ، هى بعث الماضى وتصويره فى صورة الذى يحدث فى الحال.
ومن أمثلته عندهم قول الشاعر يحكى صراعًا حدث بينه وبين الضَّبُع ، وهو حيوان مفترس.
فأضربها بلا دهش فخرَّت
صريعًا لليدين ، وللجران (4)
الشاعر ضرب الضبع فى الماضى ، فلما حكى صراعه معها للناس عبَّر عن الماضى " فضربتها " بالمضارع " فأضربها " والدلالة البلاغية للعدول عن الماضى إلى المضارع هى استحضار صورة الحدث الذى وقع فى الماضى ، كأنه يحدث الآن فى زمن التكلم.
هذا ما أراده الشيخان: الزمخشرى والبيضاوى من عبارة " حكاية حال ماضية " ليبينا سر العدول عن " فكان " إلى " فيكون " فى الآية الكريمة ، التى ادعى مثيرو هذه الشبهات أن فيها خطأً نحويًا ، وهم عن معرفة الصواب والخطأ بمعزل.
وقال بعض المفسرين اللغويين فى توجيه " فيكون ":
" يجوز أن يكون على بابه من الاستقبال ، والمعنى: فيكون كما يأمر الله فيكون ، حكاية للحال التى يكون عليها آدم حين خلقه الله ، ويجوز أن يكون " فيكون " بمعنى كان ، وعلى هذا أكثر المفكرين والنحويين ، وبهذا فسره ابن عباس رضى الله عنه " (5).
ونعيد السؤال مرة أخرى:
لماذا عُدِل عن معنى الماضى إلى لفظ المضارع ومعناه ؟
الجواب على هذا السؤال هو ما قدمناه فى توضيح عبارة الإمام الزمخشرى ، التى تناقلها عنه النحاة والمفسرون وهو إيثار المضارع على الماضى لاستحضار صورة الحدث فى الذهن ، وكأن الأبصار تراه الآن.
هذه خلاصة أمينة ووافية لما قاله العلماء فى توجيه " فيكون " مضارعًا مرفوعًا لا مجزومًا جوابًا للأمر ، ولا ماضيًا.
والخلاصة:
بعد عرض توجيهات المفسرين والنحاة ، يطيب لنا أن نستكشف إسهامات البلاغة فى تأصيل التعبير القرآنى " ثم قال له كن فيكون " الذى اعتبره مثيرو هذه الشبهات معيبًا بالخطأ النحوى ، والنحو وإن كان أساس البلاغة ، وجذورها العميقة ، التى أثمرت كل الإيحاءات البلاغية ، فإن هناك حقيقة يجب الوقوف عليها ، وهى أن البلاغة تبدأ من حيث ينتهى النحو ، فالنحو ـ ومعه الصرف ـ يهتم باستقامة الأساليب وصحتها ، أما البلاغة فتنظر فى الأساليب ، وتغوص وراء ما فيها من المعانى الخبيئة ، والأسرار الدفينة وتبحث عن الإيحاءات الكامنة وراء كل لفظ وجملة وتركيب ، أو تبحث عن معنى المعنى لا معنى اللفظ ، أو المعانى الثانية الخفية غير المباشرة الظاهرة.
وإذا كان ما قدمناه من توجيهات كافيًا فى إزالة هذه الشبهة التى توهمها هؤلاء " الخواجات " فإن دور البلاغة فى تأصيل هذا التعبير القرآنى مساير لتوجيهات النحاة والمفسرين.
إن هذا التعبير " كن فيكون " هو الواجب بلاغة وبيانًا وإعجازًا ونظمًا
أما لوقيل " كن فكان " لخلا هذا التعبير من ثلاثة أرباع الحسن الذى هو فيه ، وذلك للاعتبارات الآتية:
فأولاً: دلالة الماضى الأصل فيها الانقطاع عن الوجود المستمر ، ولذلك يعبر عنه النحويون بأنه: ما دل على حدث وقع وانقطع قبل زمن التكلم.
وهذا غير مراد فى حكاية الله كيفية خلقه لآدم ، لأنه لو قيل: كن فكان لصدق هذا التعبير عن وجوده لحظة واحدة من الزمن ، ولو كان قد مات لحظة خلقه.
أما " كن فيكون " فدلالتها استمرار وجوده حتى أنجب مَنْ أنجب من ذكور وإناث ، وما بث منهما من آباء البشر وأمهاته ، كما قال عز وجل:
(وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً ) (6).
لأن دلالة المضارع تبدأ من الحال ، وتستمر فى الاستقبال.
وثانياً: أن هذا التعبير " كن فيكون " يؤذن بتقدير مسند إليه قيل " فيكون " أى " فهو يكون " وفى هذا تكرار إسناد " الكينونة " لآدم:
مرة يجعل " يكون " خبرًا عن ضمير آدم " هو "
ومرة بإسناد فعل الجملة الخبرية " يكون " إلى ضمير آدم المستكن فى الفعل وجوبًا ، على أنه فاعل له. وتكرار الإسناد من أقوى أساليب التوكيد فى البلاغة العربية.
وثالثاً: فى الفعل المضارع " يكون " تناسب آسر لرءوس الآيات (الفواصل) لأن ما قبله كلها فواصل مبنية على حرف المد إما الياء ، وهو الأكثر ، وإما الواو مع النون ، وهو كثير ، أو مع الميم.
وكذلك ما بعدها ، والتناسق الصوتى فى النظم القرآنى المعجز ، وجه من وجوه إعجازه ، التى باين بها كلام البشر والجن ، وجعل لتلاوته حلاوة جذابة للأسماع ، كما جذبت معانيه القلوب ، وأسرت العقول ، واستولت على ألباب أولى الألباب.
__________
(1) آل عمران: 59.
(2) الكشاف (1/433).
(3) أنوار التنزيل (1/162).
(4) يعنى سقطت على الأرض على جنبها.
(5) انظر: الدر المصون (3/220-221).