نادي الفكر العربي
امرأة تلبس الأخضر دائما ورجل يلبس الأخضر أحيانا - الشاعر محمد عفيفي مطر - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5)
+--- المنتدى: لغـــــــة وأدب (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=78)
+--- الموضوع: امرأة تلبس الأخضر دائما ورجل يلبس الأخضر أحيانا - الشاعر محمد عفيفي مطر (/showthread.php?tid=40921)



امرأة تلبس الأخضر دائما ورجل يلبس الأخضر أحيانا - الشاعر محمد عفيفي مطر - coco - 12-21-2010

محنة هي القصيدة

"ولقد نري تقلب وجهك في السماء"


غيمة من رقع الماء الفضاء الدخنة الباهتة
التفت علي مغزل شمس ورياح
ورمادي نسيج فككت عروته حدوة طير ليس
ينقض ولا يعلو,
اهتراءات رقيقات تبعثرن وفي هدابهن
اشتبك الشوك المضئ القنفذ الساطع يرعي ,
عنكبوت ذهب يقطر منه الأرجوان
الليل في آخرة السهل عصافير ينفضن عن
الريش بقايا القطر أضغاث النباتات
هباء الذر والغبشة و يسلمن المناقير
إلي دفء الجناحين
النهار التم في أعضائه واصاعدت شيبته من
تحت حناء الذري ,
الصخرة تأوي للنعاس الرطب والهوة تثائب
والقرية جرو مرح لاذ به النوم البعيد


رجل وامرأة تفتح في عروة ثوبيها الشفيفين
بخورا ولبانا زاكيا , تفتح في الطوق هلالا
خفق نهدين , حفيف المخمل الناعم بالحلمة ,
والمرأة تمشي خضرة معتمة في
هودج الليل ويمشي الرجل النائم يقظان ,
يدان انفتحت بينهما عشر عيون يتواشجن مياها
وارتعاشا ودما تصهل فيه الخضرة الدافئة
القمح ربا للركبتين , اخضرت الطينة ,
أوراق الشفاه اصاعدت عليقة عطشي ,
اقتراب , قبلة توشك ..
عقد الكهرمان اساقطت حباته وانتثرت
تومض ما بين النجيل الغض تهوي
ظلمة لامعة بين الشقوق
انفتحت ذاكرة الطير , جناح دافئ ينبت ما
بين الحواس الخمس , عش لجثوم الهدأة
الخالقة الأرض وإغراء الشقوق السنبل ,
الذاكرة انصبت بما تحمل من إرث وليل
ذوبان الخلق في الخلق انشطار الخلق
في أعضائه
أقعت وأقعي
عيثا يلتقطان الكهرمان
اشتبك الماء بلحم الأرض في
عشر لغات حية العناب
قمح تنطوي أعواده الهشة , قش وبشاشات
تكسرن , وعرشا يفسح الهيش ,
اشرأبت بهجة الجوقة بالعشب
الأناشيد تناوشن
السماء اتسعت
والأنجم ازدانت بما يرسمه الكحل عليها
ازدهرت عليقة القبلة .
صلصال له النعمة والمجد – ارتوي ,
تحت اللسان احتشد الطير وكعك الأقرباء
السكر الذائب في ماء الشعير ,
احتشدت في نكهة الحلم حروف المد والقصر
وصلصال له النعمة والمجد – علي يابسة
العرش وقوس الأفق والماء استوي


( يفتح جبروت الصخر مسالكه
والحجارة تخر صعقة
فهل لامستها شفافية اكتساء العظام باللحم
أم تتنزل الدهشة من سمواتها العلي
في صيحة كالصاعقة المرسلة !!
الجسدان ينبعان وتتسع بهما حدود الأرض
ويزّحزح الأفق
حنان كأنه الخوف
ورحمة كأنها جيوش الشجر وخيول
القرابة الصاهلة في ذاكرة المسافر

جسدان هما الأرض بما رحبت
وأرض هي المسافة المقدسة بين
العبارة والعبارة
إقامة في القول هي السفر علي
أطواف الذاكرة العالقة بجريان النهر
ودوران الريح
والمندفعة بين جزر الرغبة القاسية في
أن يكتشف المكتشف
وفي الامتلاء بالجرأة المتوهجة علي قول
ما قيل مجددا
وضرب الخيمة في متردم القصيدة
وبادية الحداء ..)

نجمة الصبح علي وشك الطلوع / بين ماءين
السحاب الأصهب الأشهب أقدام من
السعي الهيولي علي وجه المياه / خطوة
هائلة الوجهة
ماء كل شئ
كل شئ ليس ماء ,
جسد الأرض فتوق رخوة ينهمر السعي
الهيولي عليها بالسحاب الأشهب الأصهب
قطعان توالي سيرها المحتشد الذائب في
غرينها الريح علي وجه المياه / وجهة هائلة الخطوة :
كانت رقصة الريح دوارا قلبا يربط
بين الأفق والطين
فضاءات الرمادي النسيج انفسحت
يبعثرها وهج الإضاءات ,
أنار أفرع ؟!
أم غابة من كل زوجين ؟!
وهل هذا الفضاء / سيرة للشجر المقبل
مرمي لرشاقات النبال , الصيحة المرسلة
الرجع وإيذان بوقت الفتح ؟! هل
هذا الفضاء / قبة الرحمة بالخلق أم
الأمة قوس ودم ينزف من
أجوازه مدا وجزرا , شهقة
سوف تكون الشهداء ؟!
أمة مستورة هذا الفضاء القبة ؟!
الأرض الخلاء / خطوة في الفلك
الدائر والنار المواقيت ؟!
كلام تحته تذاوب الأنجم والشمس
وأمداء الجلاميد ولا يحمله غير القصيدة ؟!


رجل وامرأة تفتح في الطوق هلال الوجع
الأخضر , في عروة ثوبيها الشفيفين الرضاعات
بخور اللبن الحي حفيف المخمل الناعم بالإرث
وبالوارث
تمشي خضرة مثقلة الخطوة بالوقت وتنأي
وهو يمشي مثقل الوقت بفوضي الاحتمالات
اشتباك الموت بالقافية الصعبة والماء
وينأي
والمدي بينهما متسع الفقر ,اكتمالات التواريخ
المدي أسئلة الأهل الذين ابتدءوا
ثم انتهوا لكي يبدءوا
هل أحد يعرفهم فيه وهل من أحد يعرفه فيهم
وهل من أحد يسمع ماء نازفا في طبقات الذاكرة

ليس ماء كل شئ
كل شئ ليس ماء ..

أرجو من الزملاء عدم المداخلة في الشريط حتي أنتهي من دراسة هذه القصيدة
ثم بعد الدراسة سأقدم قصيدة أخري وهي ( امرأة تلبس الأخضر دائما ورجل يلبس الأخضر أحيانا )
ثم دراسة عليها , وبعدها يمكن للزملاء التفضل بما يعن لهم .

- يتبع -
كوكو


RE: امرأة تلبس الأخضر دائما ورجل يلبس الأخضر أحيانا - الشاعر محمد عفيفي مطر - coco - 12-22-2010

كانت نظرة الإنسان الأول للظواهر الطبيعية من حوله ومحاولة تفسيرها نظرة تخلع الحياة علي تلك الظواهر الطبيعية , فكانت " الحدود واهنة تماما بين الإنسان وبين الموجودات من حوله , بل بينه وبين الوجود بأكمله , فالظواهر الطبيعية تتلبس بالأفعال والصفات البشرية , وتنسب إلي قوة قاهرة وإن كانت علي غرار الإنسان وطبيعته , فالعالم لا يبدو للإنسان الأول جامدا أو فارغا بل زاخرا بالحياة " و كانت الروح التي تسري في تلك الظواهر من شمس وقمر وبحر ونجوم ورعد وبرق حسب رؤية الإنسان الأول روح مساوية للروح التي يمتلكها وتملكها باقي الكائنات الحية , وكان السبب في هذه الرؤية هو محاولة الإنسان الأول اتقاء الشرور الناجمة عن تلك الظواهر الطبيعية باسترضائها , فكان تفاعله مع العالم محكوما بتلك النظرة التي توسعت لتكوين أساطير تحاول تفسير الوجود والكون من حوله , وكانت تلك الأساطير عادة ما تصاغ في شكل شعري يعبر عن تلك الرؤية غير العقلانية , ومع تطور الإنسان وامتلاكه للتعليلات العقلية للظواهر وابتعاده عن تلك المنابع الأصلية للتفكير الأولي - وأن كان بعض العلماء مثل مارسيا ألياد يري أن تفكير الإنسان الحديث مازال عالقا به هذا النوع من التفكير - بدأ يفكر عن طريق الفن في محاولة استعادة تلك الرؤية القديمة لكي يوظفها في الإبداع الشعري , فرأينا تلك القصائد التي توظف الأسطورة بالرجوع إلي رموزها القديمة لكي تكون وسيطا بين ذات الشاعر وموضوعاته , وتخلق مسافة بينهما بدلا من التعبير المباشر .
والجديد أن الشاعر بدلا من استلهام الأسطورة لتوظيفها في عمله الشعري , اتجه اتجاها آخر وهو خلق أسطورة خاصة به , فقام بتجريد الأسطورة من بنائها الحكائي متخذا من منطقها الأصلي ومن ينبوعها الأولي أساسا يبني به أسطورة جديدة , فيكون صانعا جديد للأساطير , ورغم أن الدكتور أنس داود يعارض هذا الرأي الذي قال به الدكتور لويس عوض والدكتور عز الدين إسماعيل , ويري أن الشاعر لا يخلق أسطورة جديدة ولكن العلاقة بين الشعر والأسطورة قوية في اللغة والرموز والتصوير الشعري بما يبدو أن خلق لأساطير ولكنه ليس كذلك , ونأخذ علي الدكتور أنس أنه حين تعرض لدراسة الشاعر السياب في نفس الكتاب قرر أن من حق الشاعر أن يقوم بعمل حذف إضافة واستبدال في عناصر الأسطورة , فإذا كان قد قرر ذلك فيما بعد افليس من حق الشاعر أن يصنع أسطورة جديدة متخذا من منطق الأسطورة القديم هاديا له , وسوف نري هذا الكلام ( الإضافة والحذف والاستبدال ) ماثلا عند البياتي حين نتحدث عن قصائد عائشة في الشريط الخاص بالبياتي ( أولد وأحترق بحبي ) .

ولا أريد في هذه العجالة في دراسة القصيدة أن أتعرض لكل ما قيل بشأن الأسطورة وتوظيفها في الشعر الحديث ولكن ما يهمني هو أن الشاعر الحديث خطا خطوة أبعد حين حاول أن يتجاوز التوظيف التقليدي للأسطورة إلي طريقة أرحب وسأدعوها ( أسطرة الواقع ) والتعالي به نحو رؤية أسطورية خاصة به .

أعتذر عن عدم ذكر المراجع بالتفصيل لعدم قبول برنامج النادي للهوامش , ولكن يمكن الرجوع لكتاب د. أنس داود الأسطورة في الشعر العربي الحديث , فرانكفورت وآخرون ما قبل الفلسفة , عز الدين إسماعيل الشعر العربي المعاصر , مرسيا ألياد أسطورة العود الأدبي .

- يتبع -

كوكو



RE: امرأة تلبس الأخضر دائما ورجل يلبس الأخضر أحيانا - الشاعر محمد عفيفي مطر - coco - 12-22-2010

يبدأ النص بوضع جزء من آية وهو ( قد نري تقلب وجهك في السماء ) ولكنه لا يوردها كما وردت في النص الديني بل بتحوير بدايتها , وكأنه يحاول أن يدخل المتلقي إلي الجو النفسي والمعرفي للقصيدة بما هو ليس من النص , وقد سبق أن ألمحت من قبل من دراسات علي بعض النصوص أن التضمين أو التناص أو مجرد وضع نصوص تحت العنوان يدخل القارئ لقراءة تستلهم أفق النصوص السالفة , فإذا كانت تلك النصوص مقدسة فإن لون القراءة يكون مختلفا عما إذا كانت حكمة أو أقوال مأثورة نظرا لما تتمتع به تلك النصوص من قداسة لدي المتلقي , وجزء الآية يصور حيرة الرسول محمد في مسألة القبلة التي يتوجه إليها وسؤاله الرب أن يرسل إليه آية تهديه إلي القبلة التي يتوجه إليها , وكلنا يعرف السياق التاريخي للقصة , ما يهمنا أن عفيفي مطر يماثل حال الشاعر قبل ورود الوارد الشعري وبين حال النبي بشكل يدعونا للإحساس بخطورة الموقف , والظلال التي تعطيها الآية لرسم حيرة الشاعر هو مدي الشوق للوصول للوارد الشعري , الميل القلبي لاتجاه ما , الحيرة الناشئة من استجابة الوارد لشوق الشاعر وإذا كان النص يبدأ مباشرة بعد إيراد جزء الآية بـــ

غيمة من رقع الماء الفضاء الدخنة الباهتة
التفت علي مغزل شمس ورياح
ورمادي نسيج فككت عروته حدوة طير ليس
ينقض ولا يعلو,
اهتراءات رقيقات تبعثرن وفي هدابهن
اشتبك الشوك المضئ القنفذ الساطع يرعي ,
عنكبوت ذهب يقطر منه الأرجوان

فإن النص يصور مجموعة من المفردات التي لا رابط بينها مماثلا لتلك المفردات التي لا رابط بينها في مسألة القبلة , فقد كان الرسول محمد يصلي بمكة جامعا بين الكعبة وبيت المقدس في اتجاه واحد والآن – في المدينة وبسبب جغرافيتها – فإنه لا يمكن الجمع وصارت المفردات متنافرة , صور عفيفي مطر تلك التناقضات بين المفردات التي لا رابط بينها بتلك الغيمة من رقع الماء - والماء له صفةالسيولة والميع فلا يمكن القبض عليه باليد - بما لها من صفات الفضاء والدخنة الباهتة تدور في مغزل شمس ورياح وكأنها تحتاج إلي التشكيل والصياغة وتحتاج إلي حالة الجمع في علاقات مترابطة تمنحها الوجود الشعري في شكل قصيدة , نسيج اللون الرمادي بما يحمل من دلالة عدم التحدد والرؤية الصريحة يتفكك بفعل طائر لا يعلو إلي السماء ولا ينزل إلي الأرض بل هو واقف في المابين في حالة تجمد ولكنها تشي بفعل الكلمات بإمكانية الطيران أو الانقضاض , الاهتراء وعدم الالتئام هو الجو السائد في مفردات الواقع والرؤية معا , فإذا كانت جملة " اهتراءات رقيقات تبعثرن " تصور حال المفردات الواقعية السابق سردها , فإن جملة " وفي هدابهن اشتبك الشوك المضي إلخ " تصور اطراف ذلك النسيج ( الهداب ) وهي تشتبك مع مجموعة من المفردات ولكنها في حالة لمعان " الشوك المضئ , القنفذ الساطع , عنكبوت ذهب " بما يوحي بأمكانية وجود روية يمكن أن تلم شتات المفردات , حالة الألق واللمعان للعناصر المشتبكة مع المفردات المتنافرة الساكنة تشي بأن هذه الواقع يحوي داخله حالة من إمكانية الانتظام والتعين وأن الرؤية يمكن أن تصل إلي تحقق فعلي .
حيرة الشاعر إزاء المفردات والعناصر مماثلة لحيرة النبي في بحثه عن القبلة الحقيقية ومغامرة القصيدة هي لم شمل الرؤية مثلما تم التوصل لحل في مسألة القبلة .

- يتبع -

كوكو



RE: امرأة تلبس الأخضر دائما ورجل يلبس الأخضر أحيانا - الشاعر محمد عفيفي مطر - coco - 12-23-2010

الليل في آخرة السهل عصافير ينفضن عن
الريش بقايا القطر أضغاث النباتات
هباء الذر والغبشة و يسلمن المناقير
إلي دفء الجناحين
النهار التم في أعضائه واصاعدت شيبته من
تحت حناء الذري ,
الصخرة تأوي للنعاس الرطب والهوة تثائب
والقرية جرو مرح لاذ به النوم البعيد

مفردات بيئة الشاعر , تبدأ في النوم , لأن الشاعر سوف يستيقظ , أنومها هو النوم الطبيعي الذي يعتري الكائنات أم هو النوم الذي يريده الشاعر لها لكي تتيح له الحرية في إعادة نسج تلك المفردات الواقعية مرة أخري علي ضوء تجربته الشعرية التي سوف يعيشها ؟, الليل هو وقت الرؤية , يبدأ الليل في التسلل بحركة مثل حركة العصافير التي تنفض عن الريش بقايا القطر وشذرات النباتات العالقة والهباءات الصغيرة ثم تضع مناقيرها تحت أجنحتها , والنهار في استسلامه لليل كأنه يلم أعضائه ويلتف بها , وقد أصابه الكبر وتصاعدت شيبته في حمرة المغيب الباهتة , حتي الصخور التي لا تنام تأوي إلي النعاس باستسلامها لندي الليل البارد , كما أن الهوة تتثائب , والقرية تطوي حركتها النهارية مثل الجرو المرح الذي هده التعب فراح في النوم العميق , هذا التصوير لحالة مفردات بيئة الشاعر له أهمية بالغة لأن الشاعر بعد يريد أن ينسج من هذه البيئة الزراعية القروية لحمة رؤيته , وسوف نتناول فيما بعد طريقة الإضافة التي ينتهجها الشاعر حين يقوم بصنع صوره ولكن ما يهمنا هنا الآن هو عرض رؤيته .

رجل وامرأة تفتح في عروة ثوبيها الشفيفين
بخورا ولبانا زاكيا , تفتح في الطوق هلالا
خفق نهدين , حفيف المخمل الناعم بالحلمة ,
والمرأة تمشي خضرة معتمة في
هودج الليل ويمشي الرجل النائم يقظان ,
يدان انفتحت بينهما عشر عيون يتواشجن مياها
وارتعاشا ودما تصهل فيه الخضرة الدافئة
القمح ربا للركبتين , اخضرت الطينة ,
أوراق الشفاه اصاعدت عليقة عطشي ,
اقتراب , قبلة توشك ..

يبدأ الشاعر هنا نسج أسطورته الخاصة , رجل وامرأة , كان الإنسان الأول يتصور الخليقة لا علي نحو خيالي محض بل علي ما يشبه الظروف الإنسانية فيري الخليقة كميلاد وأبسط شكل لذلك هو افترض وجود اثنين أولين هما والدا كل ما في الوجود ( راجع ما قبل الفلسفة ص 20 ) , كان هذا هو المعتقد الأسطوري , فقد ظل يقام الاحتفال بطقس الزواج المقدس وسط أجواء من الابتهاج والحبور في جميع أنحاء الشرق الأدني القديم , طوال ألفين من الأعوام , ولا عجب فالفكرة الكامنة خلفه بسيطة وذات جاذبية ومقنعة جدا فقد كان من واجبات الملك الباعثة علي السرور أن يتزوج من إلاهات الخصب والإنجاب ذات الشهوة الطاغية والعواطف الهائجة , ألوهية الفتنة التي تتحكم بإنتاجية الأرض والخصوبة في الإنسان والحيوان لكي يضمن لشعبه السعادة والرفاه والكثرة العددية ( راجع طقوس الجنس المقدس ص 77 ) , والشاعر في رؤيته للرجل والمرأة كأنه يخلق أسطورة جديدة مستلهما التراث الذي كان يسود المجتمعات الزراعية القديمة , ولكنه لا يصوره أو ينسخه كما هو , بل يجعله في الخلف من رؤيته , فليس هناك أسماء أو أي سمات للرجل والمرأة لكي تردنا إلي الأصل القديم , لأسطورة محددة كتموز وعشتار أو إيزيس وأوزوريس أو أدونيس إلخ , إنما هي أسطورة خاصة تمتح من الأسطورة القديمة كتراث لها دون أن تتمثلها أو تشخصها أو تستخدم رموزها , والسر في ذلك , أن المرأة والرجل عند عفيفي مطر ما هما إلا الشاعر الرائي والرؤية الشعرية / القصيدة , فمن الصعب أن يدل بأسطورة محددة عن هذا اللقاء الحيوي بين الرجل والمرأة لأن باقي رموز الأسطورة سوف تظهر في وعي المتلقي وهو يريد أن يجعل هذا القاء الحيوي فوق أنه باعث للخصوبة للأرض والحيوان باعث أيضا لخصوبة الشاعر / الرائي ,فكان عليه أن يقف عند الحدود الدنيا الجامعة لكل الأساطير الزراعية السائدة في الشرق القديم .
إن المرأة إذ تفتح في عروة ثوبيها الشفيفين بخورا ولبانا ذاكيا ويري الشاعر خفق نهديها وحفيف اصطدام حلمة نهدها بالمخمل الناعم وهي تفتح في طوق صدرها فتحة كالهلال , فإنما يدخل عالم الرؤية الشعرية بجمالها الذي لايقاوم وسحرها العطر - والذي صوره عفيفي مطر بمفردات جسد المرأة من صورة وحركة - لكي يتملي من ملكوتها كأنه الزواج المقدس القديم بين الملك وإينانا , لكي يمنح العالم الخصب أو هو الخليقة الأولي التي تنساب من الزوجين الأولين , ونلاحظ أن للمرأة ثوبين شفيفين مما يوحي أن المرأة هنا وهي تعكس الرؤية الشعرية , أنها ليست واضحة وإنما تذخر بالثنائية, الواقعي والخيالي , ثم يستطرد النص أنها تمضي في الليل خضرة معتمة , خصب عام لا شكل ولا ملامح له , توحي به للرجل وتموضع الرجل فيه , دون أن تمليه عليه أو تكتبه له , والرجل / الرائي / الشاعر يمضي في الليل يقظان , انفتحت في يديه أدوات الكتابة ( عشر عيون ) يستطيع أن يري بهم ما لم يكن يري من قبل , عيون تمتزج بمياه الخلق الفني بما يصاحبه من لذة تتساوي مع لذة اللقاء بالجسدي مع المرأة , بينما تصهل في دمائه خضرة المرأة الدافئة .

تنسل المرأة إلي طينته فتزهرها بخضرتها , عندئذ يبدأ الطين ينبت القمح الذي ينمو إلي الركبيتن , حتي يصير الطين من كثافة الخصب أخضر ويتداخل الرجل والمرأة وكأنهما توحدا في مفردات الخصب وصارا كأنهما نبات واحد تستحيل فيه الأوراق شفاها , تبدأ فصول الالتحام بينهما بالقبلة وفجأة في هذا المشهد العشقي الجميل تبدأ الرؤية في الهبوط علي الشاعر .

- يتبع -
كوكو