حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
ديوان " يحيى بن الحكم الغزال " - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5) +--- المنتدى: قــــــرأت لـك (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=79) +--- الموضوع: ديوان " يحيى بن الحكم الغزال " (/showthread.php?tid=41176) |
ديوان " يحيى بن الحكم الغزال " - نبع الحياة - 01-07-2011 رحلات يحيى الغزال للأندلس المضامينَ والأهَمّية التّاريخيّة - د. شريف مفلح (1) يُعَدُّ أبو زكريا، يحيى بن الحكم البكري الجياني (1) الملقب بـ "الغزال" أحد رجالات الأندلس المشهورين في الأدب على امتداد الوجود الإسلامي بها. و"الغزال" وهو الملقب الذي اشتهر به لجماله وظرفه وأناقته، كان أحد الشخصيات المشهورة في عصر الإمارة الأموية، وكان من المحظيين عند الأمير عبد الرحمن (الثاني أو الأوسط) بن الحكم بن هشام، وكان متولياً أحد مناصب المالية في دولته. وقد عمّر طويلاً، حتى قارب المائة (2)، وأتاح له ذلك العمر المديد، معاصرة الأمراء الأمويين الخمسة، الأول: عبد الرحمن الداخل، وهشام الرضا، والحكم بن هشام (3)، وعبد الرحمن الثاني أو الأوسط، وأخيراً محمد بن عبد الرحمن... وإلى هذا يشير هو نفسه بقوله (4): أدركت بالمصر ملوكاً أربعة *** وخامساً هذا الذي نحن معه (5) ولقد قامت شهرة يحيى الغزال على تبريزه في الشعر، الذي علا فيه صيته وتألق فيه مجده. بيد أن الشعر ليس هو المجال الوحيد الذي اشتهر فيه الغزال، بل كان له اسهامات في مجالي الحكمة والسياسة. كما أنه يُعَدُّ في نظر كثير من متتبعي الجغرافيا والرحلات الأندلسية أحد الرحالة الأندلسيين نظراً لقيامه بعدة رحلات إلى الدولة البيزنطية، وبلاد الدانمارك الحالية، وإلى المشرق كذلك. وإذا ذهبنا نبحث عن باعث رحلته إلى الدولة البيزنطية، وتحديداً: العاصمة القسطنطينية، عرفنا أنها جاءت لهدف سياسي. وعلى هذا فإن رحلته تُعَدُّ ديبلوماسية بالدرجة الأولى. وسببها أن الأمبراطور البيزنطي "تيوفل" أو "تيوفيلوس" الذي كان يحكم الدولة البيزنطية بين سنوات (829- 842) أرسل سفارة ديبلوماسية إلى الأمير عبد الرحمن الثاني "أمير الأندلس" وذلك عام 840. وبوسعنا القول، بشأن الظرف المحيط برحلة الغزال الأولى هذه، بأن سببها أن الامبراطورية البيزنطية التي كانت في عداء تقليدي تاريخي مع المسلمين، سواء في عصر الدولة الأموية أو الدولة العباسية، قد لقيت هزيمة مرّة في موقعة "عمورية" الشهيرة على يد الخليفة العباسي المعتصم بالله. وكانت قبل ذلك قد فقدت بعضاً من جزائرها في البحر المتوسط. كجزيرة كريت التي حازها مسلمون أندلسيون، خرجوا من الأندلس في عهد الأمير الحكم بن هشام (6)، فاستولوا على كريت... كما أن البيزنطيين، فقدوا كذلك جزيرة صقلية عام 212ه، عندما احتلها الأغالبة في تونس، والذين كانوا يرتبطون بالخلافة العباسية بتبعية اسمية. ومن هنا قرر الامبراطور "تيوفل"، أمام ذلك الخطر الذي هدد دولته، أن يبحث عن حلفاء له ضد الدولة العباسية وأتباعها الأغالبة وغيرهم.. فلم يجد سوى الدولة الأموية، التي كانت على خلاف سياسي تقليدي قام مع العباسيين وأتباعهم. وهكذا رأينا "تيوفل" يرسل سفارة ديبلوماسية برئاسة أحد رجاله المعروفين، وهو: قرطيوس. وقد زوده برسالة إلى الأمير عبد الرحمن الأوسط، ومعها هدايا ثمينة له. وتمشيا مع التقليد الديبلوماسي، الذي كان شائعاً وقتذاك، بعث الأمير عبد الرحمن، سفيره الغزال إلى بيزنطة، محملاً برسالة وهدايا أندلسية جليلة منه. وبالفعل وصل الغزال إلى بيزنطة سن 225/ 840م وزميله يحيى بن حبيب أحد علماء الأندلس المبرزين في العلوم التطبيقية. فقابلا الامبراطور "تيوفل"، وزوجته الامبراطورة "تيودورا" وابنه وولي عهده "ميخائيل"، الذي ارتقى عرش الامبراطورية البيزنطية. فسحره الأمير اليافع بحلو حديثه وظرف روحه، فقال في ذلك قصيدة مدح فيها الامبراطور وأثنى عليه. وقد جرت بينه وبين الامبراطور والامبراطورة أحاديث متعددة، كان خلالها الغزال محدثاً لبقاً موفقاً في اجاباته، الأمر الذي ترك انطباعاً جيداً عند الملكين. ثم قفل الغزال عائداً إلى الأندلس بعد رحلة امتدت عدة شهور (7). أما الرحلة الثانية للغزال: فقد كانت إلى بلاد الدانمارك الحالية، كما تؤكد الدراسات التاريخية والاشارات الجغرافية التي وردت في ثنايا نص هذه الرحلة الثانية. وسبب الرحلة أن ملك النورمان (المجوس)، وهم السكان الذي يشكلون مملكة النورمان في شبه جزيرة اسكندنافيا والدانمارك، قد أرسل إلى الأمير عبد الرحمن الثاني أو الأوسط يطلب الصلح معه بعد غارات قومه النورمان الخطيرة على الأندلس عام 230ه- 844 –م واندحارهم بعد ذلك. فأجابه الأمير عبد الرحمن إلى ذلك "أي الصلح"، وأرسل بالتالي سفارة ديبلوماسية على رأسها يحيى الغزال أيضاً وزميله يحيى بن حبيب فذهبت إلى هناك. وقد نجح الغزال، بفضل ما أوتي من صفات وخلال، في أن يحقق نتائج سياسية لا بأس بها. وقبل أن نتحدث عن ظروف الرحلة الثانية للغزال، ثم ايراد مقتطفات من تلك الرحلات، يحسن بنا أن نزيد موضوع هؤلاء النورمان ايضاحاً. فالنورمان، كما أكد الباحثون والمؤرخون، قبائل وثنية كانت تسكن بلاد اسكندناوة أو اسكندنافيا الآن- ويعرفون بالفيكنغ- وكانوا يحيون حياة قبلية قاسية. ولقد أسهمت طبيعة بلادهم، الشديدة البرودة التي يكسوها الجليد دائماً، في تميزهم بصفات الصلابة والقسوة. كما أن معيشهتم في شبه جزيرة تحيطها المياه من ثلاث جهات اسهمت هي الأخرى في اشتهارهم في ركوب البحر والتمرس فيه. وقد قاموا في القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري)، وقبل أن يعتنقوا المسيحية، بغارات عاتية على معظم سواحل أوربا الغربية. ووصلت بهم قرصنتهم البحرية أخيراً إلى الأندلس، فهددوها تهديداً شديداً، إلى أن استطاع الأمير عبد الرحمن دحرهم كما أسلفنا بعد لأي. ولقد أطلق المؤرخون المسلمون عليهم اسم المجوس بسبب وثنيتهم، ولأنهم كانوا أثناء غاراتهم يشعلون النيران في كل موقع ينزلونه.. وكانوا يحرقون جثث موتاهم. فاعتقد المسلمون أنهم مجوس يعبدون النار، فأطلقوا عليهم هذا الاسم. على أن المؤرخين المتقدمين من المسلمين قد أطلقوا عليهم كذلك اسم "الارومانيين"، وهو تحريف لكلمة "النورمان" التي يدل معناها في اللغات الأوربية على الموقع الجغرافي لهؤلاء، ومعناه: أهل الشمال.. أو سكان الشمال، الذي هم سكان الدول الاسكندنافية الآن. بعد هذا التوضيح التاريخي نعود إلى ظروف ورحلة الغزال الثالثة التي كانت إلى المشرق- مشرق الدولة الاسلامية- ويبدو أنها قد جاءت برغبة شخصية، وهي لا تعدو كونها رحلة سياحية كما نظن، وقد جاءت بعد رحلتيه السابقتين كما نص على ذلك. وعلى كل فقد ذهب إلى العراق وجال فيه.. ثم جال في غيره من أمصار المشرق.. ثم عاد بعد ذلك إلى بلده الأندلس. ولننسق الآن بين مقتطفات من رحلاته الثلاث فنقول: فيما يتصل بالرحلة الأولى فقد نقل لنا "المقري" صاحب كتاب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" عن "ابن حيان القرطبي" شيخ مؤرخي الأندلس، وصاحب كتاب "المقتبس من أهل الأندلس" جاء فيه: "... حكى ابن حيان في المقتبس أن الأمير عبد الرحمن بن الحكم المرواني وجّهّ شاعره الغزال إلى ملك الروم- الامبراطور البيزنطي تيوفيل- فأعجبه حديثه وخف على قلبه، وطلب منه أن ينادمه فامتنع عن ذلك واعتذر له بتحريم الخمر". أما الرحلة الثانية: فقد كانت أغزر في معلوماتها ونصوصها.. وقد أشار إليها ابن دحية عمر بن الحسن بن علي... الأديب والمحدث المتوفى سنة 633ه... والذي يذكر أن نسبه يعود إلى الصحابي المعروف: دحية الكلبي. "أقول: أشار إليها ابن دحية (8) في كتابه "المطرب في أشعار أهل المغرب" وقد نقلها عنه "المقري" ومن جاء بعد. ولقد أسند "ابن دحية" قصة هذه الرحلة وما جرى للغزال فيها إلى صديق يحيى الغزال: تمام بن علقمة الذي رواها عنه. يقول "ابن دحية" نقلاً عن تمام بن علقمة: "ولما وفد على السلطان عبد الرحمن رُسُل ملك المجوس تطلب الصلح، بعد خروجهم من اشبيلية وإيقاعهم بجهاتها، ثم هزيمتهم بها وقتل قائد الأسطول فيها، رأى أن يراجعهم- أي الأمير عبد الرحمن الثاني- بقبول ذلك... فأمر الغزال أن يمشي في رسالته مع رسل ملكهم لما كان الغزال عليه من حدّة الخاطر... وبديهية الرأي... وحسن الجواب... والنجدة والاقدام، والدخول والخروج في كل باب. وصحبه: يحيى بن حبيب فنهض إلى مدينة: شلب (9)، وقد أنشئ لهما مركب حسن كامل الآلة، وروجع ملك المجوس على رسالته وكوفئ على هديته، ومشى رسول ملكهم في مركبهم الذي جاءوا فيه مع مركب الغزال، فلما حاذوا الطرف الأعظم الداخل في البحر، الذي هو حد الأندلس في آخر الغرب (وهو الجبل المعروف بألوية)، هاج عليهم البحر وعصفت بهم ريح شديدة وحصلوا في الحد، أخذ الخوف من يحيى بن حبيب مأخذه، فالتفت إليه الغزال يهدئ من روعه، ثم أنشأ يقول وسط هذا الاضطراب البحري: قال لي يحيى وصر *** نا بين موج كالجبال وتولتنا رياح *** من دبور (10) وشمال شقت القلعين انبثت عرا تلك الجبال *** وتمطى ملك المو *** ت إلينا عن حيال فرأينا الموت رأي العين حالاً بعد حال *** لم يكن للقوم فينا *** يا رفيقي رأس مال "... ثم أن الغزال سلم من هول تلك البحار وركوب الأخطار، ووصل أول بلاد المجوس إلى جزيرة من جزائرها، فأقام فيها وصحبه، وأصلحوا مراكبهم واجمعوا أنفسهم... وتقدم مركب المجوس إلى ملكهم فأعلمهم بلحاق الرسل معهم، فسرّ بذلك ووجه فيهم. فمشوا إليه إلى مستقرّ ملكه، وهي جزيرة عظيمة في البحر المحيط، فيها مياه مطردة وجنات، وبينها وبين البر ثلاث بحار، وهي ثلاثمائة ميل... وفيها من المجوس ما لا يحصى عددهم... وتقرب من تلك الجزيرة جزائر كثيرة منها صغار وكبار، أهلها كلهم مجوس، وهم اليوم على دين النصرانية. إلا أهل جزائر منقطعة لهم في البحر بقوا على عقيدتهم الأولى، من عبادة النار ونكاح الأم والأخت، وغير ذلك من أصناف الشنار، وهؤلاء يقاتلونهم ويسبونهم..". "..فأمر لهم الملك بمنزل حسن من منازلهم، وأخرج إليهم من يلقاهم، واحتفل المجوس لرؤيتهم فرأوا العجب العجيب من أشكالهم وأزيائهم. ثم إنهم أنزلوا في كرامة وأقاموا يومهم ذلك واستدعاهم بعد يومين إلى رؤيته. فاشترط الغزال عليه ألا يسجد له، ولا يخرجهما عن شيء من سنتهما، فأجابهما إلى ذلك. فلما مشيا إليه قعد لهما في أحسن هيئة، وأمر بالمدخل الذي يفضي إليه فضيق حتى لا يدخل عليه أحد إلا راكعاً، فلما وصل إليه جلس إلى الأرض وقدم رجليه وزحف على أليته زحفاً، فلما جاز الباب استوى واقفاً، والملك قد أعد له وأحفل في السلاح والزينة الكاملة، فما هاله ذلك ولا ذعره، بل قام ماثلاً بين يديه، فقال: السلام عليك أيها الملك، وعلى من ضمه مشهدك... والتحية الكريمة لك، ولا زلت تمتع بالعز والبقاء والكرامة، الماضية بك إلى شرف الدنيا والآخرة، المتصلة بالدوام في جوار الحي القيوم- الذي كل شيء هالك إلا وجهه... له الحكم وإليه المرجع. ثم فسّر له الترجمان ما قاله، فأعظم الكلام وقال: هذا حكيم من حكماء القوم وداهية من دهاتهم. وعجب من جلوسه إلى الأرض وتقديمه رجليه في الدخول، وقال أردنا أن نذله فقابل وجوهنا بنعليه، ولولا أنه رسول لأنكرنا ذلك عليه. ثم دفع إليه كتاب السلطان عبد الرحمن، وقرئ عليه الكتاب وفسّر له، فاستحسنه وأخذه في يده فرفعه ثم وضعه في حجره، وأمر بالهدية ففتحت عيابها (11)، ووقف على جميع ما اشتملت عليه من الثياب والأواني فأعجب بها. وأمر بهم فانصرفوا إلى منزلهم، ووسع الجراية لهم". "... كان الغزال في اكتهاله وسيماً، ومشى إلى بلاد المجوس وهو قد شارف الخمسين وقد وخطه الشيب، فسألته يوماً زوجة الملك- واسمها: نود- عن سنه، فقال مداعباً لها: عشرون سنة، فقالت للترجمان: ومن هو من عشرين سنة يكون به هذا الشيب؟ فقال؟ للترجمان: وما تنكر من هذا؟ ألم تر قطّ مهراً ينتج وهو أشهب؟ فضحكت "نود" وأعجبت بقوله، فقال في ذلك الغزال بديهاً: يا نود يا ورد الشباب الذي *** تطلع من أزرارها الكوكبا قالت أرى فوديه قد نورا *** دعابة توجب أن أدعبا قلت لها يا نود بأبي إنه *** قد ينتج المهر كذا أشهبا فاستضحكت عجباً بقولي لها *** وإنما قلت لكي تعجبا فلما أنشدها الشعر وفسره الترجمان لها، ضحكت منه وأمرته بالخضاب ففعل ذلك الغزال. وغدا عليها يوماً ثانياً وقد اختضب، فمدحت خضابه.. وفي ذلك يقول الغزال: بركت تحسِّن لي سواد خضابي *** فكأن ذاك أعادني لشبابي ما الشيب عندي والخضاب لواصفٍ *** إلاّ كشمس جلِّلت بضباب تخفى قليلاً ثم يقشعها الصبا *** فيصير ما سترت بها لذهاب لا تنكري وضح المشيب فإنما *** هو زهرة الافهام والألباب ثم انفصل الغزال عنهم وصحبه الرسل إلى شنث يعقوب (12) بكتاب من ملك المجوس إلى صاحبها، فأقام عنده مكرماً شهرين، ثم صدر إلى قشتالة مع الصادرين، ومنها خرج إلى طليطلة حتى لحق بحضرة السلطان عبد الرحمن بعد انقضاء عشرين شهراً. أما رحلته إلى الشرق وسببها: فهو أن الغزال هجا المغني المشهور علي بن نافع الملقب بزرياب، والمتوفى سنة 243ه، والذي نزل الأندلس قادماً من المشرق، وحل ضيفاً على أميرها الحكم بن هشام، ثم ابنه الأمير عبد الرحمن الأوسط (الثاني). أقول هجاه بهجو مقذع، فشكاه للأمير عبد الرحمن حسبما تزعم الرواية، وعرض هجوه عليه، فأمر الأمير عبد الرحمن بنفيه عن الأندلس. وها نحن أولاء نورد مقتطفات من رحلته هذه ثم نناقش خطأ تاريخياً ورد في سياق الرحلة، كما وردت في كتاب نفح الطيب: "... ثم إن الغزال وقعت بينه وبين السلطان عبد الرحمن وحشة، فأمر السلطان بنفيه عن الأندلس، فكلمه فيه أكابر دولته فتركه. ثم إن الغزال لم يطب نفساً بالمقام في الأندلس فرحل إلى العراق، وذلك بعد موت أبي نواس الحسن بن هانئ بمدة يسيرة. فوجدهم يلهجون بذكره، ولا يساوون شعر أحد بشعره... فجلس يوماً مع جماعة منهم فأزروا بأهل الأندلس، واستهجنوا أشعارهم، فتركهم حتى وقعوا في ذكر الحسن بن هانئ، فقال لهم من يحفظ منكم قوله (وسرد على مسامعهم قصيدة خمرية تقع في تسعة أبيات) (12) فأعجبوا بالشعر، وذهبوا في مدحهم له كل مذهب. فلما أفرطوا قال لهم خفضوا عليكم فإنه لي. فأنكروا ذلك فأنشدهم قصيدته (14)، فلما أتمها خجلوا وافترقوا عنه. وأقام الغزال في رحلته تلك مدة يتجول في ديار الشرق، وما انفك في كل قطر منه من غريبة يطلعها وطريقة يبدعها. ثم إنه رجع إلى نفسه، وحنّ إلى مسقط رأسه وانصرف إلى الأندلس، وهو قد ترك شرب الخمر وتزهد في الشعر وشارف الستين، وركب النهج المبين، ولم ينسك نسكاً أعجمياً بل ظرف ظرفاً أدبياً، وسلك مسلكاً من البرِّ مرضياً". هذا ما ذكره كل من ابن دحية والمقري في شيء يسير من الاختلاف عن رحلة الغزال الثالثة. ولكن ثمة خطأً تاريخياً هو الذي دفعنا إلى استخدام عبارة: حسبما تزعم الرواية، وهي التي أوردناها آنفاً في سياق تبيان ظروف حدوث الرحلة- ذلك أن روايتي ابن دحية والمقري تجعلان حدوث هذه الرحلة بعد رحلة الغزال إلى بلاد الدانمارك وهي رواية ابن دحية في ذلك- هذا شيء: والشيء الآخر نصت الروايتان على أن هذه الرحلة وقعت بعد وفاة أبي نواس الحسن بن هانئ بمدة يسيرة. فإذا كانت المصادر التي ترجمت لأبي نواس قد أشارت إلى أن وفاته كانت سنة 198ه، كقول مقدم على غيره مع إيراد تواريخ عديدة قبل هذا التاريخ، فكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين القول بأن ذلك قد حدث إبان إمارة عبد الرحمن الأوسط (الثاني) الذي تولى الإمارة في سنة 206ه باتفاق كلمة المصادر الأندلسية والمشرقية؟ وقد نستطيع القول بأن التفسير القريب إلى الصواب أن تكون هذه الرحلة قد وقعت قبل رحلتي بيزنطة والدانمارك في عهد الأمير عبد الرحمن الثاني، وأنها قد وقعت في عهد أبيه الأمير الحكم بن هشام الذي كان قد استقدم زرياب وأنزله في ضيافته، ثم علت مكانته في عهد ابنه الأمير عبد الرحمن. أو لعلنا نقول إنها قد وقعت في أقصى احتمال في بداية عهد الأمير عبد الرحمن... أي في نفس 206ه. بعد هذه المقارنة التاريخية التي لا بد منها آن لنا أن نناقش أمر قيمة رحلات يحيى الغزال العلمية والأدبية. بادئ ذي بدء، شكك المؤرخون المحدثون، أو لنقل بعض منهم، في حدوث أكثر من رحلة للغزال إلى بلاد الروم وبلاد المجوس. وأشار المرؤخون الذين تابعوا أحداث الرحلتين إلى أنّ ثمة خلطاً بين رحلتي الغزال الأولى والثانية. ويعللون ذلك بتشابه ظروف وأحداث، بل وشخصيات الرحلتين، الأمر الذي دفعهم إلى اعتبار الرحلتين رحلة واحدة. والحقيقة أن هذه القضية قد احتلت حيّزاً واسعاً من الجدل بين المؤرخين المحدثين من المستشرقين والعرب. وبالطبع فإن تشابه ظروف وأحداث وأشخاص الرحلتين ثم التقارب الزمني بين الرحلتين قد أوجد ذلك الجدل... وإذا ما أردنا أن نزيد هذا القول قلنا إن هناك تشابها في أحداث كثيرة وقعت في الرحلتين. فلقاء الغزال بالامبراطور البيزنطي وبملك المجوس، كان فيهما تشابه تقريباً في تفاصيله. ولقاؤه بالامبراطورة البيزنطية، وبملكة المجوس وحديثه معهما وإعجابهما بظرفه كان واحداً كذلك. ثم إن اسم الامبراطورة البيزنطية هو تيودورا، واسم ملكة المجوس (الدانمارك) أو النورمان كما جاء في الرحلة الثانية هو: نود أو تود، مما يوحي بتشابه الاسمين. وقبل ذلك هناك التشابه في وصف أهوال البحر في كلتا الرحلتين أيضاً. كل هذا جعل بعض الباحثين من المؤرخين الأجانب والعرب يعدُّون السفارة الثانية لا تعدو أن تكون صورة مشوهة للسفارة الأولى إلى بيزنطة، التي يجب أن تكون هي الحقيقة. ويبدو لي بجانب ما سبق من اعتبارات أن هناك أمراً أدى إلى زيادة الخلط والتشكيك في أمر الرحلتين. فراوي الرحلة الثانية للغزال وهو "ابن دحية الكلبي" وهو من الأدباء المتأخرين، وقد توفي سنة 633ه كما أسلفنا لم يسند روايته. بمعنى أنه لم يشر إلى المصدر الذي نقل عنه خبر رحلة الغزال إلى بلاد النورمان. وبالطبع فإن من المستحيل أن يكون "تمام بن علقمة" راوي أخبار رحلة الغزال هذه والذي أشار إليه "ابن دحية" هو الذي نقل خبر الرحلة لابن دحية شفهياً لأنه يفصل بينهما أكثر من ثلاثة قرون. ذلك أن تماماَ كان معاصراً للغزال المتوفى في سنة 255ه. ومن هنا، بجانب ما سبق ذكره، نشأ الخلط والتشكيك في الرحلتين... أو بالتحديد في الرحلة الثانية. على أن البحث العلمي أثبت خطل هذا الرأي- فأثبت صحة حدوث الرحلتين معاً. ذلك أن الأبحاث الجغرافية التي أجراها بعض الباحثين الغربيين على خط سير الغزال في رواية ابن دحية والمعالم الجغرافية التي أشار إليها أكدت الاقتناع الكامل بصحة الرحلة إلى بلاد النورمان أو المجوس، أو الدانمارك الآن... بل إن أحد الباحثين، الأوربيين، وهو "ميشيل ت. كلاف" MICHAEL T. KLAFE وهو النرويجي الجنسية، تتبع من خلال دراسة تاريخية عميقة لملوك النورمان، أو ملوك الدانمارك، أحداثهم وأسماءهم. فخلص إلى أن الرحلة قد وقعت في عهد الملك الدانماركي المسمى "هوريك". وقد أشار إلى ذلك المؤرخ والأديب الروسي اغناطيوس كراتشوفسكي، في كتابه "تاريخ الأدب الجغرافي العربي" والمترجم إلى اللغة العربية، فقد استوعب كل هذا الأقوال، وما خلص إليه هذا الرأي من أن رحلتي الغزال كلتيهما حقيقيتان، وأن كل واحدة منهما تعدُّ رحلة قائمة بذاتها. والآن، وقد أجبنا عن التساؤل المتعلق بأهمية وحقيقة رحلتي الغزال التاريخيتين، يقتضي الأمر أن نعرض إلى الأثر السياسي الذي تركته هاتان الرحلتان الديبلوماسيتان في الأندلس. يمكن القول بأن الرحلة الأولى (وهي رحلة بيزنطة) على الرغم من أنها لم تحقق غايات سياسية إلا أنها على مستوى الصعيد الثقافي والحضاري قد تركت أو خلفت انطباعاًَ جميلاً في أذهان البيزنطيين آنذاك، بما عكسه الغزال ورفيقه من سلوك راق وثقافة عالية يدلان على ما بلغته الدولة الأموية في الأندلس من تمدن ورقي مادي في عهد الأمير عبد الرحمن- كما أن الغزال في الحقيقة تمكن بكياسته وظرفه من نسج خيوط الصداقة مع الدولة البيزنطية، وأن كانت المصادر لا تمدنا بتفاصيل دقيقة لذلك... ولكن هذا ما يفهم من عبارة ابن خلدون في كتابه "العبر" الذي يقول وهو يستعرض أخبار رحلة الغزال مختتماً الحديث بهذه العبارة: إن الغزال أحكم بينهما- أي الامبراطور والأمير- الصلة. أما أثر الرحلة الأدبي فإننا نتبينه من خلال الوصف الذي وصف فيه الغزال لقاءه مع الامبراطور والامبراطورة، وحديثه معها واطرائها له. ثم حديثه مع ولي العهد الأمير ميخائيل وإعجابه به، والأشعار التي قيلت وكيف حدث اللقاء وتقاليد ذلك اللقاء؟... كل ذلك كان له قيمته الأدبية والتاريخية معاً. وفي هذا الصدد يقول الدكتور أحمد بدر في كتابه "دراسات في تاريخ الأندلس وحضارتها": ان ما ذكره الغزال بشأن لقائه بالامبراطورة يمكن أن يكون صحيحاً. وفي الامكان تفسيره في ضوء ما عرف من التقاليد الديبلوماسية للبيزنطيين، فيما يتصل باستقبال الزوار الأجانب من الأمراء والسفراء. أما عن الأثر السياسي لرحلة الدانمارك فيمكن التأكيد على أن ذلك الأثر كان مرحلياً. فالغزال نجح مرحلياً في مسعاه الديبلوماسي، ذلك لأن النورمان ما لبثوا أن أعادوا الكرة ثانية بالغزو والهجوم على بلاد الأندلس بعد ذلك بحوالي ثلاثين عاماً... بيد أن قيمة الرحلة من الناحية الأدبية كبيرة وكبيرة جداً، ولنا أن نقول ما شئنا عن ذلك. فتصوير الغزال لرحلته جاء في طابع قصصي جميل، ولا سيما فيما يتصل بموضوع الطلب من الغزال الانحناء للامبراطور حالة رؤيته له... وقصة الباب الصغير الذي ضيق حتى يضطر الغزال إلى الانناء ومن ثم الرو، وحيلة الغزال في ذلك ... الخ وفي اعتقادي أن ما ذكر من مسآلة الباب هو مما أدخله الروائيون من خيال. نقول هذا مع التسليم بأن هذا الأمر مرفوض في عقيدة المسلمين، ولكن الاعتراض ينحصر في الطابع الروائي للقصة. أخيراً فإنه من الطبيعي أن لا خلاف على قيمة الرحلة الثالثة من الناحية الأدبية، وإن كان الأثر الذي بين أيدينا عنها ضئيل يسير. ولئن كان في أخبار الرحلة خبر مثير فعلاً ذلك المنحصر في ما دأب الأندلسيون من ترديده بشأن احساسهم بأنهم لا يقلون شأناً عن المشارقة. وهذا موضوع آخر ليس هنا مجاله. *** الهوامش والاحالات: 1-ترجم له كل من: الحميدي: جذوة المقتبس- الضبي: بغية الملتمس- ابن دحية الكلبي: المطرب من أشعار أهل المغرب- الخشني: قضاة قرطبة- ابن عذارى المراكشي: الأندلس والمغرب- ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب- المقري: نفح الطيب. وغير ذلك. 2-حكم بين سنوات 206- 238ه. 3-ذكر أكثر من أرَّخ لسيرة الغزال، أنه قد عُمِّر أربعاً وتسعين سنة، وأنه توفي سنة 250ه. غير أنه حفظ عن الغزال نفسه في بعض شعره أنه عاش 99 سنة، وعلى ذلك فقد توفي سنة 255ه لاسنة 250ه انظر: احمد هيكل: الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة، منشورات دار المعارف بمصر، ط7، ص 160. 4-ابن حيان: المقتبس من أنباء أهل الأندلس، تحقيق د. محمود علي مكي، منشورات دار الكتاب العربي، بيروت 1972، ص 134. 5-يقصد الأمير محمد بن عبد الرحمن (238- 272ه) الذي توفى في عهده. 6-في الحادثة التاريخية المعروفة بحادثة الربض، التي وقعت في عهد الأمير الحكم بن هشام (180- 206ه). 7-المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب- تحقيق د. إحسان عباس، منشورات دار صادر، بيروت 1968. 8-ابن دحية: المطرب من أشعار أهل المغرب، منشورات دار العلم للجميع، بيروت 1954. 9-شلب: SILVES مدينة من مدن الأندلس الإسلامية، وتقع بغربيها. وهي حالياً مدينة صغيرة تقع في جنوب جمهورية البرتغال. 10-الدبور: ريح تأتي من خلفك إذا وقفت في القبلة. والدَّبور بالفتح: الريح التي تقابل الصبا، والقبول وهي ريح تهب من نحو المغرب، والصبا تقابلها من ناحية الشرق (ابن منظور: لسان العرب، منشورات دار صادر، بيروت، مجلد 4، ص 270). 11-العياب: جمع العيبة، وهو وعاء من أدم يكون فيها المتاع، والعيبة أيضاً: زنبيل من أدم ينقل فيه الزرع المحصور إلى الجرين في لغة همدان (ابن منظور: لسان العرب، المجلد الأول، ص 634). 12-شنت يعقوب أوشنت يلقوه أو شنت ياقوب: مدينة تقع في أقصى الشمال الغربي من شبه جزيرة ايبريا، وتطل على المحيط الأطلسي، وكانت توجد فيها وقت رحلة الغزال كنيسة كبيرة مقدَّسة عند المسيحيين. 13-سرد الغزال على مسامعهم قصيدة خمرية في تسعة أبيات (المقري: نفح الطيب، المجلد الثاني، ص 260). 14-القصيدة أو بالأحرى مطلع القصيدة: وهي قصيدة خمرية كذلك- أوردها المقري في المصدر السابق، وفي نفس المجلد وفي نفس الصفحة. منقول عن موسوعة دهشة http://www.dahsha.com/old/viewarticle.php?id=28395 ديوان يحيى بن الحكم الغزال تحقيق : د/ محمد رضوان الداية الناشر : دار الفكر 1993 التحميل http://www.waqfeya.com/book.php?bid=3175 |