حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
مآذن خرساء 11/48 رواية مسلسلة حمادي بلخشين - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5) +--- المنتدى: قــــــرأت لـك (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=79) +---- المنتدى: مواضيـع منقــولة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=25) +---- الموضوع: مآذن خرساء 11/48 رواية مسلسلة حمادي بلخشين (/showthread.php?tid=44322) |
مآذن خرساء 11/48 رواية مسلسلة حمادي بلخشين - حمادي بلخشين - 07-14-2011 الفصل الحادي عشر طفولة شقيّة كانت صورة اللوطييّن النرويجييّن الأشيبن ترد على مخيلتي فتضاعف تقزّزي وتزيد توتّري، و تمنعني السلام و بالتالي من النوم.. كآبتي جعلتني أفكر في أب الكآبة و أم الكآبة و مخزن الكآبة... في صديقي رشيد الجزائري. رشيد رجل مكتئب بالميلاد.. خلق موبوءا بالأفكار السوداء.. لا يمكن ان تمرّ فترة دون أن تسكنه وساوس قهرية، أو يؤرقه تعذيب ضمير متطرّف الحساسيّة. إجتمع لدى رشيد العامل الوراثي، والإستعداد الفسيولوجي وصدمات الحياة ليكون مكتئبا نموذجيّا .. كنت أعلم أنّ رشيد يعاني صراعا نفسيّا، و احتقارا ذاتيّا، و خلافا زوجيّا، و بلادا نرويجية لم يتأقلم معها، و سياسة عالمية جائرة، و قروحا سنيّة و شيعية غير قابلة للبرء. ممّا ضاعف محنة رشيد أن كل عزاء محظور عليه. لا كأس خمر ينسيه ولا عشيقة تناجيه.. كل تسلية ممنوعة بالنسبة له. على رشيد أن يكابد عمليّة جراحيّة دون مخدّر، كشأن ـــ ص 79 ــــــ أطفال البوسنة الذين تبتر أطرافهم بسكاكين المطبخ، وهم يطلقون صيحات ألم مروّعة . ــ حين تمنيت الموت بصاعقة من السّماء، اتهمك بعض المصلين بضعف الإيمان! ــ السلفي كريم حامد دون شك. اليس كذلك ؟ ـــ أجل هو نفسه ـــ ..... كان كريم حامد أغبى بكثير من الإقتناع بفقدان الصلة التامة بين الاكتئاب و ضعف إلإيمان، لأجل ذلك قدّرت أن من العبث إعلامه أن "الإكتئاب يحصل نتيجة تفاعل عوامل كثيرة منها العامل الوراثي، حيث اثبتت عدة دراسات أن نسبة هذا المرض بين التوائم المتماثلة تصل الى 68% و حوالي 23% في التوائم المتآخية...[ رشيد توأم!!] و منها عوامل البيئة، و منها العوامل البيوكيميائية التي يسبّبها التعرّض لإضطراب في الجهاز الغدّي أو الجهاز العصبي، أو في كيميائية الجسم، هذا بالإضافة الى الخلل العضويّ في موصّل الإشارة العصبية سيروتين الذي يحدث في الفصّ الوسطي من المخ في الجزء الأيمن من الدماغ ". اطال رشيد الصمت ثم اضاف: ـــ قبل عشرين سنة، قرأت قصة روسية قصيرة عن مريض حسبه الطبيب ميّتا لأجل ذلك تم دفنه حيّا.. كان المريض خلال تشخيص الطبيب و تكفينه و تجهيزه، واعيا بكل ما كان يدور حوله. غير انه كان عاجزا عن الحركة و الكلام...تصوّر سامي .. لقد بقيت حوالي عشرين عاما وأنا خائف من ملاقاة نهاية مشابهة للمريض الروسي.. حتى انني اقترحت ذات مرّة على زوجتي وضع هاتف نقاّل في تابوتي! و لكن منذ سنتين فقط، أصبحت أتمني لو أدفن حيّا... فلأتعذب ساعة أو عشر ساعات لنقل ثلاثة أيام. المهم أن اتخلصّ من هذا الواقع المؤلم بأي شكل من الأشكال... ــ هذا قدرنا يا رشيد، يجب علينا الثبات الي النهاية على أرضية هذه المحرقة البغيضة. رشيد يعلم .. ككل المسلمين ان من انتحر عذبه الله بالشيء الذي قتل به نفسه، فمن شنق نفسه يكون عقابه الشنق المستمر و من رمى نفسه من عمارة يكون عذابه إلقاء نفسه من ارتفاع مماثل. ــــ ليكن عزاؤك ذكر الجنة، و ما أعدّه الله للمتقين . ــــ لا حاجة لي في الجنة ليرحنى الله من هذا العذاب.. أستغفر الله العظيم .هل في امكانك ان تجيبني عن هذا السؤال؟ ــــ ... ــــ لماذا يموت الرسول في أوج قوته؟ و لماذا يقتل عمر بن عبد العزيز في الأربعين من عمره؟ و يبقى بورقيبة حيّا حتى يتغوط على نفسه و على كلّ الشعب التونسي؟ أسرّت زوجة بورقيبة إلى بعض مقربيها بأنها شمّت رائحة نتنة حين كانت تصحب زوجها الى البيت الأبيض للقاء الرئيس الأمريكي.. بعد فحص الحفّاظة الرئاسية تبين ان الديكتاتور الخرف قد فعلها على نفسه! ـــ هذا تقدير الهي لا يمكننا معه غير التسليم المطلق.. ثم لا تنس ان الله قد أمرنا بالتخلص من بورقيبة منذ اللحظة الأولى من اغتصابه السلطة، حتى نبرهن عن ايماننا. ــــ ص 80 ــــــــ أردت التخفيف من توتر رشيد.. حكيت له نكتة شهيرة راجت في تونس . رشيد يسكن في الحدود التونسية... في مدينة عنابة، كان بامكان رشيد التقاط بث التلفزيون التونسي بسهولة. لأجل ذلك كان مستوعبا لتاريخ الحركة الوطنية. كما كان يحفظ جيّدا تاريخ" المجاهد الأكبر" وهجرته الشهيرة الي ليبيا على جمل، و كيف امتطى حصانا عربيا أصيلا حينما استقبلته الجماهير في حلق الوادي و هو قادم من فرنسا فور حصول تونس الإستقلال الذاتي. ـــ النكتة تقول ان بورقيبة كان يقف بباب الجنة . ضحك رشيد ثم قال : ــــ كيف يقف بباب الجنة من هو أسوأ من ابليس؟ الكهنوت السلفي هو التي صوّر للشعب التونسي أن ديكتاتور تونس يؤمن بالغيب أكثر من أي تونسي.. ثم كيف يمكن للشعب التونسي التصديق بان بورقيبة لا يؤمن بالجنة، و هو يعاين البقرات السلفية المعممة وهي تمجّده ليلا و نهارا و توصي بطاعته و تحرّم الثورة عليه و تطلق عليه تسمية حامى الوطن و الدين؟!. رشيد يعلم ايضا ان بورقيبة حين بلغ السادسة و السبعين من عمره قد ألقى محاضرة في اطارات التعليم العليا أعلن فيها عدم ايمانه بالغيبيات، كما سخر من عصا موسى .. وادّعى أن القرآن متناقض . ـــ دعنا من هذا هات نكتتك و ليذهب بورقيبة الى الجحيم. ــــ بينما كان بورقيبة يقوم بوظيفة بواب الجنة، أقبل عليه جمل و طلب الدخول، سأله بورقيبة : ماذا فعلت لتدخل الجنة؟ أجابه الجمل: هل نسيت حين حملتك على ظهري الى ليبيا.. اعتذر الزعيم و سمح للجمل بدخول الجنة، بعد قليل جاء حصان، و لما كان بورقيبة ذكيا بادره قائلا : اظن انك عين الحصان الذي حملني حين رجوعي من فرنسا قال: بلى فادخله الجنة.. بعد حين اقبل الحمار ثم طلب الدخول فاعتذر بورقيبة. حين احتج الحمار بدخول الجمل و الحصان أعلمه بورقيبة بان دخول الجمل و الحصان كان بسبب خدمات أسدياها لفخامته " ماذا قدمت ايها الحمار حتى تدخل الجنة ؟" هكذا سأله الزعيم .. أجاب الحمار:" لقد قدمت الكثير ... فلولا ثمانية ملايين من أمثالي ما حكمت تونس ساعة واحدة !" ضحك رشيد لكن سرعان ما عاوده وجومه... هذا قدرك يا رشيد، كل شيء يحول بينك و بين التخلص من حياة لا أمل فيها و لا عزاء.. حياة كل ما فيها بغيض. تركيبة نفسية متواطئة تجعلك جلاد نفسك، منفى نرويجي بغيض، زوجة بغيضة و جار بغيض ووضع سياسي كريه...ذكريات مؤلمة و حاضر مدمّر، وغد لا يعد بغير الألم و المعاناة..الماضي طعنة غائرة في القلب، و الحاضر جرح مفتوح، و المستقبل لغم مموّه بإحكام. بقدر ما كان رشيد شديد الحساسية الى حدّ كبير، بقدر ما كانت الصدمات التي تلقّاها مروّعة وذات دمار شامل.. عشر ما تلقاه رشيد كان يكفي لتشويه نفسية أي شخص في عالم عربي تهيأ أفراده بفعل الظلم السياسي و التمييز الطبقي لهضم اهانات يومية ثابتة.. كما كان عشر ما تلقاه رشيد يكفي بان يقتل البهجة و يميت الأمل و يجتث كل رغبة في الحياة من نفس أي انسان عاديّ، فما بالك بإنسان حساس مثله. كان من الضروري اسلام رشيد الي أبوين خبيرين في فن التعامل مع أمثاله من الحالات الإستثنائية، لكن اسلام رشيد الي أبوين فظين لم يكن يختلف عن إلقاء منديل حريريّ بين قوائم خنازير تعج بهم زريبة موحلة. عاش رشيد في جو عاصف.. والد سكّير، و أم قاسية و سليطة اللسان . ـــ اكتشفت منذ وقت مبكّر انني مسكون بقضايا لا يبالي بها من هم اكبر مني سنّا... حين كنت في السادسة كان يجتاحني كرب شديد عقب كلّ صدام عنيف بين أبي وأمي.. كان إخوتي الكبار يهبّون للفصل ـــــــــ ص 81 ـــــــــــــــ بين والديّ وقد تصيبهم أحيانا بعض ضرباته العمياء، وحين يفشلون في تدخلهم الجسدي كانوا يبكون و يتوسلون الى والديّ معا.. كانوا يرجون من والدي الكف عن الضرب و يناشدون والدتي السكوت لوجه الله ووجوه جميع الأولياء و الصالحين، ولكن والدتي لم تكن تسكت أبدا. كانت كلما تلقت شتيمة ردت عليها باثنين .. تنهّد رشيد ثم استمر شاكيا: ـــ إصرار والدتي على الشتم و اللعن، كان لا يقلّ عن إصرار والدي على الضرب و التجديف.. كان اخوتي يحزنون لتلك المشاجرات، لكنهم سرعان ما يشرعون في تبادل الضحكات و التعليقات الساخرة حتى بعد مرور أقل من ساعات قليلة على فضّ الإشتباك... كانت يعقب كل صدام عائلي مقاطعة و جوّ مشحون بتوتر و انذار بجولة جديدة من الصراع.. عند الإشتباك الجسدي لم اكن أتدخل، كانت سني لا تسمح لي بذلك، كنت التصق بالحائط و اشرع في البكاء مع اختي الأصغر مني سنا. بعد فض الإشتباك الذي ينتهي غالبا باستغاثة أحد اخوتي بالجيران، اظل واجما وصامتا، كنت أنزوي في ركن من البيت لأشرع في استعراض أوخم العواقب التي قد يسفر عنها ذلك الصراع العائليّ. ــ ما هي أسوء تلك الإحتمالات إطلاقا؟ ــ أسوأ الإحتمالات أن تقتل والدتي وهي تضرب، ثم يعدم أبي فأخسرهما معا. أما الإحتمال الأقل سوء ا فحدوث الطلاق... في بيتنا، كان الطلاق مثل الديمقراطية في أي بلد عربي، كثيرا ما نسمع عنها و لكننا لا نرى آثارها.. في كل مرة كانت أمي تطلب الطلاق، كان ابي يسرع في تحقيق طلبها محفوفا بلعنها ولعن والديها و لعن من عرّفه بها، دون ان ينسى لعن المأذون الذي عقد زواجهما. و لكنهما لا يفعلان شيئا أكثر من الكلام و التلاعن. غير أن مجرّد سماعي كلمة طلاق كان يصيبني برعب شديد. سألت رشيد متعجبا: ــ ماذا كان يعني الطلاق بالنسبة لطفل في السابعة؟ ـــ لا يكاد يعني شيئا لو لم يكن ذلك الطفل هو الشخص التعيس الذي يمثل أمامك. سكب لي رشيد المزيد من القهوة دون أن يتوقف عن الحديث : ــ كان الطلاق يعني لديّ الكثير.. كنت اخشى مصيرا كمصير زميلي حافظ مبروك، فقد كان انفصال والديه سببا في التفريق بينه و بين أخيه الذي كان شديد التعلق به بعد أن أعطيت حضانة أخيه الصغير الى أمه في حين بقي حافظ مع أبيه. كما كنت اعلم أيضا مايسببه الطلاق من ألم نفسيّ فظيع لكلا الزوجين. دون شعور وجدت نفسي اصيح سائلا: ــ يا الهي كيف أدرك رشيد الطفل ذلك؟ ـــ كان يؤلمني كثيرا شكوى قريب والدتي من تطليق زوجته له! ــ ...؟ ـــ كان ذلك القريب يقيم في فرنسا، و كان يزور الجزائر كل صيف، كان شقيّا في زواجه، خلال رجوعه الى ارض الوطن كان يتردّد كثيرا على منزلنا، في أول كلّ زيارة كان يعطيني لوحة من الشيكولاطة، بعد ذلك كان يعطيني قطعة نقدية...كان دائم الحزن. علمت فيما بعد أن زوجته الفرنسية كانت تجاهر بخيانته.. ضبطها مع سينيغالي. ذات مرة رأيته يبكي بين يديّ أميّ كصبيّ..لقد توفي المسكين منذ أكثر من عشر سنوات.. لأول مرة كنت أرى رجلا يبكي. كنت اظن ان الصبية و النساء فقط هم الذين يبكون. حين كنت اسأل امي: لماذا يبكي كانت تقول لي " لأنه طلق زوجته" و كنت أسالها " كيف يطلقها ثم يبكي؟ لماذا طلقها اذن ؟ " كانت تنهرني " أغرب عن وجهي ،لا تتدخل في حكايات الكبار". صرت مقتنعا بان الطلاق فظيع و مؤلم الى حد يجبر الرجال على البكاء. كنت أتساءل هل سيبكي ابي ايضا فور تطليقه أمي؟ تخيلت ابي الفظ وهو يبكي فطال تعجبي.. كنت اعلم ايضا ان المراة تتألم كثيرا من الطلاق، فقد سمعت والدتي تردّد في مناسبات عديدة ما حدث لجدتي من متاعب نفسية و مادية بعد تطليقها. لأجل ذلك كنت كثيرا ما أتساءل اذا كان الطلاق مؤلما للرجل و للمرأة على حدّ سواء، فكيف يقدمان عليه؟ كما كنت أخشى الطلاق، لأن أبي سيتزوج حتما من جديد و يتركنا دون دخل.. ربما تجبرني الخصاصة على التصريح الى مدير المدرسة انني احتاج الى مساعدة كسائر زملائي المعدمين حقّأ! ـــــــــــ ص 82ـــــ سألت رشيد ثانية: ــ كيف كنت تفكر في كل هاته الأشياء و أنت بعد في السابعة؟ ــ ذلك ما كان يحدث بالضبط. سألت رشيد مستوضحا: ــ ثم ما هي قصتك مع مدير المدرسة؟ ــ ذات مرة كنا في الفصل فدخل علينا مدير المدرسة صاح المعلم " انتبه" ثم أمرنا بالوقوف .. يبدو ان المدير كان مستعجلا.. أشار بيده " اجلسوا " بعد ذلك أدخل يده تحت سترته ثم اخرج من جيبه الداخلي كنّشا أنيق التجليد كان يتدلّى منه قلم رصاص ذهبيّ المؤخّرة ..كان القلم مربوطا بالكنش.. أوحى الي مشهد الكنش و القلم بفكرة... ماذا لو ربط كل رجل بزوجته حتى لا يفكر أحدهما بالإنفصال عن الآخر..و بذلك يوفران عل انفسهما الكثير من البكاء، و على أطفالهما الكثير من الألم و المعاناة. لكن كيف تصنع والدتي وقت ذهاب أبي الى العمل هل سيجرّها معه؟ هل سيصحبها أيضا الى المقهي حيث الرجال الغرباء؟! أيقنت بسخافة الفكرة حين وصل تداعي افكاري الى الحمّام التركي، حيث النساء نصف عاريات. و حيث صاحبة الحمام الصارمة التي انذرت والدتي بعدم قبولي بعد سن الثامنة.. فكيف سيكون شانها مع أبي ؟!... بعد ذلك، جلس المدير على الطاولة التي كان يحتـلها المعلم، ثم قال لنا" بدءا منذ الشهر القادم سنشرع في توزيع أكلات مجانية ساخنة في منتصف كل نهار، كما سنوزع لمجة بعد العصر، بالإضافة الى توفير أحذية مطاطية و قميص و سراويل لكل محتاج. فمن كان والده فقيرا أو قليل الدخل فليرفع يده" . سارع التلامذة الي رفع أيديهم، كما ارتفع ضجيجهم " أنا سيدي، أنا سيدي " لم يبق الا أنا و طفل واحد هو ابن المدير نفسه.. بالنسبة لي لم احتج الي طول تفكير فقد حسمت القضية منذ أول امس فقد كنت على علم بان هناك معونة مدرسية ستوزع قريبا ." لست فقيرا كما انني في غنى عن مساعدة أي أحد" هكذا قررت.. كانت والدتي تردد دائما " الحمد لله، أحنا كيف الناس، وأقل من الناس، وخير من الناس".. حفظت هذه الجملة الموسيقية لأني وجدتها متجانسة مع" بربّ الناس، ملك الناس، إله الناس" أول ما حفظت من القرآن.. بعد أن أعاد الهدوء الى الفصل، شرع المدير في تسجيل أسماء المرشحين للمساعدة.. كما رفض تسجيل أسماء بعض التلامذة، حين أصرّ احدهم على تسجيل اسمه وبخه المدير : ـــ إخرس يا كذاب.. فوالدك يملك دكان فواكه أكبر بكثير من هاته القاعة " اضاف وهو ينظر الى المعلم :" دخل ابيه يزيد عن دخلي و دخلك مرتين!"... طمعا في تعاطف أكبر، أدلى أحد زملائي بمعلومات طريفة اعتقد انها مجدية.. حين سأله المدير عن حالته المادية طأطأ راسه ثم قال في لهجة منكسرة: ــ " أنا بابا أعور و يبيع في البثل[البصل]"! كان التلميذ ألثغا لأجل ذلك أضحك كل الفصل، حتى المدير فارقه وقاره فانساق مع الضاحكين. لأنني لم اكن اختلف في سوء الحال عن سائر المسجلين فقد تطوع المدير بتسجيلي دون سؤال مكتفيا بطلب تذكيره باسمي، لكنني رفضت قائلا: ــ أنا لا احتاج الى أي مساعدة،فأبي يشتغل في البناء ولا يرتاح حتى يوم الأحد! (1) . ابتسم المدير ولم يقل شيئا... زميلي شريف هو الذي نقل الى اسرتي ما قلته حرفيا للمدير.. لم ينس احد تلك الجملة.. بعد خمسين سنة ما زالت والدتي تذكرني في معرض فخرها بعزتي المبّكرة بنفسي بما قلته للمدير، مقرونا بجملة ـــــ ص 83 ــــــــــــ شهيرة صرّح بها ابن خالتي جلال ــ زميلي ايضا في الفصل ــ و تولىّ شريف نقلها ايضا... تجهم وجه صديقي رشيد اطال الإطراق ارضا، اطلق زفيرا حادا ثم اعلن بنبرة حزينة: ـــ زميلي شريف لا يملك من معنى اسمه شيئا.. تنهد من جديد ثم اضاف: ـــ شريف هو الشخص الذي دمّر حياتي، و حكم عليّ بالعذاب الأبديّ.. قد اقص عليك خبره ذات يوم .. ما يعنينا الساعة هو جلال... كان والد جلال يملك قطع ارض فلاحية شاسعة تضم مئات من اشجار الزيتون و تدرّ عليه محاصيل وافرة. بالإضافة الى ذلك، كان يشتغل في البلدية.. حين سأله المدير زميلي جلال عن شغل أبيه أجاب فورا و دون ادني تردد" سيدي بابا ميّت! ". فردّ عيه المدير موبخا" ما تستحيش! أبوك حضر الي مكتبي أمس يطلب تسجيلك في قائمة المعدمين و كان مكتنزا كثورهولندي حقيقيّ. فمتي مات ابوك يا كذّاب؟" بعد ذلك امره بالصعود الى المصطبة و الإلتفات نحو الحائط و رفع يديه... فور فراغ المدير من تسجيل بقية الأسماء استعار مسطرة أوسعه بها ضربا حتى أدمى اصابعه . .حين سمع ابي قول جلال بصق على الأرض ثم قال : ــ يبدو ان الولد رخيص مثل أبيه! علمت فيما بعد ان والد زميلي جلال كان يتعاون مع قوات الإحتلال الفرنسي، و قد نجا باعجوبة من محاولتي اغتيال تعرّض لهما! حكاية رشيد ذكرتني بالفقر الذي كنا نكابده أيضا في تونس،اردت التخفيف من توتّر صديقى الجزائري رشيد فقصصت عليه ما جرى لأبي مع زوج خالتي.. كان زوج خالتي يشتغل مع ابي في وزارة الأشغال العامة.. ذات صباح لا حظ أبي توتّر زوج خالتي و حدّة مزاجه و عصبيته المفرطة.. حدّة زوج خالتي دفعته الى التشاجر حدّ الأشتباك بالأيدي و لثلاث مرات متتابعات و في أقل من ساعتين مع زملائه... حين سأله ابي عن سبب توتره غير المعهودا اعلمه باستحياء شديد بانه قرر إبطال التدخين بداية من يومه ذاك بسبب كثرة المصاريف التي فرضها انتقال ابنه صالح الى مرحلة التعليم الثانوي:" العيشة مرّة أخي أحمد.. دخلى ضعيف، و انت سيد العارفين و "الزنقة وقفت للهارب" (1 ( و لا مفرّ لي من التضحّية بمتعتي الوحيدة في سبيل توفير حاجيات ابني المتصاعدة" بعد قليل اضاف ملتاعا :" بالأمس فقط سلمته كل ميزانيتي المخصصة للسجائر، ليقتني كتابا مدرسيّا ". عند رجوع والدي من العمل، قص علينا معاناة زوج خالتي.. بعد ذلك شرع يدير هامته في هيئة المتعجب ضحك طويلا ثم اضاف: ـــ منذ نصف ساعة و في طريقي الى البيت رأيت الفتى صالح... كان برفقة أربعة من أنداده.. لم يرني بالطبع.. فوجئت كثيرا حين رأيته يخرج علبة سجائر من النوع الفاخر وزّع أربعة منها على من كان معه، قبل أن يدسّ الخامسة بين شفتيه. ضحك ابي طويلا ثم اضاف: ــ الطريقة التي كان يعامل بها السيجارة امساكا و تدخينا تحملني على الجزم بأنها أول سجائره ! ــــــــــــــ (1) منذ العهد البورقيبي كان الأحد هو يوم العطلة الإسبوعية . يتبع |