حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
منطلقات ومرامي قراءة محمد عابد الجابري لابن سينا - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: عـــــــــلــــــــــوم (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=6) +--- المنتدى: فلسفة وعلم نفس (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=84) +--- الموضوع: منطلقات ومرامي قراءة محمد عابد الجابري لابن سينا (/showthread.php?tid=44717) |
منطلقات ومرامي قراءة محمد عابد الجابري لابن سينا - رشيد عوبدة - 08-16-2011 تحتل أعمال المفكر المغربي محمد عابد الجابري مكانة متميزة في حقل الثقافة العربية المعاصرة، لما انتهجه من مسلك خاص ومتفرد في قراءته وحفره في النصوص التراثية بشتى تلويناتها. وهي قراءة تتوخى بالأساس نقد العقل العربي والبحث عن أسس وآليات اشتغاله،قراءة جينيالوجية تعود للتراث للحفر فيه وتملكه دون أن تظل سجينة لأطره ومقولاته في الرؤية وإنتاج المعرفة. إن ما يميز تعامل الجابري ودراسته للتراث العربي الإسلامي هو تجييشه لترسانة من المفاهيم المستمدة من الفلسفة والعلوم الإنسانية، وتوظيفها في دراسة النصوص التراثية بشكل ينم عن وعي عميق بخصوصية الظاهرة التراثية العربية، وبالسياق التاريخي والفضاء العقلي الذي أنتجت في أحضانه. ومثل هذا الوعي المصاحب لدراسة الجابري للنصوص، هو ما أكسب منهجه في التعاطي مع التراث تفردا وأصالة تنم حقا عن إصرار قوي و قدرات هائلة لدى صاحبها في الحفر داخل النصوص واستخراج خباياها، ليس من أجل معرفتها فقط ولكن أيضا من أجل استلهامها في تحقيق مشروع النهضة العربية المعاصرة، التي ظلت حاضرة كهاجس في معظم كتاباته. وإذا كنا سنركز في مقالنا على قراءة الجابري لابن سينا، فإننا نجده يحدد غايته من دراسة نصوص فلسفة الشيخ الرئيس في هدفين رئيسيين؛ يتمثل أولهما في إبراز آلياتها الإبيستمولوجية، وثانيهما في الكشف عن مضمونها الإيديولوجي. من هنا فقد اعتبر أن استعماله لتلك النصوص سوف لن يكون استعمالا معرفيا، بقدر ما هو استعمال وظيفي؛ أي أنه لن يتوخى الذوبان داخل النصوص والمكوث فيها، إذ أنها ليست غاية في ذاتها، بل سيكون الدخول إليها وسيلة للخروج بنتائج معينة؛ تتمثل أولا في الكشف عن بنية التفكير التي تحكم النصوص، وهو هدف يروم من خلاله الجابري تعرية بنية العقل وقواعد إنتاجه للمعرفة، وتتمثل ثانيا في ربط الفكر بسياقه التاريخي والاجتماعي، والهدف من ذلك طبعا هو التأكيد على انتساب الفكر لمحيطه وحمله لهواجس إيديولوجية يتعين الكشف عنها. هكذا نجد الجابري في قراءته لابن سينا،بعد أن قسم مؤلفاته إلى كتب تعليمية ترتبط بعلوم الأوائل وكتب تتضمن “فلسفته المشرقية”، يركز على العوامل التي تحكمت في تأويل ابن سينا للنصوص التي قرأها، وكذلك الكشف عن الأسس التي تنبني عليها “فلسفته المشرقية“ التي تمثلها كتب مثل “الإنصاف” و “الإشارات والتنبيهات” ورسائله في النفس وغيرها. والغرض من كل هذا هو الكشف عن المضمون الإيديولوجي لفلسفة ابن سينا، لاسيما ما يسمى بفلسفته المشرقية. وإذا كان من أهم فلاسفة الإسلام الذين قرأهم ابن سينا هو الفارابي، فإن الجابري يلاحظ أن الشيخ الرئيس احتفظ بكل عناصر المنظومة المعرفية التي استخدمها المعلم الثاني، إلا أنه وظفها توظيفا إيديولوجيا مختلفا يتعين حسب قراءة الجابري إظهاره والكشف عنه. وأساس مثل هذا الفهم نابع من منطلق أساسي لدى الجابري، يتمثل في أن المادة المعرفية الواحدة قابلة لعدة توظيفات إيديولوجية حسب السياقات التاريخية والاجتماعية المختلفة. انطلاقا من هنا فقد سعى الأستاذ الجابري إلى عقد نوع من المقارنة بين علاقة المعرفي بالإيديولوجي عند كل من الفارابي والشيخ الرئيس؛ فتبين له أن صاحب “المدينة الفاضلة” كان يعبر عما سماه المفكر المغربي بمطامح قوى التقدم في عصره، والمتمثلة في إقامة دولة العقل التي يكون بإمكانها توحيد المجتمع العربي على كافة الأصعدة، مما جعل الفارابي يعيد تشييد النظام المعرفي للكون السائد أنذاك حسب ما تسعى المدينة الفاضلة إلى تحقيقه؛ أي أن الطموح الإيديولوجي كان يكيف المعطى المعرفي ويتحكم فيه، أو أن نظام المدينة انعكس على نظام المعرفة وجعل المنظومة الميتافيزيقية،المتمثلة أساسا في نظرية الفيض، تحاكي المنظومة الاجتماعية-السياسية وتستجيب لها. أما بخصوص ابن سينا، فيذهب الجابري إلى أنه بالرغم من استعادته للمنظومة الميتافيزيقية للفارابي، فإنه لم يستعد معها نفس الطموح الإيديولوجي الذي كان حاضرا لدى الشيخ الرئيس. وبالعكس، فإن ابن سينا استعاد المنظومة المعرفية الفارابية، وأضاف إليها بعض العناصر، لكي يوظفها توظيفا جديدا يتماشى مع “فلسفته المشرقية” وينسجم مع فلسفة الخلاص الماورائية وإيديولوجيتها التي تجد جذورها في الفكر الهرمسي الذي كرسته طائفة الإسماعيلية. من هنا رأى الجابري أن أمر قرار هذا التوظيف الإيديولوجي لم يكن قرارا ذاتيا أملاه الحلم الشخصي لابن سينا، بقدر ما كان قرارا صادرا عن التاريخ؛ أي نابعا من المنظومة الإيديولوجية السائدة التي كرست، حسب الجابري، فكر الانحطاط واستقالة العقل. ( الجابري: نحن والتراث، طبعة 1980 ، ص 129-133 ) وما يمكن ملاحظته هنا، هو أن المنهج المعتمد لدى الجابري في قراءة النص التراثي، هو منهج يعتمد في بعض خطواته الرئيسية على القراءة التاريخية السوسيولوجية التي تربط الفكر بتاريخيته وبالظروف الاجتماعية والملابسات السياسية التي أفرزته، مما يصدر عن قناعة لدى الجابري –فيما يبدو- حول الوشائج المتينة القائمة بين المعرفي والإيديولوجي في أية فترة تاريخية؛ إذ لا يتصور أن الفيلسوف أو المفكر قد يعالج قضايا وإشكالات هي من قبيل الترف المعرفي أو منفصلة بشكل نهائي عن هموم المجتمع وقضاياه. كما يقوم هذا المنهج المعتمد من قبل مفكرنا على تأويل العناصر المعرفية التي تحبل بها النصوص، تأويلا يروم توضيح العلاقات التي تؤثثها من جهة، ويستهدف الكشف عن أسباب تبنيها من قبل صاحبها من جهة أخرى. يتضح هذا مثلا في كشفه عن التراتبية الأنطلوجية التي تحكم نظرية الفيض عند الفارابي، وتشابهها مع التراتبية التي تحكم تصوره للمدينة الفاضلة، ثم تفسير ذلك بالقول إن المنظومة المعرفية كانت موجهة لدى المعلم الثاني بالمنظومة السياسية التي كانت تتوخى تأسيس مدينة العقل وفق نظام تحكمه أسس عقلانية. كما يتضح ذلك عند ابن سينا في إشارة الجابري إلى أنه انصرف إلى إبراز الثنائية التي تحكم الكون وأجزاءه، عن طريق التأكيد على الفرق النوعي بين العالم السفلي والعالم العلوي وبين النفس والبدن، بدل التأكيد على الوحدة والترابط الموجود بينهما كما هو الحال عند الفارابي. ومن هنا اعتبر ابن سينا أن النفس جوهر مستقل عن البدن، و أن الجسم مجرد آلة تسخرها النفس لتحقيق مهمتها في الحياة الدنيا والعودة بعد ذلك إلى الحضرة الإلهية. إن كل هذا جعل الجابري ينعت ابن سينا بفيلسوف النفس، بينما الفارابي فيلسوف العقل، فالسعادة عند الشيخ الرئيس تكمن في انفصال النفس عن الجسم والتحاقها بالعالم العلوي، مما يجعلها سعادة شخصية تتوقف على التحرر مما هو أرضي والتطلع إلى عالم ما ورائي، وهي سعادة يغيب معها المشروع الاجتماعي الواقعي الذي من شأنه أن يرسي دعائم الدولة القادرة على إشاعة النظام والاستقرار بين الناس وتحقيق الرفاهية لهم. وقد كشفت قراءة الجابري لنصوص ابن سينا، أنه كان أبعد عن الروح الأرسطية حتى في كتبه ذات الطابع “المشائي”؛ حيث نجد حضورا لعناصر فكرية رواقية في قسم المنطق من كتاب “الشفاء”، كما نجد الشيخ الرئيس يخالف أرسطو في أمور كثيرة، خصوصا تلك التي تتعلق بطبيعة النفس وخلودها وعلاقتها بالبدن. كما نفى الجابري أن يكون ابن سينا في مستوى أرسطوطاليسية الفارابي، بل إن فلسفته المشرقية ارتكزت على “أفلاطون الإلهي” وعلى العلوم “السرية” كما نجدها في الفلسفة الحرانية، التي يؤكد الجابري على التشابه الكبير بينها وبين فلسفة ابن سينا المشرقية. وهذا ما جعل فلسفة ابن سينا ذات منحى روحاني، جعلها ليست فقط أبعد عن “مادية أرسطو”، بل أبعد أيضا عن “الواقعية الدينية” التي ظهرت في الجدالات الكلامية بين المتكلمين في قراءتهم للقرآن وخوضهم في المسائل المتعلق بالعقيدة الدينية. وباعتماد منهج الحفر الإبيستمولوجي في نصوص ابن سينا، نجد الجابري يصل إلى الكشف عن طابعها الروحاني اللاعقلاني، ويوجه حكما، قد يعتبره الكثيرون قاسيا، وهو حكم فرضته المقاربة الإبيستمولوجية الصارمة التي تمثلت في القول بأن الشيخ الرئيس كان « أكبر مكرس للفكر الغيبي الظلامي الخرافي في الإسلام». ( الجابري، نحن والتراث … ص 201-202 ) كما أشار الجابري إلى أن ابن سينا قد ارتبط بالهرمسية عن طريق دعاة الإسماعيلية، وتبنى فلسفتهم الماورائية مما جعل « الرؤية السيناوية هي الأخرى جمعا، بل تلفيقا، بين إلهيات الفارابي وأخرويات الإسماعيلية، بالإضافة إلى ما عكسته من مشاغل العصر». ( الجابري، بنية العقل العربي، طبعة 1986، ص 462 ) كما أكد الجابري، في معرض بحثه عن الأسس الفكرية التي ترتكز عليها فلسفة ابن سينا، على ارتباطه بإخوان الصفا إذ شكلت رسائلهم مرجعا أساسيا لتكوينه المعرفي والفلسفي؛ بحيث جعل من “علم النفس” ذي النزعة الأفلاطونية، والذي وظفه إخوان الصفا في تحقيق مشروعهم الإيديولوجي، أساسا لفلسفته المشرقية التي كانت تعبر عن إيديولوجيا عصر الانحطاط. من هنا اعتبر الجابري في قراءته لنصوص الشيخ الرئيس، أنه عبر في فلسفته المشرقية عن وعي قومي فارسي مهزوم، وعي يسعى إلى استعادة على مستوى النظر ما فقده على مستوى العمل. هكذا فالنقد اللاذع الذي وجهه الجابري لابن سينا لم يكن موجها، حسب تقديرنا، إلى الشيخ الرئيس في حد ذاته، بل يتجاوزه ليصبح نقدا غير مباشر للتيارات الفكرية والحركات الإيديولوجية الموجودة في الحاضر، والتي تسعى إلى تكريس الفكر الظلامي ونشر ثقافة الجمود التي من شأنها أن تنتصب كحجرة عثرة أمام عجلة النهضة والتقدم المنشود في المجتمعات العربية المعاصرة. وهذا يعني أن الهم النهضوي أو الحداثوي كان حاضرا بثقله في فكر الجابري، وهو في عز انغماسه داخل متون الفكر العربي الإسلامي القديم. وإذا كان مفكرنا قد وجه نقده لابن سينا وحمله مسؤولية نشر ثقافة روحانية غنوصية تكرس لإيديولوجيا عصر الانحطاط ، فإن مبادئ مثل هذا النقد ترتكز على أسس “العقلانية” التي سعى صاحبها إلى بثها في كل مقارباته للنصوص التراثية من جهة، كما ترتكز من جهة أخرى على إيمانه الراسخ بأن حلم التقدم لن يكون إلا بنقد وتعرية ومحاربة كل أشكال الفكر اللاعقلاني في التراث العربي الإسلامي. فبدون تطهير الماضي لن يكون من الممكن إصلاح الحاضر، وهذه ولا شك إستراتيجية أساسية في المنهج الجابري المنصب على التراث؛ إذ أنه يفصل بيننا وبين الماضي و ويوصل بينه وبيننا في الآن نفسه، فصل مفاده أن دراسة التراث لن تكون دقيقة وعميقة إلا بفهمه في حقله التداولي الخاص، ووصل مؤداه أن العودة إلى الماضي لن يكون بهدف الإقامة فيه بل من أجل استلهام العناصر المشرقة فيه للإجابة عن أسئلة الحاضر. انطلاقا من كل هذا، يبدو أن صاحب “نحن والتراث“ وجد في الفارابي تلك النزعة التقدمية التي سعى من خلالها صاحبها إلى الحلم بإقامة دولة العقل على أنقاض ما كانت تعيشه دولة الخلافة من تناقضات داخلية، فمجد بشكل أو بآخر المشروع الفكري لصاحب “آراء أهل المدينة الفاضلة” من أجل أن يستلهم مشروعه لإقامة أسس المجتمع العربي المأمول في الحاضر والمستقبل. وبالمقابل نجد صاحب مشروع “نقد العقل العربي” ينهال بمعاول نقده على فكر ابن سينا، لأنه وجد فيه بعض عناصر انتكاسة الفكر العربي وأسرار تخلفه سواء في الماضي أو الحاضر. |