حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
مآدن خرساء 1 ــ14/48 رواية مسلسلة حمادي بلخشين - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5) +--- المنتدى: لغـــــــة وأدب (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=78) +--- الموضوع: مآدن خرساء 1 ــ14/48 رواية مسلسلة حمادي بلخشين (/showthread.php?tid=44806) |
مآدن خرساء 1 ــ14/48 رواية مسلسلة حمادي بلخشين - حمادي بلخشين - 08-21-2011 الفصل الأول مائدة من السّماء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بسم الله الرحمن الرحيم .... من عبد الله السلفي الى النّكرة الوضيع سامي أحمد ... عليك لعنة الله و ملائكته وجميع عباده الصالحين ... أيها الصّهيوني اللّعين قل لي بصراحة، كم قبضت من أعداء الإسلام ؟.. لقد سبقك كثير من الزنادقة.. كلهم دخل مزبلة التاريخ، ستلحق بهم قريبا إنشاء الله.. ثم هل تستطيع أن تخبرني، من تظن نفسك أيها الحقير، حتى تـتطاول على علماء عظام أمثال الإمام الألباني محدّث العـصر، و الإمام احمد بن حنبل ناصر السنة؟... أجبني أيّها الضالّ المضلّ.. من أنت حتى تشكّك في الأحاديث التي صحّت عن الرسول و أجمعت عليها الأمة خلال أربعة عشر قرنا ؟!" هذا بعض ما حمله صندوق بريدي هذا الصباح ... تذكرته الآن، و أنا اقف بين جموع المصلين الذين اصطفوا وراء الإمام الباكستاني ضياء الرحمن... في الواقع، لا يجوز لأي مسلم أن يدع التركيز أثناء أداء الصلاة، وينساق مع أفكاره.. علّمنا الإسلام أن الشيطان هو الذي يحاول إلهاء المصليّن بقدر ما يستطيع، حتى يحرمهم من بعض أجر الــصلاة، او ربما من كل الأجر.. هناك أحاديث تؤكد ان الصلاة الرديئة الأداء تكوّر كثوب متسخ ، ثم ترمى على وجه مؤديها فور فراغه منها .. رغم انني لم أضرب بشيء من ذلك القبيل منذ بدأت الصلاة قبل ثلاثين سنة. فأنني أصدّق هذا الحديث الذي يحث المسلم في مدلوله النهائي، على أداء صلاته بشكل جيد، خصوصا و ان هذا الصنف من المرويّات لا تنبعث منه رائحة التزوير التي طالت أحاديث أخرى أضرّت بالمسلمين، و أسرعت بهم الى الحضيض الذي يستقرون فيه منذ قرون عديدة ... لأن أمثال هذا الحديث لا يخدم مصلحة الحكام المفسدين.. فماذا يهمّ الديكتاتور لو أحسن المواطن صلاته أو أساءها؟ المهمّ أن يتبع ذلك المواطن المرعوب توصيّات الشافعيّ و ابن حنبل، فيحسن إغلاق فمه، لمنع أي همسة احتجاج تتسرّب منه. و ليذهب بعد ذلك الى الجحيم، فتلك قضية لا تخصّ الحاكم، ولا تعنيه في شيء. إن خطيئة عرض أقوال النبي على ضوء العقل و المنطق، للتمــييز بين الحديث الصحيح و المزوّر، هي أهم أسباب كراهية السلفيين لي، لأنهم يؤمنون بصحّة الأحاديث، لمجرّد كون نقلتها ثقاة. اما لو خالفت العقل و المنطق، فتلك مسألة غير ذات أهميّة. فالعقل لدى السلفيين في إجازة مفتوحة،... هذا لو وجد أصلا . حين سألني زميل عملي النرويجي Dag عن السلفية أجبته : ـــ " باختصار شديدة، هي مدرسة غبيّة تتمسك بقراءة حرفية للنص الديني، نظرا لتزمت أصحابها وضيق أفقهم، وسذاجتهم الفطرية التي يؤمنون بموجبها بان استعمال العقل جريمة لا تغتفر، لأجل ذلك كان السلفيون عون الحكام الفاسدين، و سلاحهم الذي لا يخطئ غرضه" . لعنت الشيطان في سرّي، يبدو انني سأقذف هذه المرّة بكل مزابل الدنيا و قاذوراتها...حاولت التركيز من جديد لكنني لم أوفق. فقراءة الإمام الباكستاني كانت رديئة جدّا، وهذا يحنقني، كما كان يسرع في السجود بشكل لم أتمكّن معه حين أضع جبهتي على الأرض، من التسبيح و لو لمرّة واحدة.. وهذا يغيظني أيضا... يبدو ان الشيطان أكثر ما يكون اليوم إصرارا على مشاكستي ..ساقتني تداعي الأفكار الى تذكّرالحديث الذي يقول بان الشيطان يحاول إشغال المصلي بذكر أي شيء يلهيه عن التركيز في صلاته... وجدتني ابتسم من حكاية الرجل الذي خبّأ مالا ثم نسي مكانه، فطلب من الإمام الدعاء له حتى يجده، أجابه الإمام:" في الحقيقة، أنا غير واثق من ان دعائي سيحلّ مشكلتك، ولكني أنصحك بان تصلي كثيرا هاته الليلة" . سأله الرجل :" لكن ما علاقة ضياع مالي بصلاتي بالليل؟ أجابه الإمام :" قلت لك صلّ الليلة كثيرا... ستكتشف ان ذلك هو الحلّ الوحيد" . بعد منتصف الليل إستيقظ الرجل و في نيّته الصلاة حتى الساعة الخامسة صباحا... فور توجهه الى القبلة و شروعه في الصلاة ، تذكّر المكان الذي خبّأ فيه المال... من شدة فرحه، قطع صلاته دون تسليم .. إتجه مباشرة الى حيث خبّأ ماله... بعد اطمئنانه على وجوده كاملا، نام من فوره! في الصباح روي للإمام ما حدث له، أجابه الأخير دون أن يخفي ابتسامته: "كنت أعلم أن الشيطان سيدلّك علي مكان المال حتى يفوّت عليك أجر الصلاة !". تذكرت أن الإمام الباكستاني ضياء الرحمن من جماعة التبليغ.. أزعجني ذلك كثيرا.. ذلك يعني انه صوفي و خرافي أي انه لا يؤمن بفصل الدين عن السياسية فحسب، بل و بفصله عن الحياة أيضا، وهذا يشككني في جدوى الصلاة وراءه، بل يجعلني أتمنى فراغه من إمامتنا ..لا شكّ ان صديقي الجزائري رشيد يكابد الآن ما أكابده من جهل الإمام بالقراءة و الصلاة . تذكري رشيد جعلني أتذكر نكتة رواها لي يوم أمس.. قبل ان أسوقها لكم .. لا بد ان أخبركم بأن في ثقافتنا الإسلامية، اذا دخل المسلم قاعة الصلاة ووجد الصف كاملا ثم لم يجد مكانا يقف فيه، فلا تجوز صلاته منفردا، بل يجب عليه أن يلمس كتف أحد المصلين فيفهم الأخير بأن القادم الجديد يبحث عمن يشاركه الصفّ الأخير، وبالتالي يجب عليه التأخر ثلاث خطوات دون أن يصرف وجهه عن إتجاه القبلة، ليقف معه في الصف الأخير... ذات مرة دخل أحد المتأخرين فوجد الصف كاملا فلمسّ كتف أحد المصلين فتأخر الأخير ثلاث خطوات كما هو مطلوب منه حينئذ احتل القادم الجديد مكانه، و تركه وحيدا مغتاظا! فور انتهاء ضياء الرحمن من الصلاة، استدار عن يمينه مستقبلا المصلين.. بعد تفرسه في وجوه الحاضرين.. أعاد تسوية قبعته الأفغانية.. مرّر يديه المعروقتين على لحيته الرمادية الطويلة، قبل أن يرفع يديه مستهلا دعاءه بصوت غليظ : ـــ اللهم تقبّل منا أنك أنت السميع العليم، و تب علينا أنك أنت التواب الرحيم. لم يكترث الإمام الباكستاني بمجموعة كبيرة وقفت فور فراغه من الصلاة لتكمل ما فاتها من ركوع و سجود لم تدركها معه، استمر يدعو بصوت جهوري اخذ يرتفع تدريجيا إلى حدّ مزعج...كان أغبى بكثير من أن يدرك ان ذلك الدعاء الذي شوّش به على المصلين مجرّد بدعة لا اصل لها في الدين، كما كان يجهل ايضا أنه سيجبر بعض المصلين على لعنه في سرّهم، و لعن من اختاره اماما، و لعن من وافق على إعطائه الفيزا لدخول مملكة النرويج.. ربما فعلوا كل ذلك إثناء محاولاتهم جاهدين إعادة قراءة مقاطع القرآن التي لا تتم الصلاة بدونها، و التي حال صوت الإمام دون قراءتها بتدبّر أو حتى دون تدبّر . استمر ضياء الرحمن يدعو دون مبالاة: ـــ اللهم آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار اللهم اغفر لنا ذنوبنا و كفّر عنا سيآتنا و توفنا مع الأبرار ... دون انذار، قذفنا بالدعاء التالي : ــ اللهم ربّنا انزل علينا مائدة من السماء انك سميع الدعاء... اللهم..! قاطعه رشيد... كان يجلس في الصف الثالث الى جانب شيخ صومالي: ـــ يا ربّي، يا ربّي بل أنزل عليّ صاعقة من السّماء، لو صليّت ثانية خلف هذاالإمام الجاهل! إنقسم الحضور بين ضاحك يتلوّى على الأرض من طرافة المشهد، و بين متسائل عن سبب ثورة رشيد، و بين من شرع يذم رشيد بعد مغادرته المسجد، على سوء أدبه، وعدم مراعاته حرمة بيوت الله، بالإضافة الى تشويشه على المصلين. في حقيقة الأمر، لم يكن ضياء الرحمن هو الإمام الرسمي للمركز الثقافي بقرينلاند، و لم يكن حتى نائب الإمام، لأنني أنا الذي ينوب الإمام الرسمي حبيب الرحمن عند غيابه عن أوسلو أو حين تأخره عن موعد الصلاة .. ما جعل ضياء الرحمن يتقدم المصلّين في هاته الليلة، هو حمله للحية ضخمة لا أملك مثلها، ثم تقدّمه في السن، هذا بالإضافة الى كونه حافظ، أي انه يحفظ كل القرآن من صفحته الأولى الى آخر سطر منه . رغم انني أحفظ كل القرآن، وأتقن العربية وأفهم الإسلام بالشكل الصحيح، فقد قررت إدارة المركز الثقافي بالإجماع وضعي على الرّف منذ حضور ضياء الرحمن الذي نزل ضيفا على المركز الثقافي رفقة مجموعة كبيرة من جماعة التبليغ التي جاءت من باكستان لتبلغ مسلمي النرويج المساكين دينهم، على الرغم من أن أفراد تلك المجموعة لا يتقنون لا النرويجية و لا العربية، و لا حتى الانكليزية! فور قدومه الذي حدث منذ أسبوع، شرع ضياء الرحمن في مذبحة حقيقية للغة العربية وتحريف مروّع لحقائق الإسلام، ممّا حمل بعض المصلين على هجرة المركز الثقافي لبعض الوقت . صديقي رشيد فرّ من أول يوم حلّ فيه ضياء الرحمن، كذلك فعلت انا. غير ان المعلومات الخاطئة التي وصلتني عن خروج ضياء الرحمن الى مدينة "درامن " للدعوة و التبليغ، هي التي أعادتني الى المركز، ليس لوحدي، بل و انا أجرّ صديقي رشيد، و كأنني أقوده الى منصّة الإعدام . لدى وصولنا الى المركز الثقافي، و حين صدمنا بوجود الإمام، كان علينا ان نبقى مكرهين فقد حان وقت صلاة العشاء . بعد مغادرة رشيد قاعة الصلاة، إلتف المصلون حول الإمام الذي لم يتوصّل الى فهم سبب ثورة صديقي الجزائري ! ــ أعوذ بالله من ضعف الإيمان، لو كان ذلك الشقي مؤمنا حقا، لما تمنّى الموت بصاعقة من السماء،فلا يجوز تمنّي الموت بصاعقة أو غيرها . هكذا علق كريم حامد ... سلفي ليبي اشتـبكت معه قـــبل يومين، حين سمعته يلعن من بال واقفا ! كان كريم حامد يجلس في الصف الأول، ولما كنت جالسا خلفه اقتربت منه ثم همست في إذنه : ـــ الرجل الذي سميته شقيا هو أكثر منك إيمانا. حين التفت و رآني، نهض كمن لسعته عقرب.. اتجه نحو الباب و هو يقول : ــ أعوذ بالله... هذا ألعن من أخيه الذي خرج ! أردت ان اقول للسلفي الليبي ان رشيد تصدّى لحكامه المفسدين، في حـــين اكتفى هو بالتصفيق لدكتاتور ليبيا. اضاف و هو يرمقني بحقد ظاهر: ــ لولا علمي بانك لم تعد تصلي هنا، لما عدت لأرى وجهك. ــ بالمناسبة، تمني الموت يكون جائزا، بل مطلوبا اذا كان ينقذ المرء من رؤية تافه مثلك . ــ يا زنديق ... لو كنت في ليبيا لوقع إعدامك لخروجك على الحاكم ومخالفتك إجماع الأمة . ــ ذكرتني انك ليبي... جميل جدا ... سلفي و ليـــبي في آن واحد.... كـــان يكفي ان تكون ليبيا لأعتبرك أحمقا فكيف بليبي سلفي ! في ثقافتنا الشمال افريقية يعد الليبيون موضع تندر التونسيين و الجزائريين و المغاربة .. لما اشتهروا به من سذاجة تصل الى حد البلاهة، و قد أكد الرئيس الليبي معمر القذافي هذه القاعدة التي كانت الى حد صعوده الى السلطة موضع شك !.. حين سمع الناس بانقلاب عسكري حدث في ليبيا اعتقدوا أن عسكريا عثر في الطريق فانقلب على وجهه!.. من الطرائف التي راجت عن غفلة الليبيين، ان نتائج كل مباريات كرة السلة كانت في أحد المواسم صفرا مقابل صفر . وقد اضطر الليبيون الى جلب خبير من الخارج لدراسة تلك الظاهرة الفريدة ... لم يحتج الخبير الى جهد كبير حيث اكتشف لأول وهلة أن الكرات التي تستعملها كل الفرق الليبية كانت أكبر بكثير من السلّة ! ــ لو كان الأمر بيدي، ما سمحت لك بدخول أي مسجد في أوسلو لأنك ضالّ ومضلّ. ـــ و انا لو كان الأمر بيدي لحبستك مع الحمير لتعلمك الحكمة و الذكاء. تدخل شيخ مغربي كان يراقبنا صامتا : ــ أخ سامي... لا تقل هذا لأخيك المسلم.. لا تـنس انك إمام و قدوة . ـــ عفوا سيدي، و لكن هذا الشخص لا يؤمن لا بأخوّتي و لا بإسلامي، بل يعتقد كما سمعته منذ قليل اني أضل الضالين، ولا استحق حتى دخول المسجد . ـــ نعم انا مصر على انك لا تستحق دخول المسجد، لأني سمعتك بنفسي تهزأ بحديث الرسول و انك... ــ متى حدث ذلك؟ ــ بلغني انك تقول في دروسك المسمومة أن وجه المرأة ليس بعورة، و أن غطاء الوجه ليس من الإسلام و انه تقليد يهودي قديم كما سمعتك بنفسي تقول بان الأحاديث الواردة بتغطية الوجه لا أساس لها من الصحة. ــ و ما زلت اصرّ على أنه ليس من الإسلام تغطية وجه المرأة . ــ بذلك تبدي جهلك و تشكيكك في علماء الأمة. ــ أنصحك بمراجعة أفكارك الموروثة حتى لا تجعل إسلامك مجرّد مصادفة جغرافية. قبل ان انهي كلامي، تلقى السلفي الليبي مكالمة من هاتفه النقال أجبرته على الانسحاب من قاعة الصلاة ثم من المسجد . " لقد كفّر الدكتور صادق النيهوم عن جميع أخطاء و حماقات الليبيين الماضية ولمدّة ألف سنة قادمة". هكذا قال لي رشيد ذات مرة.. وافقته فورا فالمفكر الليبي الكبير زعزع القاعدة التي أكدها الدكتاتور القذافي عن ضعف الملكات الليبية، حين أبدى براعة أدبية فائقة و قدرة خارقة على تشخيص مواضع الخلل في العقلية الإسلامية التي شكلها الفكر السلفيّ المتخلف . سألني حارث بيتروفيتش الذي وصل متأخرا: ـــ ما شأن أخينا رشيد .. لقد اصطدمت به حين كان يغادر المسجد كالإعصار. ـــ أغضبه الإمام الباكستاني الذي وضع نفسه في مكان النبي عيسى، فطلب من الله ان ينزل مائدة من السماء ليس على بني إسرائيل كما هو معروف ، بل على المركز الثقافي بالنرويج ! بكل براءة سألني حارث بيتروفيتش : ــ يعني هذا.. أن هذا الدعاء غير جائز ؟َ. ــ بالطبع غير جائز، فقد مضى زمنه، هذا بالإضافة الى انه يخص النبي عيسى عليه السلام ، و قد أجاب الله دعاءه .وانتهى عصر المعجزات. ــ و لكن اليس القرآن معجزة دائمة؟ ــ نعم و لكن معجزة القرآن ليست مادية تخص جيلا فقط مثل عصا موسى و مائدته و إحياء عيسى للموتى بل هي معجزة مفتوحة لكل الأجيال تقوم مقام نبي جديد يبعث في الناس. حين لاحظت اهتمامه أضفت: ــ لما كان محمد آخر الأنبياء ولما كانت الأجيال ستـتـتابع من بعده، كان لا بد لكل جيل أن يجد في القرآن معجزة متجددة ...أما معجزة القرآن في العصر الحديث فتضمنه لإشارات علمية أكدها العلم الحديث فمثلا .. حينما استبعد الكفار بعث أجسادهم بعد الموت اخبرهـم القرآن بان الله قادر على بعثهم بأدق خصائصهم الأشد فردية، أي التي لا يشاركهم فيها احد من مليارات الناس .. أعني بصمات أصابعهم! فلا أحد يشاركك بصمات أصابعك. ـــ في أي موضع من القرآن أجد ذلك؟ ـــ في سورة القيامة ((أيحسب الإنسان ان لن نجمع عظامه بلى قادرين على ان نسوّي بنانه)) و البنان هي إطراف الأصابع التي فيها البصمات و لو أراد الله غير ذلك لقال بلي قادرين على تسوية مخه أواعادة تركيب عينه أو انفه أو إذنه و هي أعضاء اشد تعقيدا من تركيبة الأصابع .. و على العموم تجد الكثير من تلك المعجزات في كتاب العالم الفرنسي موريس بوكاي .. قبل ان يغادرني حارث بيتروفيتش أضفت: ــ الإنسان لا يصبح مسلما بمجرد اعترافه بوجود الخالق، لأن وجود الخالق مسألة بديهية و لكن حين يقر بان الله هو المشرّع و الآمر ... ابليس مثلا اعترف بــان الله خلقه و لكنه رفض اتباع اوامر الله فكفر بذلك ... فالسلفية و الإخوان حين يساندون الجنرالات الذي يحكمون بقانون غير اسلامي هم في حقيقة الأمرلا يختلفون عن ابليس في تصورهم للدين.. كي تكون مسلما يجب ان تجيب على سؤالين. السؤال الأول تاخذ عليه صفرا حتى لو كانت إجابتك صحيحة. لأن جوابك سيثبت فقط انك عاقل أي انك جدير بدخول الامتحان، وهو كالآتي: من خالق الكون و مدبره ؟ أما السؤال الثاني فمن له حق التشريع؟ . قبل أيام قليلة لاحظت انكباب حارث بيتروفيتش على حفظ القرآن . ـــ يكفيك ما حفظت منه ... الأهم ان تطّلع على تفسير القرآن و تاريخ الإسلام . كان حارث بيتروفيتش يتطلع اليّ بدهشة حين أضفت : ـــ هل تعلم ان الصحابة الذين يقدّر عددهم بسبعة آلاف تقريبا لم يحفظ منهم القرآن سوى أربعة أو خمسه فقط؟! ــ عجيب ! ــ هل تعتقد أن هذا الإمام الببغاء الذي يردّد القرآن دون فهم، أحرص على مرضاة الله من الصحابة؟ ــ لا اعتقد ذلك خصوصا و قد سمعت أمس يدعو بعد الصلاة فيقول ( ربّ اني نذرت لك ما في بطني محرّرا) ضحكت مع حارث بيتروفيتش كثيرا لهذا المهزلة التي أنست سابقتها . استمر حارث بيتروفيتش: ـــ في الحقيقة، لم أكن لأتفطن الى دعوة الإمام المضحكة، لولم اكن مطلعا على تفسير الآية . فقد قرأت أن تلك الجملة القرآنية هي من كلام والدة مريم عليها السلام ، قالتها في شكل تضرع لله و هي حامل بمريم، و تتضمن نيتها في ان تهب مولودها لله كي يخدم الهيكل في بيت المقدس .. سكت حارث بتروفيتش قليلا ثم اضاف ضاحكا: ـــ السؤال المطروح ... أخي سامي هو ما عسى يحمل الإمام في بطنه ؟! وضعت يدي على كتف الشاب البوسني و أنا اقول : ـــ أمعاء و أرز و أشياء أخرى بالغة القذارة ... المهم بالنسبة لي أن يعفينا مـــن جنين سلفي مزعج، و ليحمل في بطنه ما يشاء! الفصل الثاني مأساة حارث بتروفيتش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حارث بيتروفيتش شابّ بوسنيّ في الثلاثين من العمر جيء به إلى النرويج بعيد إجتياح الصّرب مدينه سراييفو.. كان حارث بيتروفيتش يحمل ضميرا معذّبا و ذكريات دامية و جروحا لا تندمل. كان يدخن بشكل مريع. ـــ في النرويج فقط بدأت أدخن . حدثني حارث بتروفيتس ذات صباح نرويجي كئيب، قال: ــ كان يوم أحد حين وقعت مأساتنا العائلية ... صرفت معظم ذلك اليوم و أنا أساعد ابن عمّي " بيرم " في أعمال بناء حظيرة إضافية في مزرعته... حين اتضح تسرّعنا في اتخاذ قرار انجاز العمل بمفردنا، كان الأمر لا يحتمل التراجع.. كان خليط الرمل و الإسمنت قد أصبح جاهزا، و لم يكن في إمكاننا تأجيل وضعه في مكانه.. أصبح بيرم عصبيا .. لامني كثيرا على ثقتي في صديقي فيكتور الذي وعد بالحضور و لم يفعل. رغم انني وعدته بأجر مضاعف. ـــ ابن العاهرة . لقد شغله السّكر عن الحضور ... لقد أخطأت حين اعتمدت عليه...سأصرفه عن العمل . كنت أدرك ان بيرم غير جاد في تهديده .. فقد حاول أكثر من مرّة طرد فيكتور، لكن والدي كان يجبره على التراجع .. بيرم يحترم والدي كثيرا، لأنه عمه و صهره . حين عدت الى البيت، كان الظلام مخيما على قريتنا الصغيرة، كنت أفكر في شيئين.. الأكل حتى قبل الإستحمام .. لم آكل شيئا طوال اليوم .. البيتزا التي أحضرتها لنا "عبادات" ابنة بيرم كانت معدّة بلحم الخنزير، حتى البيتزا الأخرى التي اشتراها بيرم لعشائه كانت من نفس النوع ... بيرم سيقضي هذه الليلة وحيدا، زوجته ذهبت الى سراييفو مع زوجتي لحــفل عرس.. ستبيتان هناك. "غدا اذهب لإحضارهما معا" ... حين لا حظ بيرم خيبتي قال وهو يتناول أول قطعة من البيتزا : ــ لا تكن متعصبا، قل باسم الله ثم كل. حين اصررت على الامتناع . سألني و هو يفتح زجاجة الكولا: ــ بحق السماء، مالفرق بين خنزير وبقرة ؟ أليس الخنزير ايضا من مخلوقات الله؟ . بيرم يدرك جيدا انني أبعد ما يكون عن التزمّت... و لكن على الرغم من عدم تديني ، فالتدخين والخمر و لحم الخنزير ، بالنسبة لي بمثابة خطوط حمراء... و لكن لأسباب صحيّة لا غير.. لم تكن جهنم التي أعدّها الله لتاركي الصلاة هي التي تخيفني، بل سرطان الرئتين، و تليـّــف الكبد، و الدودة الشريطية القاتلة التي يحتوي عليها لحم الخنزير . " الخنزير حيوان لا يغار على أنثاه، و من داوم على أكل لحم الخنزير، أصبح مثله، لا يغار على أنثاه ... و من أكل لحم الدجاج أصبح جبانا" اذا سألت ابي" و من أكل لحم الذئب ؟ . كان يضحك ثم يجيب" أصبح الماريشال تيتو" و اذا سألته : " و من داوم على أكل لحم الحمار؟" كان يجيبني : " أصبح مثل ولد اسمه حارث !" سكت صديقي حارث بتروفيش، اطرق طويلا ثم استمر: ـــ حدثني ابي كثيرا عن المذابح التي ارتكبت ضد المسلمين في عهد الماريشال تيتو، أعلمني ان الماريشال اللعين قتل 400 ألفا من المسلمين ذات مرة ، حين لاحظ أبي إهتمامي المبكّر بالنساء ... قال لي: " يبدو أن حالتك استعجاليه، سأزوجك في اول فرصة" أضاف بعدها : " لتبدأ أولا بحيـازة النصف الأول من دينك، لعلك تغلب شيـــطانك فتكمل النصف الآخر، لأموت بعد ذلك مطمئنا! " كان أبي قد علمني منذ الصغر حديث الرسول" من تزوج فقد ملك نصف دينه " قلت ممازحا : " زوجني امرأتين، لأكمل كلّ ديني و أطمئن عليّ من الآن ! " لم يبتسم أبي. كنت جرحا في قلبه، هكذا كان يقول لي. لا لشيء، إلاّ بسبب تركي الصلاة . " اذا كان ابن الإمام لا يصلّي، فمن يصلي في هذا البيت اللعين؟ " منذ بلغت العاشرة كان ابي يبدي تذمّره مــن تـركي الصلاة ...كان يفضي بــــشكواه الى كل زائر يحلّ بيننا. و حين يذكر الزائر دماثة خلقي كان أبي يردّ عليه دائما : " لا أريده مواطنا صالحا فحسب، أريده مسلما ". أشعل حارث بيتروفيتش سيجارة برينس نرويجية نفث دخانها ثم أضاف متنهدا: ـــ لم اكن أصوم ألا في مخيلة ابي و أمي و أختي التي تـكبرني بست سنوات، و حين تزوجت شاركتني زوجتي عادة الأكل خفية في شهر الصيام . فور انتهائي من الخدمة العسكرية زوجني ابي فتاة اخـــترتها... ابتسم حارث بتروفيتش طوح برأسه الأشقر ثم استمر: ـــ الزواج لــــم يضمن لي نصف ديني، بل ضاعف اهتمامي بالنساء، و فتــح لي أبوابا كنت أجهلها... لم اكن أفوت فرصة العلاقات العابرة اذا كانت في منتهى السرية ، و كنت مزودا بواقي ذكر أو كندوم . أطلق حارث بتروفيتش زفرة حرّى ثم واصل سرد مأساته: ـــ فور دخولي البيت طلبت من والدتي إحضار الطعام.. أعلمتني ان والدي سيكون بيننا بعد عشرين دقيقة .. لم اكن في حاجة الى سؤالها عن مكانه ... كنت اعلم انه يؤمّ المسنّين من أمثاله . المصلوّن في قريتنا، مثل مجلس السوفيات الأعلى، أصغرهم في السبعين. هكذا علق بيرم ذات مرة ... كنا نتندّر على مسجد قريتنا، كان بمثابة مأوى للعجز لا يرتاده غير أصحاب الأولوية على قائمة انتظار الموت... البوسني لا يصلّي الا بعد سنوات عديدة من حصوله على التقاعد أو بعد عودته من الحج.. لم يعد يربطنا بالإسلام غير ختان الأطفال و حج الشيوخ هناك من أهل البوسنة الملتزمين القلائل من ضحّى بخنزير و من الملتزمات من صامت و هي حائض . " حارث، يمكنك ان تأكل قليلا في انتظار قدوم والدك....نصف ساعة على الأكثر . ثم بما يشبه الإعتذار : " أنت تعلم جيدا ان اجتماعنا وقت الطعام مقدس لديه " . " وأنت تعلمين ايضا مشكلة معدتي، فأنا لا استطيع ان آكل بين وجبتين ، سأستحم في انتظار قدومه" حين اتجهت الى نافذة الحمام كي أغلقها، كان صوت المؤذن يصلني من بعيد . لقد أساءت والدتي التقدير،هكذا حدثت نفسي، وانأ انزع ثيابي "بعد عشر دقائق فقط سيكون والدي بيننا "....لم يستغرق استحمامي سوى ست دقائق ، كان مـجرد إزالة للعرق و التراب، حين خرجت، كانت والدتي تضع آخر الصحون. " يا الهي، هل نسيت شيئا ؟ " ألقيت نظرة سريعة على المائدة ثم قلت لها. " نعم لقد نسيت شيئا هاما ... الا اذا كنت مصممة على إعادة غسيل فستانك الذي يبدو لي نظيفا " ابتسمت والدتي، صكت وجهها ثم ذهبت الي المطبخ لإحضار بعض المناديل. كان ابي يصرّ على وجود منديل حقيقيّ على مائدة الطعام ... كان يكره المناديل الورقية . كان من عادة أبي اذا إفتقد المنديل ان يسأل والدتي و شقيقتي : "من منكما جهز المائدة ؟... لتتقدم فورا!" كانت أمي أو شقيقتي تتقدم منه بحذر وهي تتطلع الي محتويات المائدة، كل منهما كانت تدرك ان والدي سيستخدم فستانها كبديل عن المنديل المفقود! لأجل ذلك كانتا تحضران المنديل بمجرد سؤاله "من جهز المائدة ؟!" ...فيما كانت والدتي مشغولة بوضع المناديل على الطاولة، سمعنا ثلاث طلقات رصاص . اقتربت من النافذة للإستطلاع أدرت المزلاج : حذرتني : " لا تفتح النافذة ، تذكر انك خرجت من التو من حمّامك... ستصاب بالتهاب في حنجرتك " كنت أعيد إغلاق النافذة حينا سمعتها تقول : " لا شك أنهم قد شرعوا مبكرا في مطارة الكلاب الضالّة " كانت ساعتنا الحائطية القديمة تشير الى السادسة و عشر دقائق . لم أتخيل قط ان انتماءنا الديني قد أعفى الكلاب الضالة من المطاردة في تلك الليلة المشئومة، لنكون بدلها على رأس المطاردين ! طلبت من والدتي سروالا و قميصا نظيفين، دخلت الى غرفتي، خلعت روب الحمّام و لبست السروال. حين أدخلت راسي في جيب القميص، قدرت ان الوقت مناسب للخروج الى قاعة الجلوس.. حين خطوت أول خطوة خارج غرفتي، و قبل ان أكمل إنزال القميص لأستر بطني و ظهري، فوجئت بباب شقتنا يفتح بقوة، ثم شاهدت أبي يقذف الى الداخل ليسقط أرضا.. قبل ان أفيق من صدمتي، كانت غرفة الجلوس تغص بمجموعة من المسلحين، كانوا يرتدون ثيابا مرقطة، لم اعرف منهم غير جارنا فيكتور! كانت علاقتي بفيكتور عادية... كان وحيد أبويه، و كان يكبرني بسنتين .. كانت تربطني به علاقة كنت أظنها وثيقة الى حدّ تلك الليلة المشئومة.. كان فيكتور رفيق صباي و زميل دراستي، وكان كثيرا ما يلجأ الي بيتنا كلما طرده والده السكير لينام في غرفتي حتى صباح اليوم التالي، كانت والدتي شديدة العطف عليه تنهدحارث بتروفيتش ثم اضاف: ـــ حين كان صبيّا، كانت والدتي تزوده بملابسي القديمة.. كان والد فيكتور بخيلا ولا يكاد يفيق من سكره، و حين أفلست تجارته، وجد مشنوقا في غرفته... حين كبرنا أصبحت و ما زلت، أشارك فيكتور مغامراته النسائية.. كان فيكتور يستغل غياب والدته عن البيت لجلب النساء المشبوهات. لم أذكر انني آذيت فيكتور مرة واحدة، كل ما عابه عليّ قبل أربع سنوات انني خلّصت من قبضته فتاة صربية كان قد شرع في إغتصابها ـــ ... ـــ كنت يومها وحيدا في البيت، حين سمعت صراخا في الخارج ثم طرقا عنيفا على باب منزلنا، حين خرجت، وجدت جاراتنا الصربيات يشرن الى نافذة فيكتور.. هن ايضا أخرجهن صراخ الفتاة، كان لا بد لي ان أتحرك، صعدت السلالم الخشبية و طرقت عليه الباب و رجوته ان يترك سبيل الفتاة ...عرفت هوية الفتاة حين رأيت دراجتها تحت السلالم الخشبية .. كانت دون سن الرشد، وكان والدها ضابطا كبيرا... كثيرا ما حذرت فيكتور من مثل تلك المغامرات الطائشة. حين طرقت باب شقته، أمرني بالإنصراف فورا ، حين أصررت .. طمأنني بان الـــفتاة في طريقها الى الخارج، قبل ان ينهي كلامه أزيح جزء من ستائر النافذة أطلت الفتاة . ناشدتني : " انتظرني لا تغادر.. سأنزل الآن ن مباشرة " لم تكمل الفتاة جملتها، حين انطلقت منبهات سيارة الشرطة...كانت قادمة من بعيد . حينما اقترب صوت السيارة اطل فيكتور من النافذة ثم قال لي : ــ يا بن العاهرة، أعلم انك استدعيت الشرطة . قلت له : " انا آخر من خرج من الجيران، و ليس في بيتنا هاتف، فكيف استدعي الشرطة ؟! " لم يبق امامي سوى بضع درجات من السلم الخشبي، حين توقفت سيارة الشرطة أمام الييت.. نزل منها أربعة مسلحين توجهوا مباشرة الى شقة فكتور .. بلغنا صياح فيكتور و احتجاجه ، بعد أقل من دقيقتين انزلوه مكبلا . قبل ان يشحن في سيارة الشرطة، بحث عني في الجمع الحاشد، و حين استقرت علي عيناه، قال متوعدا : ـــ حارث ايها اللعين، سأنتقم منك، تذكر هذا جيدا . بعد اقل من سنتين خرج فيكتور من سجنه ... لم أعلم بخروجه، إلا حين فوجئت به يطوقني بذراعيه قبل ان يشكرني على الخدمة الجليلة التي أسديتها له حين صعدت الى شقته. " لو تأخر صعودك بضع ثوان، لقبض عليّ متلبسا ". حين التقى بي ثانية، أعلمني أن زوجة جارهم جوزيفيتش هي التي تولت استدعاء الشرطة. حين إحتاج بيرم الى عمال إضافيين في مزرعته، أخبرت فيكتور.. رغم أدائه السيّئ، اردت ان اشغله بالعمل عن العربدة و إزعاج الجيران.... الآن فقط أدركت، أن تخلف فيكتور عن موعـده، كان بسبب انشغاله بالإعداد لحملته الصليبية ! أمرنا اكبر المسلحين سنا بالالتفات نحو الجدار و رفع أيــــدنا فوق رؤوسنا، شرعت والدتي في البكاء، قلت لفيكتور متوسلا: ــ ابي شيخ كبير، والدتي مريضة... أرجوك ... لم يدعني أكمل قال لي هازئا: " لا تشغل بالك .. سنجعلهما يستريحان الي الأبد ". ناشدت فيكتور : ــ فيكتور.... نحن جيران وفي النهاية أبناء وطن واحد، هذا لا يصح . حين لم يجب فيكتور ، زمجر احدهم مكانه: " سنعيد الأمور الى نصابها، فلا مكان هنا للمسلمين بعد اليوم" ردتت عليه محتجا:" نحن لم نقدم من أثيوبيا ؟ نحن بوسنيين مثلكم و هذه بلدنا ايضا" صاح أكبرهم سنا بصوت يشبه النباح : " كان ينبغي على جدك الإلتحاق بالجيوش العثمانية حين غادرت البوسنة منذ زمن طويل: و لكن يبدو ان الفرصة فاتتكم . على كل حال لن نحرمكم قبورا هنا" حين رأيت أقصرهم قامة يجرّ والدتي الى حيث ألقي أبي، اندفعت نحوه حتى أخلصها من قبضته، ظننت ان ما يقومون به مجرّد إرهاب قد يحملنا على مغادرة القرية.. بلغتني قبل مدة قصيرة إشاعات عن نية الصرب إجلاء المسلمين عن البوسنة، لم اكن أتصوران ذلك الإجلاء سيكون عن الحياة أيضا... قبل أن أصل إليه سمعت دويّ طلقتين.. رغم قرب المسافة التي تفصلني عن الرامي، ضلت الرصاصتان طريقهما، أصابت أحداهما كتفي الأيسر لتحدث به خدشا . قبل تستقر على باب المطبخ فيما طاشت الأخرى لتحطم صورة عائلية، كان يبدو على الرامي انه يطلق النار لأول مرة في حياته . قبل أن ألتفت أحسست بقبضة تلتف حول عنقي، ثم ضربة شديدة على مؤخرة رأسي. لم اشعر بعدها بشيء .. خيل الي سماع صوت إطلاق نار في مرتين متقطعتين.. بعد مدة أصبحت تصلني اصوات قهقهات، و نكات بذيئة مختلطة بأصوات ملاعق ترتطم بالصيني .. حين فتحت عيني كان خمسة من أفراد المجموعة يجلسون حول المائدة التي جهزتها والدتي لعشائنا، كانت الساعة الحائطية تشير الى السابعة وخمس دقائق، أدركت أنني غبت عن وعيي خمسين دقيقة. لم أستطع رفع رأسي من الأرض ، كنت مستلقيا على بطني و يداي موثــقتان وراء ظــهري. كنت أحس بألم رهيب في مؤخرة رأسي، شرعت أجول بعيني في نواحي الغرفة بحثا عن والديّ، لم ار أيّا منهما.. أجهش حارث بتروفيتش ببكاء مرّ... أضاف حين فرغ منه: ـــ لم أستطع تغيير وضعي لأتمكن من مجال أوسع للرؤية. حين لا حظ احد الصرب رجوعي الى الوعي نظر الي ثم ربت على بطنه و قال : " وليمة فاخرة ... اليس كذلك .... لم يكن ينقصنا الا الخمر" أضاف آخر: " كنا نجهل انها آخر ما سنعثر عليه في بيت إمـــام.. سكت قليلا ثم عقب متجشئا: " على كل حال ســــيتولى فيكتور إحضار بعضها. ثم وهو يرفع صوته : " فيكتور، لقد أفاق جارك أخيرا ". سمعت خطوات تقترب مني ثم أحسست بيد ترفعني من الأرض، و تقلبني على ظهري .. وصلني صوت غليظ :. " هيا اخبرني اين أجد المال، لقد فتشت عنه في كل مكان؟" كان فيكتور قد خرج فورا من غرفتي متبوعا بشخص آخر . ..حينما صرت على ظهري أحسست أن رجلي قد ارتطمت بشيء صلب . كان صاحب الصوت الغليظ لا يزال يصيح بي : " أين المال يا أبن العاهرة ؟ هيا أخبرنا ". قبل ان أجيبه، تمكنت بصعوبة من الإتكاء على جنبي الأيمن، لأصدم برؤية ابي...كان يــرقد الى جواري،عيناه مفتوحتان وخده الأيسر غارق في بركة من دماء. حين لا حظ فيكتور محاولة اعتمادي على يدي اليمني لأتمكن من مجال رؤية أوسع قال لي" ـــ لا تتعب نفسك لقد لقيت أمك نفس المصير... انها في المطبخ ثم وهو يطالعني بابتسامة ساخرة: .. لم أجحد معاملتكم الحسنة لنا طوال 25 سنة ... أضاف مبتسما: " رصاصة في الرأس دون الم... لا شك أنهما الآن في الجنة ". شرعت في البكاء ... كانت الصلة التي تربطني بوالديّ جد وثيقة. قال لي احدهم وهو يشعل سيجارة: ـــ لا شك انك ستشكر فيكتور كثيرا على المعاملة الإستثنائية التي تلقاها العجوزان . كما ستشكره أكثر لأنه وهب لك فرصة حياة جديدة.. ولكن خارج البوسنة النصرانية . ركلني آخر وهو يحتجّ : " و لكن ليس قبل أن يدلنا عن مخبأ المال" ثم وهو يركلني مرة أخرى : " ايها الكلب المحمدي انطق بسرعة .. اخبرني فيكتور انك تسلمت راتبك الشهري، قبل اقل من أسبوع ". لم يكن فيكتور يحتاج أكثر من التوجه الى خزانة ملابسي لإحضار المال الذي دللته عليه. ألقى فيكتور بحزمة الأوراق المالية فوق الطاولة، ثم التفت نحوي : ــ رغم إصرار رفاقي على إعدامك، فسوف أمنحك فرصة للنجاة... لم انس قط إننا جيران . " و لكنك نسيت ذلك وأنت تقتل والديّ! " " أرجوك حارث بيتروفيتش... كن واقعيا... لن يتحمل العجوزان مشقة التـنقل في ليلة شتوية كهذه، بالإضافة الي انعدام فرصة نجاتهما من ذبح مؤكّد ". ساعدني فيكتور على النهوض ،أعطاني مهلة دقيقتين حتى أغادر البيت، دون ان احمـــل معي شيئا، حتى حذائي لم أتمكن من أخذه . نبح أكبرهم سنا: " بعد نصف ساعة سنقوم بدورية.. لن تجد فيكور بجانبك لوعثرنا عليك في طريقنا " طلبت رؤية والدتي ، لم يسمح لي بذلك... حين مررت بالباب تغاضى عني فيكتور وهو يراني أتناول معــــطفي المـــعلق، حين احتج رئيس المجموعة، ردّ عليه فيكتور: ــ تذكر انك وهبته لي.. ثم احتج رئيسه ثانية صاح فيكتور محتجا : ــ مالفرق بحق السماء بين الموت بردا أو برصاصة في الرأس"... سمح لي باخذ معطفي قبل بالخروج . ... نصحني فيكتور بسلوك الطريق الغابي و أن لا أحاول الظهور على الطريق الرئيسي.. قبل اجتيازي الباب. اخبرني همسا بان تسع فرق ذبح تقوم بزيارات مماثلة لكل بيت مسلم في قريتنا.. حين توسلت إليه بان يخبرني عن نهاية والدتي صرف عني وجهه ثم قال: " أطلقنا عليها النار قبل والدك ، و ماتت على الفور دون ان تـنبس بكلمة واحدة " سكت قليلا ثم أضاف في شبه اعتذار: " لم تتعذب ... كانت ميتة سهلة ". تابع بعد ذلك : " لقد خلصت والدك من تعذيب رهيب.. تصوّر.. لقد شتم قائدنا الذي غضب كثيرا حين رفض والدك حمل الصليب، و حين طلب منه ان يردد: اشهد ان عيسي بن الله أجابه: بكل شجاعة: بل اشهد انك ابن عاهرة.. لقد إعــتقد والدك بانك قد قتلت. لأجل ذلك كان يائسا وعنيفا، لم يكن يخشى ضياع أي شيء.. حين أصرّ قائدنا على ذبحه، منعته من ذلك، هـددته بتبليغ القيادة العامّة بأنه قد صفّى قسّا صربيا لأسباب شخصية بحتة، حين كنا في طريقنا الي بيتكم.. و فيما كنا نتجادل حول مصير والدك، تلقى رادوفان...قائدنا... مكالمة من هاتفه الجوال، انتهزت فرص خروجه من الغرفة وأطلقت النارعلى والدك. طلقة واحدة في الرأس.. لم يتعذب هو أيضا... قبل ان يغادرني افادني فيكتور: " خدمة أخري سأسديها لك: لا تأمل بوجود مكان آمن قبل عشر كيلومترات، ستصادف في القرية المجاورة ضيوفا غير مرغوبين. حظ سعيد" قبل ان يغلق الباب، ذكرني فيكتور بمهلة النصف الساعة التي منحت لي .. مسح حارث بتروفيتش بقايا دمعة، سحق سيجارةالبرينس ثن استمر: "حينا تعودت عيناي على الظلام رأيت جزمة بلاستيكية عالية الرقبة إعتاد والدي استعمالها عندما تغطى الأوحال الطريق.. لبستها .. قبل ان أغادر المكان، جمعت بعض ثياب الغسيل التي نشرتها والدتي في صباح نفس اليوم ، كنت متأكدا اني سأحتاج إليها.. حين خرجت من حدود قريتنا، كان النهر على يساري و الغابة على يميني .. حين لاحظت وقوف سيارات أمام بيوت المسلمين، غادرت الطريق الرئيسي ...ثم توغلت في مسلك غابيّ. تطلع حارث بتروفيتش، الى سقف الغرفة أرسل زفيرا حادا ثم استمر : ـــ كان البرد مميتا، و الليل شديد الظلمة، وكنت أرجو ان أ فيق من الكابوس الذي أعيشه، كنــت جائعا و دامي القلب .. حين قطعت قرابة ميلين توقفت سيارة كبيرة ــ كانت قادمة من سراييفو ــ أمام اول جسر قبل قريتنا.. قفز منها ثمانية رجال مسلحين توجهوا فور نزولهم الى مؤخرة الشاحنة ثم شرعوا في إنزال الركاب .. كان أكثرهم نساء و أطفالا.. كانوا حوالي خمسين شخصا... كان صراخ الأطفال، وعويل النساء يشقّ سكينة الليل... النساء اللاتي كن فوق الأربعين من العمر.. كنّ مطلقات السراح، اما الرجال فكانت أيديهم موثقة وراء ظهورهم ... فور تجميعهم أمام الجسر، سمعت صوت القائد يأمربفصل الرجال عن النسـاء و الأطفال، و تخصيص احد إفراد المجموعة لحراستهم .. بعد ذلك أمر القائد بإلقاء الأطفال دون سن الخامسة في النهر.. أخذت النساء يصرخن و يتوسلن ، في حين شرع الرجال الذين اجبروا على الجلوس على ركبهم يرفعون عقيرتهم بالتكبير.. انفلت ثلاثــة منهم و توجهوا لتخليص الأطفال من قبضة الوحوش الصربية... لكن سرعان ما حصدتهم نيران الحارس الموكّل بهم ،بعد ذلك أمر قائد المجموعة بإطلاق الرصاص على رجلي كل أسير من الرجال لمنعه من التحرك ... رغم الجراح ، كان التكبير يرتفع عاليا... بعد ذلك اصدر القائد أمرا بالشروع في ذبح النساء والأطفال الذين هم فوق الخامسة ... كان أكثر من نصف النساء قد أغمي عليهن .. كن يلتقطن من الأرض كأكياس فارغة ليتم ذبحهن . تمنيت لو استيقظ من الكابوس... نسيت الجوع و البرد و الم مصابي بوالديّ.. رأيت سيدة محجبة تركع تحت رجلي قائد المجموعة و تتوسل إليه ان يوفر ابنتها الصغيرة . ركلها برجله .. تجاوزها ، حين تمسكت ببنطلونه، إستل القائد سكينا من حزامه و جثم فوقها و اخذ يوجه لها طعنات في أماكن غير قاتلة .. كان يقصد تعذيبها دون شك، ..حينما عضته من ربلة ساقه، قام بذبحها ... كانت استغاثة المرأة و هي تذبح تقطع نياط القلب.. بكي حارث بتروفيتش، على الرغم من جمود عينيّ كنت قد سبقته بالبكاء : ـــ في تلك اللحظة افتقدت رحمة فيكتور !... تذكرت قول احد القتلة ــ" سوف تشكر فيكتور كثيرا على المعاملة الإستثنائية التي تلقاها العجوزان ". كان الرجال الذي اجبروا على الجلوس على ركبهم يرفعون أصواتهم بالتكبير. و كلما ازدادت الركلات التي كانت تنهال عليهم من قبل الحارس الموكل بحراستهم كانت وتيرة التكبير تتصاعد من حناجرهم . وددت لو ان فيكتور كان قد أجهز عليّ، ليوفر عنى شهود تلك الفظائع... كان الواحد من هؤلاء الجزارين يمسك المرأة أو الطفل من خلفه ثم يدنيه الى حافة الجسر حتى يلصقه بالجدار ثم يمسك شعره بيسراه قبل ان يذبحه بيمينه ثم يتركه ليسقط متخبطا في دمائه ليتجه الي الضحية الموالية التي كانت تستقبله بالإستعطاف و العويل ... لم يرحموا صغيرا و لا كبيرا ... كانت طريقة القتل واحدة لا تتغير، يبدوا انهم تدربوا عليها جيدا، لم اكن أتصور ان تلك الأشياء يمكن ان تقع في غير أفلام الرعب... حين انتهوا من النساء و الأطفال، توجهوا الى الرجال، كانوا عشرة أو يزيدون قليلا... تولوا بطحهم ثم إنزال سراويلهم . كانت أيدي الأسرى موثقة وراء ظهورهم، حتى تلك اللحظة لم يكفوا عن التكبير.. اثنان من الصرب كان يمسكان الأسير من يديه واثنان من رجليه، قبل ان يقوم الخامس باستئصال جهازه التناسلي... بعد ذلك يتركونه يتخبط في دمائه .. كان الصراخ الذي يصدرونه مرّوعا . حين انتهوا من آخرهم ، مالوا الى الرجل الأول فذبحوه، ثم الثاني و هكذا . حين أتموا العملية، جلسوا يدخنون و يتبادلون النكات البذيئة ، قبل انصرافهم، القوا بكل الجثث في النهر. أشعل حارث بتروفيتش سيجارة اخرى أخذ نفسا عميقا ثم استمر يقول: ــ كانت قدماي قد تجمدتا من البرد، لففتهما بقميصين من غسيل أمي ثم وصلت مسيري نحو سراييفو ... خلال الست ساعات الموالية، تكرر مشهد المذبحة ستّ مرات، كانت المذابح تتم على الجسور و بطريقة واحدة، باستثناء مرة واحدة ألقي فيها كل الأطفال في البحر، و لكن قطعت فيها جميع أثداء النساء ومذاكير الرجال. في المرة الرابعة لم يتم انزل الجميع دفعة واحدة .انزل الأطفال أولا ثم النساء و أخيرا الرجال . في المرة الخامسة، جيء بالرجال فقط .أما في المرة الأخيرة فقد جيء بالنساء لوحدهن . ها هي وحوش الصرب تستفيد من تجارب ذبح المسلمين، فتتدارك الخلل فور تفطنها إليه ، كي لا تقع في نفس الخطأ مرتين،..هذا جيد، سجل عندك " لتنفيذ هولوكست دون إزعاج، يجب قبل كل شيء الفصل ما بين الضحايا : الرجال لوحدهم، والنساء لوحدهن و الأطفال لوحدهم ... اللعنة على السلفية العمياء ... لم يكفها مرور 1400 سنة من التجارب الفاشلة و المغموسة بالدم كي تدع عبادة الحاكم الفرد، و تلقي بالمستبدين في الحاوية... الشافعي و بن حنبل هما رمز السلفية و مهندسا خريطة طريق الآلام التي نسير وفقها منذ اكثر من 1250 سنة...لم يكف بن حنبل سكوت المسلم عن فساد حاكمه... حتى اشترط عليه حبه في السرّ!! "ايها الملحد من أنت حتى تتطاول على احمد بن حنبل؟". لم اهتم بثورة كريم حامد أجبته بهدوء: " لست ملحدا ... أنا مسلم اقتدي بأصحاب محمد و بابي حنيفة العظيم ...لأنه يمثل اسلام محمد . كان أبو حنيفة مستنيرا و شجاعا... لم يكن يقبل أي حديث يروى عن محمد قبل عرضه على ما جاء في القرآن ... لأجل ذلك أصبح مكروها لدي السلفية ... رفض أبو حنيفة تولي أي منصب حكومي...كان يقول: لو كلفني الحاكم بإحصاء الحجارة لبناء مسجد فسأرفض فورا..حين علم بوجود حركة تمرد ساعد إفرادها بالفتوى و المال... لأجل ذلك سجن ثم قتل . خجلت كثيرا حينما تفطنت الي ان حارث بتروفيتش، توقف عن سرد معاناته، و اخذ يتطلع الي بشيء كبير من خيبة الأمل... اعتذرت عن شرودي الذي لم يكن يقبل التبرير . بعد ان سرد علي إحداثا دامية اخرى، رجوت حارث بتروفيتش تأجيل سرد معاناته لفرصة اخرى بعدما وجدت نفسي انخرط ثانية في البكاء.. حين فرغت من البكاء، كفكفت دمعي،ثم لعنت الغباء السلفي الذي كان المسبب الحقيقي للمذابح المستمرة التي استهدفت المسلمين . لولا الغباء السلفي الذي منح شرعية البقاء للحاكم الوراثي و الانقلابي. ثم برر بأحاديث نبوية كاذبة مصادرة حق المواطن المسلم في اختيار حاكمه و نقده وعزله. ولولا توصيات السلفية بضرورة إدارة المسلمين لخدودهم اليسرى بعد لطم خدودهم اليمنى. لما رخص دم المسلم في كل بلاد الدنيا و لما أصبح المسلمون أيتاما بلا كيان سياسي يتبني قضاياهم و يدافع عنهم في المحافل الدولية. ولولا السلفية الحمقاء لما أصبحت بلاد المسلمين مسلخا حقيقيا تنتهك فيه حقوق الإنسان ولما أصبحنا في نهاية المطاف . و نحن الذين أراد الله لنا ان نحمل مشعل تحرير كل البشرية عبيدا لجنرالاتنا الحاكمين و نهبا لسكاكين الصرب و الهندوس المتعصبين . ودعت حارث بتروفيتش ثم انصرفت كسيرا مهموما. الفصل الثالث هروب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أمامي ليلة نرويجية طويلة لا بدّ لي أن أنفق بعضها في التجوّل بين شوارع أوسلو و ساحاتها... من الضروري أن يهدني التعب، حتى أصل الى شقتي اللعينة في شارع" كولستا غاتا " الرهيب بأكثر قابليّة للنوم. كانت الساعة الإلكترونية تشير الى السادسة و الربع مساء، مضت ثلاث ساعات على الغروب الافتراضي للشمس المحتجبة عن مدينة أوسلو منذ اول أمس .. النرويج تقع في سقف الكرة الأرضية , ليس هناك منطقة مسكونة تفصلها عن القطب الشمالي.. الشتاء النرويجي مدمّر للأعصاب... لمدة ستة أشهر كاملة من كل سنة، يلف نصف النرويج ظلام دامس ... إقامتي في النرويج مثل وجودي في الحياة، لم اختره بمحض إرادتي... تولّت جهات أخرى اختياره نيابة عني.. . صحيح ان حركة النهضة التي كنت انتمي إليها قد هرّبتني الى النرويج دون استشارتي. ذلك كان قدري... عليّ أن أؤمن بأن الله قد كتب عليّ تمضية ما تبقى عمري في النرويج، هذا إن لم أرحّل بالقوة الى تونس... بلدي الأم ... إمكانية تسليمي الي جلاّدي بلادي ما زالت قائمة بعد أحداث 11سبتمبر2001. إيماني بالقدر لا يمنعني من لعن حركة النهضة التي أبعدتني عن قطرة لتضعني تحت شلال من الماء... حركة النهضة عاملتني كأداة جريمة حاولت إخفاءها في أي مكان حتى تتنصل من مسؤولية أعمالها.. لا تناقض بين إرادة الله و إجرام حركة النهضة في حقي ... حين علم الله ان حركة النهضة ستنفيني كتب علي ّذلك ... ليس هناك في القدر جبرية الا في المخيلة السّلفية المعاقة. حينما سألني حارث بيتروفيتش:" هل الإنسان مخير أم مسيّر؟ " كان رشيد حاضرا... أجابه نيابة عني: ـــ الجواب متعلق بماهية ذلك الإنسان. ـــ ما ذ ا تعني ؟ ـــ اذا كان سلفيا أو إخوانيا أو شيعيا فهو مسيّر، وما سوى تلك الأصناف فمخيّرة. ـــ اشرح لي من فضلك... لم افهم ما تعنيه . ـــ السلفيون مسيرون من قبل شيوخهم، و الإخوان المسلمون مسيرون من قبل المرشد العام للجماعة، و الشيعة مسيرون من قبل مراجعهم...كما ان شيوخ الصوفية ومرشد الإخوان ومراجع الشيعة مسيرون بدورهم من قبل الدكتاتوريات المحلية المسيرة بدورها من قبل الإدارة الأمريكية .المسيرة بدورها من قبل اللوبي الصهيوني سأل حارث بتروفيتش ثانية: ـــ ما اردت معرفته هو الآتي: هل الإنسان حر في اعماله أم هو مجبر على فعلها؟ تبسم صديقي الجزائري رشيد ثم استمر موضحا: ـــ فهمت قصدك من اول وهلة، و قد اجبتك بما يلي: على الإنسان العاقل ان يؤمن بأنه مخير في كل اعماله.. فلو لم يكن هناك اختيار للفعل و ترك الفعل لبطلت حرية الإرادة. و لو بطلت حرية الإرادة لما كان لإثابة المطيع و لعقاب العاصي أي معنى غير العبث المحض و الظلم البيّن و حاشا لله الحكيم ان يعبث و العادل ان يظلم . قبل اسبوع...حينما كنت في بيت رشيد، راقبت بغيظ شديد برنامج حوار تلفزي..بثته قناة" آن. أر كو" ظهر فيه شاب باكستاني متدين. كان ذلك الشاب يحاول بكل ما اوتي من غباوة سلفية مميتة، إقناع قسّ نرويجي في ارذل العمر، بان الإنسان مجبر على أعماله! وددت لوكنت بجانب ذلك المغفل الباكستاني كي الطمه على وجهه ثم أتعلل بان الله هو من لطمه و ليس أنا! . تدخلت موضحا : ــ...لأجل ذلك جاء في البخاري استنادا للرؤية السلفية السائدة عصرئذ أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله ، فالسلفية تعتقد اعتقادا جازما ان افعال العباد مخلوقة من قبل الله ..أي انهم مكرهون على فعلها.. بذلك التصور المريض برروا ظلم الحكام لأن الحكام مكرهون ايضا على ظلمهم و فسادهم و حتى على ذبح معارضيهم. سألني حارث ببتروفيتش: ــ و لكن ما رأي الإسلام في المسألة؟ ــ الإسلام يرى ان الإنسان هو الذي يخلق افعاله، و ان الله هو الذي مكنه من اعضائه و اعطاه الحرية كي يفعل بها ما يشاء... ـــ ..... ـــ ذات مرة جيء لعمر بن الخطاب بسارق، حين سأله: ما حملك على السرقة أجاب : قدر الله. حينئذ رد عليه عمر: و انا اقطع يدك بقدرالله! الحمق السلفي أوقع بعضهم في مواقف صعبة ...ذات مرة سال احد زعماء السلفية يهوديا " لم لا تسلم ؟أجاب اليهودي:" لو شاء الله لأسلمت ". رد عليه السلفي :" الله شاء ذلك، لكن شيطانك هو الذي لم يشأ". حينئذ رد عليه اليهودي:" اذا فانا مع الأقوى!" علق حارث بتروفيتش: ــــ لا شك أن حمق السلفي هو الذي قاد اليهودي الى ذلك الاستنتاج المضحك. ـــ ما وصل إليه اليهودي، يمثل روح العقيدة السلفية القائلة بان الله اجبر المؤمنين على الإيمان و الكفار على الكفر! اندفع رشيد يقول : ــ ذكرتني بحوار طريف دار بين مؤمن و ملحد جمعت بينهما روح الدعابة . قال المؤمن : نبات الشعر بعد إزالته عن فرج أمك أكبر دليل على وجود المنبت أي الله! رّد عليه الملحد : كان عليك أن تعلم قبل ذلك أن عدم نبات بظر أمك بعد قطعه.. اكبر حجة على عدم وجود الخالق ! " ضحكنا جميعا ...استغل حارث بيتروفيتش فرصة الحديث عن الفروج , فسألني عن ختان المرأة في الإسلام. ـــ لم يصح شيء في ختان المرأة... على العموم الختان تقليد فرعوني عرفه أهل مصر منذ القدم . ـــ و لكن السلفية تقول بان ختان النساء سنة . ـــ ليس هناك حديث واحد يثبت ان الرسول أمر بختان البنات . . قال رشيد بحماس: ــ لو فدينا كل بظر مسلمة يقطع، بلسان سلفي يساند الدكتاتورية... لأستمتعت نساء المسلمين بالجنس، واستمتع رجالهم بعالم ليس فيه ظلم و لا إجرام . استمر رشيد يقول : ـــ منذ اسبوع مضى، اتصل بي صهري الذي يقيم في السويد ... اخبرني أن سيدة سويدية أسلمت حديثا فلزمتها امرأة صومالية " لزوم الغريم للغريم و الكلب لأصحاب الرقيم " حسب تعبير بديع الزمان الهمدانيّ حتى أقنعتها بضرورة إجراء الختان حتى يكمل إسلامها ! عند إجراء الختان الذي يبدو انه تم بطريقة بدائيّة حدث للمسكينة نزيف حاد كاد يودي بحياتها، فكانت فضيحة سويدية كبرى أسالت حبرا كثيرا دون توقف واصل رشيد : ـــ عندما مات "تاليران" الوزير الأكثر فسادا في تاريخ السياسة الفرنسية، كان الشيطان في استقباله، قال له: انا جد مسرور بلقائك ... و لكن لا بد من الإعتراف بانك قد تجاوزت تعليماتي! ها ها .... انصتوا الى هذه الطرفة .... ذات ظهيرة اكفهر فيها الجو و امطرت السماء...لم يتمكن الزوج من مغادرة البيت للتخلص من صحبة زوجة بغيضة... لأجل ذلك اصيب باكتئاب حاد... فيما هو كذلك .. اقتربت منه زوجته... نظرت الى خلفية النافذة ... تأملت الجو العاصف .. زمت شفتيها..ادارت رأسها يمينا و شمالا... تنهدت ثم قالت" رباه لأي شيء يصلح هذا اليوم الكئيب؟"... رد عليها الزوج من فوره : " للطلاق !"… .... كان رشيد يمر ذلك المساء بحالة اكتئاب ايجابية ..ايجابيتها كانت تتمثل في سماحها له ببعض البهجة الإستثنائية، و سماحها لنا بالإستفادة بكل ما كان يقوله .. في تلك الحالة الخارجة عن سيطرته ،كان رشيد ينطلق كفرس بريّ لا يوقفه شيء .. كأنّ قوّة غير مرئيّة تجبره على نفض ما في جرابه من معلومات و طرائف وتعليقات ساخرة قد لا يربط بينهما رابط . طفق رشيد يقول: ـــ على ذكر السلفية، منذ أكثر من سنة روى لي صهري حادثة اطرف من هذه بكثير ... بطل هذه الحادثة سلفي جزائري .. باختصار شديد ..كان احد مساجد ستوكهولم مهجورا الا من عدد قليل من مسلمات سويديات قد دأبن على الصلاة في قاعته الرئيسية نظرا لغياب العنصر الرجالي عن الحضور... حين حل شهر الصيام، ثم بدأ الرجال يرتادون ذلك المسجد، كانت النسوة و اكثرهن سويديات، قد اعتدن على الصلاة منفردات في ذلك المصلى المعدّ أصلا للرجال... لم يكن يثنيهن عن تلك الصلاة نظرات سلفي جزائري كان يؤلمه ذلك الإنتهاك الخطير اكثر من مليون مرة مما كان يؤلمه احتلال العراق أو تدمير افغانستان أو ما جرى في البوسنة و الهرسك من تطهير عرقي استهدف المسلمين . تدخل حارث بيتروفيتش: ـــ اعتقد أن الصلاة كانت مختلطة زمن الرسول ... اليس كذلك ؟ . ـــ نعم ... كما كانت النسوة يخرجن خمس مرات من بيوتهن للصلاة في المسجد. بل و يخرجن لمداواة الجرحي وحتى القتال مع الرسول ... اذا احتيج اليهن طبعا... و قد أثني الرسول ذات مرة على أم عمارة.. سيدة مسلمة دافعت عنه في احدى المعارك ... أما عمر فقد عين امرأة لمراقبة الأسعار في سوق المدينة. في حين تصر السلفية الحمقاء في مطلع القرن الواحد و العشرين على منعهن من ارتياد بيوت الله . واصل رشيد : ــ كان لا بدّ للإنفجار السلفي أن يحصل.. و قد حدث وقت الذروة .. ساعة صلاة الجمعة .. مما ضاعف عدد الحضور. تنحنح رشيد ثم استمر يقول: ــ قبيل صعود الإمام الى المحراب، فوجىء المصلون بسلفي كهل..( صاحبنا الجزائري) ... يخترق صفوف المصلين لاعنا زمنا فقد فيه الحياء و اختلط فيه الرجال بالنساء، حين وصل الى صف النساء .. توقف. ثم استدار نحو الرجال، لكن خطابه كان موجها للنساء ـــ لم فعل ذلك ؟ تساءل حارث بيتروفيتش. ـــ لأنه لا يجوز له رؤية العورات... أي النساء ! واصل رشيد: ــــ حين ولى النساء ظهره ، شرع يصيح في وجوه الرجال ويلوّح بيديه مهددا، كان المشهد مضحكا.. أخذ يصرخ بشدة : ــــ مالذي جاء بكن الى هنا؟ ألم تخصص لكن قاعة؟ أتردن ان تحلّ علينا اللعنة بسبب اختلاطن بنا؟ ثم لماذا تأتين الى المسجد أصلا ؟الم ينصحكن الرسول بلزوم قعر بيوتكن؟. عندما شرعت احداهن في الكلام.. استدار السلفي نحوها ليعلم من هي، حالما تحقق من هويتها اعطاها ظهره! تكلمت المرأة بلهجة مهذبة... وعدته بالرجوع الى قواعدهن بداء من الجمعة القادمة .. حين هم بالعودة من حيت أتى.. انفجرت في وجهه، عفوا بل في ظهره، سيدة أخرى... كانت في حوالي الخمسين .. أعلمته ان الصلاة كانت مختلطة في العهد النبوي... صاح فيها: ـــ الدين يؤخذ من الفحول و ليس من ناقصات العقول. ردت عليه : ـــ كان الرسول يقول خذوا نصف دينكم من زوجتي عائشة. صاح فيها: ـــ اخرسي يا فاسقة... لا تذكري اسم الرسول على لسانك، فلو كنت تحترمين الرسول لسترت عنا وجهك! اجابته: ـــ أنت الفاسق و الجاهل ايضا . حينئذ صاح السلفي: ـــ ايها الأحباب اعرف جيدا هذه المرأة ... رغم زعمها انها مسلمة فانها تعيش مع سويدي كافر في شقة واحدة ! ضجّ الحضور من قسوة التهمة .. نصحه أكثر من واحد باحسان الظن بالمسلمين، لكنه اصر على اتهامه .. حينئذ تقدمت منه المرأة ثم جذبته من قميصه ... ظلت ممسكة به وهي تقول : ـــ يجب جلد هذا الرجل حدّ القذف لأنه كاذب ... ثم سالته: ــ هل تقصد بالرجل؟ كارل؟ . صاح السلفي : ـــ نعم كارل.. الله اكبر الله اكبر... هاهي اعترفت امامكم . ثم هو ينظر إليها : ـــ لا تزعمي أن ذلك السكير قد أسلم ايضا . نظرت المراة الى الجمع الحاشد ثم قالت : ـــ الرجل الذي يتحدث عنه هذا الكاذب هو شقيقي و ليس عشيقي، و أنا مستعدة كي ادعوه الآن لتتأكدوا من صحة كلامي . حين ارتفع صوت النسوة بالتأييد، سدّ السلفي اذنيه باطراف اصابعه ثم صاح: ــ الله المستعان... الله المستعان ، اصوات النساء ترتـفع في بيوت الله.. يا ليتني مت قبل هذا .. ايها الأحباب، اليس فيكم من يغار على حرمات الله ؟ اين الرجال ؟ تساءل حارث بيتروفيتش : ــــ ما قصة السلفي مع اصوات النساء ؟ أجبته باقتضاب: ـــ يعتقد السلفيون ان المرأة كلها عورة حتى صوتها . واصل رشيد: ـــ تركت السيدة الغاضبة قميص السلفي لبعض الوقت، اخرجت هاتفها الجوال، اجرت مكالمة خاطفة.. حين انتهت منها امسكت بالسلفي من جديد وهي تقول: ـــ دقائق قليلة ثم يصل اخي كارل. صاح السلفي مولولا : ـــ الايكفي اختلاطك بالرجال، و كلامك في المسجد، و تعرية وجهك حتى تدخلين كافرا الى بيت الله ؟!... . في تلك اللحظة تخلص السلفي من قبضة المرأة... وهو يستدير نحو الرجال، شمر عن قميصه ثم كوره تحت ابطه كل ذلك وهو يصيح كالمجنون: ـــ لا تصدقوا هذه الفاسقة و اخواتها ... فعقولهن في فروجهن ولا دين لهن، لأجل ذلك هن أكثر أهل النار كما اخبرنا الرسول... والله يا رجال... و حرمة هذا اليوم العظيم في هذا الشهر العظيم ما جاءت هذه الفاسقة لهذا المسجد إلاّ من أجل هذا . قال ذلك ثم امسك أطراف قميصه بأسنانه، وبحركة خاطفة انزل بنطلونه بكلتا يديه، كاشفا عن ذكره مستقبلا به جموع المصلين من شيب و شباب و أطفال...أمام ذهول الجميع استدار نحو النساء تاركا مؤخرته الضخمة عرضة لأنظار الرجال. ثم شرع يصيح : ـــ اعترفي يا فاسقة بانك قد جئت من أجل هذا؟ ـــ ...!!! ـــ قولي بصراحة انك قد جئت من أجل هذا؟! كل ذلك و هو يشير الي ذكره الذابل ...العجيب ان جنونه السلفي لم ينسه إمساك ذكره باليد اليسرى ــ كما تأمر بذلك السنة النبوية! لم أستطع أن أثبت على الأرض من شدّة الضحك.. أما حارث بيتروفيتش فقد أذهلته المفاجأة حتى عن التعليق بل بقي فاغرا فمه : حين تجاوزت عاصفة ضحكي تساءلت متعجبا: ــ يا الهي ! من يصدق ان امرأة مسلمة تقصد مسجدا بحثا عن الجنس ؟!. علق رشيد بين قهقهتين مدوّيتين: ــ الأعجب من ذلك ان تلك المرأة سيدة اروبية تمتعت بحياتها بالطول والعرض. علق حارث بيتروفيتش: ــــ حقا لا يفعل هذا الا سلفي سيّء النية. أضاف رشيد: ــ ثم اذا كانت تلك السيدة تبحث فعلا عن الجنس، فان ذلك السلفي سيكون أسوا من سيخدمها... فالسلفيون يعتقدون ان على المرأة أن تظل بثيابها أثناء ممارسة الجنس، و لا يحل لها ان ترى ذكر زوجها كما يحرم عليه رؤية فرجها. يعدّ تجهّم شيوخ السلفيّة أكبر مؤشر علي خشية الله و تقواه.. هناك من شيوخ السلفية من تزوّج عشر نساء و لم يضحك حتى في يوم عرسه !.. اختلف فقهاء المسلمين في تحديد عدد المرات التي يجب على الرجل ان يجامع فيها زوجته.. قال فريق منهم: مرّة في كل أربعة ايام باعتبار ان لكل رجل أربع زوجات. و قال فريق آخر: بل مرّة في كلّ أربعة أشهر. كما ذهب فريق أخر الى مرّة واحدة في العمر. في حين ذهب فريق سلفي الى ان المرأة عبارة عن فرس اشتراه الزوج . أن شاء ركبه. و ان شاء أودعه الإسطبل ولم يركبه قط!.. استهداف بن لادن للنساء و الأطفال يوم 11/9 لا يختلف في القبح عن عمل هذا السلفي الجزائري الجهول الذي اجتمع في عمله قبح الغاية و قبح الوسيلة... هذا ما تعد به مدرسة بن لادن العالم ...تعصب وجهل وقمع للمرأة بالإضافة الى مساندة الحكم الوراثي و قمع الحريات العامة . اعتماد السلفيين على ثقتهم العمياء في أمانة الراوي دون تقييم إمكانياته العقلية هو الذي ورطهم في جمع أحاديث مضحكة أكد بعضها ان كرتنا الأرضية تستقرّ فوق قرني وعل! ذلك ما أكده احمد بن حنبل! ذات مرة أقبل عليّ حارث بيتروفيتش و على وجهه علامات الإحباط دون ان يسلم بادرني سائلا: ــ هل صحيح ان عبد العزيز بن باز مفتي السعودية لا يؤمن بكروية الأرض... أمسكنى بيدي ثم أضاف متوسلا: ـــ أرجوك قل لا.. أرجوك قل لا . أجبت حارث بتروفيتش باسف تعمّدت اظهاره: ـــ حارث بتروفيتش أنا جدّ آسف.. ذلك ما قاله بالضبط، و كلامه موثق. حين لمست احباطا مريعا لفّ صديقي البوسني الشاب أضفت معزيا : ـــ لا تهتم بكهنة السلفية و خرافاتهم. اردت تسلية حارث بتروفيتش، أخبرته بأنني قرأت في موقع سلفي سؤالا لأحد شباب السلفية يقول فيه : فضيلة الشيخ هناك ملحد من أبناء المسلمين كذّب حديث الرسول الذي يقول فيه ان شخصا خسف الله به الأرض فهو يغوص فيها الى يوم القيامة و قال لي مجادلا: لو صحّ الخبر لخرج ذلك الرجل ومنذ زمن طويل من الجهة المقابلة من الكرة الأرضية! ردّ عليه الدكتور السلفي و بكل جدّية مميتة للأمل: يا بنيّ، لو فرضنا جدلا أن الأرض كروية! فما أدرى ذلك الملحد ان الرجل لا يغوص فيها بسرعة لا تمكنه من الخروج من الجهة المقابلة حتى قيام الساعة ؟! ذات مرة قال لي احد الملحدين " صدق المعرى حين قال أن الناس صنفان متدين بلا عقل و عاقل بلا دين " قلت معترضا :" ليست تلك قاعدة عامة... فالمعري نفسه كان متدينا وعاقلا" رد علي مشاكسا:" لا يمكنك ان تنكر أن أغلب المتدينين من صنف سلفي غير عاقل" قلت موافقا:" لا أجادلك في هذا ". رحم الله الشاعر الضرير، لقد يتآكل داخليا دون لحظة سلام وحيدة.. احتجاجا منه على الفساد السياسي و الديني قرر المعري عدم الزواج و الامتناع عن تناول اللحم مع لزوم بيته حتى الموت..لأكثر من خمسين سنة لبث رهين المحبسين: العمى و البيت... كان يتلظي بين مطارق الألم و سندان عذاب جهنم الذي أعدّ للمنتحرين.. كان يشتهي الموت كما يشتهي المدمن حقنته.. كان يفكر في الانتحار بأبشع طريقة تعبر عن غضبه من مجتمع فاسد.. فكّر في انهاء حياته جوعا..إيمانه بالله هو الذي حال بينه و بين تـنفيذ مخططه الذي كان سيسبق به" بول ساندس" بألف سنة... المعري أعظم محتج عبر التاريخ البشري، و أقدم معتصم في تاريخ الإنسانية، وأشهر مضرب عن الملذات، وأعظم مبتلى في تاريخ الإسلام.. و أشهر المكتئبين على الإطلاق.. من كتابه رسالة الغفران اقتبس دانتي الكوميديا الإلهية .. رغم آلامه النفسية الحادة اتم المعرى عبور محرقته.. تمنى لو ان الخمر كانت حلالا لتنسيه بعض همومه.. لأنه كان مؤمنا لم يلجأ اليها بل كابد حياة لم تكن تختلف في قسوتها عن جراحة بلا مخدّر كالتي يتعرض اليها اطفال البوسنة...المعري هو المؤرخ الأول للكوميديا الملكية ببهلواناتها السلفية... كان أبلغ من كشف سوآت الملكية الوراثية.. المعري شاعر الإنسانية الأول وهوميروس المأساة الإسلامية و أشهر من انتقد الفهم السلفي المضحك للدين، لأجل ذلك جاء تصنيفه سلفياّ على رأس قائمة الملحدين عبر التاريخ الإنساني المديد ! الفصل الرابع جولة ليليّة في شوارع أوسلو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حين استقر بي المقام في النرويج، كتبت لصديقي جابرعلي أخبره عن عالمي الجديد : " النرويج هي أحدى البلدان الإسكندنافية. سكانها أربعة ملايين. هناك أربعة ملايين نرويجي هاجر الى أمريكا. التدفق المفاجئ للنفط، منع البقيّة من اللّحاق بهم. تدفق نفط بحر الشمال قلب الأوضاع و مكّن البلاد من تلافي النقص المستقبلي في اليد العاملة الرخيصة، عن طريق جلب منكوبي الحروب والمجاعات من أبناء المسلمين الذين اخذوا عن اليهود مشعل التحقير والاضطهاد و التعرض للتفرقة العنصرية .." كانت تلك الرسالة هي الأولى والأخيرة . لم أتلقّ من جابرعلي أي رد طوال عشرين سنة , كان عليّ أن أدرك انه سيقامر بوظيفته و أمنه حين يردّ على رسالتي. نسيت في غمرة الحنين الى زميل دراستي انني أصبحت منبوذا من الجميع لأنني شاركت في محاولة انقلابية ضد رئيس تونس السابق، رغم ان الحاكم العسكري الجديد كان المستفيد الأول من تلك المحاولة الانقلابية التي اكتشفها قبل ساعات قليلة، فحوّلها لصالحه. كنت مفسدا في نظر النظام الجديد، لأجل ذلك أطلقت الصحافة التونسية على مجموعتنا العسكرية تسمية عصابة المفسدين. أما الانقلابي الناجح فأطلق عليه اسم نجم العهد الجديد و بطل التغيير! منذ ذلك الحين انقطعت صلتي بعائلتي واعتبرت ضمن الأموات .... منذ 15 سنة سنوات وجدت شقيقتي راضية تـتوسل اليّ عبر الهاتف : ــ ألو سامي أرجوك .. لا تراسلني بعد اليوم، حتى المكالمات الهاتفية لا أريدها... أرجوك ـــ ماذا حدث؟ كان صوتها يرتجف : ـــ وقع اقتحام شقتي ... صودرت كل رسائلك... أستدعيت بعد ذلك الي وزارة الداخلية. و حقق معي... أرجوك لا تراسلني بعد اليوم .... لنا لقاء في العالم الآخر! حين توفيت شقيقتي راضية قبل خمس سنوات. كان قد مرّ على آخر لقاء لنا عشر سنوات . أصبحت في منطقة بين الحياة و الموت .. وانقطعت صلتي ببلدي الأم. لن اعرف في المستقبل شيئا عن زملاء دراستي و رفاق طفولتي، سأجهل كل شيء عن مصيرهم . لن اعرف من منهم مات و من بقي بين الأحياء, من سعد منهم في حياته الزوجية و المهنية و من منهم فشل. سوف لن ازور مدرستي الإبتدائية مرة أخرى وقد شاب شعري، وسوف لن اجلس على مقاعدها الخشبية، و أنا آمن من إرهاب مدرّسنا العنيف سي عبد العزيز . " خلال الندوة الصحفية التي عقدها السيد الحبيب عمّار وزير الداخلية، أماط اللثام عن عصابة مفسدين تتكوّن من ثلاثة و سبعين شخصا كانوا يخططون لعمليات إرهابية من بينها تفجير مبنى الإذاعة و التلفزة و وزارة الداخلية و ثكنتي العوينة و بوشوشة، و تفيد المعلومات المتعلقة بهذه القضية ان بعضها يتعلق بمحاصرة قصر قرطاج و احتجاز الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، و قد تكون الأبحاث كشفت ان هذه المجموعة خططت لإغتيال بعض ضباط الأمن السامين كما جاء على لسان أحد الذين تمّ إيقافهم ... كما علمنا ان مصالح الأمن كانت تترصّد أفراد المجموعة منذ حوالي الشهرين، لمّا لاحظت بعض الإتصالات المشبوهة بين أفراد من الشرطة و الجيش و المدنيين و بقيت تبحث عن خفايا هذه الإتصالات الى أن جاءها الجواب الشافي على لسان عون من أعوان وزارة الداخلية منضمّ الى المجموعة، و لكنه خاف و تراجع في آخر لحظة، فقصد ليلا ضابطا ساميا في وزارة الداخلية، و روى له كل شيء " اللعنة ... بسبب أن مجموعتنا كانت تضمّ بينها شخصا جبانا ، سأقضي بقية حياتي في هذا المنفى النرويجي المتجمّد ... بسبب تسكين خوف شخص واحد، سيستمرّ خوف عشرة ملايين تونسيّ من بطش تماسيحهم الحاكمة ... منذ مجيء جنرال تونس الرّهيب، أصبح إعتقال المعارضين يتمّ في الظهيرة و على مرأى من الجميع... مضى زمن زوّار الفجر المتلصّصين... اول أمس أخبرني موسى رجب أنّ مواطنا تونسيّا عذّب على مشهد من زوجته و أطفاله بعد ان إقتحام بيته نهارا.. ـــ أيّ مفسد نموذجي أنت... مفسد في تونس، و مفسد في النرويج. هكذا قال لي صديقي رشيد مازحا . ـــ عجيب أمرك يا سامي... كيف قدرت ان تكون عدوّ الله و عدوّ الشيطان في آن واحد؟ السّلفيون يطلبونك و العلمانيون يطاردونك. منذ اقامتى في النرويج أصبح تردّدي على المساجد وسيلة تعذيب صرفة.. الأئمة يظلّون يتكلّمون لمدّة ساعة كاملة دون أن يقولوا شيئا . " من اعتقاداتي التي أصبحت راسخة، أنّ الخطبة الصحّية هي التي لا تفهم منها حرفا واحدا!" هكذا قال لي رشيد و نحن نغادر مسجدا كرديّا بعد معاناة خطبة جمعة طويلة و باردة، كليلة شتاء نرويجية مروّعة. المسلمون في أوسلو منقسمون.. و إدارة المساجد لم يوحّد بينها غير قرار واحد تجده مكتوبا في مدخل كل مسجد " ممنوع المبيت و إلقاء الدروس و إلصاق المعلقات "... حتى القبلة لم تتفق المساجد على توحيدها.. في مساحة مائة متر مربّع تجد مصلّيين اختلفت اتجاه قبلتهما.. حتى الخطوط المرسومة على سجادة الصلاة لتحديد اتجاه القبلة لم يقع مراعاتها... تجد ثلاثة مصلين يقفون في صف واحد. الأول يقف على الخط، الثاني يقف وراء الخط، و الثالث أمامه.. بؤس و تفرّق و استبداد في إدارة المساجد... ذات مرة اصدر حزب التحرير فتوى بوجوب سقوط الصلاة عن ساكني القطب الشمالي حيث تغيب الشمس طيلة ستة اشهر .. تخيّلت نفسى وأنا أتهيأ بكل ّلهفة للدخول في سبات شــتوي طويل، لو صحّت الفتوى لديّ، فستختصر معاناتي... تخيّلت فتوى لاحقة تعفي سكان النرويج من الصوم لنفس السبب الجغرافي، سيتيسّر لي ساعتها الدخول أنا و ضميري الديني في سبات يطول لسنوات، أستمتع خلالها بنوم عميق لا تتخلله كوابيس مروعة... سوف اعفي من سماع أسماء بوش و توني بلير و بن لا دن و القاعدة و قضية فلسطين و حماس. و فتح و حزب الله و ملف إيران النووي، والإخوان المسلمين و إخبار السلفييين و جميع حكامنا الفاسدين . كانت نتف الثلج تتطاير بفعل النسمات الباردة التي تدمع العيون و تسيل الأنوف و تستحثّ الخطى للإحتماء تحت أي سقف يقي عدوان المناخ القطبي المريع.. قبل ألف سنة زار النرويج أحد الرحالة المسلمين.. قبل ان يغادر البلاد كان متجمّد اليدين الى درجة لم يستطع معها تحريك أصابعه ليسجّل كل ما رآه.. اختصره تقريره في جملة واحدة " فساد في الجوّ و فساد في الأخلاق!"... من جملة ما لفت انتباهه أنّ الرجال لا يتوارون وهو يركبون النساء، كان الجميع يمارسون الجنس في فضاءات مفتوحة وفي جلسات عامة.. تأكّدت شخصيّا من فساد الجوّ و الأخلاق معا!.. في الأدواش الملحقة بقاعات الرياضة، يخلع النرويجي كلسونه أمامك و كأنك شريكه في الفراش أو طبيبه الخاص.. يفعل ذلك بنفس اللامبالاة والتلقائية التي أخلع بهما جوربي قبل الوضوء..عدم مراعاة الخصوصية الثقافية للمسلمين، هي التي جعلت بعض الشباب يشنّ الحرب على النظم العسكرية التي وضعها الغرب في بلادنا لحراسة مصالحه.. بعضهم بلغ به الغضب و اليأس الى شن الحرب على امريكا و اروبا، لا عن طريق استهداف ساستها و عسكرييها، بل استهداف المدنيين الأبرياء. استعت حدقتا زميلي النرويجي "داق" حين أخبرته أن السجين السياسي في بلادي يعرّى أثناء التحقيق و يغتصب من قبل كلاب مدرّبة أو من قبل الجلادين أو من قبل مساجين الحق العام.. يصنع به ذلك بقصد الإذلال و تحطيم معنوياته.. لا يعفى من تلك الممارسة المهينة أي شيخ هرم، أو رجل علم محترم. إذا كان المسلم يحسّ بعار شديد اذا كشفت الريح عن جزء من مؤخرته وهو على شاطئ البحر، فأي عار يحسّه وهو يغتصب؟ داهمني شعور عنيف بالانقباض، حين تخيّلت مشهد إعدام سليمان حلبي.. كان سليمان الحلبي مشدود الوثاق، كما كانت يده اليمني متفحمة بعد ان وقع إحراقها بالنار حتى بان العظم.. بعد ذلك نزع سرواله أمام ألوف المصريين، قبل ان يقحم الخازوق في فتحته الشرجية التي كشفت للجميع، لا أشك لحظة واحدة ان الألم النفسي الذي عاناه سليمان الحلبي حين كشفت مؤخرته، كان أشدّ حدّة من الألم الذي أحدثه الخازوق و هو يخترق اللحم الحي .... مسافة متر كامل. ليس صدام حسين من فعل ذلك بسليمان الحلبي بل ضباط فرنسا المتنورين، أول طلائع الثورة الفرنسية. ضباط قادمون من باريس عاصمة النور. " رباه . ماذا كانوا سيصنعون بسليمان الحلبي لو انهم قدموا من أدغال افريقيا ؟" هكذا علق حارث بيتروفيتش، عندما رويت له أحداث إعدام المجاهد السوري سليمان الحلبي، بعد ان قصّ عليّ في مناسبة أخرى ما روّعه من غلظة قلوب المليشيات الصرببية و انعدام الرحمة منها... رويت له ذلك لأثبت له مدى تطرف المسيحيين وفقدانهم الرحمة و التسامح و التضامن الإنساني خصوصا اذا كان الضحية مسلما . ـــ أي معنى يبقي لشعار الثورة الفرنسية " حرية إخاء عدالة "اذا كان أصحابها يتصرفون بهذا الشكل البدائي؟. ـــ العجيب انه بعد مرور اكثر من قرنين على إعدام سليمان الحلبي وقبل نهاية ولايته الثانية رفض الرئيس الفرنسي جاك شيراك دفن الهيكل العظمي لسليمان الحلبي، رغم مناشدته بضرورة احترام جثة رجل ميت...اصر جاك شيراك على بقاء جمجمة سليمان في "متحف الإنسان" بباريس ولم يأمر حتى بمجرّد حذف عبارة" هذه جمجمة ارهابي" التي ظلت امكتوبة تحتها . كما اصر الرئيس الفرنسي و من مكتبه بباريس عاصمة النور، على بقاء بقية الهيكل العظمى في حديقة الحيوان ! صاح حارث بتروفيتش مندهشا: ــ هل يعقل هذا ؟ ــ هنا يتبين لك الفرق الشاسع بين حضارة الإسلام و حضارة الغرب ـــ .... ــ ففي أوج ازدهار الحضارة الإسلامية، كانت الرحمة والعدالة والأخوة لا توزع على أساس العرق و الدين بل كانت مشاعة للجميع.. في حين ان عدالة الغرب و ديمقراطية الغرب و احترام حقوق الإنسان بضاعة محرمة على غير الغربيين . ـــ ... ــ ارفع راسك يا حارث بيتروفيتش.، يحق لك الإعتزاز بانك مسلم أي انك انسان حقيقي. حين قصد سليمان الحلبي مصر في نهاية القرن الثامن عشر، لدراسة علوم الدين في الأزهر، كان يدرك أن الإيدز الصوفي قد شلّ حركة أمته و افقدها كل مناعة.. لأجل ذلك لم تستهوه آلاف الطرق الصوفية التي كانت تعج بها مصر... رفض دور الكاهن الذي كانت الدارسة الأزهرية تؤهله له. واختار المواجهة. وصلني صوت انثويّ مرتعش : ـــ لطفا،، بعض قطع النقود اصغيرة... من فضلك ــ آسف لا أستطيع مساعدتك. في أول حلولي بأوسلو، كنت لا أتردد عن تقديم المساعدة لأمثالها .أما الآن فلا أتردد لحظة واحدة عن الإعتذار .... تجاوزت الشابة النرويجية التي تبين لي من ارتجاف شفــتيها و عدم تماسك قدميها على أرضية الشارع أن رصيد كرياتها الدموية من المادة المخدرة صارت كرصيد سلفيّ من الذكاء. .لحقت بي حاولت التمسّك بذراعي : ـــ هل تريد صحبة... ساكس .. أعرف أنك عربي ثم وهو تشير باصبع وسخ: ـــ أسكن هنا ليس بعيدا ... تماما وراء المحطّة . أبعدتها بلطف : ـــ آسّف, أنا آخر من يساعدك على الموت . " لو سافرت الى بلد خليجي لضمنت ثمن الحقنات الكفيلة لإيصالك القبر خصوصا و انت أجمل بكثير من الممثلة الأمريكية المغمورة التي دفع لها أمير نفطي مليون دولار كي يركبها ليلة واحدة . " حين وصلت الى المحطة الرئيسية للقطار و تأملت تجمّع المدمنين لم أجد بينهم عماد و لا سامي توازن و لا العروسي و لكني وجدت نفسي محاطا بفريق من مدمنين نرويجيين تسابقوا الى الالتفاف حولى باسطين أوراقا نقدية من فئة المائتي و الخمس مائة كرونة : ــ من فضلك, كن لطيفا ساعدنا . ... من كثرة بحثي عن عماد و سامي توازن و العروسي حسبوني من فئتهم ! على كل ليست المرة الأولي التي أعامل كمروج مخدرات.. حز في نفسي تأدية المسلمين مهمة رسل الموت و الدمار في حين كلفوا بمهمة الإحياء و التنوير . فجأة رأيت زكريا بين المدمنين، حين التقت عينانا حاول ان يتوارى.. زكريا ابن موسى رجب رفيق السلاح و النضال .. . ما زال موسى رجب يؤمن بفكر الإخوان المسلمين ...رغم دخول الإخوان الفراش الأميركي و خيانتهم للدين و الوطن في العراق و الجزائر تركيا و افغانستان و المغرب و دول الخليج .. مسكين موسى رجب ما زال يصر على التمسك بنظرية الإخوان في وجوب " توطين الإسلام في الغرب" ..رغم أن المسكين لم يوفق في توطين الإسلام في بيته. إخواني آخر قررت ابنته الإشتغال كراقصة في ملهي ليلي . ... نجل إمام اكبر جالية مسلمة في النرويج يبيع البيتزا بلحم الخنزير. إمام مغربي لم يستطع إقناع ولده بعدم الذهاب الى افغانستان لقتال المسلمين هناك . منذ عشر سنوات أضربت عن إجراء أي عقد زواج بين مسلم و نصرانية أو حتى بين مسلم و مسلمة ستكون الأجيال القادمة أكثر مسخا و فقدانا للهوية.. مجرد أرقام ضائعة في سجلات النفوس لو بحث عن أصحابها فستجدها على رصيف المدمنين أوعلى أرصفة الشوارع الخلفية الخاصة بالمومسات. ــ الو.. انا جمال عزمي مواطن سوري أقيم بدرامن. ـــ سامي احمد معك. ـــ أنت إمام.... أليس كذلك ؟ ـــ نعم تفضل. ـــ هل بامكانك مساعدتي؟ ــ لو كان في استطاعتي فسأفعل بكل سرور. ـــ شكرا... أريد أن أتزوج فبماذا تنصحني؟ في تلك الليلة كنت أمرّ بحالة ابتهاج لم اعرف سببه، ابتسمت حين تذكرت نصيحة وجهها احد الظرفاء الى صديقه الذي استشاره في اختيار زوجة: اذا اردت زواجا موفقا فتزوج قحبة: لأنها تعرف كيف ترضي الرّجل، و تعرف انها قحبة فلا تتكبر عليك، وإذا شتمتها يوما و قلت لها يازانية لم تأثم!.. ذكرت هاته النكتة لرشيد حين أخبرني ان زعيما صينيا بارزا قد عمل بهذه النصيحة! استغل جمال عزمي سكوتي... اندفع يقول: ـ في الحقيقة.. وجدت الزوجة المطلوبة... فقط أريد أن تعقد لي على بنت نرويجية . ـــ هناك مساجد كثيرة يمكنها خدمتك، أنا لست جهة رسمية . ـــ أريد فقط عقدا شفويا كي يصبح الزواج شرعيا في نظر الدين في انتظار حصولي على الوثائق القانونية لعقد زواج موثق في المسجد و المؤسسات النرويجية. ــ لست الشخص الذي يمكنه مساعدتك. ـــ الست اماما؟ ـــ لن أساعدك لأني إمام . ــ خير إنشاء الله ... يمكنك تقديم أي مبرّر؟ ـــ بصراحة سأشعر فور مساعدتي لك بأنني ارتكبت جرما سيحرمني راحة الضمير حتى آخر عمري. ــ أظن اني دعوتك لمساعدتي على الزواج وفقا لقواعد الشريعة وليس مشاركتي في جريمة. ــ ما تدعوني إليه هو أكبر جريمة. ــ هل من الإجرام اتباع قواعد الشريعة في الزواج ؟ ـــ قواعد الشريعة لا توافق أصلا على هذا الزواج . ـــ هل جاء رسول جديد بعد محمد؟ ـــ صحيح أن محمدا خلّف أغبياء كثيرين يتكلمون باسمه لكنني لست أحدهم . ـــ ماذا تعني ؟ ـــ اعني أنا لست من أصحاب القراءة الحرفية للنصوص. ــ لم افهم شيئا؟ ـــ لا بد لزواجك من نرويجية من شروط لا أراها متوفرة في مترشح للزواج من نصرانية .. ــ ما هي تلك الشروط يا مولانا؟ ـــ أولها أن يحتضن الزوج محيط يحترم ثقافته... باختصار ان يكون مقيما في دولة إسلامية. وثاني تلك الشروط أن لا يجد في تلك الدولة الإسلامية زوجة مسلمة، وثالثا أن تتعهد الزوجة النصرانية باحترام ثقافته و تربية ابناءه عليها و ان تتجاهل تماما كل ما يتعارض مع ثقافته. رابعا أن يكون الزوج عزيزا في بلده الأمّ مثلما ترى النرويجيين أعزة في بلادهم. و خامس تلك الشروط ان يكون طالب الزواج معتزا بثقافته الإسلامية و كلّ الشروط أراها منعدمة... الو .... هل تسمعني؟ ـــ نعم . ــ فحضرتك تعيش في بلد نصراني بلغ احتقاره لثقافتك العربية و الإسلامية حدّا جعله يقرّر فرض ثقافته على أبنائك. لأن المسؤولين في هذه البلاد يدركون ان احتجاجنا على تدريس المسيحية بالقوة لا يقدّم و لا يؤخّر. كما يدركون قبل ذلك ان قيادتك السياسية من وراء البحار هي عبارة كمشة من الفاسدين و المرتشين والمهزومين ثقافيا، كما انهم يدركون ايضا ان مقتل مائة مسلم من امثالك من قبل عنصري نرويجي، لن يهز لدولهم شعرة واحدة، لأنهم لا يساوون لديها شيئا( لم اشا ان أضيف : و بانك ستدخل على زوجتك النرويجية بمعنويات تحت الصفر، لأنها تعلم جيد انك ذليل و متسول و منبوذ وضائع ومستعد للتنازل عن كل شيء في سبيل الحصول على إقامة الدائمة في مملكة النرويج ). ــــ ألو .السيد جمال عزمي ... ما زلت معي..؟ . ألو ـــ نعم ــ قلت لك لا يحل للمسلمين البقاء في بلاد معادية لثقافتهم .. سيذوبون حتما .. انظر الى الجيل الأول من أبناء المسلمين 90 في المائة لا يصلون و عشر المصلين يفعلون ذلك مجاملة لوالديهم و سيتركون الصلاة فور اختفاء والديهم فكيف اعقد لك زواجا فاشلا في هذه الحالة ــــ و لكنك إمام و تعيش في النرويج . ــ أنا إمام مكروه و مطرود من كل مسجد.. و ملعون من قبل الشيعة و السنة... و لم آت الى النرويج كي أتزوج فتاة شقراء أو افتح محلا للبيتا... كنت متزوجا منذ كنت في تونس وكانت لي وظيفة قارة و منزلا املكه... انا جئت مضطرا لأني هارب من القتل تحت التعذيب.. ثم اني شخص جبان و متردد أكثر من اللزوم.. وكان علي ان أغير هويتي تماما و اذهب الي بلد إمكانية تسليمي الى تونس اقل من غيره.. كما كنت عاطفيا و ضعيف الشخصية الى أبعد الحدود كي أفارق زوجتي وأرسلها مع ابني الى تونس كي يعيشا هناك.. أرجوك يا سيدي اتركني و لا تورطني في مشروع فاشل أتلقي بسببه ذنوبا كثيرة ( يكفي زينب ابنة عماد و ما ستفرخه من أجيال). ــ لا تكن نظرتك متشائمة... هناك اسر كثيرة صالحة .. ــ صالحة نعم، ولكن للذوبان ــ .... ـــ يا سيدي اذا كنت قد فشلت في السيطرة على ولدي ونقل قناعاتي الثقافية إليه، رغم انني استنفذت معه جميع وسائلي البيداغوجية وثقافتي الدينية و رغم انني لم اضربه مرة واحدة بل عاملته كصديق منذ العاشرة من عمره ، فاذا شتمني اعتذرت و اذا صاح في وجهي ابتسمت في وجهه... هل تسمعني ؟. ـــ نعم . ــ لقد فشلت يا جمال عزمي.. رغم انني.. و بدون تواضع مزيف إمام غير تقليدي...وصاحب رؤية شاملة للإصلاح .. ولي قدرة على ان أحاضر في الإسلام خمس سنوات واحدة بمعدل ثمانية ساعات في اليوم .و مؤلف أربعة كتب في الدين و السياسة و الإجتماع فكيف يقدر غيري على الصمود اذا أعلنت فشلي؟ ـــ يا أستاذ لو فشلت رغم مؤهلاتك التي ذكرت، فقد ينجح من هو دونك ... فالله يجعل سره في اضعف خلقه كما يقول الحديث النبوي! كما أن هناك آية قرآنية تقول... بسم الله الرحمن الرحيم يوجد في البحر ما لا يوجد في النهر . أصابني اكتـئاب مفاجئ حين أيقنت أن محاوري من صنف بالغ التفاهة.. وبالغ الإزعاج و لا يستحقّ أي احترام و لا عزاء، كما يمثل شريحة كبرى من المسلمين الذين لا يعلمون شيئا و يحسبون انهم يعلمون كل شيء، و اذا بلّغت لهم الحقائق تجاهلوها و شككوا في وجود الشمس في الظهيرة . باختصار هم أصحاب ذوي الجهل المركب .. فالكلام الذي نسبه جمال عزمي للرسول ليس الا مثلا شعبيا، و الآية القرآنية التي استدل بها، مجرد مثل عربي ! ــ حسنا يا سيد جمال عزمي، لو أجبتني على ثلاثة أسئلة يمكنني مساعدتك بعض الشيء. ـــ أطمئنك مسبقا.. لم اترك زوجة في سوريا ... و انا جادّ في زواجي ... و أحترم الحياة الزوجية. ـــ أسئلتي ليست لها صلة بكل ما ذكرت، عندي أسئلة أخرى في الثقافة والسياسة والدين. ... يصلني ضحك .. ـــ هل أنت مستعد؟ ــ نعم . ـــ عمر بن الخطاب... هل هو من المهاجرين أومن الأنصار ؟. قهقه جمال عزمي ثم أجاب: ـــ هذه مسألة لا تحتاج الى تفكير.. فمن نصر الإسلام غير ابن الخطاب؟ ..سجّل: هو من الأنصار ـــ هل أنت متأكّد ؟؟؟... ـــ أفي الله شكّ؟ كانت إجابة جمال سالم خاطئة الى حدّ الضحك فعمر بن الخطاب صاحب الرسول وثاني خليفة كان من المهاجرين أي من أوائل من اعتنق الإسلام ، ولم يكن من الأنصار أي من أهل المدينة التي هاجر إليها الرسول بعد 13 سنة من بعثته. رغم إدراكي بان محدثي يجهل أبجدية الدين .. اردت ان أوصل استجوابه لمجرّد التسلية . ـــ حسنا سيد جمال، أيهما أطول سورة النمل أو سورة الفيل؟ ضحك جمال عزمي ثم أجاب: ـــ لو اجتمع نمل الكرة ألأرضية ما بلغ وزن فيل ولد قبل ربع ساعة، سجل يا أستاذ سورة الفيل أطول من سورة النمل! كان جواب جمال عزمي مسليا ... فسورة الفيل لا تتجاوز ثلاثة اسطر في حين ان سورة النمل يتجازو طولها 125 سطرا. ـــ عظيم عظيم . معلوماتك جيدة . ــــ العفو سيدي... أبي كان اماما . ـــ سليمان الحلبي.. هل يعني لك شيئا ؟ ـــ معلوم ، من يجهل هدّاف فريق القادسية في الموسم الماضي!. ضحكت طويلا.. " ما هو آخر ألبوم لها؟ " هكذا أجابت مراهقة مسلمة و قد سئلت عن آمنة بنت وهب أمّ النبي الخاتم . ـــ أحسنت يا بطل ...اخبرني بصراحة متى أديت آخر صلاة . ـــ ... ـــ متى صلّيت آخر مرة ؟ ــــ و الله.. في الحقيقة .. حضرتك تعرف جيدا نزوات الشباب... و جمال بنات النرويج ..على العموم، الصلاة تتطلب استقرارا نفسيا و اسريا .. والأعزب لن يكون مستقرا الا اذا تزوج. ــــ يعني انك لا تصلي ؟ ـــ... لكني انوي الصلاة ... بعد الزواج ان شاء الله. هذا عذر أكثر العزاب، ولكن عندما يتزوجون لا يصلون ايضا، سيكون عذرهم بانه ليس في إمكانهم الاستحمام بعد كل اتصال جنسي لأداء الصلاة التي تتطلب الغسل بعد كل جماع . ـــ هل يمكن ان أسألك سؤالا شخصيا... سيكون الأخير ؟ ــ بس تؤمر يا حبيبي . ــ هل يمكنك إقامة مشروع تجاري تكلفته الجملية ثلاثين الف كرونة؟. سمعته يضحك قبل ان يجبيني: ــ أنت تمزح معي . ـــ بالطبع لا... ليس هذا موضع مزاح ... اجبني عن سؤالي من فضلك. ــ يا سيدي لو كنت املك ربع هذا المبلغ لبقيت في سورية ! ـــ سؤال إضافي ... ــــ ... ـــ ما هي آخر شتيمة تلقيتها في حياتك ؟ ـــ عفوا .؟...ماذا قلت ؟ ـــ سألتك ما هي آخر شتيمة تلقيتها في حياتك؟. ـــ انا رجل أحترم نفسي و احترم غيري و لا ادع المجال لأي كان كي أتلقى منه شتيمة . ـــ ستصلك مني واحدة .. أن لم تغلق الخط .. انتهت المكالمة .... السلام عليكم ــ انتظر... لم انته بعد ... قلت لك انا شخص محترم. ــ باغلاقك الخط مباشرة ستبرهن لي انك أكثر من محترم. ـــ لم ننته بعد ... هل بلغك شخص آخر شيئا عني ؟ ـــ شخص سوري اسمه جمال عزمي بلغني عنك كل شيء. ـــ انا هو جمال عزمي . ـــ هل ان جمال عزمي يكرهك شخصيا حتى يقوم ببلاغ كاذب ؟ ثم هل هو شخص كاذب؟ ظن اني أمازحه ... ضحك: ـــ بل هو شخص صادق . ــ جمال عزمي بلّغني منذ حين، انك غير مؤهل للزواج. لأنك فاقد الذاكرة و الهوية، وفوق كل ذلك متسوّل . اردت ان أضيف " و كل رأس مالك آلة جنسية ". ـــ سوف أغلق الخط . سمعته يقول: ـــ الو .... ألو.... مجنون ... .يبدو ان ابن الشرموطة مجنون ... لم أشأ اخبار جمال عزمي عن قرار أصدره بابا الفاتيكان بتحريم زواج النصرانية بمسلم .. جاء في تبرير القرار البابوي ان معظم تلك الزيجات كان مصيرها الفشل كما أسفرت أيضا عن كوارث أسرية دفع الأطفال ثمنها باهظا. " اعتقد ان هذا أفضل عمل صالح قدمه البابا في حياته!" هكذا علّق صديقي الجزائري رشيد . الفصل الخامس لقاء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عشرون شتاء قاسية مرت منذ نزولي الإضطراري الى بلاد الفيكنج ... حين أقدمت على المشاركة في انقلاب نوفمبر 87 لم أضع سيناريو المنفى ضمن قائمة الاحتمالات.. كان الموت برصاصة، أو تحت التعذيب في صورة فشل المحاولة، هما أسوأ السيناريوهات.. لم أتخيل قطّ أنني سأواجه السيناريو الأبشع : الغربة و الغرابة معا! لم اكن أتصوّر و انا أشارك في محاولة انقلابية هدفها الأساسي أسلمه دستور بلادي ان أجد نفسي أعيش في ظل نظام نرويجي يعقد للذّكرين وثيقة زواج رسميّة تتمّ تحت بند احترام الحريّة الشخصيّة ! ايتها الحرية الشخصية كم من جرائم ترتكب باسمك . .. أحد ضحايا "احترام الحرية الشخصية " كان طفلا نرويجيا بريئا اغتصبه والده في غرفة أعدّت لإستقبال زوّار سجن أوسلو... الأمّ هي التي أسلمت الفريسة للأب السّجين كي يفعل بها ما يشاء...اعتذر الوالد الذئب عن فعلته الشنعاء، بكونه أخذ جرعة زائدة من الفياغرا التي وفّرها له سجّانه!.. في الغرب اعتاد رجال الدين التوجّه للمتزوجين الجدد بالعبارة التقليدية:" الآن انتما زوجان، لا يفرّق بينكما إلاّ الموت " ذات مساء أخبرني رشيد أن احد رجال الدين في الدنمارك قال للوطييّن اتمّ لهما مراسيم زواجهما الشاذّ :" أنتما الآن زوجان... لن يفرّق بينكما إلاّ الإيدز "!. لم أكن أعلم و أنا أجازف برقبتي في سبيل إعادة الإعتبار لهويتي الإسلامية أنني سأواجه الأفظع فيما وراء البحار: إجبار ولدي ياسين على تعلم مادّة النصرانية ! الحصيلة انني هربت من القطرة لأقع تحت شلالات نياقرا.. هربت من دخان تونس لأقع في جحيم النرويج! حين علم رشيد بكوميديّة وضـعيتي أغرق في نوبة ضحك احتاج إلى قطعها لبعض الوقت حين لاحظ استيائي لعدم تضامنه معي . رغم ذلك لم يمنع رشيد نفسه من مواصلة الضحك . قال لي وهو يضرب على فخذيه و بعبارات متقطعة تتخللها ضحكاته الهوجاء : " ذكرتني حالتك الغريبة بناشط سياسي يمني، قال ذات يوم " كنّا نطالب بحريّة القول، فأصبحنا نطالب بحريّة البول " اخبرني رشيد بعيد ذلك، أن السياسي اليمني كان مسجونا في بلاده حين أرسل عبد الناصر قواته الى اليمن لمناصرة ثورة الإشتراكيين على حكم الملالي. بعد ذلك نقل الى سجون مصر حيث منع من التبوّل إلا باذن، حينذاك قال جملته الشهيرة... على ذكر اليمن التي تعد أكثر بلاد الدنيا تخلفا، حكيت لرشيد بدوري عن قصة الرئيس اليمني الذي كان مغربا في الضحك ساعة كان الطبيب المصري يكوي له بواسيره بالتيّار الكهربائي. حين سئل عن سبب ضحكه أجاب: "أضحكني دخول الكهرباء دبري قبل دخولها شوارع و دور بلادي !" استوقفتني واجهة مكتبة كانت تعلن عن تخفيض كبير.. اقتربت من الواجهة و أخذت أتأمل الكتب المعروضة .. أحسست بيد توضع على كتفي اليسري اجتاحني خوف شديد، لا بدّ ان سلفيا أو شيعيا قدّر أنّ الفرصة مناسبة لتصفية حسابه معي، استعددت للأسوأ... حين رأيت مجموعة خواتم ذهبية تزيّن أصابع اليد المشعّرة، أحسست ببعض الإطمئنان،فلا الشيعة و لا السلفيون يحلّون أصابعهم بخواتيم ذهبية. حين استدرت، طالعني وجه عربي حليق يهيمن عليه شارب كثيف يغطّي كلّ الشفتين. كان صاحب الوجه يتأمّلني مبتسما . رغم تحديقي فيه لستّ ثواني أو أكثر، لم أتمكّن من تحديد هويته . ـــ أنا متأكد أنك سامي أحمد ... التونسي . ـــ صحيح، أنا سامي أحمد و لكن من حضرتك ؟. شدّ الرّجل على كلتا يديّ وهو يقول: ــ انا كاظم.. كاظم جواد.. العراقي.. ألا تذكرني ؟. نسيت ايام "ارتيقاتا 88 "؟ تذكّرت صوته .. أيقنت أنه كاظم جواد حينما طالعتني الندبة الغائرة على جبينه. لقد مرّت تسعة عشر سنة على فراقنا .. تغيّر كلّ شيء فيه... حين التقيته، لم يكن قد بلغ العشرين، أمّا الآن فهو رجل قد وخط الشيب رأسه. ــ اعذرني يا سيد كاظم، بهذا الشّارب الكثيف ستعجز أمّك عن التعرّف عليك! تعانقنا طويلا .. ـــ هيا أخبرني سامي؟ هل مازلت تكره الشيعة و الثورة الخمينية ؟! قلت باسما: ــ اضفت اليهما كراهة السنة أيضا . ـــ هل تنصّرت، أم تمركست؟ ــ بل أصبحت مسلما حقيقيا.. لقد تخلصت من الطائفية ...لم أعد أؤمن لا بالسنة ولا بالشيعة. طوقني بذراعه الأيسر و هو يقول : ــ اما انأ فقد تركت الدين جملة، أصبحت ملحدا . الفكر الصّوفي و الشيعي جعل الإلحاد ممرّا إجباريا بالنسبة لأبناء الشيعة والسنة...الصّوفيّة كالشيعة تماما. تؤمن بالفرد السوبرمان الذي يشارك الله في إدارة الكون. ـــ عجيب.. كيف تحوّلت من شيعيّ متعصّب الى ملحد؟ أخرج كاظم جواد سيجارة ..اشعلها، نفث دخانا تخلل شاربه الكثيف: ــــ بعد عشرين سنة... احتاج الآن الي تذكيرك بانني فررت من العراق خشية زجّي في حرب أواجه فيها ابناء طائفتي الشيعية . ــ اذكر ذلك..اذكر ايضا ان شقيقيك الأكبر و الأوسط قد فرّا من صفوف القوّات العراقية و انحازا الي الجيش الإيراني، كما اذكر انك كنت تجهل مصيريها بعد ستّ سنوات من فرارهما الى إيران. ــ ذاكرتك جيّدة ..أما شقيقي الأكبر فقد وقع اعتقاله من قبل مخابرات الخميني... اتّهم بالتجسّس لصالح العراق، ثم وقع إعدامه بعد تعذيب همجيّ... لم يصدّق زبانية الخمينيّ أنّ فرار اخي من جيش صدّام كان بدافع كراهيته مواجهة إخوانه الشيعة ..أما اخي الأوسط فقد أطلق سراحه بعد أن فقد رجليه من أثر التعذيب.. علمت بذلك بعد أن غادرتني بسنة واحدة ... منذ ذلك الوقت كرهت الخميني و ثورته. سكت كاظم جواد ريثما أخذ نفسا عميقا من سيجارته ثم أكمل بلهجة متأثرة: ـــ على العموم كنت مهيّأ لترك التشيع، بل ترك الدين جملة و تفصيلا .. يأسي و احباطي جعلاني أنغمس في شرب الخمر بعدما كفرت بكل شيء... أما التشيع فقد تركته حين تعرضت ذات سهرة صاخبة الى سخرية شديدة من قبل أصدقائي النرويجيين.. ـــ ... ـــ كان نحتفل بعيد ميلاد صديق نرويجيّ، حين عرض التلفزيزن لقطات مصورة تظهر الشيعة و هم يضربون انفسهم بالسلاسل، رغم انني كنت نصف ثمل فقد شعرت بخجل شديد، خصوصا حين سألني أحدهم و كان طالبا في علم اللاهوت " هل صحيح ان الشيعة يؤمنون بوجود زعيم روحي لا يزال حيّا رغم دخوله في سرداب قبل 12 قرنا... وهل صحيح ايضا انكم تنتظرون خروجه ليحكمكم باسم الحقّ الإلهيّ المقدّس؟ وجدت نفسي مجرّدا من كل سلاح فأعلنت لهم إلحادي.. منذ ذلك اليوم صرت ملحدا و الحمد لله ! الصوفية ايضا ( و كلّهم سنّة من ذوي الخلفية الحنبلية الشافعية) يأكلون الزجاج و يمشون على المسامير و يتمرّغون على الأشواك..و يقدّسون الموتى .. نفس الممارسات الشيعيّة المتخلّفة. كان كاظم جواد أولّ عربيّ تعرّفت عليه في النرويج . كان من ضمن اللاجئين الذين التقيت بهم في مركز اللجوء بارتيقاتا 32... و نحن نكتشف معا شوارع اوسلو، تناقشنا طويلا حول ثورة الخمينيّ .. أغضبته كثيرا حين رفضت المشاركة في المظاهرات التي نظمها المسلمون في أوسلو ضدّ رواية سلمان رشدي"، اتهمني ساعتها بفقدان الحميّة الدينيّة كما اتهمته بقصر النظر والدعاية الغبيّة للكاتب الهندي صاحب الروايةـ الجريمة " آيات شيطانية". رفض كاظم جواد تصديقي حين أكّدت له استغلال الخميني ما جاء في الرواية المذكورة للدعاية لثورته المتخلّفة.. كما أستبعد أن في إمكان الخميني تصفية سلمان رشدي دون ضجّة و بأقل تكاليف، لو رغب فعلا بتصفيته . كما قاطعني لأكثر من أسبوع، حين أخبرته بان سلمان رشدي حين اتهم زوجات النبي بالزنا، لم يزد على مشاركة الخميني ذلك الإعتقاد، لأنّ الشيعة يؤمنون بأن بعض زوجات النبي زانيات. ـــ صدقني سامي... ذكرتك كثيرا في السنوات الماضية، وددت لو التقيت بك لأقول لك بانك كنت محقّا حين رفضت المشاركة في مظاهرة كان كهنة ايران وراءها، و كان الغاية منها الدعاية للثورة الخمينية التي ساعدت أمريكا على قيامها. قبل مغادرة كاظم جواد سجّلت رقم هاتفه الجوال، ثم ناشدته بأن يعيد النظر في مسألة الدين. ــ إسلامنا العظيم لا يمثله لا السنة و لا الشيعة، فطائفة السنة أنشأها الحكام لتخدم مصالحهم الشخصية الضيّقة، و طائفة الشيعة أنشأها الفرس لتصفية حسابات تاريخيّة ضدّ أصحاب حضارة تفوّقت عليهم عسكريّا .. و الإسلام بريء من السنة و الشيعة معا. أضفت بعد ذلك مازحا: ــ مستر كاظم جواد، لا يكن حالك كحال الرجل الذي أراد ان يغيظ زوجته فخصى نفسه! حين انتهي كاظم جواد من نوبة الضحك التي انتابته اضفت : ـــ أعني انك ستسيء الى نفسك حين تترك الدين نكاية بالخميني و تشيّعه الخرافيّ . حين اقتربت من شارع "ستور غاتا " تجنبت سلفيا مغربيا مقززا قال لي ذات مرّة، ان المظاهرات حرام شرعا، ولو كان دافعها الإحتجاج على تدريس النصرانية قهرا.. اتجهت الى الرصيف الآخر حتى لا أقع في دائرة بصره. " سيد سامي أحمد هذا قرار البرلمان النرويجي، يجب عليك التسلّيم بهذه الحقيقة " هكذا واجهني " لارشن هونسن " بكل برود و كأن الأمر جدّ طبيعي . ــــ و لكن ما ترتكبونه في حقي كوالد. و حقّ طفلي كإنسان، يعدّ مخالفة صريحة لمواثيق حقوق الطفل التي وقّعت عليها النرويج، ولم تنكرها حتى زمبابوي و الصومال . قاطعني : ـــ و لكنك لم تتفطن الى أنك تنتهك بدورك حقوق إنسان مثلك، حين تصرّ على قهر طفلك على لون واحد من الثقافة. استغل المدير استغراقي في تجميع العبارات النرويجية المناسبة للرد عليه ليسترسل : ـــ بحق السماء هل تستطيع اخباري كيف تخوّل لك نفسك قمع الصبيّ و الحيلولة بينه و بين حريّة الإختيار ليقرّر في النهاية ما يعتقده صوابا؟. ـــ و هل تستطيع ان تخبرني بدورك لماذا تمنعون شراء الخمور بل حتى التبغ على من هم دون 18 سنة؟ ـــ ما علاقة ذلك بما نحن فيه؟ . ــــ بل هو من صميم ما نحن فيه .لأن الأطفال قاصرون و بالتالي فهم لا يقدّرون خطورة إقتناء تلك القاذورات . بعد فوات الأوان تفطنت الي أنني بالغت في إهانة المدير حين جعلته مصبّا للقاذورات، تفطنت الى ذلك حتى قبل أن ألحظ إحمرار وجهه الذي توافق مع إتساع عينيه دهشة بسبب الإهانة العفوية التي جعلت شفتيه ترتعشان دون أن يوفق في اخراج كلمة واحدة .. سارعت متداركا : ـــ آسف، أعلم إني لم اوفق في في إختيار اللفظ المناسب، قصدت المبيدات الإنسانية التي حلتم مشكورين بين الطفل و بين إقتنائها... اردت ان اقول أن المسألة الروحية أولى بترك إختيارها للراشدين، لأن إساءة إختيارها يعني غير الهلاك الأبدي. لأجل ذلك اعطت المواثيق العالمية الوالدين و ليس البرلمانيين النرويجيين، تحديد القناعات الدينية التي يلقنونها أبناءهم فقانونكم الجائر يتعارض مع حقوق الإنسان الراشد و القاصر في آن واحد. رد متبرما : ــ لست في حاجة الي مواعظ أخلاقية.. يجب عليك احترام قانون البلاد و كفى ـــ كيف أحترم قانونا لا يحترم هويتي ويستهين بثقافتي ؟! . قاطعني من جديد و بأكثر حدّة : ــ عليك أن تخضع لنظامنا الدراسيّ .ما دمت قد اخترت الإقامة في النرويج. ازاء لهجته العدائية، قدّرت أن من العبث إخباره باني لم أختر النرويج أصلا، و ان اقامتى في بلاد الفيكنج لم تكن في حسابي، بل انني لم اكن أعلم اني سأحلّ بالنرويج قبل بضع ساعات قليلة من ركوب الطائرة التي اقلتني اليها، كما لم اشأ ان اخبره ايضا أنني عوملت من قبل حركة النهضة الذي إستعملني كأداة إنقلابية، بمنتهى الإستهانة بحقوق الإنسان ، حين لم تستشرني رغم تبشيرها بحقوق الإنسان، حول مسألة نفيي خارج البلاد، كما لم تستشرني حتى وهي تحدد أنّ النرويج هي المنفى المناسب لي! بل كان كل همّها، التخلص مني و من زملائي العسكريين بعشوائية و ارتباك، كما يتخلص الجاني من ادوات جريمـته .. داهتني كآبة شاملة... شعرت بان شيئا في قد انكسر داخلي.. أحسست انني احقر من جورب مثقوب، رغم ذلك وجدتني اقول لمدير المدرسة، و بصوت ضعيف بعدما احتجت الى جهد كبير بذلته في البحث بمشقة عن الكلمات لنرويجية المناسبة مما ضاعف كآبتي، واشعرني بمزيد من العجز والإحتقار الذاتي : ــ أنا لم آت الى هنا كي أخضع. لو اخترت الخضوع لبقيت خاضعا في بلدي... قاطعني: ـــ ثم أن المادة موضع النقاش تهدف الى إعطاء التلاميذ فكرة عامة على كل الأديان بما فيها الإسلام . ـــ هذا غير صحيح.. فالمادة أسمها "مادة المسيحية و ليس "ديانات العالم"... ثم انني لا أثق فيمن يدرس ولدي الإسلام على الطريقة الغربية ليلقنه ـ مثلا ـ ان الحجر الأسود يعبد من قبل المسلمين . ـــ آسف ... انتهت المقابلة . ـــ و أنا آسف بدوري، فولدي لن يحضر حصة المسيحية . دون ان يكلف نفسه بالنظر نحوى اجابني و هو يجمع اوراقه : ـــ ذلك شغل منظمة حماية الطفل . حين شكوت الى حبيب الرحمن، إمام المركز الثقافي الباكستاني، باعتباره إمام أكبر جالية مسلمة، و رجوت منه الإتصال بسفارة بلاده قصد تدخّل السّفير لرفع المظلمة على رعاياه، حكّ رأسه، سوّى قبّعته الأفغانية.. تبادل كلمات اوردية مع مساعده، قبل أن يفيدنى بأنه قد أتصل بالسفير الباكستاني، لكنّ الأخير أبدى تضامنا تامّا مشفوعا بأسفه الشديد، لعدم قدرته على فعل أي شئ، لأن المسألة لا تدخل في صميم اختصاصه! صحت من شدة القهر: ـــ وهذا سفير باكستاني ذليل، يقرر بأن الدفاع عن الخصوصية الثقافية لجاليته لا يدخل ضمن اختصاصه ؟ ! غادرت المركز الثقافي و انا العن السفير الباكستاني و النظام الباكستاني الذي أرسله الى النرويج.... تركت حبيب الرحمن دون أن أحيي:ه.. كان ذلك أوّل شرخ بيننا..ما حاجة المسلمين الى ساسة لا يدافعون عن ثقافتهم، .بـل و يحتقرونها؟! بعد سنوات سيفاجأ العالم برئيس فرنسيّ ينتفض غضبا حين بلغته رغبة شركة أمريكية في فتح دكان ماك دونالد في برج ايفل بباريس .. رأى في ذلك الطلب الأمريكي ما يستهدف الخصوصية الفرنسية. كان صديقي رشيد يمرّ بحالة اكتئاب ايجابي حين علق على الخبر: ــ يمكن تشبيه ثورة مسيو جاك شيراك بثورة قحبة اعترضت أن تنكح مستلقية، لأنّ من ثوابتها أن تؤتى واقفة! و إلا ما الفرق بين حضارة فرنسية و اخرى أمريكية؟ فكلا الحضارتين إباحية و منتهكة لحقوق الإنسان الملون! قبل ان يسرّ لي حبيب الرحمن بان مسالة فرض المادّة المسيحية على أطفال المسلمين، لا تدخل دائرة اهتمام السفير الباكستاني الدّمية، لاحظت بنفسي أنّ مسألة فرض المادّة المسيحية لا تدخل ايضا في دائرة اهتمام أولياء التلامذة المسلمين ايضا! فقد راعني تخلف هؤلاء الأولياء عن شهود مظاهرات الإحتجاج المحتشمة التي شهدها من النشطين الحقوقيين النرويجيين أكثر من المسلمين ! و من العزاب اكثر من المتزوجين! من حسن حظي أنّ ولدي ياسين قد أبدى في مدرسته الإبتدائية من فنون الشغب، وصنوف الاعتداء الجسدي على زملاء فصله، ما عجّل بترحيله الى مدرسة خاصّة، ممّا وفّـّر علي مزيدا من الجدل حول فرض مادة المسيحية، حيث لم تكن المادة ضمن مقررات مدرسته الجديدة، و لكن ذلك الإعفاء الخاصّ لم يخفف من شعوري بالمرارة و الغربة عن محيطي، و لعل ذلك من الأسباب الرئيسة الذي حملتني على مزيد الدخول في قوقعتي، و كراهية الإندماج في هذا المجتمع العدائي، و تعميق شعوري بانني كائن غير مرغوب فيه الا للقيام بالأعمال الوضيعة نهارا، والإشتغال ليلا بتدارك سدّ الخلل الديمغرافي الذي تشكو منه المملكة النرويجية السّعيدة! الفصل السادس دناءة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في أوسلو، المسلمون هم ملوك الليل دون منازع...الصوماليون يوفرون المخدرات.. هم سادة السوق. أغلب البارات الرخيصة يديرها باكستانيون و لبنانيون و جنسيات اخرى . ــ سامي ... تصوّر... هناك باكستاني مسنّ يمتلك حانة كبيرة في اوسلو، لكنه يصرّ في كل ساعة متأخرة من الليل، على إستلام حصيلته اليومية من دخل الحانة من شبّاك خلفي هيئ له من أجل ذلك الغرض . سألت صديقي رشيد : " هل منع هو أيضا من دخول حانته؟" منذ أيام قليلة أخبرني رشيد أن ابن عمته قد منع من إرتياد كل مساجد الجزائر، بحجة انه عنصر خطر! أجاب رشيد و هو يغالب ضحكة: ــ الأمر جد مختلف بالنسبة لصاحبنا الباكستاني ..فهو لا يدخل حانته بمحض اختياره، و لأسباب دينية ! . ــ ذكرني براقصة بطن قيل لها ذات مرة : لم لا تغنين فصوتـك جميل، أجابت: سمعت فتوى تقول ان الغناء لا يجوز لأن صوت المرأة عورة لا يجوز كشفها ! تركت رشيد حتى فرغ من نوبة الضحك ثم سألته. ــ لكن ماهي الأسباب التي تمنع الباكستانيّ من دخول حانته؟ ــ لأنه مسلم، و لأنه حاجّي! لأجل ذالك، فإن ضميره الديني لا يسمح له أن يطأ أرضية الحانة التي يملكها ! المطاعم الباكستانية جنّة السكارى النرويجيين.. في إمكان المدمن النرويجي أن يتناول حتى التخمة، صحنا من الأرز يتصدّره فخذ دجاج "حلال".. كل ذلك بثمن بخس، بالقياس الى حانات يديرها نرويجيون. ذات مرة رأيت باكستانيا يبيع الجعة في رمضان و بالتخفيض ايضا ! حين نهيته، حكّ مؤخرته ثم ضحك وقال: ـــ برور، برور.. الجعة المحرّمة هي التي يشربها المسؤول الكبيرثم يظلم الناس، وقد يقتلهم... أما الجعة التي يشربها العامّة من أمثالي و أمثالك لمجرّد المتعة فهي حلال ! ـــ دخله الشهري الكبير الذي قد يفوق دخل جميع وزراء باكستان هو الذي افقده صوابه! هكذا علق رشيد. حين نصحت باكستانيا آخر يدير مطعما يقدم فيه الخمر بالإكتفاء بتقديم الطعام هرش رأسه ثم قال : ـــ برور...برور... ( 1) ثم أشار الى قلبه وضرب على صدره " الإيمان هنا " . كان محمود الصومالي برفقتي حينذاك.. سحبني من يدي وهو يقول : ـ اذا كانت الخمارات مرخص فيها في بلاد المسلمين فكيف تعجب لو فتحها مسلم في النرويج. أم لعلك نسيت حادثة الشيخين المغربيين؟ عادت بي الذاكرة الى آخر درس حضرته في الرابطة الإسلامية بأوسلو.. كان المحاضر هو الدكتور المغربي عادل رضوان . " ذات يوم زارني شاب متدين... طلب مساعدتي في مهمة قدّر انه لا يستطيع حلها غيري، حين طلبت منه عرض قضيته طفق يقول: " بالأمس فقط واريت والدي التراب" ظننت أن موت والده هو الذي أثّر فيه، قدّرت انه يحتاج الى دفع معنوي . " يا بني .. نسيت ان اسألك عن اسمك " اجابني دون ان يرفع نظره عن الأرض " اسمي عبد الغفور" "أعلم يا عبد الغفور، أن الحياة الدنيا مجرّد فترة تعارف قصيرة.. الحياة الحقيقية في الجنة حيث لا فراق و لا مرض لا ألم و لا هموم.. لا تخش على والدك...لا شك انه من أهل الله ما دام قد أنجب شابّا متديّنا مثلك" ما ان أتممت كلامي حتى انخرط الشاب في نشيج اهتزّ له جسده، تركته حتى هدأ قليلا ثم قال : " فضيلة الشيخ ... أبي لم يكن من أهل الله.. بل كان من أهل الخمّارات "، قلت له مطمئنا :" على كل حال، لعل الله أراد به خيرا حين رزقه بولد مثلك يدعو له بعد موته .. لأن الميت يستفيد من دعاء ولده كما يستفيد لو ترك صدقة جارية. مسح الشاب دمعة ثم سالني: " ماذا تقصد بالصدقة الجارية؟" "الصدقة التي يتكرّر أجرها ما دامت تـنفع الناس كأن تحفر بئرا يستفيد منها أيّ كائن حيّ". كان الشابّ قد كف عن البكاء، و حين وصلت الى جملتي الأخيرة عاد يبكي بأشدّ من بكائه الأول : " لقد ضاعفت ألمي يا دكتور " " عفوا لم افهم ما تعنيه بكلامك ؟" ردّ عليّ ناشجا: "أبي خلّف لعنة جارية.. يا سيدي.. باختصار شديد، أنا الإبن البكر لمنصور رامي!" " صحيح ؟! كان الله في عونك يا بنيّ " ـــ من من أهل الدار البيضاء لم يسمع بثراء منصور رامي ومن لم يسمع ايضا بجرائمه.. لو اخبرني الشاب بهويته لأول مرة لوفر عني جهدا كبيرا.. فموت منصور رامي بالأحرى مقتله، هز مدينة الدار البيضاء و مازال رغم مرور سنتين عن الحادثة يشكل مادة لأخبار الصحف وأحاديث الناس و تأويلاتهم... فقد لقي الشيخ مصرعه على يد زوج شاب تطوع احد الناس بابلاغه بواسطة هاتفه المحمول أن زوجته تسللت الى شقة يملكها منصور رامي في العمارة المجاورة لعمارته.. كان الزوج المخدوع يعلم أن منصور رامي قد اتخذ من تلك الشقة وكرا لممارسة كل رذيلة.. لم يحتج الزوج الى جهد كبير، فقد وجد اسم منصور رامي مكتوبا على مدخل الباب. اتجه مباشرة الى الطابق الخامس، حين طرق باب الشقة، ولم يفتح له احد اخذ يصرخ " اخرجي يا زانية" حين ايقنت المراة ان الطارق هو زوجها، اقترح عليها الشيخ الفاجر مخرجا سريا ثم قادها الى غرفة الحمام، وعرض عليها القفز من شباكها الى سطح العمارة المجاورة.. كانت مغامرة غير مأمونة العواقب، ولكن المراة قررت الإقدام عليها. كانت خيارها الوحيد، لأن ضبطها على تلك الصورة يعني وصم عائلتها بعار لا يكفي مرور عشرة أجيال لمحوه...أحكم الشيخ إغلاق باب الحمّام، ثم أخفي المفتاح في صندوق القمامة قبل أن يتجه لفتح الباب.. لم يقتنع الزوج الغاضب بكلام الشيخ، خصوصا وقد وجد الحمام مغلقا... تعلّل الشيخ بأنه حبس في الحمّام قطة أزعجته، ثم نسي اين أخفى المفتاح.. لم يصدّق الزوج كلام الشيخ، لأن الأخير لم يكن مضطرا الى نزع المفتاح من القفل لو كانت المحبوسة قطة.. كان الشيخ بالغ الدهاء أجاب على البديهة " نسيت ان أخبرك أن حفيدي الصغير كان هنا منذ قليل، و قد هرّبت قطتي الى الحمام لأنه بالغ في إيذائها، بعد ذلك سحبت المفتاح من القفل، لأن الصبيّ كان قادرا على فتح الباب بنفسه" لمزيد من تضليل الزوج، طلب منه مساعدته للعثورعلي المفتاح لأنه يحتاج الى دخول دورة المياه.. فيما هما يبحثان..رنّ الهاتف.. كان الزوج هوالأسبق في رفع السمّاعة ... وصله صوت امراة عرف على الفور انها لويزة أعز صديقات زوجته.. كانت لويزة إمرأة مشبوهة،و قد نبّه الشاب زوجته بقطع علاقتها بها، لكنها لم تفعل، وصله صوت لويزة " ألو سي منصور ... ألو " لم يردّ عليها.. تحت التهديد بالسكين الذي كان يحمله، أجبر الزوج منصور رامي على الرد بكلمتين لا غير" مرحبا لويزة " دون اضافة أي كلمة اخرى، قرّب الزوج اذنه اليسرى من السمّاعة، في حين وضع نصل السكين على رقبة الشيخ. حين قال منصور رامي:" مرحبا لويزة " اندفعت الأخيرة تقول " نزيهة لا تزال عندك؟ لا بد أنكما .." كانت الكلمة الأولى كفيلة بأن تدفع الزوج الى ذبح الشيخ، ثم الإندفاع بجنون نحو الحمّام، في تلك اللحظة اضطرت المراة الى القفز، و لكن في الفراغ... اختلفت الروايات حول مصرعها.. قيل ان الزوج هو الذي دفعها من الخلف حين وجدها تتردد في القفز، و قيل أيضا أنها فقدت توازنها إثناء قفزتها المميتة..أثناء المحاكمة قال الزوج :" كنت متجها لذبح زوجتي، لكن الموت سبقني إليها " . أذكر ان آدم الجزائري سأل عادل رضوان عن موقف الإسلام في قتل الزوج المتلبسة على عين المكان : سكت عادل رضوان طويلا، ثم هم بالكلام، لكنه سكت، و في الأخير اعلمنا بان على الزوج ان يستدعي الشرطة لتقوم بالإجراءات الضرورية علق ميمون المغربي: ـــ ستتولى الشرطة حبس الزوج بمجرد معرفتها بهوية الشيخ الثري . كان ذلك قبل اكثر من عشر سنوات... كنت احترم عادل رضوان حتى كففت فجاة عن احترامه حين رضي بمهنة واعظ في التلفزيون المغربي . غضب موسى رجب كثيرا حين أعلمته برأيي في عادل رضوان: ــ من يرشد الناس الى دينهم اذا انسحب الدكتور عادل رضوان من الميدان؟ ــ الدين ليس مجرد صلاة و صوم .. الدين هو عدالة و مساواة و مقاومة للفساد و خضوع لأحكام الشريعة. موسى رجب أحمق بمراحل حتى يدرك ان إرشاد الناس الى دينهم هوآخر ما تفكر به الحكومة المغربية حين اختارت عادل رضوان ليقوم بدور الكاهن في تلفزتها، فالحكومة المغربية تريد ان تتخذ من سكوت الدكتور عن ذكر فسادها الشامل حجة على كون الدكتور ليست له ادنى مؤاخذة شرعية على ذلك الفساد. ـــ أتريده ان يعلن الجهاد على الحكومة؟ موسى رجب يجهل ان التغيير هو الدور الحقيقي للعلماء.. شهادة الدكتوراه التي يحملها عادل رضوان تشبه الي حد كبير شهادة "عدّاء أولمبي" تحلّى صدر مشلول.. ليت عادل رضوان يقتدي بقول بالقسّ الجريء مارتن لوثر كينج " أسخن مكان في جهنم أعده الله لمن رأى الظلم ثم لم يقاومه" . ...كيف يعلن القيادي الإخواني عادل رضوان عن شيء لا يؤمن به أصلا؟ ـــ لوكان عادل رضوان يؤمن بالجهاد ، ما قبل باعطاء دروس أخلاق من مبغى الحكومة. ثم ان مجرد رفضه القيام بتلك المهمة يمكن اعتباره موقفا ايجابيا . ــ أنت لا تعرف سياسة المغرب، لو رفض التدريس للفّقوا له تهمة و اعتقلوه أو لدسّوا من قتله ثم يتبعون جنازته و يقولون ان ذلك كان مجرد حادث مرور . ــ كان عليه ان يختفي و يجمع الشباب الغاضب و يضغط بهم على الحكومة. و في أضعف الحالات يهاجر من المغرب. الفساد عم كل البلاد من بابها الى محرابها، فساد في السياسة و فساد في العقول و فساد في الضمائر أيضا..." في متحف عربيّ على حدود البادية، كنت وحيدا أتأمّل آثار تلك المنطقة الشهيرة، وفجأة ظهر أمامي شخص عرفت فيما بعد أنه موظف في المتحف نفسه، وبلا مقدّمات تكلّم معي بالأنكليزية همسا، لقد كان يعرض عليّ أن اشتري ــ سرّا بالطبع ــ قطعا أثرية! لم أصدّق أذني في البداية، ولكنه أكّد لي بوضوح، انه يستطيع أن يؤمّن لي قطعا نادرة، ولم ينس أن يؤكد أننا لن نختلف على السّعر! حتى الآن لا استطيع أن أصدّق أنّ موظفا إختاره وطنه ليحرس آثاره، ومع ذلك فإنه يخون ضميره و شرفه و تاريخه، و يبيع آثار تركها اجداده منذ آلاف السنين، ولعلّ القارئ العربي يعرف من الصحافة العالمية، فضائح تهريب الآثار العربية الى الخارج و خاصة الى الدول الغربية شيء لا يصدّق " هكذا كتب الياباني نوبواكي نوتاهورا... عندما رويت ذلك لرشيد عزز الأخير شهادة الياباني بقوله : ـــ ربما لجأ ذلك الموظف الي ذلك العمل الشائن تحت تأثير الحاجة، فولد مريض أو فاتورة كهرباء تنتظر الدفع، لا يتركان أي مجال للتفكير في ضرورة المحافظة على تراث وطن لم يوفر العيش المحترم لمواطنيه.... بعد قليل أضاف: ــــ متاجرة الأخوان المسلمين بشرف المرأة التركيّة خسّة تتصاغر أمامها خسّة موظف الآثار . ــــ عن أي شيء تتحدث؟ ـــ أعني ما نشرته صحف اليوم من قيام الإخوان الحاكمين في تركيا بتنظيم مظاهرات تطالب فيها نساء محجبات البرلمان التركي بإلغاء القانون الذي يجرّم المرأة التركية الزانية. كل ذلك تملقا من حكومة الإخوان الى قادة الغرب كي يثق فيهم اكثر فيقع قبولهم في الاتحاد الاروبي بعد أن برهنوا عن خلوهم من اي قيمة إسلامية. ـــ فتّش عن الإخوان! ـــ كل خيانة وطنية لا بدّ أن يقف وراءها إخوانيّ . ـــ ولكنني لم أتصوّر قطّ ، أن يبلغ السّقوط بجماعة الإخوان هذا الحدّ المنافي للشرف، خصوصا وهم يرفعون شعار الإسلام. الشيعة و الإخوان يتسابقان في التـنازل عن كل شيء لخدمة مصالح امريكا.. أي فريق أشد دناءة من الآخر؟ ...الإخوان الذين باعوا شرف زوجاتهم و أخواتهم، أم الشيعة الذين باعوا أسلحتهم لقوات الإحتلال لقاء بعض الدولارات؟.. لم يصدّق محمود الصومالي حين أخبرته عن فضيحة بيع اتباع مقتدى الصدر أسلحتهم لجيش المحتل الأمريكي . أكدت لمحمود أن الشيعة و الإخوان وجهان لعملة واحدة ضحك محمود كثيرا ثم قال: ـــ تنافس الشيعة و الإخوان في الدنايا يذكّرني بوغدين تراهنا ذات مرّة أيّهما أشد دناءة من صاحبه.. بعد ذلك اتفقا على القيام بتجربة ميدانية لإثبات ذلك..لم يمضيا طويلا حتي إعترض سبيلها شيخ هرم، تقدم منه أحد الوغدين، ثم وجّه له لكمة اتبعها بركلة على بطنه فيما كان الشيخ يتلوى على الأرض من شدّة الألم،أشعل الوغد الثاني سيجارة ثم أخذ يستمتع بالمشهد، حين فرغ الوغد الأول من ايصال الشيخ الى مشارف الموت قال له صاحبه " لم يعد لرهاننا اي فائدة لأني تفوّقت عليك في الدناءة " سأله الأول " هل في امكانك التعبير عن دناءتك بأكثر مما فعلت بهذا الشيخ الهرم ؟" ضحك الوغد الثاني ثم أجاب بكل صفاقة:" أنا اشد منك دناءة، و أكثر منك نذالة لأن الشيخ المضروب هو والدي!" حين فرغت من الضحك قلت لمحمود الصومالي: ـــ الشخص الذي اكتفي برؤية والده و هو يضرب ، يعتبر اقل نذالة من حكامنا .. فهم لم يكتفوا بترك الغرب يقتلنا، بل شاركوه في قتلنا و التنكيل بنا ! فقدان العدالة الإجتماعية و الشعور بان الوطن و مافيه عبارة عن ملكية خاصة للساسة الفاسدين، هو الذي يدفع هؤلاء الموظفين الى ارتكاب تلك الفظائع.. كل العالم رأى عبث الشعب العراقي بتراثه القومي و نهبه لمتاحفه، عاودتني الصور التي عرضتها تلفزيزنات العالم عن عملية نهب العراقيين للقصور الرئاسية و للمؤسسات العمومية. ـــ استمع الى آخر الأخبار ... هناك شابّ عراقيّ كأن آخر من دخل أحد قصور صدّام المنهوبة، لم يجد شيئا، حين طاف حول القصر اعترضته حديقة حيوان صغيرة فيها ذئب، فنهبه! ــ ذئب حقيقي؟ ـــ نعم ذئب حقيقي، كان يملكه نجل صدّام! ضحكت من غرابة الحادثة، إستمر رشيد : ـــ المهزلة لم تنته الى هذا الحدّ، ربط الشابّ الذئب الرئاسيّ في حديقة المنزل ثم قدّم له بعض بقايا الطعام. في اليوم التالي سمعت والدة الشاب صراخا شديدا، حين هرعت الى مربط الذئب، وجدت ابنها البالغ من العمر سبع سنوات وهو يلفظ انفاسه الأخيرة بين مخالب الوحش!.. تابع رشيد هازئا: ـــ فات الناهب الغبيّ أن يدرك أن الذئب الذي كان يخصص له نصف خروف، لن ترضيه حفنتين من الأرز عقبت ضاحكا: ـــ وهذه جريمة أخرى تضاف الى سجّل صدّام حسين! كرر ميمون سؤاله : ـــ دكتور عادل أنا متأكّد أن الشرطة ستقوم فورا بحبس الزوج في الحال بمجرّد معرفتها بهوية الشيخ الثريّ، فكل شيء قابل للشراء في بلاد المسلمين اول تلك الأشياء و ارخصها الضمائر ... تجاهل الدكتور ملاحظة ميمون. منذ ذالك الحين أدركت أن عادل رضوان ليس من رجال الله، بل من رجال الملك . ختم الدكتور عادل رضوان قصة الشاب بقوله: ــ في نهاية لقائي به اخبرني الشاب أن لوالده القتيل شريكين في خمارته، طلب مني الاجتماع بالشريكين وإقناعهما بإغلاق الخمارة و فتح محل آخر بدلها. طلبت من الشاب ان يحدّد لي موعدا معهما، ثم شكرني و انصرف ... في اليوم التالي اقترح علي موعدا فوافقته.. حالما لمحت الرجلين توسّمت فيهما الشرّ، رغم ذلك عرضت عليهما اقتراحي بعدما ذكرتهما بحرمة شرب الخمر و الإتجار بها ... ـــ يا سيدنا الفقيه، ليس هناك مشروع مربح أكثر من بيع الخمور، ثم نحن رجلان متقدمان في السن، و لا يمكننا المقامرة برأس مالنا " قلت لهما " هل يرضيكما المقامرة بأرواح الناس ؟! " نظرا الي متسائلين ... واصلت :" كم من رجل سكر ثم زين له السكر الوقوع في الزنا، و كم من رجل غادر حانتكم ليحصد أرواح الناس بسيارته، و كم من رجل ارتكب جريمة قتل او اغتصاب او سرقة بعد شربه الخمر في محلكما؟" الحاصل أنني أنفقت ثلاث ساعات في إبداء النصح و تذكيرهما بالله، لكنني كنت كمن يخاطب صخرة صماء أو دابة عجماء، و في الأخير دعوت لهما بالهداية و انصرفت خائبا.. كان أصغرهما في السّبعين!. يتبع ـــــ (1) برور : اخي باللغة النرويحية الفصل السابع مع مبشرة حسناء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في بداية التسعينات، أغلقت كل الحانات أبوابها في وجه أول راقصة ستريب تيز في أوسلو. لم تجد من يستقبلها غير صاحب خمّارة باكستاني.. أول عرض قدمته كان في أول أيام رمضان المعظم! ـــ لا أشكّ أنّ صاحب الحانة قد فعل ذلك تبرّكا بالشهـر الكريم! هكذا علّق محمود الصومالي. حين مررت بكشك سجائر.. فكّرت في شراء علكة خالية من السّكر.. كان الكشك مكتوبا عليه " الكشك الكبيرللبضائع اليوميّة" لم ألحظ وجوده من قبل.. حين دخلت، اكتشفت أنّ مساحته لا تزيد عن خمسة أمتار مربّعة، واجهني باكستاني في الستّين متجهّم الوجه، عظيم البطن، تحتلّ جثته ربع مساحة "الكشك الكبير"، حين دفعت له ثمن العلكة، لاحظت وجود عدد هائل من مجلاّت جنسيّة كانت تغطىّ كامل الجدار الخلفي للكشك.. رغم علمي باضاعة وقتي في نصحه، ورغم تأكّدي من كونه أحد عبّاد الكرونة (1) المخلصين، قلت له ناصحا: ـــ حاجّي.. أنت ما شاء الله شيخ كبيرو محترم، المفروض ان تكون قدوة لغيرك من شباب المسلمين، فلماذا تتاجر بمثل هذه المثيرات،فالغريزة الجنسية ليست في حاجة إلى كل هاته المجلاّت، فهي دائما في حالة إستنفار قصوى. تجاهل الجلف الباكستانيّ كلّ المضمون الدينيّ لكلامي، لم ترق له غير ملاحظتي الأخيرة عن الجنس، حالما سمعها تطلّق وجهه ثم ضحك كاشفا عن صفين قبيحين من أسنان قد إسودت من اثر التدخين ثم قال: ـــ برور.. برور.. لطفا لا تكن متشدّدا، إنها اشياء جدّ ممتعة. ـــ ... ــــ ثم ألا تعلم أنّ ذكري الكبير يشتغل تماما مثل هذا الكشك... كامل اليوم تقريبا؟ صدمتني جملته الأخيرة . قلت له: ـــ برور... برور ذكر الحمار أكبر من ذكرك . و العصفور ينكح أكثر منك . قال وهو يقهقه: ـــ برور عندي فيلم إباحي يصوّر إمراة روسية تمارس الجنس مع حمار هل ترغب في رؤيته! هممت بأن أسأله عمّا اذا كان ذلك الحمار يذكّره بشخص يبدو له كل صباح على مرآة حمّامه أثناء حلق لحيته، لكنني تركته و خرجت. أغلب سائقي سيارات التاكسي التي تـفرّغ حمولاتها عند أبواب البارات، وتتولى شحن السكارى و العاهرات و ايصالهم الي بيوتهم هم من الصوماليين و الباكستانيين. في آخر لحظة تجنبت الإصطدام بسيّدة عمياء يقودها كلب مدرّب.. أيها الغرب الجحود، لن تبلغ بخدماتك الإجتماعية ما بلغته دولة الإسلام التي كانت تسخّر لفاقدي البصر إنسانا يخدمه، لا كلبا يتبّوّل عليه و يؤذيه بلعابه الموبوء و نباحه المزعج. و لن تبلغ ايضا بتغطيتك الإجتماعية التي سلبت الباب السذّج من المسلمين ما بلغه النظام الإسلامي الذي كان يتكفّل بأداء ديون رعاياه، لا ليورّطهم في ديون ذات نسب عالية من الفوائد الربويّة . ما أيسر ما يتفطّن لصاحب الشعر الأسود في النرويج، الأجنبيّ في أوسلو، مثل خروف أسود في قطيع من الخراف البيض، حضور شخص مثلي لا يجلب الإنــتباه في بلد كإسبانيا أو إيطاليا. و لكنّ لا بأس في الأمر، فشعري الأسود لن يكون مصدر إزعاج لي على الأقلّ ، ذات مرة اخبرني جزائريّ رحل عن عالمنا منذ سنوات عديدة، أن المسؤولين في " ترومسو " جمعوا أطفال المدارس و ذهبوا بهم الى ميناء المدينة لمشاهدة أول بحّار أسود أرست سفينته في النرويج، حدث ذلك ذات يوم من عام 1963. في الشهر الماضي منع جوزيف موايببا قسّ نرويجي من أصل إفريقي من الشروع في مراسم صلاة الجنازة على مواطن نرويجي ..طرد القس البائس من الكنيسة النرويجية بسبب سواد لونه...عند انتخاب بابا الفاتيكان شاعت من جديد مقولة أنّ إنتخاب بابا أسود يعدّ من نذر قيام الساعة.. قبل أكثر من أربعة عشر قرنا حطّم النبي محمّد أسطورة التفوّق الجنسي حين زوّج ابنة عمّه زينب من عبد أسود.. كانت زينب من أشهر عائلة قرشيّة.. جمال زينب كان أشهر من نسبها . حين زار الرحالة العربي ين فضلان اسكندنافيا قبل ألف عام، أحدث لونه الأسمر دهشة بين السكان المحليين، فكتب يقول" حدث مرّة أن جاء مزارع و زوجته و ابنته يمسحون جلدي، ضحك المترجم هيرثر و قال لي: انهم يحاولون مسح اللون اعتقادا منهم ان جلدك مصبوغ به!".. نفس الرحالة كتب أيضا" من العادّي كذلك أن يقتل ولد أباه الملك ليظفر بعرشه، ولا يرى الشماليون في ذلك شيئا عظيما، بل ينظرون اليه كما ينظرون إلى عراك بين محاربين سكارى".. انقرض هذا التقليد البدائي من الغرب، لكنه مازال يجري به العمل في بلادي العربية حتى اليوم.. هناك من الملوك الحاكمين من وصل الى السلطة بعد قتل أبيه.. السلفية الغبيّة هي التي أعطت الشرعية للملك الوراثي و للإنقلابي الناجح ــ المتغلّب ــ ، حين أعلنت باسم الله، أنّ من أحكم السيطرة على الجيش وجبت طاعته، ولو قتل ثلتي الرعيّة. كانت الثلوج التي إسودّت بفعل دخان السيارات تغطّى أجزاء كبيرة من رصيف المحطّة.. المارّة يسرعون بسحنات و اجمة الى إجتياز البوّابة الرئيسية لمحطة قطار الضواحي، دون إعارة أدنى إنتباه لرأس أشقر مخدّر تمدّدت صاحبته على الرصيف، إنحنيت عليها.. حرّكت رجلها للتأكّد من كونها مازالت قيد الحياة، صدمتني رائحة كريهة تنبعث من ثيابها، أصابني غثيان و تقزّز حملاني على الإسراع وانا أضع يدي على أنفي، بعدما تأكّدت من كونها مازالت حيّة، خطر ببالي المواطن التونسي الذي أعدم شنقا من أجل ضمان إستمرار تدفق موارد السياحة في بلدي...اتهم الشاب المسكين باغتصاب سائحة دنماركية لعلهّا كانت مرمية هي الأخرى كجورب قديم على رصيف محطّة قطارات كوبنهاجن. ذات مرة سألني رشيد و هو يقذف بجريدة الأهرام المصرية بعيدا: " هل توافق على إعدام شاب مصريّ أعزب عاطل أتهم باغتصاب سيدة مصرية؟ " أجبت فورا " أجل، ولكن شريطة أن يعدم حسنى مبارك على يمينه و مفتي مصر على يساره " ـــ مساء الخير فجأة ،وجدت أمامي شابة حسناء.. لم أر نجمة سينمائية تضاهي شطر جمالها. ــــ هل تتفضل بتناول هاته القصاصة؟ كانت يد الشابة تمتد نحوي بكتاب تبشيري أخذته دون تردّد.. زوجتى ترفض قطعا قبول أي كتاب تبشيريّ، كانت تقول دائما مشيرة الى حجابها " أنا مسلمة، ألم يقنعك هذا اللباس حتى تفسح لي الطريق و تتركني في سلام؟! " قلت لها أكثر من مرة " خذي المطبوعات ثم أتلفيها، ذلك أفضل من أن ينتفع به مغفل". في اندونيسيا سئل أحد الذين وقع تـنصيرهم حديثا، مالذي تريده كمكافأة على دخولك النصرانية. سكت المسكين ثم أجاب:" أريد أن أحج إلى مكة !". ــ ألف شكر آنستي . إذا كانت الأرض مكسوّة بطبقة من الجليد، ثم موّهتها طبقت رقيقة من الثلج، وكان المكان منحدرا، سيصبح انزلاقك فسقوطك حتميّا، حتى لو كنت بطل العالم في التزلّج.. كانت مقاييس جمالها عربية خالصة: الجمال و البياض و الإستدارة، لأجل ذلك كان سقوطي أنا الآخر حتميّا: ـــ أخبريني، هل أنت ملاك نزل عليّ من السماء أم حورية هاربة من الجنّة؟ ضحكت المبشرة الحسناء ثم قالت: ــ يمكنك اعتباري حورية وملاكا في نفس الوقت. ، أضافت وهي تسوّي شعرها: ــ أنا بعض رسل أبينا الذي في السّماء، فهل لديك الوقت الكافي كي نتحدث معا؟ ـــ حتى منتصف الليل لو أردت . إبتسمت محدثتي الفاتنة فأشرقت الشمس، وزغردت عصافير الدنيا . لقد أوقعني الشيطان في شراكه، ما كان لي أن أقف مع هذه الفاتنة إلا بقدر الإعتذار أوعلى الأكثر، الردّ بكلمات ألقيها بصورة مقتضبة و انا مطرق الرأس، لقد سقطت و انتهى الأمر، سيكون من المخجل ان اعتذر، فليساعدني الله . ــ هل أنت مغربي؟ ــ أنا من تونس. ــ تونس ، تونس ....أين تقع تونس ؟ جورج دابل يو بوش سئل عن أربع عواصم عالمية لم يجب الا على واحدة!.. أستبعدت الشرطة النرويجية وهي تحقّق معي في طلب اللّجوء أن تكون تونس الخضراء معتقلا رهيبا يمارس فيه جميع أنواع التعذيب و الإذلال و انتهاك حقوق الإنسان.. قال لي المحقق النرويجي: ــ كل ما نعرفه عن تونس انها بلد سياحي، لا يعقل أن يحدث فيه كل الفظائع التي تتحدث عنها . ــــ تونس يا آنستي تقع في الشمال الإفريقي.. دولة صغيرة جدا.. نصف مساحة النرويج .. تجدينها محشورة بين بين الجزائر و ليبيا . ــــ الآن تذكرت.. تونس قرطاج .. هنيبعل.. رائع . هنيبعل القائد الفينيقي الذي حارب روما وقاد حملة على ايطاليا الجنوبية منطلقا من اسبانيا فاجتاز البيرنيه و جبال الألب و انتصر على الرومان في عقر دارهم في ثلاث مواقع، قبل ان تدمّر قرطاجة نهائيا بسبب غروره الزائد.. شخصيا لا اعتز بهنبعل، كان من الدخلاء الغزاة ... ـــ هنيبل يا آنستي كان مجرّد صدّام حسين، و لكن بأمّ معارك حقيقية. ـــ بالمناسبة.. هل أثّر فيك إعدام الرئيس صدّام حسين؟! ـــ نعم، بمقدار ما كان سيؤثر فيك إعدام ملك النرويج ليلة عيد الميلاد ! ـــ كانت حماقة أمريكية. ــ نعم ، كما كانت نرويجية بعض الشيء . النرويج طـــفل وديع ورقــيق سيحرق يديه ذات يوم و ربما أحرق أيضا بيته الخشبي الآمن، لو استمرّ في صحبة الشرّيرين جورج دابل يو و توني.. هكذا كنت أقول دائما. ـــ هذا مؤسف حقا .. دعنا من صدام حسين.. هل في افريقيا بيض؟! ـــ كل سكان الشمال الإفريقي من البيض . ـــ يبدو أنك مسلم . ـــ أجل ، وإمام . ـــ حقّا ؟! ... يا الهي! ـــ هل يخيفك هذا؟ ـــ الإمام فقط هو الذي يخيفني فيك.. فالأئمة هم أكبر محرضين على قتل المدنيين.. انظر ماذا فعلتم في لندن و مدريد. الفتاة تجهل تماما أن أئمة مساجد النرويج لا يهتمون بالسياسة، وأنهم أجبن بقـليل مـن النعامة، ســفارت بلادهم هي التي تعيّنهم على مقاسها. ــ كوني متأكدة يا ... نسيت ان تخبرني عن اسمك . ــ عفوا ، اسمي" أنّا " ــ كوني متأكدة يا أنّا إن الإسلام يحرّم قتل شخص أعزل. كما يحرّم قتل النساء و الأطفال و الرجال غير المحاربين. ـــ و ما فعله بن لادن في الحادي عشر من سبتمبر؟ ــــ كان مجرّد حماقة سلفية لا صلة لها بالإسلام ــــ... ـــ وعلى العموم، فإن أمريكا هي التي صنعت بن لادن لغايات دنيئة في نفسها . حين سالتني آنّا عن السلفية، أخبرتها بأنها مدرسة غبية تفهم الإسلام فهما مقلوبا، كما أفدتها بأن السلفية سمّيت أولا بأهل الحديث ثم بأهل السنة و الجماعة ثم بالوهابية. ـــ معنى ذلك انك تكره بن لادن؟ ـــ أجل.. فقد كان عليه شنّ الحرب على نظمنا الإرهابية لا أن يجعل همّه تمزيق أجساد الأطفال و النساء و الشيوخ بطريقة مخجلة.. صحيح أن دول الغرب ــ و النرويج ضمنها ــ تدعم الإرهاب الحاكم في بلداننا عسكريا و مخابراتيا وإعلاميا، و تحول بيينا وبين إزاحتهم بالقوة. و لكن هذا لا يبرّر بأي شكل استهداف المدنيين الغربيين، فهذا عمل لا تقبله أخلاقيات العربي .بالإضافة الى كونه غير ذي جدوى فهو لا يمس مصالح الغرب فحسب بل يدعهما. ـــ كيف ذلك؟ ــ حماقات بن لادن ستعطي الإدارة الأمريكية مبررا لمزيد التدخل في شؤون بلادنا ونهب ثرواتنا باعتبار الغرب ملاك رحمة ارسله الله كي ينقذ العالم و البلاد الإسلامية من خطر الإرهابيين كما يسميهم بوش ــ الا تسمّهم ارهابيين ايضا؟ ـــ الغرب هو اكبر ارهابي فقد قتل حوالي 500 مليون نفسا بشرية في الحقبة الإستعمارية ثم أن الغرب يقصد بارهابه الحصول على النفط و موطأ قدم لشركاته المتعددة الجنسيات أي ان مطلبه المغنم المادي اما بن لادن فانه يقصد إرضاء الله و لكن بطريقة حمقاء و مخجلة ... لأجل هذا لا بد ان يحاكم بوش و بن لادن معا . ــ دعنا الآن من حماقات بوش و بن لادن.. اخبرني…هل تؤمن بالثالوث المقدس؟ ــ طبعا.. كلّ الإيمان. اتسعت عيناها الجميلتان: ــ شيء مذهل، لم اكن أتوقع مثل هذا الردّ.. صحيح أنك إمام؟ أشرت براسي مثبتا ثم اجبتها: ــ المرأة الجميلة والكتاب الجيد و الموسيقي الرائعة هو ثالوثي المقدّس فهل هناك أجمل من هذا الثالوث؟ ـــ ... ـــ أما اذا حظيت بامرأة جميلة تحسن العزف و تغنيني بسعة ثقافتها عن تقليب الكتب فسأختزل الثالوث في شخصها الرائع. ــ الا تحب شيئا آخر.. الخمر مثلا ؟ ــ لا مكان للخمر في حضور إمرأة جيدة. في الحقيقة أحب العطر كثيرا لكنني حرمت منه بسبب حساسية زوجتي لكل أنواعه. ــ بالغت في إطرائي.. فهل أنت شاعر؟. لو سئلت هذه الشابة النرويجية " من أشدّ نساء الأرض تخلفا وجهلا و تعرضا للإضطهاد لأجابت دون تردد: نساء المسلمين.. في دول الخليج لا حقّ للنساء في الإنتخاب.. في موريطانيا تحمل العروس في جهازها سوطا ليضربها به زوجها ..هكذا شاءت السلفية الحمقاء.. قبل ألف عام كانت المرأة المسلمة تدخل على حكام المسلمين و تـنتقد سياستهم وفي أحيان أخرى تقود الثورات المسلحة ضدهم..اليوم يحرم على المرأة المسلمة قيادة سيارة أو المشاركة بصوتها العورة حتى في تحديد الحاكم الفاسد الذي سيحكمها، وان كانت تلك الإنتخابات شكلية و معلومة النتائج مسبقا... لن تصدقني آنّا لو اخبرتها بأنها ستكون سيئة الحظ لو ولدت في أوسلو قبل ألف عام ثم كانت ملكا لرجل ثريّ مات فجأة ... كتب الرحالة ابن فضلان" الغني ّالميّت من أهل الشمال، يجمعون ماله، فثلث لأهله و ثلث يقطعون له به ثيابا، و ثلث ينبذونه نبيذا يشربونه يوم تقتل جاريته نفسها و تحرق مع مولاها، بعد ان تدور على أصحابه من قبّة إلى قبّة فيجامعها أصحاب القبة و يقولون لها : قولي لمولاك إنما فعلت هذا من محبتك !" ــ نعم أنا شاعر.. و سأصبح مثل قيس.. مجنون ليلى لو بقيت معك ربع ساعة اخرى. ــ من هو مجنون ليلى . ــ هو روميو العرب كما ان ليلى هي جولياتهم . نظرت الى ساعتها ... ـــ في الحقيقة... قبل إعتراضك كنت أنوي الرجوع الى بيتي لأني تعبت من الوقوف، لكن الحديث معك ممتع، هل يمكنك تناول فنجان قهوة.... بيتي قريب من هنا ؟ . ــ شكرا لا يمكنني ذلك . ردت علي ضاحكة: ــ لم يحن منتصف الليل بعد . ـــ شكرا على الدعوة، في الحقيقة لا يمكنني الخلوة بامرأة جميلة مثلك. كنت أقول دائما إن أيسر خطيئة للكهنة السلفيين هي الزنا و شرب الخمر، فلو شرب القرضاوي كل خمور الدنيا وزنى بكل مومساتها لكان أهون له وأفضل للمسلمين من اصداره فتوى تبيح للإدارة الأمريكية اجتياح بلاد المسلمين وسفك دمائهم.. لو رأيت الإمام حبيب الرحمن إمام المركز الثقافي يركب بغيا.. كنت سأستمر في صداقته و ما كنت لأقاطعه و أغضب منه كما غضبت حين رايته يصافح السياسي النرويجي" كارل اي هاغن" الذي أضاف الي عنصريته و كراهيته للأجانب اتهام النبي محمد بالإرهاب.. هناك تشويش عجيب في ترتيب الخطايا حسب بشاعتها و حسب خطورتها على عقيدة المسلم ... هناك خطايا لا تخرج من الإسلام كالزنا و شرب الخمر و القمار، هناك خطايا تخرج من الملة كالتعامل مع العدو...حتى الشرائع الأرضية لا تتسامح مع الخائن.. مملكة النرويج أعدمت رئيس الوزراء" كويسلنق" بعيد الحرب العالمية الثانية لتعامله مع المحتل الألماني.. جهل زعماء الإخوان المسلمين للترتيب الحقيقي للخطايا جعلهم يصفقون لجمال عبد الناصر و يمدحونه لمجرد انه لم يسرق أموال الشعب!، نسي الحمقى أنه سرق ثقافتهم و شرفهم و مقدساتهم .. يفتخر الإخوان بأنهم اول من جاهد في فلسطين..نسوا أن حسن البنا هو من أضاع فلسطين، حين ترك الطريق مفتوحا امام عبد الناصر لينجز انقلابه دون إزعاج .. كان في إمكان حسن البنا الثورة على الملك فاروق، كان يملك أكثر من مليوني تابع مستعد للقتال . ــ لماذا لا يمكنك الذهاب معي الي بيتي ؟ ــ حتى لا يغريني الشيطان بإمساك يديك الجميلتين و ربما تقبيلك فأنت شديدة الجاذبية. لو سمعني السلفي الليبي كريم حامد لقال لي" يا فاسق.. و هل يسمح لك الإسلام بالنظر في وجه امراة سافرة ؟! " . طأطات أنّا الجميلة راسها ثم قالت بصوت منكسر: ــ أنا اعتقد عكس ذلك... لقد هجرني عشيقي هرالد حين زاد وزني 8 أرطال، جبن عن مواجهتي اكتفي بجملة واحدة كتبها على مرآة بيت الاستحمام : وداعا، لقد صرت منتفخة أكثر من اللازم...بالأمس رأيته مع فتاة رشيقة . قلت لها مواسيا: ــ لا تحزني يا آنّا لفقدان شخص أحمق مثل خطيبك هرالد، فهو لا يستحق فتاة رائعة مثلك . ــ كيف قدّرت انه أحمق، و بهاته السرعة؟ ثم وهي تستدرك: ــ فعلا أنه أحمق بعض الشيء.. اعني من نواح أخرى ـّـ بل أصر على أنه أحمق من نوع رفيع.. ببساطة شديدة ، لأنه أسير تقليد هوس عالمي بالهياكل العظمية المتحرّكة، فقد سقط المسكين أسير موضة انتقاء الفتيات النحيفات دون دراية أو تأمّل.. قبل ألف سنة كتب الرحالة بن فضلان " و يعدّ أهل الشمال انفسهم بارعين في الحكم على جمال النساء، و لكن في الحقيقة أن نساءهم في نظري هزيلات و أجسامهن كلها زوايا و نتوءات بارزة، رغم أن امرأة من هذا النوع لن تحظى بالتفاتة رجل في مدينة السلام !" قلت مؤكدا: ــ انظري مثلا الى تماثيل النساء الحسناوات في حديقة فرجنر،هل تجدين بينهم امرأة عجفاء ؟ .. كل النماذج النسائية تشبهك . كلهن مستديرات . ـــ يا الهي... كفي ... سيحملني كلامك على مسك يديك .. هل تقبل ان تصبح عشيقي؟ . ضحكت: ـــ ربما أكون أكبر من أبيك ... بالمناسبة كم عمر والدك ؟. ــــ لم التق به قط .. أخبرتني والدتي انه شاب هولندي من مواليد 1968 ــ آسف ... معنى ذلك اني اكبره بعشر سنوات كاملة . ـــ يا الهي لا اصدق ذلك معنى ذلك ان عمرك 49 ... كنت اعتقد انك لم تتجاوز الثامنة و الثلاثين على أقصى تقدير. سكتت قليلا قبل أن تضيف: ــ على كل، سنك لا يعني لي شيئا ما دمت جذابا . تحسست جيبي كي اتأكد من امتلاكي المبلغ الكافي لتناول بعض المرطبات : ــ هل لديك مانع لتناول فنجان قهوة في المقهي الموجودة خلف هاته البناية؟َ ـــ بكلّ سرور. احتجنا الى خمس دقائق لبلوغ المقهي ، قطعت آنّا الصمت حين سالتني ــ لم تذكر لي اسمك . ــ عفوا اسمي سامي . رددت اسمي لأول مرة اتفطن ان اسمي جميل الي هذا الحدّ و موسيقي أيضا .. اليوم فقط أسمعه ملحّنا! ــ سامي... إسمك يقترب من أسامة … ما معنى سامي. ــ سامي معناه رفيع أو راق. ــ أنت فعلا سامي... بدون... مجاملة الحديث معك شيق ــ شكرا على المجاملة يا أنّا زاد .... ـــ .... آه تعني شهرزاد . زوجة شهريار ... ألف ليلة وليلة كانت اول مجموعة قصصية حكتها لي امي. كلّ العرب عشاق مثلك ؟ ــ لا أدري... الذي أعلمه أن كل ملوك العرب في الأندلس كانوا كذلك، العشق حمل بعضهم على التقاتل من أجل فتاة اسبانية. و في النهاية اطردوا جميعا من إسبانيا و أبيد المسلمون كما يبادون اليوم في البوسنة و الهرسك . ـــ شيء مؤسف ... لكن أخبرني ما معنى أسامة ؟ ـــ أسامة معناه أسد. ـــ يا الهي حتى أسمه يثير الرّعب! ليت أسامة بن لادن كان أسدا على الزعامات العربية الفاسدة... لو فجرمقرّ جامعة الدول العربية بما فيها من رؤساء تافهين عوضا عن تفجيره مركزي التجارة العالمي بنيويورك لكان بطلا بالفعل، كان سيدخل الفرح على كل بيت مسلم .. كم كنت سأدفع الى ولدي ياسين وقتها ؟! دخلنا مقهى صغيرا وجدناه خاليا الا من سيدة نرويجية، ما ان جلسنا حتي نهضت . اختارت أنّا مقعدا بجوار النافذة .. اقترحت عليها مكانا آخر في قعر المقهي: ــ لو رأتني زوجتي بجانبك لحولت حياتي الى جحيم حقيقي فهي تغار كثيرا و لديها عيون كثيرة تبلغها حركاتي، كل صديقاتها المغربيات مجندات لتلك المهمة . طلبت آنا كوبا من القهوة و بعض الكعك ، اكتفيت بمشروب غازي حالما استقرت على الكرسي الخشبي بادرتني : ــ أما الآن فالى العمل.. أعني قليلا من الجديّة . أخبرني ما رأيك في الثاثوث المقدّس؟ ــ هل تعنين الثاثوث البرهمي الهندي: براهما و فشنو و سيفا، أم الثالوث البوذي: الإله الترفان، و بوذا الإبن، و روح القدس، أم الثاثوث الصيني: تي ين الإله المتطوّر، و تي سمز الشمس، و تشانج هو أي أرواح الآباء ؟ نظرت الي بدهشة : ــــ أعني الثالوث ... أشرت إليها بيديّ أن انتظري : ـــ ام لعلك تعنين الثالوث الكلداني المكوّن من بعل اله الشمس، وعشتروت اله الجمال، و تموز اله الخصب و النماء، أم الثالوث الفرعوني: آتون و آمون ورع أي الوجود و الحكمة والحـياة . فأي ثالوث تعنين يا صغيرتي أنّا ؟ ـــ أي مساء عجيب هذا ؟ هل انا بحضرة عاشق أو امام أو عالم لاهوت، من أنت بالضبط ؟ ــ أنا كل ذلك . ــ الذي أعنيه هو الأقانيم الثلاثة : الله المسيح و روح القدس . ـــ اذا كنت معجبة بالمثلثات فحق براءة الإختراع تقتضي بان تتبعي الثالثوت الهندي براهما و فشنو و سيفا . ــ ماذا تقول؟ ــ هذه ما يقتضيه حق التأليف و الإختراع، فالفضل لمن بدأ، و إلاّ صارت الأمور فوضى ! ــ هل تريدني أن أصبح برهمية؟ ــ لا اطلب منك ان تكون برهمية أو بوذية أوكلدانية أو غير ذلك.. أريدك ان تكوني عاقلة أي غيرمقلّدة، حتى تتجنبين مصيرا بائسا و إختيارا غير موفق كاختيار هرالد الذي خسر جراء تقليده الأحمق فتاة رائعة مثلك، و راح يلهث وراء قشرة في ثوب امرأة ...لا أريد ان تكوني خاسرة مثله ..أدركي قهوتك قبل أن تبرد . ــ آه نسيت القهوة . رفعت الفنجان و أخذت رشفة صغيرة ثم إعادته الى صحنه الصغير. ـــ حين نقض القرآن عقيدة التثليث المسيحي، أضاف بان القائلين بتلك العقيدة مجرد مقلدين وانهم ( يضاهئون قول الذين كفروا) و معني يضاهئون أي يشابهون بهذا قول المشركين من قبلهم لأن القائلين بالتثليث من الأمم السابقة كثيرون و قد ذكرت لك ذلك منذ قليل. ــ لو سلمنا ان التثليث عقيدة مقتبسة، فكيف وصلت الى المسيحية؟ ــ بدون اطالة.. بولس هو الذي اقتبس فكرة التثليث بكلّ جزئيّاتها و تفاصيلها المملّة من الديانة البرهميّة الهندية فكان نقله حرفيّا و مسليا الى حدّ الإضحاك . كنت اكذب على نفسي .. الإطالة أصبحت مطلبي في هذا المساء النرويجي المتجهم ... حضور آنا مسح عن نفسي الكآبة... قبل لقاء آنا كانت نفسي ملوثة بشحوم الحياة و ترسباتها السوداء، كنت كمقلاة الإشهار السوداء، قبل ان تسكب عليها المادة المزيلة للشحوم لتصبح شديدة البياض ... آنا خير دواء للإكتئاب .. ليس هناك أجمل و لا أروع من مجالسة امراة فاتنة، اما اذا كانت ذكية فذلك هو النعيم ..أي نعيم في الجنة دون نساء؟ عندما أراد الله مكافأة محمد على شجاعته و حكمته و تقواه .. لم يحضر له طباخين ايطاليين مهرة كي يصنعوا له بيتزا شهية بل أهدى له أجمل النساء و اذكاهنّ، أهدى له خديجة و أم سلمة و صفية و زينب و عائشة. كلهن جميلات .. عائشة كانت في الثامنة عشر حين تزوجها الرسول . عندما كان في التاسعة سألني ولدي ياسين و هو يتسلق ظهري: ـــ صحيح ان الرسول تزوج بنتا في مثل سني؟! ـــ من قال لك ذلك؟ ـــ زميلي في المدرسة.. قال لي ايضا أن الرسول منحرف و سيّء و مولع بالأطفال. كانت زوجتى في المطبخ سمعتها تسأل ياسين : ـــ هل هو دافيد ؟ ـــ هونفسه. وصلني صوتها: ــ سامي، دافيد هذا ابن فلسطيني ملحد، من شدة كراهيته للعروبة و الدين سمى ابنه دافيد تيمنا بكامب دافيد، أنت تعرف أمه.. المرأة التى اشتبكت معها في أول يوم دراسي لياسين ... امرأة روسيّة قبيحة كحرباء. تذكرت انني رايتها، أخذت يد ياسين جذبته الي، وضعته في حضني ، سألته: ـــ ماذا رددت على دافيد؟ ــ لم أردّ عليه بشيء، أسقطته أرضا ثم عزمت على دوس بطنه، لكن يبدو أن الله قد سبقني الى عقابه.. لقد كسر معصمه، أخذ يصيح بشدة، لم يكف عن البكاء رغم ان المدرّسة سمحت له بالرجوع الى منزله، أكدت عليه بأن يتصل بالإستعجالي ! عركت اذنه : ـــ قلت لك ألف مرة لا تكن عنيفا... غدا أسأل دافيد اذا عاد . ـــ لن يرجع قبل نهاية العطلة الأسبوعية. ـــ لا يهمنا متى يرجع ..اذا رايته فقل له... ـــ لن أكلمه، سأضربه مرة اخرى . ـــ هل تريد ان يتعرض الرسول الى الشتم ؟ ـــ لا أريد . ـــ اذا تركت دافيد جاهلا فسيواصل الإساءة الى الرسول. و عندما تبين له الحقيقة قد يصبح مسلما جيدا مثلك . ــ ماذا أقول له ؟ ــ قل له: اذا عثرت على لؤلؤة أكّد لك خبير مجوهرات انها كنز حقيقي، وأنه مستعد لشرائها بمليون كرونة، ثم اذا قال لك أطفال سيئون ( يبدو انهم حسدوك ) ان تلك اللؤلوة مجرّد حجر ملوّن لا يساوي شيئا، فمن تصدق ؟ هل تصدق الإختصاصي الخبير؟ أم بعض اطفال جهلة قد يتركون وجوههم دون غسيل بعد نهوضهم من النوم ؟ ـــ أصدّق خبير المجوهرات. ــ رائع ... كذلك يجب على دافيد تصديق الله الذي الذي مدح محمدا... لؤلؤة العالم الثمينة فقال عنه (انك لعلى خلق عظيم) . فكما أن الخبراء هم فقط الذين يملكون أهلية تقدير قيمة اللؤلؤ، فإن الله صانع الإنسان، هو صاحب الصلاحية في ان يقرر من من الناس صاحب الخلق العظيم ومن منهم السيئ . ـــ لكنني ساضربه رغم ذلك . ــــ ... ـــ لأنني متأكد من أن حماقته لن تمكنه من فهم شيء مما قلته لي . انه اغبى تلاميذ الفصل، لأجل ذلك ساضطر الى ضربه حتى يكف عن الإساءة للرسول. ــ الضرب ليس وسيلة نافعة في مثل هذه الحالات . ـــ الم تخبرني ان الضرورات تبيح المحظورات ؟ لأجل ذلك سأضطر الى ضربه! ... استغرقت في الضحك، ياسين ذكي جدا، حين كان في الخامسة من العمر زارنا صديقي توفيق الجبالي الذي يسكن في المانيا.. توفيق الجبالي.شخصية مسلية سأحدثكم عنها فيما بعد .. ذات مرة خرج ياسين مع توفيق الجبالي في جولة، لم يعتمد توفيق على ذاكرة ياسين.. أثناء عودتهما الى البيت، أراد توفيق الجبالي استخدام نفس طريق الذهاب . جذبه ياسين من يده وقال له وهو يسلك به طريقا آخر" لا تخف كل الطرق تؤدي الى روما !" عندما كان ياسين في الرابعة قرأت عليه قول الله ( وما تسقط من ورقة الا يعلمها) اجابني على البديهة "هو يعلم بها قبل سقوطها!" ـــ متى عندكم أول درس في الحاسوب . ــ ليس قبل اسبوع . ــ جيد سيكون دافيد حاضرا، استمع جيدا سأعطيك اسم كاتب امريكي شهير اختار مائة شخصية عظيمة ظهرت منذ خلق الله الدنيا الى عصرنا الحديث، اسم الكتاب المائة الأوائل .اطلب من المعلمة بادب أن تبحث في الأنترنيت عن أول شخصية تتصدر ذلك الكتاب. ـــ لكن معلمتي مازالت غاضبة مني بعد أن عضضت يدها ! ـــ ساعطيك خمسين كرونة.. و أنت في طريقك الى المدرسة اشتر وردة حمراء ثم أهدها إليها سترضى عنك دون شك . بعد اسبوع أخبرني ياسين ان دافيد قد صعق حين اخبرت المدرسة كل تلامذة الفصل ان محمدا كان على راس مئة مختارة من مشاهير الدنيا ! انتظرت تسع سنوات كي اضيف الي ياسين : ــ اذا سمعت أو قرأت خبرا عن محمد فتذكر شهادة الله له بانه كان على خلق عظيم. ان وجدت الخبر يتعارض مع شهادة الله فارمه في الزبالة... و لا تبال بمن روى الخبر لأن الأصل هو شهادة الله . حين وجدت ان ياسين مازال يذكر حادثة دافيد اضفت: السلفية الحمقاء ذكرت ان محمد تزوج عائشة و هي بنت تسع سنين والحال انها كانت فتاة ناضجة سبق لها ان فسخت خطبة.. فمن تصدق يا ياسين. رواية خبير اللؤلؤ أم رواية السلفيين الذين يشبهون اطفالا صغارا في قلة إدراكهم؟ فهم يجمعون اشياء تافهة و ينسبونها بحسن نية قاتلة الي الرسول.. تذكر جيدا بانك لست مجبرا بان تصدق أي حديث ينسب الى الرسول ما دام يخالف القرآن أو العلم الحديث أو العقل و المنطق . حين تزوج عائشة كان الرسول في الخمسين .. كان يبدو شابا شديد الجاذبية. الصحابة الذين كانوا ابطالا عالمين في المبارزة بالسيف اجمعوا على انهم لم يروا شخصا اشد وسامة من محمد، لا بين الروم و لا بين الفرس.. محمد كان جميلا و جذابا الى حد صاعق ... كان ناصع البياض وردي اللون تقريبا، في الثالثة الستين، عندما توفي، كانت الشعرات البيض لم تتجاوز 17 شعرة في راسه و لحيته... كان محمد شابا... لماذا يعيبون على عائشة الزواج قبل 14 قرنا من شخص يكبرها بثلاثين سنة، و يسكتون على "أنا نيكول سيميث" فاتنة البلاي بوي و رمز الإثارة الجنسية و هي تتزوج مليونيرا هرما قبيح الشكل يكبرها بنصف قرن ؟! ــ آنا .... هل قرأت كتاب "عالم صوفي" للنرويجي جوستين جاردير ــ طبعا قراته بالنرويجية و بالأنكليزية ، وسأقرأه مرة ثالثة . ــ ما رأيك لو اخذت كتاب جوستين جاردر ثم أبدلت اسم البطلة صوفي فجعلته خديجة، ثم قدمت الكتاب على انه من تأليفي . ماذا سيحدث ؟ ابتسمت آ نّا حتى كشفت عن ضرس تتوسطه حشوة رصاصية ... ــ لو فعلت ذلك لجعلت نفسك مسخرة العالم لقيامك بسرقة أدبية مفضوحة. تناولت رشفة من مشروبي الغازي، أعدت الكأس على الطاولة الخشبية متفاديا النظر الى وجه آنا الملائكي. ـــ يمكنك تشبيه عمل بولس الرسول محرر الإنجيل بصنيعي انا بقصة جوستين جاردر. ـــ أظنك تبالغ . ـــ لا مكان للمبالغة في قولي فكل ما فعله بولس، هو أخذ كتب الديانة الهندية التي تروي سيرة" كرشنة"، (الإنسان الذي تزعم تلك الكتب أنه صلب تكفيرا عن خطايا البشر بعدما حلّت فيه روح لله) ، ثم نقلها حرفيا الى الإنجيل، فوضع إسم المسيح بدل كرشنة أو كرشنو. في محاولة مضحكة لإستبلاه الناس جميعـا! ــــ هذا لا يمكن أبدا ثم... تجاهلت احتجاح أنا الجميلة، واصلت: ـــ هاك بعض ما جاء في كتب الهند:" قالت البراهمة: كرشنة هو المخلّص و الفادي و المعزّي و الراعي الصالح و الوسيط و ابن الله و الأقـنوم الثاني من الثالوث المقدّس. وكتب بولس في انجيل لوقا الاصحاح الثالث و انجيل متى الاصحاح السابع : يسوع المسيح هو المخلّص و الفادي و المعزّي والراعي الصالح و الوسيط وابن الله والأقــنوم الثاني من الـثالوث المقدس وهـو الأب و الإبــن و روح القـدس!" ــ هل تمزح؟ ـــ" انتظري قليلا :" قالت البراهمة:عرف الناس ولادة كرشـنة من نجمه الذي ظهر في السّماء . و كتب بولس: لما ولد المسيح ظهر نجمه من المشرق، و بواسطة ظهور نجمه عرف الناس ولادته، راجعي إنجيل متّى الإصحاح الثاني ". ــ هل أنت جاد ؟ أشرت لها بيدي: ــ انتظري بعض الشيء... قالت البراهمة :لمّا ولد كرشـنة كان" ناندا" خطيب أمّه غائبا عن البيت، حيث أتى إلى المدينة كي يدفع ما عليه من خراج للملك. و كتب بولس: و لمّا ولد يسوع كان خطيب أمّه غائبا عن البيت، و أتي يدفع ما عليه من خراج للملك! راجعي إنجيل لوقا الإصحاح الثاني من عدد 1ــ 17... قالت البراهمة : كرشنة صلب و مات على الصليب. و سجّل بولس في انجيله: يسوع صلب و مات على الصليب! " ــ أي كابوس هذا؟ واصلت : ـــ جاء في كتب الهند: وثقب جنب كرشنة بحربة . وقالت النصارى: وثقب جنب يسوع بحربة، قالت البراهمة: و مات كرشــنة، ثم قام من بين الأموات. و كتب بولس في انجيل متى الاصحاح 24: ومات يسوع، ثم قام من بين الأموات! قالت البراهمة : وصعد كرشـنة بجسده الى السّماء وكثير شاهدوه صاعدا و كتب بولس: و صعد يسوع الى السّماء، و كثيرون شاهدوه صاعدا ! عند هذا الحد توقفت، أهملت الفقرة الأخيرة التي تقول: جاء في كتب الهند ان كرشنة هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة. كما ورد الإنجيل أن المسيح هو الذي سيتولىّ تلك المهمة. قالت البراهمة : وهو ــ أي كرشنة ــ يدين الأموات في اليوم الأخير. و كتب بولس و يدين يسوع الأموات في اليوم الأخير. ــ أرايت يا آنّا ؟... لو ذكرت كتب الهند أن كريشنة ذهب الى أوسلو سيتي و أكل بيتزا و تخاصم مع باكستاني قبل أن يلطمه مغربي، لذكر الإنجيل ان المسيح فعل نفس الشيء !. كانت آنّا تسند راسها بيديها وقد اثبت نظرها على غلاف مجلتها التبشرية" إستيقظ" وقد غشيت وجهها سحابة حزن. خيل اليّ أن سنها قد تضاعف مرتين .حاولت مواساتها: ــ آنا الجميلة... لا تبـتـئسي، أمامك عمرا مديدا لمراجعة قناعاتك الدينية.. المهم ألا تكفّي عن التفكير و النقاش.. أنا لم اصبح مسلما حقيقيا الا بعد قراءة التوراة و الإنجيل.. ثم لم أرض باسلام تقليدي مزوّر قسّمته الملكية الفاسدة و الميثلوجيا الشيعية الى اسلام سني و آخر شيعي، بل قضيت عشرين سنة و انا ابحث عن الحقيقة حتى وصلت الى اسلام محمد... اسلام علمي عقلاني مجرّد من الخرافات الشيعية و المخدرات السنيّة. قلبت أنّا مجلتها" استيقظ " لكنها ظلت صامتة.. لا بد أن يستيقظ المسلمون.. الحلول الوهمية لن تهبهم سلاما.. فالدنيا مكان صراع ... أثبتت دراسة غربية أن البشرية و خلال أربعة آلاف سنة قد عرفت سنة سلم واحدة، مقابل 14 سنة حرب...ما كان لنا ان نترك هذه الحقيقة الى أوهام حسن البنا الذي يعدنا بديمقراطية تعترف بثقافتنا و تهبنا السعادة و الأمن، لا بد للمسيحين أن يفيقوا ايضا من وهم رجوع المسيح ليقضي على الشر بمجرد نواياه الحسنة...حتى يرعي الخروف بجوار الذئب، والأسد بجوار الضبي، لو كانت عودة المسيح حقيقية لفعل ذلك منذ ستة قرون لإنقاذ 500 مليون شخصا قتلهم المستعمرون. ولو كان "مجدد القرن" السلفيّ حقيقيا، ما غاب 14 مرة متعاقبة خلال 14 قرنا . لو لم يكن ذلك المجدّد السنيّ مجرّد وهم لسارع الى الحضور بمجرد قضاء معاوية على حرية الرأي و التعبير.. وليدع الشيعة ايضا وهم خروج المهدي المنتظر من سردابه..فالتغيير لن يكون الا بايدينا،( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم) هكذا جاء في القرآن. القرآن ايضا نادى بضرورة تصدّى الأخيار للأشرار لفرض الأمن و الحرية الدينية، القرآن سمي ذلك سنة التدافع، وسماها داروين الصراع من أجل البقاء.. لا عدل الا اذا تعادلت القوى/ و تصادم الإرهاب بالإرهاب... هكذا قال الشابّي شاعر تونس الخالد. ـــ آنا ارفعي راسك .. رفعت أنا راسها كانت عيناها خاويتين من أي معنى ــ هيا ابتسمي .ارجوك الجو اصبح أكثر كآبة ـــ.... ـــ أجيبيني آنا الجميلة... هل توافقين حكومتك النرويجية على إرسال جنود يقتلون اطفال أفغانستان ؟ ــ أبدا . ـــ ما دمت تحبين الإنسان لكونه انسانا فأنت من صنف الإنسان الشريف الذي يؤمن بأن السعادة والرفاهية و الأمن لا بد ان تكون للجميع، لا على حساب الآخرين. ــ ليتني ما قصدتك.. لقد ذهبت ببقية ايماني... لم يبق في قلبي غير خواء و شكّ. ــ القاعدة تقول الشك هو طريق اليقين. ــ لا يقين بعد انهيار الحقيقة الكبرى. سكبت بقية ما في الزجاجة من مشروب غازي ــ أخبريني آنّا... ما رأيك فيمن يزعم أن مدينته هي الأجمل بين المدن، رغم انه لم يغادرها منذ ولد؟ ـــ شخص غير موضوعي شربت الجرعة الأخيرة . ــ أنت اذكي من ان تكوني مثل ذلك الشخص. ـــ .... ــ لا بد ان تطلعي على الديانات الكبرى قبل الحكم بان دينك هو الأصحّ . ــ ساحاول دن شك .. ـــ بالمناسبة... هل كنت مسيحية فعلا أم ان مهمتك التبشيرية كانت مجرّد وسيلة لقتل الوقــت؟ ــ أنا فعلا مسيحية . ثم وهي تستدرك : ـــ أعني كنت كذلك . ـــ حتى ذلك لا أعتقده ــــ كيف ـــ لأن مسيحيتك قد كانت من قبيل المفارقات التاريخية . حدقت في... سألتني بشيء من الفظاظة: ـــ مالذي حملك على هذا الإعتقاد ؟ ـــ حتى فزيائيا لا يمكن ان تكوني مسيحية . ـــ لم افهم اصفت موضحا: ـــ لا يمكن لشخص أن يتواجد في مطلع القرن الأول ثم في مطلع القرن الواحد و العشرين . ـــ أي غاية تريد ان تصل إليها؟ ـــ حتى تكوني مسيحية ،لا بد أن تكون قد ولدت في فلسطين قبل الفي سنة . لأن رسالة السيد المسيح قد حددت مكانيا وزمنيا. ــ كيف تزعم ذلك؟ أي دليل يؤيد كلامك؟ ــ المسيح لم يرسل حسب تعبيره الا الى خراف بني اسرائيل الضالة.. لاشك أنك تحفظين هاته الجملة ــ نعم ولكن... ــ تعلمين ايضا لمن قال تلك الجملة . ــ نعم... لقد قالها لإمرأة كنعانية من غير بني اسرائيل . ــ لكني لا ارى امامى خروفا اسرائليا ضالا، بل غزالا نرويجيا ساحرا . ــ ارجوك كف عن المزاح . ـــ لا يمكن ان تكوني قد قرات انجيل برنابا ـــ فقط سمعت عنه اعلم ان الكنيسة حظرت قراءته ... هل لديك فكرة عما يحتويه؟ ــــ ورد في انجيل برنابا ذكر اسم محمد 15 مرّة ، كما نفي كاتبه صلب المسيح . انتفضت واقفة وهي تقول : ــ لم يبق لك ألا ان تزعم ان الحرب العالمية الثانية لم تـقع! كانت متوترة و يائسة. نهضت بدوري. ــ لأجل ذلك منع انجيل برنابا من التداول من قبل الكنيسة لأن انكار صلب المسيح يعني نسف عقيدة الخطيئة و الفداء التي تقوم عليها المسيحية من أساسها . دفعت ثمن المشروبات .. ودعت آنّا ثم أنصرفت. ـــــــــــــــــــ (1) الكرونة : عملة نرويجية اصلحت بتاريخ 10 جويلية 2011 الفصل الثامن العمارة اللعينة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كانت الساعة الألكترونية تشير بأرقامها الحمراء الى الثانية و الربع ليلا... رغم الهدوء الذي يلفّ المكان، لم أستطع النوم حتى هذه السّاعة المتأخرة. كنت شديد التوتر، كما كنت أتوقع في كلّ لحظة هبوب الإعصار اليوميّ المدمّر للأعصاب. ــ سامي لماذا لا تنام ؟... الحمد لله لا ضجيج الليلة. ــ كل شيء محتمل ما لم تنقضي الليلة. زوجتي تعودت على الحياة في النرويج كما تأقلمت مع ضجيج عمارتنا اللعينة الكائنة في "تاين"، (أسوأ أحياء أوسلو و أشدّها اكتظاظا بالأجانب، و أكثرها إهمالا من قبل السلطات النرويجية) وإن لم تتعود على لحوم و خضر النرويج.. فهي لا تزال تصر على انها خالية من إي طعم. زوجتي مهووسة بكل ما هو تونسي . " صدقني سامي، حين أتناول اللحم النرويجي فكأنّني ألوك لحم كوندوليزا رايس ... لا طعم و لا رائحة !"..هكذا قال لي صديقي رشيد ذات يوم و قد انجلت عنه كآبته!.. حين تنجلى كآبة رشيد يصبح كالنهر المتدفّق .. كل كلماته و تعليقاته تصبح رائعة و جديرة بالتدوين. " لو صحّ كما أشيع، أنّ لجورج دبليوبوش علاقة غرامية مع كوندليزا رايس، فتلك شهادة إضافية على حماقته المطبقة.. لو بعث مالكوم اكس و مارتن لوثر كينج، ووجدا كوندوليزا رايس و كولن باول و كوفي عنان يشكّلون راس حربة يستغلها الإرهابي بوش لإنتهاك حقوق الإنسان الملوّن، لآثرا على الفور قتلهما من جديد و لو تعذيبا في سجن أبي غريب". حالما استرجع أنفاسه أضاف رشيد : " بعد وهن قدرتي الجنسية إنقطع حبل التواصل الأخير بيني و بين زوجتي.. لها الحقّ في أن تزهد في رجل مثلي قد فاق مارادونا في سرعة القذف!" كنت قد تعوّدت على تلقائيّة رشيد و صراحته في طرح أدق مشاكله حساسيّة.. نصحته بإرسال زوجته في إجازة مفتوحة الى أخيها بالسويد، نصحته أيضا بالإقلال من مشاهدة التلفزيون كما نصحته بتجنّب أسباب التوتر و على رأسها قراءة الكتب السلفية و متابعة أخبار الإخوان المسلمين و اخبارفضائية الجزيرة عموما، كما نصحته أخيرا بمراجعة طبيب نفسيّ. " ما دامت دواعي التوّتر قائمة، فلا أمل في الخلاص من الإكتئاب " أضاف دون توقف " " أحسد المرأة على شيئين، عدم انشغالها بسرعة القذف و بضعف الإنتصاب ..اسمع هاته الطرفة ذات مرّة خلا رجل بإمرأة، فلامته على إبطاء انتصابه فأجابها: لسنا سواء، فأنت تفتحين بيتا، وأنا أحيي ميتا!...لأجل هذا قرّر الإسلام أن من حقّ الرّجل ان يطلب الجماع في الوقت الذي يشاء حتى لو كانت زوجته أمام الفرن،لأن "ميّته" قد يكون في تلك اللحظة بالذات أشدّ ما يكون حياة! " علقت ضاحكا : " او تكون ذلك اللحظة هي الفرصة المناسبة للإدلاء بوصيته الأخيرة! " ضحكنا كثيرا، أضفت بعد ذلك: "وهذا ما ترفضه نوال السعداوي و تعتبره ديكتاتورية من قبل الزوج و عبودية من قبل المرأة " كيف تجاهلت نوال السعداوي أن الزواج في الإسلام قابل للفسخ لأسباب جنسية بحتة.. فيمكن للمرأة الحصول بسهولة على الطلاق متى ثقل عليها شريكها.. ذات مرة شكت امراة للرسول ضعف انتصاب زوجها و صغر ذكره فطالب زوجها بطليقها فورا.. كما جاءه ذات مرة رجل يبكي لأن زوجته تريد الإنفصال عنه فأمره بتسريحها فورا . " أما أنا فاحسد المرأة على شيء واحد، وهو كون الصلاة في المساجد إختيارية بالنسبة لها " وافقني رشيد على ذلك، فنحن نذبح معا و بصفة يوميّة كلما أرتدنا المساجد و رأينا إماما جهولا، و مصلين لا يشاركوننا اهتماماتنا، حتى كأننا من ديانتين مختلفتين . أكثر من مرة ذبحني حسنين المصري بمدحه جمال عبد الناصر .. ـــ يبدو حقا انك تحبّ جمال عبد الناصر؟ ــ ليه لأ؟.. ليه لأ.. الرجل كويّس و جدع و وطنيّ. تعجبت كثيرا من جهل حسنين المطبق بدين محمّد، كيف يمكن لشخص ان يحبّ الله و الشيطان في آن واحد؟ ــ يا حسنين، الذين يحبون عبد الناصر لا يمكن أن يكونوا من أهل المساجد. ـــ ليه بقى؟ ـــ لأن الريّس علماني.. يعني انه يبيح الخمر و الربا و الدعارة، و يرفض أحكام الشريعة و يعدم من يطالب بتطبيقها. ــ إزّاي تقول كده، الرجل كان يصلّي و يعرف ربّنا أكثرمنّي و منّك . قبل أسبوع من وفاته المفاجئة، أسرّ عبد الناصر لصحفي مصري مشهور بانه لا يؤمن بالغيبيات.. ذات مرة ــ وبشهادة بعض وزرائه ــ قال عن الحجّ انه مجرّد" كلام فارغ ".. لن يصدقني حسنين المصري لو أقسمت له على ذلك لأنه عنيد وجاهل.. هذا البائس لا يعرف شيئا.. لا عبد الناصر ولا الإسلام..اللعنة، كم أشتهي الموت وأتمني مغادرة هذه المخرأة اللعينة... السّرطان يمرّ بين يديّ و من خلفي، من فوقي و من تحتي، ولا يطرق بابي، جيراني و أصدقائي زارهم السّرطان... أيّها المسرطنون أيّتها المسرطنات من يبيعني سرطانه؟ كم أنا بائس.أتعذب ثلاث مرات على الأقل مرات و انا التقي يوميا بمسوخ تصلّي الى جانبي في حين تعبد حكامها.. يوجد من بين المصلين من هو مستعدّ لتسليم رقبتي الى الجلاد وهو يوقن بأنه يخدم الإسلام.. اللعنة.. لم لا يجد عابد الشيطان من يمدح لاعنيّ ابليس في معبده؟، و لم لا يجد الهنديّ من يمدح ذابح البقرة في معبده؟ ــ عبد الناصر هو الذي واجه العدوان الثلاثي. كيف أقنع هذا الغبيّ بأن جمال عبد الناصر هو الذي سرّح الضبّاط المصريين الأكفاء تحت تأثير هاجس انقلابهم عليه، و كيف افهم هذا الأحمق أن جمال عبد الناصر هو الذي أنهك الجيش المصري حين ارسله يقاتل في جبال اليمن .. و أن عبد الناصر هو الذي استفز إسرائيل سنة 67 في وقت لم يكن مستعدا لخوض القتال بجيش عائد من اليمن.. جيش كان يحتاج لخمس سنوات تدريب حتى يكون جاهزا لمواجهة جيش إسرائيلي متطور... و أن عبد الناصر هو الذي عبّأ صحراء سيناء بفلاحين يرتدون جلابيات و لايملكون اي سلاح، حشدهم هكذا ليخيف اليهود... ظن الريّس الأحمق انه سيخرج منتصرا كما خرج سنة 56 بعد العدوان الثلاثي الذي صنع منه بطلا مزيّفا.. لكن أمله خاب … حسنين لن يصدقني لو قلت له أن عبد الناصر صدّق الإتحاد السوفياتي حين طمأنه بان إسرائيل لن تضربه، كما استجاب لأمريكا حينما طلبت منه ترك إسرائيل تبادر بضربه كي يجلب تعاطف العالم حين يردّ الفعل !! و لكن ضربة إسرائيل قضت على سلاحه الجوّي بالكامل!...حين سمع بورقيبة بوفاة عبد الناصر قال معلقا: " هذا أحسن شيء فعله في حياته"... كانت هناك منافسة كبيرة بين عبد الناصر و بورقيبة، كان الأوّل يريد إلقاء إسرائيل في البحر، و كان الثاني يحبّذ الحلّ السياسيّ و التعايش السلميّ. على غير المعتاد، كان السكون يهيمن على عمارتنا الموبوءة.. توقّع العذاب اليوميّ، هو الذي منعني من النوم.. أصبحت لديّ حساسية شديدة نتجت عنها ردة فعل تلقائية تنتابني إثر كل ضجيج يصلني من الخارج.. دون شعور كنت انهض من فراشي مندفعا نحو الشرفة،لأعود مطمئنا بعض الشيء، حال اكتشافي ان الصبية الملاعين ليسوا هم من أحدث الجلبة، بل بعض السّكارى العابرين أو بعض الجيران العائدين من الملاهي الليلية.. كان هؤلاء يحدثون اصواتا مزعجة، لكنها مؤقتة سرعان ما تتلاشى بفعل ابتعادهم عن العمارة أو ولوجهم فيها. كنت أعود مطمئنا حين اكتشف أيضا، أن تلك الأصوات قد سببها حوار بعض سييء الأدب من جيراننا ممن أختار باب العمارة التي تبعد ثلاثة امتارعلى شقتي لإنهاء حديثهم،أو بسبب محاولة احد السكارى خلع الباب الرئيسي الذي كان من المنتظر في حسبانه أن يكون مهشم القفل بفعل ما يتعرض له من إعتداءات يومية.. كان لا بدّ لهؤلاء السكارى من رجّ الباب الرئيسي بعنف مصحوب بلعنات و شتائم و مزيد من الرجّ و الرّكل للتحقّق من كونه موصدا! بالإضافة الى توتري الناتج عن توقع الشغب الليليّ، كانت تتوارد على ذهني جملا كاملة ممّا تردّده قناة الجزيرة.. كل جملة كانت تشكّل لوحدها مصدر ازعاج و تنغيص: جورج بوش يشدّد على ضرورة التصدي للإرهاب... مجلس الأمن يطالب بنزع سلاح حزب الله... الملف النووي الإيراني .. تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ... ملاحقة اعضاء تنظيم القاعدة ... أسامة بن لادن و تنظيم القاعدة... خارطة الطريق .. استشهاد طفل فلسطيني على يد قوات الإحتلال الإسرائيلي .. حماس و حكومة السلطة الوطنية. الشرطة لا تبالي كثيرا بما يحدث في هذا الحيّ المكتظ بالأجانب... " نحن نعيش في زمان تصل فيه سيارة البيتزا الى بيتك، قبل سيارة الشرطة " هكذا قيل و هذا هو الحاصل. كما سأغادر الحياة بأمر إلهيّ، فسوف لن اغادر كولستاقاتا 7 إلا بأمر حكوميّ ... فبلديّة أوسلو التي أجّرت لي هذه المنزل الموبوء بمعلوم كراء يتفق مع دخلى الهزيل.. سوف لن يسمح لي باستبدال مسكني حتى لو احضرت ألف شهادة طبيّة تثبت اكتئابي المزمن، لأن ما يقدمه المسلمون من شهادات طبية قد فقدت مصداقيتها لدى السلطات النرويجية، بفعل الفكرة السيئة التي تشكلت لديهم عن المسلمين بسبب قدرة الكثير منهم على الإدلاء بمعلومات خاطئة. حينما شكوت لرشيد ابتسم ثم قال مواسيا " لا يأس يا سامي مع وجود السكتة القلبية و الجلطة الدماغية! " اندفع بعدها منكتا " ذات مرة سئل أحد الأزواج التعساء: الى أي حدّ بلغت كراهيتك لزوجتك أجاب: حين تضع يدها على صدري، أودّ لو ينشق سقف الغرفة و تسقط منه حجارة تقطع يدها مع ضلعين من قفصي الصدري! أخي سامي.. هل قرأت ما كتبه وزير نرويجي منذ ايام قليلة... كان الخسيس يتباهي بكونه من بقية قوم لوط... أخبرني سامي من قائل هذه الجملة :" كلنا مجرّد دود، لكنني دودة وهّاجة ". " تشرشل" هكذا أجبته. اللعنة..اذا كان تشرشل يعتقد ان الشعب البريطاني مجرّد دود، فكيف ستكون رؤيته ثم تعامله مع الشعوب الملونة " سامي أجبني بسرعة ... أنت معنا أو ضدنا؟" كان رشيد يقصد عبارة بوش الشهيرة" من لم يكن معنا فهم ضدنا" كان صديقي الجزائري يجتاز حالة اكتئاب ايجابية مصحوبة بكثرة الكلام و غزارة إلقاء النكات، وإلاّ فهو يعلم جيدا أنني لست مع بوش كما انني لست مع بن لادن.. فلا دمويّة بوش ترضيني، و لا حماقة بن لادن تروق لي... بوش و بن لادن وجهان لعملة واحدة اسمها التديّن الأعمى، بوش كان انفع للبشرية حين كان سكّيرا.. بتدينه الكارثي، انتقل بوش من تدمير كبده بالويسكي الى تدمير البشرية بطائرات الأباتشي.. بن لادن خرّجته مدرسة بن حنبل و الشافعي.. بن حنبل و الشافعي ثنائي يشكّل أسلحة دمار شامل للحرية و الكرامةو التنوير والعمران البشري.. ثنائي أخطر على البشرية من جنكيز خان و ستالين. الأخيران قتلا جيلا أو جيلين.. الثنائي السلفي الرهيب قتل عشرات الأجيال ومئات الملايين من البشر و ما زالا يقتلان... يمكننا إلحاق ضحايا الحربين العالميتين الأولى والثانية مع نصف مليار من قتلى الاستعمار الغربي الي قائمة ضحايا الثنائي السلفي الرهيب. لو استمرالحكم الإسلامي جمهوريا وانتخب خليفة المسلمين على أساس الكفاءة لكانت أمريكا وبريطانيا والغرب الضاري عموما تحت الوصاية الإسلامية و لسلمت البشرية من شرور جورج بوش و جرائم توني بليير وأمثالهما. الإسلام يسعى من خلال مبادرته الى الحرب الهجومية الى إيقاف الحروب نهائيا، و إرساء السلام العالمي بصفة دائمة . استرسل رشيد :" المروّع ان حربا عالمية تشن اليوم على الإسلام. و المسلمون يراهنون على أربع فقمات عاجزة: ايران و حماس و القاعدة و حزب الله ... معركة من طرف واحد، اسرائيل و الغرب من جهة، و طواحين هوائية بائسة من جهة اخرى.. لا أمل للخلاص ما لم يتم القضاء على الفكر السلفي و بقراته المقدسة " كنت أدرك ذلك جيدا، كما كنت اعلم ايضا أن رشيد بحاجة الى الإفضاء بهمومه، لأنني الشخص الوحيد الذي يبادله هموم السياسة والحياة،لأجل ذلك لم اعلق على كلامه الا بما يثبت متابعتي له.. اكتفيت بالسكوت.. كنت أعاني بدوري اكتئابا حادا من آثار مناقشة يوم أمس مع موسى رجب الذي أصرّ على أن حزب الله حقق نصرا على اسرائيل في حرب تموز 2006 رغم دخول اسرائيل مائة كيلومتر في عمق الأراضي اللبنانية و قتلها آلاف اللبنانيين و إجلاء حزب الله عن مواقعه ". سألته" ـــ سيد موسى رجب أجبني بصدق . ـــ .... ــــ اليس النصر العسكري يتحقق إما باحتلال أرض العدو أو القضاء على آلته العسكرية ّ فكيف تسمى ما وقع نصرا ؟. ردّ على بسؤال أحمق : ــ و الصواريخ التي القيت على إسرائيل؟ ــ دعك من الصواريخ و أجبني أولا، ألم يكن في إمكان أمريكا إجبار رئيس لبنان على مصادرة تلك الصواريخ قبل أن تلقى على إسرائيل؟ ثم اجبني ثانيا، لماذا يقع ضرب الحركات الإسلامية في كل العالم و يترك المهرج الشيعي نصر الله يرقص على الحبال كما يشاء؟ ثم اجبني ثالث لماذا يمنع اٌقرباء النشطاء المسلمين في تونس من ملكية بندقية صيد في حين يمتلك حزب الله ترسانة اسلحة؟ قفز موسى رجب على السؤالين الأولين و أكتفى بالإجابة على الثالث: ــــ ايران هي التي تزوده بها . ـــ كيف تتنازل لبنان عن سيادتها بترك ضباط ايرانيين يحتلون جزء من ارضها لتدريب عناصر حزب الله، فلا تثور و لا تشتكي، الا يدل ذلك على ان المسألة مجرد مسرحية ؟ أم هل يمكن ان تكون لبنان (الدولة القزم) قد فعلت كل ذلك ضد إرادة امريكا؟ ــ أنسيت ان ايران دولة قوية ؟ ـــ و هل نسيت ان تسال نفسك لماذا تسمح امريكا بقيام دولة شيعية قوية لو لم تكن تدرك ان تلك الدولة ستخدم مصالحها؟ ــ الشعب الإيراني هو الذي حقق المعجزة . ــ متى كان في امكان ثورة شعبية عزلاء الإطاحة بنظام هزيل و لو كان في الصومال، فما بالك بجيش الشاه الضخم الذي كان يضم 40 الف خبير و عسكري امريكي..؟! ـــ..... ـــ لنفترض ان شعب إيران قد حقق المعجزة و انتصر على أمريكا، اليس شعب ايران نفسه من يقف اليوم مع شيعة العراق بجانب المحتل الأمريكي؟ ثم ألم نقرأ معا رسالة النائب الاردني ليث شبيلات التي يلوم فيها حسن نصر الله على موافقته شيعة العراق على عدم مقاومة المحتل باعتبار ان قرار هؤلاء المراجع الشيعية كان وجهة نظر يجب عليه احترامها؟ حين رايت اصرار موسى رجب على موقفه، ايقنت اني اضرب في حديد بارد، سلمت عليه و انصرفت. نسيت أن اقول لموسى رجب أن إيران مجرّد نعجة تلبس جلد اسد، و انها خاضعة كليا للإدرة الأمريكية، وان ما تروّج له من قوّة مزعومة سرعان ما يكذبه عدم تعليقها بكلمة واحدة عن ضرب اسرائيل للمفاعل السوري في 6 ايلول 2007. رغم زعم كهنة ايران انهم حماة النظام السوري . بعد انصرافه، لا مني رشيد الذي كان يراقب جدالنا بغيظ، على منح موسى رجب شرف الحوار خصوصا وانه لا يخفى انتماءه الي الإخوان المسلمين الذين ساندوا الإحتلال الأمريكي في العراق و دخلوا برلمان حكومة كويسلنغ .(1) ـــ ما زلت أصر على اعتبار موسى رجب من ضحايا غسيل المخ الإخواني، وما زلت أرجو رجوعه الى الصواب . و نحن نتسوّق، أخبرني رشيد انه شعر بتقزز كبير حين كان مذيع فضائية الجزيرة يعلن بان الجيش اللبناني قد تفرغ كليّا لعملية الإغاثة المدنية، تاركا مقاتلي حزب الله يصنعون بطولتهم الزائفة ضد اليهود. ـــ تصور يا سامي لقد شعرت وقتها بمدى التضحية التي يمكن لساسة إسرائيل تقديمها في سبيل رفع رصيد حزب الله امام جماهيرنا المغفلة. ـــ يبدو ان الراي العام اليهودي لم يستوعب اطوار المسرحية التي تدور بين الحزب الشيعي و اسرائيل، لأجل ذلك لام قيادته على تركها المجال لحزب الله حتى يقذف السكان اليهود بالصواريخ في حين أنها كانت قادرة على حسم المسألة سياسيا باصدر قرار بجمع سلاح حزب الله و حظر تنظيمه . ـــ ثم الا تلاحظ التراخي الذي اعقب قرار مجلس الأمن بنزع سلاح الحزب الشيعي، لقد مر شهران و لم يقع تطبيق القرار، في مقابل مسارعة الغرب بتطبيق قرار مجلس الأمن و الهجوم على قوات صدام حسين في اليوم الموالي من قرار مجلس الأمن باخراجه من الكويت . ـــ .... ــ أعتقد أن الزوبعة الإعلامية لتلك الحرب التي جعل فيها الحزب الشيعي منتصرا، غايتها تلميع صورته حتى يدخل معترك السياسة بكل ثقل جماهيري، و قد نجحوا تماما، خصوصا و ان الإخوان المسلمين في لبنان قد وقفوا بجانبه ضد الحكومة اللبنانية بدعوى ان تلك الحكومة تخدم مصالح امريكية، و قد جهل الاخوان انهم يساندون حزبا عميلا يخدم مصالح ايران العميلة بدورها . فتّش عن الإخوان، كل خيانة وراءها اخواني، الإخوان وقفوا ضد جبهة الإنقاذ في الجزائر و الإخوان أفتوا بشرعية قتال طلبان، والإخوان قادوا تحالف الشمال العسكري بقيادة برهان الدين رباني و الإخوان وقفوا في العراق مع قوات الإحتلال و هم الذين رضوا بان تبنى قواعد امريكا في تركيا والإخوان قاموا ممثلين برئيس الوزراء جول بزيارة اسرائيل لأول مرة بعد السادات، و اخوان تركيا هم من قدم العون للقوات الأمريكية لدخول العراق عبر أراضي تركيا و تمرير ثمانين في المائة من تجهيزاتهم العسكرية، الي حد دفع شمعون بيريز الى مصارحة رجب طيب أردوغان مصافحا:" لم اكن اتصورأن الإسلام معتدل و ديمقراطي بهذا القدر ". ـــ أمريكا تراهن على الشيعة و الأخوان المسلمين لأنهما يخدمان مصالحها ببلاش.. الشيعة و الأخوان هما بمثابة عجلتين لدراجة هوائية لا تكلّف أي شيء. وافقت على ما قاله رشيد عن الشيعة خصوصا بعد اطلاعي على ما كتبه صبحي الطفيل الأمين العام السابق لحزب الله في صحيفة الشرق الأوسط من كون حزب الله كان يشتغل حارسا للحدود الإسرائيلية و كل مهمته هي سجن كل لبنانيّ و فلسطينيّ أو أردنيّ يضبط متوجّها لقتال اليهود. صبحي الطفيل أيضا سمّى ضربات الكاتيوشا التي تطلقها حزب الله على المستوطنات اليهودية بالأستعراضية والفلكلورية. ورد الي ذهني ايضا ما كتبه رونالد باين في كتابه" الموساد "عن كيفية استقبال الشيعة لليهود في جنوب لبنان بالزهور، و كيف تعهد اليهود حركة أمل بالرعاية و التسليح لتتولى مع جيش سوريا و بعض كتائب الجيش اللبناني تنفيذ مذابح صبرا و شاتيلا و اخراج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، على الرغم من ان منظمة فتح دربت افرد حركة أمل. كانت الساعة تشير الى الثالثة الا خمس دقائق حين انفجر بركان الصبية... لقد بدأت الغارة. بدأ صراخهم خافتا وهم قادمون من محطة الميترو، ثم اخذ يرتفع عند وصولهم الى محطة التاكسي التي تقع على بعد خمسين مترا من عمارتي اللعينة.. بلغ صياحهم ذروته، حينما وصلوا أمام عمارتنا... كانوا يركضون وراء مراهق مغربي من شلتهم. حين احتمى الأخير بمدخل العمارة و أغلق خلفه الباب. أخذوا يركلون الباب و يطالبونه بالخروج... جارنا السكير "توربيارن" الذي يسكن في الطابق الثاني على يمين شقتي، كان أوّل من أطلّ عليهم، بادرهم باللعن، فاستقبلوه بوابل من الشتائم، و أخيرا شيّعوه بأكياس من القمامة غمروا بها شرفته، فاحتمى بشقته لاعنا دين الإسلام و كل مسلم على أرض النرويج ..أما بيريت و بيارق ــ سحاقيتان ــ فقد استقبلتا حال خروجهما من شقتهما الواقعة في الطابق الأرضي، بسيل من النعوت القبيحة، بمجرّد طلبها من الصبية الإنصراف بهدوء، فاضطرتا فوارا الى الإنسحاب.. ظفر الدين برويز خان جارنا الباكستاني العجوز، اكتفى بالتأمل الصامت من على شرفته بالطابق الرابع. نفث دخانا في الهواء ثم سعل مرتين، ألقى سيجارته ثم دخل شقته وهو يدفع زوجته أمامه. حين تأكدت باني لن انام سائر ليلتي الليلة، ذهبت الى قاعة الجلوس واضطررت الى فتح التلفزيون، لعلمي باستحالة المطالعة في مثل ذلك الجو العاصف،كانت فضائية دبي تعيد عرض برنامج وثائقي عن تحقيق أجرته شركة طيران أمريكية عن سبب سقوط أحد طائراتها، كنت قد شاهدت ذلك البرنامج منذ سنة تقريبا، كان يجب على تلك الشركة تجميع ثلاثة ملايين شظية هي كل بقايا حطام الطائرة، استغرق التجميع ثلاثة سنوات.. حتى أرضيّة البحرالتي سقطت فوقها الطائرة قد تمّ جرفها، لم يكفوّا عن التنقيب واستقصاء سبب الحادث، حتى اكتشفوا الخلل الذي سبّب الكارثة.. حين نوّهت لرشيد بحزم أصحاب تلك الشركة وإصرارهم العجيب على ضرورة معرفة موضع الخلل، تجهّم وجهه و اكفهرّ محيّاه و اكتفى بتحريك رأسه يمينا وشمالا ثم جذب نفسا طويلا و زفر بصوت مسموع ولم يجبني بشيء... بعد يومين وجدته يهتف لي: " حين حدثّتني عن تلك الشركة، كنت على وشك الخروج من أزمة اكتئاب لا زمتني ثلاثة أيام، و لكنني حالما قارنت حزم أصحاب تلك الشركة، ببرود و حماقة السلفيين الذين لم يتفطنوا بعد 1400 سنة من الدكتاتورية الى أن سبب سقوط دولة الإسلام هو النظام الوراثي ثم الصلاحيات المطلقة التى منحها ابن حنبل و الشافعي للحاكم، عادت إليّ كآبتي بأشدّ ما تكون" كلّ أمم الأرض قد إستفادت من هزائم الماضي إلا نحن.. كلّ هزائمنا تحوّلت سلفيا الي أمّ معارك تستحق الأحتفال.. حتى رجال الكنيسة هبّوا من غفوتهم و محوا سيئآت ماضيهم المتآمر مع الملوك .. ففي حين يقتل القساوسة في الأريزونا في سبيل مصالح صغار المزارعين و في حين يتقدم القساوسة المظاهرات الشعبية في أوكرانيا وغيرها من البلاد النصرانية، تصرّ العمائم السلفية المهينة على تنويم الشعوب و الزعم بأن كل ما حاق بنا كان نتيجة مؤامرات خارجية. و أن تاريخنا مضيء و لا شائبة عليه و أن الأعداء الخارجيين هم من يسعى لتشويهه. " ذات مرة صنع أحد العباقرة سيّارة فاخرة و سخّرها لقضاء حوائج كلّ الناس.. قبل أن يموت، أوصى أبناءه:" لا بدّ لسائق هذه العربة أن يكون كفؤا، لا تهمّ جنسيته المهمّ الكفاءة حتى لو كان عبدا أثيوبيا" بعد ذلك ودع أولاده ثم مات.. عمل الأولاد بوصيّة والدهم لمدة قصيرة توالى على سياقة السيارة أربعة سائقين جيدين، بعد ذلك استولى أحد الأشرار على السيارة بالقوة،ثم سخّرها لخدمة أغراضه الشخصية ... ذلك الشرير و قبل أن يموت، أوصى بأن يرثه ولده في قيادة تلك السيارة. كان ولده مقامرا و كسولا، لأجل ذلك باع محرّك السيارة و قامر بثمنه وخسر كل شيء، بعد ذلك وجدوه ميتا. خلفه ابنه من بعده.. و لأنّ ذلك الإبن كان متخلّفا عقليا، فقد نزع العجلات الأربع ووضعها على سطح السيارة! عندما لامه بعض العقلاء على تصرّفه الغريب، تكلّم كاهن بالنيابة عنه وقال:" ما فعله سائقنا العظيم ووالده الخالد من قبله، كان بإرادة الله و مشيئته، فلو أراد الله لهذه السيارة أن تسير، فستسير دون عجلات و دون محرّك، و لولم يرد الله لها أن تسير، فلن تنفعها كل عجلات الدنيا و محرّكاتها. فاذا لم تسرعربتنا، فالخطأ ليس فيها ولا في السائق، فالسيارة جيدة، والسائق بارع، ولكن الخطا في الطريق وفي قوم متأمرين لا يريدون لسيارتنا أن تسير!.. ولدي ياسين، العربة هي الإسلام، والسائق هو الملك الوراثي، و الكاهن هو السلفي اللعين الذي يصرّ على أن الخطأ في الطريق وفي الأعداء، و ليس في السائق الأحمق، ولا في السيارة المشوّهة "هكذا اختزل صديقي رشيد قصة مأساتنا.. حين انصرف ولدي ياسين لإحضار بعض العصير همس لي رشيد : " ما لم أقدر على إضافته لياسين، هو أن شكوى أمتنا من تآمر القوى الخارجية عليها، كشكوى إمراة شابة جلست على قارعة الطريق وهي مفتوحة الفخذين ثم شرعت تصيح: الحقوني هذا إغتصبني، وهذا قد تحرّش بي!!!" . من قناة "المصرية" وصلني صوت صباح فخري يبكي على"زمان الوصل بالأندلس" أغلقت التلفزيون و لعنت كل وزراء الإعلام في بلاد المسلمين..كانت المعارك في اسبانيا تشتعل بين ملوك الطوائف من أجل شابة اسبانية اشتهاها ملكين تافهين في نفس الوقت، كان المسلمون هناك قد تمكنوا رغم كل ذلك من صنع البواخر التي تجتاز القارات قبل ثلاثة قرون من حصول بلاد الغرب عليها، و لكن صراعات الملوك الداخلية لتثبيت عروشهم الموروثة شغلتهم عن مبادرة كريستوف كولومبس بفتح أمريكا و بالتالي انقاذ الهنود الحمر من براثن العم سام و أنيابه التي لا ترحم ...كما شغلتهم رغباتهم الرعناء عن قطع الطريق على كحوليّ اسمه جورج دابل يو بوش لم يزل يعاني آثار إلإدمان، لمنعه من التبول علينا واقفا و قاعدا و جالسا. على قناة دبي ظهر دكتور سلفي عراقي يقيم في الخليج: ــ الو هل تسمعني ...؟ ـــ نعم ... تكلم انت على الهواء. ـــ فضيلة الدكتور.. منذ أيام زار أحد شيوخ التصوّف مسجد مدينتنا.. حاضر لمدّة ساعتين.. لم يترك خرافة إلا صحّحها.. في نهاية المحاضرة زعم أنه قد قابل الرسول في اليقظة.. قلت له هذا غير ممكن..أطردني إمام المسجد و هدّدني بتبليغ السلطات عن شغبي في بيوت الله.. فمن منا المخطئ يا فضيلة الشيخ؟ . ــ يا بني أنصحك أولا بعدم إساءة الأدب مع رجال الصوفية الفضلاء ثم أن ... ــ و لكن ... ــ دعني أكمل... ـــ تفضّل. ـــ ثم أن رؤية الرسول يقظة أمر أجمع عليه المئات من شيوخ التصوف .... ـــ و لكن الرسول ميّت. ـــ يا بنيّ لا حدّ لقدرة الله.. بالمناسبة و بكل تواضع أعلنها لأول مرة .. لقد قابلت حضرة الرسول أربع مرات آخرهن ليلة غزو صدام حسين للكويت ! ـــ ولكن... ـــ عفوا ايها السادة انقطع الإتصال مع السائل... شكرا للسائل الكريم شكرا لفضيلة الدكتور ... بصقت على فضيلة الدكتور ثم أغلقت التلفزيون . المسلمون في هذا الزمان يدفعون ثمن تراكمات 14 قرنا من الأخطاء، السلفية تكمن وراء مصائبنا فهي التي بررت جرائم الملوك و أمرت بطاعتهم حتى لو أزهقوا الأرواح و جلدوا الظهور و صادروا الممتلكات، كما برّروا قبل ذلك انقلاب معاوية على الشورى وسلّحوا الملكية الوراثية بأحاديث تجعل من صميم الإسلام إختيار الحاكم على أساس عنصري بحت! فاختلقوا حديث " الأئمة من قريش "...السلفية ايضا أفسدت نظام الشورى حين أعطت الحاكم فيتو يفسد به إجماع الشعب...لأن الشورى لدى العقل السلفي الكليل مجرّد إجراء شكلي، لأن القرار الأخير بيد الحاكم الفرد صاحب الحق المقدس في الحكم... حتى فريضة النهي عن المنكر باليد اي مقاومة الفساد بالقوة جعلته السلفية حكرا على الحاكم الفاسد، فكانت كمن قدّم السمّ للفئران و قال لها استعمليها في الوقت المناسب! كما أجرمت السلفية حينا طرحت على المسلمين حلاّ وهميا للخلاص من الظلم.. حيث جعلت موت الحاكم الفاسد و انتظار خليفة صالح من عقبه هو سبيل الخلاص الأول، أما سبيل الخلاص الأهم فانتظار المهدي المنتظر أو مجدّد القرن الذي تخلف في كل القرون! عامل واحد من هذا العوامل كان كفيلا باسقاط دولة قوية، فما بالك وقد اجتمعت علينا كلها... لو لم يوجد يهود ولا نصارى لأستعمرتنا طيور البطريق ما دمنا تمتلك هذا الكم الهائل من عوامل السقوط . في اول زيارة لي لبيت رشيد طالعتـني معلقة كتب عليها بخط جميل" أن تجاهل التاريخ خطيئة عقابها ان يتجاهلك الواقع.. الإمضاء الصادق النيهوم "... هزتني العبارة التي لا تعني في زماننا غير أمتنا التي أعمتها السلفية عن مراجعة أخطاء الماضي، قلت لرشيد و انا آخذ مكاني في قاعة الجلوس : ـــ لو استبدلنا كل الكتابات السلفية التافهة لمدة 14 قرنا بهاته الجملة القصيرة لعقدنا بذلك صفقة رابحة. اجابني رشيد وهو يضع القهوة امامي: ـــ صعقت يوم أمس حين رأيت في المكتبة العمومية كتابا ضخما لدكتور تافه تناول فيها سيرة هارون الرشيد الملك السكير صاحب القطيع النسائي المكون من أربعة آلاف جارية . قلت مازحا : ـــ أفهم من هذا انك لا تصدق التقرير السلفي الذي يؤكد ان هارون الرشيد كان يصلّي في اليوم مائة ركعة! ــ لو وفـّق المسكين مع حضور ذلك الجيش النسائي المتعدد الجنسيات في أداء صلاة الفريضة لكان بطلا ! تصنعت الجد و انا قول له : ــــ ألا تعلم أن الحضارة ألإسلامية بلغت عصرها الذهبي زمن هارون الرشيد؟! ــــ كل ما أعلمه أن حقوق الإنسان كانت منتهكة في عهده، فقد كان في إمكانه إعدام الوزير الأول و نكبة كل عائلته و مصادرة ممتلكاتهم و أرواحهم دون محاكمة .. ثم ان تلك النهضة العلمية المشرّفة كانت نتيجة جهود علماء ليست لهم صلة بجهاز الحكم الفاسد. بعد ذلك اضاف رشيد : ـــ احترام الإنسان هو مقياس التقدم، لأجل ذلك رفضت حين زرت إسبانيا مجرّد المرور بقصر الحمراء و كل الأثار العمرانية و الزخارف التي خلفها المسلمون وراءهم...إحترام الإنسان يأتي قبل أي انجاز علمي وعمراني لأنه المؤشر الأهمّ على تحضّر أمة من الأمم . من خلال نافذتي راقبت الصبية الباكستانيين و المغاربة و الصوماليين وهو يتحلقون على الكراسي الخشبية و قد علا صراخهم وارتفعت ضحكاتهم، بعضهم اخذ ينهق كحمار حقيقي ... لعنت السلفية التي سدت منافذ الأمل في وجود آباء هؤلاء الصبية فحملتهم الي الهجرة الي النرويج، و تفريخ هؤلاء الملاعين العاطلين عن الدراسة و العمل. كما لعنت السلفية مرة اخرى لوقوفها بجانب الحبيب بورقيبة دكتاتور تونس الذي أكثر المظالم الى حد جعلني أشارك في انقلاب ضده كلفني التشرد في النرويج ومعاناة السكن في هاته العمارة الموبوءة، كما لعنت السلفية مرة ثالثة لوقوفها بجانب زين العابدين بن عليّ الحاكم العسكري الذي يحول بيني و بين الرجوع الى بلادي وانا آمن من الموت تحت التعذيب . في السنوات الأخيرة ازدادت عدوانيتي، و فقدت السيطرة على أعصابي، أصبحت لا احتمل، اضطررت الى اتخاذ إجراءات عسكرية صارمة من بينها منع زوجتي تحت طائلة التهديد بإلقاء التلفزيون في الحاوية من مشاهدة قناة "اقرأ" السعودية.. بالنسبة لي رؤية شيوخ السلفية أصبحت سمّا مجرّبا، كلما طالعني شيخ منهم انتابتني كآبة محققة، كل فتاواهم مبنية على فقه أحمد بن حنبل و الشافعي، أشد المدرس تعصّبا و تشدّدا و ضيق أفق، مدرسة بن حنبل هي التي خرّجت أسامة بن لادن زعيم المهرجين. ــ و الله لو لم يكن محمد خاتم الرسل لقلت ان أسامة بن لا دن نبيّ مرسل! ذلك ما قاله لي الشاب عزمي بكل حسن نيّة مدمّرة. دون أن اشعر و جدتني اقول له : ـــ و لولا الثياب التي أراها عليك لقلت انك حمار آدمي في منتصف الجملة تداركت الأمر عالجت ألمسألة بابتسامة و قلت له : هل اطلق بن لادن سجينا أو اطعم جائعا أو بدل بندا واحدا من الدستور العلماني الذي يحكم المسلمين؟ ــــ .... ـــــ ماذا فعل بن لادن حتى ترفعه الى هذه الدرجة الرفيعة؟ أليس بن لادن هو الذي نزع الحجاب من على رأس بنت أخيك في فرنسا؟ هل كان مسلمو فرنسا يخيفون جاك شيراك حتى يتخذ ضدهم ذلك الإجراء الظالم؟ ألم يفعل شيراك ذلك كردة فعل لما قام به بن لادن من حماقات؟ ألم تدرك بعد يا صغيري عزمي ان بن لادن ضروريّ لجورج بوش و لمن يأتي بعده حتى يبرر تدخله في بلاد المسلمين؟ هل كان في إمكان جورج بوش لولا بن لادن أن يبرر بقاءه في العراق مخالفا بذلك القانون الدولي الذي أعطى كل الشعوب حق مقاومة المحتل و تقرير المصير؟ خصوصا بعد عجز إدارته عن إثبات وجود أسلحة دمار شامل هناك؟ غاب عني ان اخبر عزمي أن سبر آراء سبق حوادث 11سبتمبر أكد أن مسلمي فرنسا صوتوا ضد الحجاب قبل الفرنسيين أنفسهم! فتحت التلفزيون من جديد.. على قناة دبي الرياضية كانت بصدد عرض مقابلة كرة قدم، لعنت الكرة التي أصبحت بالإضافة الى السلفية و الإخوان أفيون الشعوب العربية و خبزها اليومي . رشيد كان لا يفصل بين الكرة و السياسة، في المباراة الدولية، كان يساند الفريق صاحب السجلّ الأقل إجراما في حق الإنسانية . ـــ اذا لعبت النرويج و السويد تمنيت لو تنتصر السويد، و اذا لعبت سويسرا و السويد تمنيت لو تنتصر سويسرا، و اذا لعبت فرنسا مع ايطاليا رجوت أن تنتصر ايطاليا، و اذا لعبت فرنسا مع انكلترا صفقت لفرنسا، واذا التقت انكلترا بأمريكا دعوت الله ان يخسف الأرض بالفريقين! كان لرشيد مؤاخذات كروية تيقنت من وجاهتها حين أمعنت النظر فيها، كان رشيد يكره قانون التسلل و يراه إجراءا جائرا يميّع اللعبة و يفسد جديتها. ـــ كرة القدم بمثابه صراع حقيقي وقانون التسلل يفسده، كما ان ذلك القانون يجعل امكانية الصدام قائما بين اللاعبين و الحكم، و بين الحكم و الجماهير و بين الجماهير فيما بينهما و بين الجماهير و الشرطة القامعة للشغب، نظرا لغموضه و تعقيده. رشيد ايضا يرفض ركلات الجزاء و يراها هديّة مجانية تقدم لمن لا يستحقها، و في أحسن التنازلات اقترح رشيد ترك المهاجم طليقا في المكان الذي عرقل فيه ليقذف مباشرة نحو الحارس. أما أن يوضع مباشرة أمام حارس عاجز يجب عليه حفظ مساحة تسمح بدخول شاحنتين كبيرتين فظلم صريح. أشتد عجب زميلي النرويجي داق حين اخبرته بانني أتمنى هزيمة تونس في كل مقابلات الدور الأول في كاس العالم! حين سألني عن السبب أجبته: ــ لأن كرة القدم في بلاد ليست فيه ضمانات اجتماعية و لا حريّة سياسية، هي مجرّد أفيون لا غير. فتحت التلفزيون من جديد ...حين ضغطت عشوائيا على جهاز التحكم عن بعد ظهرت قناة تونس 7.. كانت تعرض فيلما مصريا .. في التلفزيزن التونسي كل شئ بائس لا شيء يبهج، حتى برنامج الكاميرا الخفية كان يبعث على الحزن.. ذات مرة كدت أبكي لولا حيائي من زوجتي، حين أستهين بصاحب كشك سجائر عجوز... بدأت المزحة الثقيلة حين تقدم ثلاثة من عمال التلفزيون نحو الشيخ المسكين، طلب أحدهم علبة سجائر ثم أعطاه ورقة نقدية من فئة كبيرة، إعتذر الشيخ عن عدم وجود فكّة طمأنوه بانهم سيرعون كشكه أثناء غيابه. حين غاب الرجل تقدمت رافعة و نقلت الكشك كاملا... حين رجع الشيخ ولم يجد دكانه الصغير بقي مذهولا، أنكر الصحفيون رؤية الكشك، كما انكروا طلب احدهم منه شيئا أو اعطائه أي ورقة مالية مهما كانت فئتها. كاد الشيخ يفقد صوابه، توسّل إليهم، و قبل أيديهم...استمرت المأساة لأكثر من عشرين دقيقة، و في النهاية كشروا في وجهه قائلين" كاميرا خفية!!"...إحتفظ الشيخ بحزنه، عجزت الكاميرا عن اغتصاب مجرد ابتسامة منه. لو أمن المسكين من سياط وزارة الداخلية للعنهم جميعا . حين كف الصبية على الصراخ، كان لم يزل على قرب الموعد الإفتراضي لنهوضي من النوم سوى ربع ساعة فقط. توجهت نحو الحمام إستعداد للذهاب الى المسجد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) سياسي نرويجي تعامل مع الإحتلال النازي . الفصل التاسع مع الفرنسي بلال . كان الطريق خاليا تماما من المارّة.. لوحدي كنت اتجه نحو المركز الثقافي الباكستاني الذي يبعد عن عمارتي ربع ساعة سيرا على الأقدام. "المسلمون ليس فيكم معتدل، كلّكم متطرفون!" هكذا قالت إحدى العجائز الألمانيات لصديقي الطريف توفيق الجبالي! ـــ لماذا يا سيّدتي و الحال أنّنا...؟ لم تمهله حتى يكمل كلامه : ــ اذا كان المسيحي المتشدّد يرتاد الكنيسة أسبوعيّا.. فبحقّ السّماء، كيف تسمّي من يذهب الى المسجد خمس مرات في اليوم الواحد !؟ الذهاب الي المسجد فيه مشقة كبيرة.أحيانا تضطر للإستيقاظ بعد ساعتين فقط من النوم للذهاب الى المسجد، وعند العودة منه، لا تستطيع النوم من جديد .الحياة اختبار صعب، وطريق الفضيلة خيار أصعب ..في الغرب يسمونها الطريق الضيقة . the narrowway . الطريق تصير أضيق في بلد نرويجي يفتقر الى التوازن بين الليل و النهار. الحياة صعبة في النرويج، و المناخ أصعب، و العزلة أشدّ، و التواصل صعب، و لغة البلاد معقّدة الى حدّ الإحباط . العزاء في النرويج لا يوجد في غير التديّن أو الإنغماس في اللّهو . .. لمعالجة أزمة السّكن في النرويج، اقترح النرويجي المسلم "كيم هنسن" و كحلّ سريع و حاسم، منع بيع الخمور و حظر امتلاك الكلاب لمدة اسبوعين! حين استفسر صومالي أجاب كيم هنسن: ـــ سينتحر المدمنون عن الخمر، أما العجائز فان فراق الكلاب سيدفع بهم الى تفضيل الموت، و هكذا تصبح آلاف المساكن شاغرة! جاء اقتراح كيم هنسن اثر شكوى صوماليّ من عدم وجود من يستعدّ لقبوله كمستأجر أسود مسلم. ــــ بمجرد سماع نرويجيّتي المهشّمة، يعتذر صاحب البيت قبل أن يغلق الخطّ في وجهي ! لو لم اكن مسلما فسأذهب مختارا الى الحانة بحثا عن فرح اصطناعي يعفيني ولو لبعض الوقت من ألم الحياة و قسوتها. هناك امكانيتان في هذا البلاد: "لابيار أو لابريار" الجعة أو الصلاة.. لم أستطع اخفاء تعجّبي من فرنسيّ يسكن في النرويج، سألته : ــــ ما السرّ في هجرتك المضادة؟ ــــ كيف? ــــ أعني ما الذي جاء بك الى بلاد "برابرة الشمال" كما تسمّون النرويجيين.. أريد أن اقول، كيف تركت باريس و رضيت بالسكن في أوسلو "أكبر قرية في العالم" كما تسمّى في السّويد ؟ ضحك بلال ثم قال: ـــ إنه الحبّ ! أضاف بعد ذلك: ـــ ثم انني لست أحمق من إدوارد الثامن الذي ضحّى بعرش انكلترا في سبيل الزواج بالمرأة التي أحبّ! لم يحتج بلال الى مزيد من الشرح.. فقد أعلمني في مناسبة سابقة بزواجه بنرويجية إصطدم بها في أحد أروقة متحف اللوفر حين كانت في رحلة سياحية هناك.. أحبّها من أوّل نظرة و قرّر السير وراءها الى آخر نقطة مأهولة من الكرة الأرضية، بالرغم من مقاطعة والده الذي شكك في امكانياته العقلية بمجرّد سماعه الخبر . "يا الهي.. هل جننت؟ كيف تترك عاصمة النور لتدفن نفسك في بلد ناء تغيب عنه الشمس ستة أشهر في كلّ سنة؟!" هكذا قال له . ـــ أراد أبي إبقائي الى جانبه كي أساعده في ادارة المصنع الذي يملكه.. لم يكن في إمكان "بيريت " السّكن معي في باريس لشدة تعلقها بوالدتها التي لم تبدي استعدادا للتفويت في الزيارة الأسبوعية لضريح زوجها في أوسلو. لم يهنأ بلال بالعيش مع زوجته بيريت سوى سنتين قبل رحيل مفاجئ إثر إصابتها بالسرطان.. حين تزوّج بلال فتاة سوداء من غامبيا، تأكّد والده من جنونه.. رغم ذلك كتب اليه موبّخا: " بأي حقّ تسمح لنفسك بتلطيخ شجرة عائلتنا بذريتك السّوداء ؟!" و حين زاره رفقة زوجته لم يكتف والده بطرده بل أطلق عليه الكلاب!... و حين أعلن بلال اسلامه، تأكّد والده أنّ جنونه قد أصبح مطبقا، لأجل ذلك حرمه من الميراث بعد أن أقام له جنازة رمزيّة دعا لها جميع الأقارب و الجيران، و أعتبره منذ ذلك الحين في عداد الموتى! أول مرّة تبادلت فيها الحديث مع بلال الفرنسي، حين رأيته يقف أمام مكتب الإمام الباكستاني في الطابق السفلي في المركز الثقافي الإسلامي.. كان يبحث عن حبيب الرحمن.. تقدمت نحوه، حييته ثم أفدته بأن الإمام قد سافر الى باكستان لزيارة أهله، وانه لن يرجع قبل أربعة اسابيع .. كنت أعلم انه فرنسي، كنت أراه في مسجد الهدى، كما كنت أسمعه يخاطب ابنته بالفرنسية، لكنني لم أشأ ربط علاقة معه، كنت بصدد تصفية علاقاتي السابقة..منذ حلولي بالنرويج صرت أعمل بقول الشاعر: وما ضرّني إلاّ الذين عرفتهم / جزى الله عنّي كل من لست أعرف! قدّمت له نفسي كنائب نائب "الإمام الغائب"، سألته: ـــ هل يمكنني مساعدتك؟ تكلم بتلقائية...أخبرني و هو يلتقط أنفاسه بعد إسترجاع إبنته ذات السنوات الثلاث إثر إندفاعها خارج المسجد عن تأنيب ضميره بسبب اسم ابنته و انه ممزّق بين حبّه لزوجته الرّاحلة التي اختارت لها اسم "تونا"، و بين اسلامه الذي يحرّم عليه الإحتفاظ بالآثار المسيحية لحياته السابقة، خصوصا بعد تأكّده من ذلك التحريم! ـــ من الأحمق الذي أوحى لك بذلك؟ ـــ الأحمق الذي اخبرني بذلك هو إمام المسجد الصومالي . حين حاول الإعتذار عن زلة لسانه طمأنته: ـــ ليس هناك أي سبب للإعتذار فلا أفضلية لإمام على سائر المصلين، يمكنك مثلا ان تكون إماما اذا حفظت نصف صفحة من القرآن و عرفت كيف تؤدّي الصلاة. ـــ ألا يشترط حفظ القرآن كله لإمامة الناس؟ أفدته بان الله قد تكفل بحفظ القرآن و كلفنا بالعمل بما جاء فيه، و لكن المسلمين حفظوا ما تكفل الله بحفظه و أضاعوا العمل بما جاء فيه .. ثم ان حفظ القرآن كاملا أمر لم يعرفه الصحابة، بل تركوا الإشتغال به لأطفال الباكستانيين! ـــ الإمامة ليست مهنة لأحد و ليس هناك رجال دين في الإسلام، و لا لباس خاص له ولا ألقاب خاصة ـــ ..... ـــ وجود رجال الدين تقليد يهودي أوجده الحكام المجرمون لإخضاع الشعوب بأدواتهم السلفية المخدرة. ما تراه حولك ليس له صلة بالإسلام.. فتوى الحاج عبدي يوسف امام المسجد الصومالي، مجرّد هراء لا أساس له من الصحة، بامكانك الإحتفاظ بالإسم النرويجي لإبنتك. فليس من الضروري اتخاذ اسم عربي، فكل الأنبياء تقريبا كانوا يحملون أسماء غير عربية مثل دانيال و موسى و عيسى. و في سعيي للتخفيف من توتره اضفت: ــ هل تعلم أن بعض معتنقي الإسلام يعتقد قداسة كل ما هو عربي الى حدّ الوقوعه في مهازل.. تصوّر هناك مسلمة نرويجية سمت نفسها ليلى دون ان تعلم ان ليلى في لغة العرب من أسماء الخمر ! في oslo galleri واثناء مقابلتي العرضية الثانية معه. أفضى لي بلال الفرنسي عن المعاناة النفسية التي تـنغّص حياته و تحوّلها الى جحيم دائم: ـــ حين أتذكر النارالأبدية التي تنتظر والدتي التي ماتت كافرة تسودّ الحياة في ناظريّ. خصوصا بعدما كففت عن الدعاء لها بعد أن أكّد لي الليبيّ كريم حامد أنها تمثل حالة ميئوس منها.. حين أكدت له انها كانت امراة صالحة و انها لم تقرب الخمر طوال حياتها رد عليّ : اذا كان اطفال الكفار في النار فما بالك بكبارهم! و حين أخبرته انها كانت تحبّ الناس أجابني متبرّما :" اذا كان الله لم يجامل النبيّ محمد فحكم بدخول النار على أبويه القرشيين العربيين لأنهما ماتا كافرين، فكيف يدخل أمّك الفرنسية الجنة"؟! حين فوجئت بمدى التأثّرالذي بدا على وجه بلال، نصحته بأن لا يسأل سلفيا عن مسألة مهما بلغت ضآلتها، كما أعلمته بقصد الترويح عنه، أن اسلام كريم حامد مسألة جغرافية بحتة، فوجود ليبيا التي ولد فيها كريم حامد ضمن حدود العالم الإسلامي، هي التي حسمت في مسألة ميراثه الديني، فلو ولد هنديا لعبد بقرة . و في سبيل ادخال البهجة الى قلبه أضفت: ــ لو وجد كريم حامد أباه يعبد علبة سردين فارغة أو فردة حذاء مثقوبة لأتبعه، لأنه من صنف يكره التفكير و المفكرين. بعد ذلك ارشدته الى مواقع فرنسية لدراسة السلفيّة جيدا حتى يتأكّد من قولي، و ليعلم أنها تمثل أشدّ أسلحة الدّمار الشامل فتكا، ليس بالإسلام فقط، بل و بالحضارة الإنسانية. وليعلم ايضا ان خلاص المسلمين الذين تحوّلت بلادهم الى معتقل كبير بسبب وقوف السلفيّة في صف الفساد و الإرهاب العلمانيّ الحاكم، لن يتمّ بغير اقصاء السلفية من الواجهة كما أقصي رجال الكنيسة في الغرب. قبل ان اغادره قلت له ملاطفا : ــ لكنني أحكم في شأن والدتك تماما عكس ما حكم به كريم حامد . نظر الي مندهشا : ـــ أنت تمزح ! دون شك. ـــ لا مزاح في هاته المسائل الدقيقة، المسألة تعرف أو لا تعرف. و مصدر المعرفة في هذا الأمر هو الوحي .أي ما اخبر به القرآن أو ما قاله الرسول بعد عرض ما قاله على العقل و ما علم من العدالة الإلهية. سألني بلهفة : ـــ و مالذي تعرفه شخصيا حتى تزف لي هاته البشرى ؟! بعدما أخذت بيده مبتعدا به قليلا بعد اكتشافنا انا نقف مباشرة امام السلّم المتحرّك مغلقين الطريق أمام شابة نرويجية تدفع عربية فيها طفل صغير . قلت له : ـــ الذي أعرفه جيّدا أن الله يحبّ عباده أكثر من حبّ الوالد ولده. رويت له قصة الأسيرة التي رآها النبي محمد تبحث عن ابنها بكل لهفة، و حين وجدته ضمته الى صدرها و انخرطت في البكاء من شدّة فرحها، بعيد ذلك المشهد المؤثر. سال النبي صحابته هل تتصورون ان هاته الأم الحنون يمكن ان تلقى بابنها في النار؟ قالوا كيف تفعل ذلك و قد رأينا لهفتها لفقدانه ساعة واحدة.. حينئذ قال لهم:" ان حب الله لمخلوقاته هو اشد من حبّ هذه الأم لولدها". لأجل ذلك قضت محبة الله لمخلوقاته بان لا يدخل النار احدا حتى تبلغه رسالة الأنبياء كاملة و بالشكل الذي اراده الله ، لا بالشكل القبيح الذي قدمتها السلفية للعالم. لأجل ذلك كان من ضرورات العدالة الإلهية، أن يتم إجراء امتحان سريع للأصناف التي فاتتها معرفة الإسلام الصحيح حتى يتقرر مصيرهم، إما الى الجنة أو الى النار . ـــ .... ـــ أول تلك الأصناف من ولدوا مجانين أو متخلفين عقليا! ثم من بلغتهم الرسالة و هم في مرحلة الخرف، و من وجدوا انفسهم في جزر نائية منقطعة عن السكان، ثم و من وجدوا في زمان انقطعت فيه الرسالات السماوية . ـــ عفوا عن المقاطعة ، لكن والدتي لا تدخل ضمن اية فئة مما ذكرت . ــ مما لا شك فيه عندي ان والدتك تدخل ضمن الفئة الأخيرة . ــ و لكن والدتي سمعت عن الإسلام . ــــ كريم حامد سمع ايضا عن الإسلام، لكنه لم يصبح مسلما حقيقيا، فوجود كريم حامد ضمن مسلمين حقيقيين بمثابة وجود شيوعي بين رأسماليين.. مجرّد السماع عن الإسلام لا يكفي للبتّ فيه قبولا أو رفضا. ــ و لكن والدتي سمعت عن الإسلام بما فيه الكفاية . ــ نعم بما فيه الكفاية كي تزداد له كرها و منه نفورا.. ثم هل بامكانك أن تخبرني مالذي تعرفه والدتك عن الإسلام سوى انه يحرّم الموسيقي و يعتبر المرأة كلها عورة وأن كشف وجهها خطيئة و يفرض عليها زوجا لم تختره ليضربها كما يشاء باسم الله وما عساها تعرف عن المسلمين غير انهم يعيشون في ادغال تسمي أوطانا لا تراعى فيها أدنى حقوق الإنسان، ثم ألم تخبرني بنفسك بأن المغني الأنكليزي يوسف إسلام قد صرّح ذات مرّة بانه لم يكن مستعدا قبل اسلامه ان يستمع لأي مسلم لشدّة نفوره من الإسلام و المسلمين؟. وافق بلال على كل كلامي ثم اعلمني بانه قرأ سلسلة طويلة عنوانها "كيف اهتديت الي الإسلام" تضم حوالي مائة شخص من مختلف الديانات و الجنسيات كانت شهاداتهم متشابهة الى حد التطابق . فقد كانت رحلتهم في البحث عن الحقيقة تبدأ بالتوجّه إلى كل ديانات الشهيرة منها و المغمورة،و كانوا لا يلتفون الي الإسلام الا كحلّ أخير و يائس!! . ثم ختم كلامه بقوله: ـــ لأجل ذلك كنت كثيرا ما اقول أن الإسلام عبارة عن محل مجوهرات طليت واجهته بالسخام ولوثت جدرانه بالقاذورات لأجل ذلك لا يلفت اليه احد. تذكرت قول محمد الغزالي "الإسلام قضية رابحة أوكل أمرها الى محام فاشل" ـــ الإسلام لا يحتاج الى أعدائه كي يشوهوه بالقدر الكافي ... فبن لادن و سلفيته العمياء لوحدها تكفي للتنفير من الإسلام الى الأبد ... ــــ .... ـــ هل من المعقول أن يتمّ باسم الجهاد في سبيل الله، ذبح صحفي غربيّ ثم عرض فيديو ذبحه على الأترنيت؟ أي حماقة سولت لمجانين بن لادن ارتكاب تلك الفظائع باسم الإسلام الذي يضحّى بابنائه في سبيل تحرير الشعوب غير المسلمة من دكتاتورياتها المحلية.. هل من الرجولة ان يتسلل أحد الملتحين تحت جنح الظلام ليضع لغما تحت عربة قطار مدنيّ؟ ألم يؤمر القائد الميداني المسلم في حال تأكّده من عزم العدوّ نقض الهدنة بأن يبادر هو بإعلان إنهاء الهدنة حتى لا يكون هجومه على عدوّه المدجّج بالسلاح من قبيل الغدر و خيانة العهد؟ قال تعالى " و إمّا تخافن من قوم خيانة فأنبذ اليهم على سواء إن الله لا يحبّ الخائنين " الأنفال 58. ـــ اذا انت تعتقد ان سكان أروبا بما فيهم والدتي سيحضون بهذا الإستثناء ؟ ــــ و انت ايضا يجب ان تحملك ثقتك في عدالة الله على مجاراتي هذا الإعتقاد الذي يؤيده قول الله " و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " و الا فهل تظن ان الله سوف يعذب الملايين من نصارى اروبا بسبب تبذير حكام دول الخليج اموال المسلمين في شهواتهم الخاصة عوضا عن انفاقها في ترفيه شعوبهم و تبليغ الإسلام الصحيح الى الغربيين ؟. قاطعني بلال ليقصّ عليّ طرفة فرنسية تقول أن أحد أثرياء الخليج قد أسرّ لوالد فتاة فرنسية بانه على استعداد لدفع مهر ابنته الفاتنة بما يعادل وزنها ذهبا، فما كان من الأب غير القبول طالبا مهلة ستة اشهر كي ينفقها في تسمين ابنته! واصلت : ــ الإسلام الذي يقيم الحجة على الناس يتمثل في دولة متقدمة لا يحكمها رجال الدين و يكون الإختيار فيها للشعب دولة تحترم المرأة و الإنسان عامة و تكون ملجأ لكل مضطهد في العالم الا تعلم يا سيد بلال ان المسلمين يشكلون 80% من عدد اللاجئين في العالم ؟َ ـــ نسيت أن تخبرني عن كيفية لك علم بكيفة الإمتحان الإلهي ؟ أعلمته بايجاز، ان الله سيجري امتحانا سريعا يتمثل في وضع نار صورية امام الأصناف المذكورة ثم أمرهم بدخولها.. فمن كان في قلبه ايمان بالله دخلها فوجدها بردا و سلاما ليدخل الجنة بعد ذلك، و من رفض الإستجابة لأمر الله ادخل النار الأبدية بعد ان يقال له لو كنت في وضع عاديّ ثم بلغتك رسالتي لكفرت بي ما دمت قد عصيتني الآن. أيدني بلال حين قلت له أن من النرويجيين فئة لو بلغها الإسلام لكانت اشد حماسا في اعتناقه من افضل المسلمين في زماننا. قبل أن يخبرني عن والدته التي كانت شديدة الطيبة وكثيرة الإشمئزاز من اخيها الكولونيل الذي كان يفتخر في مجالسه الخاصة بأنه قام بازهاق أرواح المئات من المدنيين الجزائريين بعد حشرهم في كهوف يتعمّد تسريب الدخان الخانق اليها فمن بقي اختنق و من غادرها استقبله سيل من الرصاص.. و قد بلغ كره والدته لذلك السفاح حد مقاطعته ثم رفض المشي في جنازته. ذات مرة كنت بصحبة كريم حامد حينما مرت بنا عربة اسعاف تنطلق مدوية بصفارتها المزعجة وجدته يقول بلهجة المتشفّي: ـــ الي الجحيم ، الحمد لله هذا كافر أقلّ . شعرت باشمئزاز شديد من طريقة تفكيره ، قدرت ان من العبث تذكيره برحمة محمد وحزنه الشديد على مصير الكفار من قومه اكتفيت بالتساؤل بيني و بين نفسي هل يعقل ان يكون هذا الفظ الغليظ القلب من اتباع محمد؟ رغم ذلك وجدتني اقول له: ــ مالذي جعلك تجزم انه من أصحاب الجحيم؟ ــ اليس كافرا ؟ ــ نعم هو كذلك، ولكن لا احد يعلم مصيره الا الله خصوصا ... قاطعني بحدّة : ـــ هل تـنكر ان النار مثوى الكافرين؟ ـــ هذا لو فهم الإسلام كما بلّغه الرسول ثم رفضه بعد ذلك؟ ـــ اتق الله واتبع ما كان عليه السلف الصالح فهم كسفينة نوح من تخلف عنها هلك. ـــ حتى لو خالف قول السلف ما جاء في القرآن؟ ـــ يا سبحان الله و هل يمكن ان يخالف سلفنا الصالح ما جاء في القرآن؟ ـــ سلفك الصالح هم سبب كل بلاء حاق بالمسلمين، ولولا جهلهم بدين محمد لما صارت امتنا مبولة للعالم ومسخرة للعقلاء. قال وهو يبتعد عني : ـــ الآن فقط تأكدت من ضلالك، وصدّقت كل ما سمعته عنك. ـــ لكنني تاكدت من تفاهتك فور معرفتي بك. منذ ذلك اليوم وضعت كريم حامد في أسفل قائمتي السوداء.في حين تصدّر اسمى أعلى قائمة اعدائه بما فيهم اليهود و النصارى و البوذيين و الملاحدة. جنون دكتاتور ليبيا هو الذي جعله يعتقل كل ملتزم بالصلاة حتى لو كان فقمة سلفية عاجزة من صنف كريم حامد.. السلفية الجهادية التي ينتمي اليها بن لادن مولود جديد ..لا هو ذكر ولا انثى .. مسخ لا يزال يبحث عن جنس ..ان تقول سلفية جهادية كان تقول راسمالية شيوعية لأن السلفية تحرم عصيان الحاكم . حينما توطت علاقتي ببلال سألني بعد تردد و بكثير من الحرج: ــ أخ سامي ... هل يجوز للرجل لعق فرج زوجته؟ يا لتفاوت ما بين الرجال في إهتمامهم بجسدالمرأة، ففيما يكره البعض رؤية فرجها تجد البعض الآخر يدسّ وجهه فيه! وفي حين يتهرّب بعضهم من جماع امرأة فاتنة،يلذّ للبعض الآخر جماع جثة آدميّة، بمناسبة ذكر الجثث.. ذات مرّة أبصرت في مدينة الكاف التونسية شابّا يستمني بين القبور!! كما حدث في مدينة باجة التونسية أيضا أن أخرج شاب جثة فتاة ثم شرع في اغتصابها بكل حماس! أجبت بلال الفرنسي ضاحكا : ـــ لا بأس بذلك لو كان يمتلك الشجاعة الكافية! بعد ذلك اضفت : ـــ لكن لا يجوز له اعتبار زوجته غير مطيعة لو رفضت لعق ذكره. ـــ .... ــــ فالمسألة كما ترى حسّاسة جدّا، و لا يمكن جدولتها ضمن "الطبيعيّ" من الممارسات الجنسيّة. مع فتحه صفحة جديدة من حياته كمسلم، فتح بلال الفرنسي مقهي صغيرة لبيع المرطّبات بعد إغلاق الخمّارة التي كان يديرها حين تبيّن له أن الإسلام لا يحرّم بيع الخمر فحسب، بل و حضور مجلس تتناول فيه المسكرات. حين أدركت المركز الثقافيّ الباكستاني، وجدت الباب الخارجي نصف مفتوح.. توقفت قليلا حين سمعت ما يشبه الهمس.. حين دفعت الباب صعقت بمشهد كهلين نرويجيّين، كان أحدهما يجلس مكشوف العورة على الدرجة الثانية من السلّم الحديدّي المؤدّي الى غرفة مساعد الإمام، فيما جثا الثاني على ركبتيه وقد انحنى ملتقما ذكر صاحبه!...أصبت في الحال بغثيان.. لم أتمكّن من وضع يدي على فمي كي أمنع تدفق القيء، أثناء ذلك سمعت الشاذين النرويجيين وهما يتمتمان بما لم أتبيّنه أثناء مغادراتهما المكان. كانت رائحة الخمر تنبعث منهما بقوّة.. اللعنة.. هل ضاقت عليهما الأرض حتى يختارا هذا الموضع لممارسة شذوذهما؟ اجتاحتني كآبة شاملة، وغمرني إحساس بالتفاهة و الضياع حتى لعنت نفسي و لعنت النرويج ومن تسبّب في إرسالي إليها.. كان القيء قد لوّث ثيابي الى درجة لم يعد في إمكاني الصّلاة دون تغييرها، لأجل ذلك سارعت الى دورة المياه مكتفيا بغسل حذائي و مسح بعض ثيابي ممّا علق بها من القيء، ثم قفلت راجعا الى عمارتي اللعينة و أنا ملوّث الجسم و الرّوح. الفصل العاشر مواقف عنصرية رجعت من المسجد و أنا مدمّر النفس شديد الإكتئاب . ليس من المخجل، ما دمت في النرويج، أن اعترف باكتئابي.. في البلاد العربية يعدّ المرض النفسي وصمة و ترفا.. وصمة لأنه القرين أو على الأقل، المبشّر بجنون قريب. و ترفا، لأنّ التفكير بمعالجة الأمراض الجسدية يحتل الأولوية القصوى التي تجعل الإهتمام بالإكتئاب، كإهتمام صوماليّ ينتظر الموت جوعا، بعطر ما بعد الحلاقة!.. الإكتئاب في بلادي قاسم مشترك بين الجميع، على كل مواطن ترويض نفسه على التعايش معه، كما على كل أعور تعويد نفسه على التعايش مع العور.. كل شخص في بلادي يعاني اكتئابا بدرجة ما، فالناس هناك كحفاة يعبرون حقلا شائكا.. شكوى أحدهم ألم الوخز، لن يجلب له أي تعاطف، فكلّ شخص مشغول بتنقية قدميه من الأشواك. .. شخصيا لديّ أسباب كثيرة تجعلني في حالة اكتئاب مستمرّ. أن أكون منتميا الى امة اسلامية ينظر فيها الى المتدين كإرهابي و الى غير المتدين كسارق . أن أكون على مشارف الخمسين دون أن أحصل على شغل قار . أن أ كون مهددا بالترحيل الى بلدي حيث التعذيب و الإهانة و حتى الإغتصاب . ،أن يكون انتمائي الى أمة عربية مهزومة يستخدمها الغرب كمجال حيوي و مخزن وقود و مدفن لنفاياته النووية و مبغي للشواذ الجنسيين. أن أسكن في عمارة لعينة لا يحسدني عليها نزلاء السجون الذين ينامون دون ازعاج ثم لا يقطع نومهم أزيز مثقاب كهربائي يمزق سكون بعد منتصف الليل ،أو زعيق صبية ملاعين ينهقون كأحمرة وحشية . أن اذبح يوميا بسماع اخبار بن لادن وقاعدته البغيضة، وايران و سلاحها النووي المضحك و حزب الله و انتصاراته الزائفة على اليهود. أن اصفع بفتاوي محبطة كفتوى كهنة الأزهرشعب مصر بجواز لكل الجرذان و الذباب.. أخيرا أصدر مفتي مصر بفتوى جواز شرب بول الرسول! حين سئل المفتي البوّال عن الاحتلال الأمريكي للعراق أجاب بأنّ السياسة لا تعنيه و لا تدخل ضمن اهتماماته البوليّة ! ـــــــــ ص 72 ـــــ ـــ سامي... حكّر أي حجة تعللت بها باكستان لتبرير عدم ردّها على التحرش العسكري الهندي بها ؟ . أجبت رشيد : ـــ قلة العدد!! فالمساكين لا يتجاوزون200 مليون نسمة ! ــــ صدق او لا تصدّق، المبرر الذي اعلنته حكومة باكستان لعدم ردّها على تحرش الهند بها هو حماية سلاحها النووي من التدمير! في الحقيقة كنت قد قرأت منذ يومين إعلان باكستان أن خشيتها من تدمير سلاحها النووي من قبل الهند هو الذي حملها على ضبط النفس!.. في ظل وضع امتنا العجيب اصبح السلاح الذي جعل للحماية يحتاج بدوره الي حماية ! كل شيء يحمل على الإكتئاب.. لو كان في امكاني هجرة المساجد لذهبت الى شمال النرويج و اختفيت في جزيرة منسية حتى أموت.. حدثني محمود الصومالي أن بإمكان كل أحد هناك السّكن في كوخ كبير بثمن رمزي.. عليه فقط أن يستأذن.. ليتني أضع التلفزيون في الحاوية و احرق كل كتبي ..الفرق بيني و بين السجين أن الأخير يعلم متى تنتهي فترة سجنه، في حين انني اجهل هل اموت غدا أم اظل معذبا في بلاد الفيكينج لثلاثين سنة اخرى، عمري الآن خمسون. لو كنت أفغانيا لأنتهى عمري الافتراضي منذ 11 سنة . أن أكون في بلد غريب أتعرض فيه بين الحين و الحين الى مواقف عنصرية مميتة، أن أحسد ديدان الأرض على توفيقها في تبليغ أبناء فصيلتها ما تريده بصورة أوضح، أن افقد لغة التواصل فابقي أبحث بيأس وعجز عن العبارة المناسبة من قاموس لغة نرويجية مرهقة... في الحقيقة ليست اللغة النرويجية بالغة التعقيد الى هذا الحدّ، لكن الرغبة في تعليمها خنقت عندي في المهد.. إتقان لغة ما يقتضي التواصل و الحوار مع أهلها، أنا ارفض التواصل و أتجنّب الحوار، و لا أريد التعرف على أحد خارج نطاق العمل..كثيرا ما احفظ افعالا وجملا كاملة سرعان ما انساها، ليست لي الرغبة في تعلم لغة أشتم بها، الأفضل أن أعلم منها الحدّ الأدنى. صحيح هناك في النرويج رجال رائعون ونساء طيبات، لكن مجرّد تصريح فرد واحد من أسرة ما، عن عدم رغبته في استقبالك، سيجبرك على التواري، حتى لو رحّب بك الجميع، هذا لو كنت تمتلك حدّا أدنى من الكرامة،.. وجود قطرة سمّ في مليون قطرة من شراب شهيّ سينغّص عليك الشّرب.. منذ الأسبوع الأول نفرت من النرويج والنرويجيين. في يومي الخامس..حين سألت عجوزا عن موعد قدوم الحافلة نظرت إليّ، غمغمت بكلمات ثم صرفت عنيّ وجهها، لم تكتفي بذلك، بل ابتعدت عني ثلاث خطوات وأخذت ترمقني باحتقار ظاهر.. في أسبوعي الثالث في" تين هوتيل"، طلب مني لاجئ جزائري التقاط صورة عائلية له فوق قارب صغير كان يرسو على ضفة بحيرة نصف متجمّدة، ترددّت في تـناول آلة التصوير من يديه. توجست شرّا .. قلت له محذرا: ــ لا أنصحك بذلك، قد يفاجئنا صاحب القارب . ــ يا راجل لا تهوّل الأمر. ـــ تذكّر أنك لست في الجزائر ..أخلاق النرويجيين ليست كأخلاقنا. كأغلب الجزائرين، لم يكن مستعدّا لأي معارضة، كان عنيدا كبغل، وقاطعا كنصل سكّين. ردّ عليّ هازئا: ــ لا أتصوّر أنّ مجرّد إلتقاط صورة سيثير حفيظة أحد، خصوصا وأن القارب مقفر. ــــــــ ص 73 ــــــ كان القارب صدئا و خاليا من كلّ تزويق، كما كان منزوع المحرّك و بلا مجدافين. التفت حولي لأتأكّد من خلو المكان، كان إحتياطي كافيا لإغضاب جزائريّ متهوّر. ــ يا دين الربّ .. التوانسة قتلكم الخوف! آلمني نعته لي بالخوف، خصوصا بحضور امرأة، آثرت السّكوت، واكتفيت بشطب اسمه من قائمة الأصدقاء المحتملين. كان السكون يهيمن على المكان، إلا صوت نوارس البحر و نعيق بعض الغربان. فور التقاطي تلك الصورة اللعينة، قفز الجزائريّ من القارب، في حين شرعت زوجته الشابة في رشّ وجه صغيرتها بما علق بيدها من ماء البحيرة، فجأة سمعنا صراخا يصلنا من بعيد، حين التفتنا رأينا نرويجيا بدينا في نحو الأربعين يندفع نحونا كبرميل يتدحرج من هضبة، كان يلوّح بقبضته في الهواء مشيرا الى قاربه تارة، والى الشاطئ تارة أخرى، حين اقترب منّا خفّف من سرعته لكنه لم يكفّ عن الصيّاح و التلويح بذراعيه، لمّا وصل الينا زاد صراخه ارتفاعا لكنه لزم مكانا واحدا ثم اخذ يرتفع في الفضاء و ينخفض ضاربا الأرض بكلتا قدميه، كما يفعل طفل صغير سلب منه أعز ما يملك ! لم يحدّ من غضب النرويجيّ مغادرة زوجة الجزائري قاربه ، بل واصل صياحه. كان الجزائري أميّا ــ كما تبيّن لي فيما بعد ــ، لكنه شرع يردّد كلمة واحدة كنت أسمعها لأول مرة .علمت فيما بعد انها اقذر شتيمة نرويجية، كانت تلك الكلمة النرويجية تتخلل جملا عربية و اخرى فرنسية مكسّرة . صاح بي الجزائريّ و كأني صاحب الجرم: ــ ترجم لهذا الحلّوف ( 1) بانني سأهشم وجهه إن لم ينصرف حالا، فقد تركنا له قاربه الحقير. لم يقنع النرويجي الغاضب أي تبرير، استمرّ في اللعن و التلويح بيديه لكنه توقف عند ذلك الحدّ . بذلت جهدا كبيرا حتى أمنع الجزائري الغاضب من الوصول اليه، سحبته بعنف فأزداد عنادا، حاولت اقناعه بان تصرّفه الأحمق لا يخدمه كطالب لجوء، لم يلتفت الى قولي. اتهمني بالجبن مرة أخرى، كان لا بدّ له من اشباع حاجة جزائريّة الى التحطيم، رأى في تصرّف النرويجي مساسا بالشرف، لا يمحوه الا الدمّ، لا بدّ له من تهشيم فكّ أو شيء ما.. حين تمكنت من السيطرة عليه، انتزع مني آلة التصوير أمسكها من سيرها الجلدي، طوّح بها في الهواء ثم ضرب بها الأرض، تناثرت قطعا صغيرة ألقى ببقيتها بين قدمين نرويجيتين لا يزال صاحبهما يرتعد من الغضب..صاح بي ثانية: قل له لا اريد شيئا يذكّرني بحلّوف مثلك. بعد ساعتين وجدت من يطلبني في الإستقبال، حين وصلت الى هناك وجدت شيخا نرويجيا مهذّبا قدمته لي موظفة الإستقبال على انه والد الكهل الغاضب. كان الشيخ يرتجف من الكبر، رحّب بي ثم استفسر عن موطني، اخبرني انه زار بلاد عربية كثيرة، وله أصدقاء عرب كثيرون.. بعد ذلك عبر لي عن خجله الشديد من تصرف ولده: ــ لو فعل ذلك مع أي شخص من جنسية أخرى لم يكن ذلك يؤلمني بقدر ما آلمني تصرفه معكم بتلك الطريقة... لا شك ان ذلك قد حدث بسبب السكر. قبلت عذره وشكرت سعيه، لم أر من الضروريّ ايصاله إلى غرفة الجزائري، اكتفيت بطمأنته بأنني سأعتذر للمتضرر نيابة عنه، لم يكتف الشيخ بوعدي، بل اشترى من الإستقبال بطاقة بريدية عليها مشاهد طبيعية، كتب عليها عبارة اعتذار و ترحيب ثم رجاني تبليغها الي المتضرّر. في جزيرة "ساند توشون" لقيت من التمييز العنصريّ ما ازددت به إحتقارا لنفسي و لمن حولي.. في أكثر من عشر مناسبات، كان سائقو السيارات يؤذونني بإشارات البذيئة و زعيقهم العنصري المزعج. في كل مرّة كان المعتدون اثنين على الأقل .. العملية تكون مفاجئة و اكثر تدميرا للأعصاب، حين تتمّ أثناء عودتي الى مركز اللجوء.. كان الإنحدار الشديد للطريق يخوّل ــــــــــــــــــ (1) الخنزير ـــــ ص 74 ــــــ للمعتدين إسكات محرّكات سياراتهم و تركها تنساب دون ضجّة، و حين يقتربون مني، يفاجئونني بارسال زعيق مصمّ للآذان.. قبل أن أستفيق من المفاجأة، كانوا يشغّـلون محرّكاتهم و ينطلقون بسرعة مطلقين سبابا و إشارات بذيئة.. لم يتجرأ أحدهم على فعل ذلك حال ترجله. ذات ليلة شتوية،استيقظنا على صوت انذار بالحريق، كانت الساعة الثالثة صباحا. كانت عائلتي الصغيرة تشارك عائلة صديقي فراس فرحاني أحد بنايتين خشبيتين خصصتا لسكن العائلات، في حين كانت الأخرى فارغة. أما عزاب الصوماليين و السيريلانكيين فقد كانوا يسكنون غرفا صغيرة تضمها بناية طويلة وضيقة تشبه قطارا رابضا. فيما أخذنا نتساءل عن سبب الإنذار، فتح باب البناية ودخل الشرطي المكلف بالحراسة، و على أثره الرائع" هوكون سيند" مدير مركز اللجوء.. فور دخوله طلب منا هوكون سيند مغادرة البناية في الحال، كان شاحب اللون و يبدو خائفا، رغم تصنعه الإبتسام . ـــ لطفا لا تنزعجوا.. منذ اقل من خمس دقائق تلقينا مكالمة هاتفية من اشخاص مجهولين ينذروننا بوجود قنبلة موقوتة قد تنفجر بين الحين و الحين.. قد تكون مزحة عنصرية ثقيلة لكن لابد من الإحتياط ". طلب منا الخروج مباشرة دون أخذ أي شيء.. أغمي على زوجة رفيق السلاح فراس فرحاني فأخذت مباشرة الى المستشفى برفقة زوجها، لم يكن لهما أطفال في ذلك الحين، حين غادرنا البناية الخشبية وجدنا ارتالا من السيريلانكيين و الصوماليين يطلقون سحابات كثيفة من دخان سجائرهم وهم يتجهون نحو بناية اسمنتيّة كبيرة تقع على بعد 500 متر من مقر اللجوء. كانت البناية عبارة عن مصنع كبير مهجور اتخذت إدارة اللجوء من بعض غرفه قاعات لتدريس النرويجية.. لحقنا بهم و بقينا هناك الي الساعة الخامسة صباحا...في غيابنا، جاء البوليس و خبراء المتفجرات و فتشوا المكان لم يجدوا شيئا. رجعنا الى بيوتنا.. بعد شهر تكرّر نفس الشيء، ايقظونا ليلا بنفس الحجة، ثم حملونا الى جناح كبير في مستشفى المدينة بقينا هناك ساعة أو ساعتين ثم أرجعونا، في المرة الثالثة والأخيرة ــ بالنسبة لنا على الأقل ــ اخذونا الى نزل قضينا فيه بقية ليلتنا. ازدادت قناعتي باني شخص غير مرغوب فيه، حين دعاني هرالد الي بيته ،كان "هرّالد" نجّارا نرويجيا و ناشطا سياسيا في الأربعين من العمر استقدم الى مركز اللجوء في مهمة تتمثل في تركيب ابواب جديدة و صنع أرجوحة للأطفال مع سلم خشبي يربط مسكننا ببقية مركز اللجوء... استغرق عمله أكثر من شهر. كنت اراه يوميا لأنه كان يعمل أمام بيتـنا الخشبي، كان ودودا و مرحا، لنقل كان رجلا جيدا بالمقاييس الإنسانية، ربط صداقة مع ولدي ياسين الذي كان عمره سنة واحدة.. كان يحلو لياسين اللعب ببعض أدوات عمل هرّالد و كان الأخير يسمح له باللعب ببعضها. أعجب هرالد كثيرا بالأكل التونسي. في كل مرة نقدم له فيها طعاما كان يبدي دهشته: ـــ هل هذا الطعام مجانا؟ هل أنتم متأكدون؟ كنا نقول له" انت ضيف و لا يمكن أبدا اخذ أي مقابل لقاء ما نقدمه لك من طعام " كنرويجي، لم يكن يتصوّر أبدا تقديم طعام الى ضيف طارئ لم يقع استدعاءه مسبقا، كنا نعجب من قوله كما كان يعجب من تصرّفنا. ذات مرّة قدمنا له صحنا كبيرا من الطعام ليحمله الى بيته، بعد أن عبّر لنا عن رغبة زوجته في تذوق الطعام التونسي.. حين اقترب عيد ميلاد المسيح دعانا هرّالد الى بيته، اعتذر فراس فرحاني ووافقت انا. اشترطت على هرّالد عدم تناول الخمراثناء حضورنا، وافق الرجل دون تردّد.. كنت اعلم انه لا يجوز حضور هاته الحفلات الدينية. ـــ لو كان سيحتفل بالمسيح كنبيّ لسارعت دون تفكير، لكن القوم يعتقدون ان الرجل اله و ابن اله في نفس الوقت". هكذا برّر رفيق سلاحي فراس فرحاني عدم قبوله الدعوة، لم أجادله في ذلك لأنه كان على حق ، لكن ــــ ص 75 ــــ طيبة هرالد أخجلتني وشلّت تفكيري.. كان فراس فرحاني خجولا مثلي. لو كان على معرفة أكثر بهرّالد لغلب خجله تدينه.. كان فراس فرحاني يدرس وقتها في معهد المدينة، و كان يغادر مقرّ اللجوء مبكرا ،لأجل ذلك لم يكن يلتقي بهرّالد إلا بما يسمح لهما بتبادل تحيّة مقتضبة. في الثامنة ليلا، كان هرّالد ينتظرنا بسيارته، كان بصحبته فتاة سيريلنكية استدعاها أيضا بالمناسبة..لأول مرّة سأدخل بيتا نرويجيا..أثناء الطريق كنت وجلا ومشتّت الذهن، لأجل ذلك، لم أعر ما يقوله هرّالد كبيراهتمام، كان البحر على يسارنا وكنا نمرّ بسلسلة جبال شاهقة و متاخمة للبحر تحتلّ كامل الضفة المقابلة. ـــ .... هاته السلسلة الجبلية تسمى " الشقيقات السبع". فعلا كان هناك نتوءات سبع تفصل بينها انحدارات حادّة . فاتتني متابعة هرّالد وهو يشرح سبب تلك التسمية، لابدّ أن لها خلفيّة اسطورية، كنت متوترا بعض الشيء ولديّ شبه يقين بأنني قد وقعت في ورطة. " الخجل سيؤدي بك الى قطع رقبتك في يوم ما " هكذا كانت والدتي تؤنبني دوما كلما ارتكبت حماقة تحت ضغط الخجل. كنت مطمئنا الى هرّالد، فتقييمي للرجال الجيدين قلما يخطئ، كما كنت مطمئنا الى ابنته الشابة التي كانت كثيرة التردّد على مركز اللجوء مع أتراب بها، رأيتها مرارا وهي تحادث شبانا سيريلانكيين بشكل يكشف عن انسجام و رضى. لكن ذلك لم يمنعني من التوجّس من زوجته و بقية أولاده.. قد يكون ترحيبهم بنا بقدر غير كاف،وهذا سيؤلمني.. منذ قدمت إلى النرويج أصبح أيّ موقف عنصريّ يسبّب لي أياما طويلة من الإكتئاب، لأجل ذلك كنت أتحاشى مثل تلك المواقف بقدر المستطاع. لحظة دخلنا بيت هرّالد، تلاشى جزء كبير من مخاوفي، حين تم استقبالنا من قبل ربة البيت، كان وجهها البشوش وابتسامتها الصادقة تمنحان الكثير من الطمأنينة.. وهو يلج المطبخ قال هرّالد: ـــ هذه بيريت ... زوجتي . قالها بفخر كبير . سلمنا على بيريت ، كانت امراة جميلة في حوالي الأربعين، أشارت الى فتاة شابة في نحو العشرين كانت تقف علي يمينها . ــ تونا... وسطى أبنائي .. تعرفونها دون شك ؟! ـــ اهلا تونا... سبق لنا ان شاهدناها في مقر اللجوء . لم نكن نعرف اسمها قبل الآن . ــ وهذا ولدي بيارن، في التاسعة، ابنتي الكبرى اسمها توفا متزوجة و تسكن قريبا، ستحلّ بيننا بعد قليل، قد يأتي معها زوجها، هي ليست متأكدة على كل حال، قالت أنه متردد بين المجيء الى هنا و بين قضاء ليلة عيد الميلاد رفقة والدته. خرج هرّالد من المطبخ و هو يقول : ــ تقولين توفا وزوجها؟ هل رجعا من السويد؟ ــ نعم اضطرا الى الرجوع بعد استدعاء زوجها بصفة استعجاليه.. انتظرتك ليلة امس طويلا حتى اخبرك بذلك ولكن يبدو انك رجعت متأخرا. التفتت الينا الزوجة بيريت موضّحة : ــ كارل، زوج ابنتي يشتغل مبنّجا في مستشفى المدينة.. كان يعتزم قضاء عيد الميلاد في السويد، لكن لسوء حظه ان زميلا له تعرض الى حادث شغل فاضطرت الإدارة الى استدعائه فورا ـــــــ ص 76 ـــــــــ كي يعوضه .. لاحظت ان وجه مضيفي قد فقد بريقه تماما، اتجه الى مكتب خشبي ثم رفع سماعة الهاتف متمتما: ــ لا بد لي أن أتأكد من عدم حضوره. شكّل الرقم ثم انتظر قليلا . ــ ألو توفا... هل انت بخبر..؟ نعم أنا كذلك.. أخبريني.. هل سيأتي كارل معك...هل انت متأكدة؟جيّد نحن في انتظارك. حين وضع السماعة كان الإرتياح باديا على وجهه : ـــ لن يـحضر كارل.. قررعدم المجيء. جلست مع مضيفي نتبادل اطراف الحديث في حين صعدت زوجتي والفتاة السيريلانكية الى الطابق الثاني رفقة مضيفتنا.. اندفع هرالد يحدثني بكلّ تلقائية : ـــ صدقني سامي، أنا لم ارتح يوما الى كارل زوج ابنتي ... اللعنة ... انه شخص سيء بكل المقاييس.. لست ادري كيف راق لتوفا حتى تختاره زوجا؟! لم اعلق بشيء، هذا الأمر لا يعنيني. اكتفيت بهزّ كتفي . واصل هرالد : ــ لو اعطيت لي حرية الإختيارلما قبلت به زوجا لها . قلت له ضاحكا: ـــ على كل حال لست باكستانيّا أو مغربيّا حتى تلام على سوء اختيار صهرك! أخبرت هرالد أن السلفية تجعل للأب حق غصب ابنته على زوج لا ترغب فيه، المخجل انهم ينسبون ذلك العمل المتخلف الى الإسلام .. في دين محمد يختلف الأمر.. فتاة في عهد الرسول رفضت زوجا اختير لها من قبل والدها، فاحترم النبي الخاتم إختيار الفتاة. السلفية ترفض رؤية الخاطب أي جزء من جسد خطيبته. في دين محمد يجوز للخاطب ان يرى المخطوبة دون حجاب، بعض الفقهاء أجاز له التلصص عليها لرؤيتها عارية لو امكنه ذلك. بعد نصف ساعة كان العشاء جاهزا...حين شرعت الأم في توزع الطعام دقّ جرس الهاتف، رفع هرالد السماعة أستأذننا قبل ان يلج غرفة مجاورة موصدا الباب خلفه، بعد ثوان قليلة من دخوله، رنّ جرس الباب الرئيسيّ، أسرعت تونا لفتحه، رايتها تقبّل فتاة تشبهها ولكنها تبدو اكبر منها سنا و أقصر قامة.. بدا لنا ايضا شاب نحيف نظر الينا مباشرة، ثم أشاح بوجهه عنا، كان كمن التقى بشبح، بعد تبادل التحية دار بين تونا و ضيفيها حديث خافت استغرق أكثر من المعتاد ..لم يكن لوقوفهم الطويل غير معنى واحد.. كان الباب لا يزال مفتوحا،و كنت اتابعهم بقلق، ماذا ينتظرون لو كانوا يعتزمون الدخول حتى يشرعوا في نزع أحذيتهم المبللة و معاطفهم الثقيلة؟! حين اطل هرالد من الغرفة كان يبتسم : ـــ بيريت تصوّري انّ... حين التفت الي الباب الخارجي ورأى كارل و زوجته، انطفأت ابتسامته، رمقنا بوجه قلق. ـ عن اذنكم. في طريقه نحو القادمين الجدد سحب هرّالد زوجته من يدها، .. بعد قليل سمعنا الباب يغلق.. ثم راينا توفا تتقدم نحونا يتبعها والدها. سلمت علينا، كسائر أفراد أسرتها، كانت مرحة وودودة رغم اضطراب واضح كان يبدو على وجهها. جلس هرالد في مكانه، لم نر كارل.. ربما انصرف. لم يرق له رؤية أربعة اجانب دفعة واحدة، لم ـــــ ص 77 ــــــ تجلس توفا معنا بل حملت طفلها وقالت انها تفضل الإلتحاق بزوجها في الطابق العلوي لمشاهدة برنامج تلفزي سيبدأ بعد قليل.. إذا هو لم يغادر البيت، فعلا كان معطفه معلقا. بعد الفراغ من الطعام تحولنا الى الجلوس على الأرائك، كنت قلقا، حتى الطعام لم أستسغه، كنت انتظر الكارثة و استعجل الرحيل. استعرض هرالد البوم العائلة و صور المناسبات الكبرى، الزفاف الولادة والنجاحات الدراسية .عرض عليّ صورة كبيرة يبدو فيها وهو يتسلم ميدالية بمناسبة فوزه في سباق ماراتون محلّي، كان ذلك قبل عشرين سنة.. بعد فترة قصيرة سمعنا ضجة على السلم الخشبي المؤدي الي الطابق الثاني.. كان كارل ينزل . حين دنا منا قال لصهره وهو يجلس دون اسئذان . ــ مساء الخير ايها العجوز السمين . أشار اليّ هرالد: ــ هذا سامي.. من تونس. حين جلس كارل قبالتي لم يكلف نفسه مجرد النظر إليّ، فور جلوسه تحسّس جيب سترته ثم أخرج علبة مالبورو.. تناول سيجارة. ثم رمى العلبة علي الطاولة.. شرع يفتش في جيبه كان يبحث عن الكبريت، تجاهل تماما ما قاله هرالد بشأني كما تجاهل وجودي أصلا.. ــ اللعنة يبدو انني نسيت ولاعتي .. هل يمكن استعارة ولاعتك. رد عليه مضيفنا بحدة لا تخفى: ــــ آسف .. فسامي وزوجته يزعجهم التدخين ..والفتاة السيريلانكية ايضا. همهم كارل بكلمات غاضبة لم افهما لحسن الحظ، قبل ان يرجع سيجارته الى العلبة، دون أن يخفي تبرمه و ضيقه.. مما ساعدني على التماسك، كان تلقيّ تلك اللطمة العنصرية على مراحل، لأجل ذلك لم افقد السيطرة على أعصابي، كان تصريح هرالد السّابق برأيه السّيء في صهره ما يكفي لتعزيتي.. على ألأقل أنا أتمتّع بتضامن هرّالد، هذا يعني انني لا أقف على أرض معادية.. رغم ذلك كنت أرغب في مغادرة المكان، لكن حرصي على عدم تمكين كارل من فرصة الشعور بالنصر و بأني قد تأثرت من سلوكه العنصري جعلني أعرض عن ذلك.. كانت الساعة الحائطية تشير الى التاسعة و النصف. فيما كنت اتأمل سقف البيت سمعت كارل يزمجر بحنق: ـــ أخبرني بحقّ السّماء،هل احتاج مركز اللجوء اللعين استخدام بيتك ايضا؟ حينذاك انتفض هرّالد واقفا: ـــ كارل.. كفّ عن هرائك.. لن أسمح لك بإهانة ضيوفي، فإمّا أن تغلق فمك أو تغادر البيت. لم يعلق كارل بشيء، بقي فاغرالفم .عمّ صمت طويل قطعه تساؤل توفا وهي تنزل من السلّم الخشبيّ. ــ أبي.. ماذا حدث؟ حين وصلت الى كارل صرخت فيه: ـــ ماذا تفعل هنا، ألم تعدني بمغادرة البيت مباشرة؟ لم تنتظر توفا جوابه بل أمسكته بحزم، ثم جرّته من تلابيب ثوبه حتى أوصلته الى الباب، قبل خروجه التفت كارل نحونا، أراد أن يقول شيئا، لكنها قذفته خارجا ثم تبعته .. المرأة النرويجية قويّة و صلبة و شديدة الثقة بنفسها.. خلال ـــــ ص 78 ــــــ عشرين سنة من اقامتي في النرويج شاهدت أربعة نرويجيين أقوياء يتلقّون صفعات نسائيّة في الطريق العام وعلى مشهد من الجميع.. كان الواحد من هؤلاء الأربعة يستقبل الصفعة دون تعجب أو ردّ.. شيء جميل .. نوع من الفروسية .. لنقل صفعة غير رسمية. الحمد لله ليس لي بنت.. كم سأكون شقيا لو تزوجت سلفيا يضطهدها ..99 في المائة من الذين يضربون زوجاتهم يستحقون الضرب لأنهم معتدون و جاهلون . صحيح ان الضرب قد ورد في القرآن لوسيلة علاج و لكنه علاج استثنائي .. كمشرط الجرّاح.. ما ذنب الإسلام اذا استعمل المسلمون المشرط لعلاج الصداع بدل الباراسات (1) Paracet . في الإسلام ضرب الزوج لزوجته يكون مبرمجا .. و بعد فشل جميع الوسائل: الموعظة الهجر في الفراش، تحكيم الأقارب.. وعند الضرب لا يكون الزوج متوتّرا. و إلاّ فإنّ الضرب سيكون مجرّد تنفيس عن حقد ذاتي، الضرب ايضا لا يكون على الوجه و الأماكن القاتلة ..الغاية من الضرب ايصال رسالة ترغب فيها شريحة من النساء رسالة تشعرها في كونها تعيش تحت حماية قوة اكبر منها و ترضي شعورها الماسوشي لطلب الضرب... بعد قليل رجعت توفا لوحدها. اعتذرت لنا جميعا ، ثم عادت مسرعة إلى الطابق الثاني كان رضيعها يصيح . بقيت مع هرالد حتى العاشرة و النصف في نهاية السهرة اوصلنا الى مقر اللجوء .في الطريق أعلمني انه قد قصّر في حقنا حين أعطى كارل فرصة الصعود الى الطابق الثاني و لم يطرده فور قدومه. بعد ثلاثة أشهر، و حين غادرت جزيرة "ساند نوشون" خلّفت ورائي أشخاصا جديرين بالإحترام و آخرين جديرين باللعنة. و كان هرّالد في مقدمة الفصيلة الأولى بعد الرائع "هوكون سيند" مدير مركز اللجوء . ــــــــــــــ (1) دواء نرويجي لعلاج الصداع . الفصل الحادي عشر طفولة شقيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كانت صورة اللوطييّن النرويجييّن الأشيبن ترد على مخيلتي فتضاعف تقزّزي وتزيد توتّري، و تمنعني السلام و بالتالي من النوم.. كآبتي جعلتني أفكر في أب الكآبة و أم الكآبة و مخزن الكآبة... في صديقي رشيد الجزائري. رشيد رجل مكتئب بالميلاد.. خلق موبوءا بالأفكار السوداء.. لا يمكن ان تمرّ فترة دون أن تسكنه وساوس قهرية، أو يؤرقه تعذيب ضمير متطرّف الحساسيّة. إجتمع لدى رشيد العامل الوراثي، والإستعداد الفسيولوجي وصدمات الحياة ليكون مكتئبا نموذجيّا .. كنت أعلم أنّ رشيد يعاني صراعا نفسيّا، و احتقارا ذاتيّا، و خلافا زوجيّا، و بلادا نرويجية لم يتأقلم معها، و سياسة عالمية جائرة، و قروحا سنيّة و شيعية غير قابلة للبرء. ممّا ضاعف محنة رشيد أن كل عزاء محظور عليه. لا كأس خمر ينسيه ولا عشيقة تناجيه.. كل تسلية ممنوعة بالنسبة له. على رشيد أن يكابد عمليّة جراحيّة دون مخدّر، كشأن ـــ ص 79 ــــــ أطفال البوسنة الذين تبتر أطرافهم بسكاكين المطبخ، وهم يطلقون صيحات ألم مروّعة . ــ حين تمنيت الموت بصاعقة من السّماء، اتهمك بعض المصلين بضعف الإيمان! ــ السلفي كريم حامد دون شك. اليس كذلك ؟ ـــ أجل هو نفسه ـــ ..... كان كريم حامد أغبى بكثير من الإقتناع بفقدان الصلة التامة بين الاكتئاب و ضعف إلإيمان، لأجل ذلك قدّرت أن من العبث إعلامه أن "الإكتئاب يحصل نتيجة تفاعل عوامل كثيرة منها العامل الوراثي، حيث اثبتت عدة دراسات أن نسبة هذا المرض بين التوائم المتماثلة تصل الى 68% و حوالي 23% في التوائم المتآخية...[ رشيد توأم!!] و منها عوامل البيئة، و منها العوامل البيوكيميائية التي يسبّبها التعرّض لإضطراب في الجهاز الغدّي أو الجهاز العصبي، أو في كيميائية الجسم، هذا بالإضافة الى الخلل العضويّ في موصّل الإشارة العصبية سيروتين الذي يحدث في الفصّ الوسطي من المخ في الجزء الأيمن من الدماغ ". اطال رشيد الصمت ثم اضاف: ـــ قبل عشرين سنة، قرأت قصة روسية قصيرة عن مريض حسبه الطبيب ميّتا لأجل ذلك تم دفنه حيّا.. كان المريض خلال تشخيص الطبيب و تكفينه و تجهيزه، واعيا بكل ما كان يدور حوله. غير انه كان عاجزا عن الحركة و الكلام...تصوّر سامي .. لقد بقيت حوالي عشرين عاما وأنا خائف من ملاقاة نهاية مشابهة للمريض الروسي.. حتى انني اقترحت ذات مرّة على زوجتي وضع هاتف نقاّل في تابوتي! و لكن منذ سنتين فقط، أصبحت أتمني لو أدفن حيّا... فلأتعذب ساعة أو عشر ساعات لنقل ثلاثة أيام. المهم أن اتخلصّ من هذا الواقع المؤلم بأي شكل من الأشكال... ــ هذا قدرنا يا رشيد، يجب علينا الثبات الي النهاية على أرضية هذه المحرقة البغيضة. رشيد يعلم .. ككل المسلمين ان من انتحر عذبه الله بالشيء الذي قتل به نفسه، فمن شنق نفسه يكون عقابه الشنق المستمر و من رمى نفسه من عمارة يكون عذابه إلقاء نفسه من ارتفاع مماثل. ــــ ليكن عزاؤك ذكر الجنة، و ما أعدّه الله للمتقين . ــــ لا حاجة لي في الجنة ليرحنى الله من هذا العذاب.. أستغفر الله العظيم .هل في امكانك ان تجيبني عن هذا السؤال؟ ــــ ... ــــ لماذا يموت الرسول في أوج قوته؟ و لماذا يقتل عمر بن عبد العزيز في الأربعين من عمره؟ و يبقى بورقيبة حيّا حتى يتغوط على نفسه و على كلّ الشعب التونسي؟ أسرّت زوجة بورقيبة إلى بعض مقربيها بأنها شمّت رائحة نتنة حين كانت تصحب زوجها الى البيت الأبيض للقاء الرئيس الأمريكي.. بعد فحص الحفّاظة الرئاسية تبين ان الديكتاتور الخرف قد فعلها على نفسه! ـــ هذا تقدير الهي لا يمكننا معه غير التسليم المطلق.. ثم لا تنس ان الله قد أمرنا بالتخلص من بورقيبة منذ اللحظة الأولى من اغتصابه السلطة، حتى نبرهن عن ايماننا. ــــ ص 80 ــــــــ أردت التخفيف من توتر رشيد.. حكيت له نكتة شهيرة راجت في تونس . رشيد يسكن في الحدود التونسية... في مدينة عنابة، كان بامكان رشيد التقاط بث التلفزيون التونسي بسهولة. لأجل ذلك كان مستوعبا لتاريخ الحركة الوطنية. كما كان يحفظ جيّدا تاريخ" المجاهد الأكبر" وهجرته الشهيرة الي ليبيا على جمل، و كيف امتطى حصانا عربيا أصيلا حينما استقبلته الجماهير في حلق الوادي و هو قادم من فرنسا فور حصول تونس الإستقلال الذاتي. ـــ النكتة تقول ان بورقيبة كان يقف بباب الجنة . ضحك رشيد ثم قال : ــــ كيف يقف بباب الجنة من هو أسوأ من ابليس؟ الكهنوت السلفي هو التي صوّر للشعب التونسي أن ديكتاتور تونس يؤمن بالغيب أكثر من أي تونسي.. ثم كيف يمكن للشعب التونسي التصديق بان بورقيبة لا يؤمن بالجنة، و هو يعاين البقرات السلفية المعممة وهي تمجّده ليلا و نهارا و توصي بطاعته و تحرّم الثورة عليه و تطلق عليه تسمية حامى الوطن و الدين؟!. رشيد يعلم ايضا ان بورقيبة حين بلغ السادسة و السبعين من عمره قد ألقى محاضرة في اطارات التعليم العليا أعلن فيها عدم ايمانه بالغيبيات، كما سخر من عصا موسى .. وادّعى أن القرآن متناقض . ـــ دعنا من هذا هات نكتتك و ليذهب بورقيبة الى الجحيم. ــــ بينما كان بورقيبة يقوم بوظيفة بواب الجنة، أقبل عليه جمل و طلب الدخول، سأله بورقيبة : ماذا فعلت لتدخل الجنة؟ أجابه الجمل: هل نسيت حين حملتك على ظهري الى ليبيا.. اعتذر الزعيم و سمح للجمل بدخول الجنة، بعد قليل جاء حصان، و لما كان بورقيبة ذكيا بادره قائلا : اظن انك عين الحصان الذي حملني حين رجوعي من فرنسا قال: بلى فادخله الجنة.. بعد حين اقبل الحمار ثم طلب الدخول فاعتذر بورقيبة. حين احتج الحمار بدخول الجمل و الحصان أعلمه بورقيبة بان دخول الجمل و الحصان كان بسبب خدمات أسدياها لفخامته " ماذا قدمت ايها الحمار حتى تدخل الجنة ؟" هكذا سأله الزعيم .. أجاب الحمار:" لقد قدمت الكثير ... فلولا ثمانية ملايين من أمثالي ما حكمت تونس ساعة واحدة !" ضحك رشيد لكن سرعان ما عاوده وجومه... هذا قدرك يا رشيد، كل شيء يحول بينك و بين التخلص من حياة لا أمل فيها و لا عزاء.. حياة كل ما فيها بغيض. تركيبة نفسية متواطئة تجعلك جلاد نفسك، منفى نرويجي بغيض، زوجة بغيضة و جار بغيض ووضع سياسي كريه...ذكريات مؤلمة و حاضر مدمّر، وغد لا يعد بغير الألم و المعاناة..الماضي طعنة غائرة في القلب، و الحاضر جرح مفتوح، و المستقبل لغم مموّه بإحكام. بقدر ما كان رشيد شديد الحساسية الى حدّ كبير، بقدر ما كانت الصدمات التي تلقّاها مروّعة وذات دمار شامل.. عشر ما تلقاه رشيد كان يكفي لتشويه نفسية أي شخص في عالم عربي تهيأ أفراده بفعل الظلم السياسي و التمييز الطبقي لهضم اهانات يومية ثابتة.. كما كان عشر ما تلقاه رشيد يكفي بان يقتل البهجة و يميت الأمل و يجتث كل رغبة في الحياة من نفس أي انسان عاديّ، فما بالك بإنسان حساس مثله. كان من الضروري اسلام رشيد الي أبوين خبيرين في فن التعامل مع أمثاله من الحالات الإستثنائية، لكن اسلام رشيد الي أبوين فظين لم يكن يختلف عن إلقاء منديل حريريّ بين قوائم خنازير تعج بهم زريبة موحلة. عاش رشيد في جو عاصف.. والد سكّير، و أم قاسية و سليطة اللسان . ـــ اكتشفت منذ وقت مبكّر انني مسكون بقضايا لا يبالي بها من هم اكبر مني سنّا... حين كنت في السادسة كان يجتاحني كرب شديد عقب كلّ صدام عنيف بين أبي وأمي.. كان إخوتي الكبار يهبّون للفصل ـــــــــ ص 81 ـــــــــــــــ بين والديّ وقد تصيبهم أحيانا بعض ضرباته العمياء، وحين يفشلون في تدخلهم الجسدي كانوا يبكون و يتوسلون الى والديّ معا.. كانوا يرجون من والدي الكف عن الضرب و يناشدون والدتي السكوت لوجه الله ووجوه جميع الأولياء و الصالحين، ولكن والدتي لم تكن تسكت أبدا. كانت كلما تلقت شتيمة ردت عليها باثنين .. تنهّد رشيد ثم استمر شاكيا: ـــ إصرار والدتي على الشتم و اللعن، كان لا يقلّ عن إصرار والدي على الضرب و التجديف.. كان اخوتي يحزنون لتلك المشاجرات، لكنهم سرعان ما يشرعون في تبادل الضحكات و التعليقات الساخرة حتى بعد مرور أقل من ساعات قليلة على فضّ الإشتباك... كانت يعقب كل صدام عائلي مقاطعة و جوّ مشحون بتوتر و انذار بجولة جديدة من الصراع.. عند الإشتباك الجسدي لم اكن أتدخل، كانت سني لا تسمح لي بذلك، كنت التصق بالحائط و اشرع في البكاء مع اختي الأصغر مني سنا. بعد فض الإشتباك الذي ينتهي غالبا باستغاثة أحد اخوتي بالجيران، اظل واجما وصامتا، كنت أنزوي في ركن من البيت لأشرع في استعراض أوخم العواقب التي قد يسفر عنها ذلك الصراع العائليّ. ــ ما هي أسوء تلك الإحتمالات إطلاقا؟ ــ أسوأ الإحتمالات أن تقتل والدتي وهي تضرب، ثم يعدم أبي فأخسرهما معا. أما الإحتمال الأقل سوء ا فحدوث الطلاق... في بيتنا، كان الطلاق مثل الديمقراطية في أي بلد عربي، كثيرا ما نسمع عنها و لكننا لا نرى آثارها.. في كل مرة كانت أمي تطلب الطلاق، كان ابي يسرع في تحقيق طلبها محفوفا بلعنها ولعن والديها و لعن من عرّفه بها، دون ان ينسى لعن المأذون الذي عقد زواجهما. و لكنهما لا يفعلان شيئا أكثر من الكلام و التلاعن. غير أن مجرّد سماعي كلمة طلاق كان يصيبني برعب شديد. سألت رشيد متعجبا: ــ ماذا كان يعني الطلاق بالنسبة لطفل في السابعة؟ ـــ لا يكاد يعني شيئا لو لم يكن ذلك الطفل هو الشخص التعيس الذي يمثل أمامك. سكب لي رشيد المزيد من القهوة دون أن يتوقف عن الحديث : ــ كان الطلاق يعني لديّ الكثير.. كنت اخشى مصيرا كمصير زميلي حافظ مبروك، فقد كان انفصال والديه سببا في التفريق بينه و بين أخيه الذي كان شديد التعلق به بعد أن أعطيت حضانة أخيه الصغير الى أمه في حين بقي حافظ مع أبيه. كما كنت اعلم أيضا مايسببه الطلاق من ألم نفسيّ فظيع لكلا الزوجين. دون شعور وجدت نفسي اصيح سائلا: ــ يا الهي كيف أدرك رشيد الطفل ذلك؟ ـــ كان يؤلمني كثيرا شكوى قريب والدتي من تطليق زوجته له! ــ ...؟ ـــ كان ذلك القريب يقيم في فرنسا، و كان يزور الجزائر كل صيف، كان شقيّا في زواجه، خلال رجوعه الى ارض الوطن كان يتردّد كثيرا على منزلنا، في أول كلّ زيارة كان يعطيني لوحة من الشيكولاطة، بعد ذلك كان يعطيني قطعة نقدية...كان دائم الحزن. علمت فيما بعد أن زوجته الفرنسية كانت تجاهر بخيانته.. ضبطها مع سينيغالي. ذات مرة رأيته يبكي بين يديّ أميّ كصبيّ..لقد توفي المسكين منذ أكثر من عشر سنوات.. لأول مرة كنت أرى رجلا يبكي. كنت اظن ان الصبية و النساء فقط هم الذين يبكون. حين كنت اسأل امي: لماذا يبكي كانت تقول لي " لأنه طلق زوجته" و كنت أسالها " كيف يطلقها ثم يبكي؟ لماذا طلقها اذن ؟ " كانت تنهرني " أغرب عن وجهي ،لا تتدخل في حكايات الكبار". صرت مقتنعا بان الطلاق فظيع و مؤلم الى حد يجبر الرجال على البكاء. كنت أتساءل هل سيبكي ابي ايضا فور تطليقه أمي؟ تخيلت ابي الفظ وهو يبكي فطال تعجبي.. كنت اعلم ايضا ان المراة تتألم كثيرا من الطلاق، فقد سمعت والدتي تردّد في مناسبات عديدة ما حدث لجدتي من متاعب نفسية و مادية بعد تطليقها. لأجل ذلك كنت كثيرا ما أتساءل اذا كان الطلاق مؤلما للرجل و للمرأة على حدّ سواء، فكيف يقدمان عليه؟ كما كنت أخشى الطلاق، لأن أبي سيتزوج حتما من جديد و يتركنا دون دخل.. ربما تجبرني الخصاصة على التصريح الى مدير المدرسة انني احتاج الى مساعدة كسائر زملائي المعدمين حقّأ! ـــــــــــ ص 82ـــــ سألت رشيد ثانية: ــ كيف كنت تفكر في كل هاته الأشياء و أنت بعد في السابعة؟ ــ ذلك ما كان يحدث بالضبط. سألت رشيد مستوضحا: ــ ثم ما هي قصتك مع مدير المدرسة؟ ــ ذات مرة كنا في الفصل فدخل علينا مدير المدرسة صاح المعلم " انتبه" ثم أمرنا بالوقوف .. يبدو ان المدير كان مستعجلا.. أشار بيده " اجلسوا " بعد ذلك أدخل يده تحت سترته ثم اخرج من جيبه الداخلي كنّشا أنيق التجليد كان يتدلّى منه قلم رصاص ذهبيّ المؤخّرة ..كان القلم مربوطا بالكنش.. أوحى الي مشهد الكنش و القلم بفكرة... ماذا لو ربط كل رجل بزوجته حتى لا يفكر أحدهما بالإنفصال عن الآخر..و بذلك يوفران عل انفسهما الكثير من البكاء، و على أطفالهما الكثير من الألم و المعاناة. لكن كيف تصنع والدتي وقت ذهاب أبي الى العمل هل سيجرّها معه؟ هل سيصحبها أيضا الى المقهي حيث الرجال الغرباء؟! أيقنت بسخافة الفكرة حين وصل تداعي افكاري الى الحمّام التركي، حيث النساء نصف عاريات. و حيث صاحبة الحمام الصارمة التي انذرت والدتي بعدم قبولي بعد سن الثامنة.. فكيف سيكون شانها مع أبي ؟!... بعد ذلك، جلس المدير على الطاولة التي كان يحتـلها المعلم، ثم قال لنا" بدءا منذ الشهر القادم سنشرع في توزيع أكلات مجانية ساخنة في منتصف كل نهار، كما سنوزع لمجة بعد العصر، بالإضافة الى توفير أحذية مطاطية و قميص و سراويل لكل محتاج. فمن كان والده فقيرا أو قليل الدخل فليرفع يده" . سارع التلامذة الي رفع أيديهم، كما ارتفع ضجيجهم " أنا سيدي، أنا سيدي " لم يبق الا أنا و طفل واحد هو ابن المدير نفسه.. بالنسبة لي لم احتج الي طول تفكير فقد حسمت القضية منذ أول امس فقد كنت على علم بان هناك معونة مدرسية ستوزع قريبا ." لست فقيرا كما انني في غنى عن مساعدة أي أحد" هكذا قررت.. كانت والدتي تردد دائما " الحمد لله، أحنا كيف الناس، وأقل من الناس، وخير من الناس".. حفظت هذه الجملة الموسيقية لأني وجدتها متجانسة مع" بربّ الناس، ملك الناس، إله الناس" أول ما حفظت من القرآن.. بعد أن أعاد الهدوء الى الفصل، شرع المدير في تسجيل أسماء المرشحين للمساعدة.. كما رفض تسجيل أسماء بعض التلامذة، حين أصرّ احدهم على تسجيل اسمه وبخه المدير : ـــ إخرس يا كذاب.. فوالدك يملك دكان فواكه أكبر بكثير من هاته القاعة " اضاف وهو ينظر الى المعلم :" دخل ابيه يزيد عن دخلي و دخلك مرتين!"... طمعا في تعاطف أكبر، أدلى أحد زملائي بمعلومات طريفة اعتقد انها مجدية.. حين سأله المدير عن حالته المادية طأطأ راسه ثم قال في لهجة منكسرة: ــ " أنا بابا أعور و يبيع في البثل[البصل]"! كان التلميذ ألثغا لأجل ذلك أضحك كل الفصل، حتى المدير فارقه وقاره فانساق مع الضاحكين. لأنني لم اكن اختلف في سوء الحال عن سائر المسجلين فقد تطوع المدير بتسجيلي دون سؤال مكتفيا بطلب تذكيره باسمي، لكنني رفضت قائلا: ــ أنا لا احتاج الى أي مساعدة،فأبي يشتغل في البناء ولا يرتاح حتى يوم الأحد! (1) . ابتسم المدير ولم يقل شيئا... زميلي شريف هو الذي نقل الى اسرتي ما قلته حرفيا للمدير.. لم ينس احد تلك الجملة.. بعد خمسين سنة ما زالت والدتي تذكرني في معرض فخرها بعزتي المبّكرة بنفسي بما قلته للمدير، مقرونا بجملة ـــــ ص 83 ــــــــــــ شهيرة صرّح بها ابن خالتي جلال ــ زميلي ايضا في الفصل ــ و تولىّ شريف نقلها ايضا... تجهم وجه صديقي رشيد اطال الإطراق ارضا، اطلق زفيرا حادا ثم اعلن بنبرة حزينة: ـــ زميلي شريف لا يملك من معنى اسمه شيئا.. تنهد من جديد ثم اضاف: ـــ شريف هو الشخص الذي دمّر حياتي، و حكم عليّ بالعذاب الأبديّ.. قد اقص عليك خبره ذات يوم .. ما يعنينا الساعة هو جلال... كان والد جلال يملك قطع ارض فلاحية شاسعة تضم مئات من اشجار الزيتون و تدرّ عليه محاصيل وافرة. بالإضافة الى ذلك، كان يشتغل في البلدية.. حين سأله المدير زميلي جلال عن شغل أبيه أجاب فورا و دون ادني تردد" سيدي بابا ميّت! ". فردّ عيه المدير موبخا" ما تستحيش! أبوك حضر الي مكتبي أمس يطلب تسجيلك في قائمة المعدمين و كان مكتنزا كثورهولندي حقيقيّ. فمتي مات ابوك يا كذّاب؟" بعد ذلك امره بالصعود الى المصطبة و الإلتفات نحو الحائط و رفع يديه... فور فراغ المدير من تسجيل بقية الأسماء استعار مسطرة أوسعه بها ضربا حتى أدمى اصابعه . .حين سمع ابي قول جلال بصق على الأرض ثم قال : ــ يبدو ان الولد رخيص مثل أبيه! علمت فيما بعد ان والد زميلي جلال كان يتعاون مع قوات الإحتلال الفرنسي، و قد نجا باعجوبة من محاولتي اغتيال تعرّض لهما! حكاية رشيد ذكرتني بالفقر الذي كنا نكابده أيضا في تونس،اردت التخفيف من توتّر صديقى الجزائري رشيد فقصصت عليه ما جرى لأبي مع زوج خالتي.. كان زوج خالتي يشتغل مع ابي في وزارة الأشغال العامة.. ذات صباح لا حظ أبي توتّر زوج خالتي و حدّة مزاجه و عصبيته المفرطة.. حدّة زوج خالتي دفعته الى التشاجر حدّ الأشتباك بالأيدي و لثلاث مرات متتابعات و في أقل من ساعتين مع زملائه... حين سأله ابي عن سبب توتره غير المعهودا اعلمه باستحياء شديد بانه قرر إبطال التدخين بداية من يومه ذاك بسبب كثرة المصاريف التي فرضها انتقال ابنه صالح الى مرحلة التعليم الثانوي:" العيشة مرّة أخي أحمد.. دخلى ضعيف، و انت سيد العارفين و "الزنقة وقفت للهارب" (1 ( و لا مفرّ لي من التضحّية بمتعتي الوحيدة في سبيل توفير حاجيات ابني المتصاعدة" بعد قليل اضاف ملتاعا :" بالأمس فقط سلمته كل ميزانيتي المخصصة للسجائر، ليقتني كتابا مدرسيّا ". عند رجوع والدي من العمل، قص علينا معاناة زوج خالتي.. بعد ذلك شرع يدير هامته في هيئة المتعجب ضحك طويلا ثم اضاف: ـــ منذ نصف ساعة و في طريقي الى البيت رأيت الفتى صالح... كان برفقة أربعة من أنداده.. لم يرني بالطبع.. فوجئت كثيرا حين رأيته يخرج علبة سجائر من النوع الفاخر وزّع أربعة منها على من كان معه، قبل أن يدسّ الخامسة بين شفتيه. ضحك ابي طويلا ثم اضاف: ــ الطريقة التي كان يعامل بها السيجارة امساكا و تدخينا تحملني على الجزم بأنها أول سجائره ! ــــــــــــــ (1) منذ العهد البورقيبي كان الأحد هو يوم العطلة الإسبوعية . الفصل الثاني عشر ملامح شخصيّة الطفل رشيد. حين توطّدت علاقتي برشيد، سألته عن سرّ كآبته الحادّة.. في الحقيقة لم أصادف في حياتي شخصا مكتئبا بذلك القدرالهائل.. إكتئابي لا يتجاوز نصف يوم أو اكثر بقليل ، و لكن صديقي رشيد يمضي أحيانا ثلاثة ايام تحت تأثير كرب نفسيّ متّصل. أخذ رشيد شهيقا عميقا ثم أطلق زفيرا حادا، همّ بالكلام مرّتين ثم سكت.. ندمت فور إحساسي بانني حاولت التشوّف الى منطقة ممنوعة من حياته، اعتذرت عن تطفلي و تجاوزي حدود اللياقة و الذوق، غيّرت الموضوع تماما . لكن رشيد تكلّم : ـــ ص 84 ـــ ــــ أجتمع لديّ العامل الوراثي، والإستعداد الفسيولوجي و صدمات الحياة. اطرق طويلا ثم قال: ـــ حادثتان أثّرتا في حياتي، سأحكي لك عنهما في الوقت المناسب. بعد شهرين، و ذات مساء صيفي طويل، استدعاني رشيد الى بيته. بعد ان تبادلنا كلمات قليلة قال لي: ـــ سأحدثك اليوم عن سرّي الأول و الرّئيسي، أما مأساتي الثانية، فيمكن اعتبارها من جملة ذيول مأساتي الأولى... زفر رشيد طويلا ثم استمرّ : ــ سرّي الأول حملته منذ خمس و أربعين سنة، وها أنا أطلعك عليه.. أعلم انك مكروب مثلي و عندك فائض من الهموم... يكفيك هموم السلفية و الشيعة و الإخوان و عمارتك اللعينة و العنصرية.. أعلم انك لست بحاجة الى منغصات أخرى، ولكن كما قال الشاعر" و لابدّ من شكوى الى ذي مروءة"... منذ خمس و أربعين سنة كنت أفتش عن إنسان حقيقيّ يشاركني حمل هذا السرّ، لكنني لم أجد ذلك الشخص في أحد ممّن حولي! ــ حتى في زوجتك؟ نظر الي بحزن ثم قال بنرة حزينة : ـــ خصوصا في زوجتي . ـــ .... ـــ لا شك أنك لاحظت مدى تـنافرنا تذكرت المثل الإسباني " الرجل السعيد هو الذي يحكي لزوجته كل شيء " ما أروع ان يحكي الرجل لزوجته كل شيء . ـــ قبل سنتين، وثقت بشخص كدت أن أبوح بسريّ، ظننته صديقا حقيقيا، لست أدري مالذي جعلني أعدل ساعتها عن ذلك، أثبتت لي الأيام مدى خطئي في تقييمه، كان أمرا يدعو للخجل و الإحباط ...احتقرت نفسي كثيرا، حين اكتشفت معدن ذلك الرجل الذي حسبته ذهبا خالصا فاذا هو أرخص من التراب . ــ كلي آذان صاغية يا صديقي ... ــــ حتى تستوعب الحادث و مدى أثره الصاعق على نفس رشيد الطفل و رشيد المراهق ورشيد الشاب ثم رشيد الكهل، أسمح لي بمقدمة قصيرة اكشف لك فيها أهم جوانب شخصيتي، و أشد معالمها النفسية وضوحا . ــــ ... ــــ سبق أن حدثتك عن الوساوس القهرية المتتابعة التي كانت تتوالى عليّ منذ طفولتي المبكرة ، فلا تدع لنفسي أي مجال للسكينة ولا أي فرصة للسلام. بالإضافة الى ذلك، و على الرغم من حداثة سني، كنت مسكونا بشعور طاغ بأهميّة الشرف و ضرورة الحفاظ عليه، والموت في سبيل الدفاع عنه! كنت أسمع من حولي وهم يردّدون أمثلة من قبيل" النار أهون من العار" و " الشرف مثل الزجاجة اذا انكسرت فلا تقبل الجبر" و" الشرف مثل عود الكبريت معدّ للإستعمال لمرة واحدة فقط "... رن الهاتف رفع رشيد السماعة .. إستأذنني قبل أن يستغرق في مكالمة خارجية من شقيقته في السويد . سكبت بعض من العصير.. الشرف بضاعة معدّة عربيا للإستهلاك اليومي.. صحن رئيسيّ لا يغيب..الشرف بالنسبة لعربي ليس كالصدق بالنسبة لنرويجي.. أنا لا أتحامل على النرويجيين " الصدق بضاعة أثمن من أن تستعمل يوميّا " هكذا يقول المثل النرويجي !.. فصل الصيف في تونس و في كل البلاد العربية، هو فصل الأعراس، فصل الحصاد وفصل رجوع المغتربين ــــــــــــ ص 85 ـــــــــــــ من فرنسا و ايطاليا و ألمانيا و غيرها من بلاد المهجر.. في بلادي، الصيف مهرجان حقيقي لإستعراض شرف البنات و فحولة الرجال!.. في الصيف تقام احتفالات بدائيّة مخجلة لا تخلو منها قرية أو مدينة تونسية، و تقام فيها طقوس وثنية لا تمتّ للذوق الإنساني بصلة.. طقوس لا علاقة لها بالإسلام من بعيد أو قريب .. مجرّد مراسيم جاهلية يسقط المجتمع فيها أي معيار للرجولة سوى سرعة الإنتصاب و القدرة على اختراق غشاء البكارة في مدّة قياسيّة حدّها الأقصي السويعات الأولى من الحياة الزوجية... لكسب الرهان في الجولة الأولى، يحتاج العريس الى مستشار في الجماع، عادة يكون محنّكا يسمونه "الوزير".. الوزير هو الذي يرشد العريس عن الوضع الأنسب لإختراق الزوجة بأسرع وقت.. الوزير لا يهتمّ بما قد تحدثه هجمة العريس الفظ و المتلهف لفضّ غشاء البكارة من دمار في نفس الزوجة و من تأثير سلبيّ قد يبغّض لها الجماع مدة حياتها الزوجية، المهم ّ لدى العريس ووزيره هي السرعة و الفاعلية و الحسم ،لأن الموقف لا ينتظر التهاون، و لأنّ ألسنة الناس لا ترحم. لأجل ذلك كان من الضروريّ تناول العريس بعض الخمر حتى يستعين بها على ضبط أعصابه، أو على المزيد من الجرأة أو القدرة الجنسية، لست أدري بالضبط سبب شرب الخمر في تلك المناسبة، فانا لم اشرب خمرا في حياتي اذا استثنينا ما كنت أسترقه و أنا طفل صغير من بقايا كنت أجدها في كأس أبي، كنت أفعل ذلك بدافع الفضول لا غير . الرجل في تصوّر أبناء وطني، ليس المواطن الحرّ الذي يناضل للحصول على حقه في الحرية و العدالة، و يسعي الى تمكين غيره من تلك الحقوق .. الرجولة في عقلنا الجمعي ليست أخلاقا و شيما عالية، بل فحولة وقدرة جنسية فائقة.. الرجل الفعلي هو الذي يتمكّن من تمزيق بكارة عروسه حتى يقطع الطريق على أي أقاويل تشكك في رجولته، و لكي لا يدع أهل العروسين و الجيران و الضيوف يرابطون اكثر من اللزوم أمام غرفة نومه في انتظار نتيجة العملية الجنسية الشبه علنية. كنت في السادسة عشر حين تزوج أخي.. بعد دخوله على عروسه، بقي الضيوف ينتظرون في بهو الدار! بعد دخوله بخمس دقائق سمعت العروس تصيح مستنجدة " عمّتي! عمّتي"!! كلّ الحضور أدركوا فورا أن أخي يتعرّض الى مقاومة شديدة، لا بدّ أنهم قد تساءلوا" لماذا لم تساعده حتى يجتاز هذا الإمتحان الذي يحتاج الى أعصاب فولاذية ؟"... كيف يمكن تعريض بشر الى تجربة محرجة كهذه؟!.. اذا أقررنا نحن المسلمين هذا العمل، فكيف نلوم الشعوب البدائية اذا مارست الجنس على قارعة الطريق؟ هل أن ذكر الإنسان مثل سيف يستلّ كل لحظة؟ أم هو مجموعة من الأعصاب و الأوعية الدموية التي تمتنع عن الإستجابة لأي إثارة، مادام المرء مضطرب البال ما دامت تحركاته تحت المجهر؟.. كان صوت إستغاثة العروس مسموعا لجميع الحضور، بالطبع لم يهب أحد لنجدتها، تبادل بعض الحضور ابتسامات خفيّة ذات مغزى ظاهر.. كان أخي يناضل في الطابق الثاني، وكان الحضور معتصمين في الطابق الأرضي.. الوزير فقط كان يتردد بين الطابقين. كان يصعد حينا الى غرفة العمليات للإدلاء بنصائح إضافية قد يحتاجها وضع استثنائي طارئ. كما كان ينزل حينا آخر الى الحضور كي يبلغهم آخر المستجّدات، و ليتزود منهم ببعض التوجيهات التي غابت عنه.. بعد قليل هدأت الأصوات، تلا ذلك فتح الباب، ثم نزول الوزير و على وجهه آثار الخيبة: ـــ لقد فشلت المحاولة الأولي! يبقي الأمل في المحاولة الثانية...علينا الإنتظار.. بعد قليل انتشرت المعلومة بين الجميع . الرجال متفاوتون تفاوتا كبيرا في القدرة الجنسية، الرجل العادي يمكن أن يعيد العملية الجنسية ـــــ 86 ــــــــ بعد فترة تتراوح بين ربع ساعة وأربع و عشرين ساعة... اذا قام ذكرالرجل ثانية خلال 24 ساعة فهذا أمر طبيعي. اما اذا احتاج الرجل الى أكثر من هذا الوقت لإنهاض ذكره عليه باستشارة الطبيب المختص.. حين لاحظت اعتصام الضيوف في أماكنهم وإصرارهم على البقاء، سألت شقيقتي بكل بلاهة عن السبب أجابتني بصوت كئيب"" أخوك جمال ما زال ما عرّسشي( لم يتزوج بعد!)"...في المرّة الثانية تحقق الهدف وأصبح جمال رجلا حقيقيا يمكن له أن يقابل الناس دون حرج.. ذات مرة قرأت في مجلة سؤال يقول ماهي المعركة التي تسفر عن جريح و أسير و كان الجواب: معركة ليلة الدخلة: امراة مفتضة وزوج أسير الحياة الزوجية!.. كثير من العرسان دمرتهم عادة "انتظار النتيجة" إلى حد إصابتهم بعجز دائم.. يحدث أحيانا أن يعجز العريس بفعل الإحراج و الضغط عن جعل ذكره ينتصب، اذا لامته عروسه تضاعف حرجه، وكلما أضاف يوم فشل آخر زاد إحراجه و ضعفت ثقته في قدرته الجنسية. في بعض القرى التونسية يعرض قميص نوم العروس في الطريق العام وعليه آثار دماء بكارتها، أحيانا يتخذ قميصها راية يرقص الناس حولها مثل عراة افريقيا. كان والد الفتاة يجهز نفسه ببندقية لإثبات رجولته هو أيضا، إما بإطلاق الرصاص ابتهاجا بسماعه الخبر السعيد الذي اثبت بأنه كان سيد الرجال حين حافظ على بكارة ابنته، و إما لإثبات رجولته بأثر رجعي، عبر إفراغ البارود في جسد ابنته غسلا للعار.. في مصر هناك امراة متخصصة تلف يدها بخرقة بيضاء و تتولى بنفسها فض البكارة لتكفي المؤمنين شر الإقتتال. أحد الشبان في بلادي استعان بصديقة للقيام بالمهمة عوضا عنه، و كانت النتيجة اكتشاف الأمر و انتحار والد العريس! وصلني صوت رشيد كان قد فرغ من مكالمته الهاتفية. ـــ كنت اسمع من والدتي و الجيران و أهل الحي أن المرأة " أ " سيرتها مثل الزفت، و ان البنت " ب" قد طردها زوجها ليلة الدخلة بعدما وجدها مفتضة، و ان الفتاة " ت" كان زوجها شهما حين وجدها مفتضة و لم يفضحها واكتفى بتطليقها بعد ستة أشهر من الزواج بدعوى انها لا تحسن الطبخ. و ان زوج العروس" ث" لم يتمكن من فضها بعد، رغم مرور ثلاثة أيام من المحاولات المتكررة، و أن الشكّ قد بدأ يتسرّب الى الزوج، في حين بدأ هل الفتاة يروّجون إشاعة كون الزوج قد سحر أو به برود لا يرجى اصلاحه، كمحاولة استباقية لتطويق الأزمة... الشرف كان موضوعا مركزيا في مجتمعنا النسائي و الرجالي على حد سواء.. سقوط شقيقتك في تجربة جنسية تفقدها بكارتها يعني سقوط كل العائلة و على مدى عقود طويلة.. أبي تخلّص من شقيقاتي بطريقة مخجلة.. كن يشكلّن عبئا حقيقيا، كان لا يتردد في قبول أي خاطب يطرق بابنا، حتى انه زوج بعضهن من منحرفين و مسجونين سابقين.. لو تقدم الشيطان نفسه لخطبة إحداهن لما ردّه أبي خائبا.. كان يخشي فتح الملفات القديمة فتبور شقيقاتي ولا يجدن أزواجا.. أبي كان خائفا لأن عمّته التي بلغت الثمانين قد هربت من بيت أسرتها منذ ستين سنة لتتزوج الرجل الذي تريده.. و على سنة الله و رسوله. كان ذلك كافيا كي تطرد عمة ابي من العائلة التي سبّبت لها عارا لا يمحى الى الأبد. شقيقاتي دفعن ثمن ذلك العار غاليا. شقيقاتي لم يشاهدن قط عمة أبي التي أخطأت في حقهن منذ ستين سنة!... هرش رشيد رأسه، اطرق طويلا ثم استمرّ : ــ كان الشرف حديث مجتمع الأطفال أيضا!! فقد كنت أسمع من أطفال الحيّ أن أمّ الصبي " أ " قحبة، و أن الصبيّ" ب " مشكوك في سيرته، و أن الصبي" ت" مأبون علنيّ لا يتردد في الذهاب مع الأطفال الكبار و ربما مع الرجال أيضا، ليفعلوا به الفاحشة... كان مجرّد سماعي لتلك النعوت يجعلني أتجمّد من الخوف، كنت أخشى أن أوصم يوما بتلك التهمة الشنيعة... كان يرعبني مجرّد تمكّن مخلوق ما من رؤية مؤخرتي مكشوفة أمام نظره.. لم أكن أذهب الى أبعد من ذلك. يا للفضيحة و للعار، كيف أمشي في الطريق، وكيف أنظر في وجوه الناس وأنا أدرك انهم يعلمون انني قد تطوعت بعرض مؤخرتي للإيجار أو حتى لوجه الشيطان، كيف سيكون موقفي أمام أمي و أبي و إخوتي و أقاربي و أهل حيّي و زملاء دراستي، كيف يمكنني الحياة لو علقت ــــــــ ص87 ـــــ بي تلك الوصمة، كيف أصنع إذا وجدت نفسي ذات يوم موصوما بذلك العار، أي أرض ستقلّني و أي سماء ستظلّني اذا وجدت نفسي مسربلا بالفضيحة و مطوقا بالعار، ثم وجدت كل الأبواب موصودة في وجهي بما فيها باب القبر؟! . .. حين لاحظت ارتجافة ذقن رشيد ايقنت انه سيشرع في البكاء، استأذنته و دخلت الحمام، اكره رؤية رشيد يبكي أمامي ، تعمدت الإبطاء لأعطيه فرصة البكاء، حين خرجته وجدته منخرطا في بكاء مرير، بدأت لي الفاجعة تتضح شيئا فشيئا، اكتملت الصورة في ذهني لم تبق الا التفاصيل الصغيرة . لم أعد الى مكاني بل جلست بجانب رشيد، ثم وضعت راحة يدي علي فخذه الأيمن و ربتّ عليه، كان يتكئ على جانب الأريكة معتمدا على مرفقه الأيمن. كما كانت يده اليسرى تغطي نصف وجهه . ـــ تشجّع يا رشيد .. أنت رجل جيّد، لا شكّ أن الله سيكون بجانبك . لم أجد أي كلمة عزاء تناسب مأساوية الموقف، أنا لست حيال شخص عادي ترضيه كلمات بسيطة، رشيد أدرى مني بوجوب الرضا بقضاء الله، و بما أعده الله للصابرين، كما هو أعلم مني بأن الحياة محرقة حقيقية، وأن كل العزاء انها محرقة مؤقتة. لو كانت لرشيد زوجة يبادلها الحب لخففت عنه بعض ما يلاقيه، هممت بأن أروى طرفة تبدد عنه سحب الكآبة، عدلت عن ذلك خصوصا وأنه لم يدخل بعد في التفاصيل الدقيقة.استمر يبكي حتى ارتفع شهيقه، تركته يفعل ذلك دون أن أشوش عليه، كل ما استطيع خدمته به هو حسن الإنصات و التضامن، خصوصا و أنا الشخص الوحيد الذي يمكن أن يبثه همومه و يشكو إليه أحزانه. فعلاقة رشيد بزوجته متوترة جدا و الثقة بينهما مفقودة ، وحبال الود مقطوعة، ولا أمل في إصلاحها حتى في المستقبل البعيد حسبما يبدو لي .. ليس لرشيد كتفا يبكي عليه فلأكن ذلك الكتف. أن يحدثني رشيد عن سر حياته، فذلك يعني ثقته المطلقة بي و يقينه القاطع بأني سأتعاطف معه، فلأكن في مستوى ثقته و يقينه. انتظرت دقائق حتي كف رشيد عن البكاء، ولكن صدره بقي يعلو و ينخفض بين حين و آخر . ــ أظن انك حدثتني عن باب القبرأو شيء من هذا القبيل؟ مسح رشيد عينية بكم قميصه ثم أجاب : ـــ نعم، حين فكرت بما قد أوصم به، مرّت أمامي فكرة الإنتحار كإمكانية للهروب، لكنني لم أتوقف كثيرا أمام تلك الإمكانية، لأني ولدت متدينا، كما ولدت موسوسا ومسكونا بهاجس الشرف. كنت أخشى عذاب الله منذ بدأت أعقل. كنت أسمع أن قتل الإنسان لنفسه أو لغيره من شأنه أن يدخله جهنم والى الأبد، لأجل ذلك كان خوفي مضاعفا بسبب وجوب بقائي في أرض المحرقة حتى النهاية في صورة وصمي بتلك الفعلة الشنعاء. كنت مسكونا بهاجسين، أولهما إمكانية اتهامي بذلك الشيء الفظيع، وثانيهما كيفية تعايشي مع العار الذي سيلفني من كل ناحية، خصوصا و أن تركيبتي النفسية شديدة الحساسية والتأثر... كانت وساوسي القهرية تحملني على النظر الى الحياة بمنظار أسود، كما كانت تحملني على توقع أسوأ الكوارث في كل حين.. أحيانا يتملكني هاجس بأن أبي سيموت قريبا.. كنت اقلق كثيرا اذا تأخر موعد رجوعه الي البيت، لم اكن أخلو من همّ يضغط على قلبي، فكلما تبخر هاجس عوضه هاجس ألعن و أبقى. قاطعت رشيد : ـــ لكن مالذي جعلك تتوقع تلك الوصمة، والحال انك بعيد عن كل شبهة. سحب رشيد شهيقا طويلا اتبعه بزفير حادّ ثم أجاب : ـــ مما قوّى احتمال تعرّضي الى تلك التهمة، كوني فتى ظاهر الوسامة يعيش في مجتمع ذكوري لا يختلط الرجال به بالنساء، بمعني انه لا توجد فتيات في متـناول الشبان، فالأغلبية العظمى من البنات لا ـــــ 88 ــــــــــــ يتنقلن الا بعلم أهلهن، واذا رأيت فتاة مع شاب فهي مخطوبة أو في طريقها الى الخطبة، لأجل ذلك كان اللّواط ضرورة لحلّ المشكل الجنسي.. في كل مرة كنت أتفوّق فيها على صبيّ في معركة، كان الأخير يتراجع خطوات تمكنه من ضمان مسافة أمان، قبل أن ينعتني بأن شكلي لا يختلف عن شكل أي بنت. في الحقيقة كنت كذلك، فقد كانت ملامحى رقيقة جدا، لنقل أنثوية، كما كنت سريع الخجل، فأي ملاحظة توجه لي سرعان ما تجعل وجهي يحمّر كحبة طماطم.. ليس ذنبي على كل حال... حين بلغت الثامنة، كنت أحاذر أن تشوب سيرتي شائبة.. لأجل ذلك كنت أتجنب الإختلاط بمن هم اكبر مني سنّا. كما كنت أنبّه جاري و زميلي شريف الى التأسي بي في ذلك، لأن تلوّثه سيضرّ بسمعتي باعتبار ملازمته لي بسبب الجوار و الدراسة . ــــ ... ـــ على الرغم من انحداري من عائلة تحتل موقعا مزمنا و ثابتا في قعر المجتمع الجزائري، فقد ولدت بحساسية مفرطة ضدّ أي اهانة مهما صغرت، كنت مرهف المشاعر الى حد كبير، لست أدري من اين أكتسبت تلك الخاصية الشاعرية اللعينة، و ليس في أسرتنا بكل فروعها شاعر ، بل لا اعرف من يحفظ بيت شعر واحد .. فوالد جدّي كان مرابـيا، وجدي كان قاطع طريق، وابي سكيرا . منذ طفولتي كنت عزيز النفس، كما كنت حريصا على حفظ كرامتي، في احدى المرات حين بلغت الثامنة رغبت في زيارة شقيقتي الكبرى فاتن، كانت تسكن و زوجها حامد في قرية ريفية تبعد حوالي 20 ميلا عن مدينتنا، بقيت حوالي شهرين و أنا أجمع ثمن التذكرة . حين سألتني والدتي كم ستبقى هناك أجبتها " لا أدري، حسب الظروف "! بعد ثلاثة ايام قفلت راجعا، عندما قدّرت أن زوج أختي قد تضامن أكثر من اللازم مع كتكتوت صغير لا حقته طويلا قبل ان أضربه بحجر، لقد أغمي على الكتكوت في واقع الأمر لكنه سرعان ما أفاق، لكنني لم أقبل تصرّف زوج شقيقتي. حين دق جرس الباب فتحته عوضا عن رشيد، كان جاره محمود الصومالي يطلب إعارة مكنسته الكهربائية لبعض الوقت! ــ سلمها له... تجدها في المطبخ، على يسارك، قل له لا تحتجزها عندك بعد فراغك منها . حين أغلقت الباب قلت لرشيد: ــ ذات مرة أعرت جارتي الباكستانية ميزان ألكتروني " خمس دقائق ثم أرجعه لك، سأستخدمه لمعرفة وزن حقائب السفر كي لا أتورط في حمل وزن إضافي أدفع ثمنه غاليا " هكذا طمأنتني... لكنني أنا الذي دفع الثمن غاليا،و حملت وزنا اضافيا.. فقد ارتفع وزني 10 كليوغرامات أثناء السبعة أشهر التي بقي فيها ميزاني حبيس دارها! فقد سافرت دون أن ترجعه لي! حين نظرت الى الساعة أيقنت ان صلاة العصر قد فاتتنا في المسجد. حتى لو لم تفتني، كان من غير اللائق مغادرة رشيد دون أن أسمع بقية مأساته. استأذنت رشيد ذهبت الى الحمام. توضأت ثم صلينا معا. لم يستغرق الأمر سبع دقائق، مقدار ما يدخن شخص ما سيجارة . بعض المسلمين يمضي سبع ساعات امام التلفزيون، فاذا سالته لم يترك الصلاة تعلل بضيق الوقت! فقط 10 في المائة من المسلمين يصلون. 9 من عشرة مصلين لايفهمون اسلام محمد. رغم ذلك، يستمر الغرب في تحذيره من: " الذئب، الذئب " . بعد الصلاة قال لي رشيد: ـــ بعد المقدمة الضرورية بقي علي أن أروي لك بقية القصة، و لكن ببعض الإيجاز. الفصل الثالث عشر شريف، قصّة فتى ملوّث. ـــ ذات ظهيرة قائظة من شهر أكتوبر، أرسلتنى والدتي لجلب الغسيل من السّطح .. كنت في السادسة، و كان قد بقي أقلّ من أسبوع حتى إستهلّ حياتي الدراسية.. في تلك الظهيرة، رأيت شريف لأول مرّة... لم يكن حضور شريف مفاجئا، فقد سمعت جارتنا العجوز أمي زهوة تخبر والدتي بأن حفيدا لها سيحلّ قريبا بينهم ليبدأ الدراسة في مدينتنا.. حين سألتها والدتي " أليست هناك مدارس في قريتكم؟" ردت عليها أمي زهوة بلهجتها القروية :" المدرسة الوحيدة تفصلها ميلان عن قريتنا.. كل تلك المسافة تغطيها منطقة غابيّة تعجّ بالذئاب.. كان على التلاميذ البؤساء قطع تلك المسافة راجلين ذهابا و إيابا، البعض منهم افترسته الذئاب.. كان أمام أوليائهم خياران إما الأميّة أو الموت، فأختار أولياؤهم الأميّة. و لكنّ ولدي الأكبر جلّول اختار العلم و السّلامة معا، فقرر إرسال شريف الى المدينة ليتلقّى العلم، و يأمن الذّئاب". أمي زهوة كما كنا نسميها، عجوز في السبعين قدمت من أعماق الريف الجزائري صحبة ولدها الأعزب جمال عليّ . كان جمال عليّ موظفا بسيطا. يسكن هو ووالدته في غرفة صغيرة على سطح العمارة التي كنا نحتل شقة متواضعة في طابقها الثاني.. في تلك الظهيرة، حين صعدت الى سطح العمارة رأيت صبيا في السادسة يجلس في زاوية مقابلة لحجرة أمي زهوة ..ارتعت لرؤيته.. الجنّ أيضا يخرجون في القيلولة، و يتنكّرون في أشكال بشريّة لترويع الأطفال المتسكّعين.. القيلولة أيضا فرصة لجولان " الغربي" الرجل الساحر الذي قدم خصيصا من المغرب للتفتيش عن صبيّ تتطابق أوصافه مع صبيّ معيّن يكفي ذبحه على مكان محدّد، لتنشقّ الأرض عن كنز حقيقيّ يستفيد منه الساحر، و يدفع الطفل الشقيّ حياته ثمنا له.. سوف لن يجد ذلك الصبيّ من يتعاطف معه في محنته، لأنه عصى والديه وخرج في وقت غير مناسب لمن كان في مثل سنّه..هكذا قيل لي.. حين تأمّلت الصبيّ ، قرّرت انه اصغر من أن يكون ساحرا مغربيّا، كما أن قدميه البشريتيّن ألغتا أيضا من ذهني إمكانية كونه من الجنّ.. فالجن لهم أظلاف ماعز أو بقر.. هكذا حدثني كل من سألته عنهم، ولم اسمع رأيا يخالف الإجماع على تلك الحقيقة، الا زعم البعض ان قوائم الجن قد تنتهي بحوافر ..الفارق بسيط المهم أن تكون حيوانية الشكل و كفي..كان الصبيّ يرتجف رغم حرارة الجوّ، و كان الرّعب مرتسما على وجهه. قبل أن أتمكن من مبادلته أي كلام، دوّى من خلفي زعيق أمي زهوة : " شريف..أيّها اللّعين، ماذا تصنع هناك؟" انتفض الصبي كمن مسّه صعق كهربائي أعادت أمي زهوة السّؤال:" أخبرني ماذا تصنع هناك ؟أين الخبز الذي أمرتك بشرائه ؟ لا تـقل لي انك تشتر الخبز بعد" اخبرها الصبي بلهجة بدوية انه قد أضاع المال وخاف أن يخبرها بذلك فجلس حيث وجدته . تقدمت أمي زهوة نحو الصبيّ المرعوب، ثم جذبته من ذراعيه بعد ذلك أعادت إسقاطه ثم جثمت عليه و شرعت مباشرة في ضرب رأسه على الأرض.. كانت الضربة الثانية كفيلة بان تجعل الدم ينبثق من رأسه بغزارة .. ـــ ص 90 ــــ في أثناء ذلك، كانت تصيح فيه :" أيّها اللّعين . ماذا يصنع عمّك إذا لم يجد الخبز؟!" لم يوقف أمي زهوة منظر الدّم الذي غطي الأرض، بل استمرت في ضربه على رأسه حينا و على بقية جسمه حينا آخر، وكأنها أصيبت بجنون.. كنت اعتقد انني في حلم.. صحيح ان والدتي مؤذية و قاسية الى أبعد الحدود، لكني لا اذكر انها أسالت دمي أو دماء إخوتي.. على الأقل بتلك الغزارة . كان الصبيّ يعوي بين يدي أمي زهوة ككلب جريح، و كانت أمي زهوة تواصل ضربه دون هوادة، و بنفس حماس من يضرب جرذا يريد الفراغ من القضاء عليه بأسرع طريقة.. حين أفقت من دهشتي، نزلت مسرعا الى والدتي و أعلمتها بالأمرالفظيع، و لمّا كانت مشغولة بطهي الطعام أرسلت أختي الكبرى فاتن بدلا عنها لتخليص الصبيّ التعيس من براثن جدّته المسعورة.. توقف رشيد عن سرد مأساته، تنهد، أسند رأسه على يده ثم استمرّ: ــــ و أنا أسعى الى إنقاذ شريف، لم أكن أدري ساعتها انني كنت أحيي قاتلي. كما لم تكن أختي فاتن تدري ايضا، أنها كنت تخلص حماة المستقبل من حبل المشنقة.. ستكون أمي زهوة وعلى مدى خمس و أربعين سنة الحماة الرهيبة لأختي فاتن.. لم تسلم أمي زهوة الرّوح عن عمر جاوز المائة بقليل، الا بعد أن أسلمت شقيقتي فاتن الى إكتئاب مدمّر.. كانت أمي زهوة بخيلة و تسلّطية و قاسية الى حد لا يطاق، و كان ابنها جمال عليّ يطيعها الى حدّ لا يعقل.. كان تدخلي لإنقاذ شريف أسوأ خدمة قدمتها في حياتي.. لو تركت أمي زهوة تجهز عليه، لنجوت من عقاب الله لأني كنت طفلا صغيرا .. كان شريف سيقتل دون ريب لو لم أسارع بأخبار والدتي.. كانت ضربات أخرى كافية للإجهاز عليه، أو لإصابته بإعاقة دائمة.. لست أدري مالذي شغلني عن اللّحاق بأختي فاتن، و لكن فور خروجي من شقتنا، رأيت جارنا إدريس يصعد السلم.. حين بلغ السطح، هرع مباشرة نحو شريف.. كانت شقيقتي فاتن تمسك بالصبيّ بعد أن نجحت في انتزاعه من بين مخالب أمي زهوة، كان شريف يحمل جرحا مفتوحا على جبينه. حين سأل جارنا ادريس أمي زهوة عما حدث للصبي، أخبرته ان دراجة قد صدمته و ان قليلا من خيوط العنكبوت أو مسحوق البنّ كفيل بلمّ الجرح . صاح جارنا ادريس مستنكرا" هذا الجرح العميق يحتاج الى خياطة جراحية.. سأحمله فورا الى المستشفي".حين لم تقتنع أمي زهوة بكلام جارنا ادريس هددها :" سأستدعي الشرطة فورا، لو لم تدعيني أحمل الصبي الى القسم الإستعجالي" في النهاية تكفل جارنا ادريس بحمل الصبيّ الى المستشفى.. احتاج جرح شريف الى عشر غرز . توقف رشيد قليلا، تـنهد ثم قال: ـــ شريف هو الشخص الذي وجّه حياتي وجهة دراميّة.. يمكنني القول بأنه الشخص الذي غيّر مجرى حياتي والي الأبد نحو الأسوأ. تماما كما غيّر معاوية، مجرى تاريخنا نحو الهاوية. سكت رشيد طويلا ثم اضاف بلهجة منكسرة: ــ اذا كان هناك حبّ من أول نظرة، فأنا أؤكّد لك بان هناك ايضا كراهية من أول نظرة .. لأول مرّة رأيت شريف لم أرتح لرؤيته، كان فيه شيء لم يرق لي، كان نحيف الجسم، أسمر اللون كما كان شعره القصير منحسرا بشكل يعد بصلعة حقيقية... كان واسع الفم، و كانت عيناه تدوران في محجريهما كعيني فأر مذعور قد حصر في زجاجة.. لم يكن منظره يوحي بأي ثقة.. بعد أقلّ من أسبوع من الحادثة الدموية، كنت و شريف نتقدم والدتي و أمي زهوة و نحن في طريقنا الى المدرسة، كان شريف لا يزال معصوب الرأس، كما كانت آثار العدوان بادية على وجهه المصفرّ... والدتي هي التي شجّعت أمي زهوة على تسجيل شريف في نفس مدرستي الجديدة " على الأقل يرافقان بعضهما البعض، فالمدرسة بعيدة، و أولاد الحرام كثيرون" لم تكن والدتي تدري أن ألعن ـــــــ ص 91 ــــ ابن حرام كان أعجز بكثيرمن أي يلحق بي أذى، بقدر ما ألحقه بي شريف .. كانت نصيحة والدتي كارثية بكل المقاييس، فلو كان شريف يتردد على مدرسة أخرى، لما اكتملت فصول مأساتي.. لم أجد في صحبة شريف أي متعة، كان مضجرا وسريع الشكوى من كل صغيرة و كبيرة،كما كان يبلّغ عن أي زلة كنت ارتكبها، كأن اكسر صحنا أو أهشم كأسا، كما كانت الوشاية الكاذبة أسوأ ما فيه. لأجل ذلك كنت أتجنبه قدر ما أستطيع، بالإضافة الى كلّ ذلك، فقد كان تافها وبليدا و كثير الهذر، كما كان مجرّدا من أي موهبة أو قدرة على الإبتكار. و لما كنت ميالا الى العزلة و الصمت، و لما كانت متعتي الكبيرة تقليب الكتب الدراسية التي يملكها إخوتي، فقد عملت على إجتـنابه. و لئن نجحت أحيانا في الفرار من صحبة، شريف فلقد فرض عليّ نفسه حين كان يقتحم بيتنا بصحبة أمي زهوة التي أصبحت كثيرة التردد علينا بعد أن بدأت نيتها تتجه نحو تزويج ولدها بشقيقتي فاتن... كانت أمي زهوة لا تعتمد على شريف، فحين تكلّفه بشراء شيء كان كثيرا ما يضيع المال، وان لم يضعه، استوقفه بعض الصبية وافتكه منه، فقد كان صبيا رخوا، و في متناول الجميع. حتى انه لم يمض شهر على قدومه، حتى استحق بجدارة لقب " النعجة " من قبل أطفال الحي. كما كانت أمي زهوة لا تعتمد عليه في حسن انتقاء المشتريات من الخضر و الفواكه، لأجل ذلك، كانت ترسلني معه تحت ضغط والدتي، حتى أضمن سلامته الشخصية وسلامة ما بحوزته من مال، ثم لكي اضمن جودة المشتريات، وبتلك الطريقة، كثر إحتكاكي القهريّ به. حين طرق الباب ثانية، أشرت الى رشيد كي يظل جالسا، كنت أعلم ان محمودالصومالي هو الطارق. تسلمت المكنسة الكهربائية ثم رجعت الى مكاني . ـــ كانت العمارة التي نسكنها مكونة من طابقين وسطح. و كنا ، كما أخبرتك منذ قليل، نحتلّ أحد شقق الطابق الثاني, حين كنت افرغ من صعود السلالم الى الطابق التي توجد به شقتنا، كنت أجد على يساري شقة صغيرة مكونة من غرفة واحدة تحتلها أرملة نحيلة و صفراء الوجه لها ولد اسمه مراد، في العاشرة من العمر. وكان يعاني الوحدة. فقد كانت أمه كثيرة الغياب عن المنزل. فمهنتها كخادمة في البيوت تفرض عليها ذلك، ورث مراد عن أمه صفرة الوجه و نحافة الجسم، كان مراد يدعوني الي شقته، لكنني كنت دوما أتحاشاه، لم أرتح إليه قطّ، خصوصا حين أحسست أنه يكثر التطلع الى وجهي. كانت نظراته أبعد ما تكون عن براءة الطفولة. مختار زميل دراستي تجاوز النظرات الي ابعد من ذلك... هذا مخجل في الواقع ، كان مختار في حوالي الخامسة عشر و كنت في الثامنة رغم ذلك كان رفيقي في الفصل! ذات مرة طرحني أرضا ثم شرع في تقبيلي أصبت بهلع شديد ، شرعت اصرخ حتى تركني، منذ ذلك اليوم صرت أتجنب أي مكان فيه كبار ما عدا قاعة الدراسة، فقد كانت تغصّ بهم .. كانت الجزائر حديثة عهد بالإستقلال، لأجل ذلك كانت المدارس بالإضافة الى اكتظاظها الشديد، تضمّ في الفصل الواحد تلامذة متفاوتي الأعمار، كنت أجد من بين زملائي في الفصل من يبلغ عمره ضعف عمري!. لم أشأ ان اقطع حديث رشيد حتى أؤيد قوله، فوضعية المدارس في تونس كانت مشابهة...حين كنت في الثامنة، كان في فصلي من نبت شاربه. ذات يوم فوجئنا بأحد كبار التلامذة و قد حلق شاربه ّ...أصابتنا دهشة شديدة من تغير شكله بعد الحلاقة، علق أحد كبار التلامذة" يا للعار! فمك بدون شعر لا يذكرني بغير شيء واحد".. حين سئل بصوت واحد:"ما هو ذلك الشيء ؟" أجابهم: ــــ ص 92 ـــ " فرج محلوق!" لاقى ذلك التشبيه استحسانا شديدا من قبل السامعين، إحمر وجه التلميذ الحليق لكن رده جاء سريعا " لعله يذكرك بفرج أمك!"... كان ذكر الأمّ بمثابة إعلان عن انتهاء لغة الكلام لتبدأ لغة العضلات.. أصبح التلميذ السّاخر هو المتضرر، فقد أسيء لأمّه علانية.. ذكرالأم بسوء خطّ أحمر.. حتى زين الدين زيدان الرّقيق و الجنتلمان لم يحتمل ذكر أمه بسوء من قبل منافسه الإيطالي..." زيدان عظيم، زيدان إله" هكذا صرّح كهل فرنسي ذات مرّة في برنامج تلفزيوني... ذكر الأم بسوء أذهل زين الدين زيدان عن مكانته الكبيرة في قلوب الملايين من مختلف الجنسيات.. فلتذهب والشهرة اللياقة و ليذهب كأس العالم نفسه الى الجحيم.. كان لا بدّ من نطحة جزائرية تردّ الإعتبار لشرف سليب.. قبل قرنين، صفع حاكم الجزائر سفيرا فرنسيا... وقيل لطمه بمروحة، كانا يتفاوضان على ديون الجزائر المتراكمة حين حدث ذلك.. نسي السفير الفرنسي انه كان يخاطب جزائريا.. ربما تلفظ بكلمة بذيئة مست شرف الحاكم الجزائري... أسفرت الصفعة المأساويةعن احتلال فرنسي دام 170 عاما !..لا شك أن السفير الفرنسي قد اتخذ من تلك الصفعة تعلّة لإحتلال الجزائر..حكاية قديمة تذكرنا بالذئب الذي كان يشرب من أعلى النبع حين قال للحمل الذي كان يشرب أسفله: لقد عكّرت عليّ الماء .أجاب الحمل: لكن الماء يجري من أعلى الي أسفل فكيف أعكّر عليك الماء؟ ردّ الذئب:أنت سيء الأدب، ثم ألا يكفيك أنك شتمتني العام الماضي؟ أجاب الحمل: لكنني ولدت هاته السنة. أجابه الذئب وهو يتهيأ لإفتراسه" إن لم تكن أنت الذي شتمني فواحد من جنسك.. منطق أمريكا لا يختلف عن منطق الذئب.. كنت اعلم ان الفرج يكسوه شعر كثيف.. كنت في السادسة ذات مرة حين صدمت بامرأة سمينة وقد انحسرت فوطتها عن فخذين يتوسطهما شعر كثيف. كان ذلك في الحمام التركي، صدمني المشهد، كررت المرور امام المرأة حتى تأكدت مما رأيته، مروري المتكرر جلب انتباه المرأة فسترت فرجها وهو تقول لمن حولها:" أولاد هذا الزمن أصبحوا تماما مثل الشياطين".. أطفال زماننا أشد شيطنة. ذات مرّة قالت الأم لطفلها الصغير مبررة كيفية مجيئه الى الدنيا" الأمر بسيط، رفعنا السجّادة فوجدناك تحتها!" صعقت الأم حين ردّ عليها صغيرها: " و الله عجيب! ألم يكن يوجد جماع في زمنكم! "...ذات مرة قالت مدرّسة حضانة لصبيّ صغير، لو عددت الى خمسة سأعطيك قبلة! ردّ عليها الطفل: واذا عددت الى عشرة، هل تنامين معي!.. كان التلميذ ذو الشارب الحليق حسن الخط .. في نفس اليوم الذي حلق فيه شاربه نجح في امتحان الخط .. اخذ خمسة على خمسة.عند مغادرة الفصل كان بعض الصبية يهنئونه، علق أحدهم بان تلك الحلاقة كانت مباركة عليه! أحد كبار التلامذة و اسمه قاسم استغل ذات مرة خروج المعلم من الفصل فحاول تقبيل زميلته. ضربه المعلم حتى أدماه، ثم طلب منه إستدعاء والده، في اليوم التالي جاء قاسم موثق اليدين بحبل طويل كان ابوه يسحبه به.. هكذا دخل به على المدير! .. كنت أسمع بعض كبار التلامذة يتحدثون عن الإستمناء وكم يستـمنون في اليوم الواحد. كان ذلك لا يعني لي أي شيء إطلاقا. كما كان بعض كبار التلامذة يسألونني عن أختي وهل هي جميلة مثلي، كما كانوا أحيانا يضعون راحاتهم على فخذي و كنت أصاب برعب شديد و انفر منهم بطبعي. تابعت رشيد كان يبدو حزينا و شديد التأثر : ـــ كنت أعلم ان شكلي الرقيق يجلب الأنظار، لأجل ذلك، تجنبت زميلي مختار، كما نصحت شريف بان يتجنبه أيضا . فالحفاظ على الشرف يقتضي تجنب الشبهات وعدم الاختلاط .. كنت اجهل ان شريف كان صبيا عاديا في السابعة، و أن الشرف والحفاظ عليه كان آخر ما يخطر له على بال . ..حين وجد شريف برودا من ناحيتي، فتح له مراد أحضانه، لا ليلاعبه كما يلاعب طفل أي طفل ــــــــ ص 93 ـــــــــ آخر بل ليمارس معه شذوذه .. ذلك ما أخبرني به مراد ذات يوم، أثناء عودتنا من المدرسة .. في عامنا الدراسي الثاني.. أصبح مراد زميلا لنا في نفس الفصل. إثناء عودتنا من المدرسة، تأكدت من صحة ما أخبرني به، حين توقف ذات مرة في مكان مشجر ثم سحب معه شريف، أبصرتهما من بعيد ..كان يفعل معه ذلك الشيء البغيض .. أصبحت اكره شريف و مراد بنفس القدر. الفصل الرابع عشر البهتان واصل رشيد سرد مأساته: ـــ لمّا كنت صبيا مفرط الخجل، فقد كتمت خبر شريف و مراد.. كانت المسألة بالغة الحساسية بالنسبة الى شخص خجول مثلي.. في الواقع، لم يخطر على بالي حتى مجرّد التفكير بتبليغ شقيقتي فاتن أو احد أفراد عائلتي عمّا كان يقترفه شريف من إثم.. كانت شقيقتي فاتن قد تزوّجت ثم انتقلت الى بيت زوجها الذي ترك بيت السطح و اكترى منزلا آخر يقع على مقربة من شقتنا، وكانت أمي زهوة قد بدأت تمارس ساديتها ضدّ شقيقتي، كانت تمنعها حتى من قطعة خبز تحتاج إليها بعد مرور وقت معقول من الوجبة الرئيسية، فقد كانت للعجوز الرهيبة خزانة تخفي فيها سلّة الخبز كي لا تكون في متناول شقيقتي عند الطلب. كانت شقيقتي تكابد جوعا صوماليا، رغم ان الطعام كان متوفرا في الجزائر.. لم تكن أفقر العائلات في بلادنا تعاني الم الجوع، ربما عانت الم الحرمان من بعض المواد التي كانت تعتبر كمالية مثل الحليب و الياغرت و الجبن و المربى و الفواكه، ولكن الخبز و الأطعمة الخالية من اللحم كانت في متـناول للجميع.. لم أعان يوما من الجوع ولكن شقيقتي كانت تعاني من ذلك رغم ان زوجها كان موظفا محترما، لأجل ذلك كانت تتجه مباشرة الي المطبخ فور دخول شقتنا.. في السنة الدراسية الثانية، و ذات يوم من شهر جانفي، و حين كنا في فسحة ما بين الحصتين، كانت الأمطار تنهمر بغزارة .. و كنا محتمين بسقف المدرسة... في الظروف العادية، كنت أتجنب الإختلاط بكبار تلامذة فصلي، كنت اذهب بعيدا حيث الخضرة و الشجر، لأستمتع بعزلتي و آمن معاكساتهم و عواقب الإختلاط بهم . حين وصل رشيد الي هاته النقطة اطرق برأسه الى الأرض، ثم وضع مرفقيه على فخذيه وغطي وجهي بكلتا يديه ثم تنهد بعمق و سكت. بعد قليل اضاف بلهجة بالغة التأثر : ـــ كان هناك زميل كبير السن اسمه" المزّي" نعم المزّي هو كذلك.. ما زالت اذكر هذا الإسم اللعين بعد مرور أكثر من 45 سنة .. ما زلت أذكر ملامحه، لا اذكر انني تبادلت مع هذا المخلوق كلمة واحدة خلال أربعة أشهر من تواجدنا في فصل واحد. ماذا صنعت له حتى يحوّل حياتي الى جحيم مستمرّ؟.. كان في حوالي السادسة عشر من العمر أي من صنف كبارالتلامذة بينما كنت من صنف الصغار. كان ذلك الصنف مختلفا عن صنفي في كل شيء جوهرا و موضوعا شكلا و اهتماما.. كان لهم عالمهم الخاص..كان شريف يخالطهم كما كان ينقل لي مغامراتهم النسائية، ذكر لي شريف أسماء تلامذة ذهبوا الي محلّ الدعارة و عاشروا النساء، كانوا رجالا بالغين و كنت صبيا خجولا. هنا شرع رشيد يبكي . ما أقسى الحياة... هكذا كتب على الإنسان أن يعــايش ذكرياته المؤلمة حتى القبر، ما أبشع أن ـــــ ص 94 ـــــ تستهلّ تلك التجارب القاتلة و الذّكريات المدّمرة حياة إنسان فتكون وسيلة تعذيب طويلة الأمد.. ليت في إمكاننا محو ذكرياتنا المؤلمة و تجاربنا المريرة كما نمحو من شريط مسجل كل المواد المزعجة لنملأها بأخرى أو نتركها فارغة. ليت الخمر و المخدرات و حبوب الهلوسة كانت حلالا لتنسي رشيد ماضية القاتل و حاضرة المدمر و مستقبله الواعد بالشجن و الأسى . نظر الي رشيد ثم أضاف: ـــ لولا الظروف الدراسية الشاذة، لكان المزّي في الفصل السادس.. وليس في الفصل الثاني، لن أسامح ذلك الشخص أبدا . كان راشدا حين فعل بي ذلك، يعني انه كان مسؤولا أمام الله، لن أسامحه أبدا.. تنهّد رشيد مرة أخرى ثم استمر في سرد مأساته: ــــ كان المزّي من فصيلة شريف، كان نعجة مثله، لنقل كان نعجة كبيرة. لا اذكر عنه شيئا الا عبارات توسله و استعطافه كبار التلامذة حتى يتركوه في سلام، كان مضطهدا على الدوام من قبل جميع نظرائه في السن، كان مثل الحمار القصير في متناول أي احد، كان ايضا أشدّ رخاوة من شريف نفسه، وكان لا يقدر على غير التوسّل.. لا زالت عباراته تطنّ في إذنيّ" بجاه ربي أتركني.. يرحم والديك سيّبني ". في ذلك الصباح الماساوي الماطر و المثقل بالغيوم، كنت أقف تحت سقف الطابق الأول، كان المطر ينهمر بغزارة و كانت الممطريات زمنها من الكماليات. كنت أتحيّن فرصة صحو السماء لأغادر المكان. كان المزّي يجثو على ركبتيه بين يديّ تلميذ كبير كان يتلذذ بليّ معصمه، كان يتوسّل كعادته، في حين كنت أتابع خيوط المطر.. في لحظة ما، قدّرت أنّ المزّي قد تغضبه معاينتي ذلّه بين يديّ معذبه، لأجل ذلك كنت أتظاهر بمراقبة المطر حتى لا أمنحه فرصة إتهامي بالشماتة به و بالتالي فرصة إيذائي . رغم ذلك كنت أتوقع الكارثة.. أخبرتك قبل قليل عن قدرتي الإستثنائية على توقع حدوث أشدّ السيناريوهات قتامة.. أمسك رشيد رأسه بكلتا يديه اطرق الي الأرض مليا، ظل ساكتا ثم قال: ـــ ليتني غادرت المكان حتى لو ابتللت بل حتي لو كانت تنتظرني صاعقة من السماء، لكنني بقيت مسمّرا في مكاني.. كنت انظر أمامي حين بلغتني صيحة ألم كبيرة أطلقها المزّي، يبدو أن معذبه قد بالغ لحظتها في ليّ معصمه. حين التفتّ عن يميني إلتقت عيناي بعينيه، في أقل من لمح البصر رفع المزّي رأسه في وجه معذّبه ثم قال:" أتوسل إليك اتركني .. و سأخبرك ماذا فعل رجل أعرفه بهذا الصبيّ " ثم أشار نحوي بيده المطلقة، أحسست بزلزال تحتي . دارت بي الدنيا، أحمرّ وجهي في الحال.. رغم برودة الجوّ، شعرت بحرارة شديدة في وجنتي، و بعرق بارد ينحدر على ظهري. بقيت مسمرا مثل فأر يائس أمام مخالب قط مفترس... حيال شدة الصدمة لبثت مفغور الفم، سدّ عليّ الخجل كل منافذ الفرار، لم اقدر على فتح فمي بربع كلمة واحدة . كان دفاعي عن نفسي غير وارد أصلا. كنت أعلم خسة المزّي، كما كنت أدرك المدى الذي يتحرك فيه تفكيره، كنت أعلم أيضا ما عسى أن يفعله رجل غريب بصبيّ عاجز مثلي.. يبدو أن الرواية التي وعد المزي بذكرها قد راقت لمعذبه، فأطلق سراحه فورا . كما جعلت الجميع يلتفتون نحوي . أطرق رشيد طويلا، غطى وجهه بيديه، أطلق زفيرا حادّا ثم أضاف: ــ ص 95 ــــ ــ أحتجت اكثر من عشرين سنة و أنا استعيد الحادثة آلاف المرّات قبل ان أتوصل الى جواب السؤال التالي:" لماذا عاملني هؤلاء الشبان جميعا بمثل تلك القسوة و التشفّي؟... و كان الجواب هو الآتي.. كنت تلميذا ذكيا كما كنت محشوّا بالمعلومات التي قلما كانت تجتمع في رأس صبي في مثل سني.. قلت لك آنفا انني كنت ميالا الى العزلة وكانت جاذبية الكتب بالنسبة لي لا تقاوم .لأجل ذلك كنت انفق الساعات الطويلة في المكتبة العمومية.. كنت أطالع بنهم شديد كل مل تقع عليه يدي من كتب الأطفال .. لأجل ذلك كانت معلوماتي غزيرة بالقياس الي بغال في السادسة عشر من العمر لا يكاد الواحد منهم يحسن كتابة اسمه. كنت محبوبا من قبل مدرّسي كان" سي فوزي" رجلا محترما و مربيا فاضلا، كان يشبه أي مدرس نرويجي في حبه لمهنته و صبره على تلامذته، كان مدرّسا استثنائيا،لا اذكر انه ضرب تلميذا. كان شديد الأناقة، في كل نهاية حصة كان يخرج من محفظته خرقة بيضاء، ثم يضع قدمه على المصطبة و يشرع في تلميع حذائه .. كان شخصا رائعا رحم الله روحه الطيبة أكان حيا أو ميتا .. أكثر ما كان يزعج كبار التلامذة هو إخراجي الى السبورة من قبل سي فوزي و أمري بإصلاح ما أخطأ فيه أحد هؤلاء، كان ذلك يغيظهم، وفي كل مرة كان يوبخهم و يأمرهم ان يقتدوا بي عوض صرف وقتهم في الملاعب و المقاهي وأرصفة الشوارع . كنت لا أزال تحت تأثير الإتهام الصاعق، حين شرع المزّي في شرح تفاصيل روايته الكاذبة: ـــ بالأمس قابلني رجل يسكن في حيّنا، شخص مغرم بالصبيان الحسان. قال لي " سأسألك عن ولد في مدرستكم أسمه سامي أحمد هل تعرفه ؟ أجبته فورا " نعم، أعرف فرخا صغيرا يدرس في نفس فصلي. سألت الرجل كيف عرفته ؟أجابني" وجدته في الطريق فراودته عن نفسه، لم يمانع، أخذته معي الي المقبرة القريبة و هناك تركني أفعل به ما أشاء، ثم أعطيته مقدارا تافها من المال . بعد الفراغ من روايته التفت نحوي و سألني: ـــ هل تـنكر هذا ؟ ثم وهو يلتفت إليهم: ــ أن لم تصدقوني فأسألوه ...هو أمامكم . لم أبال بسؤال الكبار و لا بتعليقاتهم البذيئة، لأنني كنت في عالم آخر، كنت مصعوقا، بلغ سلّم رشتر درجاته التسع تحت قدمي، كان العرق البارد يغمرني، و كنت مشلولا حتى عن مجرّد التفكير فضلا عن الكلام . كان الخزي و العار يملآني من رأسي الي أخمص قدمي، حين التفت الى جانبي وجدت شريف يقف خلفي. كان قد سجّل كل تفاصيل الكذبة الكبرى.. كانت رؤيتي لشريف أشدّ عليّ من رواية المزّي ..أدركت ان الإشاعة أصبحت في أيدي أمينة، و ان نقلها الى أسرتي صار في حكم المؤكّد. لبثت مصعوقا حتي دق الجرس معلنا عن انتهاء موعد الراحة و انتفاض التلامذة عني. خمسون ثانية من عمر الزمن، كانت كافية لإدانتي و الحكم عليّ، كما كانت كافية لرسم مأساتي، و تغيير حياتي، وإدخالي الى الجحيم الأبدي، دون كلمة صدرت عني، أو مجرّد إشارة تكذيب وجهتها لمن أدانني، كنت واقفا مثل صنم... لولا ضميري الديني الذي ولد مكتمل النضج، ما ترددت لحظة واحدة في إنهاء حياتي، وعلى عن الأقل تصفية شريف في اقرب فرصة، حتى أدفن معه تلك الإشاعة الباطلة. كان استمرار شريف في البقاء لا يعني غير قتلي، ولم يكن في إمكاني غير تركه ينجز مهمته و يقتلني، كان خوفي من نار جهنم شديدا..عمّن ورثت ذلك الضمير الديني المعذّب؟ من أين جاءني ذلك الخوف من الله؟ كان أبي لا يكاد يفيق من السكر، و كان جدّي قاطع طريق، و كان والد جدّي من كبار المرابين..اللعنة.. سبق ان أخبرتك بذلك. بعد ــ ص96 ــــــــــــــ يومين فقط كان كل أفراد عائلتي على علم بالإشاعة الكاذبة، وكان أهل حينا قد سبقوهم إلى ذلك. منذ ذلك التاريخ، أصبحت أعيش في جحيم مستعر، في البيت و في الشارع و في المدرسة في كل مكان كانت العيون تحاصرني، و الإشارات تعذبني، و الكلمات تذبحني، و كنت غارقا في العار، و مسربلا بالفضيحة، وعاجزا عن الكلام، حتى عن دفع التهمة عن نفسي، كنت أتمني الموت ألف مرّة و لا أموت. انخرط رشيد في بكاء مرير، وجدت نفسي أشاركه البكاء، كنت أبكي بصدق و حرارة . لم أبك حتى يوم مات أبي ..لكنني بكيت قبل ذلك.. لم أبك من الحزن أو الألم أو العشق بل بكيت من القهر والإحساس بالعجز... حدث ذلك عقب تشاجري مع آمر سريتي. كتب عني تقريرا رفعه الى آمر الفوج، بعد يومين استدعاني أمر الفوج، رافقني النقيب الى مقرّ القيادة لمقابلته، كان يمشي امامي و انا اتبعه، لكن الحق كان يمشي بجانبي، أما العدالة العسكرية العوجاء فقد كانت الى جانبه. أول تباشير العدالة العسكرية تمثلت في دخول النقيب لوحده الى مكتب آمر الفوج حتى يجد الوقت المناسب لقول ما يشاء و ادعاء ما يشاء و تشويه صورتي بالقدر الذي يشاء، في حين بقيت واقفا امام الباب انتظرالإذن بالدخول. بعد حوالي ربع ساعة و حين أذن لي بالدخول . واجهت ثاني تباشير العدالة العسكرية: إجباري على الوقوف لتحية آمر جالس كان القانون العسكري يحتم عليه الوقوف لتلقي تحيتي العسكرية وهو في وضع استعدا د ثم الرد بمثلها وهي في نفس الوضع لكنه لم يفعل ذلك . كان آمر الفوج احمر مثل خنزير كما كان ازرق العينين، غربيّ الملامح، لو خلطته بنرويجيين ما ميزته عنهم الا اذا نزعت سرواله و تبين لك انه مقطوع القلفة. كان عليّ أن أقف في وضع استعداد عسكري أي ان أكون مسبل اليدين ثم أعرّف بنفسي" اسمي كذا، رتبتي كذا.. السرية كذا الفوج كذا أمرك يا حضرة كذا." .كان عليّ أن أبقى كذلك حتى يأذن لى بنزع قبعتي والإفراج بين قدمي ووضع يدي مشتبكتين خلف ظهري، كان ذلك العمل مهينا بالنسبة لشخص مثلي .. فرتبتي بارزة على كتفي، واسمي مكتوب امامه على رأس التقرير، ثم انه يعرف انني بالإضافة الي وظيفتي العسكرية فأنا إمام مسجد معيّن من قبله، و قد سبق له ان حذّرني من الدخول في السياسية، كما ان ذلك الخنزير يعلم جيدا انه آمر فوج مشاة و ليس آمر فوج دفاع جوي، فلماذا يطلب مني تقديم كل تلك المعلومات التي يعرفها جيدا.. لو قلت اسمي كولن باول و رتبتي جنرال و فوجي هو الفوج العاشر للمارينيز لقال لي كذبت اسمك سامي و رتبتك كذا .و فوجك كذا .. ثالث تباشير العدالة العسكرية العمياء جلوس آمر سريتي على يمين آمر الفوج، ليقوم بدور الخصم و الحكم . حين صدر الحكم ضدي انفجرت باكيا من شدة القهر... من لم يعرف الحياة العسكرية في العالم الثالث يكون قد غاب عنه ركن عظيم من الظلم و الحيف ..الخدمة العسكرية تجعلك تكفر بالوطن و بالله و بكل القيم .. لأجل ذلك فان اول ما يبحث عنه الشاب الذي أدّى دين وطن كريه، هو البحث عن سبيل لمغادرة ذلك الوطن، ولو استقلّ زوارق الموت السرية ثم انفق زهرة شبابه مع حيزبون نرويجية أو ايطاليّة في عمر جدّته، المهم الاّ يعود الى وطن الإهانة و القهر. بعد أكثر من ثلاثين سنة، ها أنا أبكي للمرة الثانية في النرويج تضامنا مع رشيد، بعدما بكيت تضامنا مع حارث بيتروفيتش. ـ97 ـ |