حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
مشروع الحوار القروي - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3)
+--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57)
+--- الموضوع: مشروع الحوار القروي (/showthread.php?tid=50593)



مشروع الحوار القروي - فارس اللواء - 09-15-2013

بقلم:سامح عسكر

مشروع الحوار القروي

منذ أيام كنت في زيارة لقريتي ومسقط رأسي في محافظة الغربية،وقفت فيها على العديد من الشواهد الدالة على تغير مجتمعي وفكري جديد، أول هذه الشواهد هو اختفاء أعضاء الإسلام السياسي من المشهد الاجتماعي، بمعنى أنني حضرت حفلاً للزفاف كان الحاضرين في مجملهم ليسوا حزبيين، ولا علاقة لهم بالسياسة سوى حُبّهم الواضح للفريق أول عبدالفتاح السيسي باعتباره بطلاً شعبياً نجح في تخليصهم من الإخوان وتجار الدين..هي حالة فكرية جديدة نجمت عن فشل الإخوان في حُكم مصر وخروجهم بطريقة مهينة وعنيفة، وقد أثر ذلك على المشهد الاجتماعي للقرية.

فالإخوان كانوا -في السنوات الأخيرة-في مقدمة المشهد الاجتماعي والخَدَمي ..وكانوا لا يتركون حفلاً للزفاف أو سرادقاً للعزاء أو مطلب خدمي أو اجتماعي لأبناء القرية إلا ويكون للإخوان حضور رسمي فيه، لكن اختلف الوضع هذه المرة، فلم أرَ الإخوان في مقدمة المشهد كما تعودت، في مقابل ذلك كان المشهد يدل على أن أي تجمع بشري للأصدقاء أو للأقرباء لا يخلو من الحديث في السياسة واجتماع الحضور على ذم الإخوان والشيوخ بالمجمل وتورطهم في السياسة..

في القهوة في الشارع في زيارات الأحباب لبعضهم..الجميع في حالة وِفاق سياسي لم أعهدها من قبل، ومع ذلك كنت من توقع حدوث هذا الأمر كنتيجة طبيعية لفقر الإخوان السياسي، والذي هو نتيجة لفقرهم المعرفي وضيق أفقهم عن توسيع معارفهم في علوم العقل والمنطق والفلسفة، تلك المعارف التي إن اختفت من المشهد حل محلّها التعصب والجهل والخلط والقياسات الفاسدة والطاعة العمياء وما إلى ذلك من أمراض نهشت في عِظام الأحزاب الدينية وتابعيها.

لكن مع ذلك بقي أبناء القرية -بفقرهم وجهلهم- عُرضةً للاستغلال مرة أخرى ، وهو تحدٍ جديد للدولة أن تملأ هذا الفراغ بقوة بعد أن ملأته تلك الجماعات في الماضي ، لابد للدولة أن يكون لها دور واضح وقوي في ثقافة أهل القرية، وأن لا تتركهم عُرضة لتجار الدين وأصحاب المنافع، فالدولة في مقام الراعي والقائد كونها تملك كافة الإمكانيات في التواصل بين أهل القرية وتثقيفهم، وإليها تسكن مشاعر الفلاحين باعتبارها مصدر المواد الزراعية لديه، وهي الكيان الاعتباري الذي يتحكم في طريقة ومعيشة الفلاح.

لابد وأن تتنوع مصادر الثقافة في القرية، لأن الواقع يحكي عن مصدر واحد ووحيد في التثقيف...هذا المصدر هو شيخ المسجد، فهو أبو العلوم وأهل الثقة والأمن معاً، وكلماته ورنين أصواته في الأذن تُشبه كلمات القرآن وأصوات الأنبياء، فالشيخ يقبع في مكان الوعظ والعلم معاً.. كمكانٍ لا يخالجه أحداً سواه، وباجتماع الوعظ والعلم يكون التصديق.

لقد حاولت الدولة أن تُعالِج هذا الجانب باتباع سياسة أكثر صرامة في السيطرة على المساجد، ولكن هذه السياسة فشلت لسببين اثنين:

1-أن أكثر من 40% من مساجد مصر هي خارج سيطرة الدولة، وهي رافد من روافد المال والتكافل والدعم من جهات معينة لها مصلحة لنشر أفكارها ومذاهبها الدينية، وأخص بالذكر المذهب السلفي الحنبلي، أي أن اتجاه الدولة للسيطرة على تلك المساجد سيُقابله إنشاء مساجد أخرى تتجدد بالفكرة الأصلية القابعة من ورائها، هذا بافتراض نجاح الدولة في السيطرة، وأشك في ذلك لأسباب مالية وقانونية، حتى النسبة الأخرى التي تعادل 60% هي رهينة لاختراق تلك الجماعات للأزهر، فلو نجح الأزهر في التصدي لهذا الاختراق وحصار تلك الأفكار سينجح في السيطرة على المساجد.

2-أن الأزهر الشريف لا زال عاجزاً عن إجراء أي مراجعة للتراث ، والعجز ربما يكون هو نتيجة للخوف من الدخول في هذا المسلك، فالبعض يعتبره شائكاً لأسباب تتعلق بالهوية، فلو نجحوا في علاج الهوية -وبالأخص الهوية الدينية-ربما يمتلكون الشجاعة في الإعلان عن أول مراجعة للتراث وتضمينها في مناهج التعليم وتعميمها لنشرها في المساجد.

نعم هو طريق طويل وصعب ولكنه مفعم بالأمل في علاج أحد مصائبنا الفكرية التي تُغذّي جماعات الإرهاب والإسلام السياسي ، فمهما فعلت الدولة ومهما فعل الأزهر -في علاج تلك الأفكار المنحرفة- فلن ينجح إلا بعد إجراء تلك المراجعات التراثية، لابد من رؤية جديدة لعلم الحديث والفقه معاً، لابد من رؤية موحدة للآخر وتكون قوية وقائمة على أساس عقدي ومنطقي صلب، يسهل بعد ذلك مخاطبة الناس به، لابد من رؤية جديدة لقضايا غيبية لا تدخل في صلب العقيدة كالمسيخ الدجال والمهدي المنتظر ونزول السيد المسيح وعذاب القبر وما إلى ذلك من عقائد كانت محل شك للأولين والآخرين معاً، فهي عقائد انعزالية تُعطي صورة لليوم الآخر مخالفة تماماً للقرآن وللعقل وللمدنية وللحضارة بالعموم.

علاوة على ذلك لابد من الخوض في مسألة الحدود بجُرأة ومناقشة القضايا محل الخلاف في هذا الجانب، وأهم تلك القضايا على الإطلاق هما الحدين الأشهر بين طلاب العلم والمعروفين.."بقتل المرتد ورجم الزاني المحصن"..فهما حدين يُمثلان لدى الجماعات أسطورة سياسية للسيطرة على الجريمة والفاحشة معاً..ولكن برداء ديني بدعوى حفظ الدين،رغم أن هناك دولاً كانت ولا زالت تطبق تلك الحدود، إلا أنها شهدت ارتفاعاً في معدلات الجريمة والفاحشة عكس المرغوب.. بما يُعطي التساؤل حول صحة وجودهم في الدين أساساً.

هي دعوة للعلم وللدين لن تنجح في الحشد دون الدعوة للحوار المجتمعي الواسع، وأول هذه المجتمعات هو مجتمع القرية، فتقريباً هذا المجتمع هو أصل الثقافة للمجتمع المصري، وهو المؤثر الدائم على الدولة واستقرارها.

وما كانت ثقافة الحَضَر إلا معلماً من معالم عدم الثقة بين المدينة والقرية في الوعي المصري، فقديماً شاع بين المصريين أن الأثرياء هم أهل الحَضَر والسلطة معاً، بينما الفقراء هم أهل القرية وعوام الشعب المطحونين،علاوة على الرؤية الدينية الصوفية لأهل القرية ..في مقابل الرؤية الدينية المدنية لأهل الحضر، فكان الخلل بين المصريين ذو معالم اجتماعية ودينية وسياسية ممتزجة يصعب معها أن تتقدم المدينة في تثقيف وتأهيل القرية.

لكن في تقديري أن معالم ومظاهر المدنية الحديثة للقرية المصرية -والتي تتمثل في بعض العادات والمظاهر والسلوكيات التي ظهرت مؤخراً على القرويين وجعلتهم أقرب من حيث الشكل والسلوك للمدنيين -هي مظاهر تسبب فيها الإعلام وسرعة التواصل في المقام الأول، لكنها أصابت الشكل ولم تُصِب الجوهر الذي لا زال أسيراً لثقافة وأعراف أهل القرية، وهي حالة جديرة بالبحث والدراسة ربما لا يتسنى لنا بحثها الآن باستفاضة، وسنكتفي بالإشارة إلى أن الأزمة ما بين الريف والحَضَر في مصر- والتي ناقشنا بعض جوانبها في السطور الماضية-ستكون هي العائق أمام أي تواصل جدي بينهم يدفع باتجاه ديني وثقافي متمدن، لكن وفي تقديري أن الاتجاهات المتفق عليها- والتي يمكن البناء عليها مستقبلاً- هو أن يكون الدين هو الضابط الاجتماعي الأول في المجتمع المصري.

وبالحوار حول هذا الضابط يمكن الاتفاق على أن الفكرة الدينية هي أخلاقية في المقام الأول، والسبب أنها مسّت جانب الاجتماع، أما الفكرة العقائدية فهي لا يمكن لها أن تُوجد دون فكرة أخلاقية ضابطة للإنسان وللمجتمع سواء، بمعنى أن الأخلاق في الدين يمكن لها أن تكون دون عقيدة، ولكن العكس غير صحيح، فلا يجوز أن تكون هناك عقيدة بلا أخلاق، وأظن أن الأخيرة ماثلة لدى الجماعات بقوة، وهي موطن الداء الجالب للإرهاب والظلم، إضافة إلى أنه ليس المقصود بالفكرة الأخلاقية هو اعتبار الأخلاق دين منفصل ومستقل، بل هي حالة متجددة ومتغيرة مرهونة بالظاهرة الثقافية التي يُنتجها الدين، فالأخلاق بدون دين ستكون نسبية لخضوعها للإنسان وأهواءه، وبالتالي سنكون في حاجة ماسة للتعريف والفصل بين الدين –بعمومه وشموله-وبين العقيدة النسبية التي يتفاوت عقل الإنسان في تصورها.

الإسلام -على سبيل المثال -هو دين عام وشامل، ولكن المسلمين في تصورهم لعقيدته اختلفوا ما بين أشاعرة ومجسمة وماتوريدية ومعتزلة، علاوة على العديد من الخلافات العقائدية بين السنة والشيعة، وبين الشيعة وأنفسهم وبين السنة وأنفسهم.. فنحن أمام .."دين وعقيدة".. ولسنا أمام.."عقيدة واحدة"..وإلا أصبح جميع المسلمون كُفّاراً عند بعضهم البعض.

هنا تكون مادة الحوار بين أهل القرية وأهل المدينة، وهي أن الدين بعمومه هو أخلاق كمبدأ أول يتفرع تحته بعض العناوين والنماذج التي نعتقدها جميعاً، ثم نختلف كثيراً حولها ونظن أنها الدين-المبدأ الأول-وهذا غير صحيح-نخلص بعد ذلك إلى نتيجة مُرضية للحوار نؤهل فيها أهل القرية للحوار مع أنفسهم، وألا نتركهم فريسة لتجار الدين الذين جعلوا أنفسهم حراساً للعقيدة ،فخلطوا الدين بالعقيدة وبالأخلاق حتى انهارت أخلاق الجماعة ومعها انهارت أخلاق المجتمع نفسه..والسبب أنه لا يمكن تدريس الأخلاق وخلطها بالعقيدة إلا وظهرت في الناس معالم الوصاية والتكفير، فتدريس العقيدة يعني اعتقاد الحق المطلق في مسألة، وبعد دمجها بالأخلاق يتعين على الطالب-حينها-أن يكون حارساً لتلك العقيدة كمسألة أخلاقية.


الرد على: مشروع الحوار القروي - فارس اللواء - 09-15-2013

الحلقة الثانية

الدين هو مكون ثقافي عند أهل القرية، وهو الذي يرسم محاور الشخصية القروية، وهو المُغذّي الأول لأبعادها، وهذا يحدث عبر الطقوس اليومية للدين والقيم القروية المتفاعلة مع تلك الطقوس، كمثال أن النساء في القرية لم تعتاد الصلاة في المساجد، وهذا بخلاف أهل المدينة، فالنساء يذهبون إلى المساجد، وهذا يتسق مع أعراف وقيم أهل القرية التي تحظر الاختلاط حين التعرض للدين، بينما لا يوجد ذلك في المدينة، وبذلك تصلح مسألة الاختلاط كمادة حوار بين أهل القرية، وكذلك ماهية تلك الطقوس وشعائر الدين التي يمارسونها وفق قيمهم وأعرافهم وحقيقة علاقتها بالدين.

أنا لا أزعم اختلاف الطقوس بشكل كلي أو جزئي بين أهل القرية والمدينة، ولكن أزعم أن الدين –كمعتقدات وطقوس-هو مرهون بممارسة الناس له في واقع اجتماعي متغير..أيا كان ذلك حتى في المدينة نفسها سنجد تلك الاختلافات، وكذلك القرية ،فالوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو البيئي قد يفرض على الناس تعدد طقوسهم وتنوع ممارساتهم للدين، لابد لأهل القرية أن يتعرضوا لتلك الأشياء ويضعونها مادة للحوار، فالغالب على أهل القرية هو وحدة صورتهم عن الدين، ومع ذلك هم لا يلحظون تلك الاختلافات، وكما قلت فغالبية أهل القُرى هم أسرى لشيوخ السلفية والإخوان الذين خلطوا ما بين الدين والعقيدة والأخلاق، حتى صار قبول أي اختلاف-حتى لو في الشعائر أو الطقوس-هو أمر مرفوض ويُثير الشُبهات.

جانب آخر لابد من مناقشته هو حقيقة موقف أهل القرية من النظام السياسي الديني، والذي تمثل في نظام الإخوان والرئيس المعزول محمد مرسي، فالقرية المصرية لم تختلف عن المدينة في هذا الجانب، وهذا يعود بالأساس –وكما أشرت في السابق-إلى قضية الهوية، فجماعة الإخوان قد خلقت لها واقعاً اجتماعيا ودينياً وسياسياً خاصاً في قلب المجتمع المصري، ولم يُفرقوا بين القرية والمدينة، ولكن كان نشاطهم أكثر في القرية لتعدد مشاكلها من الفقر والأمية وتردي الأوضاع الخدمية والمعيشية، فأصبح جمهورهم أكبر في تلك المناطق الريفية القروية، ولكنه كان جمهوراً يعاني من مشاكل الهوية، فأصبح أتباعهم بين ساعة وأخرى هم أعداء، والسبب كان لقوة منطق المنافس وإظهار جماعة الإخوان وكأنها متمردة على المجتمع المصري، فلم يقوى الأنصار لنفس العامل الذين جاءوا من أجله وهو عامل المال والعلم معاً.

ففور ظهور فشل الإخوان في الجانب المالي وعدم سد حاجة هؤلاء الفقراء حينها تساوت الرؤوس، وعادت الصورة المنطبعة في الوعي واللاوعي القروي مرة أخرى، تلك الصورة التي أسسها نظام حُكم عبدالناصر الشعبي، وهو حُكم أصاب الوجدان القروي في الصميم، وهو الذي أنتج لنا الفلاح المعاصر بكل إمكانياته، فكان ولابد أن تكون للرؤية الناصرية للجماعات دورها في الكيان القروي.

ولكن لا زالت أحد عيوب القرية هي السلبية وعدم الانطلاق الذي يمكنهم من صنع المبادرة أو تقدمها، فالإبداع في تلك المناطق قليل أو معدوم، بينما المدينة تتمتع بتلك المزايا ،وهي التي أخذت زمام المبادرة بالانقلاب على النظام الديني الإخواني... لذلك كان انقلاب القرية على الإخوان متأخراً عن المدينة، ولكنه كان أشد عنفاً وضراوة تمثل في شبه محاكم تفتيش على الفكر الإخواني، وهو العيب الذي كنا ولا نزال نرصده ونحذر منه، أن بذور الإقصاء -ومن ثم بذور الإرهاب- هي موجودة في القرية للعوامل التي سبق الحديث عنها.

فالإرهاب والإقصاء ليس محصوراً على فئة المتدينين المنحرفين، ولكنه يطال كل من يُقصي غيره بحُجة الحق والباطل والخير والشر وإلى ذلك من غايات هي نسبية في تحققها عند الإنسان..نعم هي مُطلقة في ذاتها ولكن حين يتصورها الإنسان فلا تكن مُطلقة إلا بشروط أهمها توافر .."البعد الإنساني"..فيها، وهو الذي يعني توافق البشر جميعهم على هذا الحق وهذا الباطل، عدا ذلك فالمفروض أن تكون هناك مساحة قبول عامة للآخر يتحرك الإنسان من خلالها ليتعايش ويُنتِج.

أزعم أن أهل القرية هم أقل دراية بهذا البُعد الإنساني من أهل المدن، فالنسيج القروي لا تتعدد فيه أوجه الخلاف لسيطرة طبقة.."المهتمين السلبيين"..عليه كما سيأتي شرحه ، وكذلك كون الأخلاق لدى القرويون ظاهرية، أي أنها لا تشترط الإحساس الداخلي وتعبيره عن ذات الإنسان، فيُمكن للفاسد-حينها- أن يكون خلوقاً لدى أهل القرية بمجرد ثراءه أو تعدد أعماله الخيرية والاجتماعية، والسبب أن نسبة الفقر في الريف المصري هي أعلى من معدلاتها في المُدن، وأينما وُجِدَ الفقر سيُوجَد الاستغلال والتسلق والتزلف وتلك السلوكيات المنحطة، فالقيود على الأخلاق في الريف عاجزة لطبيعة القرية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك لشيوع رأي الفقهاء فيما بينهم على أنه دين، وكلما اختلف الفقهاء سيختلف أهل القرية.

لذلك أرى أن الخلاف في القرية المصرية هو أعمق من مثله في المدينة، فالتواصل المدني يصنع إدراكاً عقلياً من الناحية النظرية، وطَبقاَ لطبيعة المدينة الصناعية يتحول هذا الإدراك النظري إلى عملي بسرعة أكبر من حدوثه لدى القرويين، بمعنى أن المدني يتعرض لتجارب حياتية نتيجة لتواصله مع فئات المجتمع المختلفة إضافة إلى الأجانب، ولكن القروي لا يمتلك تجارب تؤسس لديه مرحلة إدراك عقلي نظري مبكر، وفي غالب الأحيان يأتي في سن متأخرة، فيصنع هذا الفارق لديه يقيناً مزعوماً يتصادم به مع أول رأي آخر به مَسحة من المنطق، لذلك أقول أن مجتمع القرية عملياً هو أغبى من مجتمع المدينة، والغباء ليس فطرياً ولكنه صنيعة لليقين الزائف.

فكلما زاد اليقين في مكان ما –من حيث العدد والكمّ- سيزداد الغباء بالضرورة، لأن الذكي لا يتقين بسهولة، فتجريده للأشياء لا يملكه أحداً سواه، وقياساته وسؤالاته دقيقة وشجاعة، بينما الذي يسارع إلى اليقين هو في الحقيقة يسلك مسلك واحد من اتجاهات البشر ويغفل عن أخرى قد يكون الحق أو المنطق فيها، وأعظم الشواهد الدالة على ذلك هو أن الحروب في المجمل تكون بين .."يقين ويقين"..إلا لو كان هناك شك فسيكون السلام، بينما السلام هو حالة افتراضية ساكنة تطرأ عليها الحرب، وهذا يعني أن اليقين بالأصل هو نتيجة لمجهود وسلسلة تبني وتشد بعضها بعضا فيما نسميه.."المذهب".

هذا لا يعني أن مجتمع المدينة شكاكاً أو مقدار اليقين لديه قليل، فالمصريون قد.."تريفوا"..-نسبةً إلى شيوع قيم الريف في المدينة-منذ عقود، وبالتحديد منذ عصر الانفتاح الساداتي الذي أعقبته الهجرة التاريخية من الريف إلى الحَضَر، فلم يجد المهاجرون سوى العشوائيات والمناطق الشعبية، بينما ظلت الأحياء.."المتمدنة"..على طبيعتها دون تغير ملموس، وإن كان هناك تغييراً طفيفاً أصاب الشكل، إلا أن جوهر.."التمدن"..في تلك المناطق قد حافظ على أصالته، ومع ذلك فالمدينة بتمدنها ومناطقها الشعبية والعشوائية هي بالأصل تمتلك فرص التواصل أكثر من القرية، لذلك قلنا أن مجتمع المدينة أذكى من مجتمع القرية نسبةً إلى تواصله الذي يخلق لديه انفتاحاً حراً على الأفكار.


الرد على: مشروع الحوار القروي - فارس اللواء - 09-16-2013

الحلقة الثالثة

القرية المصرية ورغم كونها تفتقر للمبادرة وصُنع الإنجازات..إلا أنها تتأثر بالأحداث السياسية بمعدل متصاعد خاصةً في الآونة الأخيرة، فقد ساهم الإعلام في تشكيل وعي قومي موحد بين عموم الشعب لا فرق فيه بين مدني وقروي، فقديماً لم تؤثر الحروب العالمية على القرية المصرية إلا في اتجاه تجنيد الفلاحين، ورغم هذا التجنيد الواسع الذي طال شباب ورجال القرية إلا أن القرويون كانوا أقل اهتماماً بالسياسة من أهل المدن، وأبرز الأحداث الدالة على ذلك هو ما أعقب الحربين العالميتين الأولى والثانية من ثورات شعبية لأهل المدن أدت إلى إضعاف سلطة الاحتلال في الحرب الأولى ثم سلطة الملك في الحرب الثانية.

حتى ثورة 25 يناير بدأت في المدينة وتمددت-كمشاعر-في القرية، ولكنها لم تتطور لمستوى الثورة إلا في 30 يونيو من العام 2013، والأسباب كانت اقتصادية واجتماعية -كما سلف الحديث عنها في إطار أزمة الهوية الإخوانية داخل المجتمع المصري-ولكن قبل تاريخ تلك الثورات كان جُلّ اهتمام أهل القرية منصب على الخدمات وما تقدمه الحكومة للشعب، وهو اتجاه كان يكشف حالة الاستقرار السياسي التي كانت تتمتع بها الدولة المصرية، وكانت لها جذور من زمن عبدالناصر وما قدمته الحكومة آنذاك للفلاح، فأصبح الفلاح يعتمد على مبادرات الحكومة دون جُهدٍ منه، وهو لم يعي الفارق بين عبدالناصر ومبارك، في حين كان أهل المدينة يلحظون هذا الفارق ومن أجله قامت ثورة يناير.

لقد أفرزت تلك الفوارق بين المدينة والقرية إلى توحد جهود المدنيين للقرية، وقد وصلت تلك الجهود بسرعة بفضل الإعلام-وخاصةً الموجّه-فقد شعروا أخيراً أن قوة الثورة الحقيقية ليست في المدينة، قد تصلح هذه القوة المدنية في السابق، أما الآن فقد أصبحت القرية تُشكل أعظم خلفية لخصوم المدنية والحضارة، وعليه كان توجه المدنيون للقرية لاستيعاب أي طبقات جديدة نشأت بفضل الثورة المعلوماتية، وأظن أن الحوار القروي سيقوم بالأصل على تلك الطبقات تحديداً، فهم قادة الفلاحين الجُدد، وهم الذين أثروا وسيؤثروا على المشهدين الاجتماعي والسياسي الريفي.

مشروع الحوار القروي يقوم على رصد تلك الطبقات والتعامل معها، ومن ثم تقديمها كممثل للثقافة الريفية دون إخلال بالنظام الثقافي العام والشعبي، وأنا هنا أقصد تلك الطبقات المهتمة وليست الدارسة أو المتخصصة، فأزعم أن الدارسين والمتخصصين قد انتقلوا سابقاً للمجتمع المدني، ويصعب عليه تمثيلهم للقرية في حين يتشبعون بأعراف وقيم مختلفة، قد يكون المهتمون أعظم شأناً من غيرهم فيما لو تفرغوا لتنمية معارفهم، فالثقافة الحقيقية-كما قال إينشتين- هي التي بقيت بعد انتهاء فترة الدراسة، وعليه فالدارسون أو المتخصصون هم بالأصل ليسوا مثقفين سوى ثقافة هشة ربما تذهب مع المهنة وربما تبقى وتتطور حسب درجة التعليم وممارسة الوظيفة .

تلك الطبقات جميعها أراها مهتمة وهي مُقسّمة-لدي- كالتالي :

1-مهتمون ايجابيون: وهؤلاء هم المتفاعلين الثقافيين مع أهل المدينة، وهم عصب الحركة السياسية في الشارع القروي، وهم المؤهلون للحركة الشعبية أيضاً، قد يكون منهم دارسين ولكن الاستثناء يؤكد القاعدة.

2-مهتمون سلبيون: وهؤلاء لا هم لهم سوى التنفيس عن آرائهم وتعداد أصواتهم في الانتخابات، وربما يُشاركون في الحركة الثقافية الدينية ولكن عن بُعد وحَذَر شديدين...وللأسف ففي تقديري أن هذه الفئة هي أكثر الفئات عدداً في الشارع القروي، وهي محط أنظار شيوخ الدين، فهم يوجهون خطابهم الديني والسياسي لهذه الفئة والفئات الأدنى، وأعتقد أن سر ابتعادهم عن .."المهتم الإيجابي".. هو طبيعة الخطاب الديني الساكن لديهم، فلو كان خطابهم متحركاً لجاز لهم أن يؤثروا فيه ولو عن بُعد، وأعنى بالخطاب الساكن والمتحرك هو ديمومة التغيير لديهم، فهم يُعانون من الجمود الطبعي والمعرفي، بينما المهتم الإيجابي متواصل ثقافياً مع أهل المدينة، وهو متحرك بحركة الأحداث ويبحث دائماً عن التغيير، وتلك الجوانب جميعها تتصادم بالأصل مع دعوة الشيوخ .

3-مهتمون مُهمَلون: وهؤلاء هم الفلاحين ، فهم يهتمون بالأحداث ولكن لا أحد ينظر لآرائهم إلا للمصلحة، فالاهتمام الشعبي القروي بتثقيف الفلاح يكاد يكون معدوم، ولو لم تحل الدولة هذا المحل لبقيَ الفلاح مسجوناً في هذه الفئة لا يُغادرها إلا إذا ارتأت الدولة أنه من مصلحتها عقد دورات توعية دينية وثقافية عامة للفلاح المصري.

الدولة لا زالت تستهلك الفلاح ولا تعمل على توعيته إلا بما يخص مهنته فحسب، فتؤجر له المرشدين الزراعيين، بينما لا تنفق هذه الأموال على تعليم وتثقيف الفلاح في الدين وفي السياسة، وأتذكر أنه ومنذ سنوات عديدة كانت حملات.."محو الأمية"..قائمة على قدمٍ وساق، وقد أخذت تلك الحملات من جُهد ومال الدولة الكثير، ولكن في تقديري أن الفلاح ليس بحاجة إلى محو أميته الكتابية أكثر من محو أميته العقلية، فقد سار مشروع محو الأمية لسنوات عديدة ولكن دون فائدة ملحوظة أسهمت في تغير اجتماعي وثقافي في الريف.

قد نختصر معارك المرحلة في معركة واحدة نصب عليها جهودنا للتخفيف من الأعباء من جهة، وللاختصار والنفع من جهة أخرى، فالأمية العقلية هي أشد خطراً وأعظم تأثيراً من الأمية الكتابية، وإن كنت أرى ضرورة القراءة والكتابة إلا أنني أرى العقل قادراً على قراءة وكتابة الأحداث بشكلٍ منفصل بعيداً عن الورقة والقلم، وهذه ميزة بشرية أنعمها الله على الإنسان نجح من خلالها في التكيف مع الطبيعة وتفسيرها في حين لم يكن يقرأ ويكتب بعد.

ماذا سيحدث مثلاً إذا عقدنا ندوات متتالية في القرية نشرح فيها مفهوم الدولة الحديثة، ثم نعرج منها على الفرد والمجتمع بأسلوب مبسط ومنمق وواقعي، ماذا سيحدث إذا فهم أهل القرية أن علاقتهم بالدولة هي بالأصل علاقة خدمية نظراً لبُعدهم عن بؤرة الأحداث، وأنهم في مقدورهم تطوير تلك العلاقة إلى سياسية واجتماعية ودينية إذا أرادوا ذلك..سيفهم أهل القرية إذا استطاعوا تجريد مفهوم الدولة في أذهانهم، وسيشرحون لأنفسهم ما احتار في تفسيره الفلاسفة، فالفلاح المصري هو فيلسوف مُعطّل، وفور إصلاحه يبدأ بحركة أولى عنيفة يسترجع فيها كافة تحدياته ويُعوّض فيها نقائصه التي شعر بها في أيام الغُبن والتجاهل.


الرد على: مشروع الحوار القروي - فارس اللواء - 09-16-2013

الحلقة الرابعة

يتميز القروي بخياله الواسع، فالطبيعة من حوله تخلق لديه صوراً أجمل مما يراها المدني، ويشم رحيقا ونسيماً أجمل..فإذا دَمَجَ هذا الخيال مع يقينه الثابت والمتعدد ظهرت لديه علامات الرسالة..فيدعو من حوله إلى أفكاره ويصر عليها ويُلحّ على الناس، وكلما امتلأ ذهنه بالمعلومات كلما تحولت تلك المعلومات إلى عقائد، وهو بذلك أصبح صيداً سهلاً لدُعاة الأيدلوجيا..أزعم أن الحركات الأيدلوجية في مصر ظهرت بتلك الطريقة وبنفس الأسلوب، فلو لم تبدأ السلفية والإخوانية في الريف ما كان لها أن تنتشر في المدينة.

في قريتي- وقبل أن يتمكن دعاة الأيدلوجيا منها- كان الترابط الاجتماعي هو عنوان القرية،فكانت تُعقد الولائم والمجالس العُرفية، وكذلك فالمناسبات جميعها دعوة افتراضية للجميع دون تخصيص أو ذكر أسماء، وكم تحدث –الآن -من مشاكل فقط بمجرد نسيان اسم أو عائلة من الدعوة لمناسبة فتحدث الضغائن، كان ذلك في الماضي غير متاح..ولكن لا أستطيع تعميم ذلك على أهل القرية بالعموم، إذ يتطلب ذلك مسحاً اجتماعياً عاماً على جميع القرى، أتذكر جيداً كيف كانت مناسبة المولد النبوي تجمع أهل القرية على الذكر الإلهي ثم يختمون يومهم بعشاء جماعي في مكان مفتوح..انتهت تقريباً تلك الطقوس، وأشهد أن آخر وليمة جماعية حدثت كانت منذ عشر سنوات، حاول الأكابر فيها إحياء هذه الوليمة الجماعية التي ماتت منذ زمن فلم يحضرها إلا القليل، ولم يجلس على الموائد سوى أصحابها.

هكذا تحولت الموائد من وليمة للآخرين فيشكروا صاحبها إلى موائد لأصحابها فلا يشكرهم أحد، لقد حدثت القطيعة أول ما حدثت بحصار النزعة الصوفية في القرى، ذلك لأن الصوفية تُهذّب الوجدان وتزرع التواضع وحب الناس ، لم يشأ أصحاب السلفية -القادمون من أقصى ربوع نجد في شبه الجزيرة العربية- أن يظل الناس على هذا الحال الطيب، لقد اختزلوا الدعوة الصوفية في التبرك بالأضرحة وتقديس الأولياء، ولم يقفوا على محاسن تلك الدعوة التي ضاعت فور ظهور السلفية وتمرد القاعدة الشعبية على التراث الصوفي، فاستبدلوا .."خُلق التواضع"..بعقائد الولاء والبراء وتكفير المتوسلين، وحصروا.."حُبّ الناس"..في حب ذويهم وأنصارهم فكانت الكارثة، لقد حدث الشقاق بين وجدان أهل القرية، فيتعاملون مع بعضهم معاملة نفعية لا خُلق فيها ولا إيثار، ولا يُنقذهم من أنفسهم سوى ما تبقى من مجالس العُرف أو توسط أهل الحكمة.

في تقديري أن هذا الاستبدال كان منشأه توق القرويون للحرية، فهم الذين عاشوا عقوداً يعملون ويخدمون في أرضاً ليست أرضهم، وأملاكاً لا حق لهم فيها إلا العمل والأجر نهاية اليوم،لكن مع ذلك كانوا يحرصون على تفسير الحرية داخل إطار فهمهم للدين، أي أن الحرية لديهم في المجمل كانت صناعة الشيوخ الذين ملأوا المنابر دعوةً للحرية –كأصل في الدين-إلا أنهم يقفون مع ظهور أول تعارض من التراث حول هذه الدعوة..أي أن التمرد على النزعة الصوفية كان لارتباطها لديهم بوضعهم الاقتصادي، وكذلك ظهرت وعود المشايخ بالرفاهية والخير فور تخلصهم مما يظنونه .."البدعة".

ويبدو أن توق القرويون للحرية –دون علم-أدى إلى التخلص-ولو جزئياً-من عقائدهم الإيمانية والاجتماعية، بمعنى أن الدين قد اختلف معناه لديهم باختلاف الفاعل والناشط..وهم الذين نسميهم .."بالدُعاة"..قديماً كان المتصوفة والدراويش، وحديثا السلفية والإخوان، وقد أدى ضعف مؤسسة الأزهر وانتمائها للدولة إلى نزع الثقة بشيوخها فترة من الزمان..إلى أن جاء حُكم الإخوان لمصر ورأى القرويون دولتهم تنهار، وهم كونهم لا يثقون في هذه الدولة إلا أنهم تعلقوا بها كحصن أخير لهم ولأملاكهم، حينها عادت ثقة القرويون مرة أخرى إلى الدولة وشعروا أنهم ضمن كيان لا يمكن الاستغناء عنه، وساعد على نمو هذا الشعور لديهم شخصية وزير الدفاع .."الفريق أول عبدالفتاح السيسي"..فكلماته البسيطة وأسلوبه الفطري وصدق وجدانه قد استلب من القرية شخصيتها إلى شخصية أخرى عسكرية وقومية في آنٍ واحد.

ذلك لأن من أهم الأسس التي صنعت -ونظّمت -الثقافة القروية هو رؤيتهم للمحصول الزراعي والحيواني، فاقتصرت الثقافة القروية في تفسير ذلك على معدل الإنتاج، وهم بذلك بعيدون عن حركة التاريخ، ولا يتذكرون منها سوى ما فعله عبدالناصر من مزايا للفلاحين ساهمت في رفع معدل الإنتاج، فارتبط أهل القرية-منذ ذلك الحين-بالجيش كونه المؤسسة التي أخرجت عبدالناصر إليهم ليُعيد لهم إنسانيتهم..وأقصد ببعدهم عن حركة التاريخ أي أنهم لا يدركون منها شيئاً ولا يهتمون لها أصلاً، مع كونهم جزء منها لا يتجزأ، ولا يأتي طرف له مصلحة أو معركة إلا وكان أهل القرى هم الوقود له ولأتباعه.

حتى نُظم التعليم في القرية يدينون للجيش بالفضل عليها، فهم المحرومون -منذ أن ولدتهم أمهاتهم- من مزايا التعليم، قديما لم تكن في القرية سنوات دراسية في فصول تعليمية.. بل كان مجرد.."كُتّاب"..يحفظ فيه الأطفال القرآن، لا يعلمون شيئاً عن الجبر والهندسة والميكاا، فتلك الأسماء من رائحة المُدن، ولا يشم تلك الرائحة إلا الموظفين وأبنائهم أصحاب الأموال، بينما هم لا ينفقون أموالاً هم لا يمتلكونها أصلاً، وقد كانت غالب معاملاتهم الاقتصادية عبر نظام.."المقايضة"..ويعني استبدال الأشياء بأشياء أخرى، أو مقابلة الخدمات بالأشياء، كمن يريد حلاقة شعره مقابل قدح من الذرة أو القمح، أما الأموال فكانت لبيع وشراء الممتلكات، أو لتأجير العين الزراعية أو التجارية.

أذكر جيداً –وأنا طفل-كيف كانت الأحوال المعيشية في القرية، كان نظامهم الغذائي أقل مما هو عليه الآن، لا يأكلون اللحوم سوى على فترات متباعدة، وكذلك الحبوب، فالأرز كان طعام الترفيه وكذلك المرضى باستشارة الأطباء، كان القمح والخبز واللبن هو عماد البيت القروي، وكذلك الخضروات كالبامية والملوخية والسبانخ هي الأطعمة الشعبية للفلاحين، هذا لم ينعدم.. "بالكلية"..ولكنه موجود في بعض البيوت، لكن لا يصل لمرتبة.."الظاهرة"..كما كان عليه في الماضي، ولا زالت النظرة القروية للطعام تختار الأفضل حسب الاشتهاء والعادة وليس حسب المنفعة.

عرجنا على مسائل التغذية والتعليم والحرية والبيع والشراء كهامش-دون تفصيل- لاستعراض المعطيات التي شكلت الوعي القروي الذي نهدف لتنميته وتأهيله للحوار، فباجتماعها يظهر لنا أن القرية المصرية قد مرت على عدة مراحل وتجارب لم يتواصل فيها أهل القرية تواصلاً ثقافياً يُخرجهم من الجغرافيا إلى التاريخ، لأن علاقتهم بالتاريخ مقطوعة أصلاً.. وهم بذلك بعيدون عن المجتمع الإنساني وتطوره وتحدياته، فالمقصود أن نعمل على علاج -أو إنهاء- تلك القطيعة ، وهذا لن يحدث إلا بالتثقيف ورفع معدلات الكفاءة العقلية للفلاحين.


الرد على: مشروع الحوار القروي - فارس اللواء - 09-17-2013

الحلقة الخامسة

أولى المسائل التي ينبغي أن تكون ضمن الحوار هي الدين وأصوله وفروعه، نزولاً لما قلناه بأن الدين هو مكون رئيسي للشخصية القروية، وعند ذكر الأصول يطرأ على الذهن ما يعتقده البعض أصول وليس المتفق عليه بين عموم المسلمين، كمثال من يرى بأن الجهاد أصل من أصول الدين، وهو بذلك يضعه ضمن الفرائض المتفق عليها وهذا غير صحيح، فالحوار القروي ينزع نحو تفسير الدين بأنه دعوة وليس جهاد، إنما الجهاد هو فريضة مؤقتة ومقيدة بأحوال الزمان والمكان، ولم يكن الله ليشرع الجهاد إلا للدفاع عن النفس وليس للاعتداء وسلب حقوق الآخرين، والأخير هو فهم الجماعات الدينية بالعموم نظراً لضرورة إقامة.."الدولة الإسلامية"..بفهمهم، فيُشرّعون الجهاد لإقامتها وليس للدفاع عنها.

هذه جزئية هامة، لأن تعريف.."الدولة الإسلامية"..لدى الجماعات مختلف عما يراه القرويون، ولكن بدعوة تلك الجماعات-وحضورهم الدائم- تتحد الصورة لتلك الدولة المزعومة شيئاً فشيئاً حتى تصير فكرة الجهاد لدى القرويين متطابقة أو متشابهة مع الجماعات، وبذلك تكون المسألة مترابطة لديهم كالتالي:

1-دولة إسلامية لإقامة العدل ونشر الرخاء

2-جهاد ضروري لإقامة تلك الدولة

مبدأياً فالحوار بين أهل القرية لن يُجدي قبل التعرض لمفهوم الدولة ، ثم مفاهيم المجتمع والفرد والسلطة، ثم العلاقة بينهم أو بين كل اثنين على حِدا، فالحوار حول المفهوم الواحد يُدخله في مفاهيم أخرى تنزع عنه الصفة المقدسة والاعتبار بما يجري حوله من شكوك وأفهام، كمثال من يُجري الحوار حول مفهوم.."الدولة الحديثة"..وما تشتمل عليه من مؤسسات متعددة ومستقلة لها أدوار في طريق العدالة بخلاف ما يتصوره الذهن القروي.."بالحاكم الفرد"..أو ما يرونه في صورة.."العمدة"..الآمر الناهي، وهم بذلك لا يتصورون فصلاً بين الصفتين الأمنية والإدارية، فالأولى يمثلها العُمدة، والثانية تُمثلها تلك المؤسسات التي يتعاملون معها يومياً.

لو عَلِمَ القرويون بأن طبيعة علاقتهم بمؤسسات "الحكومة" والخدمات التي تقدمها للمواطن هي في حقيقتها علاقتهم.."بالدولة"..لوقفوا على صورة ذهنية لتلك الدولة مخالِفة عما في أذهان الجماعات، ولاستطاعوا الفصل بين.."الدولة والسلطة"..فصلاً يؤهلهم لفهم الحاجز ما بين الوظيفة الأمنية للدولة وبين وظيفتها الإدارية، وأن الجانب الإداري في الدولة هو الأصل الذي عن طريقة سينتخب المواطن قيادته الأمنية...وهكذا، أي أنهم ليسوا مجبرين على اختيار الأمن، بل هو إرادة حرة لهم إذا شاركوا في الانتخابات واهتموا أكثر بالسياسة..

وهذا يعني أنه وكلما تعددت علاقتهم بتلك المؤسسات كلما كانت الدولة قوية وحاضرة، وبالمنطق العكسي يجوز لمجموعة من الناس أن يعيشوا بلا دولة، وهم المحرومون من تلك الخدمات والتنظيمات الإدارية، وعليه فمفهوم الدولة ستحوم حوله الشكوك إذا مسّ الجانب المقدس لدى الناس، أي أنه لا يصلح أن نقول.."دولة إسلامية"..لأن في ذلك يقينُ بأداء تلك الدولة على النحو الصحيح دائماً، وهذا مُحال أن يحدث، فلا يوجد شئ على الأرض يسير بلا أخطاء، والأصلح أن نقول.."دولة المسلمين"..كتخصيص صفة للأشخاص، لا لتخصيص صفة للدين هي معرضة للزوال، فالدين قائم ودائم أما الصفات فهي متغيرة.

الهدف من الحوار القروي هو صناعة شخصية ريفية مستقلة لا تتأثر بأقرب الجماعات الدينية لديها، فالتنظيم الديني الواحد-أياً كان شكله-هو متحد في موضوعه مع التنظيمات الدينية الأخرى، وهذا يعني أنه وبمجرد نجاح هذا التأثير لتنظيم واحد فسينتقل آلياً ليشمل كافة التنظيمات الدينية التالية..وهذا يعود بالأصل إلى طبيعة الفكرة القائمة على فهم تلك التنظيمات للدين، أي أن جميع هذه التنظيمات هي في أصلها واحدة ولكنها أخذت أشكالاً مختلفة فظهرت لنا بصور شتى كالإخوان المسلمين والدعوة السلفية وتنظيم القاعدة والجماعة الإسلامية والجماعات الجهادية..إلخ..لابد وأن يفهم القروي بأن هذه الجماعات في مضمونها جماعة واحدة ، وهم يحوون جميعاً في داخلهم فكرة واحدة، لأن أكثر المنتمين لهذه الجماعات هم يفصلون بينها إرضاءً لأنفسهم بأن لا يكون فيهم ما يرفضونه من التنظيمات الأخرى...فتتكون القاعدة البشرية لتلك الجماعات اعتباطا.

البُعد التاريخي له دور مهم في إيصال تلك الفكرة، وذلك لشموله على عدة تجارب قد تُقنع أهل القرية بأن الحاصل لديهم ليس جديداً بل قد رأته البشرية قبل ذلك وذاقت من تحت رأسها الويلات، كمثال ما حدث لجماعات وتنظيمات أخرى أخذت نفس المسلك كتنظيم الخوارج وجماعة الحشاشون، واخترت هذين التنظيمين بالذات لقيامهم على نفس الفكرة الأصلية القابعة من ورائها تلك الجماعات..وهي فهم هؤلاء للدين وتوظيفه في الشأن السياسي، ومن الخطأ أن نعبر إدراك أهل القرية لتلك التنظيمات، فبعضهم -أو جُلهم- على دراية بأسمائهم، ويظنون أن هؤلاء أرادوا الشر من وراء ما يفعلون، وأن لفظ الحشاشين لا يقبله عقل القروي أو وجدانه، فكيف يقعون تحت تأثير من تُشبه جماعته جماعة الحشاشين ثم لا ينتبهون لخطورة أمرهم؟

هذا يعود إلى قاعدة غاية في الأهمية، وهي أن البشر بالعموم مخلصون لمعتقداتهم، ويأنسون لها وترتاح لها سرائرهم، ولديهم من الدلائل والمعطيات لتبرير تلك المعتقدات، وفي تقديري أن الثقافة العامة لأهل القرية لا تعي تلك القاعدة، بل يظنون-وحسب تلقين الشيوخ لهم-أن ما يعتقدونه هو الحق المُطلق، وأن المخالف يعلم أنه على باطل ولكنه يُكابر ويُعاند، وهذا المفهوم نابع من فهمهم لقضية الكُفر بالأساس، فيعتقدون بأن الكافر هو الذي يعلم الحق ثم يُنكره، هكذا دون إضافة، وبما أنهم على الحق فغيرهم بالضرورة هو كافر لعلمه بالحق الذي بحوزتهم..وهذه نكبة بشرية تحط على أي تنظيم أو جماعة أو تيار فكري تعتقد في نفسها الحق الإلهي أو الإنساني، فالنازيون لم يكونوا على دين ولكنهم حاربوا الغير لاعتقادهم بأنهم على الحق الإنساني ، أي أن كل فكرة ليست بالضرورة أن تكون قائمة على الدين.

فاعتقاد الحق واعتباره مُطلقاً يُهدر من قيمة العقول بل والدماء، فترى من يعاني من تلك المصيبة لا يُلقي اعتباراً للحياة أو للنجاة، فيُلقي بنفسه ومن معه إلى التهلكة وهو يظن أنه شهيد قدّم نفسه قُرباناً إلى الله، وهذه سمة عامة من سمات الجماعات، الخوارج كانوا كذلك والحشاشون كانوا كذلك، بل وصل الأمر إلى تحذير أحد قساوسة ألمانيا إبان الحروب الصليبية في رسالة للملك فيليب السادس -ملك فرنسا- يحذره فيها من جماعة الحشاشين، وكيف أن تلك الجماعة مُنظّمة تربوياً وتعليمياً على السمع والطاعة لكُبرائهم، وأنهم يمتلكون هيكلاً تنظيمياً شديد القوة يسمح لهم بتدمير كل شئ في سبيل إرضاء القادة، وأن لديهم قدرات على التخفي والتلون بما يسمح لهم أن يعيشوا في أي مجتمع.

من الوهلة الأولى سنرى أن تجربة الحشاشين تتكرر الآن بالكربون في صورة جماعة الإخوان، فجميع الصفات والمزايا السابقة لجماعة الحشاشون يمتلكها الإخوان..."سمع وطاعة-تخفي-تنظيم قوي-نظام تربوي خاص"..وهذا يجعلهم أشداء على الحُكام، وإذا تسلطوا كانوا أشداء على المجتمعات والشعوب، وحين يقتلون فلا فرق لديهم بين مسلم وغير مسلم، الفارق الوحيد بين الإخوان والحشاشين هو أن الإخوان سنة أما الحشاشين فهم شيعة، لذلك فالجماعات بالعموم تمتعض من هذا التشبيه، فهم يكرهون الشيعة، ولا يدرون بأن ما لديهم من صفات كانت قد امتلكتها في الماضي أحد أقوى وأعنف الجماعات السياسية.

ضرب الأمثلة للقياس والمقارنة مهم جداً في إحداث عملية التغيير، فالحوار القروي لن يقوم دون رأي آخر قائمُ وثابت على معلومات، والإعلام المصري مُقصّر في هذا الجانب، فهو لا ينشر الثقافة بل جامد إلى حد الركود، وموجه إلى حد التحريض، وكذلك فالكوادر التي تصل بلُغتها إلى لُغة الشارع قليلة أو معدومة، وليكن الحوار القروي هو البديل عن هذا الإعلام، أما كيفيته فربما نناقش ذلك في مراحل تالية للمشروع ونكتفي هنا بوضع اللمسات الإنشائية والجوانب الفكرية المحيطة بالعملية الحوارية.


الرد على: مشروع الحوار القروي - فارس اللواء - 09-24-2013

الحلقة السادسة

نظراً لما تروجه بعض الجهات في القرية بأن مقابل الدين هو الانحراف والشذوذ، ينبغي أولاً وضع مفهوم محدد ومعين للدين المقصود ويجري الحوار بشأنه، هل هو من الكتاب والسنة، أم من العقل الذاتي، أم من الفقهاء، أم من الصالحين، وهل يمكن اجتماع تلك الجهات في جهة واحدة أم جهتين أم ثلاثة، أم أن الإنسان قادر على التمييز بين الغث والسمين بمفرده؟..وهل حدث وأن تعارضت تلك الأسس والجوانب التي تُغذّي .."مفهوم الدين"..عند أهل القرية أم أنها متفقة دائماً ودون شكٍ أو لبس؟

مبدأياً فالدين ليس عملية حسابية تُؤخذ بالتعليم، ولكنه إشعاع نوراني ويقين قلبي وتصديق بالجوارح، فما يأتي بالتعليم يزول من خلاله، وهذا رد على من تطوع لغرس الدين في النفوس من أقوال فلان وعلان-التعليمية- دون مشورة الناس وإطلاق عقولهم للتفكير، فالدين بالأصل هو شعور ويقين وخلوة ذاتية لا علاقة لأحدٍ بها على الإطلاق، ولا يستطيع أحد-مهما بلغ موقعه-أن يتحكم أو أن يرصد تلك العلاقة، فالعاقل وصاحب الفطرة السليمة ومن جاهد نفسه للصلاح سيسهُل عليه فهم الدين ببساطته دون تدخل من أحد، وما تبقى بعد ذلك من حدود وحواجز وطقوس هو أقدر على الالتزام بها ضمن دائرة هذا الدين.. طالما ارتضاه لنفسه ووافق عليه فلكلٍ جعل الله شِرعةً ومنهاجا.

هكذا نصل إلى الطبائع الإنسانية وتكوينها للعقل والفطرة معاً، فالطبع هو ما يُحدد العلاقة بين الإنسان وغيره سواء الخالق أو المخلوق، وعن طريقه تدخل السعادة والقناعة بَدَن الإنسان، فالبشر مأمورون للتحكم ولتطوير طبائعهم وتوظيفها في خدمة المجتمع كوسيلة لنجاة النفس وإسعاد الآخرين..أي أن الحوار القروي يجب أن يتعرض بالأساس إلى مسألة الطِباع، فرُبّ صالحاً دَمِثاً كان كافرا، ورُبّ فاسداً فاحشاً كان مسلما، فليس بالضرورة أن يكون الكافر منحرف وشاذ عن الفطرة السليمة، وإلا لبقيت آثار انحرافه عليه إذا أسلم وتكون نكبة عليه وعلى دينه الجديد، والعكس صحيح ...

ويُمكن أن نلحظ ذلك على من عُرِفَ بصلاحه في الجاهلية ثم أسلم كي نرى أنه وكما يُقال في الريف.."الطبع غلّاب"..أو ما يسميه المفكرون.."الطبع يغلب التطبع"..وقد نختلف في تسمية الطبائع فنُطلق عليها.."العادات"..وهذا غير صحيح فليست العادة من الطبائع، إنما العادة من الأُلفة..يُُقال .."أَلِفَ الشئ"..أي تعوّد عليه، والطبع يأتي من صراع المبدأ مع المألوف والرغبة، ولذلك نجد أصحاب المبادئ يتمردون على العادات، ويحاولون أن يجدوا لهم صوتاً بين أشواكها التي يعتقدونها السبب في تخلفهم، وعلى الضد سنرى إنساناً آخر يَقطُر طمعاً وجَشعاً في سبيل رغباته حتى لو كان متحدثاً باسم الدين، فهو في النهاية يتكلم من طبعه وليس من دينه.

بترجمة بسيطة أنه يجب عودة مفهوم الدين الأخلاقي للقرية من جديد، وأن الطبائع هي عماد هذا المفهوم، فمن حَسُنَ طبعه وأخلاقه كان صالحاً، ومن ساءت طبائعه كان فاسداً حتى لو كان شيخ المسجد، وأقترح في هذا المضمار أن الدعوة إلى الدين بين أهل القرى يجب أن يتصدرها أهل المبادئ، وهم الذين نعرفهم بأنهم يتمردون على العادات الريفية، أو التي لا تتوافق مع مبادئهم وفهمهم للدين، هؤلاء وإن ظن فيهم أهل القرى ظناً سيئاً إلا أنهم سيخلقون رأياً آخر في القرية يؤسس بعد ذلك لفكرة.."الرأي والرأي الآخر"..وهي الفكرة التي سيقوم عليها الحوار بعد ذلك، وقد أحببت أن أختم هذه الحلقات بتلك الجزئية نَظراً لأهميتها.

كذلك التعرض في الحوار للثلاثية المقدسة.."الدين والسلطة والجنس"..فإذا امتلك القرويون الشجاعة للخوض في خلافات الدين أو نقد السلطة الحاكمة فلن يُمكنهم الحديث أو البحث في مسائل الجنس وما يتعلق به من ثقافة، ربما كان أهل المُدن هم الأقرب لرفع هذا الغطاء والتحدث فيه بحَذَر، ولكن لا زالت قيم وأعراف أهل القرية تمنع ذلك سداً للذرائع، وهم بهذا التوجه سلفيون- نسبةً لشيوع نزعة سد الذرائع عند السلفيين- فكلام الحُبّ والغزل ممنوع حتى مجرد الشعور بالشهوة يجلب العار والشنار، وقد خلق ذلك بعضاً من البَداوَة على أهل القرية، فظن بعضهم أن ما تعارفوا عليه هو الدين، وهذا غير صحيح، فالدين لم يُحرم الشهوة ولم يُجرم كلام الحُبّ والغزل، بينما في تراثنا شُعراءً وأدباءً صاغوا تلك المسألة بمهارة وجُرأة.. إلا أنه يجري كتمهم بنفس الذريعة.

الخطأ هو في اعتبار الشعور أو الفعل الذاتي تعدٍ يستوجب الإنكار، وهنا تظهر ملامح المحافَظَة المُسيطِرة على قِيَم الريف، بينما الصحيح أن هذا الشعور هو شعور فطري غريزي لا يمكن السيطرة عليه أو كتمانه، بل في كتمانه أضرار نفسية وعضوية قد تؤثر على مستقبل الإنسان بعد ذلك، والأفضل هو الحديث عنه دون إخلال بحقوق الغير وكامل حُرّيته، يأتي الخلط من رؤيتنا لموقف الغرب من تلك المسألة التي يتبنون فيها مسألة الحرية دون ضابط قوي أو مرئي يُحافظ على الأخلاق والآداب العامة، وبين موقف الغرب نفسه- والمُعلَن-من تناول مسألة الجنس، فيظنون أن الغرب تشيع فيه الفاحشة والاعتداءات الجنسية، بينما في منطقتنا تُسجّل أقوى المعدلات في الاعتداءات الجنسية والفاحشة بقوة حتى في المجتمعات التي تزعم تطبيقها للشريعة.

من الممكن أن نخلق في القرية قيماً تختلف عن قيم الغرب المتحررة والمنفتحة، وعن قيم العرب المحافِظة والمتشددة، فقط في الوقوف على حاجات الإنسان الغريزية وتوفيرها بما يناسب المجتمع القروي، فلا يمكن إهمال زواج الشباب وما يتعلق به من جوع جنسي يُماثل –في خطورته- جوع الطعام وعطش الماء، وهذه قضية لن تُحل إلا بعد التعرض للاقتصاد القروي وإحياء قيم التكافل والرعاية للكيان القروي الاعتباري، قديماً كان يوجد بيت مال للمسلمين يساهم فيه الجميع، الآن من الممكن تجديد هذه الفكرة وتوسيعها بما يضمن حل مشاكل القرية وإصلاح الوضع الخدمي والتعليمي فيها كأساس.

إن فتح المجال للحوار حول الدور الاقتصادي للقرية سيفتح مجالات أخرى كثيرة ومن أهمها الدين والسياسة، وهذا ما نهدف للوصول إليه، أن يتمتع الكيان القروي بالثقافة والجُرأة كذلك، قديماً كان يمكن الفصل بين الاقتصاد من جهة والدين والسياسة من جهة أخرى، والسبب كان في فصل السابقين بين تلك المجالات واعتبارها علوماً منفصلة، أما الآن فقد توحدت جميع تلك العلوم في بوتقة واحدة، بل أزعم أنه لا علوم منفصلة حقيقية في هذا الزمان، الجميع يرتبط ببعضه في تناغم وتناسق وتكامل، حتى العلوم العقلية فقد أثبتت نظريات إينشتين النسبية بأنه لا يوجد فارق بين تلك العلوم وعلوم الطبيعة، وكأن العلم في أصله واحد وله أشكال مختلفة حسب الاستخدام .

من هنا أرى أنه وفي تقديري بأن أي تعرض لمسألة ضمن حوار هو في حقيقته تعرض لجميع العلوم الإنسانية المعاصِرة، هي سلسلة تشد بعضها بعضا في تآزرٍ عجيب، فالاقتصاد سيأتي بالاجتماع ومنه إلى السياسة ومنه إلى الدين..وهكذا، الأهم أن يكون هناك حواراً سواء ترعاه الدولة ومؤسساتها الاجتماعية أو الثقافية أو حتى الأمنية..فالمسألة لها بُعد أمني نعيش أحداثه الآن، أو أن يرعى هذا الحوار بعض المتطوعين ومن يتحمسون للفكرة، شريطة أن تأتي دعوات الحوار من جهات وأفراد مقبولة لدى المجتمع القروي، فالريف بالعموم يُعظّمون لقاءات التصالح، فما بالنا وقد تؤدي تلك الحالة الحوارية إلى إحداث حالة من السلام والوِفاق لم تشهدها القرية المصرية من قبل؟..هي دعوة إنسانية لكل مهتم وعلينا أن نتحمل مسئولياتنا تجاه هذا المجتمع المنسي.