حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
مؤتمرات القمة... والواقع العربي - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3) +--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57) +--- الموضوع: مؤتمرات القمة... والواقع العربي (/showthread.php?tid=5649) |
مؤتمرات القمة... والواقع العربي - لايبنتز - 04-08-2008 د. محمد عابد الجابري ربما يكون من المفيد الاعتراف للقارئ بأني لن أكتب تحت هذا العنوان مقالاً من النوع الذي يسمى بـ"التعليق السياسي"، الذي من خصائصه التعامل مع الموضوع بصورة "مباشرة". لقد تعلمت من السياسة، أعني من معاشرتها من داخلها أكثر من ربع قرن، أن "المباشر في السياسة" لا يُكتب في الزمن "الحاضر"، الذي يحضر فيه "الموضوع". المباشر في السياسة هو ما في "الوثائق السرية" التي كانت تموت إلى الأبد، إلا إذا صادفتها يد المؤرخ المنقب! أما اليوم فقد اقتضت الديمقراطية الأوروبية أن ترفع السرية عن "وثائقها السياسية" بعد نحو ربع قرن من الزمن، أي بعد أن تصبح "الحقيقة السياسية" فيها حقيقة ميتة لا حياة فيها إلا في ذهن المؤرخ. لقد كتبت في المقال الأخير عن مؤتمر القمة العربي متجنباً "المباشر في السياسة"، مكتفياً بالنظر إلى الموضوع من خلال شق أو شقين من شقوق المرآة المهشمة التي ننظر منها إلى المشهد العربي المعاصر". وسأفعل الشيء نفسه في هذا المقال الذي سيكون موضوعه هو نفس موضوع مؤتمر القمة العربي، أعني "الواقع السياسي العربي الراهن"، وسأنظر إلى هذا الموضوع في البداية ليس من خلال شقوق مرآتنا المهشمة، بل سأنظر إليه بعيون أفلاطون. ولابد من التنبيه أولاً إلى أن النعت "المثالي" الذي ينعت به أفلاطون لا علاقة له بالمعنى الذي يتحدد به هذا اللفظ من خلال النعت المقابل له: "الواقعي". أطلق لفظ "المثالية" على فلسفة أفلاطون لكونه قال في فلسفته بنظرية "المثـُل"، وهي نظرية سندرك مضمونها العام بعد قليل. المهم الآن أن نقرر أنه لم يكن مثالياً بالمعنى العامي للكلمة بل كان واقعياً، وقد مارس السياسة واهتم طول حياته بالواقع السياسي: فكراً وعملاً، وتدريساً وتأليفاً. هو فيلسوف خبير بميدان السياسة. ولذلك سنسأله عن الكيفية التي يمكن أن يُقرأ بها الواقع السياسي، عربياً كان أم غير عربي. خصص أفلاطون كتابه "الجمهورية"، للبحث في "الواقع السياسي الأفضل"، حسب تعبيرنا هنا. وفي آخر الباب السادس وأول الباب السابع من هذا الكتاب، نجد الجواب عن سؤالنا: هو "ينصحنا" بالبدء أولاً بالتمييز بين درجات في المعرفة بالواقع، فضرب المثال التالي: لنفرض أنك تريد أن تتعرف على "واقع" شجرة تقع على ضفة نهر، وأنت واقف بجانبها تنظر إلى الماء؛ في هذه الحالة سترى الشجرة عبارة عن شبح منطبع في ماء النهر يتموَّج بتموُّجه! فهذه أدنى درجات معرفتنا بالواقع، ولنسمِّها: "المعرفة الشبح". لنفرض الآن أنك ابتعدت عن الشجرة قليلاً والتفت إلى جهة أخرى! إنك سترى ظلها مرتسماً على الأرض، وهذه درجة من المعرفة بالشجرة أفضل من الأولى، بدون شك، فلنطلق عليها: "المعرفة الظل". أما إذا واجهت الشجرة ونظرت إلى جذعها وأغصانها، فأنت ستراها في هذه الحالة كما تمثل أمام عينيك، لنقل صورة على عدسة العين، وهذه معرفة أرقى من الأوليين لأن ما ينطبع في عينيك ليس شبح الشجرة ولا ظلها بل صورتها المحسوسة، فلنسم هذه بـ"المعرفة الصورة". هل تُمثل هذه حقيقة الشجرة؟ لا، فالصورة البصرية لا تقدم لك معرفة إلا بهذه الشجرة المشار إليها، التي قد تكون مُورِقة وقد لا تكون، مثمرة أو غير مثمرة، أرزاً أو سدرة... وإذن فليست هي "الشجرة" بالمعنى العام الذي ينطبق على جميع الأشجار، ليست هي "المثال" الأكمل لفكرة الشجرة، ليست هي "حقيقة الشجرة". حقيقة الشجرة أو نموذجها الأكمل لا نحصل عليه بالحواس، بل بالعقل، بالترقي في المعرفة: فمن يشاهد أكثر ما يمكن من أنواع الشجر، ستكون معرفته بالشجرة أفضل، أما إذا كان عالماً نباتياً فمعرفته ستكون أكمل، ومع ذلك تبقى "حقيقة" الشجرة شيئاً أكثر من ذلك، "حقيقتها" هي "المثال"، لنقل هي مفهومها الكلي الذي تدخل تحته جميع أنواع الشجر، والذي يقع في عالم الفكر المحض الذي تعمره "المثـُل" (وهذا هو مضمون "نظرية" المثـُل عنده). إذن، ها هنا أربع درجات من "الواقع"، الواقع الشبَح، والواقع الظل، والواقع المحسوس، والواقع المثال. والسؤال الآن هو: إلى أي نوع من هذه الأنواع الأربعة تنتمي معرفتنا بـ"الواقع السياسي العربي"؟ سيكون الجواب، بناء على ما سبق، إن معرفتنا بـه ستكون تابعة لموقعنا منه: هل ننظر إلى شبحه، أم إلى ظله، أم إلى صورته، أم نفكر فيه بناء على ما هو عليه في حقيقته متجاوزين أشباحه وظلاله وصوره الحسية؟! ومن أجل الاقتراب أكثر من جواب أفلاطون عن سؤالنا، لابد من مواصلة الإنصات إليه يشرح المسألة المطروحة مستعيناً بمثال آخر. يقول: "لنتخيل سجناء قابعين تحت الأرض داخل كهف. ومن باب الكهف يمتد ممر يؤدي إلى داخله حيث الساحة التي يوجد فيها أولئك السجناء منذ نعومة أظفارهم، وقد قيدت أرجلهم وأعناقهم فلا يستطيعون التحرك من أماكنهم ولا الالتفات لرؤية أي شيء آخر، غير ما يمثل أمام أنظارهم. ووراء هؤلاء المقيدين بالأصفاد توجد، خارج الكهف، نار مضيئة ترسل أشعتها من بعيد ومن موضع مرتفع، وتدخل باب الكهف! لنتصور الآن ممراً طويلاً، يمتد وراء أولئك السجناء من أقصى جهة اليمين إلى أقصى جهة الشمال، وعلى طول هذا الممر جدار قصير مشابه لتلك الحواجز التي نجدها في مسرح العرائس المتحركة، والتي تخفي اللاعبين الحقيقيين عندما يعرضون ألعابهم... لنتخيل كذلك رجالا مختفين وراء هذا الجدار القصير، وعلى طوله، يحملون شتى أنواع الأدوات المصنوعة يرفعونها إلى أعلى وتشمل تماثيل بشرية وحيوانية وغيرها. بعض هؤلاء الرجال الحاملين لتك التماثيل يتكلم، وبعضهم لا يقول شيئاً. أما السجناء المقيدون بالأصفاد فهم لا يرون من أنفسهم ولا من جيرانهم شيئاً، لا يرون غير الظلال التي تلقيها أشعة النار على الجدار المواجه لهم داخل الكهف! وإذا فرضنا أنه أمكنهم في وقت من الأوقات أن يتخاطبوا فإن كلماتهم لن تتحدث إلا عما يرونه من الظلال، وإذا ما ترددت على الجدار الصغير أصداء لأصوات أولئك الرجال الذين هم وراءهم يحركون تلك الأشياء فسيعتقدون أنها أصوات تلك الظلال التي أمامهم! وباختصار، فهؤلاء السجناء لا يعرفون، في حقيقة الأمر، شيئاً آخر غير ظلال تلك التماثيل! ويضيف أفلاطون: وإذا نحن أطلقنا الآن سراح واحد من هؤلاء السجناء وأرغمناه على أن ينهض فجأة ويدير رأسه ويسير رافعاً عينيه نحو النور! عندئذ ستكون كل حركة من هذه الحركات مؤلمة له، وسوف يستغرب ويتعجب إلى درجة أنه سيعجز معها عن رؤية الظلال التي كان يراها من قبل... أما إذا نحن أريناه مختلف الأشياء التي لم يكن يرى سوى ظلالها فلاشك أنه سيشعر بالحيرة، وسيعتقد أن الظلال التي كان يراها من قبل هي أقرب إلى أن تكون الحقيقة. وأما إذا أرغمناه على النظر إلى الضوء المنبعث من النار وراء الكهف فسيشعر بالألم في عينيه وسيفضل العودة إلى الظلال التي كان يراها من قبل معتقداً أنها الحقيقة. أما إذا واجهناه مع الشمس فإن ألـمه سيكون أكبر، وسيعجز عن رؤية أي شيء! وسيحتاج إلى التعود تدريجياً على الرؤية، قبل أن يبدأ في رؤية الأشياء كما هي في حقيقتها. انتهى كلام أفلاطون. وفي كلامنا بقية. |