حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
كانط في فضاء هابرماس - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: عـــــــــلــــــــــوم (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=6)
+--- المنتدى: فلسفة وعلم نفس (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=84)
+--- الموضوع: كانط في فضاء هابرماس (/showthread.php?tid=5972)



كانط في فضاء هابرماس - لايبنتز - 03-20-2008



كانط في فضاء هابرماس: أو كيف الكلام على "السلم الدائمة" ؟



أم الزين بنشيخة - المسكيني



المقدمة :

قد لا يكون الكلام عن الحرب بوصفها جريمة العصر الحالي في حد ذاتها مثلما يشير إلى ذلك هابرماس ، غير ضرب من التحذلق الفكري لمتفرج يشعر بمتعة كلبية هي بلا متعة أمام صناعة الموت الأولى. لكن في فضاء المدن التي تنضدها الأمركة الكونية وصدام الأصوليات، قد لا تحسن الكتابة غير ضرب من الاستطيقا السالبة التي أرادها أدرنو جماليات قبح تحاكي حضارة القبح التي تنتمي إليها إما طوعا على جهة المحاكاة وإما كرها على جهة إنتاج الأصوليات.

أما عن السلم فحدث وبكل الحرج الساكن في لغات الكون. ذلك أنها صارت إلى مجرد موضوعة يقلبها الساسة على طاولة البرلمانات ذلك أن السلم قد لا تصلح في عصر الإرهاب الكوني لغير سكان المقبرة، لأنهم هؤلاء فقط من لا يقتتلون، أما الأحياء فمن مزاج مخالف، مثلما جاء ذات رسالة على لسان ساخر لليبنتر يعتبر كل مشاريع السلم " مجرد تصنع ولهو غير مجد لحشد من السذّج" .

ومع ذلك إن كان لكل هؤلاء أسبابهم، وفي عالم يكاد يكون، وضدّ نبوّة ليبنتز نفسه، أقبح العوالم الممكنة فإن للفكر أيضا أسبابه التي تدعوه إلى التفكير دوما ومرة أخرى، وضد كل ضروب الشرور التي يزرعها البشر في مدنهم الضالة وذلك من أجل أن تكون الدولة أعدل (أفلاطون) أو من أجل أن يكون الإنسان غاية في حد ذاته في عالم يسعى إلى سلم دائمة (كانط) أو من أجل فضاء عمومي حر تحكمه آداب الفعل التواصلي ضد وسائل التعتيم الأيديولوجي والدمغجة الإعلامية (هابرماس).

قد تكون تلك هي الأسباب التي دفعت بكانط إلى كتابة مشروع سلم دائمة (1796) والتي حدث بهابرماس أن يكرم هذا المشروع المسن بمناسبة المئوية الثانية على ظهوره، في كتاب له بعنوان سلم دائمة، ، المئوية الثانية لفكرة كانطية (1996).


وفق أي نوع من الضيافة الفلسفية يستقبل هابرماس فكرة كانط في السلم الدائمة؟


أن الأمر يتعلق، على حد عبارة هابرماس نفسه، " بإعادة صياغة لهذه الفكرة باعتبار الوضعية الحالية للعالم" . هو اذن نقد قائم على الفحص التاريخي وإعادة صياغة الإطار المفهومي لهذه الفكرة تحيينا لها وتكريما وإحياء واحتفالا واستقبالا في آن معا. لكن لم يخص هابرماس هذه الفكرة الكانطية بالذات، في السلم الدائمة ، ومن بين كل أفكار فلسفة كانط العظيمة، بهذا التكريم وذاك الاحتفال؟ هل السبب محض الصدفة التاريخية العارضة هي مرور مائتي سنة كاملة على فكرة كانط في السلم الدائمة؟ إنما الأمر خاص بفكرة المواطنة الكونية أفقا وهدفا نهائيا لدولة السلم الدائمة، فكانط على حد تعبير هابرماس " قد اكتشف بعدا ثالثا" للنظرية السياسية هو الحق الكسموسياسي . إن ما يهم هابرماس من مشروع كانط هو فكرة الفضاء العمومي الذي صمم أركيولوجيته هابرماس بنفسه . إن كانط على حد عبارات هابرماس ، هو صاحب استباق وبعد نظر عميق لفضاء عمومي على مستوى الكوكب .

إن هدفنا في هذا البحث هو الاشتغال على مشكلة الحرب والسلم التي صارت إلى ضرب الانطولوجيا الخاصة بنمط إقامة الإنسان في العالم الحالي: وذلك من خلال القراءة التي يقدمها هابرماس لمشروع كانط في السلم الدائمة. من أجل ذلك نقسم قولنا هذا إلى ثلاثة مراحل حيث نبدأ في مرحلة أولى بعرض فكرة كانط في السلم الدائمة. من أجل أن نتعرف في مرحلة ثانية على مقومات قراءة هابرماس لهذا المشروع الكانطي ثم ننتهي إلى فحص إمكانية راهنية هذا المشروع في عصر صارت الحاجة فيه إلى الاشتغال على السلم أكثر إلى من أي عصر آخر.


أ‌.عرض لمشروع كانط في السلم دائمة :


1) من سلم الآخرة إلى سلم المدينة أو كيف الطريق إلى دولة الحق الكوني؟


قد يكون هذا السؤال هو الصياغة الكفيلة بتجميع الرهان الأساسي الذي اشتغلت عليه فلسفة كانط السياسية. وهي فلسفة امتدت لديه من مقالة فكرة تاريخ كوني من وجهة نظر كسموسياسية (1784) إلى نزاع الكليات (1798) مرورا بمشروع سلم دائمة (1796) و مذهب الحق من ميتافيزيقا الأخلاق (1797). إنها فلسفة تجد اشكالها الرئيسية في صياغة القضية الخامسة من فكرة تاريخ كوني (1784) حيث يعلن كانط " أن أكبر مشكلة للنوع البشري تلك التي تجبره الطبيعة على حلها هي ادراك مجتمع مدني قائم على الحق الكوني" .

لكن أي حل يقترحه كانط لهذه المشكلة؟ إن الأمر يتعلق عنده بمشروع دستور كوني هدفه السلم الدائمة أو ما يسميه الدولة الكسموسياسية. وهو الأمر الذي ينتهي إليه كانط في خاتمة مذهب الحق قائلا : " إن هذا الدستور الكوني والدائم للسلم . يمثل الغاية الأساسية التامة لمذهب في الحق في حدود مجرد العقل ". لكن أي سلم دائمة ممكنة بين بشر لا يشهد تاريخهم، في نظر كانط على " غير نسيج من الجنون وأحيانا. خبث وتعطش إلى التدمير الرهيب ". وأي سلم دائمة ممكنة بين بشر " ليست حالة الطبيعة لديهم. سوى حالة حرب، إن لم تكن مفتوحة فهي على الأقل مستعدة دوما للاشتعال "

يفتتح كانط مشروعه في السلم الدائمة على عنوان يعتبره قولا هجائيا، نحته بحسب رواية كانط فندقي هولندي على واجهة محلة الذي رسم عليه مقبرة. هذا القول هو " نحو سلم أبدية ". وكأننا بكانط يستلف هذا الشعار من مجاز المقبرة إلى مشروع السلم داخل المدينة ومن أبد الموتى الساكن إلى ديمومة الزمن البشري الصائر إن شعار " نحو السلم الأبدية " الذي انطلق منه اشتغال كانط على فكرة سلم أبدية في أفق المواطنة الكونية، هو قول قد يكون كانط قد التقطه من بعض رسائل ليبنتز التي يقول فيها : " لقد عثرت على بعض من مشروع السيد دي سان بيار ( M. de Saint-Pierre) من أجل إقامة سلم دائمة في أوروبا. أنني أستحضر شعار مقبرة في عبارات " سلم دائمة" ذلك أن الأموات لا يقتتلون أبدا، في حين أن الأحياء من مزاج مخالف" .

إن كانط يستعيد نفس هذا الرسم لكن من أجل التحول به من سخرية المفكر من مشاريع القساوسة إلى الاشتغال الفلسفي الجدّي، ومن مجاز المقبرة إلى المفهوم الذي يأمل في سلم دائمة. فالسلم لدى كانط لن تكون مجرد شعار يرمز إلى لهو المقهى أو صمت المقبرة، إنما هي امكان بشري لمجتمع مدني قائم على دولة الحق الكسموسياسي وعلى امكان تهذيب للإنسان بغاية ارتقاءه إلى مقام المواطنة الكونية. فالسلم في السياق الكانطي لم تعد موضوع سخرية الفيلسوف إنما تكون هدف كل دولة وغاية كل اجتماع بشري والمعنى الأخير لكل المدن الفاضلة التي حدث عنها الفلاسفة جميعا. إن المدينة التي يشتغل عليها كانط ههنا ليست مدينة الفضيلة أو العدل أو الخير أو السعادة، إنما هي مدينة السلم أساسا.

لقد كان ليبنتز في نظره قاسيا جدا حينما كتب يقول" لكن أية سلم دائمة يمكن أن نقيمها بين أناس يسمحون وبشكل عمومي بقواعد مضادة إطلاقا لكل مشاريع السلم... لم يعد هناك أي حق بين البشر ولا أية عقيدة. ولا أي سلم دائمة يمكن أن نتمناها... ليست هذه سوى تصنّعا ولهوا غير مجد لحشد من السذّج" .

ولم يكن ليبنتز لوحده من سخر من مشاريع السلم الدائمة التي افتتح القول فيها القسيس دي سان بيار(1712)، فروسو يذهب هو الآخر نفس المذهب، حينما كتب حول مشروع القسيس يقول : " وهكذا بالرغم من أن هذا المشروع كان حكيما جدا فإن وسائل تحقيقه تنبؤنا ببساطة المؤلف، لقد كان يتخيل بكل طيبة أنه لا ينبغي علينا سوى عقد مؤتمر سلم واقتراح بنود له يتم توقيعها وكل شىء سيسير حينئذ على أحسن ما يرام. فلنقل أن هذا الرجل النزيه يدرك من خلال مشاريعه حينئذ نتائج الأمور كيفما ستحدث، غير أنه يقدر مثل الأطفال وسائل تحقيقها" . إنه ضدّ ليبنتز وضدّ روسو يكتب كانط مشروع السلم الدائمة، بالرغم من كونه لا يحيل على أي من هذين الفيلسوفين فقد لا يريد لمقالته أن تكون ذات طابع خصامي إنما يريدها مشروعا نظريا كاملا لسلم دائمة، أفقا استكشافيا لجمهورية التنوير. أنه من أجل أن لا تتحول المدن إلى مقاهي مؤقتة تقابلها مقابر أبدية. يكتب الفيلسوف مرة أخرى غير آبه أن يسقط فعل الكتابة لديه في مجرد أحلام كاذبة. وكأنه ينحت طريقه ما بين أحلام خيال متحمس مغرور وأحلام العقل الحكيمة التي تضع هدف لها فيتو عملي نهائي يقول :" لا ينبغي أن يكون هناك حرب أصلا..." . أنه ومن اجل أن لا تكون هناك حرب أصلا، يكتب كانط مرة أخرى بدلا عن جميع الفلاسفة الذين يئسوا من مشاريع السلم وسخروا من آمال القساوسة. فكانط يتحول بالسلم ههنا من موضوعة رجاء دينية إلى مشروع فلسفي غايته تهذيب الإنسان الحديث والارتقاء به من بربرية المتوحشين القائمة على العنف والحرب، إلى الضيافة الكونية بوصفها مبدأ لإقامة مجتمع السلم الدائمة أنه مشروع سلم دائمة في أفق المواطنة الكونية : بمعنى وحده المجتمع الذي يعلم مواطنيه كيف الارتقاء إلى مقام المواطن في العالم وفي إطار فضاء عمومي قائم على مبدإ العمومية شرطا لكل قانون عادل، هو المجتمع الكفيل بالسير نحو السلم الدائمة.

فكانط هنا يستحيل إلى معلم للإنسانية الحديثة لضرب من الالتزام الأخلاقي أو من التربية السياسية للمواطن هو بمثابة التنضيد لما يسميه هابرماس بالفضاء العمومي. لكن ما بين الدولة الكسموسياسية أو المواطنة الكونية الذي علّق عليه كانط آمالا فلسفية جدّ متفائلة في أفق إشكالية التنوير القائمة على القول بإمكانية تقدم البشر نحو كمالهم الأخلاقي، والفضاء العمومي القائم على التعتيم الإيديولوجي الذي يفضحه رواد مدرسة فرنكفورت كاشفين القناع عن خطورة إيديولوجيا التنوير، مسافة هي الفاصلة ما بين فكرة كانط في السلم الدائمة وقراءة هابرماس لها.

يقول كانط في القضية السابعة من فكرة تاريخ كوني :" إننا على قدر عال من الثقافة بواسطة الفن والعلم، وإننا أيضا متحضرين إلى حدّ الإرهاق، من جهة التمدّن والرفاهة الاجتماعية. لكن مازال ينبغي علينا الكثير حتى نصبح متخلّقين" .

لكن ما السبيل إلى الارتقاء إلى مقام مكارم الأخلاق؟ يظهر كانط متأرجحا ما بين اليأس والتفاؤل يقول:"... لكن مادامت الدول تركز كلّ قواها على أهدافها التوسعية العنيفة التي لا جدوى من وراءها، ومادامت تحوّل باستمرار الجهد البطيء للتهذيب الباطني لنمط تفكير مواطنيها(...) لا يمكن أن ننتظر أية نتيجة من هذا النوع. ذلك أنه ينبغي من أجل ذلك عملا داخليا طويل الأمد لكل أمة بغاية تهذيب مواطنيها" .

لقد كانط يحرص دوما على أن يكون الفيلسوف هو من يقوم على مثل هذا التهذيب والترشيد للمواطن وذلك بالاستعمال العمومي لعقله مثلما يشرع لذلك في مقاله " ما هي الأنوار؟" وإن مشروعه في السلم الدائمة يدخل ضمن هذا التهذيب للمواطن من أجل ضرب مخصوص من المواطنة قائم على الحق الكسموسياسي. إن هذا المشروع الكانطي الذي ينقل السلم من المقبرة إلى المدينة، ومن القدّيس إلى الفيلسوف ومن سخرية المقهى إلى جدّية العقل ومن ابد الآلهة الأخرس إلى زمن البشرية الحي هو ضرب من التدبير لفضاء المواطنة الحديث.


كيف شاء كانط أن يصمم سياسة الدولة الحديثة؟


" نحو السلم الأبدية " أمام هذا المجاز يسأل كانط : إلى من يتوجّه هذا الرجاء أو ذاك النداء سواء كان سخرية أم هجاء. هل هو يتوجّه إلى الناس بعامة، أم إلى الساسة بخاصة أم هو قول خاص بالفلاسفة؟

شأن من السلم الأبدية من كلّ هؤلاء الأحياء الذين يتقاسمون الفضاء العمومي؟ أهي شأن العوامّ الذين تعلم كانط بفضل روسو كيف يحبّهم؟ أم هي شأن الساسة الذين يسكنهم نهم الحرب، أم هي شأن الفلاسفة الذين يستسلمون إلى الحلم الجميل بالسلم الدائمة والذين لا يرى فيهم الساسة غير متحذلقين حالمين لا جدوى من نظرياتهم أبدا؟

إن كانط لا يريد أن يحسم في هذه المسألة ضمن مقالة 1796، إلا أننا نعثر لديه على إجابة شافية عمّن يكون مسؤولا عن السلم الدائمة في أحد هوامش كتاب نزاع الكليّات (1798)، يقول كانط:" لقد تمّ اخراج أطلنطا أفلاطون، يوطوبيامور، أقيانوس هارينكتون، سفيرانبيا آلاس اخراجا مسرحيا الواحدة تلو الأخرى، لكن لم يقع أبدا القيام بمحاولة تحقيقها، (باستثناء الجبّار الفاشل لجمهورية استبدادية لكروموال ). أن نأمل في ظهور كيان سياسي فاضل آجلا، مهما كان الأمر متأخرا، مثلما نفكر بذلك، هو حلم عذب، ومع ذلك أن نقترب من ذلك أكثر فأكثر ليس فقط أمرا قابلا للتفكير من جهة أن ذلك يتطابق مع القانون الأخلاقي، إنما هو واجب لكنه لا يخص المواطنين إنما يخص قادة الدول".

إن هذا النص الكانطي يعطي للفلاسفة ما لهم وللساسة ما عليهم : فللفلاسفة حق التفكير في السلم الدائمة وعلى قادة الدول واجب العمل على الاقتراب منها أكثر فأكثر. إن الفيلسوف هنا إنما يبرىء ذمته من كلّ تأويل مغرض في عصر تعرض فيه كانط نفسه إلى مراقبة صارمة ومنع له من الاشتغال على مسائل محرجة منها مسألة الدين خاصة .


2) مضمون مقالة السلم الدائمة:


تحتوي مقالة مشروع سلم دائمة لكانط على فصلين وتذييلين وملحقين : يتضمن الفصل الأول 6 بنود أوليّة لسلم دائمة أما الفصل الثاني وهو الأهم ففيه يقترح كانط ثلاثة بنود نهائية للسلم الدائمة. وفي الملحقات : عنصران الأول خاص بما يضمن السلم الدائمة أما الثاني فبند سرّي فيه فحص لدور الفيلسوف وعلاقته بالسائس في أطار هذا المشروع. أما التذييل ففيه يقف كانط عند التعارض ما بين السياسة والأخلاق في عنصرا أول وفي عنصر ثان عن إمكانية الاتفاق بينهما بواسطة الفكرة المفارقة للحق أو مبدأ العمومية.


أما عن البنود النهائية للسلم الدائمة التي يشدد كانط على أهميتها القصوى فهي ثلاثة:

1- أن الدستور المدني لكل دولة ينبغي أن يكون جمهوريا. ذلك أن الجمهورية هي النظام السياسي الوحيد عند كانط القادر على ضمان :

أ/ الحرية التي لأعضاء المجتمع بوصفهم بشرا.

ب/ لخضوع الكلّ إلى تشريع واحد بوصفهم ذواتا.

ج/ لحق المساواة التي لهم بوصفهم أعضاء في الدولة.


إنّ ما يهمّ كانط من هذا الدستور الجمهوري في إطار مشروع سلم دائمة هو انه فقط " بحسب هذا النمط من الدستور، ينبغي على كلّ مواطن أن يساهم بموافقته في اتخاذ قرار بشأن أن تكون هناك حرب أم لا.لكن أن يشرع المرء (للحرب) معناه أن يشرع ضد نفسه لكل مصائب الحرب" . اما في دستور غير جمهوري، فإن اتخاذ قرار الحرب قد لا يكلف قائد الدولة أقل مما تكلفه متعه الخاصة من طعام وصيد وتجوال.

أما البند النهائي الثاني فيقترح فيه كانط أن " يتأسس الحق العام على فيدرالية دول حرة" أي أن يقيم الشعوب معاهدة بينهم، هو " ضرب من الحلف نسميه فيدراليه ... دولة مؤلفة من قوميات تمتد إلى كل شعوب الأرض" .

أما البند الثالث من اجل سلم دائمة فهو أهمّ البنود حيث يتعلق بما يعتبره هابرماس اكتشاف كانط الفريد أو البعد الثالث لنظرية الحق العام : انه الحق الكسموسياسي القائم على مبدإ الضيافة الكونية ويعرّفها كانط قائلا :" إن الضيافة تعني فحسب الحق الذي لكل اجنبي في ألا يعامل داخل البلاد التي حلّ بها بوصفه عدوّا " ويعطى كانط أمثلة تاريخية مضادة لمثل هذا المبدإ: من ذلك مثلا الحق البربري الذي يمارسه العرب ضد كلّ من يقترب من قبائلهم في صحرائهم الشاسعة. أما عن اوروبا " فكم تبتعد أمها الراقية عن مثل هذا الكمال الأخلاقي القائم على الضيافة الكونية وأي شطط في الظلم يمارسه هؤلاء حينما يذهبون لاكتشاف بلاد أخرى ، وهو ما يعني في عرفهم غزو تلك البلاد" .

أما عن البند السري الخاص بالسلم الدائمة فأخطر البنود بالنسبة إلى مصير الفيلسوف في علاقته بسياسة الدولة. لذلك هو بند سرّي يبدى كانط تردده حول امكانية اقحامه ضمن مشروع سلم دائمة. إن الفيلسوف ههنا لا يطلب من السائس شيئا غير أن يستمع إليه وأن يستشيره في خصوص الحرب والسلم. ويحرص كانط على صياغة دقيقة لهذا البند قائلا :" إن البند الوحيد من هذا النوع هو التالي : إن قواعد الفلاسفة بشأن الشروط التي تجعل السلم الدائمة ممكنة، ينبغي الرجوع إليها من طرف الدول المسلحة للحرب" أنه على السائس بحسب كانط أن يدعو الفلاسفة وأن يسمح لهم بإبداء آرائهم في شأن الحرب والسلم.

أما المبدأ الذي تقوم عليه دولة المواطنة الكونية التي تهدف إلى سلم دائمة فهو ما يسميه كانط بمبدأ العمومية ( Principe de la publicité ). ويصوغ كانط هذا المبدأ كما يلي : " كلّ الأفعال الخاصة بحق الغير والتي لا تكون قاعدة قابلة لأن تكون عمومية. هي افعال غير عادلة" . ان هذا المبدأ ليس أخلاقيا محضا إنما هو أيضا مبدأ حقوقي هو الذي يضمن الاتفاق بين السياسة والأخلاق في خصوص السلم الدائمة. وكانط يسوق له صياغة موجبة تقول " ان كلّ القواعد التي تحتاج من اجل أن تكون فاعلة إلى العمومية، تتفق مع السياسة والأخلاق معا" .

ذلك هو أهم ما تضمن مشروع سلم دائمة لكانط هي خمسة افكار أساسية:

في الأولى تحديد لنوع الدستور الذي يصلح لأن يكون أرضية سياسية خاصة للسير نحو دولة السلم الدائمة (الجمهورية). وفي الثانية تعيين لطبيعة العلاقة بين الدول من أجل ضمان حرية كل دولة واستقلالها وفي نفس الوقت تحالف الجميع على سلم دائمة لكل العالم (فيديرالية الدول). أما الثالثة فخاص بالحق الكسموسياسي بما هو قائم على مجرد مبدإ الضيافة الكونية. و أما الفكرة الرابعة فترتب علاقة الفيلسوف بالسياسة. وأما الخامسة فتشرّع للمبدأ الأساسي للعمومية الذي يتحكم، وفق عبارة حنا أرندت، بكل العملية السياسية لدى كانط .


ب‌. قراءة هابرماس لمشروع كانط في السلم الدائمة :


يعتبر هابرماس منذ بداية كتابه كانط صاحب اكتشاف طريف في مجال نظرية الحق هو مفهوم الحق الكسموسياسي الذي يعتبره هابرماس بمثابة البعد الثالث في مجال المذهب الكانطي في الحق العام. إلا أن القرنين من الزمن التي تفصلنا عن كانط كفيلة باستشراف حدود فكرة كانط في السلم الدائمة بوصفها الهدف النهائي للدولة الكسموسياسية القائمة على الحق. الأمر الذي حدا بهابرماس إلى رسم حدود هذا المشروع الكانطي من خلال الأفكار التي نحصيها كما يلي :

أولا : أن فكرة كانط حول الحرب لا تصلح إلا لأفق التجربة التاريخية لعصره.

ثانيا: وأن الدولة الجمهورية ليست الدولة الأمثل للسلم الدائمة فهي ليست أكثر سلمية من انواع الدول الأخرى.

ثالثا : وأنه من المحال علينا اليوم أن نعتقد في إمكانية بناء وصيانة فيديرالية دول حرة على مجرّد التزام أخلاقي.

رابعا : وأن كانط لم يكن على حق " حينما اختزل دولة الحق في الحق الأصلي الذي بحوزة كل امرء بوصفه إنسانا. فهذا الأمر يجعل الأفراد متحوزين على الحقوق ويعطي الأنظمة الحقوقية الحديثة بنية فردانية صرفة" .

خامسا: وإن مشروع كانط لم يكن يحتاج إلى اللجوء إلى مشروع ميتافيزيقا للأخلاق من أجل أن يفسر لنا كيف " يمكن تحويل الاتفاق على مجتمع وقع ابتزازه بشكل مرضي إلى كلّ أخلاقي" .

سادسا : إن اعتبار كانط أن السيادة الدولية أمر لا يمكن تجاوزه أدّى به إلى تصور الوحدة الكسموسياسية على أنها فيدرالية دول وليست فيديرالية مواطنيين كونيين .

سابعا : وأنه لم يكن بوسع كانط أن يتنبأ بتغير بنية الفضاء العمومي إلى فضاء تهمين عليه وسائل الإعلام الالكترونية. وتصاب فيه الكلمة بالتشويه والدمغجة بدلا عن النصح والتنوير. وأنه بالتالي لم يعد بوسعنا أن يعول على قدرة الفيلسوف على إقناع الساسة بنظريات الحق والعدل مثلما شرّعت لذلك مقالة السلم الدائمة لكانط.

ينطلق هابرماس من نص يعتبره أساسيا من كتاب نزاع الكليات. يقول فيه كانط:"إن فكرة دستور يتفق مع الحق الطبيعي للبشر، بمعنى ذلك الذي ينبغي فيه على الذين يطيعون القوانين أن يكونوا في الوقت نفسه مشرعين لها هي أساس كل أشكال الدولة، وأن المجتمع المطابق لها وفق مفاهيم محضة للعقل، يسمى مثالا أفلاطونيا، ليس خيالا فارغا، إنما هو المقياس الأبدي لكل مؤسسة سياسية عامة، وهو يبعد كل حرب" .

إن ما يسترعي استغراب هابرماس في هذا النص هو بالضبط الجملة الأخيرة فيه أي "ويبعد كل حرب" وهو ما يعني عنده أن قواعد حق الأشخاص التي تتحكم بالحرب والسلم ليست سوى قواعد مؤقتة إلى حين بلوغ النزعة السلمية الحقوقية التي تحضر لها مقالة السلم الدائمة مقام دولة كسمو سياسية وبذلك يقع القضاء على كل حرب.

يبدو كانط هاهنا بمثابة من يعلق آمالا كبرى على دولة الحق الكسموسياسي التي قد لا تكون سوى حلم عذب من أحلام الفلاسفة أو قد لا يدركها سوى "شعب من الملائكة" بعبارات كانط نفسها وبالطبع إن عذر كانط الوحيد هاهنا في رأي هابرماس، على مثل هذه المعالجة المتفائلة لمشكلة الحرب هو الحق العقلي أرضية مفهومية لمشروعه، والأفق التاريخي المحدود لتجربة عصره. لكن بيننا وبين كانط قرنين من الزمن قد يجعلان مشروع كانط في نظر هابرماس عرضة لمشاكل مفهومية ولصعوبة مصالحته مع العصر الذي ننتمي إليه.

هل ما يزال هاهنا الحديث عن الحرب والسلم في لغة كانط أي في لغة فلسفة تؤمن بأن عصرها برمته هو عصر النقد والتنوير، وبأن شعبها بكامله قادر على الخروج بنفسه من حالة القصور إلى حالة الرشد، وبأن الدول بإمكانها أن تسترشد بنداء العقل وأن تدرك حالة السلم الدائمة؟

يرى هابرماس أن المشروع الكانطي قائم على معالجة محدودة لمشكلة الحرب لذلك بالضبط إنتهى ذات المشروع إلى حل كفيل بإعادة النظر و لمسألة السلم.

إن كانط لم يشتغل أبدا ومباشرة وبشكل صناعي مخصوص على مشكلة الحرب في حد ذاتها وبوصفها صناعة الموت. إنه ينادي بضرورة التفكير بمشروع سلم دائمة في أفق حق كسمو سياسي أفقا استكشافيا لمواطنة كونية وذلك ضد الحرب بما تسببه من كوارث جمة ضد النوع البشري. ومن بين شرور الحرب، لا يهتم كانط في مرتية أولى بالأموات، مثلما يلاحظ ذلك هابرماس. إنما يهمه أساسا أهوال العنف والخراب وأعمال السلب والنهب وتفقير البلاد، وخصوصا استعبادها وفقدانها حريتها والهيمنة الخارجية وانتشار الأخلاق البربرية.

إن دولة السلم التي يحدث عنها كانط إنما تستمد هدفها من وضع حد للحرب. إلا أن هذه الحرب التي ينشغل بها كانط إنما ماهيتها نزاعات محدودة بين دول مختلفة، لكنه لم ينشغل البتة بفكرة حروب كونية، حروب إبادة وتدمير شامل. إنه لم يكن يتوفر في حدود التجربة التاريخية لعصره على غير حروب محدودة من وجهة نظر تقنية، ولم يكن ليخطر بباله أبدا كما يقول هابرماس " التفكير بحرب أطرافها إرهابيون وسلاحهم القنابل."

إنه لا وجود في ذهن كانط بعد لفكرة حرب مجرمة في حد ذاتها أما عن السلم الدائمة التي يفترض أن تضع حدا لحرب محدودة في الزمان والمكان والترسانة التقنية، فهي تبدو لهابرماس مجرد أمارة من أمارات الدولة الكسموسياسية التي تماثل ضروب العقد الاجتماعي التي يتحول وفقها الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة المدينة.

إن عيب كانط الأساسي في ذهن هابرماس هو ثقته المفرطة في مجرد التزام أخلاقي قادر على إقامة حلف دولي على سلم دائمة بين الدول. إن ما ينقص كانط هو اشتغال جدي على جهاز حقوقي من أجل ضمان امكانية بناء فيدرالية من الدول قادرة على التحالف من أجل حق كسمو سياسي. وسلم دائمة بين الشعوب وهو ما يعبر عنه هابرماس قائلا :" إن كانط لا يخبرنا كيف يمكن المحافظة على هذه الكنفيدرالبالعالمية وتحصينها من دون أن نمتلك جهازا حقوقيا لهذا الدستور. إن الكنفيدرالية التي يناط بعهدتها تأسيس سلم دائمة ينبغي أن تتميز عن التحالفات العرضية، لكن مجرد إلزام أخلاقي غير كاف لضمان هذه المواطنة الكونية. لقد أبصر كانط جليا بهكذا إحراج في الوقت نفسه الذي كان يموه فيه بمجرد نداء للعقل" .

إن هذا النداء الكانطي للعقل لا يكفي من اجل بناء دولة سلم دائمة فثقة كانط المفرطة في أخلاق الاحترام هي علة الطابع المحدود لمشروع كانط لدولة المواطنة الكونية.

أما عن فكرة القضاء العمومي فقد أدخلها كانط درءا للشكوك عن فرضية المواطنة الكونية، أي من أجل ألا تحصل لدينا ريبة بأن مشروع التحالف بين الشعوب هو مجرد فكرة متحمسة. إن فكرة الفضاء العمومي المدني، بحسب قراءة هابرماس، هو الذي يتحمل في درجة أولى مهمة المراقبة، فهو من يمكنه أن يمنع بواسطة النقد العمومي امكانية القيام بمشاريع شريرة غير متلائمة مع القواعد العامة. فكانط يحيل على دور الفيلسوف بوصفه "معلم حقوق" ويشدد على حقه في أن ينشر بشكل عمومي حر القواعد العامة التي تخص الحرب والسلم.

وهنا يقف هابرماس عند نص كانطي يشير اهتمامه بشكل مخصوص يقول كانط :" أن يصير الملوك فلاسفة، أو أن يصير الفلاسفة ملوكا، أمر لا ينبغي علينا البتة انتظار وقوعه، ولا ينبغي علينا أيضا أن نتمناه، ذلك أن متعة الملك تفسد ضرورة حكم العقل وتشوه حريته لكن أن لا يتألم الملوك أو الشعوب الملوك، أي الشعوب التي تحكم نفسها بنفسها، وفق قوانين المساواة من امكانية أن تنقرض طبقة الفلاسفة أو أن تكتفي بالصمت، إنما يسمح لها على العكس من ذلك أن تسمع بحرية، وذلك هو مطلب دولة التنوير. "

نــص مثيـر يقف عنده هابرماس معلقــا عليه ما يلــي :" لقد كان كانط يفكــر بدولـــة فريديرك الثاني لذلك كانت له الأسباب لكي يخشى المراقبة."

إن عيب كانط في نظر هابرماس هو ثقته المفرطة في قوة الإقناع التي كان يتمتع بها الفيلسوف... لقد كان كانط يعول على شفافية الفضاء العمومي ذي الطابع الأدبي والحساس للحجاج وهو يتكلم لا عن العموم بل عن المواطنين المثقفين. ذلك أن كانط لم يكن بوسعه أن يتنبأ بإمكانية تغير بنية الفضاء العمومي الذي تحول إلى فضاء تهيمن عليه وسائل الإعلام الإلكترونية، المتدنّية على المستوى الدلالي والمشغولة بصور ووقائع افتراضية، أضف إلى ذلك أنه لم يكن بوسع كانط أن يتوقع التشويه الذي أصيبت به الكلمة، بوصفها عند كانط وسيلة تنوير، وإذا بها استحالت في العصر الحالي، كما يشير هابرماس إلى دمغجة صماء واستعمال مخادع للغة .

ومع كل ذلك يغفر هابرماس لكانط "حجاب الجهل" هذا الذي يتمتع به وهو الذي بعبارات هابرماس، كان يعطي لكانط الجرأة على استباق بعيد النظر لفضاء عمومي على مستوى الكوكب لم تكد الإنسانية الحالية لتشرع بعد في توضح معالمه .


ت‌. ماذا تبقى من كانط في فضاء هابرماس ؟


إنه بالرغم من أن التصور الكانطي للتحالف السلمي بين الشعوب يحتاج إلى أكثر من مجرد الإلتزام الأخلاقي، ومن أن فكرة الحق الكسموسياسي الكانطية تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة فإن هابرماس يعترف بالمكاسب الكانطية التالية:

1- أن فكرة السلم الكونية التي حرص مشروع كانط على صياغتها لم تكف أبدا عن التطور والتجذر في الفضاء السياسي الحالي، منذ تأسيس المجتمع الأممي في جنيف. وأن هذه الفكرة اتخذت منذ الحرب العالمية الثانية صورة ملموسة في المؤسسات والمبادرات السياسية.

2- وإن التحديات التي نجمت عن كوارث القرن العشرين جعلت تطور هذه الفكرة أمرا ملحا وهو إطار حرك كل الفكر الكوني بعامة.

3- وأنه ما وراء حجب الحرب الكونية التي زج فيها العالم هتلر تحول العالم من الحق الدولي إلى حق المواطنة الكونية، و من جرائم الحرب إلى التنديد بالحرب كجريمة في حد ذاتها .

4- وأن كانط صاحب استباق لفضاء عمومي كوني يجعل من الممكن أن يحتج الجميع على أي اعتداء يقترف بشأن إنسان في أي ركن من الأرض.

5- وأن فكرة حق المواطنة الكونية التي بشر بها كانط لم تعد في نظر هابرماس، مجرد مبالغة متحمسة في مذهب الحق، إنما هي درجة الاكتمال القصوى الضرورية للحق المدني والعمومي.

6- ويحرص هابرماس على الاعتراف بأهمية مبدأ العمومية الذي شدد عليه كانط مبدأ لكل العملية السياسية لديه. إذ أن كانط هو عند هابرماس من حرص على صياغة العلاقة الحميمة بين التنظيم الحقوقي والثقافة السياسية لشعب ما، وأهمية ذلك في تجذر فضاء الحرية وتحضر أمة وتقدمها .

أما لو حفرنا قليلا في ذاكرة هابرماس الفلسفية وبحثنا عن مكان كانط في " الفضاء العمومي" لهابرماس، وهو ما مثل عنوان أطروحته (1962)، فإن كانط يبدو في مرتبة أساسية ضمن الأركيولوجيا التي يصممها هابرماس لمبدأ العمومية في المجتمع البرجوازي" إذ هو صاحب "النظرية المكتملة لمفهوم الرأي العام" إلا أن عيب كانط بوصفه النموذج الليبيرالي للعمومية يتمثل عند هابرماس في " تمييزه ما بين نجاة الدولة وسعادة المواطنين" وهو ما يفسر التناقض في فلسفته بين الموافقة على ايديولوجيا النظام والمطالبة بالأخلاقية" إن النسق الكانطي يبدو في فضاء هابرماس قائما على جملة من الأوهام السياسية والتي من بينها التفاؤل في البعد الأخلاقي لسياسة المدينة والوعي الذي بدائرة العمومية بوصفها "رأيا عاما" وثقته في قدرة الفيلسوف على الإقناع والتنوير.

أما عن الإنسان الذي يحدثنا عنه كانط بوصف غاية جمهورية التنوير فهو لا يعدو أن يكون الصياغة القصوى للعلاقة الكلاسيكية : برجوازي – إنسان - مواطن.


خــاتمــــة :


ماذا لو فرضنا، وضمن صراع العمالقة ما بين كانط وهابرماس، ومع نيتشيه أن "الفكر الكبرى هي الأحداث الكبرى"، ألا نرى حينها أن دولة السلم الدائمة التي تفكر بها كانط، بديلا عن كل ضروب المدن الفاضلة الفاشلة، إنما هي الحدث الأكبر في حضارة الحرب الدائمة؟ لكن ألا تكون فكرة كانط في السلم الدائمة في أفق مواطنة كونية قد ذهبت إلى أبعد مما صمم لها صاحبها وذلك متى صارت هذه الفكرة من مواطنة كونية في سلم دائمة إلى أمركة كونية تزرع الحرب الدائمة حيثما صمم ذلك البرابرة الجدد؟

إلا أن كانط كان قد استشرف امكانية تحول الدولة الكسموسياسية إلى كيان سياسي يتحكم بكل الدول، أو إلى ما يسميه كانط بمملكة كونية. لذلك اكتفى كانط ببناء فكرة الحق الكسموسياسي على مجرد التزام أخلاقي.واستعمال عمومي للعقل وارشاد فلسفي للسياسة، وهو أمر لم يشأ هابرماس أن يغفره لكانط، مطالبا بصياغة حقوقية لمثل هذه الدولة الكسموسياسية. لقد كان كانط يدرك جيدا أن تحول الحق الكسمو سياسي إلى حوزة دولة عالمية أمر على قدر رهيب من القبح والفظاعة. لذلك كتب عنها في مقالة السلم الدائمة يقول هي : "استبداد يقتل الأرواح ويجتث الخير من جذوره ويسقط عاجلا أم آجلا في فوضى عارمة" .

إن كانط كان قد استبق مخاطر مثل هذه الدولة الكونية منذ 1793 حيث كتب في أحد هوامش الدين في حدود مجرد العقل :" إن المملكة الكونية تقضى على الحرية والفضيلة والعلم والذوق والأخلاق... هذا الوحش الفظيع (الذي تفقد داخله القوانين شيئا فشيئا قوتها)، سوف ينقرض بنفسه بعدما أن يكون قد ابتلع كل جيرانه..."

وفعلا ألم تتحول فكرة الدولة الكسموسياسية في العهد الإمبراطوري الجديد إلى وحش فظيع يزرع الحرب والموت في الفضاء الكوني الذي أراده كانط فضاء الحرية وهابرماس فضاء الفعل التواصلي؟ وألم تصدق نبوة كانط بإمكانية انقراض مثل هذا الوحش على جدران البرجين؟

لقد حرص كانط فيها أبعد من هابرماس اذن على أن يبقى مطلب الكونية مجرد فكرة استكشافية خوفا من الخطورة الثاوية داخل استعمال سياسي قبيح لها.

وفعلا ماذا نشهد اليوم من الدولة العالمية الحالية : مواطنة كونية لسلم دائمة بين شعوب متساوية ومستقلة، أم أمركة كونية وحروب مترحلة ومقابر جماعية يحفرها القراصنة الجدد وبمتعة كلبية لا تختلف كثيرا عن متعة أكلة لحوم البشر؟

وأمام هذا المشهد العالمي الحالي الذي تختلط فيه الكوميديا بالتراجيديا وضحكة هوميروس بسخرية السؤال السقراطي وجدية كانط بعدمية نيتشيه، قد لا يبقى من فلسفة كانط غير تشخيص سوداوي للتاريخ البشري :" إن المعدن الذي قد منه البشر على قدر من الاعوجاج بحيث يستحيل معه أن نصنع منه أي شيء مستقيم" .

ومرة أخرى نقول ضد هابرماس أن كانط لم يكن متفائلا بالقدر الذي رآه فيه هابرماس وأنه كان يدرك جيدا ما يمكن أن يثيره مشروعه الأخلاقي في السلم الدائمة من سخرية السائس نفسه، وكأنه كان يشق طريقه ما بين نداء مسؤولية الفيلسوف أمام الشر المتجذر في مدن البشر وسخرية الساسة من النظريات الحالمة. ولذلك لم يكن يعول فعلا لا على البشر الذين قدت جيناتهم من الشر المحض، ولا على الساسة الذين يسكنهم شره الحرب. ومتعة الملك لذلك كتب في أحد هوامش كتاب نزاع الكليات :"...لا ينغي علينا أن نعول كثيرا على البشر في تقدمهم نحو الأفضل من أجل أن لا نتعرض إلى سخرية السائس، الذي يعتبر هذا الرجاء مجرد حلم لدماغ متحمس." وبالرغم من ذلك بإمكان الفيلسوف أن يحلم بدلا عن الإنسانية جمعاء، لكنه لا يحلم كفرد من أجل التنفيس عن مرض نفسي أو عقدة مرضية مثلما حال الأحلام لدى فرويد، إنما حلم الفيلسوف هو حلم العقل الذي يتسع لفضاء الإنسان الكوني. فليحلم الفيلسوف ما شاء له ذلك فأحلامه أفكار توجه الإنسانية نحو عالم بلا حدود وطوبى لأحلام الفيلسوف فأحلامه تنشيط لأفكار ثاوية في هذا التنين البشري النائم.

يقول كانط :" عذب أن نخترع بواسطة الفكر مؤسسات سياسية تتلاءم مع مطالب العقل.. ولكن- وكانط يبدو هنا واقعيا أكثر من اللازم. من الغرور أن نقترحها ومن الذنب أن نحرّض الشعب لتدمير المؤسسات القائمة" .

إن كانط يبدو على حق ومرة أخرى فيما أبعد من هابرماس حينما قصر مهمة الفيلسوف على الدفاع على حرية التفكير وعلى التهذيب الأخلاقي للإنسانية من أجل توجيهها نحو مستقبل يكون فيه الإنسان غاية في ذاته، والوطن عالما بلا حدود والدولة حقا كسموسياسيا قائما على ضيافة كونية لا تفرق ما بين أعجمي أو أعرابي.

إن مهمة الفيلسوف ليست صياغة الدساتير الحقوقية فتلك مهمة المشرعين والساسة و الحقوقيين، إن دور الفيلسوف ليس مواجهة الدولة القائمة إنما هو يفكر أمام الإنسانية برمتها وفي أفق دولة بلا حدود وبلا جنسية وخارج سقف الملل والنحل... إنه مواطن كوني في عالم يتسع للجميع هو حديقة أبيقور الفكرية.

وقد يكون كانط قد أدرك أكثر من هابرماس صعوبة مهمة أن يفكر الفيلسوف في سلم دائمة "لشعب من الشياطين" وليس لفضاءات الفعل التواصلي وآداب النقاش. ولو استلفنا من دولوز ما به ننظر ثانية إل كانط ضد هابرماس لقلنا وفق عبارة بهيجة لدولوز وقاتاري في ما هي الفلسفة؟ "لا ينقصنا التواصل" بل على العكس، لدينا منه أكثر مما ينبغي، ينقصنا الإبداع. تنقصنا مقاومة الحاضر". ففي شعب من الشياطين تبدو مقاومة الحاضر ممكنة باختراق حدوده المخططة من اجل اختراع فضاءات صقيلة بعبارة ألف مسطح لدولوز وقاتاري.

لقد كان كانط يدرك جيدا ومرة أخرى فيما أبعد من هابرماس أن المسافة الفاصلة بيننا وبين دولة السلم الدائمة لمواطنة كونية في العالم هي ذات المسافة التي تفصل الشياطين عن الملائكة لذلك كتب يقول "...وإلى أن يحين ذلك الوقت ينبغي أن يوجد ملائكة وليس بشرا تهيمن عليهم غرائزهم وميولاتهم."

وإن كانت فكرة كانط في السلم الدائمة قد تبدو حالمة وقابلة للسخرية، مثلما كان ليبنتز قد سخر من مشاريع السلم في عصره، فإن كانط يبقى أبعد من هذه السخرية ومن ذاك النقد، إذ هو على وعي بأن مسألة السلم ليست في الفرق ما بين الخيال والواقع إنما تكمن في مسؤولية الفيلسوف تجاه الإنسانية، وهو معنى النص الذي نقرأه في خاتمة مذهب الحق من ميتاقيزيقا الأخلاق. يقول كانط : "إن المسألة لا تكمن فيما إذا كانت السلم الدائمة أمرا واقعا أم خياليا..إنما ينبغي أن نفعل وكأنما يوجد هذا الأمر وذلك من اجل أن نقيم سلما دائمة ونضع حدا للهلاك الناجم عن الحرب." ويضيف كانط : " أن نضع حدا للحرب... إن هذه القاعدة واجب" .

فليغفر هابرماس لكانط إذن. وهو العامل في أفق إشكالية كانطية لضرب من التنوير الجديد، ثقته في الفيلسوف وفي شفافية الفضاء العمومي وفي الالتزام الأخلاقي للدول تجاه السلم الدائمة، وليحتفل بكانط من رفع عاليا حرية التفكير والاستعمال العمومي للعقل والخروج بالشعوب من حالة القصور إلى حالة الرشد، ومطلب العمومية مقياسا لقوانين عادلة بين البشر...أما ما تبقى فهابرماس يدرك جيدا أن السلم الدائمة صارت إلى حدث تشرئب له أعناق الشعوب أملا في اختراق حيل الساسة وأمكنتهم المخططة بالطاغوت نحو فضاءات صقيلة لبشرية قادرة بشعوبها على مقاومة الحاضر بملله وأصولياته ومواقع الاضطهاد فيه.

وأخيرا إن تكن فكرة السلم الدائمة لكانط لا هي من قبيل الخيال ولا هي من قبيل الواقع فهي ككل الأفكار العظيمة في مقام أبعد من مقاييس البشر. مثلها مثل فكرة الإله نفسه لدى كانط، هو مقام كأنما هو موجود، ذلك أن كانط يعلمنا هاهنا أن الفرق لدى البشر ما بين الممكن والمحال خيط رفيع جدا، كذا الخيط الذي يفصل العقل عن الجنون لدى فوكو؛ يكفي اختراق هذا الخيط بواسطة الفكر كي يتحول السلم من دائرة المحال إلى حيّز الإمكان النائم في نقطة ما من دائرة الإنسانية.