حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$archive_pages - Line: 2 - File: printthread.php(287) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(287) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 287 eval
/printthread.php 117 printthread_multipage
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
فضل الاعتزال - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3)
+--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57)
+--- الموضوع: فضل الاعتزال (/showthread.php?tid=6044)

الصفحات: 1 2


فضل الاعتزال - عمر أبو رصاع - 03-17-2008

مقدمة

كان لاكتشاف فرقة في التاريخ الاسلامي العربي اسمها المعتزلة أثر استثنائي في حياتي ، كنت لا أزال حدثاً في تلك الفترة و كان لهذا الاكتشاف أن ينقذ ايماني بالله عز وجل و يعمق فهمي لدينه ، و لا ضير فقد كان شأني شأن جل الناشئين في الطبقة المتوسطة من مجتمعنا العربي إبان النكسة الكبرى ان نعتصم بحبل الايمان ، انه نموذج {...ظل من تدعون إلا الله} شكل من اشكال رد الفعل على الهزيمة الحضارية الهروب إلى حصن الدين المنيع ، حيث كان الاعتصام بحبل الايمان العميق رد فعل عام و أساسي في تربيتنا .
انكببت بجهد واجتهاد كبيرين احفظ كتاب الله عز وجل وألتهم كتب الحديث الصحيحين والترمذي ثم تفسير ابن كثير وقبله الجلالين وقصص الانبياء والصالحين والصديقين وسيرة ابن هشام وفقه السنة .....الخ حتى صرت اصنف نفسي حافظاً لكن ما لم يكن ليخطر في بالي هو أن أناقش كافراً بديني يومها بدأت أسرد عليه مما أحفظ قال تعالى وقال عليه الصلاة والسلام لكن صاحبنا قال يا حبيبي أنا لست مؤمناً لا بكتابك ولا بنبيك ، فسقط في يدي وغلب عقلي على أمره كيف لي أن اجابه حجته إذا كان لا يؤمن أصلاً بأن القرآن من عند الله وبأن سيدنا المصطفى نبيه وخليله؟!
ليس هذا فحسب بل تبين لي اننا نعيش داخل نظام معرفي مغلق نتكلم فيه منطقاً خاصاً فتنبني فيه الحجج على مسلمات هذا المنطق لكن هذه المسلمات التي بنينا عليها منطقنا في الواقع ليست مسلمات في منطق آخر من خارج هذا النظام المغلق ، بل اكثر من ذلك هي معرفة منطقية مبنية على مسلمات صيغت بمعقولية قروسطية(*) و هو امر احتجت وقتاً طويلاً من تتبع آثار المعقوليات الحديثة و بنياتها المنطقية لافهمه بشكل جيد.

أعود إلى مجادلي ذاك ، فقد أخذ يجادلني بالمنطق ولا علم لي بالجدل والحجة العقلية اصلاً وأنا الذي ارتاح ضميره واستقرت نفسه للمعرفة النصية و لما جاء به السلف فاستغنيت بهما عن تعب البحث ورهق العقل . اشتد حنقي وكنت يومها أذود عن ما نذرت له نفسي كيف لا وأنا من أنجب طلبة الكلية الاسلامية وشاعر المدرسة وخطيبها يسقط في يدي فلا املك حيال كافر بديني جوابا! وكان أوسع الناس علماً في ذهني ذلك الوقت شيوخي واساتذتي في مدرستي لكن بلا جدوى فكلهم أعاد علي من كتاب الله وسنة نبيه فلما قلت لكن مناقشي كافر بهما كيف اقنعه ؟
قال قائلهم : دعك منه إنه يفتنك عن دينك وإنك لا تهدي من احببت .

و احمد الله أني لم اعمل بنصيحتهم ، و ذهبت وأنا طالب في الأول الاعدادي او الصف السابع اليوم إلى الجامعة الاردنية ودخلت على رئيس قسم اللغة العربية آن ذاك الأستاذ الدكتور عبد المجيد المحتسب - تغمده الله برحمته - فضحك مني لما اطلعته على ما أرَّقني وقال : هل سمعت بالجاحظ يا بني؟
قلت بلى أليس هو صاحب البخلاء ؟

قال : هو عينه ، له كتاب اسمه رسائل الجاحظ قد تجد فيها ما يعينك وإن أشكل عليك فهم شيء فعد إلي.

و كانت البداية التي عرفت فيها لأول مرة أن تاريخ الثقافة العربية الاسلامية ليس فقط تاريخ النقلة و الحفظة بل أنه و ذلك هو الأهم تاريخ العقل لا النقل ، و عرفت كيف تقوم الأدلة بالوجوب و بالعقل كما يوافقها النقل ، نسيت محاوري الكافر لأنه لم يعد لي موضوعاً بعد أن اكتشفت أن كل ما عرفته وكنت أظنه العلم الكامل ليس إلا ذرة في بحر الفكر الانساني ، وأن في تاريخنا علماء و مفكرين لا يقلون عن أبي حنيفة و مالك و الشافعي و ابن حنبل و ابن تيمية و رواة الحديث شأناً إن لم يفضلوهم في الكثير من الأمور كواصل بن عطاء و الجاحظ و ابن رشد و ابن سينا و الكندي و الفارابي ، و عرفت أن (الكافر) جان جاك روسو مثلاً لم يكن كافراً و انما نبي بغير وحي ، و اكتشفت و ذلك هو الأهم أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ختم النبأ من السماء لكن عظماء من بني الانسان بعده حملوا رايات النور من اجل مستقبل افضل للبشرية فكانوا انبياء العلم و العقل و المناضلين الذين ارسوا قواعد العدل و الخير التي من اجلها كانت كل الرسالات ، و أن التاريخ لم ينتهي عند ابن تيمية و ابن القيم الجوزية بل تجاوزهما بمراحل ربما أعظمها تجريبية فرانسوا بيكون و قوانين نيوتن نبي الفيزياء العظيم ، إن جاز لنا ان نفاضل لكن الذي صار حقيقة مؤكدة هو ان مسيرة التاريخ تواصلت و ان مشعل النور البشري يعلو يوماً بعد يوم و تتسع دائرة ضيائه لتعم ما كان معتماً من قبل ، لقد عبرت الانسانية مراحلاً و قطعت اشواطاً لا يمكن ان نظل نحن معها حبيسي بنية منطق احكمت بنيته و اغلق علينا ، و هكذا فإن الرحلة المعرفية للانسان متصلة في بحر الوجود ، و لعلي لا اتجاوز ان سميت رحلتي المعرفية المتواضعة رحلة للالتحاق بركب حضارة الانسان بدأت و لن تنتهي عند حد ما دمت حيا.

رغم تنقلي في الكثير من الوان المعرفة و أهما ما هو معاصر فدوماً الأخير يتجاوز سابقه ، ظلت للمعتزلة مكانة خاصة في النفس فنذرت لدراستها زمنا غير يسير من عمري خرجت منه بمخطوطة لم تنشر بعد لأني لا أكل النظر فيها و التنقيح و الإضافة و التعديل و كلما رأيت فيها ما أجيزه كتاباً اقدمه للناس اعادني عن نشره عدم استقرار رضاي عن شكله ، و ها أنا ذا أضع بين يديكم بعضاً مما جاء فيه تعريفاً بهذه الفرقة الاسلامية و أصولها الخمس : العدل و التوحيد و المنزلة بين المنزلتين و الوعد و الوعيد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
لكن قبل ان نبدأ التعريف بالأصول الإعتقادية الخمس التي يقوم عليها فكر المعتزلة ، أرى من الضرورة بمكان ان اقدم اولاً بنبذة عن النشأة و التسمية.


*النشأة والتسمية :

هناك فارق أساسي بين نشأة الاعتزال كفرقة كلامية مستقلة و بين ظهور مسائلها و أصولها كمسائل كلامية ، فأصول الاعتزال هي مثار بحث منذ بواكير الفكر الاسلامي جلها مما خاضت فيه كل المذاهب التي تقدمت نشأة المعتزلة فالقول بالقدر قالت به القدرية والقول بنفي الصفات و خلق القرآن و انكار رؤية الخالق بالعين قال بها الجهم (1) كما قال مقالهم في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الخوارج ، و وافقوا الشيعة بوجوب الإمامة و إن انكروا الوصية و العصمة كما جوزوا التأويل (2) و قالوا مقالة الحسن البصري في العدل والاختيار(3)
و كلها مقالات لها جذورها في النص القرآني نفسه و تكلم بها أيضاً سواء بما وافق الاعتزال أو خالفه العديد من المتقدمين من الصحابة .
إذن فإن اختمار أصول الاعتزال في الثقافة العربية الاسلامية ليس صدفة و لا اعتباطاً ، و لا ترجمة و سنرد في حينه على هذا الرأي انما هو فكر ولد في بيئته و استجاب لمتطلبات عصره.

أما نشأة المعتزلة كفرقة كلامية فتعود إلى أواخر القرن الهجري الأول أوائل القرن الثاني ، و يعتبر المؤرخون كل من واصل بن عطاء الغزال (80-131هج 699-748م) و عمرو بن عبيد (80-144هج 699-761م) (4) شيخيها المؤسسين ، و قبل النشأة كانت الجماعة المؤتلفة حول الحسن البصري تكنى بأهل العدل و التوحيد ، و يرى الشهرستاني انه حصل خلاف بين الحسن و واصل في الحكم على مرتكب الكبيرة أهو مؤمن أم كافر فخرج واصل برأي مفاده انه في منزلة بين المنزلتين و قام واصل عن الحسن و ترك مجلسه مؤسساً له حلقته الخاصة و في ذلك يقول الشهرستاني أن تسمية المعتزلة بهذا الاسم إنما ترجع لعبارة اطلقها الحسن إبان خلافهما "اعتزلنا واصل" فسمي وجماعته بالمعتزلة (5) .

أما البغدادي فيرى أن هذه التسمية جاءتهم لأنهم اعتزلوا اجماع الأمة (6) ، و المسعودي من جانبه رأى أن تسميتهم بالمعتزلة لأن قولهم بالمنزلة بين المنزلتين إنما يعني عزل مرتكب الكبيرة عن المؤمنين و الكافرين فسمي أصحاب هذا القول أي المنزلة بين المنزلتين بالمعتزلة (7) بينما يرى المرتضى المعتزلي انهم من اطلق التسمية على انفسهم لاعتزالهم الاقوال المحدثة و المبتدعة من تكفير الخوارج لمرتكب الكبيرة إلى قول المرجئة بايمانه (8) بينما يذهب المستشرق نيللينو أنهم استعاروا التسمية مِن مَن وقفوا موقفهم السياسي الشهير في اعتزال الفتنة الكبرى و هو رأي ساقه ايضا النوبختي "لما قتل عثمان افترق الناس ثلاث فرق ..... و فرقة اعتزلت مع سعد بن ابي وقاص وعبدالله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد ....... فسموا المعتزلة و صاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد"(9) و يرجحه ما ذكره السبكي من أنه وقع على كتب للمعتزلة تصنف عبدالله بن مسعود المعلوم اعتزاله القتال بين علي ومعاوية كأحد روادهم (10) ، بينما يرى القاضي عبد الجبار المعتزلي ان سبب التسمية اعتزالهم الفتن و الشرور .

إلا أننا نميل مع ما ذهب إليه جل المؤرخين من أن تسمية المعتزلة إنما جاءت من اعتزال واصل لمجلس الحسن لأن رأي البغدادي فقير للمنطق و يعكس تعصبه ضدهم فكيف يقبل المعتزلة أن يكنوا بذلك لأنهم اعتزلوا اجماع الأمة على رغم أنهم كانوا يحبون أن يكنوا بأهل العدل والتوحيد لكن لم يكن يضيرهم تسميتهم بالمعتزلة ، بل كان واحدهم يعرف نفسه أنه فلان المعتزلي لذا لا نطمئن لرأي البغدادي ، و أما رأي المسعودي ففيه شيء من الصناعة الاشتقاقية أنهم عزلوا مرتكب الكبيرة عن مرتبتي الكفر و الايمان فسموا معتزلة فهذا أيضا لا نطمئن إليه لميله لإفتعال التسمية و هو من طبائع المسعودي و عنايته باللفظ و الصنعة اللفظية ، و قول المرتضى و إن كان صحيحاً فعله لكنه مما شارك فيه المعتزلة غيرهم كالحسن نفسه فلا يدل عندي على خصوصهم و لذا لا اطمئن إليه أيضاً ، أما رأي نيللينو و النوبختي و الدمشقي أن مرد التسمية لمن اعتزلوا القتال بين معاوية و على فعلى و جاهته فهو انتحال دالة لدالة أخرى لإن نشأة المعتزلة كفرقة لحقت ذلك بزمن زالت فيه الفرقة التي اعتزلت القتال أصلاً ناهيك عن أنه لم يكن ينتظمها غير ذلك الموقف من القتال لذا فنحن لا نطمئن أيضا لهذا الرأي ، بينما يأتي الرأي الأول من أن التسمية اشتقت من قولة الحسن اعتزلنا واصل أصوب و أقرب للمنطق فهي تعكس فعلاً لحظة الانبعاث للفرقة الكلامية "المعتزلة" و هي لحظة القول بالمنزلة بين المنزلتين فلم يعرف هذا الرأي في مرتكب الكبيرة قبل واصل بن عطاء بل ان هذا الرأي بالذات ميز المعتزلة كفرقة كلامية و هو اصل من الاصول الخمسة التي يقوم عليها الاعتزال ، على ان من الواجب هنا التنويه لمسائل اعتورت ما اورده الشهرستاني لا بد من ان نشير لها.

يقول الشهرستاني: دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا امام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً في الإسلام ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاًً ولا كافر مطلقاًً بل هو في المنزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر بما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة

أولاً : لماذا قبل ان يجيب الحسن البصري؟ هنا الرواية لا تحمل لنا رأي الحسن. و الحق اني لا اعول كثيراً على دقة الشهرستاني خاصة ما عرف عنه من كراهية شديدة للمعتزلة.
ثانياً : المعتزلة تصنف الحسن البصري في الطبقة الثالثة من طبقاتها و واصل في الطبقة الرابعة اي ان المعتزلة تكرم الحسن و ترى صلاحه فمعلوم قول الحسن بالعدل و التوحيد و هي الكنية المحببة إلى المعتزلة و إن كانوا لا يرفضون تسميتهم بالمعتزلة.
ثالثا: يبقى ان الرأي الوارد عن الشهرستاني هو المرجح رغم ذلك لأن الحسن لم يشتهر عنه رأي في مرتكب الكبيرة و لأن بيان الاصول الخمسة اكتمل مع واصلبن عطاء و عمرو بن عبيد و قد عاصراه و كانت لهما حلقة في ذات المسجد ، فرغم عدم قناعتي بدقة الحوار الذي دار إلا ان اعتزال واصل لحلقة الحسن و جلوسه لحلقة خاصة هو الامر الذي يعول عليه ان المعتزلة كإسم اتى من اعتزال واصل لمجلس الحسن البصري ، اما ان المعتزلة قبلت التسمية هذه على ان اعتزالها هو اعتزال للفتنة و الشر ففيه وجاهة من حيث انها سمة اثبتتها لنفسها ، إلا ان المعتزلة ايضاً لم تعتزل الشأن العام على العكس من هذا تماماً كانت في قلب الحدث السياسي دائماً و كانت لها ثوراتها و لو كان الاعتزال هو ترك الامور و الحياد السلبي لما جازت هذه سمة له ، فهو اذن اعتزال واصل لمجلس الحسن سواء لخلافهما في الحكم على مرتكب الكبيرة او لتأسيس المعتزلة لحلقتها مستقلة عن حلقة الحسن البصري.


يتبع


(*) قروسطية ، مصطلح اول من استخدمه الفيلسوف العربي الكبير الاستاذ الدكتور الطيب تيزيني في كتابه مشروع الرؤية الجديد و قصد به النسب إلى القرون الوسطى ، لهذا اقتضى التنبيه ، و مما يذكر ايضاً انه نسج على هذا المنوال كثير من النسب التي شاع بعضها فيما بعد و اختفى الآخر مثل : سلفوية و قروسطية و غيرها.
(1) الدمشقي-تاريخ الجهمية والمعتزلة-ص5
(2) المرتضى، الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى -المنية والأمل_ص 4و5
(3) احمد امين-فجر الاسلام –ص 296 و297
(4) عبد الوهاب الكيالي-ط1 1990الموسوعة السياسية الجزء السادس-ص 241.
(5) الملل والنحل – ج1 – ص55.
(6) الفرق بين الفرق – ص94.
(7) مروج الذهب-ج6-ص22.
(8) المرتضى الزيدي ، الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المنية والأمل-ص4 ، و كذلك اورد ابو القاسم البلخي المعتزلي
(9) النوبختي - فرق الشيعة – ص 4 و5.
(10) الدمشقي – تاريخ الجهمية والمعتزلة – ص16.





فضل الاعتزال - عمر أبو رصاع - 03-17-2008

الحلقة الثانية



(*) الحديث عن نشأة المعتزلة يطول و لا اراه منفصلاً عن شرح الأصول ، و إن كان مما يؤسف له أني ما وقعت على كاتب واحد خرج من اسار الربط بين سبب التسمية من ناحية و نشأة المدرسة من ناحية أخرى ، و كما سيتضح معنا و نحن نتابع سنلحظ أن الأصول كلها كانت قضايا مثار جدل اتفق في بعضها المعتزلة كما سبق و ان اشرنا مع هذه الفرقة او تلك ، إلا أن المهم بيانه ها هنا بتقديري يكمن في كون رأي المعتزلة في مسألة مرتكب الكبيرة فيصل ميز المعتزلة عن سواها ، في جو محتقنٍ من الخلاف حول المسألة ، و جوهرها الحكم على سلطان بني أمية تصريحاً او تلميحاً أهو قضاء و قدر و إرادة إلهية ام هو ملك يعتبر من الكفر ان لا يقاتله المسلم كما ذهب الخوارج؟ ام ان هناك رأي آخر ؟ المعتزلة كما سنرى لم تقبل الرأيان معاً ، بل علت بمسائل الخلاف كلها و هذه منها إلى مستوى فلسفة الفكر الديني عامة ، فخلقت علم الكلام و كان لها سبق الفضل في استحداثه ، و كونت مواقفها على اساس العقل فجعلته الدليل الأول قبل الكتاب و الرسول - سأعود بعد شرح الأصول لاعلق على بعض القضايا و هذه منها كما سأضمن دراستي هذه وقفات مع قضايا تخص المعتزلة او تعلقت بتاريخها كثورات المعتزلة و مسألة خلق القرآن و محنة ابن حنبل و كذلك ملحقاً خاصاً للحديث عن ما احدثته المعتزلة المعاصرة - فأعلت من شأن العقل و قدمت رؤيتها كرؤية عقلية للدين ، و لعل اكبر الأخطاء التي اعتورت المقاربات التي حاولت ان تدرس فكر و تاريخ المعتزلة برأيي خطئين :

الأول : تجده بشكل خاص في الدراسات الاستشراقية من محاولة للربط بين الفكر المعتزلي و الفلسفة الاغريقية على نحو خاص و الفكر المتقدم على الاسلام لدى الشعوب الأخرى على نحو عام ، و نرى ان هذا معاكسة لمسار الحدث التاريخي و افتراء على المعتزلة ؛ ذلك ان قضايا الفكر الاعتزالي كلها أصيلة في التراث العربي كقضايا خلافية قبل ان يتعرف العرب إلى الثقافات الأخرى ، و من نافل القول ان حركة الترجمة و بالتالي التعرف على تراث الاغريق و غيرهم قد جاء تاريخياً بعد بلورت المعتزلة لأصولها الكلامية الخمس بل قل ان المعتزلة كان لها دور بالغ الأثر في تشجيع الترجمة و حركتها فهي إذن صاحبة اسهام بالغ و أساس في اطلاق حركة الترجمة و ليس العكس اي انها ليست هي من نتاجها كما زعم بعض من اراد ادانة الفكر الاعتزالي بأنه متولد من فكر غريب عن فكر العرب المسلمين ، أو من حاول انتقاص قدرة العقلانية العربية على انتاج فكر يعلي من شان العقل فنسب هذا الفكر إلى تراث الحضارات السابقة ، لكن الملحوظ أيضاً ان المتقدمين من أهل الاعتزال تأثروا في صياغة فكرهم بما تعلموه و ترجموه من فكر اغريقي فلسفي على وجه الخصوص تأثر الأسلوب في صياغة افكارهم و مبادئهم و هذا امر سنعود له في اكثر من موقع بالاشارة عندما يلزم الأمر.

الثاني : الاعتماد على آثار خصوم المعتزلة في فهم فكرها ، و الحقيقة ان المعتزلة تعرضت لمحن كثيرة و تعرض تراثها لعمليات ابادة منظمة ، مما جعل الكثير من الدارسين يعتمد على تراث خصوم المعتزلة في فهم فكرها و تاريخها كالشهرستاني مثلاً ، إلا ان الكثير ايضاً من تراث المعتزلة نجا و وصل إلينا و يصلح مرجعاً أفضل بما لا يقاس لمقاربة المنهج الاعتزالي من مصادره هو.

أول الأصول العدل :



معناه ابتداء حرية الانسان في الاختيار ، لأن الله عادل من حيث المبدأ فلا يتفق و هو كذلك أن يسير الانسان إلى ما يحاسبه عليه ، فإذا قلنا أنه تعالى سير الانسان إلى فعله فكيف يكون عدل حسابه إياه على ما سيره إليه ؟!
عند المعتزلة يعد قوله تعالى { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا} من محكم الكتاب وهي الدليل الموافق لما استحسنه العقل من أن الانسان مخير وليس مسير ، و إذا عدنا لسياق الآية و جدناه يقول :{ هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا (*) إنّا خلقنا الانسان من نطفة امشاج "نبتليه" فجعلناه سميعا بصيرا(*) إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا(*)}(1) هذه الآيات الثلاثة الأول من سورة الانسان تقدم بأن الله ابتلى الانسان من البلاء ؛ وهو الاختبار هنا ، والابتلاء منه على وزن "افتعال" و في اللسان :"...و ابتلاه الله : امتحنه ..... و البلاء يكون في الخير و الشر ، يقال إبتليته بلاء حسناً و بلاء سيء ..."(2) ، و عليه لا تفهم الآية الثالثة من السورة إلى بالآية الثانية و التي فيها يقرر الخالق أنه خلق الانسان من نطفة امشاج (يبتليه) ولكن كيف يكون الابتلاء لغير العاقل فإنما بيانه ببيان أدوات العقل دالة عليه ومؤسسة لمصدر المعرفة العقلية عند البشر ، كما قرر الله في القرآن فقال {فجعلناه سميعاً بصيرا} وقد يسأل السائل لماذا لم يقل عاقلاً؟ ونقول بل أنه تجاوز العقل إلا الأدوات التي يعقل بها ، نجده يقرر في غير موضع من كتابه عز وجل {إن السمع و البصر و الفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسؤولا} و هنا أيضاً ذكر لآلة الوعي و تأكيد منه و تشديد على أولويتها و على كونها الأداة التي بها تتحصل المعرفة و لذا قال جعلناه سميعاً بصيراً ؛ أي جعلناه يعقل ما يبصر و ما يسمع ، فتجد المعتزلة – و سيتبع بيان هذا - تؤكد دائماً على المعرفة الحسية و سيلة للعلم و المعرفة هنا بالذات ضد على الكشوف الباطنية و الصوفية و الفتوح الإمامية المعصومة ، ممهدين السبيل بذلك لمن تبعهم من علماء عرب سبقوا فرانسوا بيكون و تجريبيته بقرون في التأكيد على أولوية التجربة و المشاهدة - و هو أمر ابهرني في واقع الامر - بعد أن قرر الخالق وقوع خلق الانسان من نطفة أمشاج و الابتلاء ، هداه السبيل و جعله يعقل ما تدركه الحاسة ثم قرر أن الأمر له من بعد ذلك أن يختار و عليه يحاسب لذلك قررت المعتزلة أن عدل الله يقتضي وجوباً حرية الانسان و خلقه لأفعاله.
قد يحتج علينا أحدهم فيقول أن تقرير حرية الإنسان و خلقه لأفعاله شرك بالله تعالى لأنه خلق ارادة و انتقاص من القدرة الكلية للخالق ، نقول هذا استدلال باطل لإن الله ابتداء هو خالق الإرادة للإنسان فإرادة الانسان إرادة جزئية مشتقة من ارادة المولى عز وجل الكلية القدرة ، فلا تعارض لأنه عز وجل هو الخالق و هو موجد هذه الإرادة الانسانية و لذا يقول عز من قائل في سورة البقرة:{و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك و نقدس لك؟! قال إني أعلم ما لا تعلمون} (3) فهنا يتساءل الملائكة اتجعل فيها من يفسد و يسفك الدم ؟!!! لماذا؟ لأنه أي الإنسان لما كانت له إرادته فقد يجعلها في غير طاعة الله و هنا وجه استغرابهم على القبول ؛ لأنه لو صح من الله تسير الانسان لما كان لينتج عن ارادته ما هو معصية له عز وجل فانكرته الملائكة ، و تساءلوا كيف يترك الله له ذلك ؟ كيف يمنحه هذه الحرية حريته في معصيته؟! فيأتي الجواب الإلهي القاطع إني أعلم ما لا تعلمون ، و يأتيك السياق بعدها {و علم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ، فقال : { انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} و هنا السؤال من باب انكاره عليهم قدرتهم الذاتية و ارادتهم المستقلة ؛ لأن جوابهم كان سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فأمر آدم الذي ميزه بقدرته على التعلم و التحصيل فأنبأهم بأسمائهم فجاء قوله عز من قائل { ...فلما انبأهم باسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات و الأرض و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون} ، فنحن إذاً أمام توليفة من امتحان لعاقل بوسائله السمع و البصر ، مسؤول عن ما يفعل لأنه منح إرادة مستقلة سيحاسبه الله على توظيفها في خلق افعاله. و لعله من الضروري هنا ان نميز بين مفهوم الخلق العامي المنصرف إلى الإيجاد من العدم و هذا حصر لمعنى المصطلح و إلزامه حدود ما لا يلزم فالخلق يجوز كفعل لمخلوق ؛ أو الخلق يجوز من موجود فالله مثلاً خلق آدم من طين و اجاز الخلق لمخلوقه قال : { إنما تعبدون من دون الله أوثاناً و تخلقون افكاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق و اعبدوه و اشكروا له إليه ترجعون } فلو كان الخلق غير جائز إلا لله لما قال لعباده تخلقون افكاً في نص قرآني.
صاغ المعتزلة نظريتهم في العدل الإلهي على عمومها في مقولات نقتبسها عن قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي :" ما دام الله عادلاً فهو لن يفعل إلا ما هو أصلح لعباده .... و لأنه خلق العالم لغرض و غاية و حكمة ...... و لأن العمل دون غاية تبرره .....أو حكمة يتوجه إليها و يستهدفها يصبح عبثاً " (4) .
" و لما كان الله حكيماً عادلاً فإنه خلق كل شيء لصالح الإنسان و صلاح عالمه " (5) ، " و لذلك فإن كل أفعال الله صلاح للإنسان " (6)
و اختلف شيوخهم في تأويل عموم الفكرة ، فالبغداديون منهم مثلاً أوجبوا على الله فعل الأصْلح للانسان في دينه و دنياه ، و أن يفعل أقصى القدرة في استصلاح عباده و إلا كان بخيلاً ظالماً و من هنا الوجوب (7) ، فيما رفضت ذلك معتزلة البصرة و رأت فيه مساً بالذات الإلهية واجبة التنزيه ، و ذهب القاضي عبد الجبار ايضاً هذا المذهب " لا يجب الفعل على الله لأنه صلاح أو إصلاح فهو لا يفعل مع عباده إلا ما ينفعهم لأن أفعاله ابتداء كلها كاملة حسنة "(8) وهكذا فقد قررت المعتزلة انه لا ياتي من الله إلا الصالح الاصلح ، البغداديون قالوا وجوباً والبصريون قالوا بل بكماله عز وجل فلا وجوب على الله ، و مثلهم ذهب ابن رشد فيما تبعِ مستدلاً بفساد منطق الاستدلال على فعل الخالق بالوجوب لأنه عز وجل له الكمال ابتداء(9).
أما في خلق الافعال الناشئ عن عدل الخالق و حرية المخلوق فقد اتفق جمهور المعتزلة عليه لكنهم اختلفوا في خلق الارادة و خلق النتيجة فبشر بن المعتمر يرى " كل ما تولد من فعلنا مخلوق لنا....من خلق الانسان و صنعه الارادي "(10) بينما نشز عنه العلاف إذ ميز بين المتولدات فقال " إن كل ما يولد من فعلي مما أعلم كيفيته فهو فعلي ، و ما لا أعلم فلا " (11) لكن نظرية التولد تبلغ كمالها مع النظام " الانسان لا يفعل إلا الحركة ، فما ليس بحركة ليس من صنعه و لا يفعل الانسان الحركة إلا في نفسه ، فإذا رمى الانسان حجراً و تحرك ... ليس من فعل الانسان حركته و إنما هو من فعل الله ، بمعنى أن الله طبع الحجر أن يتحرك إذا دفعه دافع ، فصلاة الانسان و صيامه و حبه و كرهه كلها حركاته ، أما الألوان و الطعوم و الأرياح فليست من فعله لأنها ليست حركته "(12) خلاصة قولنا في التولد أنه مفتاح فهم المعتزلة للإرادة و الحركة ، و ربما تستغرب عزيزي القارئ أن المعتزلة تقدمت و بمراحل واسعة المدارس الفلسفية الإغريقية بأصالة ما اشتقته من فهمها لمناط التكليف و تأسيسه على الحس دون أن يجرهم ذلك لما اختارته الرواقية من تأسيس للمادية المطلقة كما هو حالها عند دمقريطس مثلاََ ، فالإنسان عند المعتزلة مادة ، و قد اتخذت المعتزلة موقفاً مادياً بحتاً من النفس يقول الرازي : " جمهور المتكلمين اعتقدوا أن النفس جسم مادي ، أو عرض من جواهر مادية "(13) وابرز من قال منهم بذلك البصري أبو الأصم :" الانسان هو الذي يرى و هو شيء واحد لا روح له و هو جوهر واحد "(14)
و نقل عنه الأشعري قوله " النفس هذا البدن بعينه لا غير " (15) وهي بوضوحها وكمال دلالتها عند العلاف أبو الهذيل المعتزلي "الانسان هو الجسد و هو المرئي الظاهري الذي له يدان و رجلان "(16) و عند القاضي عبد الجبار المعتزلي الانسان : " الجملة التي نشاهدها ، لا أنه خارج عنها أو شيء بداخلها ، و أوضح دليل عليه هو الاشارة المخصوصة " (17) و قرن قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي ذلك بالدليل السمعي { و لقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة } صدق الله العظيم (18) ، فالقاضي يرى الانٍسان هذا الكيان المادي المدرك و لا يثبت له شيء غيره (19) و لذا لا تقر المعتزلة ما ذهب إليه الغزالي من أنه أي الانسان جوهراً روحياً (20) ، و قد شذ عن جمهور المعتزلة بشر بن المعتمر لأنه ميز بين الروح و المادة.
من هذا الفهم المادي للإنسان تتبنى نظرية الاعتزال في العدل الإلهي لتنتج رؤيتها لحرية الارادة ضداً على المرجئة و الجبرية في الجبر والارجاء وضداً على الأشاعرة في الكسب ، و هذا موضوع حلقتنا القادمة إن شاء الله.




-يتبع-



1- الانسان : الآيات 1- 3.
2- ابن منظور : لسان العرب ، بيروت دار صادر –ط3 -1994- ج14-ص84 مادة الواو و الياء.
3- البقرة : الآية 30.
4- القاضي : المحيط بالتكليف ،ص120،171،234.
5- القاضي: المغني – الأصلح ، 14/18-19 .
6- الحاكم : شرح العيون ، ص64 ، ط تونس – 1974.
7- الجويني : الارشاد ، ص 287 ، ط مصر 1950.
8- القاضي : المغني – الأصلح ، ص 23 وما يليها .
9- انظر مثالاً لا حصراً تهافت التهافت – و نأمل أن يكون لنا رجوع إلا ابن رشد في سلسلة خاصة به .
10- الخياط : الانتصار ، ص 62 ، ط مصر 1925 – وانظر ايضا دائرة المعارف الاسلامية الجزء الثالث ص660.
11- القاضي : المغني – التولد ص 12 وانظر كذلك في التولد الخياط في الانتصار ، ص 62، 63 ، 72 ، 77 للتوسع.
12- الشهرستاني : الملل والنحل ، 1/55 وما يليها ، ط مصر 1968.
13- الرازي : مفاتيح الغيب ، 5/331 ، ط مصر 1980/1981.
14- أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم من الطبقة السادسة في الاعتزال وهو معتزلي
بصري عرف بغرابة تفسيره و له مع الجبائي المعتزلي مناظرات طوال راجع بشأنه : ابن المرتضى : طبقات المعتزلة ، ص 56 و 57 ، ط بيروت 1961.
15- الاشعري : مقالات الاسلاميين ، 2/24 و 25 ، ط مصر 1954.
16- المصدر نفسه ، 2/25.
17- القاضي : المحيط بالتكليف ، المجلد 2 ، ص250أ.
18- المؤمنون : الآية 13.
19- للتوسع انظر القاضي : المحيط بالتكليف ، المجلد 2 ، ص 251 وما يليها وكذلك عبد الكريم عثمان : نظري&#


فضل الاعتزال - عمر أبو رصاع - 03-17-2008

الحلقة الثالثة


العدل و نظرية الإرادة الانسانية بين الاختيار المعتزلي و الجبر بشكليه الجبر المطلق عند الجبرية و الجبر المقنع عند الأشاعرة.

نشأ القول بالجبر ابتداءً كتبرير ايديولوجي لهيمنة بني أمية على الحكم وجعله ملكاً عضوداًًً ، بحيث تنسب هذه التغيرات إلى الله عز وجل باعتبارها ارادة الخالق و مشيئته فهو الخالق لأفعال البشر ، من هنا ثارت قضية الحرية و الاختيار أساساً ، فهي في جوهرها إذاًَ قضية سياسية عربية صرفة ، و هذا ما يفسر لنا لماذا تبنت القول بالجبر المذاهب التي كانت في خدمة السلطة او المنخرطة في منحها الغطاء و التبرير الشرعي كالجبرية و الأشعرية ، بينما تبنت القول بحرية الانسان و مسؤوليته عن خلق افعاله المذاهب و الحركات المعارضة للدولة و على رأسها المعتزلة و الخوارج و الشيعة بوجه عام.

يقول غلاة الجبرية بالجبر المحض و يسمون بالبرية الخلص و هم فرقة الجهمية اتباع الجهم بن صفوان (128هج745م) ، بينما إلتزم الأشاعرة موقفاً تلفيقياً واشد تهافتاً من الجبر الميتافيزيقي الخالص لإنعدام وضوحه النظري و لإشتماله على قدر أكبر من عدم الاتساق و الحسم و الانسجام (1) إلا أنها و للأسف أصبحت عقيدة عامة ، ذلك أنها كانت في خدمة الدولة و قضت قضاء مبرماً على كل من عارضها أو اختلف معها ، و دليلاً على ذلك اننا نلاحظ مغالاة الأشاعرة في الجبر عندما يتعلق الأمر بطاعة الأمراء ، نجد عند الاشعري " أن الانسان يريد الفعل الذي يختاره ... و لكن التنفيذ من الله خالق كل شيء و حرية الاختيار هذه إنما يخلقها الله في الانسان ، و كذلك الفعل الذي تنفذ بمقتضاه هذه الحرية و هذا ما يعرف باسم الكسب أي ما يكسبه الانسان من الله "(2) .

الغريب و الملفت للنظر حقاً أن الاشعري صب جام غضبه في حواراته و ردوده تكفيراً ونهشاً على الاعتزال بمختلف طبقاته فيما أن نظريته في الكسب هذه لم تخرج اطلاقاً برأي بل ان بعضها ينقض بعض ، القاضي عبد الجبار المعتزلي نقض زعم أبي الحسن من جذوره ذلك أن الكسب لغة هو كل فعل يستجلب به نفع أو يستدفع به ضرر ، كما نحتاج اسم قبل المصطلح من الناحية اللغوية فكسب لوحدها لا تكمل معنى ؛ إذن نظرية الكسب كذلك فاسدة من باب كونها اشتقاق لغوي خاطئ أيضاً (3) ، وما نظرية الكسب الاشعري إلا إلتفاف على المقاصد الواضحة ، فالكسب في اصله فعل إرادي و هكذا يردّنا الاشعري إلى حيث بدأنا في حلقة جهنمية مفرغة لا مقر لها ، و نظريته هذه بنزعها القدرة و خلق الفعل عن الانسان ما هي إلا جبرية مقنعة تفقد الانسان كل شكل للإرادة الحرة.

أثبت المعتزلة للإنسان إرادة و مشيئة مستقلة عن إرادة الخالق و هي حرية الفعل في تنفيذه أو العدول عنه بالكيفية ذاتها (4) .

لكنها بطبيعة الحال مشيئة قيدت و اشتقت من مشيئة الخالق ، " و لو شاء الله أن يهدي الجميع جبراً لفعله و لكنه لم يشأه ( هنا انتفاء تعارض المشيئتين) إلا بالخير لأنه لو أجبرهم على ذلك و ادخلهم فيه غصباً جبراً- قهراً كان المستوجب للثواب دونهم "(5) ، و تتأكد مشيئة الانسان عند المعتزلة عبر فعله بشروط
" وهذه الشروط هي :
1) الوعي الإرادي.
2) غائية الفعل .
3) استقلالية الفعل.
4) ارتفاع الموانع " (6)

بمعنى أنه إذا سقطت إرادة الفعل سقط حسابه ، و ليس من فعل له حساب إن لم يكن له غاية من فعله فالغاية من شروط صحة الفعل ، و إن لم يكن الفعل مستقلاً من ذاته لما جرى و لا ينبغي أن يجري عليه حساب ذلك انه اذا ما انتفت عنه صفة استقلالية الفعل صار له مصادر ارادة اخرى و إن كان الأمر كذلك وقع الحساب على فعل لم تكن ارادته خالصة لصاحبه و بالتالي مس هذا بجوهر فكرة العدل الإلهي المطلق ، أما ارتفاع الموانع فهي التي بين إرادة الفعل و انفاذه و موانع الفعل مادة الطبيعة و الانسان التي هي اشراط الخالق المحددة لقدرة الفعل ، فالفعل إذا ما قام له المانع المادي امتنع عن الحدوث و ليس عليه حساب مالم ينتفي المانع فيقع الفعل مادياً ، و هنا يكرس المعتزلة مفهومهم المادي للفعل فأفعال الثواب و العقاب إنما تكون بالعمل الإرادي الذي يتحقق في المتعين الانساني المادي ، على عكس الفهم الغائي الذي احتسب للفعل الذي لم يقع مادياً إنما لغايات الفعل و هو ما يقوم على النية دون ان تتحقق هذه النية فعل ، عند المعتزلة لا تكتمل فيه عناصر الإرادة اللازمة لخلق الفعل و لا فعل إلا بها ، فيما تجد أكثر الفرق قالت بالعقاب و الثواب بالنيات وهو ما انكرته المعتزلة انكاراً تاماً فانعقاد النية ليس كافياً و ليس بفعل في ذاته و إنما لا بد من ارتفاع الموانع عنها فتتحقق فعلاً مادياً فإذا ما وقع الفعل و جب الحساب.

مرة أخرى عند المعتزلة يستوجب علو فكرة العدل الإلهي أن يكون الفعل الانساني الذي يقع عليه حساب الخالق شروطاً ؛ أولها الوعي الإرادي فبدون وعي ارادي سقطت المسؤولية ، و ثانيها ان يكون للفعل غاية يعني ارتباط النتيجة بسبب فالإرادة الخالقة للفعل تحركها الغاية من الفعل فلا يريد الانسان فعلاً من اجل لا شيء او لنقل لا يريد الانسان فعلاً لا يريده ، إذن لا بد من وعي إرادي و غاية من خلق الفعل ، ثم لا بد من استقلالية هذا الفعل و إلا صار مخلوقاً لارادة أخرى فسقط عن الانسان حسابه فيه حتى و ان كان موضوعاً لهذا الفعل او فاعله ، و اخيراً انتفاء الموانع و إلا امتنع الفعل عن الوقوع و النية لا يأخذ بها و لا تقوم دليلاً على الفعل ما لم يقع فالأجر أجر العمل لا أجر النية.

و يشتمل أصل العدل فيما يشتمل على عدة أصول نظرية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

• إثبات النبوة : وردّ فيه المعتزلة على منكري النبوة من شتى المذاهب و الفرق المتزندقة و قال بعضهم أنها واجب لإقامة الحجة من الله على الناس و قال البعض الآخر بل النبوة ضرورة تقوم بذاتها و لا يستقيم الخلق إلا بها ، ليس من قبيل إثبات الألوهة الواجب بالعقل و لكن من قبيل اثبات التكليف.

ثبوتها هو ثبوت للتكليف و ليس ثبوتاً للألوهة فثبوت الألوهة واجب بالعقل أما ثبوت التكليف فواجب بالنبوة ، فالمعتزلة ميّزت بين انكار وجود الخالق و انكار النبوة ، الأول انكار للألوهة و هذا ينافي عندهم ما يقتضيه العقل فثبوت الألوهة واجب بالعقل عندهم ، أما ثبوت النبوة فهو ثبوت للتكليف اي ما كلف الله به الانسان عبر نبيه ، و اعتبروه من العدل الإلهي فلا تكليف بدون نبوة ، على ان نظرية الاستحسان انما تقيس الفعل الانساني على قاعدة الحسن و القبيح و الحساب من مقتضيات العدل الإلهي ، فإذا ثبتت الألوهة بالعقل ثبت الحساب لثبوت العدل المطلق لله و إذا ثبت الحساب ثبت التكليف بالحسن و العقاب على القبيح من الفعل ، يبقى التكليف التعبدي او التكليف بالطقوس الدينية و هو مما يثبت بثبوت النبوة عندهم.

• الصلاح و الإصلاح الإلهي : لأن الله عادل بالضرورة فلا يكون منه إلا الصالح و إن نسْب ما ليس بصالح إلى الله حط من عدل الله الكامل و تشويه للألوهة عن كمالها وعدلها ، و ان إرادة الله في خلقه إصلاحهم لا بجبرهم و إنما بإختيارهم و بهذا تقوم عليهم الحجة و الدليل { إنا هديناه السبيل إما شاكراً و إما كفورا } .

• اللطف الإلهي : فالله لطيف بخلقه لطفاً ليس كمثله لطف منه أنه جعل اشراط الحياة و نظامها مما يسر للانسان تسيره ، و أنه رغم عظم التكليف لطف بهم هادياً و حسيباً و تواباً.

• التوليد . (اشرنا إليه)

• الإرادة الإنسانية الحرة. (أشرنا إليه)

في الحلقة الرابعة نتناول مراجعة تاريخية لمسألة الجبر و الاختيار في التراث العربي الاسلامي. قبل ان ننتقل إلى ثاني الأصول عند المعتزلة و هو التوحيد.
– يتبع -






1) محمد عمارة : المعتزلة ومشكلة الحرية ،ص 75 ،ط بيروت 1972.
2) الاشعري : اللمع ، ص 38-39 ، ط بيروت 1952 وأنظر أيضا الشهرستاني : نهاية الإقدام ص
567 وما يليها ، ط اكسفورد 1934 ، وأنظر أوجريان : تاريخ الفكر الفلسفي في الاسلام ص 206 ، ط مصر 1974.
3) القاضي : شرح الأصول الخمسة ص 495 ، ط مصر 1965.
4) القاضي : فضل الاعتزال ، ص 172-173.
5) راجع الإمام يحيى بن الحسين الزيدي ، رسائل العدل والتوحيد 2/40 ، ط مصر 1971.
6) القاضي : شرح الأصول الخمسة ، ص 456.



فضل الاعتزال - AL3BASY - 03-17-2008

تسجيل متابعة وبإنتظار التتمة

واصل


ليس ابن عطاء


الموضوع

:redrose:


فضل الاعتزال - خوليــــو - 03-17-2008

لم أقرأ بعد ..
لكنني كنت أنتظر "بلهفة" هذا الموضوع "منك" .. بعدما قرأتُ في موضوع آخر لك بأنّك ستكتب عن "الاعتزال" ..

متابعة (f)

خوليو


فضل الاعتزال - يجعله عامر - 03-20-2008



اخ عمر (f)

شكرا لاستجابتكم
ويبدو ان الجميع متشوق للحديث عن السادة المعتزلة مما يعني أننا سنفيد حتما من النقاشات بعد انهاء التتمات <_<
وحبذا لو تم الالتفات من المهتمين بهذا الموضوع ففيه غناء عن غيره مما يستحق بجدارة الوصف بالزيف :flam: رغم كثرة لوك الالسنة له ، اقول هذا بخصوص موضوعات تلعب على وتر واحد منذ فترة بالنادي ..
لك ألف تحية سيدي على اهتمامك بالمعتزلة .


فضل الاعتزال - Abdelrahman - 03-20-2008

مجهود كبير وأسلوب قوي وبسيط في آنٍ واحد.

تسجيل متابعة(f)


فضل الاعتزال - عمر أبو رصاع - 03-22-2008

لا يسعني إلا ان اشكر الزملاء المتابعين و المهتمين كل باسمه و صفته
للجميع محبتي
عمر أبو رصاع



فضل الاعتزال - عمر أبو رصاع - 03-22-2008

مراجعة تاريخية لمسألة الإرجاء و الجبر و الاختيار في التراث العربي الاسلامي



ربما يتحرج الدارسون في مسائلة استقصاء جذور الفكر العربي الاسلامي و مواقفه العقيدية من ولوج مناطق البحث التي تتصل ببنية تاريخية تم للأسف أسطرتها في وعي الأمة و صارت جزء من الدين نفسه ؛ ذلك أن هذا النوع من البحث سيقودنا إلى نسب تلك الجذور لمواقف و آراء و سلوك شخصيات عربية اسلامية لها قدم السبق و تحظى بتقدير قد تجاوزنا فيه كأمة حدود المعقول إلى مستوى التقديس ، فصار وعينا للتجربة التاريخية وعياً مؤسطراً و معاد أدلجته.
إن هذا الحرج يرتفع إذا ما أخذنا درس القوم في اطارهم الزمكاني (الزماني المكاني) ، فلا نحملهم ما لا يحتملون من ناحية بالحكم عليهم بمقياس عصرنا و من ناحية ثانية بمطالبتهم مفارقة طبائع الجنس البشري و ما يأتي منها من احكام و رغبات و شهوات و إصابة و خطأ ، و لا اريد ان استرسل في هذا فأخرج عن الموضوع لكن لعل من المفيد ان نتذكر معاً أسلوب مسلسلاتنا في تناول الشخصيات التاريخية (اسلوب الابيض و الاسود اما ابيض لا يخطئ و اما اسود لا يفعل إلا خطأ).


(*) عود إلى نشأة القول بالإرجاء

الإرجاء لغة من التأخير ، و في اللسان : أرجأ الأمر : أخره .... و المرجئة صنف من المسلمين يقولون : الإيمان قول بلا عمل.(1) و في القرآن قال : { قالوا أرجه و أخاه و أرسل في المدائن حاشرين}(2)
و قال :{ ترجي من تشاء منهن وتؤوي اليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك ادنى ان تقر اعينهن ولا يحزن ويرضين بما اتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما} (3)
و بوضوح قوله : { و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم حكيم } (4)
و قوله : { ولله ما في السماوات وما في الارض والى الله ترجع الامور }(5)
و قوله { ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء انما امرهم الى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } (6)

إذن فالكلمة موجودة في النص القرآني و بمعنى التأخير ، و قد انصرفت فكرة الإرجاء إلى القول بالفصل بين الايمان و العمل ، الإيمان باعتباره التصديق و اليقين عند الانسان و العمل باعتباره سلوك و عبادة و غير ذلك ، فلا تنفي المعصية الإيمان و عليه يجوز ان يكون الانسان مؤمناً و عاصياً في آن معاً.

الرأي عند المرجئة انه لا سبيل إلى الحكم على ما يؤمن به الانسان فعلاً من خلال عمله فقد يظهر سلوكاً ايمانياً و يضمر العكس و قد يبدو من سلوكه المعصية و في قلبه الإيمان ، وعليه فإنه عند المرجئة طالما أن الإنسان اظهر القول بالايمان فليس لنا عليه سبيلاً و يرجئون الحكم على ايمانه و عمله إلى الله وحده.

نجد ان أبا موسى الاشعري عدد من فرق المرجئة أثنتي عشرة فرقة هي : الجهمية و الصالحية و اليونسية و الشمرية و الثوبانية و النجارية و الغيلانية (اتباع غيلان الدمشقي) و الشبيبية و الحنفية (اتباع ابي حنيفة النعمان) و المعاذية و المريسية و الكرامية. (7)
لعل الارجاء كفكرة قديم قدم الدين نفسه ، فكما هو معلوم فهم النص الديني ليس مقطوعاً لفهم واحد بل هو خلافي منذ البداية ، نسب لعثمان بن عفان الأموي و هو ثالث الخلفاء مقولة شهيرة تكشف رأياً ارجائياً و قولاً بتسير الانسان ايضاً إذ قال لمن طالبه بخلع نفسه في الثورة التي قامت عليه : " لا اخلعن قميصاً قمصنيه الله".

إلا ان الإرجاء الذي نشأ اولاً كموقف رافض للربط بين الايمان و العمل و تأخير الحكم على مرتكب الكبيرة إلى الله يوم القيامة و ان "العمل ليس من اركان الايمان" (8)، تبلور كموقف عقدي رسمي في عهد الدولة الأموية على يد خلفائها و فقهاء خلفائها لتبرير ان المفاضلة ليست بالتدين و لا بالعمل الديني و ان الحكم على ايمان انسان و عمله به لله و ان ما تجري به الدنيا من حوادث انما هو ما اراده الله ، الدولة الاموية التي بدأت بمعاوية و اخرجت السلطة من يد منظومة العشرة القرشية التي اختارها عمر او من بقي منها إلى يد الاسرة الاموية على يد خامس خلفاء المسلمين ترتيباً معاوية بن ابي سفيان (20-60 هجري ، 603-680 م).
بعد ذلك ظهر الإرجاء كتيار سياسي معارض بل و ثوري ، و هذا امر يلتبس على كثير من المهتمين ، إذ يعلق دوماً بأذهانهم ان الارجاء مذهب ارتبط بالدولة فلماذا تعدم هذه الدولة رموزاًَ من أهل الإرجاء و تحاربهم؟!

هذا الارجاء الثوري جاء رداً على موقف الدولة الأموية حيال تراجع دخلها من الجزية التي تتحصلها من غير المسلمين ، فبفرض الدولة الأموية هيمنتها على اسقاع واسعة و دخول شعوب مختلفة تحت سلطتها توسع دخلها من الجزية التي تتحصلها من هذه الشعوب و لكن بدخول هذه الشعوب في الاسلام تراجع ما تحصله من الجزية ، و هنا أرادت دولة بني أمية أن تحد من هذا التراجع فوضعت شروطاً صعبة لترفع الجزية عن الداخلين في الاسلام ، و من هذه الشروط : الاختتان و إقامة فروض الدين و حسن الاسلام و قراءة سورة من سور القرآن ، تبدو هذه الشروط تعجيزية بالقياس إلى شعوب اعجمية و حديثة عهد بالدين ، من هنا ظهر الإرجاء الثوري كرفض لهذا التوجه الاموي الرسمي حيال الشعوب الحديثة العهد بالدين الاسلامي ، على منطق ارجائي كان لسان حالهم : ما دام هؤلاء يعلنون اسلامهم و ينطقون بالشهادتين فمالكم و عملهم ؟! الله يحكم على اعمالهم و ليس انتم فارفعوا عنهم الجزية.

ها هو واحد من اعلام الإرجاء الجهم بن صفوان (9) الرجل الثاني في ثورة الازد التي كانت بقيادة الحارث بن سريج و التي و قعت نحو سنة 116م (10) يذبح على يد عامل هشام على خرسان ، و قبله أعدم خالد القسري الجعد بن درهم و قال فيه مقولته المشهورة :" اذهبوا فضحوا اني مضح بالجعد بن درهم " و إذا كان ذبح الجعد أظهر على انه عقاب له على تزندقه لقوله بخلق القرآن و نفي الصفات الزائدة ، فإنه اي الجعد جبري ارجائي ، و لم يكن بالرجل الهين او الجاهل فالجعد كان مؤدباً لمروان الحمار آخر خلفاء بني امية الذي عرف ايضاً بمروان الجعدي نسبة لمؤدبه الجعد بن درهم ، و كان اختاره عمر بن عبد العزيز فولي الخزائن و كان خصيماً لبني امية مر به هشام و هو يبيع في مزاد علني املاك لبني امية و يقول فيهم انهم غصبوا الامر و ليس لهم منه شيء فوعد انه لو صار له الأمر لضرب عنقه و هذا ما كان فعلاً على يد خالد القسري عامله على العراق.

فعقيدة الارجاء عند بني امية كانت مقبولة طالما انها تبرر سيطرتهم على السلطة و طاعة الخليفة بغض النظر عن حاله ، أما ان يشوبها موقف يتناقض مع الدولة و سلطة الخليفة المطلقة فإنها تحارب و تصير كفر ما بعده كفر و لا بأس عند إذ ان يحارب الارجاء الارجاء.

يميز الخياط في الانتصار بين من سماهم من المرجئة بالنوابت (11) وهم على حد تعبيره "عثمانية تقول بالجبر و الارجاء" و من كانوا على شاكلة غيلان بن ابي غيلان الدمشقي ، سماهم الزبيدي ايضاً بالحشوية ممن لحقوا بمعاوية بالشام بعد ان ظفر و صار له الامر (12).

كما نرى فإن الارجاء الأول هو غير الإرجاء الثوري الثاني لهذا تجد ان الارجاء الأول تلازم مع القول بالجبر و الارجاء الثاني شابه القول بالاختيار و مسؤولية الانسان عن افعاله ، بل ان هذا ادى لخلط كما يرى أحمد امين في هذه المرحلة فسمى البعض هذا الاتجاه الارجائي "معتزلة المرجئة"(13) ، الحق اني اردت التقديم بهذا كله لابين ان تيار الارجاء بعامة لا يتسم بوحدة العقيدة في مختلف المسائل بل هو تيار ممتد عبر تاريخ المسلمين تنوعت مواقفه الاعتقادية من اليسار إلى اليمين ، و لا شك ان التيار الارجائي لا زال له إلى يومنا هذا حضور في الفكر العامي عند العرب المسلمين و يميل اكثرهم إلى الفصل بين الايمان و العمل و يقبل معظمهم بايمان من لا يدل عمله على هذا الايمان بإعلانه الاسلام و تصديقه بالرسالة وهذا ايضاً موقف عموم اهل السنة و الجماعة من اتباع المذاهب الاربعة ، و هي قضية غير الجبر ، الذي كان عقدية نشرتها الدولة عبر القرون لتبرر لنفسها الهيمنة على السلطة بوصفها ارادة إلهية و هذا ما جعل العقيدة الاشعرية كما سبق و اشرنا و هي العقيدة الكلامية الرسمية للدولة تدافع بقوة عن الجبر و ان كان بأسلوب كلامي تمويهي عبر نظرية الكسب و تشنع على المعتزلة و القدرية ممن قالوا بالاختيار و خلق الانسان لافعاله بل و تنتحل إليهم موضوع الحديث فتصفهم بأنهم مجوس الأمة.

إذن فالجبر قضية ظهرت منذ المرحلة الأولى للصراع الاسلامي و هو قول شجعت السلطة عليه ؛ تبريراً لسلطتها ناهيك عن الارجاء ، و إذا كان من اشتق الاختيار من العدل كثير ممن سبقوا المعتزلة فتنسب المراجع القول باختيار الانسان قبل المعتزلة كذلك لغيلان الدمشقي و معبد الجهني و الجهم بن صفوان فإن القضية لم ترتدي بعداً عقائدياً واضحاً إلا عند المعتزلة قبل سواهم حيث لا يستقيم عندهم جبر و ارجاء معاً و ينتسل الاختيارو خلق الانسان لافعاله مباشرة من العدل الإلهي و نفي شبهة الظلم عن الله.

بل ذهبت المعتزلة ابعد من ذلك فعقيدتها التي تقوم أساساً على العدل و التوحيد و تشتق أصولها الاربع الأخرى كما يرى القاضي عبد الجبار من العدل بالذات و تعتبر مسؤولية الانسان عن افعاله و خلقه لها القضية الجوهرية الاساسية المشتقة من العدل كما سبق و اشرنا ، لذا فإن المعتزلة منذ انطلاقتها اواخر القرن الأول مطلع القرن الثاني الهجري ، عدت كفرقة معارضة للدولة الاموية ، فالمعتزلة ربطت بين الجور و الاستبداد من ناحية و الجبر من الأخرى و كذلك بين الاختيار و خلق الانسان لافعاله من ناحية و الحرية من ناحية أخرى (14) و جعلت الامر بالمعروف و النهي عن المنكر من أصولها الخمس ، بل تصل القراءة السياسية منتهى نضجها عند المعتزلة في مسألة الارتباط بين الموقف من الدولة و الاختيار الحر للانسان، فتجب اذن محاربة السلطة المغتصبة ؛ فوجودها نتاج فعل بشري الله بريء منه و اسقاطها كذلك يتم بفعل بشري لانسان حر في اختيار افعاله مسؤول عنها (15).

من جانب آخر اشتغل المعتزلة كثيراً في الرد على المطاعن في الاسلام و كانت كثيرة تحت تأثير الاديان و المعتقدات و الفكر القادم من الشرق من فارس و الهند بالذات ، و كان من اشد مهامهم الدفاع عن العدل الإلهي و مسألة الاختيار الانساني هذه بالذات.

مما لا يشار له كثيراً الانتشار الواسع الذي كان لافكار المعتزلة في اسقاع اراضي الدولة و بشكل خاص بين المثقفين منهم ، يروي المسعودي مثلاً ان الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك (16) كان مؤمناً بأصول الاعتزال الخمسة حتى انشد احد خصومه من بني امية :


ساد الناقص القدري فينا و القى الحرب بين بني ابينا

سنتوسع في ملحقنا حول الحركات الثورية و السياسية للمعتزلة و نكتفي هنا بهذا القدر حول الخلفية التاريخية لمسألة الاختيار على اننا بالضرورة سنرجع في غير موضع لهذه النقطة خاصة عندما نتناول الجوانب التاريخية و السياسية و سنناقش ايضاً في ملحقنا مسألة كلامية مهمة عند المعتزلة و حساسة و مشكلة عويصة هي (الاختيار و العلم الإلهي) .
ننتقل في الحلقة الرابعة إلى ثاني الأصول التوحيد.

يتبع


(*) سيلزمنا الكلام على الارجاء ايضاً عند الحديث عن أصل المنزلة بين المنزلتين و الوعد و الوعيد
(1)ابن منظور - لسان العرب – ط3-1994-ص83-84 تحت حرف الهمزة أوله راء.
(2) الاعراف - الآية 111 .
(3) الاحزاب - الآية 51 .
(4) التوبة - الآية 106 .
(5) آل عمران - سورة 3 - آية 109 .
(6) سورة الأنعام - سورة 6 - آية 159 .
(7)الاشعري – مقالات الاسلاميين –ط استانبول – 1929 - ج1 – ص 213-223 .
(8)أحمد أمين - ضحى الاسلام - ج3 - ص317 .
(9) الجهم بن صفوان : رأس الجهمية المرجئة ، اشتغل بعلم الكلام و قال بخلق القرآن و نفى الصفات و الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و البغي، و قال بالارجاء و وقف فيه موقفاً ثورياً كما قال بمسؤولية الانسان عن افعاله على خلاف الجعد بن درهم الذي كان جبرياً ، اصله من خرسان و قيل سمرقند نسب إليه تأثره بالجعد بن درهم اول من نسب إليه نفي الصفات و خلق القرآن ، قتله عامل هشام على خرسان بعد فشل ثورة الأزد التي كان من قياداتها سنة 128 للهجرة .
(10)للتوسع انظر :
*جلال الدين القاسمي – تاريخ الجهمية و المعتزلة - ط القاهرة ص7-9
* تاريخ الطبري ج8 ص 35، 196-197.
* المستشرق فان فلوتن – السيادة العربية و الشيعة و الاسرائيليات – ط القاهرة – 1965-
ص 53-55 ، 65 ، 67 .
* د. محمد عمارة – تيارات الفكر الاسلامي –ط2-القاهرة - دار الشروق 2007 ، ص 35-43) .
(11) الخياط المعتزلي - الانتصار في الرد على ابن الراوندي الملحد ص-156 .
(12) الزبيدي - معجم تاج العروس - مادة نبت - ص589 .
(13) أحمد أمين - ضحى الاسلام - ج3 ص 322 .
(14) القاضي عبد الجبار - المغني في ابواب التوحيد والعدل - ج8-ص4 و ما يليها.
(15) انظر بهذا المعنى و هذا العمق : المرتضى : المنية و الأمل - ص 6 و ما بعدها
(16)المسعودي: مروج الذهب - ج 6 - ص 32


فضل الاعتزال - عمر أبو رصاع - 03-22-2008

Array


مما لا يشار له كثيراً الانتشار الواسع الذي كان لافكار المعتزلة في اسقاع اراضي الدولة و بشكل خاص بين المثقفين منهم ، يروي المسعودي مثلاً ان الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك (16) كان مؤمناً بأصول الاعتزال الخمسة حتى انشد احد خصومه من بني امية :


ساد الناقص القدري فينا و القى الحرب بين بني ابينا
[/quote]

ملاحظة على النص هناك خطأ هو الخليفة يزيد بن الوليد بن عبد الملك و ليس الوليد بن يزيد بن عبد الملك فذاك ابن عمه الفاسق الذي انقلب عليه .
شكراً