حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
حوار مع الكاتب والمترجم علي مصباح حول ترجمة نيتشة إلى اللغة العربية - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5)
+--- المنتدى: قــــــرأت لـك (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=79)
+---- المنتدى: مواضيـع منقــولة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=25)
+---- الموضوع: حوار مع الكاتب والمترجم علي مصباح حول ترجمة نيتشة إلى اللغة العربية (/showthread.php?tid=6171)



حوار مع الكاتب والمترجم علي مصباح حول ترجمة نيتشة إلى اللغة العربية - الواد روقه - 03-10-2008

[align=center]حوار مع الكاتب والمترجم علي مصباح حول ترجمة نيتشة إلى اللغة العربية

منذ سنة 2001 شرعت دار الجمل بكولونيا في إصدار سلسلة ترجمة لمؤلفات الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشة. أرنو بوهلر وسوزانة غرانسر من مجموعتي (Nietzsche-Circle New York و GRENZ-film Vienna) التقيا في برلين بمترجم أعمال نيتشة علي مصباح وأجريا معه هذا الحوار بغية التعرف على حيثيات هذه الترجمة والغاية من هذا المشروع.

أرنو بوهلر: أولا نود أن نشكرك على إبدائك استعدادا لإجراء هذا الحوار معنا في إطار العمل الذي نقوم به ضمن مجموعة Nietzsche-Circle New York. في سنة 2002 قمت بالترجمة العربية الأولى لكتاب Ecce Homo لفريدريش نيتشة. ومنذ سنة 2003 تعكف على ترجمة "هكذا تكلم زرادشت". وستكون هذه أول ترجمة لهذا الكتاب إلى العربية من اللغة الألمانية مباشرة وليس من الفرنسية. فكيف خطرت لك فكرة الإقدام على مثل هذا المشروع الهائل والشبيه بمخاطرة في الحقيقة؟
علي مصباح: أنا تونسي الأصل، لغتي الأم هي العربية، تليها الفرنسية وقد أنهيت دراستي الجامعية في فرنسا. وهكذا فإن قراءتي لمؤلفات نيتشة قد تمت أولا باللغة الفرنسية التي كانت تمثل لغة الانفتاح على العالم بالنسبة لنا في الستينات والسبعينات. بعدها اطلعت على ترجمة لـ"هكذا تكلم زرادشت" باللغة العربية. وقبل 15 سنة كنت قد توصلت إلى مستوى من المعرفة باللغة الألمانية سمح لي بأن أقرأ نيتشة بلغته الأصلية لأول مرة، وعندها اتضح لي بأن الترجمات الي قرأتها في ما مضى لا تخلو من إشكاليات. وفي اللغة العربية لم تكن توجد على أية حال في ذلك الحين غير ترجمة واحدة لـ "هكذا تكلم زرادشت". وكانت ترجمة رديئة، بل يمكنني القول بأنها كارثة حقا. وهي ليست ترجمة عن اللغة الألمانية الأصل، بل نقلا عن ترجمة فرنسية. عندها تحركت لدي رغبة مثل الحلم في أن أنجز ذات يوم ترجمة لإحدى أعمال نيتشة مباشرة من اللغة الألمانية. لكن الفكرة كانت عبارة عن حلم كما قلت، فكرة على غاية من اليتوبية والجنون كيما تكون واقعية.
في سنة 2001 صدر كتيّب للفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك عن "الإنجيل الخامس لنيتشة"•. وبعد أن قرأت ذلك النص أخذتني رغبة في ترجمته إلى العربية. وذلك ما قمت به مباشرة. كان لهذا العمل فضل أن خلصني إلى حد ما من عقدة الخوف، وتراءى لي عندها كما لو أن حلمي بترجمة نيتشة قد راح يقترب من الواقع. لكن هذا لا يعني البتة أنني قد قد أفلحت في التخلص نهائيا من ذلك الخوف، وأنني الآن لا أشعر بأي خوف وأنا أترجم نيتشة. حقا لا! فكل ترجمة لنص من نصوص نيتشة عبارة عن مغامرة، عن تجربة أولى، عن مخاطرة.
كنت أعرف في تلك الأثناء الشاعر والناشر خالد المعالي ولديّ اطلاع على مشروع إصدارات منشورات الجمل. وعندما قلت له إنني بصدد ترجمة نص سلوتردايك حول نيتشة أبدى كثيرا من الترحاب بالفكرة وتعهد بنشر تلك الترجمة.
بعدها اقترح علي فكرة ترجمة نص لنيتشة نفسه من اللغة الألمانية. عندها، وبالرغم مما أبديته من تردد، شعرت بأن الوقت قد حان لإنجاز حلمي القديم. وهكذا شرعت مباشرة بعد الانتهاء من كتاب سلوتردايك في ترجمة "هذا هو الإنسان" وهو آخر ما ألف نيتشة ويمثل مزيجا من السيرة الذاتية والسيرة الفكرية.
وبالرغم من أن الاتفاق الذي حصل بيني وبين خالد المعالي آنذاك كان لا يتجاوز حدود ترجمة كتاب هذا هو الإنسان ولا شيء غيره، فإننا كنا ندرك كلينا بأن المسألة لن تتوقف عند مؤلَّف واحد. وفي مكان خفي كنا على ما أعتقد نطمح إلى ترجمة الأعمال الكاملة لنيتشة، وإن كان المشروع يبدو لي شخصيا مخيفا ولا أفضل التفكير فيه أصلا. من هنا سيتوقف الالتزام عند حد كتاب واحد في كل مرة.
وإلى الآن لا نعرف بالضبط إلى أي مدى سيمكننا تحقيق هذا المشروع. ومن بمستطاعه بالنهاية أن يعرف مسبقا أي شيء سيحصل ؟ وعلى أية حال فإنني أفضل أن أركز اهتمامي الآن على الكتاب الذي أنا بصدد ترجمته وهو "هكذا تكلم زرادشت" وأن لا أشغل نفسي بشيء غيره.

سوزانة غرانسر: أنت الآن على وشك الانتهاء من ترجمة زرادشت، أليس كذلك؟
علي مصباح: نعم. الترجمة مشرفة الآن على نهايتها. وأنا أشتغل لما يقارب الأربع سنوات على هذه الترجمة. عندما انتهيت سنة 2002 من ترجمة هذا هو الإنسان كنت واقعا أثناءها تحت سحر نص "أغنية الليل" الذي وجدت متعة كبيرة في ترجمته. وأظن أن ذلك النص هو الذي دفع بي وشجعني على الشروع في ترجمة "زرادشت". والآن، وإذا ما سارت الأمور على ما يرام فإنني سأكون مع أواخر سنة 2006 قد انتهيت من هذا العمل. أن أكون قد انتهيت منه حقا! -(يضحك). الانتهاء حقاّ يعني في الواقع أن تكون بين يدي نسخة جاهزة للطباعة، ليس أكثر.

سوزانة غرانسر: ما الذي يحدثه لديك هذا التنقل الدائم بين اللغتين الألمانية والعربية، وأي أثر لهذا على حياتك هنا في برلين؟ علي مصباح: إنها مراوحة يومية بين ضفتين. حركة ذهاب وإياب متواصلة. أحيانا تنسد كل المنافذ أمامي عندما لا أستطيع النفاذ إلى نص أو جملة أو عبارة من كتابة نيتشة، أو عندما يستعصى علي العثور على الكلمة الملائمة وتخونني الكلمات في عملية العبور إلى الضفة الأخرى ( كلمة ترجمة في الألمانية وهي Übersetzung أو Über-Setzung تعني حرفيا نقل شيء ما من ضفة إلى الضفة المقابلة). عندها أجلس في بيتي فريسة لشعور مؤلم بالعجز والقهر. أحيانا أود لو أنني أركض –لكن البيت صغير جدا لمثل هذه الرياضة العلاجية- أو أنني أخرج للتمشي في جولات طويلة غالبا ما تساعدني على تبديد الطاقات السامة للشعور بالقهر الناجم عن التوقف ليوم أو يومين أحيانا أمام جملة، أو عبارة أو استعارة تتعذر على النقل. في مثل هذه الحالات ليس هناك من مساعد غير الصبر؛ فغدا ستشرق الشمس من جديد، يجب أن يقول المرء لنفسه. مثل هذه اللحظات مشحونة بمشاعر القهر وهي مؤلمة حقا... لكن هناك أيضا بطبيعة الحال أيام أخرى؛ تلك الأيام التي أشعر فيها بأنني أكافأ بأجمل المكافآت، لحظات وأيام أشعر فيها بالغبطة، وبسعادة عارمة مكافأً بأجمل الهدايا: الجمال المنعش والمسكر للغة نيتشة وهي تنتقل إلى اللغة العربية، أو تنطق بلسان عربي...وعندها تزداد علاقتي باللغة العربية أيضا حميمية، وأشعر بها مثل بيتي ووطني في أرض الغربة.

سوزانة غرانسر: ...لأن اللغة تشرع في الكلام؟ علي مصباح: نعم، هناك كلمة تنفتح عن خباياها وتشرع في الإفصاح، أو البوح. في مثل هذه اللحظات هناك كم هائل من الطاقة يتحرر وينطلق. يصبح المرء عندها متناوِلا، يستلم الكثير، ويشعر بالغبطة، لأن شيئا ما قد حدث في عملية النقل.

أرنو بوهلر: هل تتذكر مواقع بعينها كان البحث فيها عن العبارة المناسبة في اللغة العربية جهدا مضنيا؟
علي مصباح: مواقع كثيرة! كثيرة جدا للأسف!(يبتسم). فمصطلح "Übermensch" مثلا ما فتئ يقلقني ويستعصي على الترجمة منذ البداية حتى الآن. والإشكال الذي تطرحه ترجمة هذا المصطلح يعود إلى أن اللغة العربية، وفي هذا السياق بالذات لا ترتاح إلى تركيبات من نوع "فوق"-"إنساني"، أو "فوق"-"بشري"، الأمر الذي يمثل حالة عادية في اللغة الألمانية التي تسمح بتركيبات لفظية من كلمتين وأكثر لتشكيل عبارة واحدة. هذا الأمر غالبا ما يطرح علي صعوبات أثناء الترجمة لأن اللغة العربية لا تسمح بذلك النوع من التركيب أو أن التركيبة لا تأتي مستساغة أولا تؤدي أي معنى.
مصطلح "Über-Mensch" النيتشوي قد طرح إشكالا على كل المترجمين العرب. وهؤلاء المترجمون الذين ينقلون عن اللغة الفرنسية قد ترجموا عبارة "Surhomme" ب"الإنسان الأرقى" و "الإنسان الأسمى" كما لو كانوا يترجمون عبارة "l’Homme superieur" أو "Der höhere Mensch" في الألمانية. هذه الترجمة غير موفقة في نظري، ذلك أن نيتشة يفرق بواضح العبارة في العديد من المواقع بين "الإنسان الأرقى" و "الرجال الراقون" من جهة وما يدعوه Über-Mensch . فالناس/ أو الرجال الراقون، ولئن بدوا بالمقارنة مع عامة الناس ومع إنسان القطيع، صنفا أرقى وأنبل من النمط الرديء الذي يتلاءم والمواصفات السائدة لـ"إنسان الجمهور"، "إنسان الكتلة"، "إنسان القطيع" –النوع الذي غالبا ما يقارنه نيتشة بالبعوض- لكن هؤلاء "الرجال الراقين" ليسوا أولئك الذين يبحث عنهم زرادشت في رحلة بحثه الطويلة عن "الإنسان الأعلى". فهذا الأخير ليس بـإنسان راقٍ، بل كائنا جديدا ونمط حياة جديد يتجاوز، أو يقع فوق منزلة الجنس أوالنوع البشري . فـالشرط الإنساني أو المنجَز في هذا الشرط الإنساني هو الذي "ينبغي تجاوزه" كما يكرر زرادشت على الدوام، وهو ما يجب عليه أن يمضي إلى حتفه من أجل مجيء "الإنسان الأعلى". الإنسان –كما يتراءى لنيتشة في تشكله التاريخي- كائن اضطغاني متعطش للانتقام، وفي الآن نفسه أسير المثولية والاستلاب، وهو بالذات ما ينبغي تجاوزه. من هنا بدا لي أنه لا يمكنني ترجمة Übermensch بعبارة "الإنسان الأرقى" (علما وأنني وقعت بدوري في خطإ تبني هذا المصطلح في الترجمتين السابقتين اللتين أنجزتهما سنتي2001 و 2002)، لكنني في الآن نفسه لا أستطيع التوفق إلى اجتراح عبارة مركبة على النحو الذي يرد في الألمانية والفرنسية والأنكليزية. وقد اتصلت بالعديبد من الأصدقاء من كتاب وشعراء وأكاديميين وراسلت الكثيرين من أجل الاستشارة وطلب المساعدة لتخطي هذه العقبة اللغوية. وأخيرا يبدو أن قراري بدأ يستقر حول تبني عبارة "الإنسان الأعلى" وذلك قياسا على عبارة "الأنا الأعلى" الفرويدية التي تم اجتراحها أيضا، وفي اللغة الألمانية، من نفس الصياغة التركيبية.

سوزانة غرانسر: وكيف تترجم عبارة "Gott" إلى العربية؟
علي مصباح: بعبارة "الله". طبعا هناك تنويعات بحسب الموقع والسياق الذي ترد فيه هذه العبارة. فأحيانا تكون عبارة "الربّ" هي الملائمة أو "الإله" كمرادف لعبارة ‚der Gott’ في الألمانية. لكن عندما يتعلق الأمر ب: ‚Gott’ فتكون العبارة المناسبة هي "الله". إذ كلمة الله، وخلافا لما يعتقد أغلب الناس في أوروبا والغرب عامة، ليست كلمة لتسمية إله المسلمين فقط، بل لإله الجميع، وأعني بذلك إله الديانات التوحيدية الثلاث وهو واحد. ذلك أن الإسلام يرى إلى نفسه كتواصل للديانتين اليهودية والمسيحية ومتمم لهما، أي كشكل لتطور الرسالة الإلهية التي بدأت مع اليهودية والمسيحية، بل منذ نبوة إبراهيم، وليس الإسلام سوى مرحلة تاريخية متقدمة في مسار هذه الرسالة. كما أن نصوص الترجمات العربية للأناجيل (العهد القديم والعهد الجديد) تستعمل هي أيضا عبارة "الله". وأثناء ترجمتي لكتابات نيتشة أعمل كثيرا على مراجعة الكتاب المقدس في ترجمتيه الألمانية والعربية، ذلك أن كتابات نيتشة، وزرادشت بصفة خاصة تتضمن إحلات وإشارات كثيرة على الأناجيل. إذًا غالبا ما أترجم عبارة Gott ب:"الله"، وفي بعض الأحيان استعملت عبارة "الرب". وقد ترجمت مقولة نيتشة الشهيرة Gott ist tot بـ: "إن الله قد مات".

أرنو بوهلر: كيف كانت ردة فعل الناس في البلاد العربية على مقولة "إن الله قد مات" ؟علي مصباح: هذه المقولة تطرح إشكالا على المؤمنين بطبيعة الحال، ذلك أنها تمثل مقولة إلحادية بالنسبة إليهم. قبل سنتين على سبيل المثال دعيت لتنشيط أمسية أدبية في مدينة طانطان بالجنوب المغربي. وبعد مداخلتي طلب أحد الحاضرين الكلمة ليقول لي حرفيا ما يلي: "عندما التقينا بك قبل نصف ساعة اعتقدت أنك رجل طيب. لكن ها أنني أرى الآن من خلال هذه الورقة عن سيرتك الشخصية بأنك قد ترجمت كتابين لنيتشة. وأنت تعلم أن نيتشة كان يحتقر الإنسان عامة ويدعو إلى عدم الرأفة بالضعفاء، كما أنه ملحد معلن وهو القائل: "إن الله قد مات."
لم يكن المقام مناسبا للخوض في مثل هذا النقاش فموضوع الأمسية كان عن الأسفار والرحلات وأدب الرحلات. لذلك اكتفيت بأن ألفت انتباه صاحب الملاحظة إلى أن نيتشة قد ولد وترعرع في وسط مسيحي، وأنه إبن لخوري كنيسة بروتستانتية، وبالتالي فإن جملة "إن الله قد مات" لا يمكن أن تفهم إلا داخل سياقها المسيحي والمعتقد الذي يعتبر عيسى ابن الله وأنه صلب وقتل.
والآن عندما أعود بذاكرتي إلى تلك الفترة البعيدة عندما قرأت هكذا تكلم زرادشت لأول مرة وأنا في الثامنة عشر من عمري مثل عدد من أصدقائي بالمدرسة الثانوية آنذاك، وكيف طلعت لنا تلك الجملة: "إن الله قد مات"، فإنني أتذكر جيدا بأن تلك الجملة، وتلك الجملة بالذات هي التي جلبت انتباهنا جميعا، وكيف غدونا نرددها بكثير من الدهشة والإعجاب وبشعور شبيه بالظفر حتى. كانت مقولة سحرية بالنسبة لنا جميعا: الكلمة السحرية. ضرب من التحرر الفجئي من سطوة "أرواح" أسلافنا الجاثمة بكل ثقلها فوق أذهاننا. لقد كانت تلك المقولة بالنسبة لنا عندها عبوة ديناميت، "عبارة نوويّة" إن صح التعبير؛ أي في كلمة واحدة بالضبط ما كنا نحتاج إليه.
أرنو بوهلر: ألا تمثل ترجمة ونشر كتاب يحتوي على عبارة "إن لله قد مات" خطرا على المترجم والناشر معا؟
علي مصباح: لا أظن أنني سأقتل من أجل ذلك أو أن أكون ضحية لعملية اغتيال سلفية لا لشيء إلا لأنني ترجمت نيتشة إلى اللغة العربية. لا، لا أعتقد. وعندما كنت مقيما في تونس وأنا أعمل كمدرس وصحافي لم أكن لأخفي قناعاتي وآرائي دون أن يؤدي بي ذلك إلى القتل. كانت لي مشاكل بين الحين والآخر بطبيعة الحال. تماما مثل كل الذين لا يتلاءمون ولا يقبلون بالانسجام مع السائد. كنا جميعا نتعرض إلى مشاكل ومضايقات. ليس من السهل بطبيعة الحال أن يكون المرء ملحدا ويعيش كملحد في بلاد مسلمة. إنه فعلا أمر صعب... لكن هنا أيضا، في ألمانيا وأوروبا ليس من السهل أن يسبح المرء ضد تيار الأفكار السائدة والنظام السائد، وما بالك بالوقوف موقف المناهض لها. وعلى أية حال فإنه لا يمكن أن نقول بأن رقابنا تغازل حد السكين بسبب ترجمة نيتشة(يضحك).

أرنو بوهلر: أريد مع ذلك أن أسأل مرة أخرى: لِم ترجمة نيتشة إلى اللغة العربية؟ لِماذا الآن بالذات؟ هل هناك دواعي محددة لذلك، أولنقل أسباب لها علاقة بالأوضاع العالمية المحيطة؟علي مصباح: أكيد أن الحاجة، أو الدوافع الخفية لترجمة نيتشة إلى اللغة العربية لها علاقة ما بالأوضاع التاريخية الحالية من جهة، أو مضاعفات ما يدعى بالعولمة، و بتجربة جيل بعينه من جهة أخرى وهو جيل ما بعد ماي 1968. وأعني بهذا أن أبناء جيلي قد عاشوا مرحلة الثمانينات كمرحلة انتقالية. كنا جميعنا تقريبا نشطين في الأوساط اليسارية في أواخر الستينات وخلال السبعينات. كان "اليسار" هو الجواب على أسئلتنا آنذاك. وكان ماركس بالتحديد هو صاحب الجواب على أسئلة القرن العشرين وإشكالياته. لكن مع مطلع الثمانينات راحت تلك القناعات الماركسية ترتج وتتخلخل. وفجأة وجدنا أنفسنا أمام فراغ إديولوجي مقلق. في تلك الأثناء اكتشفنا كتابات المفكرين الفرنسيين باتاي و دولوز وفوكو وليوتار ودريدا التي أيقظت فينا اهتماما متجددا بنيتشة. وكان هؤلاء المفكرون الفرنسيون أساسا-إذا ما استثنينا بعض تأثيرات هايدغر- مقروئين داخل الأوساط المثقفة العربية. هكذا قفز نيتشة داخل الفجوة التي أحدثها الفراغ الإديولوجي الجديد وذلك عندما وجدنا أنفسنا مرغمين على الاعتراف بأن الماركسية لم تعد قادرة على الإجابة عن أسئلتنا الجديدة، السياسية منها والوجودية والفلسفية على حد السواء- وكذلك الأسئلة المتعلقة بمسائل الجمالية بالنسبة للكتاب والفنانين. لم يعد ماركس ليكفينا.
وفي إطار هذا البحث الجديد عن أجوبة اتجه الكثيرون باهتمامهم إلى متصوفة الإسلام أيضا. وقد اكتشفت بدوري التراث الصوفي في تلك الفترة. ولعل كتابات المتصوفة قد مهدت للكثيرين منا الطريق لفهم جديد، أو تقبل من نوع آخر لأفكار نيتشة، لا كإديولوجيا جديدة نريد أن تستعيض بها عن الإديولوجيا الماركسية، بل كضرب من المغامرة الفكرية؛ نوع آخر من ممارسة الوجود والتفكير كانت تنضح به كتابات نيتشة-أوتومئ لنا به. لقد شرع نيتشة منذ الثمانينات في القرع بمطرقته داخل عقولنا، يحررها من جديد ويعيد إليها الحياة. وعي جمالي جديد وانخراط من نوع جديد في الحياة وفي معرفة جديدة تضع نفسها في خدمة السعي إلى ابتداع أشكال حياتية متفردة وجديدة، ذلك هو ما أصبح يتراءى لنا بمنزلة المهمة الأكثر نبالة والأكثر إلحاحا في الآن نفسه. لم يعد الأمر يتعلق الآن بأي نوع من الإديولوجيا ولا حتى بملاحقة أغراض سياسية بعينها، بل بابتكار أشكال حياتية جديدة. هذا الوعد الذي كانت تلوح لنا بها كتابات نيتشة هو الذي جعل هذه الكتابات تمارس جاذبية علينا في مرحلتنا مابعد الماركسية، أو ما يمكن أن نعبر عنه بالمرحلة النيتشوية البوستماركسية. تعاطي الفلسفة قرعا بالمطرقة ذلك ما كنا نحتاجه آنذاك، وما نحتاجه اليوم أيضا وأكثر من أي وقت مضى.
أود أن أوضح هنا بأنني لست نيتشويا-ولا ينبغي لي. كل ما في الأمر أنني أحب كتابات نيتشة، وأرى أن فلسفته من أعمق ما وجد في تاريخ الفلسفة إطلاقا. وعلاوة على ذلك، من بإمكانه أن يفلت من الفتنة التي تمارسها جمالية لغته؟ إنه علَم أسلوبي بارز في تاريخ اللغة الألمانية. كانت كتابته ضربا من التوليد الجديد لطاقات كانت إلى حد ذلك التاريخ غافية داخل اللغة الألمانية. ويتمثل فنه الأكبر في كون لغته، وبالرغم من تميزها بطابع شعري واضح واستعمالها المكثف للصور والاستعارات والأمثال، تظل مع ذلك بعيدة عن البهرج اللغوي والتزويق الأسلوبي، وغاية في الدقة في كل الأحوال. هذه الدقة اللغوية والنقاوة التي تجعلها مجردة من الزوائد فيما هي تنبذ الجفاف والرتابة الأكاديمية المعهودة في الكتابة الفلسفية هي ما يسحرني في كتاباته ويجعلني أشعر بنفسي أرتاح إليها وأأنس لها وأشعر بها قريبة مني. لغة نيتشة شرقية بمعنى ما. إنه يكتب من داخل التقاليد الشرقية العريقة للكتابة. بل سأقول بأن نيتشة شرقي. وأفضل الكتاب الألمان يحملون في نظري طابعا شرقيا على أية حال. غوته أيضا شرقي روحا وأسلوبا. ولدى هؤلاء أشعر بنفسي في بيتي؛ في موطني.
علاوة على هذا فإنني وبقدر ما تطول معاشرتي لكتاباته تزداد قناعتي رسوخا بأنها هي التي تقدم لنا الإجابات الأساسية عن أسئلة القرن الواحد والعشرين. إنه بكلمة واحدة فيلسوف القرن الواحد والعشرين هو الذي كان مدركا بأنه سابق لعصره، وكثيرا ما كان يردد على لسان زرادشته بأن ساعته لم تحن بعد، وهو الذي قال قولته الشهيرة بأن بعض الناس لا يولدون إلا بعد الممات.

أرنو بوهلر: إن الأمر لا يختلف كثيرا هنا في أوروبا. فنيتشه قد تم اكتشافه مجددا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؛ نيتشة القادم من فرنسا كان عنوان المؤلّف الذي وضعه فرنر هاماخر سنة 1986 والصادر عن دار زوهركامب فرلاغ. والكتاب الذي يحمل عنوان Looking After Nietzsche وهو من تأليف أ.ريكلس والصادر في نيويورك هو أيضا ليس "مبادرة ألمانية". كما أن إصدار طبعة الدراسات النقدية للأعمال الكاملة لنيتشة كانت هي أيضا من عمل أستاذين إيطاليين هما جيورجيو كوللي ومزينو مونتيناري. ووفقا لمفهوم التعدد كما يراه درّيدا سيكون هناك أكثر من نيتشة واحد، فما هو إذن "نيتشة العالم العربي"؟ أو كيف يمكنك أن تحدد ملامح الصورة العربية لنيتشة؟ من هم قراؤه مثلا؟ علي مصباح: هناك إقبال على قراءة نيتشة في البلاد العربية وهو معروف جدا وفي أوساط عديدة.- ليس لدى جمهور عموم الشعب بطبيعة الحال، لكن في أوساط المثقفين. وحسب معرفتي (وهي ليست معرفة دقيقة بطبيعة الحال) فإنه يبدو لي أن نيتشة لم يتم اكتشافه من طرف الفنانين داخل البلاد العربية، بل داخل الأوساط الأكاديمية والجامعات أساسا، فلاسفة وعلماء اجتماع والأدباء أيضا. أما بالنسبة للفنانين والشعراء فإن أهمية نيتشة تعود إلى ما تمنحه صورة شخصية زرادشت من نموذج أدبي. زرادشت! إن الجرس الصوتي لهذا الإسم يحمل عنصرا جماليا في حد ذاته. وهناك أيضا الطابع الإقزوتيقي لهذه الشخصية الفارسية القديمة. ثم إن شخصية زرادشت نيتشة تنطوي على صورة مثيرة وجذابة في الآن نفسه فهي تمنح للقارئ نموذجا لإنسان هو في الآن نفسه مهرج وحكيم وثوري. كما أن طابع الحرارة المتوقدة في لغته لم يمر دون أن يجلب انتباه العديد من الفنانين والشعراء والنقاد ويثير اهتمامهم. فالنص النيتشوي يمنح نفسه عنصرا مهما وموضوعا ملائما لكل نقد فني أدبي وشعري، إضافة إلى الرؤية الجمالية التي يطورها نيتشة في كتاباته،سواء تلك التي ترد ضمنية في كتاب زرادشت، أو تلك التي يطورها بصريح العبارة في العديد من شذرات مؤلفاته الأخرى. لا ننس أن نيتشة ناقد موسيقى وأدبي أيضا.
هناك أيضا عدد غير قليل من طلبة وطالبات الجامعات العربية الذين يمكن تصنيفهم كيسار وكقراء مولعين بأفكار نيتشة. علما وأن ما يمكن أن يطلق عليه إسم يسار اليوم له مميزات وملامح إديولوجية وفكرية تختلف عن مميزات وملامح يسارنا في ما مضى. فماركس قد جاء ينادي بتحرير الجماهير، تحرير ذو طابع جماهيري جماعي للإنسان وذلك في إطار المعادلة الجماهيرية: نمط "الجمهور" أو الطبقة والكتلة والمجموعة. وقد اتضح من خلال الممارسة العملية في كل من الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي كما في الصين وكوبا أن ذلك التصور كان خطأ فادحا وقد أسفر عن نظام دكتاتوريات كليانية شنيعة. وبالمقابل لم يكن لنيتشة من شاغل غير النداء الدائم باستقلالية الفرد. الفكر النيتشوي يستفز ويستنهض طاقات التنطع والخلق والابداع في الفرد. لذلك قلت إنني أعتقد بأن القرن الواحد والعشرين سيكون قرن نيتشة. ففي زمن العولمة وعالم ما بعد الحداثة يتجه صراعنا(أونضانا) بالأساس إلى صيانة هويتنا/هوياتنا الفردية –كـأفراد قبل كل شيء. ضد حياة منمذجة ومنمّطة، ومن أجل تحقيق أشكال حياتية متفردة. ولنيتشة في هذا المضمار ما يقوله بطبيعة الحال! فبينما كان اضطهاد واستغلال البروليتاريا خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين يجعل مهمة تحرير الجماهير تحتل صدارة الاهتمامات الفكرية، فإن الأوضاع العالمية الجديدة تستدعي اليوم في رأيي التركيز الفكري على موضوعة الاضطهاد الذي تتعرض له الهويات الفردية وأنماط العيش المتفردة أكثر من أي شيء آخر.

أرنو بوهلر: ما هي المكانة التي يحتلها الفرد داخل الثقافة العربية؟
علي مصباح: مسألة مكانة الفرد والفردانية في العالم العربي مسألة على غاية التعقيد والصعوبة. والأجوبة التي تقدم غالبا حول هذه المسألة تنطوي على الكثير من النفاق. فعلى سبيل المثال هناك مقولة تتردد كثيرا حتى غدت شبيهة بمسلّمة ومفادها أن المجتمعات الأوروبية والغربية عامة قد غدت منذ تأسس الرأسمالية موطن الفردية، بينما بقية بلدان العالم، والبلدان الشرقية خاصة تمثل فضاء الوعي الجماعي أو الجمعي، وثقافة المجموعة التي تمثل نوعا من التجمعات المتناغمة...إلخ
إنني أفند هذ الأسطورة ولا أثق في شيء من صحتها. المجتمعات العربية هي في رأيي مجتمعات الفردانية بامتياز. وعندما أتكلم عن المجتمعات العربية فإنني أعني أيضا المكونات الكردية في المشرق والبربرية وعناصر الثقافة الطوارقية في بلدان شمال إفريقيا أيضا. الإنسان في هذه المجتمعات يمتاز بشخصية تطغى عليها الفردية بصفة عميقة ومتأصلة(سلوكات فردية، انتماءات متشظية، عائلية وقبلية وعشائرية وجهوية). لا ننس أننا أمام شعوب تنحدر في أغلبيتها من الأوساط البدوية، والبدو في الأساس أعضاء عائلة في المقام الأول وقبيلة وعشيرة أو حيّ. وأغلبهم من بدو الصحاري. وهؤلاء كانوا لعصور طويلة يستنكفون من كل سلطة ولا يقبلون بسلطة أو سلطان إلا قهرا أو اضطرارا. ولم يتم جمع هذه العناصر القبلية والعشائرية المتفرقة تحت لواء ما يمكن أن يكون وطنا أو أمة إلا مع انتشار الإسلام، وغالبا ما أرغمت تلك العشائر على ذلك إرغاما. ثم حدث مع مرور الزمن أن تأسس مسار قمع للهويات الفردية والنزوعات الفردية عن طريق المنظومة الدينية وما يتبعها من نظام أخلاقي. لكن الفردية لم تُستأصل من السيكولوجيا البدوية المتأصلة في هذه الشعوب، وكل ما في الأمر أنها غدت تمارس طي الكتمان وبطرق مراوغة ومواربة ليس أكثر. ولهذا تتخذ شخصية الفرد داخل هذه المجتمعات طبيعة الهوية الفردية المقهورة والمغلوبة على أمرها؛ فردانية سرية دفينة. وليس الحكام المستبدون والدكتاتوريون إلا التعبير الصارخ عن غلبة فردية استطاعت أن تنفرد بالسلطة والقوة، وتفرض نفسها بالقهر على بقية الفرديات وتسحقها.
هذا المسار التاريخي الشنيع لممارسة الرقابة والزجر الذاتيين اللذين ما فتئ الإنسان يمارسهما على فردانيتة هي الظاهرة التي تعرض إليها نيتشة في كتاباته بنقد صارم وعنيف من خلال تعرية آليات الغيرانية والأشكال الأخلاقية والدينية لنكران الذات. فالدين والأخلاق –كشكلين للغيرانية- كانا يمثلان في نظره على الدوام ضربا من تنكر الفرد لذاته ونفي للذات. ومن هنا يتحولان بسرعة فائقة إلى عنصري تواطؤ مع امتثالية سياسية خطيرة.
إن ما نحن بحاجة إليه اليوم في العالم العربي هو نوع جديد من خرق الامتثالية ومن المروق والتفرد. نحن بحاجة إلى إعادة تفكير شاملة وإلى قلب لكل القيم، بما في ذلك القيم وأنماط التفكير الغربية السائدة.
وليس هذا بالأمر الجديد على الثقافة العربية على أية حال، ذلك أن بروز شخصيات فكرية متميزة ومتفردة لم تكن ظاهرة غريبة عن هذا الفضاء الحضاري حتى في فترات فتوة الديانة الإسلامية والسيادة الكلية التي كانت لمنظومتها الفكرية. بل إن الثقافة الإسلامية نفسها قد أسهمت بطريقة أو بأخرى في بروز فرديات متميزة قد كان لها تأثيرها في التاريخ. شعراء أفذاذ على سبيل المثال-والشعراء فردانيون دوما على أية حال! وقد يفاجأ الكثيرون إذا ما ذكرت في هذا السياق شعراء ومفكري المتصوفة. فالمتصوفة كانوا دوما مثالا نموذجيا للتفرد داخل الثقافة الإسلامية. لقد برزت ظاهرة المتصوفة في نظري كمثال عن تنطع الفرد على سلطة المدارس وعلى المنظومة السائدة لممارسة الإيمان. لذلك، ولذلك بالذات أجد في أدبيات الصوفية،كما في سلوكاتهم، الكثير من المواصفات الذهنية والفلسفية الموازية والمشابهة، بل وأحيانا المطابقة للكثير مما يدعو إليه نيتشة، فيلسوف التملص والتنطع على كل السلط والمدارس والمنظومات الفكرية المتأسسة.
وعندما عرفت فترة استدارتي عن الماركسية في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات والتفت مجددا إلى أدب وفكر الصوفية-مثل عدد غير قليل من أبناء جيلي آنذاك- كان لتلك الأشعار والأفكار في ذهني صدى شيء معهود وجديد في الآن نفسه. ولم تعد لتخفى عنا نبرة الفردانية التي تصدح بها كتاباتهم. وأعني هنا تلك الاستقلالية الذهنية، وتوخي طريق المغامرة والاجتهاد الفردي والسعي إلى المعرفة بالوسائل الخاصة وعبر "الطريق" الخاصة. وعندما اكتشفت نيتشة من جديد تعرفت فيه بسهولة على أصوات كبار المتصوفة وذلك من خلال صوت زرادشت الذي كان –وما زال- يبدو لي مثل واحد من أولئك الدراويش والشعراء المفكرين المغامرين. زرادشت نيتشة يستعمل تقريبا نفس القاموس والمفاهيم التي تتردد في أدبيات المتصوفة، ويمر بنفس التجربة تقريبا: التجوال و التهوام الدائمين، عدم الإطمئنان لفكرة متأسسة، التراجع والمراجعة المستمرة، رفض السقوف الذهنية، ثم حديث المحبّة الذي لا يخلو منه خطاب من خطاباته -وخطاباتهم أيضا. ولعل تردد عبارة الطريق مثل شيء مقدس في كل من كتابات المتصوفة وفي خطابات زرادشت من أهم السمات المشتركة التي تجلب انتباه القارئ المتنبّه. إنها طريق المعرفة التي لا يحصّلها العارف من كتب الفقهاء والمدارس الفقهية بل عبر "التجربة" الفردية و"المجاهدة" و "التغلب على الذات"واحتقار الجلوس، أو الاستقرار في الثبات، والإطمئنان إلى دفء اليقينيات –أو برد اليقين- التي يفضلون عليها جميعهم الاصطلاء بنار الحيرة والترحال الدائم. وكما يسخر نيتشة من المعرفة الكتبية الصرف نرى زرادشت يسخر هو أيضا بجفاف المعارف الأكاديمية وأفكار الفلسفات والأنساق النظامية مفضلا عليها حكمة البهلواني والمهرج والشاعر والأحمق. أي في كلمة واحدة المعرفة كتجربة و"ذوق" ونمط حياة خاص متميز مقابل المعرفة الاجترارية التي تلوك الأفكار المحفوظة بين طيات الكتب، والتي قتلتها العادة وحنطها التكرار.
المعرفة كتعبير عن أسلوب في الحياة، المعرفة كتعبيرعن نمط حياة، وكتعبير عن "ذوق"! كل هذه المفاهيم التي تتردد في كتابات نيتشة كانت-وما تزال ترن في مسمعي، لا كأفكار غريبة، بل كأفكار معهودة لدي، قريبة جدا منّي. وبالمناسبة فإن عبارة ذوق التي كثيرا ما تتردد على لسان زرادشت هي نفس العبارة التي غالبا ما يستعملها المتصوفة المسلمون للتعبير عن الذائقة الفردية، أو بكلمة أخرى عن التجربة والاختبار الفردي للعالم والوجود. وبطريقة مدهشة أرى زرادشت يلتقي في الكثير من الأحيان بشخصية الحلاج فكرا وممارسة، هما اللذان يرفضان كل المسبقات بما في ذلك ما يتعلق بمسائل إيمانية لدى منصور الحلاج المؤمن إلى أبعد حدود الإيمان، وكلاهما يولي ظهره إلى تجريدات النظم الفكرية المتأسسة والمنغلقة على المنجز وعلى تحجر العلماء. ونجد مولانا جلال الدين رومي يدعو هو أيضا إلى التحرر من النظم المغلقة والأفكار الجاهزة، ولا يختلف عنهما لا السهروردي ولا أبو يزيد لبسطامي أو النفري، ولا الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي. جميعهم يتحركون داخل حيرة واحدة وجميعهم لا ترضيهم الإجابات الجاهزة التي يقدمها علماء الدين والفقهاء. بل أن بعض المغالاتية من المتصوفة كانوا لا يترددون في التندر حول المتعلمين والذين لا يردون المعرفة إلا من الكتب ومجالس الفقهاء، حتى أن بعضهم كانوا يحرمون على مرتادي مجالسهم ومريديهم معاشرة الفقهاء والمدرسين من علماء الدين. وتروي واحدة من نوادرهم أن أحد المريدين كان يتردد في الوقت نفسه على مجلس أحد العلماء، وعندما يأتي إلى حلقة المتصوفة يحرص على إخفاء قراطيسه ودواته، وذات يوم وقعت من بين طيات ثوبه في غفلة منه دواة، وإذا أحد الإخوان يقول له زاجرا ساخرا: "أستر عورتك يا أخي!"

أرنو بوهلر: هل كان للأوضاع السياسية العالمية الحالية دور ما في إقدامك على ترجمة كتابات نيتشة في هذ الظرف الزمني بالذات؟
علي مصباح: كي أكون صريحا معكم، أنا لم أفكر البتة في الأوضاع السياسية العالمية، أو في ما إذا كانت هناك حاجة عملية إلى قراءة نيتشة في البلاد العربية، أو أية أهمية تاريخية ما لنيتشة عندما شرعت في الترجمة، أو عندما بدأت تراودني فكرة الترجمة. كنت في الحقيقة مدفوعا بدافع أناني صرف له علاقة بمتعة خاصة كنت أتصور نفسي سأجدها في ترجمة نصوص نيتشة كتلك التي كنت أجدها دوما في قراءته. ذلك كل ما في الأمر. لكنني لا أنفي وجود دافع خفي لاواع كان، وما يزال هناك بالتأكيد، يحرك الرغبة في إنجاز هذه الترجمة. لا شك أن الأوضاع السياسية العالمية وبخاصة بعد حرب الخليج الأولى ثم عمليات الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من أحداث وفوضى فكرية وسياسية، كلها تلعب دورا، إن مباشرا أو غير مباشر عند قيام فرد بعمل ما، كتابة كان أم ترجمة.

أرو بوهلر: هل توجد في البلاد العربية كتابات نقدية للدين مشابهة لكتابات نيتشة؟
علي مصباح: لا. نقد منظم وجذري للدين كما جاء في كتابات نيتشة لم يوجد ولا يوجد في الفضاء الثقافي العربي. لقد كانت هناك منذ القرنين الثامن والتاسع نصوص ومطارحات نقدية متحررة نسبيا، وكان هناك فلاسفة ومفكرون وشعراء ملحدون معلنون، لكن أغلب الكتابات النقدية كانت تتجه في نقدها إلى مسألة بعينها أو إلى مدرسة فقهية ما ولم تكن تتجه بالنقد إلى صميم الفكرة الدينية، أو إلى أصل فكرة الله. كانت هناك فسحة من الحرية في ذلك الزمن البعيد، لا أظن أن سببها تسامح الديانة الإسلامية تجاه المغاير أوتجاه الفكر المتحرر من المنظومة الدينية، بل يعود ذلك إلى طبيعة الفترة التي كانت تتسم بحماس معرفي ناشئ وتوق شديد إلى المعرفة وبجذوة متوقدة قد تولدت عن حاجة فرضها الجدال الساخن الذي كان العرب يخوضونه آنذاك مع الفكر اليوناني الذي كانوا مولعين به ولعا كبيرا. وفي خضم هذه الديناميكية برزت المواجهات الأولى مع الملاحدة والمشائين.
إلا أن أوضاع تلك الفترة التاريخية كانت تختلف كليا عن أوضاع عصرنا الحالي ومعطياته، بل وعن معطيات القرن التاسع عشر أيضا. لقد كان ظهور نيتشة ممكنا، أو لعله كان ضروريا، في نهاية القرن التاسع عشر. أما قبلها فما كان يمكن لنيتشة أن يظهر لا في العالم العربي الإسلامي ولا في أوروبا أو في أي مكان آخر من الدنيا. فالتطورات العلمية والفكرية الفلسفية وتراكمات التغيير والتجديد التي طرأت على شتى مجالات المعرفة منذ عصر النهضة مرورا بالأنوار والثورة الصناعية هي التي جعلت بروز فكر مثل الفكر النيتشوي يغدو أمرا ممكنا، بل وضروريا.
لقد ذكرت قبل حين إسم أحد أعلام الفكر المتحرر النقدي بالنسبة لي وهو منصور الحلاج الذي أرى فيه صنو زرادشت نيتشة، أو يمكنني أن أسميه ب"زرادست الإسلام"، إن نحن لم نعكس الآية لنقول بأن زرادشت النيتشوي هو "حلاج نيتشة". لم يكن الحلاج يكتفي بالشطح الصوفي بين جدران مقام أو في بيت أو مجلس مغلق، ولم يكتف بمخاطبة العامة في الأسواق مثل سقراط. كان الحلاج يرتل أدعيته وصلاته راقصا في شوارع وأزقة بغداد. راقصٌ كان الحلاج، تماما مثل زرادشت نيتشة. وكان أن جلب له سلوكه ذلك حنق الحكام والفقهاء فأعدم صلبا بتهمة الإلحاد والزندقة. لقد كانت حياته وسلوكاته، لا أفكاره فقط على ما يبدو، استفزازا لم يقو على تحمله الحكام والفقهاء وكل من كانت له سلطة لا تستطيع الصمود في وجه إعصاره الساخر الهازئ والمدمر.
يظل الفرق الأساسي بين الحلاج ونيتشة أن الأول كان مؤمنا في المقام الأول، ولم يكن نقده موجها إلى الدين أو إلى الله في حد ذاته، بل إلى رؤية دينية بعينها، وإلى النظام العقائدي كنظام متأسس وقائم على المسلمات. لكن هذا الفارق ليس مهما بالنسبة لي، وليس مهما أيضا في نظري إن كان الحلاج مؤمنا حقا أم ملحدا، أو ريبيا. الأهم من ذلك في نظري هو منهجه ورؤيته. لقد كانت حياته وممارسته المعرفية ضربا من "المعاينة غير المطابقة للعصر"؛ غير منسجمة مع العصر؛ معاينة لعصره وأفكار عصره في نوع من الانشقاق والمروق والتنطع على كل السلط من السلطة الدينية والفقهية والعلمية، إلى سلطة الحكم السياسي ونظامه الاجتماعي. نوع من المروق الذي نلمس نظيره وصنوه في شخصية زرادشت.
ثم كان هناك في فترة متأخرة عن زمن الحلاج شاعر وفيلسوف عربي شهير هو أبو العلاء المعري الذي كان يلقب بفيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة، وهو لقب يمكننا بسهولة أن نطلقه على نيتشة أيضا. لم يخف أبو العلاء المعري شكه في الدين أو الديانات كلها -السماوية منها على الأقل- حتى أنه ألف ديوانه الشهير الذي يمكن مقارنته بالكوميديا الإلهية لدانتي الذي جاء بعده بفترة طويلة من الزمن، وهو ما سماه بـ"رسالة الغفران" حيث يسخر من مسائل العقاب والثواب والجنة والحجيم. وقد تعرفنا على هذا المؤلف الشهير وقرأناه من بين الكتب الأدبية التي توجد ضمن البرامج الرسمية للتعليم في المدارس الثانوية. وأظن أنه ما يزال يعاد طبعه وقراءته إلى اليوم في العديد من البلدان العربية- من غير المملكة السعودية بطبيعة الحال.

أرنو بوهلر: لي صديق عربي يقيم في فرنسا والمغرب كان دوما يؤكد لي بأنه يجد نفسه على الدوام أمام عالمين مختلفين اختلافا كليا وهو يتنقل بين ما تعرضه قناة الجزيرة العربية وقناة السي آن آن الأميركية. هل يحصل لديك أيضا مثل هذا الانطباع؟
علي مصباح: أنا أرفض عن وعي مشاهدة كلا من الجزيرة والسي آن آن. وأستطيع أن أقول لك لماذا. إنهما في نظري وجهان لعملة واحدة. وجهان لحرب دعائية واحدة، ولا رغبة لي البتة في مشاهدة مثل هذه الحرب.

أرنو بوهلر: هل يراودك، إن كثيرا أو قليلا، نفس الحلم النيتشوي بأن تكون للفن طاقة على تغيير المجتمع؟ أما السؤال الثاني: يمكن لنصوص نيتشة أن تمنح نفسها لقراءة رجعية أيضا. فهل ترون خطرا ما يهدد بأن تستعمل كتابات نيتشة لغايات رجعية في البلاد العربية؟
علي مصباح: أظن أنني، وأنا أقرأ نيتشة أو أترجمه أتفاعل معه كشاعر في المقام الأول. والشعر في نظري بإمكانه دوما أن يكون وسيلة للخلاص؛ أو لنقل فعل إنقاذ. لكنه ليس بخلاص جماعي جماهيري. ليس خلاصا اجتماعيا بمفهوم الخلاص الشامل، بل ضربا من الخلاص الفردي: "خلاص الروح". قراءة نيتشه، والتفكر في كتابة نيتشة، وترجمة نيتشة تعدّ طريقتي الخاصة في الخلاص الروحي داخل دوامة إكراهات الحياة اليومية التي ما فتئت تحكم سلطتها على الإنسان وتغدو غولا فتاكا. وأنا لا أعتقد بأننا نمضي حاليا باتجاه تطور وتنام مطرد للحرية، بل نحن نزداد كل يوم توغلا في اتجاه رجعي يزداد مجال الحريات فيه تقلصا أكثر فأكثر. مقولة العالم الأكثر تحررا هي في نظري مجرد أكذوبة لا غير، وفي أحسن الحالات دعابة سمجة وعديمة الذوق. فالعالم الشمولي وتطور وسائل الإعلام الجديدة التي تزداد في كل يوم تحكما في جزئيات حياتنا هي التي تساعد على هذا التقلص الذي يشهده مجال حريتنا. لم يعد هناك من عالم مواز قادر على الملاص من قبضة هذا الكيان التفني الشمولي. وإنني أرى في هذه الشمولية المسماة اليوم بالعولمة شكلا فظيعا لديانة توحيدية جديدة تهدد بالالتفاف علينا وتطويقنا، وهنا أجد نفسي ألتقي مجددا مع نيتشة والاعتبار الكبير الذي يقيمه لعالم الأولمب القديم. يفضل نيتشة ذلك العصر العتيق ما قبل السقراطي ويبدي معاداة واحتقارا للمسيحية كشكل للديانة التوحيدية، لأن التوحيد يمثل كارثة على الإنسان في نظر نيتشة. وأنا أعتقد أيضا أن الإنسان قد غدا بحكم سيادة الديانات التوحيدية أكثر وحدة وهو يجد نفسه يقف عاريا من كل سند أمام سلطة إله واحد أوحد قادر جبار قهار، وقد افتقد ما كان يمنحه تعدد الآلهة من تعدد لإمكنيات الزيغ وطلب للحماية من هذا الإله أو ذاك. كانت آلهة الأولمب تلاعب البشر وتعابثهم وتتزوج من بناتهم وتحمي هذا أو ذاك من غضب هذا الإله أو ذاك. كانت هناك لعبة ممتعة بين البشر والآلهة حتى وإن كانت لا تخلو من مخاطر في بعض الأحيان. لكن إنسان عصر سيطرة الديانات التوحيدية يقف وحيدا وما من إله يستطيع أن يمنحه سندا أو يحميه من غصب الله الأحد.
ونحن اليوم، وفي ظل الحلم أو المطمح الأميركي في الانفراد بالقوة فوق الأرض وفرض هيمنتها كقوة دولية عظمى، نجد أنفسنا نعيش لحظة ولادة جديدة لبنية توحيدية في المجال السياسي. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي يمكن أن نعتبره الإله الأرضي الثاني، قد غدت كل القوى الأخرى غير ذات سلطان أمام القوة العظمى الوحيدة وهي الولايات المتحدة الأميركية: إله جديد في هيأة شرطي كوني، أو أب كوني زاجر ومؤدِّب بيد صارمة. في هذا السياق نجد أنفسنا إذًا أمام عودة النموذج النمطي القديم لثنائية الخير والشر. من هذا المنطلق يمكننا أن نفهم عبارة "محور الشر" التي قذف بها جورج بوش مثل رمية نرد على طاولة اللعبة السياسية الكونية. ومنذ الحرب العالمية الأولى، ثم الحرب الثانية من بعد، شرعت الولايات المتحدة في لعب دور القوة التي تمثل عنصر الخير في العالم. هي التي تتدخل لترتيب الفوضى في كل مرة معتقدة أكثر فأكثر بأنها يد لله في الأرض. وحتى الحروب التي تخوضها فعادة ما كانت حروبا جويّة: صواعق تنزل من السماء. كل معاركها الكبرى كانت عمليات قصف جوي بصفة أساسية. إذ يبدو أن الآلهة لا تحب المعارك الأرضية و تتفاداها قدر الإمكان. لعل الأرض، أرضنا هذه واطئة ومنحطة بالنسبة إليها، مدنسة ونجسة أكثر مما ينبغي كيما تقبل بملامستها.
لهذا السبب بالذات يغدو المطمح النيتشوي الذي ينشد إعادة تقييم ظاهرة التوحيد وتقويضها فكرا مناسبا لأوضاع العصر. وبالتالي تكون مناداته "ما بعد الحداثية" بتفكيك احتكارالسلطة الواقعية والذهنية على غاية من المعاصرة، أو لنقل مروقا وخروجا عن/على العصر! وفي هذه النقطة بالذات يلتقي نيتشة بمطمح الفن. ذلك أن الفن لا يوجد إلا في صيغة التعدد والجمع؛ في هيأة فنون وفنّانين متنوعين. • إن متعلق الفن يكمن في هذا المفرد الجمع؛ أن يكون مفردا جمعا. نتاج فرد يتوجه إلى أفراد أولا و قبل كل شيء. ومن هذا المنطلق فإنني لا أعتقد أن ترجمة نيتشة إلى اللغة العربية ستحدث خلال العشرين أو الثلاثين سنة القادمة تغييرا ما على أوضاع البلاد العربية. لكن قد يكون لهذا العمل أن يسهم في تحريك شيء ما لدى هذا أو ذاك من القراء الأفراد. ومن يدري؟ –وهنا لا بد أن أعترف بأن أملا صغيرا ما يظل يخامر المترجم، كما الكاتب، أملا خفيا سريا في أن يكون لهذا التأثير الفردي مفعول أكبر وأوسع- من يدري إذًا إن ليست هناك إمكانية أو احتمال أن يتحول التأثير الفردي إلى شيء يتجاوز حدود المفرد إلى الجمع؟

أرنو بوهلر: هل يلعب نيتشة دورا ما في انتشار بعض الأفكار المعادية للسامية داخل البلاد العربية؟
علي مصباح: من حسن الحظ أن نيتشة وكتب نيتشة لا تمنح نفسها للجميع. وقد عمد هو نفسه عن قصد ووعي إلى إضافة عنوان فرعي إلى كتابه "هكذا تكلم زرادست" وهو: "كتاب للجميع ولغير أحد". فنصوص نيتشة تتطلب من قارئها يقظة ذهنية ودربة خاصة على القراءة التي تتجاوز الشفرات السطحية كي لا يتم تأوّل مراميها تأولا مشوِّها وخاطئا. ويمكنني القول بأنه بفضل أعمال فوكو ودولوز ودرّيدا التي طبعت فلسفة أواخر القرن المنصرم قد أصبحنا في البلاد العربية أيضا مهيئين بصفة أفضل لقراءة نيتشة تحت إنارات جديدة وبعيدا عن الكليشيهات والشعارات المتداولة. فمقولة "إن الله قد مات" وما شابهها غالبا ما يلتقطها القارئ المتعجل بصفة متسرعة ويروح يلوح بها كشعار، لكن يلزم الكثير من الوقت للقارئ المتأني كي ينفذ إلى بعدها التاريخي ويتفكر في مراميها البعيدة؛ كي يتفكّرها حقّا. نفس الكليشيهات السطحية قد تداولت حول ماركس ومقولته "الدين أفيون الشعوب".
إن السؤال يطرح نفسه علي إذًا كالآتي: كيف يمكن أن نقرأ نيشة كمحرر للفكر، لا كرجعي؟ كثوري، لا كرجعي. لأن قراءة نيتشة كفكر رجعي أمر ممكن أيضا، تماما مثل كل النصوص الكبرى، وككل النصوص الكبرى يمكن إساءة استعماله لهذا الغرض أو ذاك. والقرآن نفسه لم ينج من هذه الاستعمالات المغرضة. إمكانية التطويع وسوء الاستعمال تتعرض إليها كل النصوص. فالنصوص، أعني تلك التي تنطوي على أبعاد متعددة وأعماق بعيدة، تمنح نفسها بسهولة لعمليات التطويع وتحويل الاتجاه. وقد حذّر نيتشة في مواقع عديدة من مغبة استعمال نصوصه استعمالا سياسيا أو إديولوجيًّا (أنظر "هذا هو الإنسان") ومن كل استعمال نفعي، أو تأطير نظامي هو في الحقيقة أمر غريب عن فكر نيتشة المتوحش والنَّفور من كل الأنظمة والأنساق والمدارس، و الذي ينادي على لسان زرادشت بدعوة مريديه إلى أن يتنكروا له؛ أن يكونوا حذرين من "أن يقتلهم صنم ما". لم يكن يود البتة أن تتحول أفكاره إلى عِبر وأحكام أو وصفات عملية لشتى التدخلات السياسية. ولم يكن مبتغاه من وراء كتاباته تغيير العالم أو إصلاحه بقدر ما كان مهوسا بتسخيرها لخدمة الحقيقة العلمية، في إطار "النزاهة الذهنية" التي يلتزم بها دون غيرها. أما عما حصل من توظيف سياسي وإديولوجي لفكره من قبل النازيين فقد كان ذلك من عمل بعض "أصدقائه" وأخته إليزابيت فوستر نيتشة المعروفة، مثل زوجها، بتوجهاتها القومية الاجتماعية والتي كثيرا ما عبر عن تأففه منها واستهزائه بأفكار أصدقائها القوميين. وقد انساق الكثيرون إلى هذا التزوير والاستعمال المغرض الشبيه باغتصاب الذي أجري على فكره، من بينهم توماس مان في مداخلته الشهيرة بعنوان "نيتشة في ضوء تجربتنا التاريخية" حيث جعل من نيتشة مسؤولا عن المحتوى الفاشي للإديولوجيا النازية. والحال أن نيتشة قد عبر مرارا عن مناهضته لفكرة القومية الاجتماعية واحتقاره لحامليها والداعين إليها. إنه حقا تقييم بائس، بائس جدا وسطحي، وأن يصدر مثل هذا التقييم الخاطئ عن كاتب بحجم توماس مان فإن ذلك أمر يدعو إلى الأسف حقا.
أما بالنسبة للبلاد العربية فالأمر على غاية من الدقة فعلا. فللع