حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
كانط ومشروع المثالية الترانسندنتالية - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: عـــــــــلــــــــــوم (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=6)
+--- المنتدى: فلسفة وعلم نفس (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=84)
+--- الموضوع: كانط ومشروع المثالية الترانسندنتالية (/showthread.php?tid=6241)



كانط ومشروع المثالية الترانسندنتالية - لايبنتز - 03-07-2008

أشرف منصور



أولاً - مشروع المثالية الترانسندنتالية :


وصف كانط وفخته وشلنج وهوسرل فلسفاتهم بأنها مثالية ترانسندنتالية، والحقيقة أن كانط هو أول من استخدم هذه التسمية ليصف العلم الكلى الذى يضع مبادئ المعرفة ويؤسس لجميع العلوم. فلسفة كانط إذن هى نقطة الانطلاق الأولى لجميع المذاهب المثالية بما فيها فلسفة هوسرل.

يذهب كانط فى “ نقد العقل الخالص ” إلى أن الفلسفة فى حاجة إلى علم يحدد إمكانية ومبادئ ونطاق كل المعرفة القبلية( ). لماذا؟ لأن المعرفة القبلية هى مصدر الموضوعية واليقين فى أى علم تجريبى وفى كل أنواع القضايا العلمية، وجميع المعارف القبلية تصدر عن العقل الخالص، والعلم الذى تنتظم فيه هذه المعارف القبلية يجب أن يكون نسقاً للعقل الخالص. لكن يشكك كانط فى إمكانية تحقيق هذا النسق، فهو مهمة عظيمة وصعبة، بل ومستحيلة؛ ولا يبقى أمامنا إلا خيار واحد وهو تقديم نقد للعقل الخالص يكون بمثابة مقدمة لنسق العقل الخالص. ولهذا النقد مهمة سلبية، إذ يحمى العقل الخالص من الخطأ أو الذلل، وهذا فى حد ذاته هدف عظيم وإنجاز كبير إذا تحقق( ). لقد تراجع كانط عن هدف وضع نسق لكل المعارف القبلية واستعاض عن هذا الهدف بهدف آخر أكثر تواضعاً منه وهو تقديم مقدمة لهذا النسق، مقدمة هى بمثابة المدخل الذى يوضح معالم هذا النسق فقط ويحمى العقل من مخاطر التوسع الخاطئ فى مثل هذا النوع من المعرفة، وأهم هذه المخاطر من وجهة نظر كانط تحول نسق المعرفة القبلية هذا إلى ميتافيزيقا أخرى على شاكلة المذاهب الميتافيزيقية القديمة.

يقول كانط : “ إن نسقاً لكل التصورات القبلية يمكن أن نطلق عليه فلسفة ترانسندنتالية. لكن هذه الفلسفة لا تزال فى هذه المرحلة محاولة فى غاية العظم؛ ذلك لأن علماً كهذا يجب أن يحتوى، بتمام وكمال، كلا نوعى المعرفة القبلية، التحليلية والتركيبية ... ولذلك يجب علينا أن نستمر فى تحليلنا إلى ما هو ضرورى حصراً وذلك كى نفهم مبادئ التركيب القبلى فى نطاقها الكلى ... وهذا البحث الذى لا يجب أن يسمى مذهباً بل مجرد نقد ترانسندنتالى، هو ما يجب أن يشغلنا الآن ”( ). يتضح من هذا النص أن كانط يشير إلى النسق الشامل للمعرفة القبلية، وإلى أن نقده ما هو إلا مقدمة لهذا النسق أو العلم، وأن مهمة إنشاء هذا العلم صعبة وعظيمة، وأنه قنع بمهمة أصغر وأبسط لكن هامة وخطيرة وهى النقد الترانسندنتالى، لا تأسيس العلم الترانسندنتالى.

والحقيقة أن هذا العلم الترانسندنتالى الذى أحجم كانط عن وضعه والذى وضع له مجرد مقدمة فى صورة نقد للعقل الخالص هو مشروع المثالية الترانسندنتالية الذى حاول تحقيقه كل من فخته وشلنج وهيجل، وكذلك هوسرل، وهذا ما نحاول إثباته هنا.

لقد فهم هوسرل فلسفته على أنها مثالية ترانسندنتالية على النمط الكانطى تماماً، ففى “ الأفكار ” يعرف الفينومينولوجيا بأنها : “ تعليم doctrine يمدنا بالأساس الماهوى لعلم النفس وعلوم العقل ”( ). والفينومينولوجيا وفق هذا التعريف يحكمها طموح كانطى لأن تكون أساساً للعلوم الأخرى، وذلك ببحثها فى الشروط القبلية لإمكانها. والشروط القبلية عند هوسرل هى ما يسميه الأساس الماهوى، وهذا الأساس الماهوى لا يكمن فى العقل الخالص كما ذهب كانط، بل فى الوعى الخالص. ويبدو أن هذا اختلاف هائل عن كانط، إلا أنه فى الحقيقة اختلاف طفيف، ذلك لأن هوسرل لا يقوم إلا بوضع الوعى الخالص مكان ملكة الفهم الترانسندنتالى باعتباره مصدر المعرفة القبلية.

وفى “ التأملات الديكارتية ” يقدم لنا هوسرل تعريفاً آخر للفينومينولوجيا، فهى “ النظرية الترانسندنتالية للمعرفة ”( ) وذلك لكونها منشغلة بالسؤال الكانطى التقليدى “ كيف يكون علم ما ممكناً أو مشروعاً ؟ ” لكن بينما يضع كانط هذه الشروط فى مقولات الفهم، يضعها هوسرل فى الوعى وإدراكه للماهيات والكليات؛ ويتناول هوسرل شروط إمكانية كل علم إنطلاقاً من شكل الوعى الخاص به. ويستند هوسرل فى ذلك على مبدأ أساسى، وهو أن الوعى هو القبلى الحقيقى، والوعى القبلى هذا هو وعى الأنا الخالص، وأن كل صحة Validity تكمن فى هذا الوعى الخالص. فمشكلة القبلية وموضوع المعرفة الترانسندنتالية هو موضوع للبحث الفينومينولوجى أساساً، وهوسرل بذلك يعيد البحث فى المعرفة القبلية على الطريقة الفينومينولوجية، طريقة دراسة أشكال الوعى المعرفى ومضامينه وأفعاله. ولذلك نراه يغير من أدوات البحث القبلى الترانسندنتالى، فبدلاً من البحث فى إمكانية الحكم التركيبى القبلى أو فى إمكانية علم من العلوم، يستخدم طرق أخرى للبحث القبلى مثل كيفية إنجاز المعنى فى الوعى الخالص Meaning Fulfillment وقصدية الوعى نحو موضوعه، والحدس المقولى، أى طريقة إدراك الوعى للماهيات والكليات. صحيح أن هذا كله يعد إختلافاً عن كانط، إلا أنه فى الحقيقة تعديل، وتبقى الأسئلة الكانطية حول الإمكانية القبلية للخبرة وحول التبرير الترانسندنتالى للعلوم هى المسيطرة على هوسرل.

ولا يقتصر ظهور هذا الطموح الكانطى لدى هوسرل على أعماله الفينومينولوجية الناضجة، بل يظهر كذلك منذ أول عمل له يتكشف طريق الفينومينولوجيا وهو “ الأبحاث المنطقية ”. يتكون هذا الكتاب من ستة أبحاث يقدم لها بمقدمة Prolegomena فى المنطق الخالص. ويصف هذا المنطق الخالص بأنه نظرية فى العلم، وبأنه مبحث معيارى Normative. ويشرح ما يقصده بقوله إن المنطق الخالص هذا يسعى نحو دراسة الشروط التى تشكل علماً صحيحاً Valid؛ ولذلك فهو يقيس العلوم التجريبية القائمة على فكرة العلم، ويرى إلى أى درجة تناسب هذه العلوم فكرة العلم وتحافظ عليها أو تقترب أو تبتعد عنها؛ وبذلك يكون المنطق الخالص علماً معيارياً( ). إذا تأملنا فى هذا التوصيف وجدنا أن هوسرل يريد من المنطق الخالص أن يكون علماً مشرِّعاً على الطريقة الكانطية، ويجعله قانوناً Canon للعلوم الأخرى، فهو يلحق به وظائف مشرِّعة Legislating تذكرنا بالوظيفة المشرعة للمنطق الترانسندنتالى عند كانط. فما يصفه هوسرل بأنه وظيفة معيارية للمنطق الخالص هو فى حقيقته الوظيفة المشرِّعة الكانطية.

وظل هوسرل يفهم الفينومينولوجيا فهماً كانطياً ويلحق بها وظائف ومهام كانطية من“الأبحاث المنطقية” وحتى “التأملات الديكارتية”. ففى التأملات ينظر هوسرل إلى الفينومينولوجيا على أنها نظرية فى أسس الخبرة الموضوعية، أو فى الشروط القبلية للموضوعية ذاتها، وعلى أنها تجيب على السؤال الآتى: كيف يتم إدراك معرفة موضوعية الموضوع ؟ وعلى أنها نظرية فى وظيفة المقولات وكيفية عملها وإنتاجها للموضوعية. والتجديد الذى أحدثه هوسرل على كانط هو أنه نظر إلى المقولات على أنها حالة فى الوعى، وعلى أن الوعى عن طريقها لديه قدرة على إعطاء الموضوع objet-gegebenhe، إعطاء الموضوع لذاته أو تقديمه لنفسه. ولا يمكن فهم هذه القدرة على إعطاء الموضوع إلا بكونها قدرة على تأسيس الموضوع من البداية، أى تأسيسه قبلياً. فالوعى يعطى ذاته الموضوع لأنه هو الذى يؤسس موضوعية الشئ قبلياً. لقد حدد كانط وظيفة المقولات فى تكوين المعرفة الموضوعية، أما هوسرل فيوسع من المشروع الكانطى واقفاً على أكتافه ومعتمداً على دعائمه هادفاً الوصول إلى أصل المقولات وكيفية تكونها وظهورها للوعى، وذلك فيما أسماه هوسرل الحدس المقولى والحدس الماهوى. فينومينولوجيا هوسرل إذن استمرار للمشروع الكانطى فى المثالية الترانسندنتالية. وحديث هوسرل نفسه فى التأملات الديكارتية يلمح إلى ذلك بقوة، إذ يقول: “ إن معقولية الواقع تقوم على القبلى. والعلم القبلى هو علم المبادئ الذى يجب أن تلجأ إليه العلوم التجريبية لتجد فيه أساساً نهائياً لها. لكن لا ينبغى أن يكون العلم القبلى علماً ساذجاً؛ إنما يجب أن يصدر عن المصادر الفينومينولوجية الترانسندنتالية العميقة جداً ”( ). الفينومينولوجيا إذن علم قبلى على الطريقة الكانطية.

ويحول هوسرل القبلية الكانطية، قبلية مقولات الفهم، إلى قبلية فينومينولوجية، أى قبلية تقوِّم العالم وموضوعاته فى الذات العارفة. الفينومينولوجيا إذن هى البحث فى التقوم القبلى apriori constitution للعالم فى الوعى وذلك قبل ظهور أى معرفة علمية، فى حين أن كانط كان يبحث فى كيفية تموضع كل مجال علمى فى العلم الخاص به. يقول هوسرل : “ إن العالم الموضوعى الموجود لذاتى ولكل أنا بصفة عامة، هو عالم متضايف (للأنا)، وهو فى نفس الوقت حاضر من قبل ومتقوم بذاته على نحو مستمر ودائم ” أى قبل تقومه وتشكله فى صورة موضوعات علمية “ وهذا التقوم يقدم لنا ثمة قبلية ”( )، وهى القبلية السابقة على ظهور العلم، أى السابقة على القبلية الكانطية. يريد هوسرل البحث فى تقوم العالم نفسه فى الوعى، لا تقوم موضوع علم من العلوم كما كان يفعل كانط : “ وهذا النوع من القبلية له لوازم، وهذه اللوازم هى القوانين الذاتية التى تحدد الطريقة التى يغرس بها العالم الموضوعى جذوره فى الذاتية الترانسندنتالية ”( ). فعلى الرغم من اختلافه عن كانط، إلا أنه يرجع إلى الذاتية الترانسندنتالية باعتبارها الموضع الذى يتقوم فيه العالم قبلياً، تماماً مثلما رجع إليها كانط باعتبارها موضع المقولات القبلية التى تؤسس المعرفة العلمية.

كما استخدم هوسرل مصطلحى الفينومينولوجى والترانسندنتالى بالتبادل، وهذا يدل على قرب الفينومينولوجى لديه من معنى الترانسندنتالى عند كانط. يقول هوسرل فى “ المنطق الصورى والمنطق الترانسندنتالى ” : “ وبالتالى فإن العلم الموضح والمبرر ترانسندنتالياً (بالمعنى الفينومينولوجى) يمكنه وحده أن يكون علماً نهائياً؛ والعالم الموضح بالطريقة الفينومينولوجية - الترانسندنتالية هو وحده الذى يمكن أن يكون مفهوماً بصورة نهائية، ومنطقاً ترانسندنتالياً فقط هو الذى يمكن أن يكون نظرية نهائية فى العلم، النظرية الأعمق والأكثر كلية فى مبادئ ومعايير كل العلوم ”( ). وهذا ما يؤكد أن هوسرل يستمر فى البحث الترانسندنتالى الكانطى بالطريقة الفينومينولوجية، بل يحتفظ هوسرل أيضاً باسم ذلك العلم بالمبادئ النهائية والأكثر كلية لكل العلوم الأخرى لدى كانط: “ المنطق الترانسندنتالى ”

بعد أن أوضحنا العلاقة الوثيقة بين فينومينولوجيا هوسرل وفلسفة كانط نريد الآن استكشاف مشروع المثالية الترانسندنتالية لدى المثالية الألمانية لنرى كيف يتفق أو يختلف هوسرل معها، وسوف نركز فى هذا الصدد على فلسفتى فخته وشلنج.

يذهب فخته فى مقدمته لنسق المعرفة إلى أن مذهبه ليس إلا المذهب الكانطى، “ وهذا يعنى أنه يحتوى على نفس النظرة إلى الأشياء، ولكنه فى المنهج مستقل تماماً عن العرض الكانطى له ”( ). ويقصد فخته بذلك أنه يوضح أسس الخبرة المعرفية انطلاقاً من الذات الترانسندنتالية كما فعل كانط تماماً، لكن بطريقة مختلفة. ذلك لأن كانط ركز على تأسيس المعرفة القبلية فى ملكة الفهم ومقولاتها، أما فخته فيضع فى مركز تحليله الوعى والوعى الذاتى بالأنا العارفة؛ إنه يستنبط الخبرة المعرفية بالكامل وبجميع أسسها القبلية بالاعتماد على التأمل فى الأنا الخالص باعتباره الشرط الأول والنهائى للمعرفة. ونلاحظ أن فخته هو أول من يؤسس لمذهب مثالى ترانسندنتالى اعتماداً على نظرية فى الوعى والوعى الذاتى، وسوف يليه فى هذا الاتجاه شلنج وهيجل؛ أما هوسرل فسنحاول إثبات أنه هو الآخر يؤسس لمذهب مثالى ترانسندنتالى عن طريق نظرية فى الوعى مثل أعلام المثالية الألمانية بالضبط. والحقيقة أن فخته هو الذى يضع تعريفاً للمثالية الترانسندنتالية تنطوى تحته وبسهولة فلسفة هوسرل. يقول فخته : “ طالما قدمت المثالية المسلمة الأساسية والعقلانية والأصيل القائلة أن الفهم لديه قوانين ضرورية، فهى تسمى ... مثالية ترانسندنتالية. إن مذهباً مثالياً ترانسندنتالياً سوف يكون مذهباً يستنبط تصورات محددة (تجريبية) من الفعل الحر والتلقائى للفهم ”( ) أو للوعى كما سيذهب فخته بعد ذلك. أفعال الوعى إذن هى ما يؤسس عليها فخته مذهبه المثالى. والحقيقة أن أفعال الوعى أيضاً هى أساس فينومينولوجيا هوسرل، وذلك كما سنرى فيما يلى.

هذا بالإضافة إلى ظهور مصطلح “ الفينومينولوجيا ” لدى فخته مرتبطاً بنظريته فى المعرفة وبمشروعه فى المثالية الترانسندنتالية. يذهب فخته فى صياغة سنة 1804 من “ علم المعرفة ” إلى أن لنسق المعرفة جزءاً أول يتضمن “ المبادئ الأساسية لعلم المعرفة بأكمله ” أما الجزء الثانى فهو فينومينولوجيا للمعرفة، أى نظرية فى التجلى والظهور، ظهور المعرفة للوعى( ). يتناول الجزء الأول مبادئ المعرفة منطقياً وإمكانها القبلى، ويتناول الجزء الثانى وهو الفينومينولوجيا طريقة تملك الوعى لهذه المعرفة وأسلوب تحصيله لها. ولم يقدر لفخته أن ينفذ هذا المشروع إذ توفى فى وقت مبكر (1814). هذا الدور الأساسى للفينومينولوجيا باعتبارها توضيح حصول الوعى على المعرفة وحالات الوعى وأفعاله التى يمتلك بها المعرفة يتضح بقوة فى بعض إشارات فخته فى أعماله بعد سنة 1800، واستمرت الفينومينولوجيا فى اتخاذ نفس الدور سواء لدى هيجل أو هوسرل.

أما شلنج فيأخذ الطريق المعاكس تماماً لكانط، ذلك لأنه يتولى نفس المهمة التى تخلى عنها كانط بحجة إستحالة تحقيقها. يقول شلنج فى كتاب من أهم مؤلفاته بعنوان “ نسق المثالية الترانسندنتالية System of Transcendental Idealism ”: “ إن هدف العمل الحالى هو توسيع المثالية الترانسندنتالية إلى ما يجب أن تكون، أى إلى نسق لكل المعرفة. والهدف بالتالى هو تقديم إثبات لهذا النسق، لا بوجه عام، بل فى الحقيقة الواقعة، أى من خلال توسيع مبادئه إلى كل المشكلات الممكنة بالنظر إلى الموضوعات الأساسية للمعرفة ”( ).

ويذهب شلنج إلى أن هناك طريقتين لتأسيس المعرفة: إما إرجاع الذات إلى الموضوع وجعل الموضوع هو أساس ومبدأ المعرفة، أو إرجاع الموضوع إلى الذات واعتبار الذات مبدأ وأساس المعرفة. والطريقة الأولى ينفذها شلنج فى فلسفة الطبيعة، أما الطريقة الثانية فيحققها فى مذهبه فى المثالية الترانسندنتالية. وليس هناك تناقض بين هاتين الطريقتين، ذلك لأن المبدأ الأساسى فى فلسفة شلنج هو هوية الذات والموضوع أو الفكر والوجود. المثالية الترانسندنتالية إذن “ هى التى تنطلق من الذاتى باعتباره الأولى والمطلق وتستنبط منه الموضوعى ”( ). وهذا الذاتى هو “ الأداة الوحيدة لهذا النوع من التفلسف ”( ). لكن ما هو هذا الذاتى ؟ إنه الحس الداخلى inner sense، وهذا الحس الداخلى هو وعى المرء بما فى داخله من عمليات معرفية، إنه الوعى الذاتى المعرفى. وبذلك يكون شلنج هو الآخر مؤسساً للمثالية الترانسندنتالية عن طريق فلسفة فى الوعى. وارتباط شلنج على وجه الخصوص بهوسرل وثيق، ذلك لأن الوعى الذاتى المعرفى الذى يعده أداة المثالية الترانسندنتالية هو نفس نمط التفكير الذى قصد هوسرل عن طريقه التوصل إلى أفعال الوعى noesis، وهو نمط التفكير الذى يتوصل إليه عن طريق الإبوخيا epoché الردود reductions.

رأينا أن ما يجمع مشاريع فخته وشلنج وهوسرل فى تأسيس مثالية ترانسندنتالية هو اللجوء إلى فلسفة فى الوعى الخالص والأنا المطلق واستنباط كل المعرفة القبلية من أفعال الوعى. وما يهمنا أن نعرفه فى هذا الصدد أن لهيجل إنتقادات على تأسيس فخته وشلنج لمذهب مثالى إنطلاقاً من الوعى الخالص أو الأنا المطلق، وانتقاداته هذه تنسحب فى نفس الوقت على هوسرل كما سنرى. يذهب هيجل إلى أن الوعى الخالص ليس معطى أولياً ولا يتمتع بالقبلية والأسبقية التى يتصف بها لدى فخته وشلنج، وكذلك الحال بالنسبة للأنا المطلق. الوعى الخالص ليس هو الموقف الابتدائى للوعى تجاه الموضوع بل هناك مواقف أخرى تسبقه، وهو عبارة عن تجريد أجوف ولا يصلح لأن يكون بداية لمذهب فلسفى مثالى. الموقف الأولى والمباشر للوعى تجاه الموضوع هو موقف انفصال تام وغربة كاملة بينه وبين الموضوع، موقف يعتقد أن الموضوع يقف مستقلاً تماماً عن الوعى، وهذا هو الوعى العادى أو الطبيعى. ولا يصل الوعى إلى إدراك الوحدة والتماهى بينه وبين موضوع إدراكه إلا فى مرحلة لاحقة بعد رحلة جدلية يمر بها. هذه الرحلة الجدلية هى موضوع كتاب هيجل “ فينومينولوجيا الروح ” الذى يعد تعديلاً على مشروع المثالية الترانسندنتالية وذلك بوضع نظرية مختلفة فى الوعى عن نظرية فخته وشلنج. ونظراً للتشابهات والتوازيات التى سبق ذكرها بين فخته وشلنج من جهة وهوسرل من جهة أخرى، فإن ثورة فينومينولوجيا هيجل على مشروع المثالية الترانسندنتالية لفخته وشلنج هى فى نفس الوقت ثورة على فينومينولوجيا هوسرل طالما أنها تؤسس لمثالية ترانسندنتالية عن طريق نظرية فى الوعى الخالص والأنا المطلق، تلك النظرية التى نقدها هيجل عند فخته وشلنج.


ثانياً - نقد استحالة معرفة الشىء فى ذاته :


ليس شرطاً أن تكون الأصول الكانطية المشتركة بين هيجل وهوسرل أفكاراً كانطية يتفقان حولها، بل يمكن أن تكون انتقادات واحدة لأفكار معينة فى فلسفة كانط، وهذا ينطبق على نقدهما للفكرة الكانطية حول استحالة معرفة الشئ فى ذاته dingan sich.

يتركز نقد هيجل لاستحالة معرفة الشئ فى ذاته فى مقال مبكر له هو “ الإيمان والمعرفة ” وفى “ موسوعة العلوم الفلسفية ”. يذهب هيجل فى “ الإيمان والمعرفة ” إلى أنه إذا كانت المقولات خاصة بالظاهر فقط، وإذا كان العالم فى حقيقته لا تنطبق عليه هذه المقولات، وإذا كانت هذه المقولات هى طريقتنا نحن فى إدراك وفهم العالم وليس لها علاقة بحقيقة هذا العالم نفسه، فإن النتيجة المنطقية المترتبة على ذلك هى أن فهمنا ذاته ليس شيئاً، ليس حقيقة.

يقول هيجل : “ النتيجة الواضحة هى أن فهماً ليس لديه معرفة إلا بالظاهر ولا يعرف شيئاً فى ذاته هو فى الحقيقة مجرد ظاهر وليس شيئاً فى ذاته. لكن على العكس، ينظر كانط إلى الفهم بهذه الطريقة فى المعرفة على انه فى ذاته ومطلق. فمعرفة الظواهر يُنظر إليها دوجماتياً على أنها نوع المعرفة الوحيد الموجود، أما المعرفة العقلانية فتُنكر ”( ).

ومن أهم الانتقادات التى وجهها هيجل لإستحالة معرفة الشئ فى ذاته قوله أنه إذا كان هناك بالفعل شيئاً فى ذاته ولا يمكن معرفته فلن نكون على علم أصلاً بوجوده وبأن معرفته مستحيلة. هذا بالإضافة إلى أن كانط وقع فى تناقض واضح فى إنكاره لإمكانية معرفة الشئ فى ذاته، ذلك لأن المعرفة عنده هى الحكم بدخول شئ تحت مقولة، وهو قد ألحق الشئ فى ذاته بمقولة الوجود دون أن يدرى، أى أنه حكم عليه بأنه موجود، وهذا نوع من المعرفة، إذ قد عرف كانط بأنه موجود، فكيف يحكم كانط بإستحالة معرفته فى حين أنه أعلن وجوده ؟

ويوضح هيجل أن النتيجة المترتبة على إستحالة معرفة الشئ فى ذاته هى أن المعرفة كلها لن تكون إلا ظاهراً ولن تتمتع بالحقيقة واليقين. “ إذا كانت الأشكال التى توجد بها الموضوعات ليست شيئاً فى ذاتها، فهى أيضاً ليست شيئاً فى ذاتها للعقل العارف. لكن كانط ليس لديه أدنى شك فى أن الفهم هو مطلق الروح الإنسانى. فالفهم لديه هو اللامتحرك المطلق، التناهى الذى لا يمكن تجاوزه للعقل الإنسانى ”( ). ولذلك أصر هيجل دائماً على موضوعية المقولات وعلى أنها الطريقة التى توجد بها الأشياء فى حقيقتها لا مجرد طريقتنا نحن فى إدراكها. وانطلاقاً من هذه الخلفية الكانطية فإن هيجل سوف ينظر إلى الظاهر على أنه هو الكاشف عن الشئ فى ذاته وهو تجل له. ومن هنا نستطيع فهم معنى الفينومينولوجيا عنده، إذ هى معرفة الظاهر التى تكشف عن ماهية وحقيقة الأشياء فى ذاتها.

يشترك هوسرل مع هيجل فى نقد استحالة معرفة الشئ فى ذاته لدى كانط، والحقيقة أن نقده يقترب من النقد الهيجلى ويكشف عن بواعث مشتركة لديهما نحو الطريق الفينومينولوجى فى تناول المعرفة.

يقدم هوسرل فى “ الأفكار ” نقداً لاستحالة معرفة الشئ فى ذاته، ويقول: “ قيل لنا أن الشئ فى ذاته وفى ذاتيته ليس معطى لنا ”( ). لاحظ أن هوسرل لا يذكر كانط بالاسم، وهو يتكلم عن أفكار فلاسفة كثيرين آخرين دون أن يذكرهم بالاسم. ويستمر هوسرل بعد ذلك فى القول بأن هذا الرأى يذهب أيضاً إلى أن الإله هو الذى يستطيع إدراك الأشياء فى ذاتها فى إدراك حسى من نوع خاص غير متوافر لنا. وفى رده يقول هوسرل أن هذه الفكرة خاطئة وتستند على التسليم بانعدم التمييز بين المتجاوز transcendent والمحايث immanent. فهى تعتقد أن الشئ فى ذاته متجاوز ولا يمكن إدراكه، لكنه فى الحقيقة محايث لموضوع الإدراك والمعرفة. ومعنى أن يكون الشئ فى ذاته محايثاً، وهو يقصد محايثاً للوعى فى الأساس، هو أن يكون الظاهر كاشفاً عن هذا الشئ فى ذاته لا مجرد حاجز يحول بينه وبيننا؛ الظاهر هو الوجه الآخر للشئ فى ذاته، أى لماهية الشئ وحقيقته الموجودة والمصاحبة لمعرفتنا بالظاهر، أى المحايثة للوعى، وهى نفس النتيجة التى يشير إليها نقد هيجل.

ويستمر هوسرل فى نقده ذاهباً إلى أن الخبرة إذا كانت قد توصلت إلى أن هناك شيئاً فى ذاته فلا معنى بعد ذلك للقول بأننا لا يمكن معرفته. فالوعى أو الخبرة قد توصل إليه بالفعل. يمكن أن يكون هذا الشئ فى ذاته غير معطى للإدراك الحسى، لكنه بلا شك معطى للوعى. يقول هوسرل: “ إن أى موضوع له وجود فى ذاته لا يعنى أنه خارج أى علاقة مع الوعى وأناه ”( ). فوجود الشئ فى ذاته لا يستلزم بالضرورة أن يكون خارج الوعى أو الأنا. ذلك لأن الخبرة هى خبرة بالعالم من حولى، وكل ما لدى من خبرة عن الأشياء متعلقة بهذا العالم لا بشئ فى ذاته. الشئ فى ذاته ليس شيئاً مستحيل أن يدخل فى خبرتى، بل هو شئ ليس داخلاً فى خبرتى الآن وفى هذه اللحظة، لكن يمكن أن يدخل بها فى وقت لاحق، إنه موضوع ممكن للخبرة، إنه إمكانية خبرة وليس استحالة. الشئ فى ذاته هو خبرة ممكنة تشير إليها خبرة متحققة بالفعل. “ كل خبرة واقعية تشير إلى ما بعد ذاتها نحو خبرات ممكنة، والتى تشير بدورها إلى خبرات ممكنة جديدة إلى ما لا نهاية ”( ). يتضمن حديث هوسرل هنا نفس التمييز الذى أشار إلهيا هيجل بين غير المعروف وما لا يمكن معرفته، فالشئ فى ذاته عندهما غير معروف ويمكن معرفته بعد ذلك لاحقاً، لكنه لا يستحيل معرفته. والواضح أن النتيجة الواحدة التى يتوصلان إليها هى أن معرفة الظواهر يجب أن تكون كاشفة عن الماهية أو الشئ فى ذاته.

وفى التأملات الديكارتية يزيد هوسرل من تأكيده على أن الشئ فى ذاته موضوع لخبرة ممكنة وهو معطى للوعى. يقول: “ إن الموضوعات لا تكون موجودة لذواتنا (أى باعتبارها تمثلات وتصورات ومفاهيم، أو ظاهر) ولا تكون كائنة كما هى (أشياء فى ذاتها) إلا بوصفها موضوعات للوعى الواقعى أو الممكن ... يجب علينا (إثبات هذه القضية) ببيان مضمونها بياناً فينومينولوجياً مطابقاً ”( ). يتحدث هوسرل هنا عن الوجود الظاهرى والوجود الحقيقى للموضوعات، أى عن مجال النومينا والفينومينا فى نفس الوقت، وهو لا يذهب إلى أن الموضوعات تكون معطاة لنا فى الوعى باعتبارها ظاهراً وحسب، بل باعتبارها أشياء فى ذاتها أو حقائق أيضاً؛ فالوجود بالنسبة لنا والوجود فى ذاته كلاهما معطى لنا فى الوعى. وهو يذهب إلى أن إثبات وجود الأشياء فى ذاتها فى الوعى مهمة الفينومينولوجيا، إذ سوف تأخذ على عاتقها إثبات أن الماهيات والحقائق معطاة فى الوعى مثلها مثل الظاهر أو المدركات الحسية. وهذه هى نفس مهمة الفينومينولوجيا عند هيجل، فهى تهدف إلى إثبات أن الوعى العادى قادر عبر الرحلة الجدلية التى يقطعها على الوصول إلى الشئ فى ذاته، أو بتعبير هيجل اللامتناهى أو المعرفة المطلقة. وبالفعل فالمعرفة المطلقة هى آخر مرحلة يصل إليها الوعى وهى غاية الطريق الجدلى فى كتاب هيجل “ فينومينولوجيا الروح ”

ولا يشترك هوسرل مع هيجل فى مجرد نقد استحالة معرفة الشئ فى ذاته بل فى نقد آخر موجه لكانط بخصوص الشئ فى ذاته، فقد سبق أن وجهه فخته وشلنج وهو الأساس الذى قامت عليه جميع مذاهب المثالية الألمانية، وهو ايضاً الذى قامت عليه مثالية هوسرل. لقد أوضح هيجل وهوسرل ومن قبلهما فخته وشلنج أن الفلسفة الكانطية بها بالفعل شئ فى ذاته، ولم يكن كانط نفسه واعياً بذلك. هذا الشئ فى ذاته الحاضر بقوة فى فلسفة كانط هو الأنـا Ego سواء كان الأنا أفكر أو الأنا الأخلاقى. يشير هيجل إلى أن الأنا أفكر عند كانط هو شئ فى ذاته أو مطلق لأنه هو الذى يكمن وراء كل تمثل وكل مقولة وهو القائم بالحكم وبالفعل المقولى، وبالإضافة إلى ذلك فإن الأنا أفكر يمكن معرفته. فإذا نظرنا إلى المعرفة على أنها ظاهر وشئ فى ذاته، فإن التمثلات والمقولات والأحكام سوف تكون هى ظاهر المعرفة أو منتجها النهائى، أما الفاعل والقائم بهذا الإنتاج فهو الأنا أفكر( ). وقد أوضح كانط بدقة كيف أن الذات الترانسندنتالية هى أساس المعرفة. ومن جهة أخرى فإن الأنا الأخلاقى هو شئ فى ذاته لأنه غاية لا مجرد وسيلة. فجوهر الإلزام الأخلاقى عند كانط هو احترام الذات لذاتها، وجوهر الأخلاق الكانطية هو تطبيق القانون الأخلاقى النابع من الذات على الذات نفسها وبواسطتها، وهو إحترام وإتباع القانون الذى تضعه الذات لذاتها؛ وهذا هو لا تناهى الذات. فالذات الأخلاقية عند كانط لا متناهية لأنه ليس هناك شئ يحدها من خارجها بل هى ما يحد ذاتها وبذاتها، ذلك لأن المتناهى هو الذى يحده غيره أو شئ خارجه. إن غائية الذات الأخلاقية وطابعها اللامتناهى عند كانط يجعل منها شيئاً فى ذاته، وكذلك تأسيس كانط للمعرفة القبلية فى الذات الترانسندنتالية يجعل هذه الذات المعرفية شيئاً فى ذاته، أو مطلقاً بتعبير هيجل. هذا هو تأويل المثالية الألمانية لكانط، وهو تأويل يجعل كانط الأصل المباشر لمذاهب المثالية الألمانية وللمكانة المركزية التى تحتلها الذات الترانسندنتالية فى هذه المذاهب. والحقيقة أن فلسفة هوسرل هى الأخرى تؤسس المعرفة فى الذات الترانسندنتالية، وهذا ما يجعلها جزءاً عضوياً من فلسفة كانط، ويجعلنا نحن نفتح ملفاً جديداً يهدف الكشف عن علاقتها بالمثالية الألمانية المشتركة معها فى أساس واحد وهو العودة إلى الذات الترانسندنتالية كأساس نهائى ومطلق، وقبلى فى نفس الوقت للمعرفة.


ثالثاً - إشكالية الارتباط بين الحدس الحسى والمقولات :


ينظر هوسرل إلى العلم نفس نظرة كانط إليه، أى على أنه يهدف إلى وضع قضايا حملية، أى قضايا تحكم على موضوع يدرجه تحت مقولة. وقد بحث كانط فى الشروط الترانسندنتالية للعلم من باب القضية الحملية هذا، وذهب إلى أن العلم هو الحكم على شئ بإدراجه تحت مقولة؛ ونوع الحكم السائد فى العلم المشروع من وجهة نظر كانط هو الحكم التركيبى القبلى الذى هو نوع من القضايا الحملية. والحكم التركيبى القبلى هو الحكم الذى يضيف المحمول فيه جديداً للموضوع، ويكون فى نفس الوقت متضمناً الضرورة، وهذه الضرورة مصدرها إندراج الموضوع تحت مقولة قبلية من مقولات الفهم مثل الجوهر أو السببية. وعالج كانط الحكم التركيبى القبلى على أنه مكون من حدس حسى intuition (Hnschauung) وتصور concept (Begriff). والحدس الحسى مصدره الإدراك الحسى والتصور مصدره الفهم ومقولاته القبلية. ويذهب كانط إلى أن الارتباط بين الحدوس والتصورات أو المقولات يأتى من خلال التجربة. وهذا بالضبط هو ما لم يوافق عليه هيجل وهوسرل. فقد ذهبا إلى أن ارتباط الحدس الحسى بالمقولة لا يتم فى التجربة إلا لكونهما مرتبطين قبلياً. يقول هوسرل: “ إن العلوم تهدف إلى وضع الحمليات التى يكون الغرض منها التعبير عن مضمون الحدس السابق على الحمل ”( ). هذا الحدس السابق على الحمل هو ما يتحد فيه الحدس الحسى والمقولة اتحاداً قبلياً. لكن ما هو هذا الحدس السابق على الحمل أو السابق على التجربة ؟ إنه ما يسميه هوسرل الحدس المقولى categorial intuition (Kategor ale anschauuge). الحدس المقولى هو إدراك للكلى المتضمن فى عناصر الإدراك الحسى، إدراك قبلى بأن ما أراه أمامى ليس شيئاً منفرداً بل جزءاً من فئة أو مقولة أعم تشمل أشياء أخرى. فعندما أشاهد كرسياً أحمر اللون أكون مدركاً أن هذا اللون الأحمر ينتمى إلى فئة الألوان التى تضم ألواناً أخرى غيره، وفى نفس الوقت أكون مدركاً أن اللون الأحمر ليس داخلاً فى ماهية الكرسى بحيث إننا إذا عزلنا عنه اللون الأحمر لن يكف عن كونه كرسياً( ). الإدراك الحسى إذن قادر على إدراك المقولى، أو إدراك ما يصنفه الفكر بعد ذلك على أنه مقولة، وقادر كذلك على التمييز بين الجوهر والأعراض أو الشئ وخواصه. هذا الحدس المقولى هو ما يقصده هوسرل من عبارته “ الحدس السابق على الحمل ” وهو الذى يمثل اتحاد الحدس الحسى والمقولات، لأنه حدس مقولى، حدس يدرك ما هو مقولى متضمناً ومحايثاً لما هو حس.

وإذا عدنا إلى هيجل سنجد أنه هو الآخر لم يوافق كانط على ذهابه إلى أن الحدس الحسى والمقولة لا يرتبطان إلا فى التجربة، كما سنجد لديه إتفاقاً مع هوسرل حول وجود وحدة قبلية بينهما سابقة على التجربة؛ لكنه بالطبع يختلف عن هوسرل فى طبيعة هذه الوحدة القبلية.

يذهب هيجل فى “ الإيمان والمعرفة ” إلى أن الفلسفة الكانطية مثالية لأنها تدرك الوحدة بين الحدس والتصور، وتدرك أن أحدهما وحده ليس شيئاً، وأن الحدوس بدون تصورات عمياء والتصورات بدون حدوس جوفاء، لكنها تدرك أن اتحادهما يكون فى الخبرة التجريبية فقط، وتنكر اتحادهما القبلى، أما هيجل فيذهب إلى أنهما متحدان أيضاً قبلياً. فلأن الفلسفة الكانطية لا تعترف إلا بإمكانية الخبرة التجريبية فقط فهى لا تعترف إلا باتحادهما التجريبى. وهو اتحاد ظاهرى فقط( ). كان كانط من وجهة نظر هيجل أمام كنز كبير وقد اقترب منه بالفعل ولكنه تراجع عنه، ذلك لأنه اكتشف بالفعل وحدة الحدس الحسى والتصور لكن على المستوى التجريبى فقط، ولم يدرك أن هذه الوحدة تكمن وراءها هوية أصلية، هوية سابقة على التجربة بين الحدس والتصور، أو وحدة الوجود والفكر. وهذا هو ما اكتشفه هيجل فى بحثه فى الوحدة القبلية للحدس والتصور، إذ رأى أنها تؤدى بالضرورة إلى أن الفكر والوجود فى هوية واحدة منذ البداية.

وينظر هيجل إلى وحدة الحدس والتصور على أنها وحدة عقلية فى الأساس وتظهر فى صورة خبرة تجريبية. وهذه الوحدة التى هى وحدة العقل ذاته باعتراف كانط نفسه لا يمكن إدراكها من التجربة بل هى قبلية. فهوية الفكر والوجود تتجلى فى صورة حكم تركيبى قبلى فى الخبرة التجريبية. ولم يتناول كانط إلا الجانب المتناهى التجريبى من هذه الوحدة، ولم يستطع أن يدرك هذه الوحدة فى جانبها الآخر اللامتناهى أو المطلق( ). كيف يعترف كانط بالوحدة على مستوى الحكم والخبرة التجريبية ولا يعترف بها على مستوى اللامتناهى والمطلق ؟ لأنه ألزم نفسه بالتناهى وبالذاتية المتناهية وملكاتها المعرفية، ولأن مستوى اللامتناهى والمطلق هو الشئ فى ذاته الذى ذهب إلى استحالة معرفته. ويزيد هيجل من شرح ما يفهمه من الإمكانية القبلية للحكم التركيبى بقوله: “ هذه القضية لا تعبر إلا عن فكرة أن الموضوع والمحمول فى الحكم التركيبى فى هوية ومتساويين بالطريقة القبلية. أى أن هذه العناصر اللامتجانسة، الموضوع الذى هو الجزئى وفى صورة الوجود، والمحمول الذى هو الكلى وفى صورة الفكر، هما فى نفس الوقت متطابقان بإطلاق. إن العقل وحده هو إمكانية هذا الوضع positing (Setze) (وضع الموضوع والمحمول باعتبارهما فى هوية واحدة) لأن العقل ليس إلا هوية مثل هذه العناصر اللامتجانسة ”( ).

إن ما يهمنا فى حديث هوسرل وهيجل السابق بخصوص قبلية الحكم التركيبى عند كانط هو توضيح أحد نقاط الإنطلاق الكانطية المشتركة بينهما مع بيان نقطة الاختلاف. فعلى الرغم من أنهما يحاولان العثور على وحدة قبلية للحدس والتصور تكون سابقة على وحدتهما فى التجربة، إلا أن كل واحد منهما انتهى إلى وحدة مختلفة. فالوحدة القبلية للحدس والتصور عند هوسرل تتمثل فى الحدس المقولى الذى هو وظيفة معرفية فى الأساس، أما هيجل فالوحدة القبلية لديه تعبر عن هوية الفكر والوجود وعن المبدأ الأساسى للعقل من حيث أنه وحدة أضداد، دلالة ذلك أن هيجل رأى أن الوحدة القبلية يجب أن تكون ذات طبيعة أنطولوجية بعكس هوسرل.


رابعاً - إشكالية الحدس العقلى :


من الأفكار الأساسية التى اعترض عليها كانط وذهب إلى استحالتها بجانب فكرة الشئ فى ذاته فكرة أخرى وهى الحدس العقلى. وكما اشترك هيجل وهوسرل فى معارضة كانط فى استحالة معرفة الشئ فى ذاته، فهما يشتركان أيضاً فى الاعتراض على استبعاد كانط لإمكانية الحدس العقلى. وسوف نوضح فيما يلى كيف ظهر الحدس العقلى فى فلسفة هوسرل. لكن لنبدأ أولاً ببيان أوجه اعتراض كانط على إمكانية الحدس العقلى، فما هو ؟

ذهب كانط إلى أن الطريقة الأساسية التى يمكن لأى شئ أن يكون معروفاً لنا هى أن يكون موضوعاً لحواسنا، إذ يجب أن يحدث فينا إحساسات، ويكون ذلك من خلال ملكة الحس. لكن ملكة الحس ليست مجرد متلِّق سلبى، بل هى تمدنا بصور المكان والزمان التى تنظم خليط الإحساسات. أما ملكة الفهم فتمدنا بالمقولات الإثنى عشر الأساسية والتى تتفق مع الأشكال الإثنى عشر للحكم. وما يكون لدينا عنه معرفة فى خبرتنا ليس الأشياء فى ذاتها، بل الأشياء كما تؤثر علينا أو كما تظهر لنا. وتكون المعرفة معرفة بشئ موضوعى إذا أثر هذا الشئ على حساسيتنا، وإذا انسجم مع المقولات التى هى الشروط القبلية للموضوعية.

وقدرة الفهم على تلقى الإحساسات وتنظيمها فى المقولات القبلية يسميها كانط الحدس الحسى sensuous intuition (Sinnliche Anschauun). وليست هناك طريقة أخرى يستمد بها الفهم الموضوعات إلا هذا الحدس الحسى. والذى رفضه كانط بشدة هو أن يكون هناك حدس عقلى inellectual intuition (Vernünftlich Anschauung)، حدس غير معتمد على الحواس فى تزويد نفسه بالموضوعات. ذلك لأن هذا النوع من الحدس سوف يكون خالقاً لموضوعاته طالما لا يعتمد على الإحساسات ليتزود بها( ). والمعرفة الخالقة لموضوعها ليست معرفة إنسانية بل معرفة إلهية.

الحدس العقلى فى نظر كانط إذن هو حدس يخلق موضوعاته، ويعرف الأشياء فى ذاتها فى استقلال عن أى شرط حسى. وقد سبق لكانط أن أنكر الشئ فى ذاته، وهو أيضاً يدرك حقيقة موضوعاته دون توسط أى إحساس، وغير مقيد بحدود الزمان والمكان وبالتالى يستطيع إدراك المجموع الكلى للطبيعة باعتبارها كلاً واحداً. وهذا مستحيل، لأن إدراك الطبيعة أو العالم باعتباره كلاً يفترض أن القائم بهذا الإدراك متجاوز للطبيعة وخارج عنها وغير خاضع لها، وهو ما لا يتوافر للإنسان.

لكن تراجع كانط قليلاً فى “ نقد ملكة الحكم ” عن رفضه التام للحدس العقلى، إذ ذهب إلى أنه ممكن فى حالة واحدة فقط هى الإدراك الجمالى أو الاستاطيقى للطبيعة. فإدراك ما هو جميل وجليل يتطلب وعياً بالطبيعة باعتبارها كلاً متناسقاً ومتجانساً منتظمة على هيئة معينة لغاية معينة. وبذلك انتهى كانط فى “ نقد ملكة الحكم ” إلى أن الحكم الجمالى ينطوى على حدس عقلى، لأنه ينتقل من الكل المركب synthetically universal، أى حدس الكل باعتباره كلاً، وهو الطبيعة وما بها من غائية، إلى الجزئى، أى الحكم على موضوع جزئى وفقاً لكونه جزءاً من كل جمالى وغائى. فإدراك ما هو جميل وجليل لا يعتمد على حدس حسى يستخلصهما من الجزئيات المحسوسة، بل يعتمد على مفهوم مسبق وقبلى عن الجميل والجليل يتم عن طريقة الوعى بالأشياء الجزئية فى إطار الإنسجام والانتظام الكلى( ).

لاحظ فخته وشلنج وهيجل تراجع كانط هذا عن استحالة الحدس العقلى وإعلانه عن إمكانه فى حالة الحكم الجمالى، ومن هنا بدأوا فى توسيع نطاق الحدس العقلى كى يشمل كل الملكات المعرفية الأخرى بما فيها الحكم المنطقى والعلمى لا الحكم الجمالى فقط، وقالوا إنه إذا كان كانط قد اعترف بإمكان الحدس العقلى فى مجال الحكم الجمالى، وهو أولاً وأخيراً نوع من الحكم، فلماذا لا نوسع من الدائرة ونجعل الحدس العقلى أساس جميع الأحكام الأخرى وأساس المعرفة بكل أنواعها ؟( ) وهذا ما حدث بالفعل. ولذلك فإن نظرية الإستطيقا لدى المثالية الألمانية داخلة فى صميم نظريتها فى المعرفة. وأخذ هيجل طرف الخيط من “ نقد ملكة الحكم ” وبدأ فى إثبات أن كانط قد ظهر لديه استخدام للحدس العقلى فى نظريته فى المعرفة لكنه لم يكن واعياً بذلك.

يقول فخته فى محاضراته عن “ نسق العلم wissenschaft lehi”: “ لقد أنكر كانط إمكانية الحدس العقلى لأنه فشل فى الإجابة على السؤال المتعلق بأصل الأشياء فى ذاتها. يقول كانط إن تصورات مثل “ الإرادة ” و “ القوة ” هى أشياء فى ذاتها وأنها حاضرة ببساطة. لكنها حاضرة لمن ؟ من المؤكد أنه ليس هناك أناتان ” أى أنا تدرك الظواهر وأنا تدرك الأشياء فى ذاتها، بل هناك أنا واحدة فقط وبالتالى فإن “ الظواهر والأشياء فى ذاتها حاضرتان معاً لنفس الأنا المفرد ”( ). والواضح أن هذه الفقرة تتطابق مع تأكيد هوسرل فى التأملات الديكارتية والذى أوردناه فى العنصر السابق على أن الظواهر والأشياء فى ذاتها حاضرة معاً لوعى واحد.

أدرك هيجل أن الحدس العقلى ليس شرطاً فيه أن يكون حدساً للمجموع الكلى للطبيعة كلها كما أعلن كانط وأكد على إستحالته نظراً لذلك. فالحدس العقلى ممكن فى نظر هيجل إذا كان حدساً لكلية موضوعه فقط لا لكلية الطبيعة. وبالفعل فقد ذهب فخته وشلنج وهيجل إلى أن الوعى بالأنا هو حدس عقلى( )، لأنه إدراك لموضوع كلى، ولشئ فى ذاته لا لمجرد مظاهر وآثار ذلك الشئ. فمظاهر وآثار الأنا هى الأفعال المعرفية للوعى، وهى التى تعمل بتلقائية، أما إنعكاس الأنا على ذاتها وتفكيرها فى هذه الأفعال فهو حدس عقلى خالص للأنا. هذا بالإضافة إلى أن الحدس العقلى للأنا وفقاً لفخته وشلنج يحقق شرطاً سبق لكانط استحالة تحقيقه، وهو أن الحدس العقلى يخلق موضوعه إذ أنه لا يعتمد على أى إحساسات من خارجه تمده بموضوعاته. وقد توصل فخته وشلنج بالفعل إلى أن الحدس العقلى يخلق موضوعه وهو الأنا، إذ هى نتاج الإنعكاس على الذات وعلى عملياتها المعرفية. فقبل أن يتم انعكاس للأنا على ذاتها فإن الأنا غير واعية بذاتها

أو شاعرة بوجودها، ولا تشعر بوجودها، ولا تكون موجودة أصلاً، إلا عندما تفكر فى ذاتها. والتفكير الذاتى فى الأنا بالإضافة إلى ذلك يتم بمعزل عن أى شرط حسى أو تجريبى، بل هو على العكس يتمثل فى عزل واستبعاد الشروط الحسية والتجريبية للمعرفة للوصول إلى شرطها الذاتى وإلى إدراك مباشر للوعى الخالص بالذات. هذا بالإضافة إلى أن حدس الأنا هو حدس للامشروط unconditioned (unbedingung) لأن الوعى الذاتى والأنا الخالص هو الشرط النهائى والأخير للمعرفة لأن كل العمليات المعرفية تعتمد عليه، أو على الأنا أفكر بتعبير كانط.

وإذا أتينا إلى فكرة الحدس المقولى عند هوسرل فسنجد أنها تتفق مع فخته وشلنج وهيجل حول إنكار استحالة الحدس العقلى، بل هى ذاتها نوع من الحدس العقلى. الحدس المقولى عند هوسرل هو نوع من الحدس العقلى، وذلك لأنه إدراك للكلى المتضمن فى الجزئيات إدراك مباشر لا يعتمد على تجريد الكلى من الجزئيات عن طريق عمليات استقراء أو أى عمليات إستدلالية أخرى، بل هو إدراك مباشر، ذلك لأن الكلى مصاحب ومحايث للجزئى( ). لقد ذهب كانط إلى أن الحدس العقلى مستحيل لأنه ليس فى حاجة إلى حدوس حسية أو موضوعات خارجية، أما هوسرل فالحدس المقولى لديه ليس فى حاجة إلى حدوس حسية لأن المقولى الذى يدركه مصاحب للجزئيات المحسوسة وهو أيضاً شرط إدراكها. هذا بالإضافة إلى أن هوسرل يسعى عن طريق الإبوخيا والردود الترانسندنتالية إلى الوصول إلى إدراك مباشر للوعى الخالص والأنا المطلق، وهو فى الحقيقة حدس عقلى بالأنا مماثل تماماً لمثيله عند فخته وشلنج وهيجل.

هذا بالإضافة إلى أن ما رفضه كانط فى الحدس العقلى وهو إدراك العالم أو الطبيعة بوصفها كلاً هو ذاته ما يؤكد هوسرل على إمكانه. ففى “ التأملات الديكارتية ” فقرة بعنوان “ فكرة الوحدة الكلية بين جميع الموضوعات والإيضاح المقوم لها ”. ويذهب فيها هوسرل إلى أن الوعى كما يقوم بتأليف الموضوعية فهو أيضاً يقوم بتأليف وحدة كلية. هذه الوحدة الكلية ليست مجرد خليط بل هى مجموعة منظمة( )، وهى فى الحقيقة فكرة العالم باعتباره مجموع الظاهرات عند كانط والتى يقوم بها العقل الخالص على نحو غير مشروع. كما يقول هوسرل أن الأنا الترانسندنتالى يتصور عن طريق ما يقوم به من تأليف جملة نماذج الكثرات اللامتناهية للظواهر فى اختلاف وتعارض واضح مع كانط الذى أكد على استحالة إدراك اللامتناهى أو الجملة اللامتناهية لمجمل ظاهرات العالم. إن الأنا الترانسندنتالى عند هوسرل وبهذه الطريقة إنما يتخذ الوظيفة اللامشروعة للعقل الخالص عن كانط، لكن فى إتفاق تام مع المثالية الألمانية.

ويستمر هوسرل فى هذا الاتجاه ويزيده تأكيداً بقوله: “ وهذا يجعلنا نتنبأ بالتأليف الكلى الذى تتقوم فيه بدورها كل التأليفات بحسب ترتيب معين، والذى يشمل بالتالى كل الكائنات الواقعية والممكنة، من حيث هى موجودة للأنا الترانسندنتالى ”( ). يتحدث هوسرل هنا عن نوعين من التأليف، التأليف الذى يقوم به الوعى للخبرة الموضوعية ولموضوعات التجربة، وتأليف آخر يقوم به الأنا الترانسندنتالى لجميع التأليفات الأخرى للوصول إلى فكرة العالم باعتباره كلاً؛ أى يتحدث عن تأليف حسى وتأليف عقلى، التأليف الحسى هو الذى يقدم لنا موضوعات التجربة، أما التأليف العقلى فهو الذى يؤلف بين جميع تأليفات موضوعات التجربة واصلاً إلى فكرة العالم باعتباره المجموع الكلى المنظم لموضوعات للخبرة. والحقيقة أن هذا التأليف العقلى لا يمكن تصوره إلا باعتباره حدساً عقلياً. ولا يعترف هوسرل بذلك لكن منطق حجته فى هذا الصدد يوصلنا إلى أن الأنا الترانسندنتالى عنده يدرك كلية موضوعات التجربة أو فكرة العالم الكلى بحدس عقلى. والملاحظ أن نوعى التأليف عند هوسرل يقابلان ملكتى الفهم والعقل على التوالى عند كانط. فالتأليف الحسى لموضوعات التجربة يقابل وظيفة ملكة الفهم عند كانط والتى تؤلف الإدراكات الحسية فى موضوعات معرفية عن طريق المقولات، أما التأليف العقلى لمجمل الخبرة الموضوعية فى صورة العالم فيقابله عند كانط وظيفة العقل الخالص والذى أوضحه فى “ نسق الأفكار الكوزمولوجية ”( ) فى كتاب “ نقد العقل الخالص ”.