حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
إيمانويل كانط والتأسيس لعصر الأنوار - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: عـــــــــلــــــــــوم (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=6) +--- المنتدى: فلسفة وعلم نفس (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=84) +--- الموضوع: إيمانويل كانط والتأسيس لعصر الأنوار (/showthread.php?tid=6418) |
إيمانويل كانط والتأسيس لعصر الأنوار - لايبنتز - 02-27-2008 رشيد دحدوح
بادئ ذى بدء نريد أن نوضح قصدنا بمصطلح التأسيس . فقد قصدنا به أولا : وضع الأسس النظرية الفلسفية والمعرفية لعصر الأنوار عبر نقد المعرفة البشرية وأدواتها الأساسية. وثانيا: التأسيس النظرى قد يعنى كذلك التجاوز بالتأكيد ليس التجاوز الزمنى، بل المعنى ، هو أن النظرية تتجاوز دوما الواقع وما هو كائن باستشراف ما سيكون مستقبلا . وسوف نحاول تحليل وتتبع هاتين الفكرتين أو المعلمين فى فلسفة كانط مستلهمين ذلك من القراءة التى قدمها فرانسوا شاتلى F. Chatelet فى كتابه une histoire de la raison والتى عنوانها بـ “ Kant, penseur de la modernite أولا : الخلفية الفلسفية للنقد الكانطى : مثلما هو معتمد ومعروف عند مؤرخى الفلسفة عموما ، فقد قام كانط بنقد المعرفة البشرية انطلاقا من العلوم السائدة فى عصره ، أى على ضوء النتائج التى انتهت إليها الفيزياء وخصوصا فى نسقها النيوتونى . كما كان له بالموازة مع ذلك مشروع مكمل قام فيه ببحث آفاق الحرية البشرية وإمكانياتها عن طريق مقاومة الاستبداد والطغيان . ولقد كانت النتيجة التى انتهى إليها كانط ذات شقين تتعلق بالمشروعين فى آن واحد: الأولى سلبية – تنفى فى ميدان المعرفة – وجود معارف مطلقة ( على عكس الميتافيزيقا ) ، لكن معارف قابلة للتحقيق “Verifiables” . أما الثانية فإيجابية تحدد مجال المطلق واللانهائى وتحصره فى السيرة “La conduite” أى فى السلوك والإرادة. وعليه ، فعندما نعود إلى المحاور الكبرى والأساسية لعصر الأنوار نجد أنها كانت نتيجة للثورة العلمية التى قام بها "كوبرنيك" و " غاليلى " من جهة ، وكذلك نتيجة للمشاكل التى طرحتها مختلف التحولات العميقة التى عصفت بالمجتمعات الأوربية والتى مست مختلف الجوانب الاجتماعية ، السياسية والاقتصادية . ومن دون شك فإن هذا العصر بمختلف تحولاته ونتائجه قد وجد فى الفلسفة النقدية لكانط الصدى الذى يترجم روحه ومبادئه الأساسية ويستشرف مستقبله . فكانط يأتى عند نهاية مرحلة حساسة ، حيث عندما كتب " نقد العقل الخالص" 1781 ، كان عمره 57 سنة ، ثم " نقد العقل العملي " ثم " نقد ملكة الحكم" 1790. لكن ما هى الروح الجديدة التى حملها عصر الأنوار ؟ وقبل ذلك ما هى الأنوار ؟ وما موقع الفلسفة النقدية الكانطية ضمن التحولات العميقة والشاملة التى مست المجتمعات الأوروبية آنذاك والتى أطلق عليها"عصر الأنوار" ؟ لقد أطلق عصر الأنوار على حقبة زمنية ظهر فيها عدد من المفكرين المناضلين والملتزمين مثل : فولتير ، روسو ، ديدرو ، و دالمبير وغيرهم ومدعمين بقاعدة عمالية وشعبية عريضة قرروا الاعتماد فقط على " الأنوار الطبيعة " لتسليط الضوء على حياة الإنسان وتيسير تفتحها ونجاحها . الأنوار الطبيعية “ les lumieres naturelles” أى في مقابل الأنوار الميتافيزيقية . هذا معرفيا وفى المجال النظرى ، أما واقعيا وفى المجال الفعلى المتعلق بالعمل والنشاط فقد كان هدفهم في الميادين السياسية ، الإجتماعية الاقتصادية ، تحرير الإنسان من نيرين الأول: طبيعى ممثلا " في الأهواء والأوهام والجهالة والثانى هو تحريره من الاستبداد والخنوع والطغيان والظلم.. إلخ (1) . أو كما لخص ديكارت ذلك فى مقولته الشهيرة: جعل الإنسان سيد ومالك للطبيعة Rendre l’homme maitre et possesseure de la natureرغم أن لدى ديكارت من الأفكار والآراء ما يناقض هذه المقولة وهو ما يجعل وضع ديكارت إزاء عصر الأنوار محل شك وريبة. فهو من جهة يدعو إلى جعل الإنسان سيدا على الطبيعة ومالكا لها عن طريق التجديد والعلم حتى يبلغ الحرية ومن جهة أخرى بقى يستعمل مفاهيم وتصورات تيولوجية حيث يعد من القائلين بالأفكار الفطرية ، فالله قد غرس فينا بذور الحقيقة seminisa veritatis ودور التجربة هو إيقاظها فقط . لقد عرجنا على ديكارت كمحطة أساسية حتى نؤسس لما سنقوله فيما بعد وهو أن الديكارتية تولد عنها تياران كلاهما ـ يدعى ـ انه إمتداد لديكارت : التيار الأول : يطبق ما جاء فى " مقال فى المنهج " ويوظفه فى نقد ديكارت نفسه إنطلاقا من قاعدته المشهورة " أن لا أقبل أى شيئ كحقيقة ما لم يظهر بالبداهة أنه كذلك" أى وضع كل شيئ على محك العقل ، وهؤلاء هم التجريبيون الذين يقيمون ديكارت بمعاييره . أما التيار الثانى فيبقى ضمن الخط الديكارتى فيبدع ويجدد دون أن تكون له علاقة بالتيار الأول مثل ليبنيتز واسبينوزا (2) . على كل ، من التيار الأول الناقد لديكارت بديكارت نفسه سيظهر فيلسوف ومفكر آخر كبير هو " دافيد هيوم " : فما الإكتشاف الأكبر لدافيد هيوم ؟ وكيف سيكون تأثيره في كانط ؟ لقد أخذ هيوم فكرة لوك القائلة أن كل معرفة مصدرها التجربة ، ثم أضاف : أن العلة أو السبب ليست هى الداعى أو الباعث على الفعل وبالتالى فالسبب أو العلة لا يفسر الظاهرة ، ففى عرف الفلسفة أن العالم تحكمه قوانين بسيطة وقابلة للإدراك والتعقل وعندما يكتشف عالم علة أو سبب ظاهرة ما ، فإن ذلك السبب أو تلك العلة يعد فى آن واحد تفسير وتعليل لتلك الظاهرة بناء على العلاقة العلة الأثر . أنكر هيوم أن تكون العلة هى الداعى والمفسر للظاهرة عندما لاحظ أننا نسمى السوابق الثابتة بالتكرار ( أى الحوادث التى تسبق الحادثة موضوع البحث ) أسبابا أو عللا، وأننا بالتعود نضع الأسباب والعلل كدواعى وبواعث تفسيرية ، وهى فى الحقيقة لا تفسر شيئا(3) . ثانيا : إمكان الحقيقة ونسقيتها : يقر كانط فى كتاباته أن قراءته لـ "دافيد هيوم " أيقظته من سباته العميق ، لذلك وعلى غرار هذا الطرح الجريئ لهيوم ، ينطلق هو الآخر من سؤال آخر أكثر عمقاً وجرأة : كيف أمكن أن تكون الحقيقة ؟ أى التساؤل عن شروط إمكانية وجود الحقيقة ، فالفلسفات والأنساق الميتافيزيقية الكبرى من أفلاطون وأرسطو إلى ديكارت واسبينوزا ومالبرانش وليبنيتز ، كانت تعتبر وجود الحقيقة من الأمور البديهية والمسلمة ، ذلك لأن البحث عن الحقيقة هو الغاية الفلسفية الكبرى ، لهذا فافتراض وجودها مسبقا عملية مؤسسة لفعل التفلسف ذاته . ونتيجة لذلك كان السؤال المشروع فى رايهم ـ على اختلاف طرق طرحه ـ هو: كيف يمكن أن يخطئ الإنسان ؟ ويجانب الحقيقة والصواب؟، وبناء على المقولة الفلسفية الآرسطية المتمثلة فى العلاقة بين الجوهر والعرض تكون الحقيقة جوهرا ، والخطأ عرضا ، لذلك من البديهى أن نتساءل عن شروط وإمكانية حدوث العرضى الطارئ وليس عن الجوهرى لأنه يؤسس وجودنا ذاته . والمسألة على المستوى اللاهوتى هى نفسها ، حيث أن "الله" خلق الإنسان والطبيعة ، والإنسان المخلوق المفضل عند الله بإمكانه معرفة الطبيعة لذلك حتى تسير الأمور على ما يرام يجب البحث عن شروط إمكان الخطيئة أو المعصية ، لأنها تعنى ـ فيما تعنى ـ الخطأ ومجانبة الصواب والحقيقة . إن التساؤل عن إمكانية وجود الحقيقة وشروط إمكانها لا يجعلها جوهرا ولا عرضا، إنما يدخلها ـ مثل الخطأ ـ ضمن مفهوم ابستيمولوجى جديد هو النسقية أو النسق فحتى إن لم يكن كانط قد استعمل هذا المصطلح ، إلا أنه رفض القول بوجود الحقيقة الكلية التى تفسر كل شيئ واسس بنقده للقول بوجود حقائق جزئية مستقلة عن بعضها البعض حسب السياق الذى وردت فيه كل حقيقة على حدة . وهنا بالتأكيد نجد التجاوز الكانطى لعصر الأنوار ، حيث نتيجة للتطور العلمى فى مختلف الميادين ستتجه الفلسفة والأبستيمولوجيا على وجه الخصوص إلى التسليم بوجود أنساق متعددة للحقيقة ، أقربها إلى التمثيل هى : النسق الرياضى، النسق الطبيعى والنسق الإنسانى وغيرهم وبطبيعة الحال أن لكل نسق بنياته المعرفية المستقلة (4) ثم ، ومن أجل الإجابة عن السؤال الصريح والجرئ السابق كان لا بد من ممارسة عملية نقد مركزه حول مدى كفاءة العقل وأهليته لإدراك الحقيقة أو الوصول إليها . لكن لابد من تحديد معنى النقد عند كانط : فما معنى النقد عند كانط ؟ يتأسس النقد عند كانط إنطلاقا على وجود المعطى ، أى من نشاط معرفى سابق أو قائم فعلا . فمثلا فى " نقد العقل الخالص " ينطلق كانط من معطى يتمثل فى أن البشر فى بتفكيرهم ونشاطهم المعرفى أنشأوا مباحث علمية نجح بعضها فى بلوغ درجة عليا من الصرامة واليقين (كالرياضيات) ، وما زال بعضها فى سعى حثيث إلى بلوغ ذلك (كالفزياء) والبعض الآخر ما زال يراوح مكانه (كالميتافيزيقا) . بعد معاينة المعطى وتحديده يتساءل كانط: ما هى الشروط التى جعلت هذا المعطى ممكنا ؟ ولماذا كان بهذه الكيفية ولم يكن بكيفية أخرى ؟ فالنقد إذن خطوتين الأولى وصفية ، أما الثانية فأنطولوجية تتساءل عن إمكان وجود المعطى ذاته. إنطلاقا من ذلك يقوم كانط بعملية تحليل للمعرفة البشرية ، وكيفية حصولها مؤسسا بذلك لفضائين معرفيين منفصلين ومتكاملين هما : علم النفس المعرفى والإبستيمولوجيا ، وذلك من خلال التساؤل التالى : كيف يجب أن نتصور وضع الذات العارفة حتى تحصل المعرفة ؟ كيف يجب أن نتصور وضع الموضوع المعروف ( الذى هو الواقع ) حتى تكون هناك رياضيات وفيزياء ؟ (5) إذ لنحلل عملية المعرفة مبتدئين بهذا السؤال : ماذا يجب أن يتوفر فى الذات العارفة حتى تحصل المعرفة ؟ حسب كانط هناك ثلاث مراحل أو مبادئ أو قابليات : أولا : une affectation أى تأثر أو إنفعال ، ذلك أن الإنسان بالأساس ، إنفعالى قبل أن يكون فاعلا ، فلكى تحصل عملية المعرفة إزاء موضوع ما يجب أن تتأثر الذات العارفة أو تنفعل ( بالمعنى المعرفى لا بالمعنى العاطفى ) كعلامة على تلقيها شيئا ما . إن هذا بالتأكيد يدل على قصور ملكة المعرفة عند البشر فى مقابل الخالق الذى لا يحتاج إلى أى شيئ كى يعرف . على عكس الإنسان الذى لا يعرف إلا إذا توفر له المعطى فى حواسه أو فى إحداها على الأقل . على ذلك تكون الملكة الأولى المعنية بعملية المعرفة هى الحساسية la sesibilite فإنطلاق عملية المعرفة يكون من تنشيط الحساسية بمعطى خارجى ، لأنه لا يأتى من الذات. لكن هذه الحساسية ـ يؤكد كانط ـ ليست حيادية بل عبارة عن مجال أو حقل كل ما تتلقاه تحوله وتصبه فى صيغ وقوالب خاصة بالمجال أو الحقل ذاته ، من ذلك أنها لا تدرك إلا فى مكان ما وزمان ما ، وعلى ذلك فإن كل معطى خارجى يهيكل أو يدمج ويستوعب فى المجال الزمانى ـ المكانى . وهنا نسجل أن البصر مثلا لا يمكنه أن يرى إلا نوع واحد من الضوء ، هو ما كان وسطا بين أشعة تحت الحمراء وأشعة فوق البنفسجية رغم أن هذه الحقيقة العلمية لم تكن معروفة فى زمن كانط (6) ثانيا : إذا كانت المرحلة الأولى إنفعالية ، فإن الثانية فاعلة " active " فالذات العارفة الآن تطبق قواعد الفهم على هذا المعطى أو المادة الخام التى جاءتها من الحساسية. قواعد الفهم هى التى يسميها كانط بـ " المقولات " فما هى المقولات ؟ المقولة عند كانط هى مفهوم تفسيرى عام ، فمثلا نحن لا نستطيع إدراك وفهم الواقع دون أن نوظف مقولة السببية أى التتابع سبب مسبب : فالتتابع الزمنى بين الظاهرتين أ و ب يطور ويحول من طرف نشاطنا العقلى إلى علاقة سببية ، كما أننا لا نستطيع أن ندرك الواقع كذلك دون أن نفكر أنه عند حدوث التحولات توجد دوما ثوابت هى التى تسمح بإدراك تلك المتغيرات ، وهذه الأخيرة مقولة قديمة تقوم على إدراك العلاقة بين الجوهر والعرض " الآن : ماذا حصل للموضوع المعروف أو مانسميه الواقع بعد أن طبقت عليه المقولات ؟ . إن الموضوع المعروف أو ما نسميه الواقع ، هو نتيجة للعمليتين السابقتين ، أى الحساسية والفهم ، وبالتالى لم يعد الواقع ندا مقابلا للذات العارفة ، بل هو من إنتاجها ، إن ما نسميه الواقع هو من إنتاج الذات . فعن طريق الحساسية ومجالها الزمانى ـ المكانى ، ثم الفهم ومقولاته تحول الذات المعطى غير المعروف إلى مادة معرفية منظمة مهيكلة ، ومستوعبة فى مبادئ تجعلها معروفة ، وفى الحقيقة هذا ما أكدته علوم الحاضر ، حيث يقول " شاتلى " : " بالنسبة لى ، فأنا أعتبر اليوم التحليل الكانطى فى خطاطته العامة ، لا يمكن تجاوزه ، لأن كل التقدم العلمى الذى تحقق منذ ذلك لم يزد على أن أكد هذا التحليل " (7) . ثالثا : الملكة الثالثة : هى العقل ويسميها كانط ملكة المبادئ ، فالذات العارفة لا تكتفى بإقامة العلاقة علة ـ معلول بين ظاهرتين معطاتين فى المجال الزمانى ـ المكانى، بل تعمل على مواصلة التتابع السببى ورفعه للوصول إلى علة أولى هى علة العلل ، وهى سبب التتابع السببى ذاته ، لأنه يجب أن يرد هو الآخر إلى علة سابقة عنه . وهنا يدخل كانط ميدان الميتافيزيقا ، ويمارس عليها بدورها نقدا لا يتناول مضامين الأنساق الميتافيزيقية ، إنما يتناول الأدوات المعرفية التى تبنى بها تلك الأنساق ، ويؤكد كانط أن ملكة المبادئ لا يمكنها أن تدعى الوصول إلى معرفة فى ميدان الميتافيزيقا ليس لأن الميتافيزيقا غير موجودة أصلا ، بل لأن الأدوات المستعملة غير ملائمة ولا فعالة ، وبالتالى فالإدعاء ، بإدراك الميتافيزيقا إدعاء غير مشروع وذلك بطبيعة الحال لا ينفى أن الإنسان كائن ميتافيزيقى ، لأنه عبارة عن عقل ( يبحث عن المبادئ الأولى ) لكن ذلك يوقعه فى الأوهام . وعلى ضوء ذلك يرى كانط أنه من الأجدى للإنسان أن يعرض عن البحث فى الميتافيزيقيا، لأننا لا نملك شيئا يمكن أن نقوله عن الروح أما العالم فلا نستطيع أن نؤكد أنه خالد أو فان ، أما الله فلا نستطيع أن نثبت ولا ان ننفى وجوده ، إن هذه الموضوعات غير معطاة للمعرفة وغير قابلة للإدراك ، لأنها موضوعات غير معروضة لا على الحساسية ولا على الفهم ، والنتيجة أننا لا يمكن أن نجرى عليها ـ للتحقيق ـ أى تجربة . وهنا يؤكد كانط ما ذكره سابقا فى مفهوم النقد وهو أن مجال المعرفة هو كل ما يمكن التحقيق منه فى إطار ممارسة نقدية أى تجربة بالمفهوم العلمى ، وفى هذا يعتبر كانط بحق المؤسس الحقيقى والشرعى للفكر التجريبى وللعقلانية النقدية . إن العقل عند كانط لا يملك سوى استعمال نظرى واحد هو قدرته على نقد ذاته ، أى قدرته على رسم حدود لنفسه يتحرك داخلها. ومن ذلك ، فالعقل النقدى انتقد العقل الميتافيزيقى الذى يريد أن يؤسس خطابات مبالغة exaustifs تدعى الإحاطة الكاملة بالكائن l’etre فى حين كل العبارات التى بحوزتنا عن الكائن والواقع مصدرها العلوم، وفى ميدان العلوم لا يمكننا تجاوز إطار التجربة الممكنة، ومن البديهى أن الروح والعالم والله غير موجودين ضمن هذا الإطار(8) . ثم إننا لما نريد بناء معرفة تخصهم نقع فى إما إستدلالات خاطئة كتلك التى تحدث عنها "رسل" والمتمثلة فى عدم التمييز ـ في الميتافيزيقا ـ بين القضايا الحقيقية ودوال القضايا حيث القضايا الميتافيزيقية هى دوال القضايا وليست قضايا . أو نقع فى الإستقطابات الخارجية " les extrapolations " أى ننجر مع الإيديولوجيات والتقريرات المسبقة والتى مصدرها ميادين أخرى غير العلوم . والخلاصة أن كانط يدعو إلى الإمتناع عن محاولة بناء معرفة مطلقة على النموذج الأفلاطونى ، ذلك لأنه لا توجد معرفة مطلقة ، وفى مقابل فكرة المعرفة الكلية أو المطلقة تأتى فكره بناء أنساق معرفية مفتوحة ( أى المعارف المحققة تجريبيا ) . يصف ألمو ullmo هذا التحول من الحقيقة المطلقة إلى الحقائق الجزئية فى تاريخ العلم فيقول : "تعرض تصور الحقيقة لتحول جذرى خلال القرون الثلاثة الأخيرة ، فقد كان القرن التاسع عشر ما يزال خاضعا لفكرة الحقيقة المطلقة التى يتوصل إليها الفكر عندما يلتحق بالواقع (..) وقد تم تحقيق تقدم من طرف الفلسفة النقدية لكانط الذى كان قد بدأ فى إحداث تقارب بين الفكر والواقع ، وفى إيجاد أسباب إمكانية توافقهما محل فكرة الاقتران والترابط الخصبة محل فكرة التوازى " (9) . لكن هل معنى هذا أن المطلق غير موجود ؟ وإذا كانت المعرفة الإنسانية قاصرة عن بلوغ المطلق ، فإين يمكن للإنسان أن يبلغ المطلق ؟ . إن المعرفة ليست مطلقة ، لكن المطلق هو شيء آخر غير المعرفة ، إنه ينتمى إلى ميدان : السلوك والسيرة أو العمل يؤكد كانط أن العقل الذى يبحث عن المبادئ الأولى أى الميتافيزيقا أو المطلق ميدانه الحقيقى هو الأخلاق ، وعليه فإذا كان كانط ينطلق فى "نقد العقل الخالص" من حالة العلوم فى عصره خصوصا الرياضيات، الفيزياء، فإنه فى نقد العقل العملى ينطلق من الحياة الأخلاقية، أى من السلوك والممارسة العملية اليومية للبشر فى حياتهم متخذا ذلك موضوعا أو معطى لممارسة نقدية (10) . وفى هذا المستوى يطبق كانط المراحل والأدوات النقدية السابقة، حيث يبدأ بالسؤال التالى: ما هو الفعل الخلقى فى الحياة العادية ؟ كل الناس ـ يؤكد كانط ـ يقرون أن الفعل الذى لا يهدف إلى خدمة وتحقيق مصلحة شخصية هو فعل أخلاقى ، أى فعل متحرر من الأنانية وحب الذات . وعليه إذا كان من الممكن أن نقوم بوضع ضوابط للطريقة أو الكيفية التى يجب على الإنسان اتباعها فى حياته اليومية ، فإن تلك الضوابط والطريقة لا يمكن أن تكون إلا كلية هذا هو حال الأخلاق والواجبات الأخلاقية . إن الأوامر الأخلاقية عند كانط صالحة لجميع الناس، مهما كانت الظروف ، فهى كى تكن مقبولة ، يجب أن تكون صالحة فى جميع الحالات ، ولجميع الناس ، وتحت أى ظروف ، وعلى ذلك فكل أخلاق أينما وجدت ، يجب أن تتأسس على هذا الإلتزام الأساسى : Agis toujours de tells sorte que tu puisse eriger la maxime de ton action en loi universelle " . ويقدم كانط فى هذا المجال مثالا هو : هل يسمح لى أن أكذب ؟ فإذا كان الإنسان تحت ظروف قاهرة قد أضطر أن يكذب فعليه أن يسأل نفسه : هل أرضى أن يتحول الكذب إلى قانون عام؟الإجابة قطعا هى : لا ، لأنها النتائج المترتبة على ذلك كارثية سواء بالنسبة للفرد أو للمجتمع . ومنه فإن قبول الكذب مرة واحدة يعنى إباحته فى جميع الأحوال ، لأن القانون الأخلاقى لا يقبل الخرق ، ولذلك من الصعب أن نصدق من كذب علينا ولو مرة واحدة ، ثم يصل كانط إلى هذه النتيجة الصارمة : لا يجب أن نكذب مهما كانت الأحوال . ماذا يعنى هذا ؟ إنه يعنى عند كانط أن الإنسان مخير بين أمرين : أن يكون حرا أو أن يكون خاضعا لحتمية. فلإنسان بوصفه إحساس ، إنفعال ، هو خاضع للحتمية مثل بقية موضوعات الطبيعة والعالم الخارجى . لكن يبقى هذا الإنسان عن طريق طبيعته العاقلة قادر على أن يتحرر من الحتمية عن طريق قرار يحوله إلى ذات حرة ، ترفض الأهواء وتضع فها الأول والأخير تحقيق القانون الأخلاقى أى الكلية ، إن الإنسان المقيد بمختلف الحتميات بإمكانه أن يتحول إلى إرادة حرة أى بإمكانه أن يلامس المطلق ويرقى إلى مصاف اللانهائى . وعليه ، فالإنسان يبلغ المطلق فى سلوكه عندما يجهد نفسه كى يتحرر رغم الحتميات الثقيلة التى تحاصره وتقصم ظهره ، وهذا يظهر فى مقاومة الأهواء ( على المستوى الأخلاقى ) وفى رفض الديكتاتوريات ( على المستوى السياسى ) (11) وهنا نلاحظ أن الأخلاق الكانطية مع اعتراف كانط ذاته بصعوبتها كمشروع يقر أنه من واجب الفيلسوف أن يدل على الطريق مهما كان صعبا أو محفوفا بالمكاره والمخاطر، هنا يؤسس كانط لفلسفة أخلاق وفلسفة تاريخ جديدتين يفتح بهما آفاقا جديدة استشرافية وما بعد حداثية: Deux choses remplissent le coeur d’une admiration et d’une veneration toujours nouvelle et toujours croissantes, a mesure que la reflexion s’y attache et s’y applique: le ciel etoile au dessus de moi et la loi morale en moi : (…) Le premier spectacle, d’une multitude innombrable de mondes, aneantit pour ainisi dire mon importance, en tant que je suis une creature animale qui doit rendre la matiere don’t elle est formee a la planete ( a un simple point dans l’univers ) , apres avoir ete pendant un court espace de temps ( on ne sait comment ) douee de la force vitale . Le secoud au contraire, eleve infiniment ma valeur, comme celle d’une intelligence, par ma personnalite dans laquelle la loi morale me manifeste une indepen – dante de l’animalite et meme de tout le monde sensible "(12) شيئا يملآن القلب إعجابا متجدداً . 1. السماء المرصعة بالنجوم من فوقى . 2. القانون الأخلاقى فى نفسى . المشهد الأول : يحمل عوالم متعددة لا يمكن عدها تتضاءل أهميتى وقيمتى بجانبها باعتبارى أنا الآخر مادة فى صورة مخلوق حيوانى سيرد المادة التى تكونه إلى أصلها الأول بعدما كانت فى فترة زمنية قصيرة حية ، أنا لا أشعر إزاء هذا العالم الضخم الخاضع للحتمية بأية قيمة . فى حين المبدأ الثانى ـ على عكس الأول ـ يرفعنى باعتبارى ذكاء وعقل وإرادة حرة تجعلنى مستقل تماما عن الحيوانية وعن العالم المادى الخاضع للحتمية . والنتيجة أن أوجست كونت رغم كونه متأخر عن كانط قد صرح أن الميتافيزيقا قد ماتت ، فقد قتلها العلم ، لكن كانط جعل الميتافيزيقا غير قابلة للإدراك والمعرفة ، لأنها لا تعرض أمام الحساسية كمعطى ، لأن كل ما هو ليس معطى غير قابل للمعرفة ، وبالتالى فإن العلم وحده هو القادر على انتاج قضايا صادقة ، لكن ذلك لا يعنى أن العلم قد احتكر كل الحقيقة . والخلاصة أن التأسيس المعرفى ( الإبستيمولوجي ) للأرضية الفلسفية لعصر الأنوار من طرف كانط قد أفضى إلى نتائج بارزة وملموسة أهمها : 1. لائكية المعرفة : laicite de la connaissance أى الفصل بين المعرفة والعلوم والتى ميدانها هو المعطى فى المجال الزمانى – المكانى فى الحساسية ، وبين المطلق أو الإيمان والذى ليس معرفة ، بل سلوك وممارسة . وبالتالى يكون كانط قد أقلب النموذج الأفلاطونى ، لأن النظرى جزئى ونسبى فى حين العملى مطلق وكلى . 2. التأسيس تجاوز مداه إلى غاية الاستشراف المستقبلى ، حيث يعد كانط فاتحا أولا لمباحث معرفية جديدة مثل : علم النفس المعرفى La psychologie Cognitive الذى يهتم بالملكات الذهنية والمعرفية للإنسان ، والإبستيمولوجيا Epistemologie أى نقد العلم والمعرفة العلمية إلى جانب تغير النظر إلى فلسفة الأخلاق وفلسفة التاريخ . |