نادي الفكر العربي
الهرمنيوطيقا - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3)
+--- المنتدى: قضايا اجتماعيــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=60)
+---- المنتدى: ساحة الأعضاء الجدد (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=18)
+---- الموضوع: الهرمنيوطيقا (/showthread.php?tid=6545)



الهرمنيوطيقا - لايبنتز - 02-21-2008

[font=Arial Narrow][align=center]




الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص




نصر حامد أبوزيد



القضية الأساسية التى تتناولها ( الهرمنيوطيقا ) بالدرس هى معضلة تفسير النص بشكل عام ، سواء كان هذا النص نصا تاريخيا ، أم نصا دينيا، والأسئلة التى نحاول الإجابة عليها - من ثم - أسئلة كثيرة معقدة ومتشابكة حول طبيعة النص وعلاقته بالتراث والتقاليد من جهة ، وعلاقته بمؤلفه من جهة أخرى. والأهم من ذلك أنها تركز اهتمامها بشكل لافت على علاقة المفسر ( أو الناقد فى حالة النص الأدبى) بالنص . هذا التركيز على علاقة المفسر بالنص هو نقطة البدء والقضية الملحة عند فلاسفة الهرمنيوطيقا وهى - فى تقديرى - الرواية التى أهملت إلى حد كبير فى الدراسات الأدبية منذ أفلاطون حتى العصر الحديث . ومصطلح الهرمنيوطيقا مصطلح قديم بدأ استخدامه فى دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموع' القواعد والمعايير التى يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الدينى ( الكتاب المقدس ) . والهرمنيوطيقا - بهذا المعنى - تختلف عن التفسير الذى يشير إلية المصطلح Exegesis على اعتبار أن هذا الأخير يشير إلى التفسير نفسه فى تفاصيله التطبيقية بينما يشير المصطلح الأول إلى ( نظرية التفسير ) ويعود قدم المصطلح للدلالة على هذا المعنى إلى عام 1654م ، وما زال مستمرا حتى اليوم خاصة فى الأوساط البروتستانتية (1)

وقد أتسع مفهوم المصطلح فى تطبيقاته الحديثة ، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتساعا تشمل كافة العلوم الإنسانية كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجى وفلسفة الجمال والنقد الأدبى والفولكلور 0 وإذا كان هذا الاتساع فى مفهوم المصطلح وتطبيقاته يجعل من الصعب - فى مثل هذه الدراسة - الإلمام بكل التفاصيل ، فإن علينا أن نقنع بالخطوط العامة لتطور هذا العلم مركزين على مغزاه بالنسبة لنظرية تفسير النصوص الأدبية 0 الهرمنيوطيقا - إذن - قضية قديمة وجديدة فى نفس الوقت وهي في تركيزها على علاقة المفسر بالنص ليست قضية خاصة بالفكر الغربي ، بل هي قضية لها وجودها الملح في تراثنا العربي القديم والحديث على السواء . وينبغي أن نكون على وعي دائم ـ في تعاملنا مع الفكر الغربي في أي جانب من جوانبه ـ بأننا في حالة حوار جدلي وأننا يجب أن لا نكتفي بالاستيراد والتبنى ،بل علينا أن ننطلق من همومنا الراهنة فى التعامل مع واقعنا الثقافي بجانبيه التاريخى والمعاصر0 من هنا يكتسب حوارنا مع الفكر الغربى أصالته وديناميته ، ومن هنا أيضا نكف عن اللهاث وراء كل جديد ما دام قادما إلينا من الغرب (المتقدم) هذا الوعى بعلاقتنا الجدلية بالفكر الغربى - من جانب اخر - يخلصنا من الانكفاء على الذات والتقوقع داخل أسوار ( تراثنا المجيد) و ( تقاليدنا الموروثة) ومن الغريب أن واقعنا الثقافى - وكذلك الاجتماعى والسياسى - يتسع لشعارى ( الانفتاح الكامل) و ( الاكتفاء الكامل ) دون أدنى إحساس بالتعارض الجذرى بين الشعارين إن صيغة ( الحوار الجدلى ) ليست صيغة تلفيقية تحاول أن تتوسط بين نقيضين، بل هى الأساس الفلسفى لأى ومواقف ( معرف'، ومن ثم لأى وعى بصرف النظر عما نرفعه من شعارات أو نتبناه من مقولات ومواقف 0 إن أى موقف يقوم على الاختبار ، والاختبار عملية مستمرة من القبول والرفض ، أى عملية مستمرة من الحوار التى تبدأ من الموقف 0 وسواء أخترنا من التراث أم اخترنا من الغرب فإن اختيارنا قائم على الحوار الذى يدعم موقفنا0 إن إدراك جدلية الحوار فى عملية الاختيار يعمق الوعى ويخلصنا من الفوضى الفكرية التى لا يستطيع أى متأمل لحياتنا الثقافية أن ينكرها0 من هذا المنطلق نتعرض لفلسفة الهرمنيوطيقا فى الفكر الغربى الحديث أملين أن تضئ لنا بعض جوانب القصور فى رؤيتنا الثقافية عامة ، وفى رؤيتنا للعمل الأدبى خاصة 0 ولكن علينا قبل ذلك - لكى نكون متسقين مع منهجنا - أن نشير إلى معضلة تفسير النص فى تراثنا القديم والحديث0

(1)

هناك فى تراثنا القديم ، وعلى مستوى تفسير النص الدينى(القرآن) تلك التفرقة الحاسمة بين ما أطلق عليه (التفسير بالمأثور) وما أطلق عليه (التفسير بالرأى ) أو ( التأويل ) وذلك على أساس أن النوع الأول من التفسير يهدف إلى معنى النص عن طريق تجميع الأدلة التاريخية واللغوية التى تساعد على فهم النص فهما( موضوعيا) أى كما فهمه المعاصرون لنزول هذا النص من خلال المعطيات اللغوية التى يتضمنها النص وتفهمها الجماعة 0 أما التفسير بالرأى أو( التأويل ) فقد نظر إليه على أساس أنه تفسير (غير موضوعى )لأن المفسر لا يبدأ من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية، بل يبدأ بموقفه الراهن محاولا أن يجد فى القران (النص) سندا لهذا الموقف0 وقد أطلق على أصحاب الاتجاه الأول أهل السنة والسلف الصالح 0 ونظر إلى هذا الاتجاه - غالبا - نظرة إجلال واحترام وتقدير ، بينما كانت النظرة إلى أصحاب الاتجاه الثانى - وهم الفلاسفة والمعتزلة والشيعة والمتصوفة - نظرة حذر وتوجس ، وصلت فى أحيان كثيرة إلى التكفير وحرق الكتب 0

ومن الضرورى الإشارة إلى أن التمايز بين الاتجاهين - فى الواقع العملى - لم يكن حاسما بمثل هذا الوضوح الذى تطرح به القضية على المستوى النظرى، فلم تخل كتب التفسير بالمأثور من بعض الاجتهادات التأويلية حتى عند المفسرين القدماء الذين عاصروا فى بواكيرحياتهم نزول النص كابن عباس مثلا (2) 0 ومن جانب أ خر لم تتجاهل كتب تفسير بالرأى أو (التأويل) الحقائق التاريخية واللغوية المتصلة بالنص0 وللمعضلة بعدها الميتافيزيقى الذى لم يتنبه له القدماء تنبها واضحا، وإن مسوه مسا غير مباشر 0 هذه المعضلة هى : كيف يمكن الوصول إلى المعنى ( الموضوعى) للنص القرآنى ؟ وهل فى طاقة البشر بمحدوديتهم ونقصهم الوصول إلى 0(القصد) الالهى فى كماله وإطلاقه ؟ ! لم يزعم أى من الفريقين إمكان هذا، غاية الأمر أن المؤولة كانوا أكثر حرية فى الفهم وفتح باب الاجتهاد ، بينما تمسك أهل السلف - وإن لم يقرروا ذلك صراحة - بإمكانية الفهم الموضوعى على التغليب0

ولا شك أن الخلاف بين الاتجاهين كانت له أصوله الاجتماعية والفكرية التى لا يعنينا التعرض لها فى مثل هذا المقال 0 ويكفينا هنا الالماح 0 إلى وجود المعضلة فى تراثنا الدينى والاشارة إلى وجود اتجاهين يمثل كل منهما زاوية فى النظر إلى علاقة المفسر بالنص: الاتجاه الأول يتجاهل المفسر ويلغى وجوده لحساب النص وحقائقه التاريخية واللغوية 0 بينما لا يتجاهل الاتجاه الثانى مثل هذه العلاقة، بل يؤكدها على خلاف فى مستويات هذا التأكيد وفاعليتها بين الفرق والاتجاهات التى تتبنى هذه الزاوية0 ومن الجدير بالذكر أن اختلاف مناهج المفسرين فى العصر الحديث فيما يتصل بتفسير النص القرآنى ما تزال تدور حول هذين المحورين ، وإن تكن الغلبة - على المستوى الاعلامى - كما كانت فى الماضى لأصحاب المنهج التاريخى الموضوعى 0

ويتجلى وجود المعضلة فى تراثنا النقدى الحديث على المستوى العملى التطبيقى ، إذ الوعى بها على مستوى النظرى ليس واضحا كل الوضوح 0 فالنص الأدبى يتسع للعديد من التفسيرات التى تتنوع بتنوع اتجاهات النقاد ومذاهبهم 0 هذه الاتجاهات ليست فى حقيقتها سوى صياغة لموقف الناقد الاجتماعى والفكرى من واقعه0 وتتمثل المعضلة الحقيقية فى أن كل ناقد يزعم أن تفسيره للنص هو التفسير الوحيد الصحيح ، وأن مذهبه النقدى هو المذهب الأمثل للوصول إلى المعنى (الموضوعى ) للنص كما قصده مؤلفه0 ولا أدل على ذلك من كثرة التفسيرات التى طرحت على أدب كاتب معاصر هو نجيب محفوظ ( فنحن نلتقى به عند باحث وقد صوره كاتب الاشتراكية الأول الذى وقف حياته وانتاجه للدفاع عنها ، كما نلتقى به عند باحث أخر وقد أصبح كاتب الإسلامية الروحية ) (3) . وهكذا لا يكتفى الناقد بتجاهل العلاقة بين موقفه الذاتى من الواقع وبين المنهج الذى يتبناه لتحليل النص الأدبى ، بل يوحد بشكل صارم بين تفسيره للنص والنص نفسه ، كما أنه يوحد بين النص بكل علاقاته وتشكيلاته اللغوية والجمالية وبين قصد المؤلف0 إن ثلاثية( المؤلف / النص / الناقد)أو (القصد / النص / التفسير) لايمكن التوحيد الميكانيكى بين عناصرها، ذلك أن العلاقة بين هذه العناصر تمثل إشكالية حقيقية ، وهى الاشكالية التى تحاول الهرمنيوطيقا - أو التأويلية إذا شئنا استخدام مصطلح عربى - تحليلها والاسهام فى النظر إليها نظرة جديدة تزيل بعض صعوبات فهمها، وبالتالى تؤسس العلاقة بينها على أساس جديد0

ما هى العلاقة بين المؤلف والنص ؟ وهل يعد النص الأدبى مساويا حقيقيا لقصد المؤلف العقلى ؟ وإذا كان ذلك صحيحا ، فهل من الممكن أن يتمكن الناقد أو المفسر من النفاذ إلى العالم العقلى للمؤلف من خلال تحليل النص المبدع ؟ وإذا أنكرنا التطابق بين قصد المؤلف والنص ، فهل هما أمران متمايزان منفصلان تماما ؟ أم أن ثمة علاقة ما ؟ وما هى طبيعة هذه العلاقة ؟ وكيف نقيسها ؟ وبالتالى ما هو نوع العلاقة بين النص والناقد أو المفسر ؟ وما هى إمكانية الفهم ( الموضوعى) لمعنى النص الأدبى ؟ ونقصد( بالفهم الموضوعى) الفهم العلمى الذى لا يختلف عليه 0أى فهم النص كما يفهمه مبدعه أو كما يريد أن يفهم وتتزايد المعضلة تعقيدا إذا تساءلنا عن علاقة ثلاثية ( المؤلف / النص / الناقد ) بالواقع الذى تتم فيه عمليتا الابداع والتفسير 0 وتزداد حدة التعقيد إذا كان النص ينتمى إلى زمن مغاير وواقع مختلف لزمن التفسير وواقعه ، أى إذا كان المؤلف والناقد ينتميان إلى عصرين مختلفين وواقعين متمايزين 0

لقد حاولت نظرية الأدب - فى مسار تطورها التاريخى - أن تعالج جوانب مختلقة من هذه المعضلة، وتوقفت كل نظرية - فى إطار ظروفها التاريخية - عند جانب أو أكثر من هذه الجوانب مؤكدة أهميته على حساب الجوانب الأخرى0 واستعراض سريع لهذه النظريات يؤكد أن جانب علاقة النص بالمفسر ظل جانبا مهملا حتى فى الواقعية الاشتراكية التى عالجت الزوايا المتعدد لمعضلة علاجا حاسما مستفيدة دون شك من كل الانجازات الأصلية للنظريات التى سبقتها 0 ورغم ما فى مقولاتها الأساسية - خاصة مقولة الجدل - من أساس صالح للنظر إلى علاقة المفسر بالنص ، فإن هذا الجانب ظل - على مستوى الوعى النقدى - مهملا أو غائما فى أحسن الأحوال 0

ولقد بدأت دراسة الفن عامة ، والأدب خاصة بتحليل العلاقة بين الابداع والعالم الواقعى الذى نعيش فيه ، وانتهت على يد كل من أفلاطون وأرسطو - وحتى العصر الحديث فيما عرف بالكلاسيكية - إلى تأكيد دور الواقع الخارجى على حساب الفنان أو المبدع فيما عرف بنظرية المحاكاة 0 وانتهت هذه النظرية فى تفسير العمل الفنى والأدبى إلى محاولة البحث عن الدلالات الخارجية التى يشير إليها العمل0 واتحدت هذه الدلالات الخارجية عند أفلاطون مع ( الحقيقة) الفلسفية المتوارية وراء عالم الظواهر ، والمتعالية على الوجود المادى0 وإذا كان أر سطو لم يسلم بالموازاة الحرفية بين الفن والواقع كما فعل أفلاطون ، فإنه لم يرد هذا الانحراف فى العمل الفنى إلى دور المبدع وموقفه من الواقع، بل رده إلى قيم مطلقة معيارية يقاس على أساسها جودة العمل أو رداءته فيما عرف بنظرية التطهير الأخلاقية (4)0

وعلى الجانب المقابل أكدت الرومانسية دور المبدع على حساب الواقع ، وأخلت السبيل لمشاعر الفنان وانفعالاته الداخلية ، ونظرت إلى العمل الأدبى على أساس أنه تعبير عن العالم الداخلى للفنان ومواز له 0 وصارت مهمة الناقد أو المفسر هى أن يفهم الفنان بغية فهم العمل نفسه ، وذلك عن طريق الاستعانة بكل المعلومات التى يمكن تحصيلها عن حياة الفنان وسيرته الذاتية 0 غير أن الرومانسية - من جانب أخر - قد حولت عملية نقد العمل الفنى إلى إبداع جديد فيما عرف بالانطباعية ، وأكدت حرية الناقد فى تفسير العمل الأدبى ، وجعلته عنصرا فاعلا يحتكم إلى معاييره الخاصة فى فهم العمل وتفسيره0 إن ما أضافته الرومانسية - من وجهة نظر التأويلية - أنها أفسحت مجالا لذاتية الناقد فى فهم النص ، طالما أن ما يشير إليه النص - وهو ذات الفنان ومشاعرها وانفعالاتها - منطقة غامضة يصعب الوصول إليها بموضوعية علمية من خلال النص الذى تتعدد دلالاته بتعدد القارئين 0 هذا التعدد يرجع إلى خصوصية الأداة - اللغة فى حالة الأدب - التى تتفاعل مع مشاعر الفنان - فى حالة التعبير - فتتغير بنيتها بقدر ما تغير هى من طبيعة هذه الانفعالات التى كانت فى حالة تشوش وغموض قبل تجسدها فى العمل الأدبى (5) .

وفى مرحلة الجزر الرومانسى ، خطت الدراسة الأدبية على يد ت0س0 إليوت خطوة جديدة جعلت (النص) هو محور اهتمامها ، منكرة أى علاقة بين (النص) ومبدعه أو الواقع الذى تمت فيه عملية الابداع 0 إن للنص عند إليوت وجودا مستقلا لا ينتمى فيه إلى أى شئ خارجه ، ولا يجب على الناقد البحث عن دلالات للعمل الأدبى خارج إطاره اللغوى0 إن مهمة الناقد هى تحليل النص بتشكيلاته اللغوية وبيان عناصرها ودلالتها الجمالية 0 وإلى جانب التحليل يجب عليه مقارنة النص بنصوص أخرى تنتمى لنفس النوع الأدبى بهدف الكشف عن دور هذا النص فى دائرة التقاليد الأدبية0ماذا أخذ منها وماذا أضاف إليها 0 وتقاس عظمة العمل الأدبى بمدى إسهامه فى طرح تقاليد أدبية جديدة يغير بها نظام التقاليد السائدة0 إن مهمة الناقد يجب أن تقوم على أساس موضوعى محايد وأن تستخدم وسائل محايدة0 هى التحليل والمقارنة ، كما أن الفنان يجب عليه أن يتجنب مشاعره الشخصية في عملية الابداع ويخلق بدلا منها معادلا موضوعيا "محايدا" هو العمل الأدبي (6) .

وقد قدر لمثل هذه النظرة ـ التي تتزيا بالعلمية والموضوعية ـ لأسباب ليس هنا مجال شرحها ـ أن تسود مجال النقد الأدبي بدرجات متفاوتة من الاعتراف بعلاقة النص بمبدعه أو علاقته بالواقع بمعناه الواسع0 وصار التركيز أساسا -فى هذه المناهج - على تحليل النص باعتباره نقطة البدء والمعاد فى ( علم الدراسات الأدبية ) وترك مجال علاقة النص بمبدعه أو علاقته بالواقع لمجالات أخرى غير النقد الأدبى مثل علم النفس أو علم اجتماعية الأدب 0 ولم تنج من سطوة هذا التصور بعض الاتجاهات الواقعية ، خاصة الواقعية المطبقة فى كل من إنجلترا وأمريكا 0 هذه الواقعية ( تميل إلى افتراض أن العمل الأدبى هناك . قائم -ببساطة -فى العالم مستقل بشكل أساسى عن متلقيه . ويعتبر تلقى العمل عملية منفصلة عن العمل نفسه ، ومهمة التفسير الأدبى هى الكلام عن (العمل نفسه)ومن ناحية أخرى يعتبر قصد المؤلف منفصلا بشكل حاد عن العمل0 إن للعمل الأدبى كينونة لها قوتها وديناميكيتها 0 والناقد النمطى الحديث يدافع عامة عن (استقلال وجودة) العمل الأدبى ، ويرى أن مهمته هى النفاذ إلى هذا الوجود من خلال تحليل النص 0 هذا الفصل المبدئى بين الذات والموضوع ، وهو فصل محورى فى الواقعية ، يصبح الأساس الفلسفى وإطار التفسير الأدبى ) (7) .

وقد حاولت البنائية - مستفيدة من مناهج علم اللغة - التغلب على هذه المعضلة بتركيز اهتمامها - فى تحليل العمل الأدبى - فى البحث عن البنية التى تؤدى إلى اكتشاف النظام الذى يقوم على أساسه العمل الأدبى0 واعتبرت أن هذا النظام - أو اكتشافه - يحل معضلة ثلاثية (القصد/ النص/ التفسير ) على أساس أن هذه العناصر ليست إلا تجليات بمستويات مختلفة لظاهرة النظام كما تتجلى فى الفكر (القصد ) والتشكيل (النص ) والتحليل (التفسير) ووحدت البنائية بين هذه المستويات الثلاث (أو التجليات) للنظام وبين مستويات أخرى فى الواقع بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نزولا إلى نظام الطعام والأزياء وكافة الممارسات اليومية من أدناها إلى أرقاها 0 إن الناقد البنيوى يتجاوز ثنائية الذات والموضوع، بإخضاعهما معا لفكرة النظام ، وهو بالتالى يجعل الأدب مشيرا إلى معطى خارجى محدد سلفا ، ويشل من ثم فاعلية الفنان والناقد معا ، لأنهما يخضعان لنوع من الجبرية الصارمة0 وسنعود- فيما بعد - لمناقشة اعتراضات بعض مفكرى الهرمنيوطيقا على البنائية لنرى بعض الاضافات التى أجريت عليها استجابة لهذه الاعتراضات .

(2)

يمثل المفكر الألمانى شليرماخر (1843م) الموقف الكلاسيكى بالنسبة للهرمنيوطيقا0ويعود إليه الفضل فى أنه نقل المصطلح من دائرة الاستخدام اللاهوتى ليكون (علما) أو (فنا) لعملية الفهم وشروطها فى تحليل النصوص0 وهكذا تباعد شليرماخر بالتأويلية بشكل نهائى عن أن تكون فى خدمة علم خاص0 ووصل بها إلى أن تكون علما بذاتها يؤسس عملية الفهم ، وبالتالى عملية التفسير 0

وتقوم تأويلية شليرماخر على أساس أن النص عبارة عن وسيط لغوى ينقل فكر المؤلف إلى القارئ ، وبالتالى فهو يشير - فى جانبه اللغوى - إلى اللغة بكاملها 0 ويشير - فى جانبه النفسى - إلى الفكر الذاتى لمبدعه . والعلاقة بين الجانبين - فيما يرى شليرماخر - علاقة جدلية . وكلما تقدم النص فى الزمن صار غامضا بالنسبة لنا ، وصرنا - من ثم - أقرب إلى سوء الفهم لا الفهم . وعلى ذلك لابد من قيام ( علم ) أو ( فن ) يعصمنا من سوء الفهم ويجعلنا أقرب إلى الفهم . وينطلق شليرماخر لوضع قواعد الفهم من تصوره لجانبى النص ، اللغوى والنفسي . يحتاج المفسر للنفاذ إلى معنى النص إلى موهبتين ، الموهبة اللغوية ، والقدرة على النفاذ إلى الطبيعة البشرية ( الموهبة اللغوية وحدها لا تكفى لأن الإنسان لا يمكن أن يعرف الإطار اللا محدود للغة ، كما أن الموهبة فى النفاذ إلى الطبيعة البشرية لا تكفى لأنها مستحيلة الكمال ، لذلك لابد من الاعتماد على الجانبين ، ولا يوجد ثمة قواعد لكيفية تحقيق ذلك )(8) . ولكن ما هى طبيعة العلاقة بين فكر المؤلف ( أو نفسيته ) وبين الإطار اللغوى ( الوسيط ) الذى يتم فيه التعبير ؟ يرى شليرماخر – أن اللغة تحدد للمؤلف طرائق التعبير التى يسلكها للتعبير عن فكره . وللغة وجودها الموضوعى المتميز عن فكر المؤلف الذاتى ، وهذا الوجود الموضوعى هو الذى يجعل عملية الفهم ممكنة . ولكن المؤلف – من جانب أخر – يعدل من معطيات اللغة تعديلا ما . إنه لا يغير اللغة بكاملها ، وإلا صار الفهم مستحيلا ، إنه – فحسب – يعدل بعض معطياتها التعبيرية ، ويحتفظ ببعض معطياتها التى يكررها وينقلها ، وهذا ما يجعل عملية الفهم ممكنة ( إننى أفهم المؤلف بقدر توظيفه للغة ، فهو – من جانب – يقدم فى استعماله للغة أشياء جديدة ، ويحتفظ – من جانب أخر – ببعض خصائص اللغة التى يكررها وينقلها )(9) . هناك إذن فى أى نص جانبان : جانب موضوعى يشير إلى اللغة ، وهو المشترك الذى يجعل عملية الفهم ممكنة ، وجانب ذاتى يشير إلى فكر المؤلف ويتجلى فى استخدامه الخاص للغة . وهذان الجانبان يشيران إلى تجربة المؤلف التى يسعى القارئ إلى إعادة بنائها بغية فهم المؤلف أو فهم تجربته . والقارئ يمكن له أن يبدأ من أى الجانبين شاء ، مادام كل منهما يؤدى به إلى فهم الأخر . وكلا الجانبين – فى رأى شليرماخر – صالحان كنقطة بداية لفهم النص . البدء بالجانب اللغوى يعنى أن القارئ يقوم بعملية إعادة بناء تاريخية موضوعية للنص ، وهى عملية يطلق عليها شليرماخر Objective Historical reconstruction وهى تعتد بكيفية تصرف النص فى كلية اللغة . وتعتبر المعرفة المتضمنة فى النص نتاجا للغة . ولهذه البداية جانب أخر ، وهو ما يطلق عليه شليرماخر Objective divinatory reconstruction إعادة البناء التنبؤى الموضوعى ، وهى تحدد كيفية تطوير النص نفسه للغة . وللبدء من الجانب الذاتى - كذلك - جانبان : الأول هو إعادة البناء الذاتى التاريخى ، وهو يعتد بالنص باعتباره نتاجا للنفس ، أما الجانب الثانى وهو الذاتى التنبؤى فهو يحدد كيف تؤثر عملية الكتابة فى أفكار المؤلف الداخلية.

هذان الجانبان - الموضوعي والذاتى ، أو اللغوى والنفسى - بفرعيهما التاريخى والتنبؤى ، يمثلان القواعد الأساسية ، والصيغة المحددة لفن التأويل عند شليرماخر . وبدونهما لا يمكن تجنب سوء الفهم . إن مهمة الهرمنيوطيقا هى فهم النص كما فهمه مؤلفه ، بل حتى أحسن مما فهمه مبدعه(10) . ورغم تسوية شليرماخر بين الجانبين - اللغوى والنفسي - من حيث صلاحيتهما كنقطة بداية لفهم النص ، فإنه يعود ليلمح إلى أن البدء بالمستوى اللغوى - التحليل النحوى - هو البداية الطبيعية . وهذا يقوده إلى مفهوم ( الدائرة التأويلية ) : لكى نفهم العناصر الجزئية فى النص ، لابد - أولا - من فهم النص فى كليته . وهذا الفهم للنص فى كليته لابد أن ينبع من فهم العناصر الجزئية المكونة له . ومعنى ذلك - فيما يرى شليرماخر - أننا ندور فى دائرة لا نهاية لها هى ما يطلق عليه الدائرة الهرمنيوطيقية . ومعنى ذلك أن عملية تفسير النص - على المستوى اللغوى الموضوعى - بجانبيه التاريخى والتنبؤى - تدور فى دائرة ، ولابد أن تستند إلى معرفة كاملة باللغة من جانب ، وبخصائص النص من جانب أخر . ويمكن بنفس الدرجة تطبيق مفهوم الدائرة التأويلية على المستوى الذاتى النفسى بجانبيه التاريخى والتنبؤى . إن الدائرة التأويلية تعنى أن عملية فهم النص ليست غاية سهلة ، بل عملية معقدة مركبة ، يبدأ المفسر فيها من أى نقطة شاء ، لكن عليه أن يكون قابلا لأن يعدل فهمه طبقا لما يسفر عنه دورانه فى جزئيات النص وتفاصيله وجوانبه المتعددة التى أشار إليها شليرماخر . ومادامت مهمة الهرمنيوطيقا هى وضع المعايير والقواعد ، فإن شليرماخر يكتفى بوضع المعايير العامة التى يراها ضرورية لتجنب سوء الفهم . ولكنة من جانب أخر يرى ( أن نظرية التأويل .. رغم كل التقدم الذى أصابته - ما تزال بعيدة عن أن تكون فنا مكتملا ) ويؤكد بنفس الدرجة استحالة أن يستطيع أى تفسير لعمل ما استهلاك كل إمكانيات معنى هذا العمل . وكل ما يطمح إله المفسر أن يصل إلى أقصى طاقته فى تفسير النص(11) . ورغم النقلة الهامة الهرمنيوطيقا على يد شليرماخر لتكون ( فنا ) مستقلا بذاته عن أى مجال ، فإن كلاسيكيته تتبدى فى حرصه على وضع قوانين ومعايير لعملية الفهم ، ومن ثم لعملية تفسير النصوص . إنه يحاول أن يتجنب ( سوء الفهم المبدئى ) فى أى عملية تفسير . ولكنه فى هذه المحاولة لتجنب ( سوء الفهم ) يطالب المفسر - مهما كانت الهوة التاريخية التى تفصل بينه وبين النص- أن يتباعد عن ذاته وعن أفقه التاريخى الراهن ليفهم النص فيهما موضوعيا تاريخيا . إنه يطالب المفسر - أولا - إن يساوى نفسه بالمؤلف ، وأن يحل مكانه عن طريق إعادة البناء الذاتى والموضوعى لتجربة المؤلف من خلال النص . ورغم استحالة هذه المساواة من الوجهة المعرفية فإن شليرماخر يعتبرها الأساس الهام للفهم ( الصحيح ) . ثم نغمة رومانسية تغلف كلاسيكية شليرماخر تتجلى فى اعتباره النص تعبيرا عن ( نفس ) المؤلف ، وفى مطالبته المفسر أن يكون ذا طاقة تنبؤية ، إلى جانب معرفته باللغة ، حتى يمكنه اكتشاف الجوانب المتعددة للنص . وبهذه الطاقة التنبؤية يسعى الإنسان لفهم الكاتب إلى درجة أن يحول نفسه تماما إليه ، أى أن يكون هو الكاتب . لقد كان شليرماخر - رغم ذلك كله - ممهدا لمن جاءوا بعده خاصة ديلتاي وجادامر ، إذ بدأ ديلتاي مما انتهى إليه شليرماخر من البحث عن تفسير وفهم (صحيحين) فى مجال العلوم الإنسانية ، بينما بدأ جادامر من معضلة سوء الفهم المبدئى التى حاول شليرماخر - فى تأويليته - أن يتجنبها . وبهذا يعد شليرماخر - بحق - أبا للهرمنيوطيقة الحديثة ، وللمفكرين الذين جاءوا وبعده ، سواء بدأوا من الاتفاق أو الاختلاف معه(12) .

( 3 )

تركزت محاولة ويلهلهم ديلتاي ( 1833-1911 ) فى التفرقة بين العلوم الطبيعية والعلوم التاريخية والإنسانية ، وفى الرد على الوضعيين الذين وحدوا بينهما من حيث المنهج مثل أوجست كومت وجون ستيوارت مل . لقد رأى الوضعيون أن الخلاص الوحيد لتأخر العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية يمكن فى ضرورة تطبيق نفس المنهج التجريبى للعلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية ، سعيا للوصول إلى قوانين كلية يقينية ، وتجنبا للذاتية وعدم الدقة فى مجال الإنسانيات . لقد أمنوا أن كلا منهما يخضع لنفس المعايير المنهجية من الاستدلال والشرح ، ورأوا أن الحقائق الاجتماعية مثلها مثل الحقائق الفيزيقية ، واقعية وعملية ، ويمكن بالمثل قياسها(13) .وهذا هم ما عبر عنه جون ستيوارت مل بقوله : ( إذا كان علينا أن نهرب من الفشل المحتم للعلوم الاجتماعية بمقارنتها بالتقدم المستمر للعلوم الطبيعية ، فإن أملنا الوحيد يتمثل فى تعميم المناهج التى أثبتت نجاحها فى العلوم الطبيعية ، فإن أملنا الوحيد يتمثل فى تعميم المناهج التى أثبتت نجاحها فى العلوم الطبيعية لجعلها مناسبة للاستخدام فى العلوم الاجتماعية )(14) ولقد حاول ديلتاي أن يقيم العلوم الاجتماعية على أساس منهجى مختلف عن العلوم الطبيعية . لقد كان صارما فى فلسفته ورفض كلا من الوضعية وميتافيزيقا الكانتية الجديدة . إن الفارق بين العلوم الاجتماعية والطبيعية يمكن - عنده - فى أن مادة العلوم الاجتماعية - وهى العقول البشرية - مادة معطاة ، ولست مشتقة من أى شئ خارجها ، مثل مادة العلوم الطبيعية التى هى مشتقة من الطبيعة . إن على العالم الاجتماعى أن يجد مفتاح العالم الاجتماعى فى نفسه وليس خارجها ، إن العلوم الطبيعية تبحث عن غايات مجردة ، بينهما تبحث العلوم الاجتماعية عن فهم أنى من خلال النظر فى مادتها الخام . إن الإدراك الفنى والإنساني هما غاية العلوم الاجتماعية وهذان يمكن الوصول إليهما من خلال التحديد الدقيق للقيم والمعانى التى ندرسها فى عقول الفاعلين الاجتماعيين ، وليس من خلال مناهج العلوم الطبيعية ، وهذه هى عملية الفهم الذاتى أو التفسير ، نصل إلى مثل هذا الفهم من خلال ( العيش مرة أخرى ( Reliving ) فى الأحداث الاجتماعية .

إن الفشل الذى تعانيه العلوم الاجتماعية ، خاصة المدرسة التاريخية ، فيما يرى ديلتاي - يكمن فى ( أن دراستها وتقييمها للظاهرة التاريخية لم يقم على أساس من الصلة بتحليل حقائق الوعى ، ولم يكن من ثم مؤسسا على معرفة يقينية هى ملاذها الأخير . لم يكن للمدرسة التاريخية - باختصار - أساس فلسفى ، ولم تنشأ لها علاقة صحيحة بنظرية المعرفة وعلم النفس . ولهذا فشلت فى تطوير منهجها)(15) وهذه هى نقطة البدء فى تأسيس ديلتاي للإنسانيات ، وهى إقامتها على أساس معرفى وأساس سيكولوجى .

الأساس المعرفى يتحدد عند ديلتاي فى أن كل معرفة قائمة على التجربة ، ولكن الوحدة الأصلية للتجربة ولنتائجها الصحيحة مشروطان بالعوامل التى تشكل الوعى وما ينشأ عنه ، أى محكومان بطبيعتنا الكلية . ويجب أن نفهم التجربة Experience عند ديلتاي على أساس أنها التجربة المعاشة . هى عملية الإدراك الحى . وليست الخبرة باعتبارها موضوعا للتأمل العقلى ، أى أنها التجربة السابقة على ثنائية الذات والموضوع ، هذه الثنائية تكون عادة من صنع الوعى المفكر فى تأمله للتجربة بعد مرورها(16) . من هذا المنطلق فإن رؤيتنا للعالم الطبيعى تصبح مجرد ظل لحقيقة مختلفة عنا إذ أهملنا حقائق الوعى التى تعطيها تجربتنا الداخلية ، إذ من خلال هذه الحقائق نمتلك الواقع كما هو . وتحليل حقائق الوعى هو مركز اهتمام الدراسات الإنسانية ، ومن خلالها تستطيع تشكيل استقلالها الذاتى عن العلوم الطبيعية . إن التجربة الذاتية هى أساس المعرفة ، وهى الشرط الذى لا يمكن تجاوزه لأى معرفة . وطالما أن هناك مشتركا بين الأحاد من البشر ، فإن التجربة تصبح هى الأساس الصالح لادراك الموضوعى القائم خارج الذات ، إذ هذا الموضوعى - فى العلوم الإنسانية ، خاصة التاريخ - إنسانى يحمل تشابهات من ملامح التجربة الأصلية عند الذات المدركة . وهذا ما يشير إليه ديلتاي بإعادة اكتشاف ( الأنا ) فى ( الأنت ) ، أو إسقاط projection الذات فى شخص أو عمل ، أو بعبارة أخرى ( نفاذ ذات المدرك إلى معطى معقد من التعبيرات )(17) وعلى أساس هذا الإسقاط أو النفاذ تنشأ أعلى أشكال الفهم فى الحياة العقلية ونعنى بها الحياة مرة أخرى فى الموضوع أو الشخص .

ولكن كيف تتحول التجربة الذاتية عند الأخر الذى نسعى لفهمه ، أو نسعى لفهم أنفسنا من خلاله ، إلى موضوع ؟ يتم ذلك - فيما يرى ديلتاي - خلال عملية التعبير ، سواء تمثل هذا التعبير فى سلوك اجتماعى أو نص مكتوب . إن التعبير هو ما يعطى للتجربة موضوعيتها ، إنه يحولها من حالة الذاتية ، ( التجربة الداخلية المعاشة ) إلى حالة خارجية موضوعية يمكن المشاركة فيها . إن التعبير - عند ديلتاي - فى تعبيره عن التجربة الداخلية لمبدعه ، ليس تدفقا عشوائيا للمشاعر والانفعالات بالمعنى الرومانسى ، ولكنه تحديد موضوعى Objectification لعناصر هذه التجربة - التى قد تكون مختلفة ومتباعدة- فى كل موحد . هذا التحديد الموضوعى للتجربة هو ما يؤسس - عنده - موضوعية العلوم الاجتماعية والإنسانية ، ويتباعد بها عن الذاتية التى يتهمها بها الوضعيون . وهذا العبير الموضوعى لا يعبر-بالضرورة - عن ذات المبدع ، بقدر ما يعبر عن تجربة الحياة فى تجربة المبدع . إن تجربة المبدع - حالة تخلقها فى تعبير موضوعى - تتجاوز إطار ذاتيتها ، وذلك لأنها تتجسد من خلال أداة موضوعية هى اللغة فى حالة التعبير الأدبى . وهى من ثم تعبر عن تجربة الحياة . إن ديلتاي يعتبر أن التعبير عن تجربة الحياة يأخذ أرقى أشكاله فى الفن عموما و الأدب خصوصا . إن التعبير فى الفن و الأدب - على خلاف هذا العبير نفسه فى الفكر أو الفعل الإنسانيين - ينصب على التجربة المعاشة وينبع من التعبيرات الحرة للحياة الداخلية . إن التعبير فى الفكر أو الفعل - على خلاف ذلك - أكثر تحددا . إنه - فى حالة الفكر - يقوم على الدقة ويعتمد على وظيفة اتصالية سهلة . وفى حالة الفعل يصعب جدا تحديد العوامل الفاعلة فى القرار المؤدى إلى الفعل. وعل ذلك يعتبر ديلتاي أن الفن والأدب تعبير عن التجربة المعاشة للحياة ، بينما يعبر الفكر والفعل عن تجربة الحياة فقط ، وليس التجربة الحية المعاشة . وإذا كان كل من الفكر والفعل والفن تجليات مختلفة لتجربة الحياة . فإن التجلى لهذه التجربة فى الفن والأدب أكثر حيوية وخصوبة وقابلية للمشاركة الفعالة ولذلك يحتفظ لها ديلتاي بتعبير Experessions of lived experience .. وتعتبر التعبيرات الأدبية - التى تتخذ من اللغة أداة لها - أعظم قدرة من التعبيرات الفنية الأخرى على الإفصاح عن الحياة الداخلية للإنسان (18) . ويؤكد ديلتاي أن مبادئ الهرمنيوطيقا يمكن أن تنير لنا السبيل إلى نظرية عامة فى الفهم ، لأن إدراك بناء الحياة الداخلية يقوم - قبل كل شئ - على تفسير الأعمال الأدبية ، حيث يصل نسيج الحياة الداخلية إلى أقصى أشكال اكتماله فى هذه الأعمال . وبذلك تأخذ الهرمنيوطيقا - عند ديلتاي - بعدا جديدا ، وتنصب على معنى أوسع من مجرد النص ، إنها تدل على فهم التجربة كما يفصح عنها - بشكل كامل - العمل الأدبى ، طالما أنه يتجسد من خلال وسيط مشترك هو اللغة التى يخرج بها من إطار الذاتية إلى الموضوعية . الهرمنيوطيقا - فى ظل هذا الفهم - لا تعنى مجرد عملية الفهم لشيء معطى محدد سلفا ، له وجود خارجى محايد عن المتلقى الذى يحاول أن يفهم هذا الشئ أو النص . إن هناك بين المتلقى والنص الأدبى شيئا مشتركا هو تجربة الحياة . هذه التجربة ذاتية عند المتلقى ، ولكنها تحدد له الشروط المعرفية التى لا يستطيع تجاوزها . وهذه التجربة - من جانب أخر - موضوعية فى العمل الأدبى . وعملية الفهم تقوم على نوع من الحوار بين تجربة المتلقى الذاتية والتجربة الموضوعية المتجلية فى الأدب ، من خلال الوسيط المشترك . وهكذا يتغير مفهوم ( الفهم ) نفسه من أن يكون عملية تعريف عقلية ، إلى أن يكون مواجهة تفهم فيها الحياة نفسها . الفهم - بهذا المعنى - هو الخصيصة المميزة للدراسات الإنسانية ، بعكس العمليات العقلية التى تسعى إلى شرح الظواهر فى العلوم الطبيعية . ولكن كيف تتم عملية الفهم هذه - فهم الحياة لنفسها - من خلال العمل الأدبى ؟!إنها تتم من خلال معايشة التجربة التى يعبر عنها النص . وفى هذه المعايشة يثير فينا النص الأدبى - عن طريق العرض التخيلى الحى للتجربة - أحاسيس وأفكارا ، ومواقف واتجاهات ، متضمنة فى تجربتنا الذاتية . وفى هذه الإثارة يكمن الجانب الأعظم من الكنز الذى نحصل عليه من الشاعر . إنها تفسح المجال للكشف عن مدى تحدد تجربتنا الذاتية وعدم اتساعها ، وهى - من ثم - تفتح المجال واسعا لادراك حاجتنا للانفتاح على عالم النص . إنها بكلمات أخرى - ومن خلال إثارة ما هو متضمن فى تجربتنا الخاصة - تعتمد على المشترك ، ولكنها تكشف فى نفس الوقت عن الإمكانيات المحددة لهذا المشترك ، لتفتح الباب لإمكانيات أوسع ، توسع أفق تجربتنا الذاتية ، فتثرى بمعايشة تجربة النص . إنها تبدأ من المعلوم فى تجربتنا لتنفذ إلى المجهول ، تبدأ من (الأنا ) لتغوص فى ( الأنت ) لا بالمعنى السيكولوجى ، بل بالمعنى العام للتجربة الحية المعاشة. هذا الأفق من الاحتمالات الذى تفتحه لنا معايشة النص الأدبى لا يمكن أن ينفتح بطريقة أخرى. وهذا الانفتاح ضرورى جدا لتعميق تجربة حياتنا ، بل هو أساس لتطور الحياة نفسها فى حركتها المستمرة . وهذا يقودنا إلى المفهوم التاريخى عند ديلتاي لأهميته فى نظريه التأويلية.

الإنسان كائن تاريخى ، بمعنى أن الإنسان يفهم نفسه - لا من خلال التأمل العقلى - بل من خلال التجارب الموضوعية للحياة . إن ماهية الإنسان وإرادته ليست أشياء محددة سلفا ، إن الإنسان ليس مشروعا جاهزا مصمما من قبل ، ولكنه مشروع فى حالة تخلق . إنه يفهم نفسه بطريق غير مباشر ، إنه يقوم بجولة هرمنيوطيقية ( تأويلية ) من خلال التعبيرات الثابتة التى تنتمى للماضى . وبهذا المعنى فهو كائن تاريخى . إن التاريخ - إذا - ليس معطى موضوعيا فى الماضى ، قائما هناك ، ولكن معطى متغير . إننا فى كل عصر نفهم الماضى فهما جديدا من خلال التعبيرات الباقية لنا ، ويكون فهمنا للماضى أفضل كلما توافرات شروط موضوعية فى الحاضر شبيهة بما كان فى الماضى (20) ، إن فهمنا للنصوص الأدبية - سواء تلك التى تنتمى للماضى أم تلك التى تنتمى للحاضر - عن طريق معايشة تجربة الحياة فيها يؤدى بنا إلى فهم أفضل للماضى والحاضر معا . وهذا بدوره يعدل من فهمنا الأنى لأنفسنا وهكذا يفهم الإنسان نفسه من خلال التاريخ باعتباره عملية مستمرة من الفهم والتأويل ، وهكذا يتغير ويتقدم ويتعدل . وكما تمت المعايشة فى النص الأدبى على أساس البدء من المشترك بين تجربتنا وتجربة النص ، كذلك على أساس المشترك بين الماض والحاضر ، نعيش تجربة النص الذى ينتمى للماضى ، ذلك أن للماضى وجودا مستمرا فى الحاضر ، والحاضر يدرك الماضى من خلال تجربته الذاتية .

يرفض ديلتاي - بناء على فهمه العمل الأدبى باعتباره تعبيرا عن التجربة الحية للحياة ، وبناء على فهمه لمعنى التاريخ - فكرة المعنى الثابت ، سواء فى العمل الأدبى أو الحدث التاريخى . إن المعنى - عنده - يقوم على مجموعة من العلاقات . ونحن فى العمل الأدبى نبدأ بتجربتنا الذاتية فى لحظة معينة من التاريخ ، تحدد لنا المعنى الذى نفهمه من العمل فى هذه اللحظة من الزمن . ولكن تجربتنا نفسها تتغير وتكتسب أبعادا جديدة - من خلال الأفاق الجديدة من الاحتمالات التى يفتحها لنا العمل - قد تغير - مرة أخرى - من فهمنا للعمل نفسه . وهكذا ندور فى دائرة هى ( الدائرة التأويلية ) .

وهذه الدائرة تنطبق بنفس الدرجة على معنى الماضى . إن المعنى - فى الأدب والتاريخ - ليس شيئا موضوعيا تماما ولكنه أيضا ليس ذاتيا ، إنه فى حاله تغير مستمر طالما أن العلاقة بين المفسر والموضوع المفسر علاقة متغيرة فى الزمان والمكان . إن ديلتاي فى هذا المفهوم للدائرة الهرمنيوطقية يعتمد على ما سبق أن أشرنا إليه عند شليرماخر من العلاقة بين الجزء والكل فى النص وضرورة فهم كل منهما فى ضوء الأخر فى دائرة لا تنتهى ، ولكنه يتسع بمفهوم الجزء والكل إلى أن يشمل تجربة الحياة نفسهما . إن تجربة ما جزئية فى حياتنا تكتسب معناها من خلال تجربتنا الكلية ، ولست تجربتنا الكلية فى حقيقتها إلا حصاد تجارب جزئية متراكمة . ولكن الجزء يؤثر فى الكل ويغير من معنى التجربة الكلية ، بنفس القدر الذى يؤثر فيه المعنى الكلى فى فهمنا لتجربة جزئية . وما دام ديلتاي قد وحد بين النص وتجربة الحياة ، فمن المنطقى أن يؤمن بتغير المعنى مع تغير أفق تجربة المفسر باعتباره نقطة البداية للفهم ، سواء فى الأدب أو التاريخ . الذى لا شك فيه أن ديلتاي بتركيزه فى النص على التجربة الحية المعاشة ، وبمفهومه للتاريخ ، ولعملية الفهم ، قد وضع بذورا صالحة لمن أتوا بعده خاصة مارتن هيدجر وهانز جادامر ، وكان مؤثرا فيهم بشكل أبعد مما تخيلوا . والذى لا شك فيه أنه أفاد من جهود شليرماخر وطورها وأضاف إليها . لقد لفت ديلتاي الاهتمام بشدة إلى الأفق الراهن ( تجربة الحياة ) للمفسر ، ولكن علينا أن لا ننسى أنه ضحى فى سبيل ذلك بذاتية المبدع . إن التوحيد بين العمل الأدبى وتجربة الحياة بالمعنى الواسع الفضفاض - رغم نبرة الحماس العالية للأدب باعتباره المجلى الأكمل للتجربة - يعتبر الأدب وثيقة إنسانية مثلها مثل أى نتاج فكرى إنسانى ، ويغفل الخصوصية النوعية للأدب. ومن جانب أخر فإن إهدار ذاتية المبدع لحساب التجربة الإنسانية يوحد بين تجربة مبدع وتجربة مبدع أخر ، طالما أن كلتيهما تعبير عن تجربة ( الحياة ) . ولكن علينا أن لا ننسى أن ديلتاي فيلسوف من فلاسفة الحياة يحاول جاهدا أن يقيم أساسا موضوعيا مختلفا ومنهجا مختلفا للعلوم الإنسانية فى مواجهة إخضاعها - على أيدى الفلاسفة الوضعيين - لموضوعية ومناهج العلوم الطبيعية . ومن هذا المنطلق وحده أقام عملية الفهم كسمة مميزة للإنسانيات ، وكان مجال الأدب مجالا خصبا ليطبق عليه مفاهيمه عن الفهم والتاريخ . ولكنه من جانب أخر - وفى مجال دراسة الأدب - لفتنا إلى دور المفسر الايجابى لعملية فهم النص والتفسير ، وهو دور ظل غائبا عن مجال الدراسات الأدبية ، حتى عن النظريات التى نلمس بينها وبين فكر ديلتاي نوعا من التشابه مثل نظرية ( المعادل الموضوعى ) عند النقاد الجدد وعلى رأسهم ت.س. اليوت. صحيح أن دور المفسر هنا يعتمد على الذاتية والانطلاق من التجربة الخاصة ، ولا يعتمد على موقف فكرى فى مجتمع ، كما أن التعبير الأدبى تحدد موضوعى للتجربة الحية ، لا تشكيل رؤية الفنان لواقع محدد فى إطار تاريخى محدد. ولكن يكفى ديلتاي فى إطار فلسفته التأكيد على أن تفسير العمل الأدبى عملية من التفاعل الخلاف بين النص وأفق المفسر ، ينفتح فيه أفق المفسر لإمكانيات من التجربة لم تكن متاحة قبل ذلك ، فتتغير من ثم تجربته وتعمق ، وتكون - بالتالى - قادرة على إثراء معنى النص والنظر إليه من زاوية جديدة . كان لتركيز ديلتاي على تجربة الحياة وعلى دور المفسر فى عملية الفهم أثر هام فى فكر كل من مارتن هيدجر وجادامر اللذين تأثرا به إلى حد كبير ، وإن اختلفا معه فى نقطة البداية وكثير من النتائج ، فيها يرتبط بمفهوم الهرمنيوطيقا وأبعادها .

(4)

يقيم مارتن هيدجر الهرمنيوطيقا على أساس فلسفى ، أو يقيم الفلسفة على أساس هرمنيوطيقى . وكلا العبارتين صحيح ، طالما أن الفلسفة هى فهم الوجود ، وأن الفهم هو أساس الفلسفة وجوهر الوجود فى نفس الوقت . لقد حاول هيدجر - مثل ديلتاي - أن يبحث عن منهج يكشف عن الحياة من خلال الحياة نفسها . وقد وجد فى ظاهرية أستاذه إدموند هوسرل بعض المفاهيم التى لم تكن متاحة لديلتاي . وجد منهجا يمكن أن يفسر عملية الوجود Being فى الوجود الإنسانى Human existence بطريقة تكشف عن الوجود ، لا عن التصور الأيديولوجى للوجود . لقد رفض هيدجر فى نظرية الوجود فى الفلسفة الغربية اعتبارها الإنسان هو محور الوجود ، وهو العنصر الفاعل فى المعرفة ، وإعطائها للوجود دورا ثانويا يخضع فيه للذاتية ويستجيب لمقولاتها . وإذا كانت الفلسفة الظاهرية Phenomonologyقد كشفت فى مجال المعرفة أهمية الادراك القائم على مفاهيم قبلية للظاهرة ، فقد اعتبر هيدجر هذا المجال هو الوسيط الحيوى للوجود التاريخى للإنسان فى العالم . ولكن هذه المفاهيم القبلية تختلف عن المقولات العقلية التى اعتد بها الفلاسفة قبله . إن هذه المجال الحيوى هو إدراك الإنسان لوجوده فى شكله الأكمل ، هذا الادراك هو ما يشكل المجال الحيوى للمعرفة وللوجود عند هيدجر . ولذلك رفض هيدجر فى فكر أستاذه هوسرل فكرة الوعى الذاتى واعتبرها هى الذاتية الكانتية نفسها . لقد رأى هيدجر - فى وعى الإنسان لوجوده - مفاتيح لفهم طبيعة الوجود كما يفصح عن نفسه فى تجربة حية . وهذا الفهم تاريخى وأنى فى نفس الوقت ، بمعنى أنه ليس فهما ثابتا ، ولكنه يتشكل من خلال تجارب الحياة الحية التى يواجهها الإنسان . هذا الوعى - فى نظر هيدجر - يتجاوز مقولات الزمان والمكان ومفاهيم الفكر المثالى . لقد كان الوجود - عند هيدجر - هو السجين المختفى والمنسى تماما فى المقولات الاستاتيكية للفلسفة الغربية ، السجين الذى كان كل أمل هيدجر أن يخلى سبيله(21) . إن حقيقة الوجود - عند هيدجر- تتجاوز الوعى الذاتى وتعلو عليه ، وبما أن هذا الوعى تاريخى وإن بدأ بالإدراك الذاتى للوجود ، فهو عملية فهم مستمرة . ومما له دلالة - بالنسبة للهرمنيوطيقا - أن هيدجر - يعتبر الهرمنيوطيقا - وهى كلمة لم ترد فى كتابات هوسرل - هى الظاهرية بكل أبعادها الأصلية ، ويعتبر أن مهمته فى كتاب ( الوجود والزمن ) Being and Time هى إقامة هرمنيوطيقا للوجود Hermeneutic of Dasein . ولكى يحدد هيدجر فلسفته الظاهرية ، يعود إلى الأصل اليونانى للمصطلح Phenomonology ويرى أنه مكون من جزئين Phainomenon و Logos . يشير الجزء الأول من الكلمة إلى ( مجموع ما هو معرض لضوء النهار ) أو( ما يمكن أن يظهر فى الضوء ) . هذا التجلى أو الظهور للشئ لا يجب التعامل معه على أساس أنه أمر ثانوى يشير إلى شئ أخر وراءه . إنه ليس عرضا من أعراض الشئ ، ولكنه ظهور الشئ كما هو(22) . وبكلمات أخرى ليس وجود الشئ - أو تجليه للإدراك - أمر ثانويا غير الشئ ذاته ، بل هو ماهيته الأصلية . وينتهى هيدجر إلى أن المنهج الظاهرى يقوم على أساس ترك الأشياء لتتجلى أو تظهر كما هى دون فرض مقولاتنا عليها . لسنا نحن الذين نشير للأشياء أو ندركها ، بل الأشياء نفسها تكشف لنا نفسها . إن الأصل الحقيقى للفهم الصحيح هو أن نستسلم لقوة الشئ ليكشف لنا عن نفسه . ولكن كيف تكشف الأشياء عن نفسها ؟ فى تحليل هيدجر للجزء الثانى Logos يرى أنها لا تدل على الفكر ، لكنها تدل على الكلام ، ووظيفته التى تجعل الفكر ممكنا . إن الأشياء تكشف نفسها من خلال اللغة ( الكلام Speaking ). واللغة – هنا – ليست أداة للتوصيل اخترعها الإنسان ليعطى للعالم معنى ، أو ليعبر عن فهمه ( الذاتى ) للأشياء . اللغة تعبر عن المعنوية Meaningfullness القائمة بالفعل بين الأشياء . إن الإنسان لا يستعمل اللغة ، بل اللغة هى التى تتكلم من خلاله . العالم ينفتح للإنسان من خلال اللغة . وبما أن اللغة هى مجال الفهم والتفسير ، فالعالم يكشف نفسه للإنسان من خلال عمليات مستمرة من الفهم والتفسير . ليس معنى ذلك أن الإنسان يفهم اللغة ، بل الأحرى القول أنه يفهم من خلال اللغة . اللغة ليست وسيطا بين العالم والإنسان ، ولكنها ظهور العالم وانكشافه بعد أن كان مستترا ، إن اللغة هى التجلى الوجودى للعالم . مثل هذه الظاهرية هرمنيوطيقية ، بمعنى أنها تتضمن أن الفهم لا يقوم على أساس المقولات والوعى الإنسانيين ، ولكنه ينبع من تجلى الشئ الذى نواجه ، من الحقيقة التى ندركها(23) ولكن هل يبدأ إدراكنا للشئ ، وبالتالى فهمه ، من فراغ ؟ إن الإنسان – فيما يقول هيدجر – يجد فى وجوده ، وعلى مدى هذا الوجود ، فهما محددا لماهية الوجود المكتمل . هذا الفهم - كما أشرنا - ليس فهما ثابتا ، ولكنه فهم يتكون تاريخيا ، وينمو فى مواجهة الظواهر . إن الوجود الإنسانى - الوجود فى العالم - فى ظل هذا الفهم عملية مستمرة من فهم الظواهر والوجود فى نفس الوقت . وهكذا تصبح الظاهرية عند هيدجر هرمنيوطيقية ، وتصبح الهرمنيوطيقا - عملية الفهم - وجودية . إن الفهم هو القدرة على إدراك الاحتمالات الوجودية للفرد فى سياق حياته ووجوده فى العالم . إن الفهم ليس طاقة أو موهبة للإحساس بموقف شخص أخر ، كما أنه ليس القدرة على إدراك معنى بعض تعبيرات الحياة بشكل عميق . إن الفهم ليس شيئا يمكن تحصيله وامتلاكه ، بل هو شكل من أشكال الوجود فى العالم ، أو عنصر مؤسس لهذا الوجود . وعلى هذا يعتبر الفهم - من الناحية الوجودية - أساسيا وسابقا على أى فعل وجودى . ولكن إذا كان الفرد يبدأ من خلال وجوده - وعلى مدى هذا الوجود - بفهم المعنى المكتمل للوجود ، فكيف يفهم وجوده فى العالم ؟ إن العالم – عند هيدجر – ليس مجموعة من الكليات entities المنفصلة ، ولكن مجموعة من العلاقات تعلو على الذاتية والموضوعية . إن الإنسان وحده هو الذى يمتلك العالم ، لا بمعنى أن العالم يوجد من خلال الادراك الإنسانى ، وألا تناقض هيدجر مع نفسه . وعاد إلى الذاتية التى يرفضها فى الكانتية الجديدة . الإنسان يمتلك العالم بمعنى أنه يعيش فيه ، ولا يدرك إلا من خلاله . إنه يبدأ من خلال إدراك وجوده الذاتى إدراك العالم حين يكشف له العالم عن نفسه ، أو حين يسمح للأشياء أن تظهر . وظهور العالم وانكشافه إنما يكون من خلال


الهرمنيوطيقا - لايبنتز - 02-21-2008

الهرمينوطيقا أو اسم الفلسفة الآخر




عبد العزيز العيادي



أيا كانت دلالة لفظة التأويل في اللسان ، إخبارا إستباقيا أو كشفا للمتخفي أو أوْلاً أي رجوعا و عوْدا أو إئتيالا بمعنى التدبير و السياسة أو مآلا بدلالة المصير والتصيّر إلى غاية ، فإنّ المدى الفلسفيّ للإستشكال يمتد بعيدا في نصوص اليونان ويوغل حاضرا في مقاصد الفلاسفة وكأنه من الفلسفة رغبتها المستديمة في الإستيثاق مما تصل إليه وما تكاد تصل حتى تتحير في ما لا يتسع له"سرير بر وكست" فتعاود الكرّة علّها تظفر بالقول الذي يطرد ما يندّ عن التطويق. وما تلك المعاودة لغو أو خواء قول أو افتقار للصرامة وإنما هي الهرمينوطيقا انفتاحا و عدم اكتمال هما من الفلسفة ذاتها ما به تسمّت"ثمازاين" أو دهشة. لذلك يجدر بنا أن نحدد ما تكونه الهرمينوطيقا مصدرا وتوتـــــــــرات وانشغالا راهنا لعلنا نستكشف ونحن نحاورها أنّ الأمر يتعلق بالفلسفة ذاتها في كبرى انشغالاتها.

مصادر الهرمينوطيقا

في نص البروتاغوراس لأفلاطون يبدو هرمس مبــــعوثا من طرف زوس لـ" يحمل للناس الرصانة والعدل ليقوما من المدن مقام القواعد وليوحّدا بين الناس بأواصــــــــر الصداقة" . فهرمس مبعوث ورسول وناطق باسم زوس وهو ما يعني أن الإشكال المبدئي هو إشكال التواصل وقسمة المعنى ذلك أنّ"التجريد الأقصى يتأتى من الإقتضاء الحاد لأفضل تواصل ممكن" فكأنّ الإنسان ليس كائنا سياسيا وعاقلا إلاّ لأنه كائن متكلم إذ الكلمــــة كشف وإفشاء واظّهاروهي بالتالي سبيل وموقع تقاطع وتبادل، لذلك نجد أفلاطون مرة أخرى يربط اسم هرمس بالخطاب إذ"يبدو جليا أنّ اسم هرمس يرتبط بالخطاب. فهومؤوّل ورسول ولصّ حاذق وملبّس كلام وتاجر ماهر. إن نشاطه كله مرتبط بقدرة الخطاب"

دون المكوث طويلا عند الأصل التّأثيلي للهرمينوطيقا يكفينا أن نشير بدءا إلى أنها بالأصل تأويل وشرح للنصوص المقدسة ثم تحوّلت بالتدريج لتطال كل صنــــوف الكتابات وصولا إلى تطبيق طرائقها على ما ليس نصا باعتباره نصا، فكأن اللغة تربو تأويليا على الصيغة اللفظية لتشمل الحركات والإيماءات والملامح والأفعال وبالإجمال فإنّ ما يؤوَّل هو كل ما يتطلب قراءة وتفكيكا واستشفارا .

في درس سداسية صيف1923 الذي عنوانه:الأنطولوجيا(هرمينوطيقا الوقائعية) يشير هيدغرإلى المصدرين الأساسيين للهرمينوطيقا الغربية:المصدر الأرسطي والمصدر الإنجيلي. من ناحيته يعود ميشال فوكو بتقنيات التأويل إلى النحاة اليونانيين. لكــــــن إذا كان هيدغر يلحّ على تحوّل دلالة اللفظ منذ القرن السابع عشر وهو التاريخ الحاسم الذي مكّن من تشكيل هرمينوطيقا ذات طابع فلسفيّ فإنّ اهتمام فوكو قد انصبّ على بيان عطالة تقنيـــــات القرن السادس عشر التأويلية طيلة القرنين اللاحقين إذ وحده القرن التاسع عشر سيضعنا مع ماركس وفر ويد ونيتشة"إزاء إمكانية جديدة للتأويل، فهؤلاء قد أرســـــــــوا مجددا إمكانـــا للهرمينوطيقا" . لكن ومع هذه الإشارة الفوكوية لعله من اليسير الرجوع بالإشكـــــــال إلى الكانطيين الجدد مثل وندلباند(Windelband) الذي يقابل بين العلوم المعيارية أو علـــــــوم الفكر وعلوم الطبيعة، ريكارت(Rickert) الذي يطالب بضرورة نقد للعقل المحض في علوم الثقافة وليس في علوم الطبيعة فحسب وديلتاي(Dilthey ) الذي يبحث عن"إتمام أعمـــــــال كانط بتحديد شروط وقيمة وحدود المعرفة التي نحصّلها عن العالم التاريخي" .

في هذا المسار تتنزل الإشكالية التي وضعها ديلتاي في تمييزه المعروف بين التفهم والتفسير وبين علوم الطبيعة وعلوم الأخلاق وهو تمييز يربط أساس علوم الأخلاق بأسماء فولف وهمبولدت وشليرماخر وغريم(Grimm) وهو أمر تمّ تشكيله إلـــــى حدود منتصف القرن التاسع عشر نتيجة أبحاث المدرسة التاريخية في ألمانيا خاصة . لكن الرجوع إلى هؤلاء هو الــذي سيمثــــــل إشكـــــالا بالنسبــة إلــــــى التطورات اللاحقـــــــــــة في الهرمينوطيقا إذ بالإمكــان أن نتبين تباعدا مثلا بين غدمار وكارل اتّوأبال من ناحية و بين هيدغر من ناحية أخرى. غدماريعود لاستثمار أعمال شليرماخر وديلتاي، أبــال كان طوّر المقدمات الحاضرة في بحوث غدمار وأعاد التفكر بالمسألة الهرمينوطيقية في أفق وفي لغة ينتميان إلى الكانطية الجديدة ، بينما اختار هيدغر الفينومينولوجيا الهوسرلية في مواجهــــة الإبستيمولوجيا والأكسيولوجيا في صيغتهما الكانطية الجديدة وهي الصيغة التي مثلت مرجعا جداليا مستمرا بالنسبة إلى هيدغــــر الذي يقيم عرضية الوجـــود التاريخي الوقائعــي في وجه كلية الدلالات المنطقية. وإذن كأن الخـــلاف مع الكانطيين الجدد يتمحور حــول ما إذا كانت المعرفة معرفة بالمبادئ والعلل و حول ما إذا كانت الفلسفة هي علــم المبادئ الأولى. بإيجاز شديد يمكن القول مع ريكور إن تراكم العوامل الثلاثة التالية هو الذي كان في أصـل عودة الحياة إلى المسألة الهرمينوطيقية: الترابط بين تفسيـــر النصــوص الدينية وفقه لغــة النصوص الكلاسيكية، تطوّر العلوم التاريخية، الحوار الذي نشأ في القرن التاسع عشر حول العلاقة بين علوم الإنسان وعلوم الطبيعة وبين التفهم والتفسير .

2 . الهرمينوطيقا بين التراث ومعضلة الذات

مرة أخرى، وبالنسبة إلى الكانطيين الجدد مثل كاسيرر هذه المرة ، يتمثل التأويل في"مهمة حاضرة موجَّهة نحو المستقبل الذي يستدعي تملّك عصر منصرم؛ إلاّ أنّ هذا العصر ذاته يرى ذاته مستندا إلى ماض ومكرَّسا لمهمة حاضرة ومفتوحة على مستقبل عليها أن تجد فيه ذاتها" . لكن إعادة تملك الماضي هذه هي التي يعترض عليها الفعل الهرمينوطيقي إزاء التراث إذ لا يهمّ الهرمينوطيقا استحضار الأصول أو إعادة ترميمها من أجل تملّك أفضل لها وهي لا تعيد إنتاج التقويم الميتافيزيقي التراتبي ولا تبحث عن إقامة تراتب نظري ـ سياسي كالذي كان حدّده أر سطو في مقالة الألف الكبرى من ا لميتافيزيقا حيث يكون الفيلسوف دوما إلى جانب البدء والأصــــــل والرئاسة. فالهرمينوطيقا لا تعمل على استعادة الميتافيزيقا ولا تعمل أيضا على تعويضها وهي حين تقيم علاقة بالماضي فلأنها تعمل على تفهّم سياق الدلالات لا لتبحث في الماضي عن أصل ثابت وإنما لتعري ما يزعم لنفسه هذه الصفة ولتكشفه كأفق تاريخي محدود ومخصوص. بل إن الماضي التاريخي" لا يستحق مــا نمنحه من أهمية إذا لم يكن له أن يعلمنا شيئا ليس بإمكاننا العثور عليه في أعماقنا" . ليس ثمة إذن بالنسبة للهرمينوطيقي تطور تراكمي بدءا من أصل متباعد وإنما الذي يوجد هو استمرار متجدد لإعادة التأويلات مما يجعل كل فكر عظيم كائن في الماضي يمثل حزمة أو جمهرة من المعاني ليس لنا أن نختزلها أو نتعامل معها انتقائيا.

يتمثل التحدي الهرمينوطيقي في كشف الإمكانات الثرية والمتجددة لكل ما يٌنقَـَـل إلى حيز مغاير أو إلى زمن مغاير بدخوله في علاقة حوارية مع متقبليه الجدد. فلا شيء إذن منغلق كليا في موقعه الأصلي: الأعراف و الأساطير و الأحلام والأعمال الفنية والنظريات العلمية، كل هذه التمظهرات تتجه نحو مملكة المعنى مع إمكانية تحويل معنى العبارات إلى أفعال ومعنى الأفعال إلى جمل دالة بما أنّ الذات تعبر عن ذاتها في الأفعال كما في المقولات العامة للسان إذ بــ"مواجهتها لرمزية الفعل تجد التأويلية مسلكها المخصوص...، فالرمزية يُنظَر لها في نفس الآن كقناع وكدينامية. هذه الثنائية تجعل الرمزية تستدير نحو الفعل لكن وبفعل معاكس يُعتَرف بحضورها الـــذي لا يُقهر" . هذه الحركـــة المزدوجة تستــوجب استشفارا هرمينوطيقيا يتوافق والمسافة التي تعبر عنها الذات وتقيمها بينها وبين تموضعاتها. بهذا المعنــى يمكن الحديث عن هــرمينوطيقا للتعبيــرات غير اللغوية كتلك التــي طوّرها بلسنار(Plessner) على أثر ديلتاي الذي يرى أنّ مقصد التفهّم الهرمينوطيقي هو ثلاثة أقسام من التمظهرات الحيوية: تعابير اللسان والأفعال و تعــابير التجربة المعيشة . ترابــط هذه الأقسام الثلاثة"هو الصيغة العامة التي تكون بها الإنسانية حاضرة لدينا كموضوعات لعلوم الأخلاق. بهكذا شكل تتأسس علوم الأخلاق في هذا الترابط بين الحياة والتعبير والتفهّم" . لا يتوجه اهتمامنا في هذا الترابط إلى ما هو سيكولوجي أو إلى المعيش من حيث هو وعي ذاتي بالحالات العضوية وإنما إلى التفهم الهرمينوطيقي الذي يدرك تفاعل الأقسام الثلاثة المذكورة آنفا كإنشائية أي كإبداع للمعنى حيث لا تضاف الدلالة كتطعيم للواقعة الخام بل تكون أساسية وأولية في المعيش دون أن تتحول إلى تحصيل حاصل للتجربة المعيشة. فالتأويل موشوم في الحيــاة الفرديـــة والجماعيــة التي تقتسم الحقــائق داخل ثقافة معينــة حيث يتآزر النــاس أو يتواجهون، يتساندون أو يتمانعون، يبسطون وجودهم فتتعاظم قواهم أو يضيّـقونه فتنحســر تلك القوى.

يتعلق التفهم الهرمينوطيقي إذن بالروابط المشتركة دون زعم التوصل إلى إضاءة كلية لحياة الناس الذين يعيشون تواصلا وتفاعلا اجتماعييْن، إنها إضاءة وككل إضاءة لها دائما ظلالها لذلك لم يعد التوصل إلى الحقيقة هو التوصل إلى حالة الضياء الكلي الذي يعرّف اليقين كما كان الأمر في تراث الميتافيزيقا بل هو المرور إلى مجال الحدثان الذي يشــارك ويتشارك الناس فيه. لكن هذا الإشتراك قد يرهــق الهرمينوطيقا بكــامل تراث الذات(sujet) والأنا والشخص بينما هي تحاول التخلص من كل ذلك متجهة صوب عين الإنية(le soi) ، ولعل تحديها الأكبر يتمثل في المرور بسلام بين الكوجيطو الديكارتي والذات البنيوية التي وقع تفكيكها كليا. فمواجهة الهرمينوطيقا للذاتوية بل وحتى للذاتية من حيث هي الأساس الذي يقوم عليه موضوع المعرفة في الفكر الحديث هي مواجهة التفضية الإستلابية بين الذات والموضوع ومواجهة المنهج الذي باسمه تُمَطلـَـق الحقيقة . والذاتية التي نعني ليست الذاتية السيكولوجية حيث لا يتعلق الأمر بتذييت المعرفة بل هي الذاتية كقوام أومقوّم(subjectum) عليه يتأسس موضوع المعرفة الحديثة من ديكارت إلى هيغل. فالهرمينوطيقا لا تبحث إذن عن تصليب الذات وتصليدها بقدر بحثها عن إعادة رسم مسارات التذييت وهو ما يعني إعادة وضع أهم تعاريف الإنسان التي بلورتها الميتافيزيقا موضع نظر ذلك أنّ الكينونة ليست واقعا معطى بل هي انبثاق وحدثان له من الشمول ما لحدثان العالم لذلك يؤكد ريكور أن" تأويل الرمزية لا يستحق اسم الهرمينوطيقا إلا بقدر ما يكون جزءا من تفهم عين الإنية ومن تفهم الكينونة" .

3. الفينومينولوجيا الهرمينوطيقية

على الفلسفـــة إن لم تكن لها مهمة نظرية وحسب أن تفـهم وأن تـؤوّل الظاهـــرات الخِطابــــية(discursifs) وغير الخِطابية. فالتأويل" يشير إلى ظاهرة تتجاوز بوضوح بوتقة النشاطات المعرفية والنظرية بالمعنى الضيق إلى حد أنّ ما يتجلى من خلال هذه النشاطات يكون كيفية وجود أكثر من كونه خاصية للفكر" . فالنظري والصوري هما نتيجة رغبة علمية في صنع وفي بناء العالم وهي رغبة كثيرا ما تنتصر على رغبة احتياز المعنى. يتمثل الموقف النظري والصوري في التخلص من أشكال التشوّش التي تتلبس اللغة العادية ومن أشكال التنوع والتحـرّك التي تخـــالط ما هو عيني. هذا التخلص من التشوّش أو الضجيج هو الدرجـة القصوى للـغة محض مطـهّرة من كل العناصر الني لا تقبل الترميز. لكن إذا كانت الصوريـة تُقحِم في كل خـطاب عـلمي لغة ـ أساسا(langage-base) تعرّف الحقيقي بقابلية التحقق المنهجي وفق مقاييس قابلة للمراقبة، فإنّ الهرمينوطيقا تعمل جهة اللوغوس العامل هو ذاته لغة ومعقولية وحياة في دينامية وشمولية الكينونة، إنها تحرص على تفهّم لغة الآخر واللغة الأخرى عوضا عن ابتلاعهما في لغتها الخاصة.

هل تعني هذه المقارنة الموجزة بين الصوري والهرمينوطيقي معاداة الهرمينوطيقا للإبستيمولوجيا؟ أليس ثمّة إمكانية لإعادة تنزيل التجريب العلمي داخل الدائرة الهرمينوطيقية الأوسع للحدّ من الغلوّ الدغمائي للتقنوية والعلماوية؟ هل تقتضي البرهنة إقصاء" الرجوع إلى الأشياء ذاتها" وهل تُعفي التجربة المعيشة من الإستدلال؟ ألا إمكانية للمواءمة بين أمثليات الفكر النظري والصيرورة التاريخية للعقل؟ أليس بإمــكاننا أن نـــــكون في نفس الآن بجـوار الطبقات الرســـــــوبية البعيدة ـ القريبة وبجوار راهنية الحدوث الذي يتطلب التفهم؟ هل تقصي الحقيقةُ الموضوعيـــــة الدلالةَ الإتيقية وهل يُجبر بناء العلوم على إزاحة الخاصية الإنشائية؟ كـــــيف لنا أن نفهم مثــــلا تعـــايش" الرياضيات و الإزهرار الجنوني للميثولوجيا" عند اليونانيين؟

لقد بيّن كويري(A. Koyré ) بحصافة أنّ العلم الحديث قد استعاض عن عَالَم الكيفيات والإدراكات الحسية بعالَم كمّي ورياضي. هذان العالَــمان الموحَّدان في" البراكسيس" يظهران مع ذلك مفصولين في النظرية، فوجود" عالمين يعني وجود حقيقتين أو أنه لا وجود إطلاقا للحقيقة" . فالمعرفة العلمية التي تجتثّ حيوية أنسجة الحدثيات الأصيلة تظل غريبة عن المحايثة الجذرية بحكم أسسها الأنطولوجية التي تمكّنها من أن تكون موضوعية باقتصارها على معرفة الموضوعات وبتجاهلها تبعية النظري للماقبنظري. هذه التبعية، وحدها الفينومينولوجيا تقدر على تفهّمها بعودتها إلى الطبقات الرسوبية وبتمكنها من الكيفيات الأولية والثانوية وبتأكيدها لحق الأشياء ولقدرات الجسد وبإيغالها في الإنبثاقات الطالعة قبل كل قسمة. إلا أنّ فينومينولوجيا قادرة على توصيف كيفية انعطاء الأشياء في مداراتها الأصلية لا يمكنها أن تكون مجرد مدخل إلى الميتافيزيقا كما عند كانط أو فينومينولوجيا دون فينومينات كما عند هيغل أوفينومينولوجيا غير فينومينولوجية كما عنـد هــوسرل بل هي فينومينولوجيا هرمينوطيقية أي أنها ليست مجرد تقنية تأويلية وليست كذلك فلسفة تبدي اهتماما خاصا بالتأويل في توصيفها للوجود، إنها فتحة تاريخية بها تحدد كل ثقافة إمكان ولوجها العالم. وبما أنها لا تلتفت إلى هذا الآتي من الماضي وحسب بل فإنها تصغي إلى هذه القارات اللسانية التي تعاصرنا مع أنها تبدو لنا متباعدة وغريبة في نفس الآن.

لا تطمح الفينومينولوجيا الهرمينوطيقية إلى الحد من طموحات العلم أو الميتافيزيقا ولا تبحث عن تعويضهما بما إنها ما عادت تهتم بالحقيقةـ الأصل أو الحقيقة ـ الأساس. إنها تبحث عن المعنى مدرِكة أنه ليس موحَّدا وليس متجانسا ولا هو" كالزبدة فوق قطعة الخبز". وحتى إذا وجدت الهرمينوطيقا سندا في الميتافيزيقا فإن الإختلاف بينهما يظل قائما ذلك أنّ الميتافيزيقا وهي تنطلق من عالمنا تجد عالما آخر يعلوه بينما الهرمينوطيقا" تكشف وتعرّي وتضيء عالَم حياتنا المعطى وتكشف ما كان فيه متخفيا، نعني معناه المتحجّب وبنيته المخصوصة ومأساته الداخلية".

الهرمينوطيقا هي فنّ الكثرة وهي ليست" فلسفة أولى" و " ليست تجاوزا للميتافيزيقا" والفيلسوف الهرمينوطيقي لا هو داعية الكينونة ولا هو سابر الأغوار. إنه هذا الذي يتصيّد المنكسر واللامتصل والمتقطع كما لعبة القوة والحقيقة في علاقات الجماعات الإنسانية المتصارعة وهو يدعونا إلى البحث و" كأننا وَجدنا ومازال علينا أن نجد لكن وَجدنا وكأنه علينا أن نبحث دائما ونحقق ذواتنا لانهائيا" . وهكذا، أليس على الهرمينوطيقا الباحثة عن المعنى أن تفهم معناها هي ذاتها ولِم لا، لامعناها حتى لا يسيجها الحذر والتوفيق وتسييج المعنى ذاته؟

4 . الهرمينوطيقا وفلسفة الفرق

لكن في هذه الحالة ألا تفتح الهرمينوطيقا على فلسفة الفرق؟ بصيغة أخرى، ألا تقوم ضد النسق الهيغلي تخصيصا؟ منذ أكثر من ثلاثين سنة" ليس ثمة حديث إلا عن تجاوز هيغل وإرباكه وتأزيمه بسرقة لغته وإخضاعه ومحاكاته بسخرية بغية التخلص من أذاه" . فالتفكير خارج هيغل يعني القطع مع صيغة للتفلسف دامت طويلا، واستئصال الفلسفة الهيغلية معناه توجيه التفلسف نحو إمكانات أخرى خارج التقفيص والمجانسة والتماهي أي خارج النسق كمعرفة مطلقة ومجردة ومبنية للمجهول. ولعله بهذا الإ ستئصال يتم تفكيك التحالف بين المفهوم والمعنى أو بين المعرفة والسلطة أو تفكيك هذه " الصداقة السرية القديمة بين الأنوار والنفوذ وذلك التحالف القديم بين الموضوعية النظرية والإمتلاك التقني ـ السياسي " .

يتعلق الأمر إذن بإفساد هذا التحالف والإخلال بعمل المفهوم وبصبره التشميلي الذي كان منذ أرسطو باحثا عن تأسيس الحقيقة المطلقة وعن المعنى كماهية للإنسان في مبدإ عدم التناقض إذ من طبيعة المعنى عمله على الإستحواذ وعلى الإخضاع وعلى إقصاء كل مالا يستجيب لطابعه الكلياني. هيمنة المعنى هذه هي التي تبحث فلسفة الفرق على تعريتها من قدسيتها للتأكيد على اللاإتصالية الإبداعية الأعمق والأثرى من إرادة المعنى التي كثيرا ما وقعت المماهاة بينها وبين إرادة الحقيقة. لذلك كان دلوز كتب أنّ " المعنى واللامعنى بينهما علاقة مخصوصة لا يمكنها أن تكون استنساخا للعلاقة بين الحقيقي و الخاطئ أي أنه لا يمكن إدراكها كمجرد علاقة انتفائية". التخلص من هذه العلاقة الإنتفائية معناه الإلتفات إلى ملاحظة التباين أو الإختلاف والسيمولاكر والطيات العاملة على وضع حدّ للخطية والغائية وهو ما يستوجب مخاطرة "الكتابة" التي هي تخلص من التصنيف ومن المعنى الذي تُصوَّب نحوه الفكرة وتعتّمه الصورة. فالكتابة تكشف الجهة الأخرى في ما وراء الأسوار، إنها حركة مغالاة أو شطط تنسل أبعادا متكثرة وتفسد خيوط العنكبوت التي منها تُقدّ ضروب التغليق. الكتابة تقاس" بالعنف الذي يمكنها من تجاوز القوانين التي يعتمدها مجتمع أو إيديولوجيا أو فلسفة حين بحثها جميعها عن التلاؤم مع ذاتها في صلب حركة رشيقة للمعقول التاريخي". لكن الكتابة لم تتخذ هذا الشكل إلا لأن صورة الحداثة ذاتها مشروخة ومفكَّكة ومنخلعة. مترحِّلة إذن يجب أن تكون الكلمة حتى وإن فقدت صوتها في صمت لا يُقهَر وهذا الترحل هو انزياح منحرف أو مائل يحاول التخلص من الإنحباسات والصنافات التي هي" أعوان السلطة في الفلسفة".

إعادة التفكير في المفارقة و الفرادة والإنشقاق واللاتزمّن، هي ذي اليوم مهمة الفكر. فالفيلسوف لم يعد هو هذا الطائر الليلي الذي تحدّث عنه هيغل ومملكته لم تعد مملكة المعنى التي يحرسها عقل الفلسفة وعقل الدولة. ومع ذلك فإن اعتبار فلسفة الفرق كهرمينوطيقا مدفوعة إلى الحد الأقصى ترتفع في وجهه أصوات كثيرة بعضها لا يرى في هذا المنحى الفكري غير عودة" ذئب السفسطائية المتوحش والمكشّر عن الأنياب القاطعة لرعونته" والبعض الآخر لا يرى في فلسفة الفرق غير" شمس وهمية تدفئ النفوس دون أن تغيّر شيئا من البؤس الواقعي".

لا ريب أنّ لفكر الفرق ثغراته ونواقصه ولكنه ليس فكرا مخفقا حتى وإن فكر في الإخفاق. وإذا كان ثمة خطر تتوجّب مواجهته فلن يكون الفرق و إنما بؤس الإمتثالية والتلفيقية وحظر مسالك الإبداع على شجاعة الفكر الذي لم تنهكه كثرة المراتيج. وبالمثل، ما تتوجّب مواجهته في الهرمينوطيقا هو جنوحها إلى الكلية وإلى طوباوية مجتمع المؤوِّّلين الذي يكون ولوجه خروجا من مجتمع المعرفة والسياسة.

إجمالا، التفهم الهرمينوطيقي لا يفتأ يلتهم مــواقع انطلاقه وبصيغة نيتشية" لبناء معبد لا بدّ من هدم آخر: ذلك هو القانون، وليــرني أيّ كـــان حالــة واحــدة تندّ عن هذا القانون". لا يتعلق الأمر إذن بإعطاء معنى لما لا معنى له وإنما بالإستحواذ على تأويل موجود لقلبه وتحطيمه وتغيير اتجاهه. فليس ثمة أصل تابت وقرار مكين هما اللذان يقع تأويلهما، بل كل شيء تأويل يستحوذ على تأويلات استحوذت هي بدورها على غيرها من التأويلات. وليست خاصيــة غموض العــلامات الأولى هي التي تدفعنا إلى التأويــل وإنما نحــن مدفوعون إلى التأويل لأننا إزاء تأويلات قائمــة تحت كــل ما يتكلم، وهو مــا يعني أنّ إحــدى الخصائص الأساسية للهــرمينوطيقا هي عدم الإكتمال وذلك أمر يمنحنــا إمكانية الحديــث عــن زمــن هرمينوطيقي ليس هو زمن العلامــات الــذي هو زمن الإقتضاءات والآجال وليس هــو زمن الجدلية الذي يظل رغم كل شيء زمنا خطيا وإنمــا هو زمن دائري ولكنه مركّب وليفيّ مما يجعل الهرمينوطيقا مهدّدة دوما بإعادة تأويل ذاتها. لكن هذا العود الدائريّ بإمكانه الإفلات من ذلك التهديد بغياب العمــق وليس بغياب المجهول والــصمت والمنطقة المشتركة بين المعنى واللامعنى. فلم يعد الأمر متعلقاـ كما في الميتافيزيقاـ بثنائية الماهية والعرض أو كما في العلم بالعلاقة بين السبب والنتيجة وإنما يتعلق الأمــر بالتضايف بين الفينومين والمعنى وبالتــالي بكثــرة وتنوّع وتتابــع وتمــاعي المعــاني التي تجعل من التأويــل فنّا وربما الفــنّ الأرقــى في الفلسفة حيث يحميها من كل إطلاقية. إذن إذا كانت الهرمينوطيقا تأبينا للمعرفة المطلقة وإذا كانت طلقت البحث في الأصــول فلهــا على الأقل حياكة العلاقات التي تجذر وتفتــح في نفس الآن . لقد كتب مرلوـ بونتي ومــا بالعــهد من قِدم" ما لم يكن أيّ أثر يكتمل بإطــلاق فإنّ كل إبداع يغيّر ويبدّل ويضيء ويعمّق ويــؤكّد ويثير ويعيد إبداع أو يبدع مقدَّما كل الآثار الأخرى. وإذا لم تكن الإبداعات قنية حاصلة فمــا ذلك لأنها تمضي وحسب شأنها شأن كــل الأشياء وإنما لأن لها تقريبا كل حياتها أمامها". بمَ يتعلق الأمر في الهرمينوطيقا إذن إذا لم يكن بالفلسفة ذاتها وبما يحيل عليه اسمها الذي يعيّن التعقد والتنوّع، يرفض الإختزال والإمتثال ليقول الرغبة صنوا لجسارة الفكر الذي تغذيه تحيّراته وتصيّرات الوجود.



الهرمنيوطيقا - لايبنتز - 02-21-2008

الهرمونيطيقا والفكر المعاصر


عمارة الناصر



1 - من نظرية المعرفة إلى الهرمينوطيقا..اكتشاف الذّات:


"إن العلم لا يفكر"( )، بعبارة هيدغر ذاته، تدشَّن مرحلة حاسمة في تاريخ الفلسفة والعلم معا، إذ أعادت صياغة الإشكالية والرؤية المتعلقتين بالعلاقة "ذات -موضوع"، فبنية العلم تعتمد على قاعدة الذّات الثابتة والتي تضمن ثبات الحقائق والتصورات والاستنتاجات، وعلى هذا أيضا تبني نظرية المعرفة وضعها في تقدير وتفعيل نشاط الذّات، "فوضع الذّات هو الحقيقة الأولى بالنسبة للفيلسوف، على الأقل بالنسبة لهذا التراث الواسع للفلسفة الحديثة التي بدأت من ديكارت وتطورت مع كانط، فيخته والتيار التأملي (..)، فبالنسبة لهذا التراث (..)، وضع الذّات هو حقيقة تعطى بذاتها، لا يمكن أن تكون لا مبرهنة ولا مستنبطة، إنها في الوقت نفسه وضع للكينونة وللفعل معا، وضع لوجود وعملية التفكير"( )، أي أن وضع الذّات معد بشكل مكتمل للتمثل والتصور ومنه إنشاء جميع عمليات العقل على مستوى واحد من الظهور وتدعو ذلك بالابستيمي، "الابستيمي بما هو منتوج مشروع خطابي عادي، يعطي مكانا لكل المقولات المأخوذة من أجل الصدق بواسطة كل ما يشارك في المشروع نفسه"( ). وكذا فإن "نظرية المعرفة تنبني على فرضية أن كل المساهمات لها المسألة الاستدلالية نفسها والدلالة نفسها"( )، وهذا الثبات في مستوى الاستقبال لصور العالم وظواهره هو ما تشكك فيه مقولة هيدغر وتجعله معرضا للوهم، وقابلا للتفكك ،فإذا كانت نظرية المعرفة تقيم بحثها على بنية موحدة من الوجود والظهور بالنسبة للوعي وهو يؤسس لمفاتيح العلم الموضوعي، لأفعال البرهنة والاستنباط…، فإن ما ترك شرخا في الوعي العلمي هو مستوى الظهور نفسه، إذ العلم يستقبل ويلاحظ ما هو قابل للملاحظة والظهور، دون أن يتمثل أو يتأوَّل، أي دون أن "يفكر"، ولأن الأشياء ليست كلها قابلة للظهور، فإن "كل شيء يمكن البرهنة عليه، أي استنباطه من مبادئ وأوليات نمتلكها، ولكن قليلة هي الأشياء التي يمكن فقط إظهارها، أي تحريرها من خلال فعل مؤشر يدعوها للمجيء إلينا وهي مع ذلك قلَّما تسمح بهذا الإظهار"( )، وفعل الإظهار هو فعل محايث لفعل التفكير، أي بالعمل على الاقتراب من الموضوع بتصفية الذّات من أوهامها وتزويدها بقاعدة وجودية لتثبيت الحقيقة.

إن الاقتراب المنهجي الذي تفترضه نظرية المعرفة يقوم على اعتبار الأشياء معطاة بشكل نهائي، وكذا على أن الذّات الثابتة هي مصدر الوعي المباشر بهذه الأشياء، وعليه يكون الإشكال محل الدراسة بالنسبة لنظرية المعرفة هو تطوير الفهم المرتبط بعلاقة هذه الذّات بموضوع معرفتها، غير أن استقرار وضع الذّات في هذه العلاقة لم يعد ممكنا لأنها "وبالتحديد غير معطاة لا في بديهة نفسية ولا في حدس ذهني ولا في رؤية صوفية"( ).

وبهذا تتحول الذّات إلى موضوع للمعرفة، لا تستطيع نظرية المعرفة احتواءه بما تفترضه من منهجية في الاقتراب المعرفي، ومنه تبرز ضرورة "الكشف عن الضمنيات الأنطولوجية للتوظيفات الداخلية الموضوعة تحت عنوان تأويل الذّات"( )، فالعلاقة المعرفية تصبح أكثر عمقا، حيث يتم الكشف عن الجدل الداخلي بين الذّات وما يشكل خارجا بالنسبة لها أي عن "تحديد للإنية عن طريق جدلها مع التغاير"( ).

لقد ظهر أن مشكل الحقيقة ليس في البنية المنطقية الداخلية لها ولا في توافق قوانين العقل مع قوانين الأشياء، أي أن مشكلها ليس ابستمولوجيا بقدر ما هو مشكل هيئة الوجود الذي ترتكز عليه، إذ أن نظرية المعرفة تعجز عن إظهار هذا الوجود لكثير من مواضيعها ومنه فإنها معرضة لوهم المعرفة، ويرى سالنسكي (Salanskis) "أن واجب الإجابة عن أسئلة مثل: ما هو اللانهائي ؟ ما هو المستمر ؟ والتي ظلت تقلق الرياضيين لألفي سنة، يتعلق بذات تستوطن وضعا هرمينوطيقيا"( ).

فالعودة إلى وضع الذّات في علاقة المعرفة هي العودة إلى صياغة الإشكاليات المعرفية ذاتها بحيث تطرح قضية المعرفة في سياق خطاب معرفي قابل لأن يكون موضوعا للتأويل.

إن تغييب مستوى الوجود في المعرفة أفرز خطابا غامضا عن الأشياء، ولإعادة هذا الخطاب إلى مستوى الوضوح والتبيين استوجب تأويل هذا الخطاب والبحث عن الدلالات العميقة لعلاماته وإشاراته.

وبهذا اتضحت مسألة اقتراح استبدال "المنهج العلمي" أو يمكن "التحليل الفلسفي" بنوع جديد من المناهج، وهي مهمة الهرمينوطيقا"( )، لأن المنهج العلمي لم يصل إلى شمولية تامة في المعرفة بفعل حدوده الناشئة من حدود المنهج نفسه، أي من القواعد والأنظمة والمقولات التي تفرغ الذّات من محتواها لتجعلها ذاتا عارفة دون أن تكون فاهمة أي مفكرة في هذا الذي تعرفه، مؤوّلة لما لم يظهر لها أثناء المعرفة، دون أن تكون منتجة لتمثلاّتها الداخلية عن الأشياء.

إن الهرمينوطيقا تأتي لتتوّج الجهد الظاهراتي الهوسرلي في الاستعاضة عن المناهج العلمية في العلوم الإنسانية بمقاربة معرفية أعمق وأشمل وهي تنطلق من فهم الذّات والإطاحة بالأوهام المحيطة بها، ولذا "وإذا ميزنا بين الهرمينوطيقا وبين نظرية المعرفة فإنه لا يوجد أي سبب لتخيل أنّ الناس يجدون صعوبة كبيرة في فهم أنّ الأشياء توجد، ببساطة، وبأنّ الهرمينوطيقا ضرورية، لأنّ الناس هم الذين يخاطَبون وليست الأشياء"( )، وعليه فإن الهرمينوطيقا تعيد الكشف عن الذّات التي تستند إليها عمليات المعرفة.

إنّ نظرية المعرفة تستند إلى بديهة أنطولوجية، هي أنّ الأشياء تدرك من حيث هي موجودة لكن "الرهان، ليس تحديد ماهية الوجود ككينونة للكائن، ولكن كفكر للوجود الذي يصبح فكرا للوجود في بعض أشكاله بلا –أو- قبل الكائن: لكن هذا الوجود –الأكثر أصالة- لا يصبح مدركا كماهية، وهنا يمكن فهم الهرمينوطيقا كبحث وتحر عن هذه الماهية"( )، فالمعرفة تحتاج إلى إثبات وجود موضوعاتها من حيث الماهية، أي من حيث تمثل الظاهرة المحضة في كليتها من خلال الفكر، والفكر كما يرى هيدغر، "يتمم العلاقة بين الوجود والماهية"( )، ففي ثلاثية الفكر -الوجود- الماهية تنشأ أرضية ظاهراتية للوعي بالأشياء أي لرؤية العالم بشكل لا يدع الوهم يتسرب إلى الذّات، حيث كان الفكر "ومنذ زمن، يجنح إلى أرضية جافة"( ).

لقد ظهر أنّ الأشياء لا تعطى للمعرفة في شكل مباشر بل إنّها تتوسط باللّغة، إذ أنّ الوعي لا يقوم باستقبال العالم إلا بما يدركه عنه من تعابير وأسماء، فالعالم يعطى كخطاب، ولئن كان كذلك فالسؤال المهم يكون: ما مدى توافق هذا الخطاب مع أشياء العالم ؟ أي إلى أي مدى يعبر خطاب اللّغة عن مواضيع المعرفة ؟ إلى أي مدى تستطيع اللّغة حمل تمثلاّت الحقيقة إلى الفهم ؟ وعليه اتضح أنّ عملا آخر مطورا عن نظرية المعرفة سيبحث في هذه الإشكاليات هو عمل الهرمينوطيقا.

في نظر هيدغر نحن "لا نفكر بعد، لأنّ ما يجب التفكير فيه يُعرِض عن الإنسان، وليس لأنّ هذا الأخير لا يلتفت بما فيه الكفاية نحو ما يجب التفكير فيه، إنّ ما يجب التفكير فيه يُعرِض عن الإنسان يتوارى عنه، ويبقى محتفظا بنفسه، إلاّ أنّ هذا الذي اختفى محتفظا بنفسه قد كان دائما ولا يزال ماثلا ومعروضا (…)، كيف يمكننا على أقل تقدير أن نعرف ولو القليل عن هذا الذي ينسحب بهذه الكيفية ؟ بل كيف يمكننا فقط أن نحصل على فكرة تسميته ؟"( ). فالارتباط وثيق بين العالم واللّغة التي لا يمكن حمل العالم إلى الفهم إلاّ وفق تعبيريتها، فلفهم العالم يجب فهم اللّغة أولا، وإذا كانت اللّغة هي إنتاج ذاتي فوجب أيضا فهم العلاقة والدينامية الكامنة بين الذّات واللّغة، وعليه فإن مقاربة العالم هي مقاربة اللّغة التي تفتحه.

لقد كادت نظرية المعرفة أن تغلق الفضاء الثقافي الذي ينفتح فيه المعنى على الذّات، كما كاد يفعل المنطق الأرسطي ذلك، لذلك تأتي الهرمينوطيقا "لتعبّر عن الأمل في انفتاح الفضاء الثقافي من خلال انحطاط نظرية المعرفة"( ) أي من خلال انحطاط الفكر المتعلق بمعرفة الأشياء المعطاة للمعرفة، ومنه يظهر الفرق المبدئي بين نظرية المعرفة والهرمينوطيقا حيث: "الهرمينوطيقا مقاربة للمجهول ونظرية المعرفة مقاربة للمعلوم، فالأولى مقاربة للفكر والثانية مقاربة للطبيعة"( ).

إنّ نظرية المعرفة تضع حدودا للشيء الذي تتم معرفته، من خلال حدود المنهج ذاته، وبهذا هي تنتج وهما باكتمال صورة الموضوع في الوعي وكذا باكتمال الذّات، لتعمل على رصد العلاقة بينهما ومقاربة ظروف نشأتها ومجالات تحركها داخل التفكير العلمي غير أنّ "السؤال المنسي هو سؤال معنى الكينونة"( ) أي سؤال حقيقة ما نخضعه لمنهج المعرفة، سؤال الكينونة ومعناها الذي أغفلته نظرية المعرفة وبنَتْ حقائقها على أساس البديهيات والمسلمات والفرضيات والمبادئ التي تفلت من سؤال الكينونة لتأخذ مكانا في الماهيات الأساسية للعلوم، وعليه فإنّ الهرمينوطيقا تضطلع بمهمة تفعيل سؤال الكينونة ذاك، "الهرمينوطيقا ليس باعتبارها "وريثا" لنظرية المعرفة، ولا تتحدّد كمادة تعليمية ولا كمنهج يسمح لنا بالنجاح هنا حيث تخسر نظرية المعرفة، وليست برنامجا للبحث"( ).

وعليه فإن الانتقال الكوبيرنيكي من نظرية المعرفة إلى الهرمينوطيقا حمل معه مجموعة من التحوّلات الفلسفية والعلمية على مستويات: المنهج والفكر، وكذا رؤية العالم وحقيقة الكائن ومعنى الكينونة وصورة الذّات في نشاطها للإمساك بالحقيقة وبحثها عن مبدأ عملياتها الذهنية من معرفة وإرادة وتأمّل وهو الجهد الذي يعيد بناء زاوية جديدة لرؤية الحقيقة وهو جهد التأمل في "الإشكالية الهرمينوطيقية الذي يؤكد من الآن، على الكينونة -في- العالم وعلى الانتماء المشارك الذي يسبق كل علاقة تقيمها ذات فاعلة بموضوع يواجهها"( )، فمسألة الكينونة في العالم، هي مسألة الكائن ذاته، إذ أنّ تمثلاّت هذا الكائن العالم هي موضوع المعرفة وليس العالم ذاته، لأنّ العالم يعطَى في شكل علامات ورموز على الكائن تمثلها وتحليلها وعليه يبدو أنّ "الطريق القصير، هو أنطولوجية الفهم، على طريقة هيدغر، والهرمينوطيقا مجالا لتحليل الوجود، الدزاين، والذي يوجد بالفهم"( )، أي مجالا لتمثل حقيقة العالم الذي يوجد ثم يأخذ ماهيته ثم يُعرف.

إنّ التحوّل من نظرية المعرفة إلى الهرمينوطيقا يبدأ بتحويل الطبيعة -الوجود- الكائن وباقي مواضيع المعرفة إلى نصوص بواسطة الكتابة أي بواسطة تثبيت ما يجب معرفته، واستدراجها إلى المكان الذي تسكن فيه أصالة وجودها وتسند إليه ماهيتها وهو المكان نفسه الذي يثوي فيه الفهم وينتج عملياته وجهده من أجل الإمساك بالمعنى الذي تفرزه الكينونة لذاتها، وبهذا يقع التحام الفهم بما يشكل خارجا له ويتم استدعاؤه بالتمثل وتطوير صورته بالتأويل وتخليص تأويله من الوهم بالهرمينوطيقا، فما هي الهرمينوطيقا؟

2 - مفهوم الهرمينوطيقا:


إنّ التحوّل من الطبيعة إلى النّص افترض طريقة جديدة للتعامل مع معطيات هذا التحوّل، وهي المعطيات التي يتمّ إنجازها ضمن خطاب من الكلام والكتابة وعليه يكون المعطى الأساسي في فهم وشرح وتفسير العالم المعطى ضمن الخطاب هو معطى "المعنى" ومسألة المعنى المستهلكة في القراءات المنطقية والنظرية والمنهجيات الإنسانية أصبحت تُغرق معها ملامح الوضوح والبيان وتلفها بالوهم الناتج عن فكرة الإنجاز التام للّغة الحاملة للمعنى وهو ما يستدعي في كل مرّة قراءة لتحرير هذا الخطاب من الأوهام الثاوية في شروخ لغته ودلالاته وتخليص المعنى المغمور تحت رتابة الكتابة والمختزل في حدود العبارة وتركيبيتها والمُقلَّص في بنية القصدية والجهوية، وكذا نفيه في المنطقة الواقعة في الفرق بين القارئ والنّص، بين القراءة والكتابة، بين الكلام والإصغاء.

"في مقاربة أولية، يمكن تعريف الهرمينوطيقا الفلسفية –حسب ريكور-: كتأمّل حول عمليات الفهم الممارسة في تأويل النّصوص"( ). ولئن تميزت الهرمينوطيقا هنا بكونها فلسفية فلأنّها ارتبطت في بدايتها بتفسير وتأويل النّصوص الدينية (الإنجيل). وترتبط الهرمينوطيقا كفن للتأويل والفهم بالنّص كموضوع ينوب عن العالم الذي تحمله دلالاته ورموزه وعلى التأويل أن ينجز الخطاب الذي تحمل فيه اللّغة العالم إلى النّص "فالهرمينوطيقا هي نظرية عمليات الفهم في علاقتها مع تفسير النّصوص هكذا ستكون الفكرة الموجَهة هي فكرة إنجاز الخطاب كنص"( )، والاهتمام النظري بالفهم كونه يمثل تقاطع التمثلاّت التي ينتجها العالم عن نفسه والتمثلاّت التي تنتجها الذّات عن هذا العالم.

وتمثلّ الهرمينوطيقا النشاط الأكثر فعالية لجهد الذّات في تحصيل الحقيقة وتخليصها من الوهم الذي تفرضه شروط إسكان هذه الحقيقة في الخطاب المتصل بالكتابة وتوسط الرموز وغموض العلاقات، وعليه تقوم الهرمينوطيقا بتجهيز الفهم بقاعدة أنطولوجية ذاتية لاستقبال خطاب الحقيقة ضمن ظروف تاريخيتها فهي تمكنه من مزامنة اللّحظة التي تتمفصل فيها الكتابة مع المعنى، دون افتراض هوية مأخوذة من المنطق أو من الميتافيزيقا "فأهمية وشمولية الهرمينوطيقا متأتية من كون الإنسان حيوان منتج للعلامات (…) وتأويل وفهم العلامات هما من أجل هدف واحد هو توفير قاعدة موضوعية للفهم، وضمان (…) حقيقة هرمينوطيقية، والتي يجب أن تختلف عن الحقيقة المنطقية البسيطة والحقيقة الميتافيزيقية"( )، فهي تستمد فاعليتها من تحليلها للوجود الذي يسبق المعنى وإلحاق الفهم به، ومنه تتمكن من فهم العالم من خلال استعادة علاقة الفكر بالوجود إلى سكن تستطيع الذّات أن تثبّته لتراقبه وترصد حركة الدلالة فيه، هذا السكن هو اللّغة ولكي تحمل اللّغة الوجود ذي الدلالة يجب أن تكون خطابا. "فمهمة الهرمينوطيقا هي إثبات أنّ الوجود لا يصل إلى الكلام، المعنى وإلى التفكير إلاّ بالصدور عن تفسير متواصل لجميع الدلالات التي تحصل في عالم الثقافة، ثم أن الوجود لا يصبح ذاتا إنسانية (.) إلا بامتلاك هذا المعنى الذي يسكن "خارجا" في المؤلّفات، المؤسسات وآثار الثقافة حيث تموضع حياة الفكر"( )، فهي تمتلك حمولة فلسفية تهدف إلى الإمساك بالكائن لحظة تعبيره عن الوجود، وهذا بتأويل هذا التعبير، وكذا تأويل العلامات التي ينتجها.

وعليه فإنّ مهمّة التفكير تتغيّر إلى هدف آخر في رصد المواضيع من أجل المعرفة إلى رصد الكينونة من أجل الفهم أي "التفكير في الوجود كفعل للفهم والتأويل، كفكر وليس ببساطة كموضوع ومنه فإنّ الموضوعية ستكون مبنية على ذاتية الوعي"( ) فالذّات هي من تنتج موضوعها وتتمثلّه.

3- الهرمينوطيقا وعالم النّص: من رؤية العالم إلى قراءة العالم:


لقد أعاد هيدغر توجيه الفكر إلى أصالة الوجود ومنه العالم الذي يتحرك فيه، فهو يرى "أنّنا لم نجد لحد الآن مدخلا إلى كينونة الفكر الخاصة به بحيث نقيم فيها، وبهذا المعنى فإنّنا لا نفكر بعد على نحو خاص (..) لم نتمكن لحد الآن من التعرف بما فيه الكفاية على العنصر الذي تحرك فيه الفكر من حيث هو فكر"( )، فإذا كان الفكر لا يستطيع أن يمسك بنفسه من حيث هو فكر، أي أن يتمثل نفسه في اللحظة نفسها التي يقدّم جهدا هو محلّ تعبير وإنتاج للعلامات، فإنّ الفكر يقوم بخلق عالمه الذي يتحرك فيه حيث يتم تثبيت تعبيرات جهده من أجل الوجود، هذا العالم هو عالم النّص، حيث تقوم الكتابة بتثبيت الدلالات والعلاقات التي يولدها الفكر وهو يفكر مع الوجود "فالكتابة وحدها يمكنها أن تحيل إلى عالم ليس هنا بين المتخاطبين، إلى العالم الذي هو عالم النّص والذي مع ذلك ليس في النّص"( )، ففي عالم النّص يتم استدعاء معنى الكينونة وتثبيته بالكتابة لتتمكن الذّات من تأويله وفهم رموزه.

وعليه ينتقل الفكر من "رؤية العالم" على اعتبار أنّ العالم لا يتقدم إلى الفكر إلا بتوسط اللّغة التي تنتقل من حامل لهذا العالم إلى العالم نفسه، والتأويل عندئذ هو فك رموز هذه اللّغة وتحرير المعنى من فعل الكتابة وفتح عالمها على الذّات، "فحسب دلتاي، التفسير والتأويل هما فن فهم التمظهرات المكتوبة للحياة"( ). وبهذا فإن تعلق الهرمينوطيقا بعالم النّص الذي هو عالم الكتابة هو من أجل تشييد الوجود الذي يوجد بالفهم، أي من أجل إسكان الكائن داخل عالم الحقيقة الذي لا ينفصل عمَّا يفكر فيه، أو بما سمّاه هيدغر بالعنصر الذي تحرّك فيه الفكر من حيث هو فكر، غير أن النّص يقيم حدودا للعالم الذي يحمله من خلال صرامة الكتابة ومشروطية تعبيريتها أي من خلال رابطة الدال والمدلول التي تختزل الكينونة إلى صيغة المعنى، وعليه تكون وظيفة الهرمينوطيقا هي "عزل المدلول عن الدال عن طريق التأويل والتعليق والقضاء على الكتابة عن طريق الكتابة الأخرى التي هي القراءة"( )، وبذلك هي تعيد إنتاج عالم آخر للمعنى، حيث يشكل النّص مفتاحا له من خلال رموزه ومعانيه المزدوجة التي تعطى كنقطة تمفصل بين عالم النّص المؤلِّف وعالم النّص المؤوِّل وتغدو كل قراءة تأويلا لأنّها حسب عبارة دريدا تقضي على الكتابة، لتفتح عالم النّص على الذّات والوعي.

فالهرمينوطيقا تتخذ من الكتابة وضعية أولى لفتح الذّات على الوجود، بواسطة تأويل الرموز التي تتوسط العالم والفهم، فعالم النّص هو العالم الذي تعطى فيه الحقيقة للفهم وكذا لرصدها عن قرب في تثبيتية الكتابة وعليه تكون مهمّة الهرمينوطيقا الأولى حسب ريكور: "البحث داخل النّص نفسه، من جهة، عن الدينامية الداخلية الكامنة وراء تبنيُن العمل الأدبي ومن جهة ثانية، البحث عن قدرة هذا العمل على أن يقذف نفسه خارج ذاته ويولِّد عالما يكون فعلا هو "شيء النّص" اللاّمحدود، إن الدينامية الداخلية والإنقذاف الخارجي يكوِّنان ما أسمّيه عمل النّص، ومن مهمّة الهرمينوطيقا أن تعيد تشييد هذا العمل المزدوج للنص"( ).

فالمهمة هي فهم فعل الإنقذاف في النّص لتوليد عالم شيء النّص، الذي هو فعل الانتقال من الكتابة إلى القراءة، وارتباط التأويل بالنّص الأدبي هو ارتباط تاريخي ومعرفي إذ أنه النّص الأكثر شحنا بالدلالات وأفعال التخييل والترميز وانفتاح الذّات، ولذلك يرى غريش (Grisch)، "أن الكلام الشعري، هو الأصل والمكان الأول للتأويل"( )، وبهذا ظهر أن تأويل النّص هو في الوقت نفسه تأويل للذات وتطوير لجهدها من أجل الانتماء إلى الوجود.

4- الهرمينوطيقا والمنهج:

عرفت العلوم الإنسانية –منذ هوسرل- انعطافا هامّا داخل المقاربة المنهجية لمواضيع المعرفة، حيث فتحت الظواهرية عالم الذّات على الوجود الأصيل للظواهر، ولم تعد هذه الأخيرة إلا تمظهرا لحياة نفسية تعمل على تأطير الظاهرة من الداخل وتمثّلها وتأويلها من خلال ما تقدمه من إشارات وعلامات عن نفسها، ولئن كانت الفينومينولويجا ومن خلال عمليات التعليق والتصفية الماهوية والاختزال، تعد منهجا للعلوم الإنسانية وللحصول على الحقيقة في شفافيتها فإن "الهرمينوطيقا ليست "منهجا للحصول على الحقيقة"، الهرمينوطيقا في نظر غادمير ليست منهجية للعلوم الإنسانية ولكنها محاولة من أجل فهم ما في الحقيقة (..) وما يربطها بكلية تجربتنا في العالم"( )، ففهم العالم وتأويله من خلال اللّغة التي تحمله يستند إلى ذات واعية بوجودها الساكن في هذا العالم نفسه، وعليه يمكن طرح السؤال: هل تتضمن كل محاولة للحصول على الحقيقة وفهم تمظهراتنا في الحياة المكتوبة على منهجية ما ؟

يرى غادمير أنه "ليس ضروريا وضع منهج للفهم العلمي، الذي يهمنا هو المعرفة والحقيقة، فالظاهرة التأويلية ليس –مطلقا- مسألة منهج"( )، هذا لأن المنهج يتحول إلى غاية معرفية في حد ذاته كما هو الحال بالنسبة للبنيوية، وهذا ما يزيد في المسافة ويكثف العماء الذي بين الذّات وموضوعها، وبالعودة إلى تحليل الوجود الذي تستند إليه الذّات "يمكننا الشك في وجود تقنية للفهم"( )، ففي حين تظن المناهج العملية أنه بإمكانها رصد موضوع المعرفة في كل تمظهراته واستدعائه خطوة خطوة إلى فهم عميق وواضح بواسطة تعليق الذّاتية، فإن هذا الموضوع كما يرى هيدغر "لا يمكننا أن نرغمه من جانبنا على المجيء وذلك حتى في أفضل الحالات حيث ندركه بعمق ووضوح، لم يبق بوسعنا إذن ما نعمله سوى أن ننتظر حتى يتوجه إلينا هذا الذي يجب التفكير فيه ويقال لنا"( )، وهذا الانتظار ما هو إلا التأمل الداخلي لما قد استقر في الذّات، أي التفكير فيما تم رصده بالقراءة وهو عمل التأويل، غير أن الانتظار لا يعني بأي حال من الأحوال التملص والابتعاد عن التفكير من حين لآخر، بل (الانتظار) هنا معناه: أن نوجه نظرنا صوب كل الجهات وداخل ما قد فكر فيه بحثا عن اللامفكر فيه الذي ما يزال مختفيا هناك، إذ بمثل هذا الانتظار وحده نكون مزاولين للتفكير ومتجهين نحو "ما يجب التفكير فيه". لكننا في هذا السير والتوجه يمكننا أن نحيد عن الطريقة بحيث لا نبقى مرتبطين بهم الاستجابة إلى هذا الذي تجب العناية به"( ).

وعليه يكون التأويل بحثا في ما قد فُكِر فيه عن اللامفكر فيه عبر أفق الانتظار الذي هو إشارة وإحالة مع إمكانية الحيد عن الطريقة، عن المنهج، ويتم الاشتغال على اللّغة بالفكر بصفة مباشرة أي عبر أنطولوجية الفهم و"في الفكر يأتي الوجود إلى اللّغة، اللّغة هي سكن الوجود، وفي حمايتها يعيش الإنسان"( ) ففي اللّغة لا يتم البرهنة على شيء، كما أن الأشياء لا تظهر بشكل منهجي بالنسبة للوعي.

فالهرمينوطيقا تقوم على استراتيجية تنفلت من المنهجية، إذ تقوم باستدراج الوجود إلى اللّغة لتستطيع الإمساك بالكائن وفكره من خلال إشاراته، علاماته وإحالته داخل عالم اللّغة أي عالم النّص، ومن هنا تكون "مقولة "العلم لا يفكر" هي إذن لا هرمينوطيقية العلم"( ) أي أن منهجية العلم تمنعه من التفكير في ما يتم معرفته، ومنه فإن ما يتم معرفته يكون قابلا للتوهم دون اكتشاف ذلك نظرا للاطمئنان إلى حماية المنهج الذي يقفز فوق الكينونة الأصيلة للمعرفة وللكائن العارف وعليه "فإن مشكلة الحقيقة ليست مطلقا مشكلة منهج، لكنها تجلي الكينونة لكينونة ما، حيث الوجود متضمن في فهم الكينونة"( )، فالهرمينوطيقا مطورة عن الفينومينولوجيا ترمي إلى شمولية رؤية الفهم لكينونة العالم من حيث هو وجود ملحق باللّغة.

5 - مفهوم النّص: وساطة الرمزي وجدل الكتابة/ القراءة:

إذا كان العالم لا يُفهَم إلا بواسطة ما نمتلكه عنه من لغة و"ليست لدينا إمكانية حدسية لتمييز مختلف الأشكال الذّاتية للوعي"( )، فإن الإمكانية المتوفرة لإنشاء علاقة بين ذاتية الوعي وعالم اللّغة تتم في النّص، حيث يشكل النّص الوساطة بين الذّات وبين العالم من خلال رمزية لغته، لذلك يرى ريكور أن "الرمزي هو الوساطة الشاملة للفكر بيننا وبين الواقع، إنه يعبر قبل كل شيء عن لا مباشرية فهنا للواقع"( ). فاستحالة العالم إلى نص لا يعد مرحلة نهائية في مستويات الاقتراب من الحقيقة، بل إن الحقيقة تصبح أكثر كثافة ورمزية داخل النّص لأنها تستحيل إلى رموز معروضة للفك والتأويل وفي النّص تعبر عن تعددها وكثرة وجوهها (الحقيقة)، فالرمز مصاحب لكل تعبير عن الحقيقة.

يلاحظ ريكور "أن كلمة نص تطلق على كل خطاب ثم تثبيته بواسطة الكتابة [بحيث] يكون التثبيت بالكتابة مؤسسا للنص نفسه، النّص هو المكان الذي يأتي إليه المؤلف. إن إبعاد المؤلف من طرف نصه الخاص هو ظاهرة القراءة الأولى التي تطرح، دفعة واحدة، مجموع القضايا المتعلقة بعلاقات الشرح والتأويل، وهذه العلاقات تولد بمناسبة القراءة"( )، النّص هو الغيابات الرمزية التي تنتشر بشكل مختلف ولا منطقي داخل الذّات ويتم رصدها بواسطة الكتابة، للكشف عن ما تفعله الذّات أو يتجاوزها لحظة الانتقال من فكرة لأخرى، "النّص هو تذكير".

في النّص يتحقق الانتظار الهيدغري "للذي يجب التفكير فيه ويقال لنا"، إذ أن "فهم نص ما، هو أن نكون مستعدين لتركه يقول شيئا ما، لأن الوعي المشكل في التأويل يجب أن يكون مفتوحا بسهولة على تغاير النّص، يعني أن نضع في الحسبان: أننا مسبوقين، بكون النّص ذاته يعرض في تغايره، ويمتلك كذلك إمكانية معارضة حقيقته العميقة( )"، إذن فالنّص يتحول إلى "كائن يقول" وكذا يعبر عن كينونته الخاصة، وهي كينونة العالم الذي تحمله لغته، فعبر الرمزية يتم الجدل المثمر بين الكتابة والقراءة، الكتابة تثبت تمثلات العالم وتكثرها عبر الرمز والقراءة تقوم بفك الرموز للدخول إلى العالم الذي تحمله الكتابة، وعبر هذا الجدل تقوم الذّات بالانفتاح على نفسها أي بإيجاد الكينونة التي تسند إليها فهم العالم.

يقوم النّص بإبعاد مؤلفه، عبر تغايره، ليعرض قضاياه مع إمكانية معارضته لحقيقته، غير أن النّص يطرح مشكلة الفرق بين عالم النّص وعالم الواقع، وهل تستطيع الكتابة أن تعلق هذا الفرق وتلغيه ؟

ابتداء، يوجد فرق مبدئي بين النّص والواقع، كالفرق بين الكتابة والظاهرة، وبما أنه "لا توجد رمزية قبل الإنسان الذي يتكلم حتى و إن كانت قوة الرمز متجذرة بعمق في تعبيرية الكون"( )، فإن اللّغة تقوم بترميز العالم والواقع وحمله عبر النّص إلى الفهم، وعلى الرغم من هذا الفرق فإنه "وإذا كانت اللّغة ليست لذاتها وإنما لعالم تفتحه وتكتشفه، فتأويل اللّغة ليس متميزا أو مختلفا عن تأويل العالم"( )، وبهذا فإن مهمة النّص هي تقريب الذّات من العالم عن طريق القراءة المفصلة للذات وللكتابة حيث يمكن تشكيل الحقيقة التي لا تغفل في جوانبها أنها تستقر في الذّات نفسها، لكن هذه الحقيقة معرضة للتوهم حينما تتم المماهاة المطلقة بين تأويل العالم وتأويل اللّغة إذ إن "مشكلة التأويل (..) ليست لا الخطأ بالمعنى الابستمولوجي، ولا الكذب بالمعنى الأخلاقي ولكنه الوهم"( ).

وعليه يرتبط التأويل بالنّص لتخليص المعنى والحقيقة من الوهم أو للتقليل منه، ولعل المصدر الأول لهذا الوهم هو غياب القراءة بفعل المستوى التخيلي للمعاني.


6- النّص والبنية:

" ولكن بالعودة إلى تعريف النّص على أنه تثبيت بواسطة الكتابة، فإن هذا التثبيت يفترض قدرا من البنيات للحصول على المعنى، أي أن هناك انتظام للغة حتى تتمكن من تقديم معنى ما، وكما لاحظ غادمير "أن كل خطاب ثابت هو نص، فالنّص هو هذا الشيء الثابت والمستقر في ذاته، بواسطة الثبات الداخلي لبنيته"( ) فالكتابة في تثبيتها تفترض خطاطة للمعنى، أي أن النّص لكي ينتج دلالة ما فإنه يمر عبر خطوات يبني خلالها علاقات داخلية بين مكونات النّص، وفي اختلافها ينتج المعنى، إذ أنه "ليس هناك معنى إلا داخل الاختلاف، فعناصر النّص لا تأخذ دلالاتها ولا يمكن أن تكون معرفة دلاليا إلا بواسطة لعبة العلاقات، حيث نقوم بتسمية شكل المحتوى، وتحليلنا بنيوي لأنه يعطي الوضع لهذا الشكل –المعنى، ليس المعنى وإنما خطاطة المعنى"( )، فالنّص قبل أن يعبّر عن معنى ما فهو ينشئ مخططا لذلك، فالمهم بالنسبة للبنيوية ليس المعنى وإنما الكيفية التي نشأ بها هذا المعنى وهذه الكيفية هي العلاقات الداخلية والاختلاف في الدوال، فهي تقوم بوصف بنية النّص على اعتبار أن كل نص يمتلك بنية عامة لصياغة محتواه وطرح معانيه.

إن سؤال البنية بالنسبة للنص هو سؤال وصفي تصنيفي إذ أن "الأمر لا يتعلق بقول "المعنى" الصحيح للنص ولا بإيجاد معنى جديد لم يُقل، فالأسئلة الموجهة إلى النّص تحولت واستبدلت": ليس ماذا يقول هذا النّص ؟"، ليس "من قال هذا النّص "كيف قال النّص هذا الذي قاله ؟"( )، ويبقى البحث عن هذه الكيفية منقسما على احتمالين لانبناء النّص، فإما أن تكون البنية محايثة لفعل تشكّل النّص بالكتابة وإما أن يكون البحث (التحليل البنيوي) هو نفسه من ينتج هذه البنية أي أن البنية محايثة للقراءة دون الكتابة وهذا لمقاربة الفهم، بحيث تعوض عمليات الذّات كحامل للدلالة بعلاقات البنية الداخلية للنص، والمعنى بالمستوى المنطقي الوصفي. وفي الاحتمال الأول يرى غريماس (Grimas) في مقدمته لمؤلف هلمسليف (اHjelmslev) أن: "كل لسان موصوف حسب مصادره، يستحيل إلى بنية معتدّة بعلاقات لم تكن في دعامته المادية، وتبقى على الرغم من ذلك محايثة للشكل المعطى، يعني أنه (اللسان) لا يبرهن إلا بطريقة الوجود والعمل بهذا الشكل"( ).

فالنّص يتضمن- بهذا الشكل- بنية هي طريقته في الوجود والبرهان، وبدل البحث عن المعنى يتم الكشف عن البنية للإجابة عن سؤال: كيف قال النّص الذي قاله ؟، فبالانزياح عن المعنى يتم الكشف عن العلاقات الوظائفية التي تبني النّص، فـ"الإسقاط عن طريق البنية والمباعدة بالكتابة هما مجرد شرطين قبليين ليقول النّص شيئا معينا هو "شيء" النّص "اللامحدود"( )، ونلاحظ هنا أن النّص لا ينتج معانٍ وإنما "أشياء"، والفهم هو القبض على هذا الشيء الذي يقوله النّص بواسطة التماهي في البنية، وكذا الثبات في شكل الخطاب، حيث النّص "منظم بطريقة ما بحيث كل أجزاء الخطاب مرتبطة ببعضها، ومثبتة تحت شكل نهائي، غير قابل للتغير"( )، وهذا الوضع بالنسبة للخطاب هو ما يحمل اللّغة على اتخاذ بنية محددة داخل النّصوص، وبتكرارها يتراجع المعنى إلى شكل ثابت في مستوى الفهم، لأن "الفكر يفهم الفكر، ليس فقط بواسطة التماهي في البنية، وإنما بتكرار واستمرارية الخطابات الخاصة، أيضا"( ).

إن التأويل من خلال تفعيله للمعنى ورصده للكينونة، يحاول انقاذ النّص من الجفاف الدلالي الذي تفرزه البنيوية باعتبارها "كفلسفة ذات نسق شكلي، لا تحيل إلى الذّات المفكرة، تطور نوعا من العقلانية، ضد – تأملية، ضد – مثالية، وضد – ظواهرية، أي أن تفهم لا يعني أن تستعيد المعنى"( )، وعلى هذا يظهر أن هناك تلازما بين بنية الكتابة وبنية القراءة وأن كلتاهما محيلة إلى الأخرى.

7- النّص والعالم: سلاسل التأويل:

يوجد فرق جوهري بين النّص والعالم، حيث العالم صامت، والنّص مكتوب ومنطوق، وهو الفرق الذي يطرح إشكالية كيفية تحويل هذا الصمت إلى كلام والكلام إلى كتابة والكتابة إلى نص ؟ أي كيف يتحول العالم إلى نص ؟ أو بسؤال ديكا (Ducat): "كيف يمكن للغوس الإنساني أن يرتبط لا بعالم الأفكار، وإنما بالأشياء التي تظهر، أو التي يظهرها" ؟ )، فالنّص بهذا المعنى هو مستوى الإظهار بالنسبة للعالم، إنه يقوم بوظيفة تقليص المسافة الموجودة بين العالم واللّغة ويقوم التأويل بتقليص المسافة بين النّص والقارئ.

ونشوء المسافة بين الذّات والعالم هو ما يحتاج إلى جهد تأويلي، وهي المسافة التي تنشأ مع كل تغاير للذات حيث "أن الشيء الوحيد الذي يجب أن يقال حقيقة هو: أنا موجود، وكل لا أنا (Non moi) هو ظاهرة تخل إلى علاقات ظاهرية"( ) وبهذا يشمل العالم كل لا أنا، كل تغاير وعلى هذا ينشأ عمل مزدوج لإحالة العالم إلى النّص بواسطة اللّغة وإحالة النّص إلى الذّات بواسطة التأويل:

أ- من العالم إلى النّص: - في النّص يتم إمحّاء الأشياء وذوبانها في الدال المادي للكلام، وكذا امحّاء الدال في الصوت، حيث "الصوت، أشبه ما يكون بالامِّحاء المطلق للدال، تأثر خالص بالذّات، يتمتع بالضرورة بشكل الزمن، ولا يستعير من خارج ذاته، من العالم أو الواقع أيّ دالٍّ ثانوي، وأيّة مادة للتعبير"( ). فالتحول من العالم إلى النّص هو تحول إمّحائي، إمّحاء للظواهر في دوال اللّغة وامّحاء للدال في الصوت، ثم امّحاء للصوت في الفهم والفهم في الوجود، وكذا إمحاء الوجود في الحقيقة، وهي سلسلة التأويل التي تقوم بتحويل العالم إلى نص وإلى عالم هذا النّص المفتوح على تعدد الدلالية.

ب- من النّص إلى الذّات: - إن التحول من العالم إلى النّص يحمل معه المسافة الفاصلة بين الفهم والعالم كموضوع والتي تتحول هي كذلك، مع انتقال النّص إلى الذّات، إلى مسافة بين النّص وقارئه وعليه تقوم الهرمينوطيقا بفك رموز النّص وفتح عالمه على الذّات، وبهذا الشكل تتم قراءة العالم الواقعي قراءة متعددة الجهات والزوايا، فلئن كانت رؤية العالم وحيدة الجهة فإن قراءة العالم عبر النّص متعددة الجهات، "الهرمينوطيقا، كفن لتأويل النّصوص، كفن خاص، تعتبر أن المسافة الجغرافية، التاريخية، الثقافية، التي تفرق النّص عن القارئ، تنشئ حالة اللافهم، التي لا يمكن تجاوزها، إلا في قراءة متعددة، يعني تأويلا متعددا"( )، وعليه فإن العالم والنّص يشتركان في خاصية الثبات وكذا في خاصية المسافة، غير أن مسافة النّص قابلة للاختزال والتقليص عبر نشاط التأويل، وفي جهد الاختزال يتم تحريك العالم وكذا الذّات، وبهذا فإن صورة العالم تكون أقرب في النّص.

إن النّص يقوم بمقاربة الذّات عن طريق نشاط الفهم بدل المعرفة، لأن المعرفة إذ ترتبط بالعالم المعطى بشكل مباشر، تقوم بمقاربته بمفاهيم المعرفة التي تتضمن في برهانيتها أوهاما لمقاربة الظاهرة.

فمثلا "يصعب مماثلة: المستمر، اللانهائي، أو الفضاء مع نظام ما هو موجود، فهي تعتبر كغيبيات"( ) وبهذا يصبح التأويل ضرورة مُلحَّة لفهم مثل هذه المفاهيم التي لا يمكن أن توجد إلا على مستوى اللّغة أي النّص، وعبر النّص يتم البحث عن حقيقتها وتوفير قاعدة وجودية لتمثلاتها.



8 - التأويل والفلسفة:

مفهوم التأويل (الهرمينوطيقا):

يمكننا أن نعتبر أن إشكالية التأويل ولدت عمليا مع إشكالية الترجمة، إذ أن مسألة الاعتماد على الفيلولوجيا في ترجمة النّصوص، تطرح مشكلة الاختلال في المعنى المتعادل مع معنى النّص الأصلي، وعليه تكون مسألة التعادل في المعنى منشأ التأويل، فقد لاحظ غريش "Grisch" -مبدئيا- "بما أنه لن تكون هناك نظرية عامة للترجمة، فإنه لا يمكن الحصول على نظرية عامة لتأويل النّصوص الفلسفية"( ) ومنه فإن التأويل ليس منهجا نظريا وليس قانونا علميا للحصول على نتائج منطقية.

وفي مجالات تداول المصطلح يوضح ريكور أن: "كلمة" "Hermeneutik" تعطى في الألمانية كافتراض لتحديد مادة تعليمية تمنح الوضع العلمي الدقيق لمفهوم التأويل كاستعمال هرمينوطيقي محض ومفهمة واسعة للدلالة (Bedeutung)، أما في الفرنسية فيتعلق الأمر بالزوج (فهم/ أوَّل) ويحيل دون صعوبة إلى الزوج (Anselegen/ Verstehere)، أما مصطلح (Deutung)، فهناك صعوبة في ترجمته لارتباطه بتأويل الحلم الفرويدي "Traumdeutung"، وبهذا فإن الهرمينوطيقا مادة ألمانية"( )، وبهذا تتميز كلمة هرمينوطيقا عن كلمة تأويل بكون الأولى ذات كثافة فلسفية. ولأن "مصطلح "Herméneutique"، ومنذ إعادة اكتشافه في القرن الخامس عشر، ارتبط عمليا بمصطلح الأنطولوجيا "Ontologie""( )، فإن هذا المصطلح ينخرط ضمن الخط التأملي –الوجودي في الفلسفة، من جهة، وباللّغة كموضوع للتأمل وملاحقة الكينونة في التعددية الدلالية للنص من جهة أخرى. وارتباط الهرمينوطيقا بالانطولوجيا يجعل من الذّات العميقة حاملا رئيسيا للدلالة المطورة بواسطة الفهم، ونعتبر أنه منذ هيدغر، "الطريق الأقصر [إلى الحقيقة]، هو انطولوجية الفهم، (..) وتصبح الهرمينوطيقا مجالا لتحليل هذا الوجود، الدزاين، والذي يوجد بالفهم"( ) أي أن الهرمينوطيقا لا تبحث فقط عن وجود المعنى من خلال النّص وإنما معنى هذا الوجود كذلك.

فالتأويل بهذا المعنى يستغرق في كينونة الموضوع المؤوَّل على غرار الظواهرية، فاتحا بذلك عالم الذّات على عالم النّص دونما وساطة منهجية أي أنه "لا توجد نظرية في التأويل مستقلة عن تطبيقه، فهو ليس منهجا، بحيث نستطيع تعلمه وتطبيقه على حقل من الموضوعات، بل هو تطبيق لتجربة عملية معتمدة على التأمل الداخلي المحايث للحياة"( ).

هذه التجربة مسبوقة بمعطيات الفهم القبلية أي دون توسط أدوات منطقية أو إحدى نتائج ممارسة هذه التجربة نفسها، فالذّات التي تخوض هذه التجربة لا تدعي امتلاك النّص بصفته موضوعها، بل تقوم بالاندماج فيه مباشرة، جاعلة من الفهم والنّص كينونة واحدة، لكي تتمكن من الإصغاء عن قرب لما يقوله النّص، وعلى هذا تتميز الهرمينوطيقا عن التأويل، "فعمل الهرمينوطيقا ليس محدودا بعمل التأويل بمعناه البحث عن المعاني الباطنية للنصوص، بل إن مهمتها هي فك رموز النّص لتحرير الكلام الحي والذي هو معتَّم ومغمور أو مجمد داخل الكتابة"( )، ففي العمل الهرمينوطيقي تصطبغ الذّات بصبغة الكتابة لتتمكن من رصد الرموز داخلها وفكها.

الهرمينوطيقا والمنطق:

لئن كانت "محاولة دلتاي (Dilthey) ترمي إلى توسيع التأويلية إلى أبعاد أورغانون لعلوم الفكر"( )، فإنه وكما أشار غريش (Grisch) في مبحث الهرمينوطيقا والمنطق أنه "لا يوجد تأويل صحيح للنص، مطلقا، وإنما توجد تأويلات متعددة"( )، يعني أن التأويل ليس منطقا خاصا يمكن الحصول من خلاله على نتائج صحيحة.

وعليه تكون "الحقيقة الهرمينوطيقية"، حقيقة إمكانية، لا تخضع للمبادئ المنطقية، أي أنه لا يمكن أن نميّز بين تأويل صحيح وتأويل غير صحيح: "وبناء على هذا المبدأ يكون الكاتب هو أفضل مؤوّل لمؤلفه"( )، لأنه الوحيد الذي يمتلك المعنى الأصلي لهذا النّص، ويكون كل تأويل مغاير، تأويلا غير صحيح، وعلى هذا فالهرمينوطيقا لا تتخذ بنية منطقية، بل إن عملها مشتق من عمل النّص ذاته، وعمل النّص هوإنتاج الرموز وإصدار العلامات، وتقديم الإشارات، فهي لا تعتبر علما للتأويل بل فنا للتأويل، والفن معروض في جماليته لا في منطقيته، وفي مستوى تخييلي يمكن من خلاله معارضة الحقيقة الداخلية للنص والتي يفرضها المستوى الواقعي لتركيب العبارات والعلاقة المرجعية بين الدال والمدلول.

وإذا لم تمتلك الهرمينوطيقا منطقا، فإنها تمتلك دينامية لاقتحام النّصوص، للتعامل مع الرموز والعتامة المكثفة داخل الكتابة، هذه الدينامية، ليست إلا ظاهرة المُساءلة، وفتح حوار مع النّص ليقول أكثر ما فيه، والمُساءلة أي حوار سؤال/ جواب، تدل ابتداء على عدم امتلاك النّص بل اعتباره كائنا بذاته يقول شيئا ما، هذا يعني أن "الظاهرة التأويلية تحمل في ذاتها الحوار الأصيل ذي البنية: سؤال/ جواب، فعندما يطرح النّص نفسه كموضوع للتأويل فهو يطرح سؤالا على المؤول، وبهذا المعنى، فالتأويل يحتوي دائما على إحالة مهمة للسؤال المطروح على أحدهم، وفهم النّص هو فهم هذا السؤال وهو ما ينتج الأفق التأويلي"( )، فبواسطة السؤال لا يمكن الحصول على إجابة فقط، وإنما على تأويلات متعددة ومتصارعة تقوم بإنجاز عالم النّص الخاص وتشكيل كينونته.

إن النّص يتقدم إلى الفهم –ابتداء- ككينونة، أي أن الشيء الذي يقوله النّص يوجد أولا، وكينونة شيء النّص هي أُولى الرموز والإشارات التي ينبغي للهرمينوطيقا أن تفكها، أن تفهمها، أي تتأوَّلها، ولذلك لاحظ ريكور "أن السؤال المنسي، هو سؤال معنى الكينونة"( )، لأن سؤال الكينونة يمثل القاعدة الأساسية لدائرة الفهم والوجود الداخلية، فبين الفهم وكينونة الشيء تتقلص المسافة التي تتخذها ماهية الشيء من الفهم، في سؤال معنى الكينونة يتم الإمساك بشيء النّص الذي يقوله في رموزه وإشاراته، وعلى هذا الأساس فإن "التأويلات الأكثر تصارعا، تندرج، كلٌّ حسب طريقته، في جهة الجذور الأنطولوجية للفهم"( )، ففتح الحوار: سؤال/ جواب، مع النّص، يعني تركه يقول شيئا ما عن نفسه، أي أن المُساءلة المفتوحة للكينونة، تجعل من الذّات تنفتح على نفسها من خلال الفهم أي أن تكتشف ماهيتها وهي تتجه نحو النّص، حيث في فعل "الاتجاه نحو…" أُولى رموز وإشارات هذه الماهية، فقد رأى هيدغر أنه "إذا كنا نجد أنفسنا، ونحن منجذبون بهذه الطريقة في حركة نحو..ما يجذبنا، فإن كينونتنا تكون قد وُسِمت بهذه "الحركة نحو.."، وبما أننا وُسِمنا على هذا النحو نُظهِر هذا الذي يتوارى، فماهيتنا هي بالضبط هذا الفعل الذي يشير ويحيل، إننا نكون بقدر ما نشير إلى ما يتوارى وينسحب"( )، أي أن النّص حينما يدفع الكائن إلى الإشارة إلى ما يتوارى فيه وينسحب، فإنه يحقق كينونته ويُعرِّف ماهية الكائن، فالنّص يجعل الكائن يفهم نفسه أمامه، وفي المقابل يتمكن الكائن من إظهار المتواري والمنسحب في النّص.



الهرمنيوطيقا - noooneh - 02-27-2008

فعلاً موضوع للنخبة فقط....

أسجل حضوري ومتابعتي هنا حالياً... ولي عودة


د. نائل