حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
ماذا وراء المشهد العربي الاقتصادي الراهن؟ - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3)
+--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57)
+--- الموضوع: ماذا وراء المشهد العربي الاقتصادي الراهن؟ (/showthread.php?tid=7584)



ماذا وراء المشهد العربي الاقتصادي الراهن؟ - ابن سوريا - 12-18-2007

مقال رائع عن الوضع الاقتصادي العربي نشرته شهرية "اللوموند ديبلوماتيك" الفرنسية لعدد هذا الشهر (كانون الأول/ديسمبر 2007)


ماذا وراء المشهد العربي الاقتصادي الراهن؟
كمال حمدان*



انتعاشٌ اقتصاديّ وسط تداعيات سياسية؟

إذا كانت التداعيات السياسية والأمنية للمشهد العربي تتميّز بقدرٍ كبيرٍ من السخونة وتميل إلى احتلال موقع الصدارة في واجهة الأحداث، فإن ما قد يرتبط بها من تداعيات اقتصادية يطرح نفسه على بساط البحث بإلحاح. فكيف يمكن قراءة الوضع العربيّ الاقتصادي الراهن؟ وكيف يمكن تحليل التداعيات الاقتصادية للاضطرابات السياسية والأمنية، خاصّةً الحرب المرتقبة على إيران.


ينطوي المشهد العربي الحالي على تباين واضح بين الوجهة العامة للتطورات السياسية من جهة، والوجهة التي تنتظم التطور الاقتصادي من جهة ثانية، حيث تبدو هاتان الوجهتان خاضعتين لمنطقين متفارقين. ففي حين تنوء الأوّلى تحت ثقل النزاعات السياسية المفتوحة أو المتفجرة في كل من فلسطين والعراق ولبنان -ناهيك عن الصومال والسودان والى حدٍّ معين اليمن-، تتّجه الثانية بحسب ما تظهره التقارير العربية والدولية المتاحة، في مسارٍ معاكس ذي طابعٍ ورديّ، مدفوعٍ بالتفاعلات التراكمية للطفرة النفطية التي لا تزال آخذة مداها دون توقّف منذ نحو أربع سنوات. وقد انعكس هذه المسار، الذي قد يكون مدعاةً للتعجّب من وجهة نظر تجريبيّة (أمبيريقيّة)، على المعدّلات الوسطية للنمو والتشغيل والاستثمار والسيولة والحسابات الخارجية والصادرات والنفقات والإيرادات العامة السنوية في المنطقة عموماً، وإن كان ذلك مع تفاوتٍ شديدٍ من مجموعة بلدانٍ إلى أخرى [1].

[صورة: arton1840.jpg]

الطفرة النفطيّة

يغلب على طفرة النمو الراهنة في البلدان العربيّة الطابعٍ الريعيّ المرتبِط أٍساسا بارتفاع أسعار النفط. ولا ترجّح المعطيات الراهنة، خصوصاً في ظلّ المشهد السياسي المتفجّر، نجاح هذه الطفرة في التأسيس لنموٍّ مستديم يقوم على تنويع الهياكل الاقتصادية وتحديثها وعلى زيادة طاقتها الاستيعابية على المدى المتوسط والبعيد [2]. وثمّة مخاوف من أن تكون "المكاسب" الراهنة ذات طابعٍ عابر، على غرار صدمتي أسعار النفط السابقتين، وأن تتلاشى مفاعيلها في أتون الإفراط في الاستهلاك والإنفاق المظهري والمضاربات المالية والعقارية وتقلّبات أسواق الصرف والمال، ناهيك عن موجات التسلّح غير الهادف الذي تبرُز وظيفته الأساسية كأداةٍ من أدوات اعادة تدوير الفوائض النفطية.

وليس ثمّة وضوح حول مدى توفّر تصوّر واعٍ ومحدّدٍ لدى "النُخَب" داخل بلدان الطفرة، بشأن مندرجات هذه الأخيرة وتبعاتها على الأوضاع المعيشية والاجتماعية للسكّان، وعلى آليات توزيع الدخل وإعادة توزيعه بين الفئات المختلفة على المدى المنظور. ويكاد ينسحب هذا الاتجاه التفاوتي أيضاً على عملية توزيع الخسائر والأرباح على المستوى العربي الكلّي، بين مجموعة البلدان العربية المصدرة للنفط ومجموعة البلدان العربية المستوردة له، والتي تجاوزت فاتورة النفط المتعاظمة فيها قدرة البعض منها على الاحتمال. ويعدّ هذان العاملان مصدر عدم استقرارٍ للنظام العربي على المدى المتوسط.

أمّا فيما يخص منطق العلاقة بين الطفرة والإصلاح، فيستمرّ على نطاقٍ واسع التعارض المُعلَن، حول ما إذا كانت هذه الطفرة تعدّ محفّزاً للإصلاح أم هي عنصرٌ أساسيٌّ من عناصر تأجيله، انطلاقاً مما تتيحه من قدرات على المضيّ في لعبة "شراء الوقت". وكذلك يستمرّ التحجّج بوجود أزمات سياسية وأمنية تعصف بالمنطقة كمبرّرٍ للتأجيل، فيما يستسهل البعض الركون إلى أن الإصلاح لا يصبح محتّماً وواجب التحقيق إلاّ عند حصول انهيارٍ في الاقتصاد، وهو مما يكاد يجعل مطلب الإصلاح موازياً ضمنيّاً لمطلب الانهيار نفسه.

ولكن ما تعريف هذا الإصلاح؟ إذ تستمرّ غالبية "النخب" في الاعتماد الفعليّ على ما يروّج من "وصفات" من قبل البنك الدولي وأخواته، وهي وصفات تختصر هذه العملية في ثالوثٍ من التحوّلات: التحوّل من "العام" إلى "الخاص" (أي الخصخصة)، والتحوّل من الانغلاق الاقتصادي إلى الانفتاح، والتحول من سيطرة النفط إلى التنويع الاقتصادي. وبالرغم من أن جزءاً من هذه الشعارات قد يصلح الأخذ به [3] لسلامة مرتكزاته المبدئية، فإن نجاح ذلك يبقى مشروطاً باندراج تلك الشعارات ضمن خيارات ورؤى استراتيجية بديلة، تقوم على منطق بناء القدرات الوطنية والقومية الذاتية وترسيخ مبدأ الندّية في التقاسم الفعلي للمنافع المتأتية من التفاعل الإيجابي مع ظاهرة العولمة. ومثل هذا الإصلاح يتطلّب أيضاً وجود مجموعات وقوى اجتماعية منظّمة تضغط على الحكومات، بحيث يكون في مقدورها تحييد "مقاومة" عتاة المستفيدين من اقتصاد الريع وفروع النشاط الاقتصادي المحميّة.


النفط والمصارف عناصر الصورة الورديّة

تجمع التقارير والأدبيات الاقتصادية المتداولة، عربياً، وبخاصة دولياً، على أن تغيّرات أساسية ذات طابعٍ ايجابي تجري في المنطقة العربية عموماً منذ مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة، بخلاف المشهد السياسي الذي ظلّ محكوماً بالسير في اتجاهٍ معاكس. وتتزامن هذه التغيّرات بوجه خاص مع الطفرة النفطية المستجدّة، ومع ارتفاع سعر النفط الوسطي (السعر المعتمد من جانب البنك الدولي) من 18 دولاراً خلال التسعينيات إلى 26 دولاراً في أوائل الألفية الثالثة ثمّ إلى 64 دولاراً عام 2006 (مع العلم بأن السعر الوسطي للنفط قد بلغ 70 دولارا في شهر آب/أغسطس 2006). وقد واصل سعر النفط اتجاهه صعوداً في عام 2007 . وبنتيجة ذلك، ارتفعت القيمة الإجمالية لإيرادات النفط في بلدان الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا إلى نحو 510 مليار دولار عام 2006، بزيادةٍ قياسية قدرها 15% مقارنة بمستواها عام 2005 [4]. كما انسحبت هذه الطفرة على القطاع المصرفي الذي حقّق نمواً بنسبة 20% عام 2006، حيث ارتفعت القيمة الإجمالية لودائعه إلى 1240 مليار دولار موزّعة على نحو 450 مصرفاً و15 ألف فرع، يعمل فيها 370 ألف موظف. وهذه تشكّل عناصر الصورة التي يجرى تعميمها منذ مدة، في تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كصورة ورديّة مرشّحة للتواصل في الأعوام الثلاثة القادمة.

وقد انتقلت المنطقة عموماً إلى معدلات نموّ اقتصادي غير مسبوقة منذ الصدمة الأولى لأسعار النفط في أوائل السبعينيات، حيث ارتفعت هذه المعدلات من 3.6% سنوياً في النصف الثاني من التسعينيات إلى 4.6% بين عام 2000 وعام 2003، ثم إلى أكثر من 6% بين عامي 2004 و2006. وانعكس هذا التحسن على تطوّر معدل نمو نصيب الفرد من الدخل القومي، الذي زاد من 1.7% سنوياً خلال النصف الثاني من التسعينيات إلى نحو ضعفي هذا المستوى بين عام 2004 وعام 2006، وبخاصّة في عام 2006 حيث بلغ 4.2%، وهو أعلى معدّل في العقدين المنصرمين. وانطوى هذا التحسّن على ردمٍ نسبيّ للهوّة التي تفصل، في المقارنات الدولية، بين المنطقة وباقي مناطق العالم الثالث الأخرى. واستمرّ الطلب الداخلي (الاستهلاكي والاستثماري) يعدّ أهم مصدر للنمو، ولكن مع تضاعف مساهمة الاستثمار المحلّي في توليد الناتج المحلي، متزامناً مع ارتفاع الاستثمار الخاص الداخلي كنسبةٍ من إجمالي الناتج المحلي، وهو الأمر الذي ينسجم مع متطلبات زيادة الانخراط في ظاهرة العولمة.

كما اقترن الاتجاه الصاعد في معدلات النمو الاقتصادي بتقدّمٍ حثيث على مستوى التشغيل، حيث تفيد الإحصاءات الدولية بتراجع معدّلات البطالة في المنطقة من 14.3% عام 2000 إلى 10.8% عام 2005، وهذا ما قلّص الفارق على هذا الصعيد بين هذه المنطقة ومناطق العالم الثالث الأخرى. ويلاحظ أن هذا التراجع قد تحقّق بالرغم من أن معدّل نمو القوى العاملة قد سجّل أعلى مستوياته -4.5% سنوياً خلال النصف الأول من العقد الحالي-، وهو مما يعني أن الطلب على العمل من قبل المؤسسات الخاصة والعامّة قد استوعب ليس فقط العرض السنوي للعمل من قبل الأفراد (نحو أربعة ملايين نسمة)، بل استوعب كذلك جزءاً من المخزون المتراكم للمتعطّلين عن العمل [5]. ومن أبرز ما تمخضّت عنه المعطيات الإحصائية الارتفاع الحثيث والواضح، بدءاً من مستهلّ هذا العقد، في نسبة مساهمة المرأة في إجمالي القوى العاملة، خصوصاً في البلدان ذات الثقل الديموغرافي المرتفع مثل سورية والجزائر وإيران.

كما استمرّ التقدم المحقّق في مجال الاستقرار في الاقتصاد الكلّي في المنطقة. ويشمل ذلك ضبط وتحسين أوضاع الموازين الداخلية والخارجية، لاسيما الحساب الجاري، وبنسبة أقلّ السيطرة على التضخم. أمّا التصحيح الهيكلي -الذي كان قد بُدئ في تنفيذه منذ أواسط الثمانينيات في غير بلد من بلدان المنطقة، فتعثّر في بعضها وتباطأ في بعضها الآخر- فيتبيّن أنّه قد استعاد شيئاً من الزخم في السنوات الأخيرة بالتلازم مع انتعاش معدّلات النمو الاقتصادي. وهذا ما تعكسه التعديلات الجزئية، في قوانين التجارة والاستثمار وفي مجال خفض الرسوم الجمركية والحواجز غير الجمركية وتلطيف آثار السياسات التدخليّة السابقة وتحسين كفاءة الأجهزة الحكومية والأطر التشريعية المؤسسية العامة والقضاء، والتحسّن الجزئي في مناخ الاستثمار.... وربما تكون هذه العوامل قد أسهمت، من بين عوامل أخرى، في تحفيز حجم تدفقات الاستثمار الخارجي، التي زادت بحسب تقديرات البنك الدولي من 17.5 مليار دولار في عام 2005 إلى 24.4 ملياراً في عام 2006، أي بزيادة 40%.


حدود الطفرة الاقتصادية: استمرار نقاط الضعف البنيوية

قد يخال المرء لدى مطالعته هذه اللوحة الوردية أن الكوابح والمعوّقات والاختلالات هي في طريقها إلى الزوال من المشهد العربي الاقتصادي الراهن. ولكن قراءة متأنية للأدبيات والمعطيات المتداولة، تفرض حدوداً على الأبعاد [6] الفعلية لتلك اللوحة. وقد يصحّ القول إن المنطقة عموماً تعيش حالة طفرةٍ اقتصادية، لكن الأصحّ أيضاً أن نضيف أن الرقعة الجغرافية لانتشار هذه الطفرة ظلّت ضيقةً نسبياً، وبقي احتمال ثباتها موضع تساؤل، وكذلك درجة ارتباطها بإصلاحات حقيقية ومستديمة، على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وحتى نقاط القوة التي سبق استعراضها، فإن التفصيل في تحليل مندرجاتها على مستوى مجموعات البلدان العربية المختلفة -مع الأخذ في الحسبان الأوزان الديموغرافية النسبية لتلك المجموعات- من شأنه أن يحدّ بنسبةٍ كبيرة [7] من الدلالات الايجابية التي تشير إليها "الوسطيّات الإحصائية" الإجمالية المعبّرة عن نقاط القوة تلك. وينطبق هذا التحليل أيضاً على قطاعات اقتصادية غير نفطية ظلّت في غالبية البلدان المعنية خارج إطار آثار الطفرة الراهنة، كما هو حال الصناعة على سبيل المثال لا الحصر.

وبقيت معدلات النمو، على أهميّتها، أدنى بصورة عامة من المعدلات الوسطية المسجّلة في البلدان النامية ككل. وينطبق هذا الاستنتاج (خصوصا في حالة معدّلات تطور الناتج المحلي للفرد)، على مجموعات البلدان العربية الأساسية الثلاث. كما ظلّت معدّلات نمو دخل الفرد في البلدان الغنية بالموارد والمستوردة للعمالة بصورة عامة أعلى بنسبة الضعفين من تلك العائدة إلى الفئتين الأخريين، مبرهنةً بذلك على ارتباط النمو أساساً بالطفرة النفطية. أمّا ما هو أكثر دلالةً، فهو تزامن هذه الطفرة مع الارتفاع الحثيث والمتواصل في حصّة بلدان الفئة الغنية بالموارد والمستوردة للعمالة -التي لا يمثّل سكانها إلا نحو 8.6% من إجمالي السكان- من نحو 44% من الناتج المحلي الإجمالي القائم في المنطقة وسطياً خلال النصف الثاني من التسعينيات إلى نحو 50% وسطياً في الحقبة 2000-2003، ثمّ إلى 55% في عام 2006. وفي المقابل، تراجع نصيب البلدان المفتقرة إلى الموارد والكثيفة السكان من نحو 25% إلى 22.5%، فإلى أقل من 16% خلال المدد نفسها تباعاً. وليس خافياً على أحد ما لهذه التطورات من مدلولات سياسية واقتصادية ذات أبعاد استراتيجية واضحة. وأخيراً، فإنّ معدلات النمو، أيّاً كانت أهميتها، لا تدلّ دلالة دقيقة عن واقع توزّع الدخل وعن التفاوتات الاجتماعية في بلدان المنطقة، ومن ضمن ذلك في بلدان الطفرة النفطية. ومن المؤسِف أن هذا الجانب بالذات من القاعدة الإحصائية غالبا ما يجري طمسه.

وعلى صعيدٍ آخر، يجب ألاّ يصرف التحسن الذي طرأ على مستوى أسواق العمل والقوى العاملة النظرَ عن استمرار، وأحيانا تفاقم، العديد من أعناق الاختناق. فنسبة العاملين فعلاً من إجمالي السكان الذين هم في سنّ العمل (15-64 سنة) -والمقدّرة بنحو 47% من الإجمالي في عام 2005- لا تزال أدنى نسبةٍ في المقارنات الدولية. فحتّى خلال مرحلة الطفرة الاقتصادية (2000-2005)، ظلّت تُطرح بحدّة على المستوى العربي والإقليمي مسألة العلاقة بين شكل النمو الاقتصادي المحفوز أساساً بالريع من ناحية، وبنية تطور الطلب على العمل من جانب المؤسسات التي يغلب عليها الطابع الصغير والمكروي من ناحية أخرى. كما تبقى التفاوتات الحادة -وأحياناً المتعاظمة- إحدى السمات الأساسية المميّزة لأسواق العمل في المنطقة، تبعاً للتباينات بين البلدان المختلفة. حيث يميل الجزء الأكبر من جيش المتعطّلين عن العمل إلى التركّز أساساً في البلدان ذات الكثافة السكانية العالية، وهي بلدان إمّا أنها لا تمتلك الموارد الطبيعية (مصر، سورية، المغرب، ...) أو أن ما تمتلكه منها لا يتناسب مع ثقلها الديموغرافي. وكذلك تتمثّل المعضلة الأساسية في العلاقة الملتبسة بين الهياكل الريعيّة للاقتصادات القائمة (النفط، المساعدات، مصادر الريع الأخرى ومنها أسواق المال والبورصات ...)، ومتطلّبات توفير نحو أربعة ملايين فرصة عمل سنوياً [8]. فباستثناء رقعةٍ ضيّقة من فرص العمل المتولّدة في أنشطة ذات قيمة مضافة عالية نسبياً -وفي عددٍ محدودٍ من البلدان معظمها بلدان غنية بالموارد وشديدة الانفتاح على الأسواق العالمية- فإن الأساسي من إيجاد فرص العمل قد تحقّق في أنشطة منخفضة المهارة أو في إطار مؤسسات خدمية مكروية وصغيرة يغلب عليها الطابع العائلي البسيط وغير النظامي، أو في أنشطة زراعية مدعومة أو شبه مدعومة. ومن الواضح أن الإنتاج المتأتّي عن مثل هذه الأنشطة ليس من النوع الذي ينطوي على قدرات تبادلية عالية، في المعنى المتعارف عليه في أدبيات التنمية. وهذا ما يفسّر ربما لماذا اقترن النمو الاقتصادي المتصاعِد وكذلك اتساع أسواق العمل خلال هذه المرحلة مع استمرار ضعف مستوى إنتاجية العمل. وما يتوّج هذه الملاحظات هو الإشارة إلى أن الأمر لا ينحصر في تناول الجوانب والمؤشرات "الكمية" المتعلّقة بتلك التطورات، بل يتعداها إلى مسائل أخرى أساسية وذات طابع نوعي، وأهمّها يرتبط بالإجابة على الأسئلة التالية: إلى أي حدّ ترافق ارتفاع معدلات التشغيل والاستخدام -ومن ثَمّ تراجع معدلات البطالة- مع تحسّن موازٍ في شروط العمل نفسها وبخاصة في قيمة الأجر والدخل الحقيقيين، إزاء ارتفاع تكاليف المعيشة بفعل الطفرة الاقتصادية والعقارية والمالية؟ وهل تزامن ذلك التحسّن مع توسيع وتطوير حجم ونوع قاعدة التقديمات الاجتماعية للعاملين، الأجراء منهم وغير الأجراء؟ وهل تمّت على سبيل المثال بلورة وتنفيذ خطط وبرامج ومشاريع تهدف إلى توفير نوع من الحماية للمتعطّلين عن العمل (نحو 13 مليون متعطل)، كإنشاء صندوق لتعويض البطالة أو ما شابه؟ المعطيات الجزئية المتوفرة لدى منظمة العمل الدولية لا تسمح بالقول بأنّ تحسناً ملموساً - أو موازياً على الأقّل للتحسن المحقّق في معدلات النمو- قد طرأ في الآونة الأخيرة على هذا الصعيد. وما يدعم هذا الاستنتاج هو ما تشير إليه تقارير تقدّم الأعمال حول مكافحة الفقر وتحقيق أهداف الألفية الثانية في المنطقة، مع التذكير بأنّ المنطقة لا تزال تحتلّ في المقارنات الدولية مرتبةً متدنيّة في مقياس العدالة الاجتماعية المستند إلى مؤشرات عدّة، لاسيّما منها مستوى التركّز في توزع الثروة والدخل وعلاقة الأجر الوسطي بتكاليف المعيشة.


التصحيح الهيكلي: خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء؟

لقد بنيت آمال عريضة على حجم ونوع المنافع الموعودة من جراء المضي قدماً على طريق تنفيذ سياسات التصحيح الهيكلي، التي بذلت المنظمات الدولية الرئيسية -بتوجيهٍ من الدول الغربية الفاعلة- ضغوطاً حثيثة ومتواصلة لترجمتها (أو فرض ترجمتها) على أرض الواقع؛ وعملت على ربط دعمها لبلدان المنطقة بالتقدّم المحقّق في هذا المسار. وتضمنّت سياسات التصحيح أربعة مرتكزات أساسية، تتمثّل في السياسة التجارية ومناخ الاستثمار ونوعية الإدارة العامة ومستوى المساءلة والمحاسبة في القطاع العام.

وبالرغم من تسريع بلدان المنطقة للإجراءات الإصلاحية في مجال التحرير التدريجي للتجارة خلال السنوات الأخيرة، فلا يزال معدّل الحماية الوسطي مرتفعاً نسبياً، إذ بلغ عام 2006 نحو 17% في دول المنطقة الغنية بالموارد والكثيفة السكان، وتجاوز ذلك في البلدان المفتقرة للموارد، خصوصاً في تونس والمغرب حيث بلغ 26%، في حين أن المشكلة ليست قائمة أساساً في بلدان الخليج المنتجة للنفط. وكان حريّا بدول المنطقة أن تجعل الاتجاه نحو تحرير التجارة (والخدمات) مسبوقاً أو على الأقل متزامناً مع تحضير وتهيئة القطاعات الاقتصادية الأساسية، لاسيما المؤسسات الخاصة، لتحمّل آثار هذا التحرير. وقد انعكس غياب هذا التحضير في الأداء الإنتاجي، وخصوصاً التصديري، للمؤسسات العاملة في المنطقة، بحسب ما يظهره تطوّر بنية التجارة الخارجية، لاسيما بنية الصادرات من غير النفط. وكذلك كان التقدّم أقل وضوحاً في ما يتصل بتحسّن مناخ الاستثمار -باستثناء دول الخليج المنتجة للنفط- حيث لا تزال دول المنطقة عموماً، فيما يخص المؤشّر العام لمناخ الاستثمار، ضمن مراتب التصنيف الدنيا في المقارنات الدولية، إذ هي تحلّ فقط قبل منطقتي جنوب الصحراء الإفريقية وجنوبي آسيا. أمّا التحسّن الملحوظ الذي تعكسه ظاهراً البيانات الدولية حول الركنين الأخيرين لسياسة التصحيح الهيكلي -أي نوعية الإدارة العامة ومستوى المساءلة والمحاسبة في القطاع العام- فيمكن اعتباره أقرب إلى استقراء للنوايا المستقبلية كما هي معلنة في "الخطاب الرسمي" للبلدان المعنية، منه إلى تشخيصٍ ورصدٍ أمينين للواقع الحيّ والمعيش فعلا. وقد يكون ذا مغذى أن تعمد تلك البيانات إلى حصر التحسن الملحوظ في المؤشر العام "للحِكامة" في فئتين من البلدان -الفئة المفتقرة للموارد (ولاسيّما مصر والمغرب والأردن) من جهة، والفئة الممتلكة للموارد والمستوردة للعمالة (أي بلدان النفط) من جهة ثانية- والى استثناء، بل حتى إعدام، الفئة الثالثة المتمثّلة في دولة "مارقة"، هي سورية، إضافة إلى دول ملتبسة الأوضاع كالعراق واليمن والى حدّ معين الجزائر. وهكذا يبدو أن الطفرة الاقتصادية والنفطية المتواصلة للسنة الرابعة على التوالي، قد كبحت إلى درجة معينة الجهود الخاصة بالتطبيق المزمّن لسياسات وبرامج التصحيح الهيكلي المصرّح عنها، بحسب ما تنطوي عليه معطيات أولية تتعلّق أساساً ببرامج إصلاح القطاع العام والمؤسسات العامة في فئتي البلدان الممتلكة للموارد النفطية (الكثيفة السكان منها والمستوردة للعمالة). وينطوي تباطؤ هذا النوع من الإصلاح على دلالات ذات شأن، في منطقة اضطلع فيها القطاع العام تاريخياً بدورٍ أساسي بل حاسم في توجيه النشاط الاقتصادي عموماً وفي توفير الخدمات العامة للمواطنين، وكذلك في الاستئثار بحصة غالبة من إجمالي الناتج المحلي ومن مصادر التمويل المتاحة. ومرّة أخرى يخشى أن ينطبق على واقع الحال شعار: "بدلٌ" نفطيّ عن "ضائعٍ" إنمائي!!


البعد القطاعي: تدهور في الصناعة ومخاطر في أسواق المال

في ما يتجاوز مسألة الارتفاع في معدلات النمو ومعدلات التشغيل والتقدم الملتبس في التصحيح الهيكلي، تبرز في معرض هذا التقييم جملة موضوعات ذات بعد قطّاعي تطول المنطقة بكاملها وتلقي المزيد من الضوء على الحدود الفعلية لطفرة النمو. وهذه الموضوعات ذات البعد القطاعي جد متنوعة، وهي تراوح بين حدّين: قطاعات تقليدية، كالزراعة مثلاً، التي فشل العالم العربي في "تزويجها" مع الصناعة تحقيقاً لمعدّلات قيمة مضافة أعلى، على غرار ما أتقنته الدول التي سبقت على طريق النمو؛ وقطّاعات أكثر حداثةً وانفتاحاً على ظاهرة العولمة كقطاع الاتصالات والمعلومات الذي سجّلت بعض بلدان المنطقة خروق نسبية فيه، وان لم تخل هذه الخروق من سمات ذات جانب ريعي. ومن هذه الموضوعات أيضاً ما يكتسي طابعاً متعدّد القطاعات كموضوع المبادلات التجارية العربية البينية وموضوع التكامل الاقتصادي العربي، اللذين لم تتبلور حيالهما إرادة سياسية قادرة فعلاً على حسم المسائل المطروحة (قواعد المنشأ، المواصفات، قواعد المرور والترانزيت، الجوانب الإجرائية الخاصة بالاستيراد والتصدير، تعددية الرسوم، أسعار الصرف، ...) وعلى ترتيب الأولويات ما بين زيادة نسبة التجارة العربية البينية وزيادة نسبة الصادرات العربية (لاسيما غير النفطية منها) من إجمالي الصادرات العالمية.

وهكذا تتوافق المعطيات المتاحة -من مصادر بحث عدّة دولية وإقليمية- على التأكيد بأن تراجعاً شبه متواصل قد طال خلال السنوات الأخيرة معدّلات نمو قطاع الصناعات التحويلية في معظم بلدان المنطقة. ومعروف أن هذا القطاع كان يشكو في الأصل من العديد من مؤشّرات الضعف بل حتى التهميش، سواء من ناحية حصّته من إجمالي الناتج المحلي أو من إجمالي الصادرات، وكذلك من ناحية خصائص بنية الإنتاج والتصدير الصناعيين. والاستثناء النادر المتمثّل في بعض الصناعات المحورية (كالصناعات البتروكيماوية والغازية) لا يغيّر كثيراً في هذه الصورة القاتمة، لاسيما وأنه قد طغى على هذه الصناعات الطابع التصديري الذي حال دون اندماجها بقوّة أكبر في النسيج الاقتصادي المحلّي. وعلى صعيد آخر، فإن مراهنة بعض الصناعات التحويلية العربية على الاستفادة من الاتجاه المتزايد نحو "الأقلمة"، عبر الانتساب إلى اتفاق الشراكة الأورو-متوسطية ومنظمة التجارة العالمية ناهيك عن منطقة التجارة الحرة العربية، لم تثمر، على الأقل حتى هذا التاريخ، لاسيما فيما يتعلق بالصناعات القائمة في البلدان المفتقرة إلى الموارد. وعلى سبيل المثال يلاحظ مع انقضاء اتفاقية الألياف المتعددة عام 2005 -التي كانت قد أتاحت لصادرات المغرب وتونس ومصر الدخول التفضيلي إلى أسواق المنسوجات والملبوسات الأوروبية- أن تلك الصادرات قد تراجعت تراجعاً واضحاً في هذه البلدان، باستثناء مصر التي تدبّرت أمرها في الحفاظ على صادراتها، عن طريق توقيعها اتفاقية مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل بشأن المناطق الصناعية المؤهّلة عام 2004. وتنطوي هذه الصورة القاتمة للصناعة العربية على العديد من الدروس والعبر، أهمّها التجسيد التاريخي لغياب "الحلقة الصناعية" في هياكل الاقتصاد العربي، وهي الحلقة التي تعدّ في التجارب التاريخية المتنوعة -ومنها تجربة بلدان شرق آسيا- المعبر الواجب الوجود إلى رحاب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحداثة، بارتباطها الوثيق برافعات التوازن الاقتصادي الهيكلي وتعزيز القيمة المضافة ورفد أسواق العمل بطلبٍ متنوّعٍ على العمل، ناهيك عن تسهيل استيعاب التكنولوجيا وسحب آثارها إلى جميع القطاعات.

ومن ضمن آثار الطفرة النفطية والاقتصادية، انتعاش القطاع المالي. وقد انعكس هذا الانتعاش على نمو الائتمان وعلى تحسن ربحيّة المصارف. وازدادت قدرة المصارف على الاستجابة لمتطلبات تمويل الفرص الاستثمارية التي ارتفع عددها واتسع عمقها بحسب ما يتبدّى من تكاثر المشاريع الاستثمارية العملاقة. ولكن في موازاة هذه التطوّرات، فإن بعض الظواهر المستجدة في القطاع المالي خلال السنوات الثلاث المنصرمة قد أفضت إلى زيادةٍ ملحوظة في درجة تعرّض اقتصادات بلدان المنطقة للصدمات السلبية. ومن بين هذه الظواهر استسهال المصارف تمويل أسواق الأسهم، في وقتٍ تعزّزت فيه نزعة المضاربة في هذه الأسواق، وهو الأمر الذي جعل مداخيل المصارف ونوعية أصولها وضماناتها عرضة للمخاطر، تحت وطأة التصحيحات المتكررة التي شهدتها الأسواق المذكورة. وقد تعرّضت المصارف كذلك (والقطاع المالي عموماً) لنوعٍ آخر من المخاطر بفعل ميلها نحو الانغماس المفرِط في تمويل الطفرة العقارية المتأثّرة سلباً بالانعكاسات الناجمة عن أزمة أسواق الأسهم. وهذا التوصيف يُبرِز العديد من مواطن الخلل: انفصالٌ ظاهرٌ بين القطاع المالي والاقتصاد الخاص الحقيقي (غير المالي)؛ وتركّزٌ شديد للائتمان في أيدي قلّة محظية من الزبائن؛ وتحكّم القطاع العام عن طريق المصارف التي يملكها بعملية توجيه التسليفات؛ وضعف عام في الأطر التنظيمية للمصارف وفي آليات الإشراف والمراقبة وأدوات تحليل المخاطر؛ وانعكاس التأثيرات المباشرة المتأتية عن ضعف الحِكامة على سوء تخصيص الائتمانات؛ ... وليس خافياً على أحد أن هذه السمات ترتبط في معظمها بما سبق عرضه بشأن أوجه القصور في مناخ الاستثمار وفي الأوضاع المؤسسية والإدارية العامة، وكذلك من نقصٍ في العمل القانونيّ وممارسة الشفافية والمساءلة.


فهل يتحمّل الوضع الاقتصادي الراهن الضربة المتوقّعة على إيران؟

ينطوي التزامن الراهن بين واقع التردّي في الأوضاع الجيوسياسية للمنطقة، وواقع الطفرة الاقتصادية المتواصلة فيها، على العديد من الإشكاليات. كما تطرح بصورة كامنة مدى قدرتها على استيعاب نتائج الصدمات المحتملة إذا ما اتجهت تلك الأوضاع لاحقاً نحو حالةٍ من الانفجار المفتوح وغير المسيطر عليه (مواجهة أميركية-إيرانية عسكرية، فوضى شاملة في لبنان و/أو العراق، جولات جديدة في النزاع العربي-الإسرائيلي، ...). والواقع أنه يصعب استقراء التطوّرات القادمة دون العودة إلى عوامل أساسية عدّة، أهمها اثنان: واحدٌ اقتصادي بحت والثاني سياسيّ في الأساس، وان اكتسى طابعاً اقتصادياً.

يتمثّل العامل الأول في طول مدّة حركة تصحيح أسعار النفط وسط تأكيدات متعاظمة للدور الحاسم الذي سوف يقوم به النفط العربي في تغطية الارتفاع المتوقّع في استهلاك العالم من النفط مستقبلاً. وترجّح الأوساط النفطيّة الدولية أن أكثر من ثلثي إجمالي الزيادة في الاستهلاك العالمي خلال العقدين القادمين سوف يجري توفيره من بلدان المنطقة المنتجة للنفط، وهو مما سيرفع حصّتها من كامل الاستهلاك العالمي إلى ما بين 40% و50%. وبهذا المعنى، يمكن النظر إلى الطفرة النفطية الراهنة (ومن ثَمّ الطفرة الاقتصادية المصاحبة) بصفتها تندرج أساساً ضمن الاتجاهات المتوسطة والبعيدة المدى لما ستكون عليه أسعار النفط مستقبلاً، مع الأخذ في الحسبان واقع النجاح والفشل في إمكان اكتشاف كميّات جديدة من النفط خارج إطار منظمة الدول المصدرة للنفط OPEC.

أما العامل الثاني، والذي قد يصفه البعض عن حقّ أو غير حقّ بأنّه مستمدّ من "نظرية المؤامرة "، فتغلُب عليه اعتبارات سياسية ذات طابع استراتيجي. فإذا كانت الإدارة الأميركية قد خطّطت وما تزال تخطّط لإعادة صياغة شاملة للبناء الجيوسياسي للمنطقة، فمن المشروع الاعتقاد بأنّها، وهي في ذروة اندفاعتها لتنفيذ خططها هذه، مستعدّة لأن تدعم كل ما من شأنه خلق شعور من "البحبوحة" النسبية لدى نخبٍ وقوى سياسية واجتماعية في المنطقة، مرشّحة لأن تكون معنيّة ليس فقط بتقبّل تلك الخطط بصورة إيجابيّة، بل معنيّة كذلك بالتعامل مع نتائجها اللاحقة خلال الربع المقبِل من القرن الحالي انطلاقاً من موقع الشريك الجزئي. وهذه المرحلة هي ذاتها التي سوف يكون العالم خلالها -وبخاصة لاعبوه الكبار كالولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والصين واليابان والهند- شديد الاعتماد على استيراد احتياجاته من النفط، خصوصاً من بلدان المنطقة. والمسألة في نظر الإدارة الأميركية تتعدّى هنا مسألة توفير سلامة الإمدادات أو قيمة فاتورتها فقط، إذ ربما تشمل أيضاً النيّة للتحكّم في مصادر النفط في المنطقة لاستخدامها في إدارة أو "توليف" التنافس الاقتصادي على المستوى الكوني بين الكتل والمجموعات الدولية المختلفة. فمن يمتلك القدرة على التأثير في هذا المضمار، يضمن لنفسه موقعاً أساسياً وفاعلاً في غير مجال: الاستكشاف، الاستخراج، التنقيب، الإنتاج، النقل، التكرير، التمويل، التسويق، ... وغير ذلك من الأنشطة الخلفيّة أو المتفرّعة، مع العلم بأن كلاًّ من هذه المجالات يمثّل حقلاً واسعاً للاستثمار على مستوى التجهيز الرأسمالي والموارد البشرية ونظم المعلومات والتكنولوجيا المتقدمة وربما أيضا منظومات الأسلحة التي يفترض بها أن تحمي هذا الاستثمار المتعدّد الأشكال. ثم إن الإدارة الأميركية قد تكون -في معنى من المعاني- من ضمن الرابحين على المدى الطويل من جرّاء طفرة أسعار النفط الراهنة (حتى لو دفعت فاتورةً أعلى على المدى القصير أو المتوسط)، لأن هذه الطفرة سوف تسمح بتعزيز فرص الاستثمار في استكشاف وإنتاج كميّات جديدة من النفط خارج إطار بلدان أوبك، بل ربّما أيضاً في تطوير بدائل أخرى النفط. ثم إن هذه الطفرة تلحق أضراراً اقتصادية أكبر بالكتل الأخرى التي تتنافس الولايات المتحدة معها على المستوى الدولي، لأن تلك الكتل تكاد تستورد كامل احتياجاتها النفطية، في حين لا تستورد الولايات المتحدة إلا تحو نصف احتياجاتها.

وفيما يخص التداعيات الاقتصادية المحتملة في حال حصول صدمات أو سيناريوهات من النوع المتفجّر وغير المسيطر عليه -وبخاصّة اندلاع مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وإيران- فإن نتائجها قد تتجاوز قدرة المنطقة (في ظل خصائصها الراهنة) على الاحتمال، مع كلّ الصورة الورديّة القائمة حالياً. إذ يمكن للسيناريوهات المتشائمة أن تشمل: سلامة الإمدادات والصادرات النفطية من المنطقة، واحتمالات تعرّض منشآت الإنتاج والتخزين والتكرير والنقل ومصبّات التصدير وغيرها من المنشآت الاقتصادية لأعمال عسكرية مباشرة، إضافةً بالطبع الى الانعكاسات السلبية التي سوف تسحب نفسها على سائر المرافق والنشاطات الاقتصادية الأخرى. وفي هذه الحالة، يتوقّع انخفاض إيرادات النفط انخفاضاً كبيراً، مع استمرار الأعمال العسكرية. هذا مع الترجيح بألاّ تكون مدّة هذه الحرب قصيرة، في ضوء الدروس والعبر المستخلصة من التجربة العراقية، لاسيّما وأن الاستعدادات العسكرية واللوجستية والإيديولوجية الإيرانية لخوض هذه المواجهة، تبدو أكبر بكثير مما كانت عليه في الحالة العراقية. وباختصار إن هذا يعني انتهاء الطفرة النفطية والاقتصادية في بلدان المنطقة عموماً وحلول نوعٍ غير مسبوق من الأزمات مكانها. وينبغي، في الإطار ذاته، عدم التقليل من احتمالات أن تفرض الإدارة الأميركية على البلدان العربية تمويل (أو المساهمة في تمويل) فاتورة الحرب، انطلاقاً من تسويقها للفكرة القائلة أن من ضمن أهداف هذه الحرب الدفاع عن دول الخليج وعروبة المنطقة وطوائف معيّنة فيها، ضد الخطر الإيراني. وإذا كان البعض يراهن، بمعزلٍ عن ضخامة الكلفة الاقتصادية للحرب، على أنّ تحسُّن الأوضاع بعد زوال هذا الخطر الاستراتيجي من شأنه التعويض عن هذه الأضرار -بفعل عودة انتعاش معدّلات النمو الاقتصادي واكتسابها طابعاً مستديماً- فإن مثل هذه المراهنات تبقى في المطاف الأخير مشروطة بمدى سهولة أو صعوبة إنجاز "المهمة" بنجاح، وبالمهل الزمنية التي تتيح الحفاظ على جدواها الاقتصادية. ولا تتغيّر تبعات هذا السيناريو تغيراً كبيراً في حال دخول أو إدخال سورية في المواجهات، ما خلا احتمال زيادة فاتورة الخسائر وإطالة أمد المواجهات، ناهيك عن سفك المزيد من الدماء وتفجير كافة أنواع النزاعات "ما دون الدولوية".

أخيراً، إنّ أشد ما يلفت النظر هو أن تنزع الكتل السياسية والاقتصادية الرئيسية في العالم نحو المزيد من الانفتاح والتكامل والتوسع، فيما تشتد حالة التشتّت والانقسام في العالم العربي. وإزاء هذه المخاطر فإن المطلوب من العالم العربي -بدل تسهيل استخدامه كمطية لمشاريع دولية تستهدف الهيمنة على مقدرات المنطقة- العبور إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي في إطار من التعاون والتكامل، وصولاً إلى احتلال الموقع الذي يعود له موضوعياً، في شبكات المصالح السياسية والاقتصادية الدولية المعولمة. ويمتد مجال الإصلاح السياسي من تعديل قوانين التمثيل إلى احترام الحريات والرأي الآخر والقبول الفعلي بالمساءلة والشفافية والمحاسبة من قبل "أصحاب القرار" في القطاعين العام والخاص. أما الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، فان مجاله يتسع للعديد من التوجهات على غير صعيد: استلهام الاستثمار في الميزات النسبية القائمة والكامنة على المستوى القطاعي، وتوطين عائدات النفط في عملية تنويع البنية الاقتصاد، وتحفيز الإنتاجية والقيمة المضافة عبر مزيد من الانفتاح على ثورة التكنولوجيا والمعلومات والجوانب الايجابية من العولمة، وتحقيق قدرٍ أكبر من عدالة التوزيع وإعادة التوزيع وتعميم الخدمات العامة الأساسية.... وهذه التوجهات ينبغي أن تندرج تباعاً وعلى نحو متدرج عبر شبكات من النشاطات والمصالح التي تعزز ارتباط وتداخل اقتصادات المنطقة، مع استعداد مسبق من جانب الطبقة السياسية ومجتمع رجال الأعمال لتحمل تبعات التضحية ببعض جزر المصالح الضيقة، المعلنة منها والمستترة، التي تستظل بها بعض المجموعات والقوى الاجتماعية الطفيلية في هذا البلد أو ذاك، على غرار ما قامت عليه التجربة الأوروبية. ومثل هذه المقاربات من شأنها التمهيد للتجسيد الملموس والتدريجي لآليات التكامل القائمة على المصالح المشتركة، من أكثرها بساطة (مناطق التجارة الحرة الثنائية والمتعددة الأطراف) إلى أكثرها تعقيداً (الاتحاد الجمركي، الاتحاد الاقتصادي، الوحدة الاقتصادية)... مع الإشارة إلى أن بلدان المنطقة تتميز عن بلدان أوروبا بما يجمعها من وحدة انتماء وتاريخ ولغة وثقافة وتطلّعات.





* رئيس القسم الاقتصادي في مؤسسة البحوث والاستشارات، بيروت - لبنان





[1] World Bank: “Economic Development and Prospects in Mena: Job Creation in an Era of High Growth”, 2007.

[2] Apicorp: "Looking Beyond Petroleum: A Stronger Case for Economic Diversification in Mena Region”, Mees, April 2007.

[3] منتدى البحوث الاقتصادية للدول العربية وإيران وتركيا: ملخّص الإصلاح الاقتصادي، مكتبة الإسكندرية 12- 14 آذار/مارس 2004

[4] البنك الدولي: مؤشرات التنمية في العام 2006.

[5] مؤتمر العمل الدولي 2006: علاقات الاستخدام، منظمة العمل الدولية، جنيف.

[6] World Economic Forum: The Arab world Competitiveness Report, 2005.

[7] ESCWA: Survey of Economic and Social Developments in the RSCWA Region, 2005-2006

[8] World Bank, op. cit.