حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
العلاقة بين القرآن والتلمود ـ 3: د. نبيـل فياض - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5)
+--- المنتدى: قــــــرأت لـك (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=79)
+---- المنتدى: مواضيـع منقــولة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=25)
+---- الموضوع: العلاقة بين القرآن والتلمود ـ 3: د. نبيـل فياض (/showthread.php?tid=8973)



العلاقة بين القرآن والتلمود ـ 3: د. نبيـل فياض - Gkhawam - 09-22-2007



هذا النص لا علاقة له بالقرآن، لكنه يدور في الإطار ذاته من جهة الحديث النبوي والتراث الإسلامي ما بعد القرآني. وقد أردنا تقديمه في هذه الحلقات لشعورنا بأهميته، مع وعد للقرّاء بأن نقدّم قريباً للمهتمين تعريفاً بالمصطلحات اليهوديّة الغريبة على مسامعنا، والتي يبدو هاماً أن نعتاد عليها، لأسباب كثيرة.
نماذج تفسيرية مختصرة
ان كلّ من يمتلك إطلاعاً وافياً على الجوانب الميثولوجية في التقاليد الإسلامية ما بعد القرآنية والتقاليد الهاغادية، يشعر بمدى التقاطع المذهل بين التراثين. وباستثناءات قليلة، لا نمتلك دليلاً دقيقاً على أنّ هذا الطرف آخذ من ذاك. مع ذلك، فقد اقترحنا في أحد أعمالنا أنّ ثمة دوراً للربانيين اليهود الذين اعتنقوا- أو أظهروا اعتناق - الإسلام في إدخال هذا الكم الهائل من التراث الميثولوجي الرباني في التقاليد الإسلامية: وركزنا أساساً على كعب الأحبار (توجد أسماء اخرى من أمثال: عبد الله بن سلام، وهب بن منبه)، لكن بعض المستشرقين من الأصدقاء، رأوا في ذلك مبالغة في تعظيم شان هذا الرجل، وبرأيهم: فان كثيراً من الميثولوجيات - وغير الميثولوجيات - أقحمها يهود غيره ونسبوها إليه لمكانة الرجل وسمعته العلمية في التاريخ الإسلامي. غير أنّ ما أدهشنا فعلاً، هو أنّ نجد مفكراً أزهرياً يشاطرنا الكثير من تلك الآراء، من أنّ كعب الأحبار هو مصدر هام للتراث الميثولوجي الحاخامي في التقاليد الإسلامية: الاستاذ محمود أبو رية في كتابيه: «أضواء على السنة المحمدية»، و«شيخ المضيرة أبو هريرة»، واللذين لم نكن قد اطلعنا عليهما حين قدّمنا بحثنا عن كعب الأحبار. مع ذلك، ففي اعتقادنا أنه لو تقصّى الأستاذ أبو رية مصادر الحكايا في التراث اليهودي ذاته، لكان البحث أغنى وأعم فائدة. وهذا ما نأمل أنّ نقوم به شخصياً.
من ناحية أخرى، قد لا نتفق بالكامل مع الأستاذ أبو رية في اعتبار هذه القصص إقحام يهودي التوائي الطريقة، لأنه ليس بين أيدينا سوى تقاطع النصوص أو تطابقها، وهذا لا يكفي كدليل على الاقتباس. مع ذلك، ففي أمثلة نادرة، نستطيع أنّ نؤكد الاقتباس بالمقارنة بين الطرفين، المقتبس والمقتبس عنه.
إشارات من التاريخ:
تميّزت خلافة عمر بن الخطاب بالفتوحات الضخمة شرقاً وغرباً وشمالاً. ومن المعروف أنّ هذه المناطق كانت تضم جاليات يهودية ضخمة، خاصة في العراق، حيث الأكاديميات اليهودية التلمودية في قمة عطائها وتبلورها الإيديولوجي. لكن مرحلة عمر بن الخطاب تميّزت بمسألة هامة جداً على الصعيد الديني اليهودي: أخذ القدس من المسيحيين، وإعادة الاعتبار «للصخرة» التي تحتلّ مكانة مقدسة للغاية في التراث الميثولوجي الرباني. وهكذا، فالموقف اليهودي من عمر بن الخطاب يتميز بإيجابية غير اعتيادية عموماً. من ذلك ما يقوله عند أحد المصادر اليهودية «الرسمية» الحديثة:الموسوعة اليهودية-النسخة الانكليزية:
«عمر بن الخطاب، هو الخليفة الثاني (634 - 644)، والذي فتح فلسطين وسوريا والعراق وفارس ومصر. نظّم عمر الامبراطورية الإسلامية، وضع للفاتحين الأحكام التي تؤكد مكانتهم الخاصة (رغم ضآلتهم العددية)، جعل التقويم على أساس الهجرة، وأرسى أسس النظام التشريعي: اعتمدت الأعراف التي أدخلها على الشكلين البيزنطي والفارسي. وكرجل بسيط الفهم والسلوك، تبنّى موقفاً انسانياً مع غير المسلمين، فاستحق لقب الفاروق (الذي يستطيع أنّ يفرق بين الحق والباطل). وبحسب أحد التقاليد، فان اليهود هم الذين اطلقوا عليه هذا الاسم.. وتقول المصادر اليهودية أنّ عمر زوّج ابنة ملك الفرس من بستاناي وعيّنه في مركز جالوت (رئيس يهود السبي ). ويقال أنّ كعب الأحبار وهو يهودي تحول إلى الإسلام وكان ضمن حاشية عمر حين فتح الأخير القدس، دلّ عمر على مكان الصخرة «إيفن شتياه» (حجر زاوية العالم ) على جبل الهيكل، فأمر بتنظيف الصخرة واستخدم المكان كموضع للصلاة حتى زمن عبد الملك (605-685) والذى بدوره بنى قبة الصخرة ( التى صارت تعرف شعبياً باسم مسجد عمر) فى هذا المكان. وتقول بعض المصادر العربية والمسيحية أنّ أحد شروط المسيحيين سكان القدس للاستسلام لعمر كان تحريم إقامة اليهود في القدس(1) ، لكن موثوقية هذه المصادر تبدو مشكوكاً بها، لان اليهود عاشوا فى القدس زمن العرب. سمح عمر لليهود بإعادة بناء حضورهم فى القدس(2) بعد حقبة 500 سنة. ويبدو أنه خصّصّ لهم موضعاً للصلاة على جبل الهيكل (والذي طردوا منه في وقت لاحق). يعتبر التقليد اليهودي عمر حاكماً خيّراً، ويسمّيه أحد المدراشيم، (نستاروت د راف شيمون بار يوحاي(3)) صديق إسرائيل. يقول الطبري، إنّ حكيماً يهودياً أخبر عمر أنّ قدره أنّ يصبح حاكم الأرض المقدّسة. وُصِفَ عمر بأنه صاحب شرائع تمييز(4) ضد الأقليات في أراضي المسلمين، لكن هذا الزعم لا يستند إلى أسس علمية» .
لكن: من هو بستاناي ؟
بستاناي بن حناينا (618 - 670 م تقريباً) هو أوّل جالوت في بابل بعد الفتح العربي. كان بستاناي قد عيّن من قبل الحاكم الفارسي جالوتاً لليهود، وبعدما احتلّ المسلمون بابل، أقرّ الخليفة عمر بستاناي كجالوت، وزوجه من ازدونداد، إحدى بنات الملك أحشورش الثاني الأسيرات، الذي كان ملك فارس، في حين تزوج الخليفة ذاته من أختها، وأقرّ بالتالي واقعياً اعتبار بستاناي كأحد خلفاء ملوك فارس. (يقول «سفر هاقبالاه» لابراهام بن داد، أنّ المرأة هي ابنة يزدجرد الثالث، ابن احشورش، وأن الخليفة كان علياً(5)).
الرموز الثلاثة:
ثلاث شخصيات يهودية بارزة «قيل» أنها اعتنقت الإسلام، يوجد باسمها كمّ ضخم من التراث الميثولوجي الرباني في التقاليد الإسلامية: عبد الله بن سلام، وهب بن منبه وكعب الأحبار. فكيف تنظر المصادر اليهودية الحديثة إلى هذه الشخصيات.
عبد الله بن سلام (القرن السابع)، هو واحد من أتباع محمد اليهود. اسم والده، سلام، لم يكن يستعمل في ذلك الزمن إلا بين يهود جزيرة العرب. تعتبر عائلة سلام أنها تنتمي إلى بني قنيقاع، إحدى قبائل يثرب (المدينة) اليهودية، رغم أنّ بعضهم يربطها بقبيلة زيد اللات العربية الكبيرة، الأمر الذي يعني أنهم كانوا تحت حماية الأخيرة. يقال أنّ عبد الله اعتنق الإسلام على يد محمد بعد وصول الأخير إلى المدينة مباشرةً. وحين قال أبناء ملة (عبد الله) السابقين لمحمد «أنه (ابن سلام) سيدنا وابن سيدنا» ، دعاهم محمد للسير في هدى عبد الله. لكن اليهود رفضوا، فلم يعتنق الإسلام آنذاك إلا أسرته، التي كان أشهر أعضائها عمته خالدة. وبحسب مصادر أخرى فقد اعتنق عبد الله الإسلام بسبب قوة محمد في الإجابة على أسئلته. مع ذلك، ثمة رواية أخرى، تبدو مقبولةً أكثر تجعل اعتناق عبد الله الإسلام يحدث في تاريخ أكثر تاخراً. بعد وفاة محمد، أصبح عبد الله في حاشية عثمان وقام بمحاولة فاشلة لمنع قتله. وبعد سنة من ذلك حذر علياً من مغادرة المدينة. وإذا ما أسقطنا الروايات الأسطورية الواضحة التحيز والمتعلقة بعبد الله فسوف لن يبقى الكثير من المعلومات العينية. أما علاقته بأحمد بن عبد الله بن سلام، وهو أحد المترجمين لنصوص الكتاب المقدّس، فهي غير واضحة. لقد تمّ تقديم علماء اليهود في المدينة كطارحي أسئلة على محمد أساساً، لكن لم يبرز منهم غير عبد الله. وتشكّل الأسئلة الثلاثة المنسوبة له جوهر كتاب حمل عنوان أسئلة عبد الله بن سلام، والذي ذكر للمرة الاولى عام 963 م، والذي يعرف في العديد من النسخ المعدلة باسم الألف سؤال. خارج سياق هذا العمل، يذكر عبد الله مراراً وتكرارا كمصدر للقصص من الازمنة الكتابية. ومؤخراً قدّمت مقاطع من الغنزا نسخة يهودية منقصة عبد الله والتي يظهر فيها بوصفه أبشالوم(6) .
وهب بن منبه (القرنان السابع والثامن). هو واحد من اهم المفسرين الأوائل للقران. ولد وهب، الذي هو من أصل يهودي، في صنعاء باليمن عام 656 م تقريباً. وقد اقترحت لوفاته تواريخ مختلفة: 732، 736، 738 تقريباً. جاء أسلافه من فارس، وربما اعتنقوا اليهودية في اليمن. ولد وهب مسلماً، لكن كّتاب السير العرب يذكرون أنه كان من أهل الكتاب أصلاً. كان وهب قاضياً في صنعاء وهو واحد من أبرز المحدثين المسلمين، وله تعزا أعمال كثيرة استخدمت كمصادر تفسيرية هامة للقران وقصص الانبياء. هنا يبرز كتاب الإسرائيليات، وهو عمل مأخوذ عن حاخامي اليمن اليهود، وكذلك عن المسيحيين. يرد اسم وهب كمرجع مراراً وتكراراً عند الطبري، الثعلبي والكسائي، وهو أيضاً أهم مصدر للإسرائيليات. يقدّم الكثير من حكاياه قصصاً كتابية أمينة، أما الأخطاء والتحريفات فيمكن أنّ تعزا إلى كتاب لاحقين(7) .
كعب الاحبار، هو من جنوب جزيرة العرب، عاش زمن عمر بن الخطاب، الخليفة الثاني (634 - 644)، وعثمان بن عفّان، الخليفة الثالث (644 - 656). ينحدر كعب على الأرجح من الحميريين المتهودين. اعتنق الإسلام أثناء حكم عمر. تشير صفة الأحبار (جمع حبر = عالم ديني غير مسلم ) إلى أنه كان مصنّفاً بين العلماء. وفي الأدب الإسلامي تذكر باسمه فعلاً أقوال عديدة للحاخاميين وأقوال من الهاغاداه، وهو ما يجعلنا نستنتج أنه كان يعرف التقليد الشفوي [التلمود والمدراش]. كان كعب أحد أتباع عمر حين دخل الأخير القدس، وبناءً على طلبه، حدد له [كعب] الموضع الذي كان الهيكل مبنياً عليه. وبحسب التقاليد، فقد حاول المسيحيون إخفاءه عن الفاتحين. عندما كشف عن هذا الموقع، حاول كعب حثّ عمر على بناء المسجد (مسجد عمر) شمال الصخرة، بحيث توجه إليها القبلة [في الصلاة] بدلاً من مكّة. لكن عمر رفض هذا الاقتراح، معتبراً أنه موحى بميول يهودية. وما لبث أنّ وبخ كعباً بقسوة وجعل قبلة المسجد في مقدمة جبل الهيكل (جنوب الصخرة). وينسب الجغرافي الهمذاني لكعب قولاً يشهد على توقيره للصخرة: «قال الله للصخرة: انت عرشي ومنك صعدت إلى السماء..» . وبحسب الطبري وابن الاثير، ظلّ كعب مع عمر حتى قتل(8) . وكان قد حذّر عمر قبل الهجوم عليه من أنه سيموت قريباً. كان كعب حاضراً في بلاط الخليفة الثالث. وهناك كانت له بعض المشاحنات مع مسلم تقوي، هو أبو ذر. يقول البلاذري: «أنّ عثمان سأل كعباً ما إذا كان يسمح للحاكم أنّ يأخذ نقوداً من بيت مال المسلمين إذا كان بحاجة لذلك على أنّ يردها فيما بعد ولم يجد كعب غضاضة في هذا العمل. فقال له أبو ذر عندئذ: اتعلمنا يابن اليهود(9) » .
روى الطبري والمسعودي حوادث مشابهة. وهذه الحوادث (إضافة إلى القصّة المذكورة انفاً والمتعلقة بالقبلة) تظهر أنّ موقف المؤرخين من كعب لم يكن متجانساً. لكن مؤلّفي قصص الانبياء لا يقرون بذلك إذ يعتبرونه مرجعاً رئيساً»(10).
لماذا كعب ؟
رغم أهمية عبد الله بن سلام ووهب بن منبه اللذين يتردد اسماهما باستمرار كمصدرين لتفاصيل ذات صبغة ربانية في التراث الميثولوجي الإسلامي، فان كعب الأحبار هو الأكثر جدارة بالانتباه لدوره البارز على الصعيدين الميثولوجي والسياسي، فكيف عرّفت بعض المصادر الإسلامية التاريخية هذا الرجل.
يقول الذهبي: «كعب بن ماتع الحميري اليماني، العلاّمة الحبر... الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي وقدم من اليمن في أيام عمر (رض). فجالس أصحاب محمد (ص)، فكان يحدّثهم عن الكتب الاسرائيلية ويحفظ عجائب، ويأخذ السنن عن الصحابة، وكان حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء»(11) .
تتناقض الروايات التاريخية في مسألة إسلام كعب: هل حدث في المدينة أم خارجها ؟ هل كان قبل فتح القدس أم بعده؟ ووفق حدود علمنا، ينفرد ابن اعثم في رواية قصة إسلام كعب، فيقول: «ثم دخل عمر (رض) إلى بيت المقدّس، ونزل في كنيستها. وأقبل إليه كعب الأحبار يريد الإسلام، فعرض عليه عمر الإسلام وقرأ عليه: «يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقاً لما معكم من قبل أنّ نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمراً مقبولاً» (4: 47). فلما سمع كعب ذلك أسلم في ساعته، ثم قال: يا أمير المؤمنين، مكتوب في التوراة: «أنّ هذه البلاد التي كان بنو إسرائيل أهلها يفتحها الله عز وجل على رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، سرّه مثل علانيته، قوله لا يخالف فعله، القريب والبعيد عنه في الحقّ سواء أتباعه قوم من أهل التوحيد، رهبان الليل، فرسان النهار، متراطمون متواصلون متباذلون، يغسلون فروجهم ويتزرون على أوساطهم، اناجيلهم في صدروهم وصدقاتهم في بطونهم، ألسنتهم رطبة بالتكبير والتقديس والتهليل، وهم الحامدون الذين يحمدون الله عز وجل على كل حال، وفي سهول الأرض والجبال، أول أمة تدخل الجنّة يوم القيامة(12)». فقال عمر: ويحك ياكعب، أحقّ ما تقول ؟ فقال كعب: أي والذي يسمع ما أقول: فخرّ عمر ساجداً(13)».
إذن: مما سبق -وغيره كثير- يمكن أنّ نستنتج أنّ اسلام كعب حدث عام 638 م تقريباً، أي بعد خلافة عمر بنحو من أربع سنين. لكن كعب، «كعب الأحبار»، الذي لم يكن شاباً يافعاً انئذٍ، فالعلوم الهاغادية التي يختزنها في رأسه، برأينا، بحاجة إلى سنوات خبرة طويلة، لا بد أنّ يدفعنا إلى التساؤل: لماذا لم يحصل اسلامه هذا في عهد النبي أو أبي بكر.
يتناول هذه المسألة أحد المصادر، فيذكر معللاً: «قال العباس لكعب، ما منعك أنّ تُسلم في عهد النبي وأبي بكر؟ فقال [كعب]: أنّ أبي كتب لي كتاباً من التوراة، فقال اعمل به ! وختم على سائر كتبه، وأخذ عليّ بحق الوالد على الولد ألا أفضّ الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام قلت: لعلّ أبي غيّب عني علماً ؟ ففتحتها، فاذا صفة محمد وأمته، فجئت الآن مسلماً(14)».
هذا هو التفسير المنسوب إلى كعب الأحبار: لكن، إذا صحّ، فلماذا لم يفتح تلك الكتب إلّا في زمن عمر، وفي زمن فتحه للقدس على وجه التحديد ؟
في اعتقادنا، أنّ التفسير المحتمل الوحيد، النابع من فهمنا الدقيق للعقلية اليهودية كما تقدّمها لنا الأسفار الحاخامية، التلمودية والمدراشية، أنّ كعباً لم يكن واثقاً في البداية من أنّ الإسلام سيكون دولة تهزّ العالم، خاصة وان المشاكل حاقت بأبي بكر ودولته الوليدة بعد وفاة النبي مباشرةً: فمن جهة الصراع الداخلي على الخلافة والذي وصل إلى قمته في احداث سقيفة بني ساعدة، ومن جهة اخرى الصراع الخارجي مع الذين ارتدوا عن الإسلام أو الرافضين لخلافة أبي بكر. لكن بمجيء عمر، ترسخّت دعائم الدولة وتوجّهت جموع الفاتحين تدك عرشي الفرس والروم، ألدّ أعداء اليهود.
يقول التلمود البابلي، رسالة عبدة الأوثان، على سبيل المثال: «في الزمن الآتي، سيأخذ القدوس المبارك الكتاب بيده، ويقول: «من كان منشغلاً بهذا سيظهر للعيان وينال أجره... اجتمعوا يأكل الأمم» .. ستدخل روما في البداية، بسبب عظمتها.. وبصدد روما، قيل: «فتأكل الأرض وتدوسها وتسحقها»... وبعدما تذهب روما، ستدخل فارس... ويخرجون هم أيضاً خائبين.. [لأنهما ] الأمّتان اللتان استعبدتا اسرائيل(15) » . وكالعادة، ينتقم اليهود لانفسهم من الذين اذلّوهم، بتخيل إذلال لهؤلاء في العالم الآخر. مع عمر بن الخطاب، تهيأ لليهود أنّ يستمتعوا بإذلال الفرس والروم في هذا العالم!.
الصخرة المقدّسة:
لقد جاء كعب الأحبار عارضاً إسلامه وعمر يستعد لأخذ بيت المقدّس سلمياً: كانت الفرصة ذهبية. فالمسيحيون أنهوا الوجود اليهودي في القدس، وكوّموا الزبالة فوق مقدساتهم، لطمس معالمها -خاصة الصخرة. فما هي أهمية تلك الصخرة في المعتقد اليهودي، مع ملاحظة أنه لا ذكر لهذا الموضع بأية حال في القران الكريم ؟
تقول المشنا الرابعة في رسالة يوما في التلمود البابلي: «حين أخذ تابوت العهد، كانت هنالك صخرة من أيام الانبياء الأوائل، تدعى «شيتيا» [الأساسٍ]، فوق الأرض بثلاثة أصابع. عليها كان يوضع البخور(16) » .
وتقول غمارا المشنا ذاتها: «صخرة، شيتيا. لقد تعلمنا في بورايتا ما يلي: الكلمة شيتيا تعني، أنّ الكون مخلوق منها، فشيتيا تعني الأساس. هذا بحسب من يقول، أنه بدأ خلق العالم من صهيون، كما تعلّمنا في البورايتا التالية: قال ح(17) . إليعيزر: خُلق العالم من الوسط بالذات، كما هو مكتوب [أيوب 38: 38]: «إذ يتلبد التراب ويتلاصق المدر» (خلقت أولاً القطعة المركزية، ثم التصقت بها الأجزاء الأخرى)... يقول ح. إليعيزر: لقد رمى القدوس المبارك حجراً في البحر، ومنه خلق العالم. كما هو مكتوب [أيوب 38: 6 ]: «على أي شيء غرزت قواعدها، أم من وضع حجر زاويتها» . لكن الحكماء، قالوا: خلق العالم بداية من صهيون. كما هو مكتوب [مزمور 50: 1 - 2]: «تكلّم الرب إله الآلهة. من صهيون كاملة الجمال الله سطع» . هذا يعني أنه من صهيون بدأ يكون جمال العالم كله(18) » .
من المراجع المعاصرة، تقدّم لنا الموسوعة اليهودية مسحاً شاملاً للآراء المتعلّقة بتلك الصخرة: «إفن شيتيا تعبير من الأزمنة التنائية فهم في الأزمنة التلمودية بطريقتين مختلفتين: «الصخرة التي نسج العالم منها»، «صخرة الأساس». ويفترض المعنيان ما مضمونه أنّ العام خلق من الصخرة والتي كونها تموضعت في وسط العالم في قدس أقداس (دفير= محراب) الهيكل في القدس، فهي تشكل بؤرة العالم. لقد وضع التابوت المقدّس على هذه الصخرة، وخلال حقبة الهيكل الثاني وضع الكاهن الأكبر عليها حوض النار حين دخل قدس الأقداس في يوم الغفران. [وكما رأينا]، فالمشنا تقول، أنّ الصخرة في موقع الدفير منذ «زمن الانبياء الأوائل»(19) (أي: داوود وسليمان). وأنها دعيت شيتيا. لكن ح. يوسي بن حلافتا يفسّر المصطلح باعتباره يمتلك أهمية نشوء كونية(20). والمدراش الذي جاء بعد ذلك يعتمد هذا الرأي. ترجع المشنا بوضوح تاريخ وضع الصخرة إلى زمن إعادة بناء الهيكل وتتجاهل الأبعاد الميثولوجية، وعلى نحو مشابه، تنكر آراء تنائية أخرى أنّ الخليقة بدأت من صهيون. قد يكون المرجع المشنائي سبق زمنياً الاعتقاد النشوء الكوني، وربما أنه جاء بعده ورفضه، أو ربما افترض أنّ الصخرة التي نشأ منها الكون هي التي أحضرت إلى موقع الهيكل. لكن المدراش الذي جاء بعد ذلك يقول إنّ الهيكل كلّه مؤسس على الصخرة، وان للصخرة صفات سحرية.
ان العلاقة بين الإفن والصخرة القابعة حالياً تحت قبة الصخرة (مسجد عمر) المبنية على جبل الهيكل غير واضحة تماماً. لكن التقليد الإسلامي يطابق بين الاثنتين. وهذا هو الرأي الأكثر انتشاراً اليوم، لكن المشكلة هنا هي حجم الصخرة: فالصخرة القابعة تحت قبة الصخرة تساوي تقريباً 51 x 58 قدماً، وهي مساحة أكبر من كلّ قدس الأقداس الذي كانت الصخرة فيه. لكن المدراش الذي جاء بعد ذلك يقول أنّ الهيكل بأكمله أقيم على هذه الصخرة الأمر الذي يعني أنّ قدس الأقداس احتل مكاناً صغيراً فيها ليس إلا(21) . وقد اعتقد في القرون الوسطى أنّ الأرض تآكلت بعوامل الحت كاشفة عن حجمها الكبير الحالي(22) . تقول نظرية أخرى إنّ الصخرة كانت أساس مذبح المحرقة الكبير، والكهف تحت الصخرة كان يستعمل بالتالي لجمع الرماد وبقايا القرابين الأخرى. في تلك الحالة سيكون قدس الأقداس قرب الصخرة الحالية، وهو ما يؤدي إلى صعوبات أركيولوجية وطبوغرافية(23)» .
من ناحية أخرى، تنسب بعض المصادر الإسلامية إلى كعب الأحبار آراء فيما يخصّ الصخرة والقدس، تشبه كثيراً المفاهيم اليهودية السابقة - وكلها ميثولوجية. ورد مثلا، في نهاية الأرب للنويري: «يقول الله لصخرة بيت المقدّس في التوراة: أنت عرشي الأدنى ومنك ارتفعت إلى السماء.. من مات فيك فكأنما مات في السماء... [و يقول كعب أيضاً]: أنّ العرض والحساب في بيت المقدّس، و أنّ مقبور بيت المقدّس لا يعذب(24) » . والفكرة الأخيرة كما سنوضح في حديثنا عن عذاب القبر، يهودية الكامل.
بالنسبة للعلاقة بين الصخرة والهيكل، يقول دافيد بن سلومون بن أبي زعيرا، إنّ قبة الصخرة هي مكان الهيكل تحديداً(25) . وابن ميمون يذكر أنّ القداسة ظلت في جبل الهيكل حتى بعد دمار الهيكل.
يستمد جبل الهيكل مكانته الخاصة في الهالاخاه من كونه موقعاً للهيكل، الذي أقيم في وسطه تقريباً. وهذه المكانة الخاصة لا تنطبق على الموقع الفعلي للهيكل وما يحيط به فحسب، بل على الجبل كلّه أيضاً. وبحسب المصادر القديمة، فالقدس المقدّسة كلها تعتبر مماثلة لمخيم إسرائيل الذي أحاط بالحرم في البرية، وجبل الهيكل ككل يعادل «مخيم اللاويين» . أما الهيكل مع محيطاته، من مدخل ساحة الإسرائيليين وما بعد، فيعتبر مماثلاُ «لخيمة الحضور الإلهي(26) » .
مع ذلك، يذكر مصدر يهودي معاصر، أنه «عام638م، صلّى الخليفة عمر بن الخطاب على جبل الهيكل بعد فتح القدس بصحبة اليهودي اليمني المرتد[عن اليهودية طبعاً]كعب الأحبار(27) » .
كعب مجدداً:
تقدم موسوعة الإسلام-الطبعة الانكليزية مسحاً شاملاً لشخصية هذا الرجل، يمكن أنّ تضيف أشياء هامة، رغم الصبغة الإختصارية للفقرة: «يهودي يمني تحول إلى الإسلام عام 17/638 ربما (الطبري 1: 2514 ) ويعتبر أقدم مرجع في التقاليد اليهودية الإسلامية. حِبر-حَبر من العبرية حابر، وهو لقب لعالم يأتي مباشرة بعد الحاخام وكان متداولا ًبين علماء اليهود البابليين، ويفترض أنه يعادل عالم العربية (الخوارزمي، مفاتيح 35 ). يفترض ليدزبارسكي... ان كعب كان يدعى أصلاً عقيبا أو يعقوب، لكن ما نعرفه عن هذا الرجل، الذي جاء إلى المدينة أثناء خلافة عمر بن الخطاب ورافق الأخير إلى القدس عام 15 هـ -363م ( الطبري 1: 2408 ) قليل جداً، وبعد اعتناقه [ الإسلام] صار على علاقة حميمة بالخليفة، حيث تنبأ بموته قبل أنّ يحدث بثلاثة أيام (الطبري 1: 2722). كان [كعب] نصيراً شديداً لعثمان بن عفان، وهو ما أدى في إحدى المناسبات إلى معاقبته جسدياً من قبل أبي ذر التقي (الطبري 1: 2946-2947). بعد ذلك حاول معاوية جذبه إلى دمشق كي يصبح مستشاره، لكن يبدو على الأكثر ترجيحاً أنه انسحب إلى حمص، حيث مات عام 32/652-653 [راجع مثلا: ابن الجوزي، المنتظم، وفيات 32هـ]، أو عام 34هـ (الطبري 3: 2474-2475) أو عام 35هـ (ابن العماد، شذرات 1:40). ووفقاً للهروي (زيارات 9: 20-21)، فان قبره ومقامه موجودان في هذه البلدة، لكن ياقوت (2: 595) وابن بطوطة (1: 222، ترجمة جيب 1: 139) يجعلان ديماسه في دمشق (حيث ماتزال موجودة شاهدة قبر تحمل اسمه، جيب، المرجع السابق). يعتبر ابن جبير (55) والمقريزي (تحرير Wiet 4: 6) أنّ قبره موجود في الجيزة في مصر، في حين يقول الهروي (14: 35) أنّ بعض الناس يعتقدون أنه مدفون في المدينة وان (39-94) قبر أحد أولاده في الجيزة.
رغم صعوبة تحديد شخصيته الحقيقية، لأنه ملفوف كثيراً بالشراشيب الأسطورية، يعتبر كعب أنه يمتلك معرفة عميقة بالكتاب المقدّس والتقليد في جنوب شبه الجزيرة، إضافة إلى حكمة شخصية تشهد عليها العبارات الكثيرة التي تعزا له دون نقاش لأنه كان يوحي بالكثير من الثقة (النووي، تهذيب 523). (كعب) هو الذي خلق أيضا التقاليد المتعلقة بعمر بن الخطاب والتي تعتبر موثوقة، الجاحظ (حيوان 4: 202 - 203) يؤمن بأنه أهل للثقة وسوف يظهر كمدافع عنه بالإشارة الضمنية من أنّ [كعباً] في نقاشه للمعلومات الخاصة بالتوراة، لم يقل «مكتوب في التوراة» بل «نجده في أسفار الانبياء» . يتهم أحياناً بإدخال عناصر يهودية في الإسلام، مثل القصة التي احتفظ بها الطبري (1: 2408 - 2408) والتي اتهم فيها عمر (بن الخطاب) كعباً بالتهود حين عامل جبل الهيكل في القدس كموضع مقدّس.
حاولت الأجيال اللاحقة أنّ تضفي على اسمه بريقاً عبر عزو عدد عظيم من التقاليد إليه، خاصة تلك التي تحكي عن الانبياء، وتحديداً حديث «ذو الكفل» ، المطبوع في بولاق عام 1283 (بروكلمان، 1: 1010) أو أسطورة يوسف في Aljamiado المحررة في ترجمة لاتينية من قبل F. Guillen، والتي درسها M. Schmidt، والمأخوذة في الواقع عن الثعالبي (قصص الانبياء). السكاني يذكر اسم كعب في قصة عن يوسف وهو أيضاً مذكور كمرجع في «يوسف وزليخة» للفردوسي(28)».
كعب في خلافة عمر:
وأسلم كعب، «كعب الاحبار» . واخترق شعباً، لم يكن انذاك، كما ذكر ابن خلدون، «أهل كتاب ولا علم، وانما غلبت عليهم البداوة والامية، [لذلك كانوا] إذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فانما يسألون فيه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدون منهم، وهم أهل التوارة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم.. وتساهل المفسّرون في مثل ذلك، وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كما قلنا من التوراة، أو مما كانوا يفترون(29) ».
وهكذا، بعدما أسلم كعب «في الدولة العمرية، جعل يحدّث عمر (رض)، فربما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده من غثٍّ وسمين» . ووصل الأمر إلى أنّ كعباً «كان يلقي دروساً في المسجد(30) » .
إلى بيئة غير مثقفة، دخل هذا الرجل المثقف بثقافات عصره، واستطاع في فترة قياسية، بفضل علومه وقدراته، أنّ يصل إلى الواجهة. وكي يرفع من قيمته في تلك البيئة، راح يخترع أحاديث، ينسبها -زوراً- إلى التوراة، يرفع فيها من قيمة نبي المسلمين. قال كعب مرة: «أجد في التوراة قوماً من ولد اسماعيل، اناجيلهم في صدروهم، ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب»(31) . وقال أيضاً أنه جاء في التوراة: «يا محمد، اني (الله) منزل عليك توراة حديثة، تفتح اعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غفلاً»(32) ؛ «أسماء النبي في الكتب السالفة: محمد وأحمد وحمياط - أي حامي الحرم»(33) ؛ وقوله في التوراة: «في السطر الأول [منها ]: محمد رسول الله عبده المختار، لافظ ولا غليظ ولاصخّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكنه يعفو ويغفر، مولده وهجرته بطيبة وملكه بالشام(34) . وفي السطر الثاني: محمد رسول الله، أمّته الحمادون، يحمدون الله في السراء والضراء»(35) .
لكن عمر لم يلبث، متأخراً ربما، أنّ فطن إلى كيد كعبٍ وتبين له سوء دخيلته، فنهاه عن الحديث، وتوعده أنّ لم يترك الحديث عن الأول ليحلقنه بأرض القرود(36). وفي هذا يقول الأستاذ أبو رية: «وعلى أنّ عمر ظل يترقب هذا الداهية بحزمه وحكمته، وينفذ إلى أغراضه الخبيثة بنور بصيرته، كما ترى في قصة الصخرة(37) -فان شدة دهاء هذا اليهودي قد تغلبت على فطنة عمر وسلامة نيته، فظل يعمل بكيده في السر والعلن، حتى انتهى الأمر بقتل عمر، وتدل القرائن كلها على أنّ هذا القتل كان بمؤامرة من جمعية سرية، وكان هذا الداهي من أكبر أعضائها، وعلى رأسها الهرمزان ملك الحوزستان الذي كان قد جيء به إلى المدينة أسيراً، وعهدوا بتنفيذها إلى أبي لؤلؤة الأعجمي»(38) .
ويخبرنا مصدر إسلامي أنّ عمر بن الخطاب، دخل «على أم كلثوم بنت علي وهي زوجته، فوجدها تبكي، فقال: ما يبكيك ؟ قالت: هذا اليهودي، أي كعب الاحبار- يقول انك على باب من أبواب جهنم! فقال عمر: ما شاء الله ! ثم خرج فأرسل إلى كعب، فجاءه، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليّ، والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة! فقال عمر: ما هذا ؟ مرة الجنّة ومرة في النار! فقال كعب: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده انا لنجدك في كتاب الله (!!) على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أنّ يقتحموا فيها، فان متُّ لم يزالوا يقتحمون فيها إلى يوم القيامة! ولما طعن عمر جاء كعب فجعل يبكي بالباب، ويقول: والله لو أنّ أمير المؤمنين يقسم على الله أنّ يؤخره، لأخره»(39) .
في مصدر إسلامي آخر، يقول كعب لعمر: «أجدك في التوراة تقتل شهيداً ! قال عمر: وانى لي بالشهادة وانا بجزيرة العرب؟.. قال كعب: كان في بني إسرائيل ملك إذا ذكرناه ذكرنا عمر (؟!) وإذا ذكرنا عمر ذكرناه، وكان إلى جانبه نبي (؟!) يوحى إليه، فأوحى الله إلى النبي أنّ يقول له: أعهد عهدك واكتب لي وصيتك، فانك ميتٌ إلى ثلاثة أيام [نلاحظ أنّ كعباً قال لعمر الشيء ذاته، كما تزعم معظم المصادر الإسلامية]. فأخبره النبي بذلك. فلما كان اليوم الثالث، وقع بين الجدار والسرير، ثم جاء إلى ربّه، فقال: اللهم أنّ كنت تعلم اني كنت أعدل في الحكم وإذا اختلفت الامور اتبع هداك، وكنت.. وكنت.. فزد في عمري حتى يكبر طفلي، وتربو أمتي، فأوحى الله إلى النبي أنه قد قال كذا وكذا وقد صدق وقد زدته في عمره خمس عشرة سنة، ففي ذلك ما يكبر طفله وتربو أمته. فلما طعن عمر، قال كعب: لئن سأل عمر ليبقيه الله. فأخبر بذلك عمر، فقال: اللهم اقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم»(40) .
كعب بعد عمر:
كما أُخبرنا سابقاً، فقد كان كعب «حاضراً في بلاط الخليفة الثالث» ، عثمان بن عفان، حيث اشتهر بمشاحناته مع المسلم التقي، أبي ذر الغفاري. لكننا في زمن عثمان، نجده وقد تحوّل إلى الشام، حيث اصطفاه معاوية وجعله من مستشاريه(41) : ولن ننسى طبعاً المشاحنات بين معاوية وأبي ذر أيضاً.
كان عمر بن الخطاب قد ولّى زيد بن أبي سفيان على الشام، فلمّا أصيب الأخير بالطاعون، وأحس أنه مائت لا محالة (مات عام 187هـ)، عيّن مكأنه أخاه معاوية.
يذكر أحمد الأمين أنّ معاوية جعله -كعب- من مستشاريه لكثرة علمه (المقصود بالعلم هنا ليس العلم الوضعي طبعاً، بل الحكايا الربانية)، وهو الذي أمره أنّ يقصّ في بلاد الشام(42) ، وصار بالتالي أقدم الإخباريين في مسألة الأحاديث اليهودية(43) . وكيف لا يصفه معاصروه بكثرة العلم، وهو يدعي أمامهم: «ما من شبر في الأرض إلا هو مكتوب في التوراة التي انزل الله على نبيه موسى، ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة»(44) .
إن دور كعب الأحبار في بلاط معاوية يمكنه أنّ يفسّر الحديث الذي نسبه كعب إلى التوراة(!) والذي زعم فيه أنه مكتوب في التوراة، أنّ النبي «مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام» .
يذكر أحد المصادر الإسلامية، أنه بعد مقتل عثمان بن عفان في «يوم الدار» راح الحادي يحدو به و «يقول:
إنّ الأمير بعده علي وفي الزبير خلق رضي
فقال كعب الأحبار: بل هو صاحب البغلة الشهباء (يعني معاوية)، وكان يركب بغلة، فبلغ ذلك معاوية، فأتاه، فقال: يا أبا إسحاق، ما تقول هذا، وهاهنا علي والزبير وأصحاب محمد (ص)! قال: أنت صاحبها»(45) .
لكن الحقيقة أنّ علي بن أبي طالب هو الذي امتلك زمام الخلافة بعد عثمان الشهيد. مع ذلك، فما كاد الخليفة الرابع يتصدر واجهة الدولة انذاك، حتى تفجرت المصاعب في طريقه: حرب الجمل، فصفين فالنهروان. وكانت كلّ هذه الحروب في زمن قياسي 656 - 658 م. لينتهي الخليفة العظيم غيلة على يد أحد الخوارج عام 661 م. لكن ما يلفت نظرنا هو «أنّ معاوية أُعلن خليفة في القدس عام 660 م»(46) ، أي قبل أنّ يقتل الخليفة الشرعي. «لكنه لم يصبح خليفةً فعلاّ إلاّ عام 661 م. حين قتل علي وأزيح ابنه الحسن» . ويخبرنا المصدر ذاته «أنّ معاوية بنى مسجداً خشبياً على جبل الهيكل ... ويقول مجير الدين (القدس 1456 - 1521)، أنّ مجموعة من الخدم اليهود كانت مسؤولة عن النظافة في المسجد في جبل الهيكل وكذلك عن النور، ولأجل هذه الخدمة كانوا معفيين من الضرائب. وقد احتكر هؤلاء هذه الخدمة بشكل متوارث حتى ألغى عمر الثاني ذلك(47) .. حيث يفترض أنّ عمر الثاني هو الذي أبعد اليهود عن جبل الهيكل وقصر صلواتهم على بوابة واحدة فقط (سالمون بن يهورام في تعليقه على المزمور 30: 10(48))» . ويقال أيضاً أنه حين عيّن «معاوية ابنه يزيد خليفةً، دعم هذا التعيين معظم رؤساء أسباط(49)» اليهود.
لقد «كان هنالك العديد من اليهود في بلاط معاوية(50)»، لكن «عدد المسيحيين كان اكبر بكثير من عدد اليهود»(51) ، وهو ما يفسّر ذكرهم من قبل المؤرخين العرب دون اليهود.
إذن، لقد سقطت كل الحواجز أمام كعب الأحبار، بل أنّ رأس إقليم الدولة الشامي، معاوية، كان يقول: «ما رأينا أمثل في هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب أمثل من كعب، وقد ثبت في الصحيح عن النبي (ص) أنه قال: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أنّ يحدثوكم بباطل فتصدّقوه، وإما أنّ يحدثوكم بحق فتكذبوه»(52) .
كان كعب يعمل على بث أحاديث داعمة للحكم الاموي، مثل: أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم بها ممن عصاه؛ أو الحديث الذي يزعم معاوية فيه أنّ النبي قال له: «انك ستلي الخلافة بعدي! فاختر الأرض المقدّسة (الشام) ففيها الأبدال»(53) . وانتشرت أحاديث كعب الخرافية إلى درجة أنّ عالما إسلامياً شهيراً هو ابن عباس، وقد سأل رجلا ًمقبلاً من الشام: «من لقيت؟ قال: كعباً ! قال: وسمعته يقول ؟: سمعته يقول، أنّ السموات تدور على منكب ملك! فقال: كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد»(54) . وهكذا، يقول المفكر رشيد رضا: «لا تجد خرافة دخلت في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي في أمور الخلق والتكوين والانبياء وأقوامهم، والفتن والساعة والآخرة، إلا وهي منهما»(55) ، أي، كعب ووهب. لذلك، فان أكثر ما قدمه كعب، برأي السيد رشيد رضا، «هو خرافات إسرائيلية شوهت كتب التفسير وغيرها من الكتب، وكانت شبهاً على الإسلام يحتج بها أعداؤه الملاحدة أنه كغيره دين خرافات وأوهام، وماكان فيها غير خرافة قد تكون الشبهة فيه أكبر، كالذي ذكره كعب في صفة النبي في التوراة»(56) .
إذن، لقد استطاع كعب - وأمثاله- ترويج «أقاصيص التلمود - الإسرائيليات [التي لم تلبث] أنّ أصبحت جزءاً من الأخبار الدينية والتاريخية»(57) الإسلامية. «وقد راجت دسيسته حتى انخدع به بعض الصحابة ورووا عنه، وصاروا يتناقلون قوله بدون إسناد إليه، حتى ظنَّ بعض التابعين ومن بعدهم أنها مما سمعوا عن النبي»(58) . وهكذا، لم يروا بأساً «من أنّ يقصوها بجانب آيات القران، فكانت منبعاً من منابع التضخم»(59) .
أبو هريرة:
يحدثنا الصحابي أبو هريرة عن ذاته، فيقول: «نشأت يتيماً وهاجرت مسكيناً وكنت أجيراً لبسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي.. وكنيت بأبي هريرة بهرة صغيرة كنت ألعب بها»(60) ، وقد «غلبت عليه كنيته كمن لا اسم له.. [إذ] اختلفوا في اسمه واسم أبيه اختلافاً كبيراً»(61) .
أبو هريرة هو رجل من قبيلة دوس، قدم مع قومه إلى النبي في غزوة خيبر، فأشهر إسلامه، وانضم لفقره إلى أهل الصفة(62) . وأهل الصفة اناس فقراء لا منازل لهم ولا عشائر. وكان إذا تعشى النبي دعا طائفة منهم يتعشون معه، ويفرق طائفة منهم على الصحابة ليعشوهم(63) . وقد اخذوا اسمهم عن الصفة، وهو موضع تجمع الفقراء في مؤخرة مسجد النبي في المدينة.
إذن: لقد التقى أبو هريرة النبي للمرة الأولى في غزوة خيبر، التي حدثت برأي ابن سعد، في جمادى الأول عام 7 هـ، وفي 28 رمضان من السنة ذاتها، برأي أبي سعيد الخدري، وفي شهر صفر من العام ذاته، برأي الاستاذ أبو رية. ثم أرسله النبي إلى البحرين في شهر ذي القعدة من العام الثامن للهجرة. إذن أنّ مجموع ما أمضاه أبو هريرة مع النبي، وفق المراجع الثلاثة السابقة، هي : سنة ونصف، سنة وشهران ، وتسعة أشهر على الترتيب.
أبو هريرة، أغزر راوية في الإسلام، «هو أشهر من سكن الصفة»(64). «وأهل الصفة... ما منهم رجل عليه رداء، وانما عليه.. كساء ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته»(65) . وكان أبو هريرة، الصحابي الجليل، يقول: «لقد رأيتني واني لأخرّ فيما بين منبر رسول الله إلى حجرة عائشة مغشياً علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى اني مجنون وما بي من جنون: ما بي إلا الجوع»(66). وكان بالتالي يصحب النبي «على ملئ»(67) بطنه، أو يستقرئ كبار رجالات(68) الدعوة القران حتى يطعموه(69) .
حين توفي النبي كان أبو هريرة مع العلاء بن الحضرمي في البحرين(70) . وعام 20 هـ، ولاه عمر بن الخطاب على البحرين بعد وفاة العلاء بن الحضرمي(71) . لكنه سرعان ما عزله وولّى مكانه عثمان بن أبي العاص الثقفي. وتخبرنا المصادر الإسلامية عن سبب ذلك فتقول، أنه لما عاد أبو هريرة وجد معه عمر لبيت المال أربعمئة ألف، فقال له عمر: أظلمت أحداً ؟ فقال: لا ! قال: فما جئت لنفسك؟ قال: عشرين ألفاً، قال: من أين جئتها ؟ قال: كنت أتجر(72) ، فقال له عمر: «عدواً لله وللإسلام، عدواً لله ولكتابه ؛ سرقت مال الله، [أو] أسرقت مال الله»(73) ، «حين استعملتك على البحرين وانت بلا نعلين... مارجعت بك أميمة(74) إلا لرعاية الحمير»(75) . وضربه بالدرة حتى أدماه.
كان الخليفة قاسياً للغاية على الصحابي الجليل، فقد كان يمنعه عن أكثر ما يحب: رواية الأحاديث النبوية. وكان يقول له، ككعب الأحبار تماماً «لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القرود»(76) ؛ أو «لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض دوس»(77) - موطن أبي هريرة الأصلي. ويؤكد أبو هريرة ذلك شخصياً حين يقول: «ما كنا نستطيع أنّ نقول، قال رسول الله (ص) حتى قبض عمر»(78) . وحين سئل مرة: «أكنت تحدّث في زمان عمر هذا؟ قال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم، لضربني بمخفقته»(79) . لكن أبا جعفر الإسكافي يؤكّد أنّ عمر ضربه فعلاً بسبب الحديث النبوي: «أبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية، ضربه عمر، وقال: ما أكثرت من الحديث وأحرّ بك أنّ تكون كاذباً على رسول الله»(80) .. وهكذا، يستنتج رشيد رضا بحق، أنه «لو طال عُمر عمر حتى مات أبو هريرة، لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة»(81) .
أبو هريرة في ظل معاوية:
انضم أبو هريرة إلى جانب معاوية في الصراع بين الخليفة الرابع وأول سلاطين بني أمية. وقد فسر هذا من قبل بعض المؤرخين بأنه مجرد بحث عن المنفعة الشخصية. من ذلك ما قاله الثعالبي، على سبيل المثال:
تولى أبو هريرة عن نصر علي ليستفيد الثريدا
ولعمري أنّ الثريد قليل للذي ليس يستحق الهبيدا(82)

كان الصراع السياسي بحاجة أيضاًَ إلى صراع ميثولوجي لإرضاء شبق العامة. وهنا، قام الصحابي بدوره المرسوم على أفضل وجه، فروى مع غيره «أخباراً قبيحة عن علي تقتضي الطعن فيه والبراءة منه»(83) . وبالمقابل، نسب للنبي احاديث من نمط: «الأمناء ثلاثة: انا وجبريل ومعاوية»(84) ؛ «ناول النبي (ص) معاوية سهماً، فقال: خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة»(85) ؛ حتى أنّ أبا هريرة قال لعائشة بنت طلحة: «والله ما رأيت وجهاً أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله»(86) .
كانت النتيجة مذهلة: فبعد أنّ كان الصحابي الشهير، كما رأينا، زمن النبي من أهل الصفة لا يكاد يجد ما يسد رمقه أو يستر عورته، نجده زمن معاوية وقد صار يلبس الخز والكتان الممشق(87) . بل حين مات أبو هريرة عام 59 هـ، مات في قصر له بالعقيق. ولما كتب الوليد، حاكم المدينة انذاك، ينعي إلى معاوية وفاة أبي هريرة، ردّ معاوية: «انظر إلى من ترك، وادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم وأحسن جوارهم وافعل لهم معروفاً»(88) .
كعب وأبو هريرة:
والتقت العبقريتان: كعب وأبو هريرة. كان كعب بحاجة إلى أبي هريرة، الصحابي والراوية الموثوق، كي يمرّر عبره ما لم يمكن يستطيع تمريره هو ذاته كمحّدث يهودي مشكوك بأمره ؛ وكان أبو هريرة بحاجة إلى كعب في مسألة «تجارة الحديث» ، كعالم يمتلك من الأخبار والتفاصيل ما كان يفتقده أبو هريرة. وهكذا، يحدّثنا غير مصدر إسلامي من أنّ أبا هريرة «قد حمل عن كعب الحبر»(89). فأبو هريرة كان يجتمع بكعب، «فجعل أبو هريرة يحدّث كعباً عن النبي، وكعب يحدّث أبا هريرة عن الكتب»(90) . وأبو هريرة ذاته يقول: «وافقت كعباً فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله حديث يوم الجمعة ؛ فقال كعب: فيه خلق آدم»(91) . ويشكّ ابن كثير في أنّ حديث ياجوج ومأجوج: «لعل أبا هريرة تلقاه من كعب الأحبار فأنه كثيراً ماكان يجالسه ويحدثه، فحدّث به أبو هريرة فتوهم بعض الرواة أنه مرفوع»(92) . وقال أيضاً عن حديثه حول خروج الرايات السود من خراسان لا يردها شيء حتى تنصب بايلياء: «أنه من كعب الاحبار»(93) . هكذا، ظهرت مشكلة فعلية في تشوش الناس بين حديث أبي هريرة وحديث كعب، يلخصّها بسر بن سعد، بقوله: «لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة يتحدّث عن رسول الله (ص)، ويحدثنا عن كعب، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله»(94).
عبر كعب، برأينا، تعمقت معرفة أبي هريرة بالتوراة، وشروحها، حتى قال الحبر السابق: «ما رأيت أحداً لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة»(95) . مقابل ذلك، فالمخلصون للعقيدة الصافية من القلة القليلة الباقية، كالسيدة عائشة مثلاً، أخذوا موقفاً سلبياً من أبي هريرة. قال ابن قتيبة: «لما أتى أبو هريرة من الرواية منه (ص) مالم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين الأولين، إتهموه وانكروا عليه، وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك ؟ وكانت عائشة (رض) أشدهم انكاراً عليه لتطاول الأيام بها وبه»(96). وهكذا كان أبوهريرة «أول راوية اتهم في الإسلام»(97) .
نماذج صغيرة:
ثمة أمثلة ذات طابع ميثولوجي، جمعناها ضمن إطار بحثنا، تحمل نوعاً من التأكيد على شئ من التطابق بين ما كان يرويه كعب، وما نسبه أبو هريرة إلى النبي: وهي غيض من فيض.
نسب أبو هريرة للنبي قوله: «أنّ الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة»(98) . وقال كعب: «يُجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم فيراهما من عبدهما»(99) .
وينسب أبو هريرة للنبي قوله: «أنّ الله أذن لي أنّ أحدّث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثبتة تحت العرش، وهو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك»(100) . ويقول كعب: «أنّ لله ديكاً عنقه تحت العرش، وبراثنه في أسفل الأرض، فإذا صاح صاحت الديكة، فيقول: سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره»(101) .
وحين نسب أبو هريرة للنبي قوله: «أنّ في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام» ، عقّب كعب بسرعة: «صدق»(102) .
من ناحية أخرى، فان ثمة حديثاً غريباً ينسبه أبو هريرة للنبي ويقول: «إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين»(103) ؛ يمكن أنّ نجد له أصلاً في الحكايات الحاخامية. فالشوفار، وهو قرن حيوان يستعمل صفيره للأذان عند اليهود، هو بحسب رسالة روش ها-شناه التلمودية، يخيف بصوته الشيطان وأرواح الشر فتهرب(104) .
عود على بدء:
بعد أن قدّمنا شواهد كثيرة من التاريخ الإسلامي ذاته حول إمكانية تسلل أجزاء كبيرة من «الهاغاداه» إلى التقاليد الإسلامية المابعد قرانية، نذكر هنا بعض الأمثلة حول طرائق معالجتنا لبحثنا الموسع الذي يحكي عن العلاقة بين «الهاغاداه» و تلك التقاليد.
باختصار: لقد حاولنا منذ البداية أن لا نفترض تعسفياً، حين نرى تطابقاً شبه تام بين قصة هنا و قصة هناك، أنّ الأحدث مأخوذة عن الأقدم. فهذا ما لا نمتلك دليلاً عليه. لكن بالمقابل ثمة قصص دليلها القطعي واضح، خاصة حين نقوم بالموازنة بين التراثين لجعل الصورة في أكمل أشكالها.
من النوعية الأخيرة نذكر «عذاب القبر» . وعذاب القبر حكاية إسلامية متداولة بشدة هذه الأيام في أوساط بعينها. ونمتلك الدليل القطعي على أنها «هاغاداه» حاخامية أُدخلت في التقاليد الإسلامية ما بعد القرآنية في مرحلة ما، خاصة وأنّ تدوين تلك الأخبار جاء بعد زمن طويل من الإخبار بها -هذا إذا تم ذلك الإخبار فعلاً.
تقول الموسوعة اليهودية -النسخة الانكليزية: «يُقال إنّ عائشة، زوجة محمد، سمعت التقليد المتعلّق بعذاب القبر (حبوط ها-قبر) من عجوزين يهوديتين في المدينة»(105) . وتقليد عذاب القبر الحاخامي، كما يعرّفه «يهودا غور» في معجمه «العبري - العبري» هو التالي:(106) : «عذاب القبر: مبادئ ما بعد الموت (حيث ملائكة التدمير تعذب جسد بني آدم بعد الموت في القبر، وذلك وفقاً لسفري ها-موسار )» .
وتشرح «الموسوعة اليهودية - النسخة الانكليزية» المسألة بإسهاب، فتقول: « «الضرب في القبر» هو عذاب مذكور في هاغاداه قديمة، توسع فيها القباليون [جماعة يهودية]. وبحسب هذا الإعتقاد، لا يُعاقب الميت على خطاياه بعذاب جهنم والتقمُّص فحسب، بل أنّ ملاك الموت يضربه بسلسلة حامية كالنار بعد موته مباشرةً (وربما أنّ الذي يضربه هو الملاك المدعو دوما، قارن رسالة بيراخوت التلمودية 18 ب). ولا يُستبعد من هذا العذاب إلا الذين ماتوا في فلسطين، أو الذين يدفنون خارجها بعد ظهر يوم الجمعة قبل غياب الشمس. ومن أجل تجنّب عذاب القبر، ينصح القباليون بفعل الخير وأداء الصلوات بحرارة. ويفيد في هذا المجال بشكل خاص تذكر المرء اسمه العبراني [لليهودي في المجتمع غير اليهودي اسمان عموماً: اسمه العبراني واسمه غير العبراني المرتبط بذلك المجتمع] يسأله عنه ملاك الموت. ومن أجل نقش الاسم في ذاكرتهم، يضيف أتقياء اليهود بعد الانتهاء من تلاوة العميداه [في الصلاة اليهودية] آية من الكتاب المقدّس، يتوافق حرفاها الأول والأخير مع الحرفين الأول والأخير من اسمهم العبراني»(107) .
على الصعيد اليهودي، يعتبر الكاتب القبالي موريس بن مردخاي زاكوتو (1620 - 1697)، أهمّ من تناول هذا الموضوع بالتفصيل. وفي عمله الشهير L'inferno Preparto، طبعة عام 1819، يتحدّث بإسهاب عن عذاب القبر، وكيف تجر الملائكة الموتى في أقسام جهنم السبعة، حيث تظهر للعيان العذابات الرهيبة التي يعاني منها الخاطئون. والعمل مكوّن من 185 مقطعاً شعرياً موزوناً، كلّ مقطع مؤلَّف بدوره من خمسة أبيات. ولهذا العمل شعبية ضخمة في أوساط اليهود القباليين. وقد نُشِر للمرة الأولى في البندقية عام 1715.
من الجانب الإسلامي، فقد وجدنا في «البخاري» ، إذا صحت الرواية، ما يدعم الرأي بان هذه الحكاية مأخوذة فعلاً عن «هاغاداه» حاخامية. فقد روي عن السيدة عائشة قولها: «دخلت علي عجوزان، من عجز يهود المدينة، فقالتا: أنّ أهل القبور يعذبون في قبورهم ، ف


العلاقة بين القرآن والتلمود ـ 3: د. نبيـل فياض - يجعله عامر - 09-22-2007

Arrayثلاث شخصيات يهودية بارزة «قيل» أنها اعتنقت الإسلام، يوجد باسمها كمّ ضخم من التراث الميثولوجي الرباني في التقاليد الإسلامية: عبد الله بن سلام، وهب بن منبه وكعب الأحبار. فكيف تنظر المصادر اليهودية الحديثة إلى هذه الشخصيات.[/quote]
ان بحثا يُكتب بهذا الخصوص صرف النظر عن نتائجه فهو باحث هام جدا
خاصة ان البحوث العربية تجاه هذا الموضوع بالذات ( الاسرائيليون المتحولون ) نادره للغاية وقل ان تجدها دون تحزبات وعنصرية
بخصوص كعب الاحبار مثلا يزدريه الشيعة
اخي الحر (f)
هل يمكن ارشادي الى سبب ازدراء الشيعه لكعب الاحبار ، عمر بن الخطاب كان لا يحبه ، وكان كعب سببا رئيسا في مقتله فأولى بهم ان يضعون كعبا في مكانة عليا فقد خلصهم من عمر
عبد الله بن سلام وقصة اسلامه لا نجد دراسة جيدة تناولت هذه الشخصية
اضيف ايضا بالنسبة الى شخص متحول اخر هو تميم الدراي الذي اضحى صحابيا فيما بعد ليست هناك دراسة عربية ناقدة لارائه وحكايته
اقول هذا وان اعي تماما ما دار حول هذه الشخصيات في التراث الاسلامي
ارجو ان ينال هذا الموضوع اهمية النظر من اخوتي المسلمين واللادينين والمسيحين
تحياتي لصاحب المشاركه