حدثت التحذيرات التالية: | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
|
تفكيكية جاك ديريدا بين الكتابة والكلام - نسخة قابلة للطباعة +- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com) +-- المنتدى: عـــــــــلــــــــــوم (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=6) +--- المنتدى: فلسفة وعلم نفس (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=84) +--- الموضوع: تفكيكية جاك ديريدا بين الكتابة والكلام (/showthread.php?tid=9086) |
تفكيكية جاك ديريدا بين الكتابة والكلام - سيناتور - 09-15-2007 عبد النور إدريس مدخل: استلهم جاك ديريدا الآلة النيتشوية للكشف عن الفاني من التاريخ، لا البحث عن النفس الخالدة وبذلك أصبحت الميتافيزيقا هدفا للتهجم، لتحطيم أصنامها لمّا تعطلت مقولاتها اللغوية، فالميتافيزيقا تسكن اللغة وتهيمن على العقل البشري بتعالي خطابها على اللغة ذاتها وهي تهيمن بفرض خطابها واعتباره صادرا عنها لا عن البشر، وقد أطلق ديريدا على هذا الطابع ميتافيزيقا الصوت بسيادة الكلام على حساب الكتابة. - فهل استكنه ج. ديريدا سلطة الصوت لوضعه قائما بين الوعي والحضور؟ - هل كان لجينيالوجيا الكلام عنده امتدادات همّت المساءلة المتجذرة للحداثة الغربية؟ - هل كشف البحث في اللوغوس عن الطابع الاصطناعي القاصر للمفاهيم؟ - هل فكك تاريخ الميتافيزيقا بما هو خطاب مهيمن يفكك شجرة المعنى ويحتقر الكتابة عبر كبت النص بمحو سواده؟ - كيف يمكن لبياض نص اللوغوس من تقديم نفسه في تاريخ الفلسفة؟ - ما هي دلالة الكتابة عند جاك ديريدا بما هي حركية لتجلي الجسد الديريدي عبر الإنصات إلى كلام الذات؟ إن التبسيط والاختزال هو عدو المنهج الحديث، لهذا كانت ماهية التفكيك déconstruction في مستواه الدلالي العميق يدل على تفكيك الخطابات والنظم الفكرية، وإعادة النظر إليها بحسب عناصرها، والاستغراق فيها وصولا إلى الإلمام بالبُؤر الأساسية المطمورة فيها"() وقد قام ديريدا بمساءلة الأسس المنطقية التي يقوم عليها الفكر الغربي، كما ساءل مجموعة المفاهيم المرتبطة بحقائق ثابتة اكتست على مرّ الزمن صبغة المقدس لدى الفكر الغربي، وعند تسليط جهازه التفكيكي عليها حاول خلخلة أسسها الميتافيزيقية واللاهوتية، واعتبر بذلك أن بين نزعة العقل المركزية المسلّطة على الوعي الغربي و"نزعة الصوت المركزية Phonocentrisme: تقارب مطلق بين الصوت والوجود، بين الصوت ومعنى الوجود، بين الصوت ومثالية المعنى" () فديريدا يرى أنه"يتعين الابتعاد عن كل فكر متمركز حول العقل، بل إنه يجمع كلا من الدلالية والمثالية والتمركز حول العقل في السياق نفسه الذي يضع فيه التصور الأحادي الخطّي للتاريخ والفكر" () 1- الوعي والحضور التفكيكي عند ديريدا أ- سلطة الصوت بين الوعي والحضور. إن مفهوم الكتابة عند ديريدا لا ينفصل كليا عن الصوت باعتباره الناطق عن الداخل والمتجلّي في علاقته بالمعنى كأحد التصورات الميتافيزيقية المبنية على الحضور الذي باستطاعته تكرار ذاته لمأسسة الوجود الواقعي. إن حضور الواقع على صورة متكررة يشحن بخصائص، الوعي بها لا ينهي إمكانية ميتافيزيقا الحضور على نبذ الأنموذج المؤسس كحضور مثالي. فالكتابة الصوتية عند ديريدا بهذا المعنى تنزع إلى تذويب وجودها المادي تحت ضغط الحضور الواقعي إلى حضور المعنى، هذا الحضور المثالي الذي ينقلب إلى انتفاء الحضور وغيابه عن الإمكان. وعندما تحقق الكتابة الصوتية حضورها كوعي على اعتبار أن الصوت يسمع ذاته داخل النص ولا يستمع إلى كاتبه، فمعنى ذلك أن غياب العالم، أو نسيان الدال، كنسق مادي للذات لا يبعد التفكيكية عن الميتافيزيقا. فعندما يشكل الصوت سلطته عبر الرجوع إلى عقلانية اللوغوس الأولى واعتبار ماهية هذا الرجوع هو ما يربط الحضور بالحدوس التي يمثلها الشعور كحضور مبدئي غير أمبريقي، فهذا الحضور للصوت كوجود مثالي يمثل نوعا من الحضور الدائم يعتبره المعنى جسده المادي للتحقق، من هنا انطلق ديريدا لاعتبار ظاهراتية هوسرل في فهم المعنى والدلالة بربطه بمعنى الحياة كفلسفة وتجربة معيشة. فإمكانية تحقق الدلالة أو قيام المعنى لا يمكن أن تستوعبه سوى الثنائية الترنسندنتالية كلام/كتابة، لإبراز الاختلاف بين المعنى داخل الصوت الذي يتيح للغة شرط وجودها كنظام دلالي يقول ديريدا في كتابه "الغراماتولوجيا" "كنّا نقول "كلام" للحدث، الحركة، الفكر، تعبير، شعور، لا شعور،تجربة، إحساسات الخ، والآن نرمي إلى القول"كتابة" من أجل هذا ومن أجل أشياء أخرى: من أجل تحديد لا فقط الحركات الجسدية وتسجيل الحروف، والأشكال أو التشكيلات، لكن أيضا مجموع ما يجعل الكتابة ممكنة"(). فالنسق الصوتي يعطي للُّغة قابليتها لإنتاج الدلالة من غير الإشارة إلى المحسوسات، فهي تُنَمّي حضور المعاني في الذهن عن طريق الحدس المباشر حتّى استحالة العثور على الوساطة اللغوية لفرط تجريديتها بالكتابة الصوتية الشيء الذي يذهب مع ديريدا الى أن يتحول العالم إلى صور لدلالات أوّلية سابقة على وجوده. إن ديريدا في إطار مساءلته للامفكر فيه والمسكوت عنه ضمن الميتافيزيقا، قد أبان عن نوعية العلاقة بين الحضور أو الوعي والصوت. ب- جينيالوجيا الكلام أو احتقار الكتابة. يحدد ديريدا "الكلام" في انتفاء جميع الحدود بين الأجناس الأدبية فهو الفكر والشعور واللاشعور والتجربة وينتقل إلى اعتبار الكلام مرحلة سابقة على الكتابة من حيث أن النزوع إلى هذه التسمية "الكتابة" يشير إلى اعتبار تمظهراتها إضافة إلى تضمين محمولات الكلام فهي تحتوي عموم ما يجعل تلك الخصائص ممكنة، وبذلك يصبح كل من اللاشعور والتجربة والفكر والحركة عناصر معاصرة وحيّة للغة وليست سابقة عليها كما كان مع الكلام، إذ أن تحقق الإمكان عبر الممكن الوجود يسمح به ذلك التلازم الواضح بين النشاط المثالي لدلالة الصوت واللغة التي فتحت إمكانية القبض على المعنى كحضور وارد والسيطرة المتجلية في الإحساس بامتلاكه والشعور به بالرغم من أن اللغة ودون استحضار الدلالة القصدية لها لا تخرج عن كونها علامة متصلة بإمكانية الكلام داخل خطاب لا يستطيع حسب هوسرل ومن بعده ديريدا أن تحتفظ دلالته اللغوية على روح العلامة الواردة في القول أو الكلام يقول ديريدا في كتابه "الصوت والظاهرة": "الدلالة القصدية هي الجانب الروحي من العلامة، بينما تشكل لفظة (sim) الجانب المحسوس منها"() فالحتمية المادية للعلامة بهذا المعنى تصبح مادية تفرضها الكتابة من خارج النص على وظيفة الكلام كجسد منطوق للخطاب، كصوت يجعل النفس تتأمل ذاتها في حوار داخلي مع نفسها، لذلك نرى أن نقول مع ديريدا "يجب التفكير في أن الكتابة هي لعبة الكلام" () 2- علم الكتابة عند ديريدا. أ- علم الكتابة قبل الكلام وداخله. إن ديريدا لا يفصل بين الداخل والخارج، بين داخل مثالي مطلق مملوء بالحدوس وخارج يعمل على تعليق المفاهيم ويجعل العالم موجودا في ذاته بينما هو معطى من معطيات الحقيقة عنده والتي إذ تجد تعليلها في ما يضفي عليها دلالة ومعنى تتحول إلى ظاهرة متعالية قابلة للمعرفة والتفكيك. فالخط الوهمي الذي يفصل بين الداخل والخارج يخضعه ديريدا للتفكيك فتتحطم علاقة التبعية التي يسيطر فيها مصدر المعنى كتعسف ميتافيزيقي على العلامة الإشارية للغة. فابتهاج وإعجاب الخطاب بالكلمة حال دون إيلاء الكتابة الاهتمام الذي تستحقه، من هنا يبدو أن هذا الاعتبار المطلق للكلمة يجب أن يكون حسب ديريدا غير مقصود لذاته حتى تضمن المصادر الأولانية لثقافة ما شرعيتها المثالية وحتى يرتبط تأويل الموجودات بمنطق عقلاني، منطق الفكر المنتج لها كإحساسات متمركزة باللوغوس " أو خطاب أو عقل حاضر في قلب ذاته،لاينفعل إلا بذاته،ولا يحتاج إلى سند أو ضمانة آتية من مرجع براني عليه" (). إن الزوج المفهومي داخل/خارج الذي تمحورت حوله استراتيجية "علم الكتابة" عند ديريدا قد شغلت الفكر الغربي الميتافيزيقي، فجعل الوجود الحقيقي مجرد فكرة مجردة مُلحقة بعالم الظواهر والأشياء، جعل ظاهراتية هوسرل تعمل على تطهير الشعور من تداعيات العمق الداخلي لأجل تأسيس المعنى الشفاف المنفتح على موضوعه الخارجي. إن "إرادة القول" التي وضعها هوسرل وجعلها حكما مسبقا ميتافيزيقيا متعلقا بقصدية احتمالية تحرك الفكر نحو الوجود عكستها التفكيكية فجعلت هذه الثنائية قادرة على الحضور بين إمكانية التعبير المثالي وبين العلامة الإشارية، أي جعل قدرة الكلام كداخل تدرك المعنى الموجود خارجه، فالإنصات إلى الذات وهي تتكلم مع اعتبار تفوق العوالم الداخلية على العوالم الخارجية يعكس الحضور القوي لأشكال الحديث الداخلي الذي لا يقيم وزنا للخارج إلا باعتباره دالا تقتضي ضرورة صياغته في انمحائه ونسيانه، من منطلق أن الكتابة لا تفترض الحضور المباشر للمتكلم فهي تتعالى عن التحيين، إذ العلامة المكونة لجسد النص تختلف عن الصوت أثناء التكلم إذ لا يمتلك النص خاصية البقاء، لانمحائه عند نهاية الحديث. فالكتابة قوة تجعل الفلاسفة يقفون حذرين من تدميرها للحقيقة الفلسفية التي يريدون تقريرها، فالكتابة تلوث الأفكار الفلسفية المجردة. وقد ناقش ديريدا ثنائية الصوت/الكتابة من خلال إستراتيجية أسمتها "بالعنف" من منطق الاختلاف، "ففي الوقت الذي يكون الكلام مشحونا بالحضور يحتل الحضور في الكتابة مكانة ثانوية" (). ويعتبر ديريدا الكتابة موازية للكلام ولهذا فإن "الغراماتولوجيا" ترى أن ليس هناك شيء قبل اللغة أو بعدها "فمفاهيم الحقيقة والعقلانية ما هي إلا من نتائج المجاز والاستعارة" (). ومن ثم كانت الكتابة عنده تقود النص إلى ما لانهاية من توقعاته باعتبار أن الحقيقة كما عند نيتشه وهم تحتاج في تحققها النسبي إلى تجاوز حدود المعاني المعطاة نحو أصل المعنى ولهذا كان النص الميتافيزيقي لا يستمع إلى كاتبه لأن فضاء المعنى المتعلق بالكتابة يبتعد عن المدلول عكس ما يحققه الصوت للمعنى (فكرا أو واقعا)، "فالصوت قريب جدا من المدلول signifié" (). أما الدالsignifiant فله أبعاد نستنتجها من "الإنصات إلى كلام الذات" فالصوت يسمع ذاته وفي أقرب نقطة من ذاته يساعد الدال على انمحائه المطلق لأن "الدال سيصبح شفّافا على الوجه الأكمل، نظرا للقرب المطلق للمدلول"()، ومن خلال هذا النسق الفكري اعتبر ديريدا أن "تاريخ الميتافيزيقا هو الإرادة المطلقة للإنصات إلى الذات "(). - ب- تعالي " الأثر" أو الماضي المطلق. إن مفهوم "الأثر" عند ديريدا قد استقاه من ليفيناس الذي يتساءل حول تناقض التجربة التي يتركها الآخر كآخر بالنسبة لذواتنا، فغرابة الآخر تحدد تعاليه بما أن العلاقة معه تتضمن تدخلا يأتي من الخارج. فالحضور كما صاغه ليفيناس يحافظ على العلاقة الترنسندنتالية للإله/الإنسان "إن الحدث المنتظر ينعطف نحو الماضي بدون أن يعاش... في أي حاضر.."(). فما لا يمكن اختزاله في بساطة الحاضر هو الذي وضع إمكانية إحالته على "الأثر"trace، فحسب ديريدا "إذا كان الأثر يحيل إلى ماضي مطلق، فمعنى ذلك أنه يلزمنا بالتفكير في ماضي لا يمكننا أن نفهمه في شكل الحضور المُعدّل، كحاضر ماضي" (). إن المفهوم الميتافيزيقي للزمن يحول من خلال منظور "الأثر- الأساس" archi-trace أي من المدلول إلى دال جديد يتجاوز التلقي البسيط إلى التلقي المركب كما عبّر عنه مونتيني". إن تأويل التأويلات أشق من تأويل الأشياء "حيث أن الكثافة الدلالية للنص لا تجد صلابتها إلا في التأويل" فالصلابة أو الكثافة الدلالية المميزة للنص الميتافيزيقي مصدرها هو ذلك التراكم التكراري للتأويلات. يتعلق الأمر باستعارات مترسبة تسعى القراءة الجنيالوجية إلى اختراقها عبر خلخلة وتفكيك تماسك طبقاتها" () إن الأثر عند ديريدا لا يحيل الى مدلول ترنسندنتالي وإنما "يمكن أن نسمّي غياب المدلول الترنسندنتالي لعبة"(( بما هو حدود اللعبة ذاتها فهي لعبة تتداخل فيها الأجناس الأدبية من السمانتيك إلى علم النفس أو إلى أجناس أخرى، فعلم اعتباطية العلامة هنا يشكل جوهر العلم بلا حركية "الأثر"، علم الكتابة قبل الكلام وداخله، الذي يغطي حسب ديريدا حقلا شاسعا من الداخل حيث يحدد اللسانيات بعزل فضائها الخاص في حدود موضعة النسق الداخلي عند دي سوسور حيث يعيد مقاربته بحذر في أي نسق يهتم بثنائية كلام/كتابة عبر العالم والتاريخ، وعبر" التحويل الذي لا يمكن أن يكون أقل من شفاهي" (). فاستخدام مفهوم "الأثر" للإحالة على ما وراء المعنى هو استخدام ميتافيزيقي عند ديريدا لكلمة لا تحمل في ذاتها شيئا من الميتافيزيقا تجعل التعامل مع الحقيقة بلغة الإشكالية وتقدم نفسها لحقل القراءات المختلفة التي لا تتوقف، بقول ديريدا في "الكتابة والاختلاف". فما من كلمة تكون ميتافيزيقية في ذاتها، بل إن طريقة استخدامها هي ما يكون ميتافيزيقيا" () 3-ميتافيزيقا الحضور ولعبة التفكيك. أ - تعالي الحضور ولعبة التفكيك. الفلسفة بما هي زمن الموجود الحاضر والحضور الحاضر تصنع من العلامة الدال الذي يتجاوز الوجود كحضور، ولتعميق لعبة التفكيك عند ديريدا فقد فكّر في اللعبة كغياب للمدلول المتعالي خارج الحاضر، وللتفكير في هذه اللعبة فقد اشترط الانهاك الصارم للإشكالية الأنطولوجية والترنسندنتالية مع التجاوز المتأنّي والصلد لسؤال دلالة الكائن، الكائن بما هو الأصل المتعالي للعالم، مع الانقياد الفعلي إلى نهاية الحركة النقدية لتساؤلات هوسرل وهيدغر وإعطائهما النجاعة والمقروئية. وقد يحيلنا التصور الهيدغري للعالم إلى التصور الجنيالوجي لنيتشه الذي يشخص التفكير الأولي للعبة العالم قبل محاولة معرفة كل أشكال اللعبة داخل العالم، يقول ديريدا "نحن إذن في بداية اللعبة في التطور المؤقت للعلامة"() ويقترح التعامل مع "الأثر" في الغراماتولوجيا باعتباره عملية وليس كحالة أو بنية معطاة يقول : "تطور الأثر يجب الاعتراف به كعملية وليس كحالة، كحركة فاعلة، une dé-motivation، وليس كبنية معطاة" () وقد شكلت ميتافيزيقا الحضور النواة الصلبة في نقد ديريدا للعقل الغربي المتمركز حول المنطق ويدعو إلى اللامركز والتعدد وعلم الكتابة نحو تأسيس أخلاق لهذه الكتابة التي تشاكس اللغة المنطوقة نحو تأسيس تخطّي لجدار اللغة في اتجاه الكتابة ذاتها، فالاشتغال على ثنائية الحضور/الغياب عند ديريدا من خلال فهم العلاقة الجدلية بين هذين المستويين في جسد الخطاب يجعل "الحضور حسب التفكيك رهينة مرئية، والغياب ظلاله الكثيفة العميقة الغائرة، المحيط المضطرب المتسع الذي لا قاع له ولا شواطئ، وهو المدلول الذي ينطوي على خاصية الانفتاح المستمر على القراءة"(). وفي إطار هذه اللعبة، لعبة الإخفاء والتجلّي هاته" فإذا كان النص لا يقول الحقيقة، بل يخلق حقيقته، فلا ينبغي التعامل مع النصوص من خلال ما تقوله أو بما تنص عليه وتصرح به، بل بما تسكت عنه ولا تقوله، بما تخفيه وتستبعده" (). فالنص عند ديريدا" لا يكون نصا إلا إذا أخفى عن النظرة الأولى قانون تركيبه وقاعدة لعبته، وهو يظل لا مدركا على الدوام "(). فوفق هذه الإستراتيجية يؤسس التفكيك لتحرير عمل المخيلة وجعل العملية النقدية موضوعه، وبذلك أسس ديريدا لمواجهة "ميتافيزيقا الحضور" التي تكوّنت بفعل "التمركز حول العقل" المعتمد في حقيقته على "التمركز حول الصوت" أي العناية بالكلام على حساب الكتابة. ب- التدبير العام للنص أو لعبة"الاخـ(تـ)ـلاف ". لقد ردّ جاك ديريدا الاعتبار لدور العلامة اللغوية في وجودها الحدسي على وجودها المادي وجعلها تحضر في "المثال" الذي يحدد الوظيفة التعبيرية عنده كخطاب صامت في غير حاجة إلى الإشارة. فميتافيزيقا التعبير تدفع بالنص إلى أن يجعل النظام الوظيفي يقف بين ثبوثية نظام العلامات كواقع مادي خارجي والتصور الذي يفعّل تدبير النص كخطاب داخل النفس، يعكس شحنات دلالية ثاوية في استطاعتها تحرير المثال من قبضة الواقع، فالعلامة ليس لها حضور مادي فما هناك سوى لعبة"الاخـ(تـ)ـلاف" لا غير. فالاختلاف يحشد ضمنه دلالات ذات خصائص مكانية وزمانية وصوتية، يترك للمتلقي اقتناء الدلالة الخاصة به. - فكيف يمكن التيقن أن Différance هي Différence بغير الكتابة؟ إن مصطلح "الاخـ(تـ)ـلاف" يقوم على اصطدام الدلالات وقد أجاب ديريدا في كتابه الكلام والظاهرة "عن كونه يعني بالاختلاف الإزاحة التي تجعل أي نظام مرجعي عام عبارة عن بنية من الاختلافات" (). فالاختلاف عند التفكيكية نوعان: 1- اختلاف مع الإبقاء على حرف "e" Différence ويمثل أثرا من آثار الاختلاف القبلي، إن النسخة التي تلي النص الأصلي هي التي تؤسس لتسميته بالأصل تدفع بمساره الدلالي نحو الأثر الذي يعدل النص في أصليته فـ"الأصل طريق إلى الأثر مثلما يكون اليوم الأوّل في حياتنا يوما أوّل في اتّجاه الموت في آن واحد معا"() 2- اختلاف مؤسس Différance "الاخـ(تـ)ـلاف" يبرز تميزه بالحرف الصامت(a) الذي يظهر في عملية النطق وكأنه الغائب-الموجود، الغائب صوتا والحاضر كتابة ولكنه فاعل داخل الخطاب الميتافيزيقي الغربي. "الاخـ(تـ)ـلاف" يجتاح العلامة محوّلا عملياتها إلى"أثر" لا حضور ذاتي لها تجعل المعنى غير حاضر بشكل مستمر بالنص، فهو معنى مؤجل بشكل لا نهائي، والنص لا يتحدد بالمعنى الواحد الذي يبحث عنه المتلقي الواقع تحت سلطة الحضور العام للنص حيث تهيمن فكرة الحضور. لهذا يولي ديريدا أهمية قصوى للعبة الاختلاف التي تتحكم في عملية تأصيل وتعالي الدلالة. فقد واجه سلطة النص بحرية جعلته يتنقل بين خارجه وداخله حيث يجد المتلقي في رغبة اللغة إمكانية للبحث عمّا هو مُغيّب فيها مما يحقق لقارئ النص عشقا ولذة تدفع بالتفكيك إلى اقتراح قراءة متعددة الأوجه للخطاب. خاتمة: إن التفكيك بتأكيده على التعدد" الاخـ(تـ)ـلاف" وإلغاء الحضور والتعالي، يهدف إلى تقويض نماذج الحضور التي تستند إليها الحضارة الغربية بما يسمح بظهور بدائل حضارية تتغاير في نظمها عمّا أرسته الميتافيزيقا الغربية وبذلك اعتبر ديريدا نفسه "امتدادا للفلسفة الهايدغرية ويقرأ التراث المفكرين الغربيين بهدف خلخلة أساسه العقلي والتحرر من الميتافيزيقا للانخراط في عوالم المتخيل والاختلاف والهامش، لكن بالرغم من هذه الفروق فإنهم بقوا سجناء الوعي بضرورة تهديم أسس الوعي" () المراجع والهوامش 1- عبد الله إبراهيم، سعيد الغانمي، عواد علي، معرفة الآخر، مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء الطبعة الأولى سنة 1990 الصفحة:114. 2 -Jacques Derrida, De la grammatologie, collection, critique, les éditions de minuit, 1967, p : 23 3- محمد نور الدين أفاية"الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة"-نموذج هابر ماس-، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، سنة:1998، الصفحة:234. -4Ibid,p :19.الترجمة منّي -5 Jacques Derrida, la voix et le phenomene, paris, P.U.F 1967 p :20 6 - De la grammatologie, p : 73. 7- جاك ديريدا، "الكتابة والاختلاف"ترجمة كاظم جهاد، مقدمة المترجم، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1988،ص: 26. 8- معرفة الآخر، ص:133. 9- نفس المرجع، ص:135. 10 -Ibid, p :115, p : 22 11- J. Derrida, La voix et le phénomène, p : 90 12 -Ibid, p :115. 13- De la grammatologie, p : 211 14 -Ibid, p :97 15- د.محمد أند لسي، الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد، جينيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي، سلسلة دراسات وأبحات 11، جامعة المولى إسماعيل، كلية الآداب والعلوم الانسانية، مكناس، سنة:2003، ص:119. 16 - Ibid, p :73 17 - Ibid, p :74 18- جاك ديريدا، "الكتابة والاختلاف" الصفحة :52. 19 - DE La grammatologie, p : 74 20 - Ibid, p : 74 21- معرفة الآخر، ص:116. 22- د.محمد أند لسي، الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد، الصفحة:121. 23 - Derrida (j), la dissémination, seuil, 1972, p : 71أخدا عن الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد ص: 121--- 24 - La voix et le phénomène, p :42. 25- جاك ديريدا، "الكتابة والاختلاف" مقدمة المترجم، الصفحة :31. 26- محمد نور الدين أفاية"الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة"، الصفحة:335-336. http://www.fikrwanakd.aljabriabed.net/n64_02bdnurl.htm تفكيكية جاك ديريدا بين الكتابة والكلام - سيناتور - 09-16-2007 قيل / فلسفة ما بعد الحداثة تسعى الى التخلص من الإفراط في «تقديس» العقل، والخروج من شرنقة حدوده التي جعلت دريدا يمتدح الموت في كتابه الشهير «هبة الموت» أو «The Gift of Death» عام 1996. تفكيكية جاك ديريدا بين الكتابة والكلام - سيناتور - 10-11-2007 دريدا ونقد الميتافيزيقا الغربية عبدالله إبراهيم 1. التفكيك وفاعلية الاختلاف تحيل الدلالة الاصطلاحية لـ«التفكيك-Deconstruction»على فضاء دلالي واسع، يقترن بتفكيك الخطابات الفلسفية، والنُظم الفكرية، وإعادة النظر إليها بحسب عناصرها المكوِّنة والاستغراق فيها وصولاً إلى الإلمام بالبؤر الأساسية المطمورة فيها، وهو ما يفترض الحاجة إلى إجراء حفريات في تلك النظم، كما تجلّت خطابياً، وكما تشكّلت تاريخياً ومعرفياً، ويترتب على هذا، أن الدلالة الاصطلاحية لـ«التفكيك»تختلف عن دلالته اللغوية التي تحيل على التخريب والتهديم والتقويض، وينهض التفكيك على منهجية التعارض بين المكونات التي تشكل كيان الخطاب، وتركها تعمّق اختلافاتها، وتكشف تناقضاتها الداخلية، ويحذّر دريدا من تبسيط موضوع البحث، ويرى أن عدو المنهجيات الحديثة، ومنها التفكيك هو: التبسيط والاختزال، وهذا على أية حال، ما يوحي بغموض الحفريات التي يجريها دريدا، ويعبّر عن الأمر، مؤكداً، إنه من أجل تلمّس فعل المخيّلة الخلاقة، بأكثر ما يمكن، ينبغي العناية بما هو غير مرئي من الحرية الشعرية، ويفترض هذا الأمر؛ الانفصال وصولاً للاتصال الخفي بالأثر في عتمته الحالكة. إن تجربة مثل هذه، تهدف إلى تنظيم الفعالية الأدبية، على مستوى الكتابة والقراءة، مشكّلة على نحو خاص، لا تستطيع فيها مفردات الانفصال والنفي - وهي ما يفترض أنها دالة على الانقطاع، وعدم التواصل ضمن العالم - أن توضّحها بصورة كافية، ما تستطيعه هو الإشارة إليها حسب، بوساطة الاستعارة التي ينتظم حولها نظام التفكير، لأن الأمر ما هو إلا مغادرة العالم، تجاه مكان لا يشكل موضعاً ولا عالماً آخر، ولا يوتوبياً، إنه، في حقيقة الأمر، تخليق كون، يضاف إلى هذا الكون(1). يكشف هذا، أن التفكيك، لا يحاول الاقتراب إلى الخطاب، إلا بوصفه نظاماً غير منجز، إلا في مستوى كونه ملفوظاً، هو بعبارة أخرى، تمظهر خطّي قوامه سيل من الدوال. وهو ينتج باستمرار، ولا يتوقف أبداً، حتى لو اختفى كاتبه، وهذا ما يفسّر عناية التفكيك بالكتابة دون الكلام، لانطوائها على صيرورة البقاء بغياب المنتج الأول، وهو ما يتعذّر بالنسبة للكلام. لقد أفضى ذلك، إلى اشتغال التفكيك على ثنائية الحضور والغياب، استناداً إلى فهم جدلي للعلاقة بين هذين المستويين في الخطاب، إن الحضور رهينة مرئية وما الغياب إلا ظلالها الكثيفة الغائرة في محيط مضطرب واسع لا قاع له ولا شواطئ، وهذا المحيط، هو المدلول المنفتح أبداً بفعل القراءة. على وفق هذه الرؤية، يؤسس التفكيك موقفه تجاه الخطاب، هادفاً إلى تحرير عمل المخيلة من ناحية، وافتضاض آفاق جديدة للعملية الإبداعية من ناحية أخرى. إنها سلطة من نوع خاص، كونها تولي القراءة النقدية كثيراً من اهتمامها(2). وهي بذلك تقف على الجانب الآخر المواجه للمنهجيات التاريخية والاجتماعية والنفسية والبنيوية الوصفية التي جعلت النموذج اللغوي موجهاً لعملها في الوصف والتحليل. وجَّه دريدا، نقداً جوهرياً إلى المقولات الفكرية التقليدية، وسعى جاهداً لقهر التقسيم التقليدي بين الخطاب الفلسفي والخطاب الجمالي، وتستند رؤيته في هذا الأمر إلى كشفه: إن الحضارة الغربية نهضت حول العقل والمنطق، وكانا معياراً حاسماً لتقويم أهمية كل شيء وأصالته، ويجترح دريدا إحدى مقولاته الأساسية للتعبير عن ذلك. وهي «التمركِّز حول العقل - Logocentrism»، وتتحدد استراتيجية هذه المقولة في البرنامج التفكيكي الهادف إلى نقد سلطة العقل والمنطق في الفلسفة الغربية، إلى فحص الميتافيزيقيا التي تبطل جميع المعاني التي لا تتطابق والنماذج العقلية المتصورة، وعلى الضد مما تذهب إليه الميتافيزيقا الغربية في تجلياتها الفكرية والمعرفية، يدعو دريدا إلى دور حر للغة، بوصفها متوالية لانهائية من اختلافات المعنى، ولا يمكنه تقرير أرجحية أمر، إلا استناداً إلى قرائن تعوّمها القراءة الحفرية. إذ لا معنى يظل حبيس دوالّه، ويُفسر على أنه ذو مغزى محدد بصورة نهائية. المعاني تنتجها القراءة، قادته توصلاته هذه، إلى توجيه نقد قاسٍ إلى نظام الفكر الغربي، كما تشكّل معرفياً، ابتداءاً من سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومروراً بديكارت وكانت، ووصولاً إلى معلميه المباشرين، هيدغر وهوسرل، رغم أنه يقرر، بأنهما، كانا مؤثرين في مشروعه النقدي، ويؤكد أن علاقته بهيدغر خاصة، لا تتمثل في الجانب المنهجي، إنما في المفهوم المشترك للوجود، وبالذات مقولة هيدغر في أنطولوجيا الحضور ونقد الأفلاطونية، وقضية العلاقة بين اللغة والوجود(3). تعد مقولة«الاختلاف-Differance»إحدى المرتكزات الأساسية لمنهجية التفكيك، والوقوف عليها، إنما يكشف عن جزء مهم من استراتيجية التفكيك في مقارباته المنهجية والتأويلية. حدد دريدا مفهومه لـ«الاختلاف» في كتابه «الكلام والظاهرة». وقبل الاقتراب إلى فعالية هذه المقولة في منهجية التفكيك، يلزم تقصّي دلالاتها، وكشف جذورها المهجنة من عدد من المفردات، فذلك، إنما يكشف عن جزء من عناية التفكيك بما هو غير يقيني، والدعوة الملحّة للدخول في شباك الاحتمالات الكثيرة. يمكن تأشير الدلالة المعجمية لـ«الاختلاف» كما وردت في كتابات دريدا، بأنها نسيج دلالي متعدد، هضم فيه دلالات مجموعة من المفردات فثمة todiffer ويدل على المغايرة والاختلاف وعدم التشابه في الشكل، وto defer وهي مفردة لاتينية توحي بالتشتت والتفرق وTo defer ويدل على التأجيل والتأخير والإرجاء والتعويق. واضح أن المغايرة والانتشار والتمدد والتفرق خواص لأشياء مكانية ترتبط بالفضاء والحيز. بينما يكون الإرجاء والتأجيل والتأخير مرتبطاً بالزمان. مقولة «الاختلاف» هي نسيج متشابك من جميع الدلالات التي ذكرت، وإذا كان «الاختلاف» متعدداً في مستوياته الدلالية، تتنازعه خصائص مكانية وزمانية وصوتية، فإنه في التفكيك بوصفه مصطلحاً إجرائياً، إنما يحيل على الاختلاف المرجأ أبداً، هو الاختلاف الذي يحرر المتلقي من استحضار المرجع المحدد، ويترك له حرية استحضار أو تعويم مرجع خاص به، وذلك لوجود اختلاف بين الدال والمدلول، والمدلول والمرجع. وإذا كانت العلامة، التي هي صوت في الكلام، تشير فقط إلى فكرة الشيء، بينما يبقى حضور المرجع مستحيلاً، بسبب من غيابه في اللحظة الآنية. فكيف بإحضار موضوع المرجع؟ ومن هنا يبدأ إرجاء المرجع في النظام اللغوي وتأجيله مع استمرار الكلام، كما هو الأمر في الدلالات التي تحتشد تحت مصطلح «الاختلاف». فهل دلالته هي عدم التشابه أم التفرّق والتبدد، أم التأخير والأرجاء والتواني، وكيف يمكن التيقن أن differance هي difference بغير الكتابة. والحرف a في الكلمة الأولى لا يلفظ في الفرنسية. من هنا تنشأ مشكلة الحضور والغياب، حضور الدال. وتعدد مدلولاته، وغياب بعضها. نخلص إلى أن «الاختلاف»، يحيل على تعارض دلالات مكونات الكلام ليس بناء على خصائصها الذاتية، إنما بناء على الاختلافات فيما بينها. إن المكوّن الكلامي يُعرّف، بأنه يختلف عن غيره، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، هنالك المتوالية المؤجلة من سلسلة العلاقات اللانهائية. وكل هذا يفسر لم يرفض دريدا نفسه أن يحدد الدلالة الاصطلاحية الدقيقة، للاختلاف، فهو يؤكد انه ليس كلمة ولا مفهوماً، إنّه: الإزاحة التي تصبح بواسطتها اللغة أو الشفرة، أو أي نظام مرجعي عام، ينطوي على ميزة تاريخية؛ عبارة عن بنية من الاختلافات ويحاول "لتش"أن ينغمر في موحيات «الاختلاف» فيؤكد، انه عندما نستخدم العلامات، فإن حضور المرجع والمدلول، يرتبط بالحضور الذاتي للدال، الذي يحضر لنا حال الوهم والمخادعة والضلال على نحو مفاجئ، ليس ثمة حضور مادي للعلامة، ما يوجد هو لعبة الاختلاف حسب. فالاختلاف ينتهك العلامة، ويجتاحها محولاً عملياتها إلى أثر. وليس حضوراً ذاتياً لها(4). وإذا كانت اللغة سلسلة لا متناهية من المفردات التي ليس لها أصول بمعزل عن سياق اللغة، فإن الكلمات تتميز باختلاف كل منها عن الأخرى. وهذا يُفضي إلى نتيجة، غاية في الأهمية، في استراتيجية عمل التفكيك، الذي يستميت من أجل المغيب، وطرائق تعويمه. إذ طبقاً لذلك، يكون كل معنى مؤجلاً بشكل لانهائي، وكل كلمة تقود إلى غيرها في النظام الدلالي اللغوي. دون التمكن من الوقوف النهائي على معنى محدد واضح الآن. إن ما دفع دريدا إلى ذلك، هو الحد من فكرة الحضور، فالمتلقي يبحث عن مدلول محدد، لأنه واقع تحت سطوة فكرة الحضور، بل خاضع لها، ولهذا، فإن ما يهدف إلى تحقيقه دريدا، هو أن يكون الخطاب، والخطاب الأدبي خاصة، تياراً غير متناهٍ من الدوال، وبوساطة الكلمات فقط، يمكن الإشارة إلى كلمة ما دون أخرى. وهذا يفضي إلى توالد مستمرٍ للمعاني، لا بسبب من تقرير دلالاتها، بل من اختلافاتها المتواصلة مع المعاني الأخرى، ولما كانت هذه المعاني لا تعرف الثبات والاستقرار، فإنها تبقى مؤجّلة ضمن نظام الاختلاف، وتظل محكومة، بحركة حرة أفقية وعمودية، دونما توقع نهاية محددة لها. دلالة «الاختلاف»، تنتظم حول قطبين دلاليين أساسيين، هما: «الاختلاف» و«التأجيل»، فضلاً عن أقطاب ثانوية تجاورهما، لكن هذين القطبين لا يؤسسان لفكرة التوازي في منهج التفكيك، كونه يهدف إلى تقويض الثنائيات التي أرستها الميتافيزيقيا. ولهذا، فإن دريدا يصرّ على ضم جميع المحاور الدلالية التي تتنازع مقولة «الاختلاف»، جاعلاً منها مركز استقطاب دلالي يرشحُ بدلالات قارة وحافة في آن واحد. يؤسس دريدا، بوساطة «الاختلاف» رؤيته لمعضلة الحضور والغياب، ويدير نقاشاً ذا مستويات متعددة في اللغة والفلسفة، فالمعاني كما يرى تتحقق من اختلافها المتواصل في عملية الكتابة والقراءة من غيرها، وتبدأ مستويات الحضور والغياب بالجدل ضمن أفق الاختلاف، بحيث يصبح الاختلاف هدفاً بذاته، فالأمر يتطلب حضور العلاقة المرئية التي توفرها الكتابة التي تمدّ العلامات بقوة تكرارية ضمن الزمان، وكل هذا يشحن الدوال ببدائل لانهائية من المدلولات. مما يثبت أن هدف الكلام وغايته، بوصفه حضوراً ذاتياً ينتج بوساطة أثر الزمان في الكتابة. وهو يقوم من ناحية ثانية بتقويض الحضور الذاتي، وهذا يكشف، أن ثمة بناءً وهدماً متواصلين، من أجل بلوغ تخوم المعنى. يذهب دريدا إلى أن الاختلاف هو عمل الكلام الداخلي، فالكلام المنطوق يتشكل من الاختلاف المستمر بين الكلمة المنطوقة التي تتجزأ عادة إلى دال صوتي ومدلول، وبين سلسلة المفردات التي ينتظمها الحديث. وذلك إلى ما لا نهاية، تبعاً لما كان قرره سوسير من أن النظام الذاتي الكلام، ينهض على الاختلاف بين العلامات، أكثر مما ينهض على حشد وحدات المعنى. فالعلامة لا تدل على شيء بذاتها، إنما باختلافها عن العلامات الأخرى. وهذه الإمكانية لا تتحقق إلا بوساطة الكلام، بوصفه حضوراً ذاتياً مباشراً يلعب دوراً رئيساً في الحقل الدلالي. هذه الوظيفة للاختلاف في برنامج التفكيك، هي التي قادت دريدا إلى تقديم تصوره لـ«الكتابة البدئية - Archi-writing وهي نمط من الكتابة سابق للكتابة نفسها. أي ذات ميزة قبلية، تكون أنموذجاً متصوراً للكتابة نفسها، فهي قائمة على المعرفة بالحاجة إليها، قبل حصول المواضعة حولها. الكتابة البدئية، لا يمكن تعريفها موضوعياً، لأنها غير قابلة للاستقراء والوصف، لكنها حسب دريدا كل شيء، إنها الوسيلة التي لا تدع لنفسها، أن تنتج غير شكل الحضور. وغالباً ما تكون أنظمتها موضوعية بالنسبة لموضوعها، وبالنسبة لكل أشكال المعرفة الأخرى(5).ويمكن أن يصطلح عليها بـ«اللسانيات غير المتمركزة عقلياً-anon Logocentric Linguistics».وهكذا يتكشف أن التشدد في التركيز على أهمية الاختلاف، قاد إلى تعميم استراتيجية هذه المقولة الفعالة بوصفها وسيلة حفر في بنية الخطابات الفلسفية والأدبية. وحققت منجزها الأكبر في محاولتها تقويض المرتكز الفكرية للثنائيات المعروفة، مثل: الروح والجسد، الخير والشر، الشكل والمعنى، الاستعاري والواقعي، الإيجابي والسلبي… إلخ. وذلك لقلب التصور الذهني الذي أرسته الميتافيزيقيا الغربية. واستبدال ذلك بمقولات تحتمل التعدد الدلالي مثل" Pharmakon" الذي يعني السم والدواء معاً و"marge" الذي يحيل على الهامش والعلامة والمسيرة صوتياً، وغير ذلك، مما يحتمل ولا يقرر أمراً محدداً. ولما كان الاختلاف خصيصة لغوية، فهو حسب دريدا نفسه لا يعود لا إلى التاريخ ولا إلى البنية(6). لا يمكن عدّ دريدا فيلسوفاً، بالمعنى المتعارف عليه، كما لا يعد ناقداً، ما تنطبق عليه حقاً، هي كلمة «قارئ» ولكنه قارئ مسلَّح برؤية جديدة، وتتميز كتاباته بخصوصيتها بين جيله مثل ريكور وكرستيفا وسولير وهارتمن ودي مان وغيرهم، ويستحيل موضوعياً تصنيف نصوصه على وفق الأسس التي تعتمد عليها نظرية الأجناس الأدبية. فهي في الوقت الذي تستظل في فيء الفلسفة، لا تبرح تلقي أسئلة عميقة عن اللغة والإبداع والمعنى والهوية، وتتناص مع خطابات قديمة، تمتد من أفلاطون إلى هوسر وهيدغر، وتبدو من هذه الناحية، أنها معنية بالتاريخ المعرفي للفكر الفلسفي(7). عنايته بالفكر الفلسفي، وأبرز كشوفاته المعرفية، جعلت هذا الفكر، أحد أبرز مصادر ثقافته، فضلاً عن الكشوفات اللسانية والبنيوية، وهو ما جعله يخطو باتجاهات ما بعد البنيوية خطوة متقدمة، ولكنها لن تكون الأخيرة، بسبب من جدل المنهجيات. ويمكن التأكيد أن دريدا قد وظّف منهجياً كثيراً من الجهود المنهجية للمعنيين بالمنهجيات اللسانية، وأضاف إليها، جهده وحفرياته وتصوره للهرم الفلسفي الغربي. الذي ربما لم يُعن به إلا قلة قليلة من جيله، مثل ريكور وهابرماز، تلك العناية المباشرة التي ميزته عن غيره. وجعلته ينهض بمهمة تدشين مشروعه في تفكيك بنية الفكر الغربي، مستعيناً بالوسائل المنهجية القادرة على كشف تناقضات تلك البنية، وتركها تكشف عن تناقضاتها بنفسها، معتمداً على شبكة مقولاته الأساسية، ومنها «الاختلاف» الذي يمارس من خلاله نقداً لمطابقات الفكر الغربي ونزعته التمركزية. 2. نقد التمركز حول العقل يتجه نقد دريدا للمركزية الغربية ناحية الأسس والركائز العقلية التي أفضت إليها، ولما كانت تلك الأسس تتمحور حول فكرتين أساسيتين هما: التمركز حول العقل وفكرة الحضور، فإن برنامج دريدا النقدي يتمحور حول هاتين الفكرتين الفاعلتين في خارطة الميتافيزيقيا الغربية، فهو يطمح إلى تفكيك كل المراكز الدلالية، وبؤر المعاني التي تشكلت حولهما، فالممارسة الفكرية حول «اللوغوس» أنتجت تمركزاً عقلياً صلباً جداً أقصى كل ممارسة فكرية لا تمتثل لشروطه، لأنه ربط بينه ومعنى الحقيقة، وأنتج نظاماً مغلقاً من التفكير. أما فكرة الحضور فإنها تستأثر باهتمام دريدا النقدي لأنها تواكب اللوغوس، وتمثل مبدأً راسخاً مفاده أن الموجود يتجلى بوصفه حضوراً، أي أن الوجود(= الكائن) يتمظهر حضوره في الأشياء. وفي هذا الصدد يؤكد هيدغر على إن التاريخ الغربي منذ بدايته، وعلى امتداده، ظل يبرهن على أن كينونة الكائن تتجلى بوصفها حضوراً. وهذا التجلي للكينونة على أنها حضور هو بذاته تاريخ الغرب. ذلك أن مسار تاريخ الغرب ترادف في معناه ودلالته مع فكرة الحضور، باعتبار أن ما يأتي لذاته يتجلى وينتشر بالقرب من ذاته(8). وكثيراً ما استوقفت هيدغر هذه الظاهرة فدرس جوانبها اعتماداً على نصوص الفلسفة، وخلص من ذلك إلى أن الفلسفة الغربية تدفع إلى الأمام باستمرار فكرة أن الوجود هو الأكثر حضوراً من تلقاء نفسه، فأرسطو كان يؤكد على أن «الوجود هو ما يكون بذاته أظهر الأشياء» أي أكثر الأشياء حضوراً، على أن هذا الأمر يولد فعلاً آخر ينبغي ملاحظته لأنه يتصل هذه المرة بإدراك الإنسان، فما اعتبر بذاته أظهر الأشياء، هو الأقل ظهوراً، فالأشد ظهوراً هو الموجود الذي ندركه في كل لحظة، أي الوجود بذاته الذي يكون جلياً ظاهراً، والذي في الوقت ذاته يكون بالنسبة لنا غير ذلك. فإذا كان الأمر هكذا أي ثمة ظهور باهر للموجود من جهة واحتجاب بالغ له من جهة ثانية، فإن مردّ ذلك التناقض يكمن في قصور وعي الإنسان بوصفه وسيلة إدراك، فإبهام الوجود وانحجابه ليسا صفة كامنة فيه، إنما في عجزنا عن إدراك ذلك الحضور، وما يثير الاهتمام هو هذه المفارقة، كيف يكون أشد الأشياء حضوراً هو في الوقت نفسه أكثر الأشياء غموضاً واستغلاقاً؟ هذا التفاوت بين حقيقة الموجود وكيفية إدراكه لازم الفكر الفلسفي الغربي، وينتهي هيدغر إلى تقرير فكرته حول هذه الإشكالية: إن انتشار الوجود يشكل بذاته تاريخ الإنسان الغربي من حيث جوهره، باعتبار أن هذا الإنسان يظل في لحاظ التاريخ مأخوذاً بيده ومثبتاً في موضعه بوصفه قاطناً في إشراقة الوجود، ومساهماً في هذه الإشراقة، والوجود من حيث هو انحجاب لا ينفك عن الظهور، يدل بذاته على الماهية الإنسانية، غير أنه، على الرغم من ذلك لا يتأنسن، بل إن ماهية الإنسان تستوطن بفعل هذه الدلالة - الرابطة في نواحي الوجود وأصقاعه(9). أثبت دريدا أن التراث الفلسفي الغربي ظل مشبعاً بفكرتي «التمركز حول العقل» و«ميتافيزيقا الحضور» وأن مذاهب الفلسفة ونظرياتها المختلفة ما هي إلا صيغ من نظام واحد هو نظام التمركز حول هذين المحورين، ومع أن دريدا يؤكد صعوبة التخلص من هذا التمركز، ألا يمكن معرفة الظروف التي فرضت هذه الظاهرة. ومع أنه لا يمكن تخيل «نهاية» للميتافيزيقا أو وضع حدٍ لها. فمن الممكن نقدها من الداخل بالتعرف إلى النظام الهرمي الذي أقامته، وربما في مرحلة لاحقة يصار إلى قلب هذه الظاهرة رأساً على عقب، فغاية النقد هنا هزّ قواعد الميتافيزيقيا التي أُنتجت ضمن أفق محدد، وربضت خلف الفكر كله، توجهه وتحدد منظوره(10). إن النظام المتماسك الذي نتج عن ممارسات التمركز المذكورة، من الصلابة بحيث يصعب تدميره مباشرة، أنه يحتاج إلى خلخلة لنظام جذوره، وتفكيك ذلك النظام الذي قد يؤدي إلى تفجيره من الداخل(11). وعلى هذا، واستناداً إلى هدف تقويض نظم الميتافيزيقيا الغربية بتعرية ركائزها، وكشف تناقضاتها، وُصِف دريدا بأنه مناهض مرير لنظم الفكر المتعالية التي يقصد منها أن تعطي لاتباعها مواقف هيمنة يطلون منها على من هم دونهم، ويحكمون عليهم طبقاً لها(12). اتخذ نقد دريدا للميتافيزيقيا الغربية من مصطلح «التمركز حول العقل Logocentrism» وسيلة وموضوعاً له. وتتمثل كفاءة هذا المفهوم المزدوجة، أولاً في سياق فلسفة دريدا النقدية، وثانياً في التراث الفلسفي الغربي في أنه يدمج معاً مقولة «اللوغوس» بممارسة «التمركز»، وعليه فالحقل الدلالي لهذا المفهوم متشعب، ويتحدر من أصلين: مقولة فلسفية تجريدية أخذت معنى المفهوم ووظيفته، وممارسة عملية غايتها الانغلاق على نوع من التصور، وكل هذه المكونات التي دخلت في بناء Logocentrism تفيد في أن يمنح هذا المفهوم وظائف نظرية وعملية، فمن الجهة الأولى يقتضي الأمر الاقتراب إلى المفهوم وأصوله وتشكلاته في الفلسفة الغربية، ومن الجهة الثانية يقتضي الأمر كشف طبيعة التمركز بوصفه ممارسة فلسفية. وهذا الغنى الذي ينطوي عليه المفهوم يخدم غرض دريدا في نقده الهادف إلى هدم فكرة اليقين المطلق في الميتافيزيقيا، والانتقال إلى إعلان حالة تمرد على إثبات أُطرها وسكون مضمونها. لقد شخص دريدا أصول هذه الظاهرة المتمكِّنة من التفكير، فالفلسفة منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو دفعت العقل، إلى واجهة الاهتمام، وأعطته سلطة فعالة في مسار الفكر، بحيث آل في نهاية المطاف إلى مفهوم مجرد ذي قوة لا متناهية، وفي ظل هذه النزعة العقلية، أصبح القياس العقلي - المنطقي نموذجاً معيارياً تقاس في ضوئه كل النماذج الفكرية، ففرض بسبب ذلك هيمنته القصوى في مجال الفكر الفلسفي، وكان هذا كافياً بالنسبة لدريدا لأن ينصرف إلى تفكيك هذا التمركز، وذلك من خلال نقد الأصل الثابت والمتفرد بالقوة لمفهوم العقل. سعياً وراء ظهور نمط من التفكير الذي يتجاوز نسق التمركز المذكور. لاحظ دريدا أن الميتافيزيقيا الغربية تمنح الكلام أفضلية على الكتابة، فهي تعطي امتيازاً خاصاً للكلمة المنطوقة، لأنها تجسد حضور المتكلم وقت صدور القول، وتلزم متلقياً، فليس ثمة فاصل زماني أو مكاني بينهما، فالمتكلم يستمع في الوقت الذي يتكلم فيه، وهو ما يفعله المتلقي في الوقت ذاته. إن سمة المباشرة في فعل الكلام تعطي قوة خاصة في أن المتكلم يعرف ما يعني، ويعني ما يقول، ويقول ما يعني، ويعرف ما يقول، وهو قادر، فضلاً عن ذلك على معرفة فيما إذا كان الفهم تحقق فعلاً أم لم يتحقق. فصورة الحضور الذاتي المباشر للحقيقة التي يفرض الكلام وجودها في الممارسة الفكرية، تتصل مباشرة بالحقيقة التداولية للألفاظ ودلالاتها لحظة النطق في ممارسة حية ومباشرة وآنية. وهذه الخاصة ظلت إحدى الشواغل المحورية في الميتافيزيقيا الغربية، ومن ورائها الثقافة الغربية، وعلى النقيض من ذلك، فإن الكتابة لم تستأثر بالاهتمام، لأنها بوسائلها وآلياتها، لا يمكن أن تتداول الحقيقة الحية المباشرة، ولهذا عُدّت نشاطاً من الدرجة الثانية، فالكاتب يضع أفكاره على الورق، فاصلاً إياها عن نفسه المتضمنة للحقيقة، وجاعلاً منها شيئاً جامداً يمكن أن يقرأ من شخص آخر بعيد، لا تربطه به صلة زمانية أو مكانية، ولا يربطها سياق مشترك، وهذا قد يفتح الباب لمزيد من سوء الفهم، بسبب الاحتمالات المترتبة على مسارات التلقي الخاصة بالقراءة، وفي ضوء هذا المنظور، وتبعاً لفروضه، أعلت الميتافيزيقيا الغربية من شأن الكلام على حساب الكتابة، ومن هنا ظهرت المفاضلة بينها، والاختلاف المتأصل في الكفر الغربي بشأنها(13). وقد دُعم هذا الاتجاه دينياً، فحضور «اللوغوس» في «العهد الجديد» على أنه «كلمة» منح المفهوم قدراً كثيفاً من الحضور «في البدء كانت الكلمة»، فلكون «الكلمة» أصل الأشياء جميعاً، فإنها توقع وتذيل على حضور العالم، فكل شيء هو معلول هذه العلة، مع أن «الكتاب المقدس» مكتوب، فإن كلمة الله منطوقة في الأساس. وتبدو الكلمة المنطوقة، الصادرة من الجسد الحي أقرب إلى الفكر المولد من الكلمة المكتوبة. ويرى دريدا أن تفضيل الكلام على الكتابة، وهو ما يصطلحُ عليه يسميه: التمركز حول الصوت phonocentrism، إنما هو سمة كلاسيكية من سمات التـمركز حـول العقل(14). وعلى هذا، فإن الإعلاء من شأن الكلام على حساب الكتابة كان أكثر العوامل التي دفعت فكرة التمركز حول العقل إلى البروز والاستبداد والهيمنة في تاريخ الفكر الغربي. ويتقصى دريدا هذه الظاهرة، فيرجعها إلى أفلاطون الذي يرى أن الحقيقة ما هي إلا حوار الروح الصامت مع نفسها، وهذا التصور يدعم، كما هو واضح، أمر حضور الكلام النفسي، فالحقيقة هنا هي المباشرة الصريحة للنفس، وأكثر تجليات هذه الفكرة حضوراً هو: الحوار بين متحدثين يجمعهما زمان ومكان، وعن هذا الأصل الذي يمثله الحوار الداخلي، نشأت فكرة الحوار الصائت بين متحاورين خاضعين للشروط الزمانية المكانية(= وجدت هذه الفكرة أفضل تجل فعلي لها في المحاورات الأفلاطونية). فأفلاطون حاول في محاوراته محاكاة هذا الضرب من نظام الإرسال والتلقي، مفترضاً ثنائية(المرسل والمتلقي) التي تنظم الفعل الاتصالي، وهي في الغالب سقراط بوصفه مرسلاً، ومجموعة من المتلقين/المحاورين الذين يتغيرون حسب المقام والحاجة التي يريدها أفلاطون. وتمسك أفلاطون بأسلوب المباشرة الحوارية، واعتقاده بأنه الأسلوب الأمثل في التعبير عن الحقيقة أدّى إلى معالجة موضوع الكتابة بشبهة كبيرة. يسعى دريدا إلى استبدال ذلك التصور، مؤكداً أن الكتابة تكشف عن تغريب المعنى، ذلك أن نقش المعنى بواسطة العلامة يهبه استقلالاً وحرية عن صاحبه الأصلي، وهذا يمنحه إمكانات كبيرة في التفسير والتأويل. هذا التغريب أو الإبعاد في المعنى يتوضح حينما تستمر العلامة المكتوبة في توليد أبعادها الدلالية المتجددة في غياب مؤلفها الأصلي. إن ما يطالب به دريدا، ليس فقط حل هذا الإشكال المستعصي فيما يخص قضية الكلام والكتابة في الخطاب الفلسفي الغربي، إنما يطالب أيضاً بضرورة قلب ذلك النظام، لتفريغ شحنة التمركز حول العقل في الفلسفة، فهذا القلب، وإعطاء أولوية للكتابة على الكلام سيفتح الأفق أمام الخطاب الفلسفي المتموّج بدلالاته بعيداً عن الاصطدام ببؤر التمركز، فإذا ما نجح مشروع تفكيك التمركز، القائم على تمركز الصوت، وثم الكلام، فإن ذلك معناه انهيار نظم الميتافيزيقيا التقليدية وكل تمركزاتها، وظهور خطاب فلسفي لا تمركز فيه، ولا تفاضل، ولا مصادرة، موجَّه إلى الجميع في كل زمان وفي كل مكان. إن الخلخلة التي يحاول دريدا أن يبثها في قلب الخطاب الفلسفي الغربي، تمس قواعده الأساسية، وآلياته المحورية التي يقوم عليها، وذلك بقدر ما يقوم أي خطاب عقلاني - مثالي على نوع من المركزية حول الصوت من جهة، وعلى نموذج عقلي - لغوي ضمني أو قبلي يوجهه، ويرسم له أطره وحدوده التي لا يستطيع تجاوزها من جهة أخرى. ولا شك في أنه يربط بين التمركز الصوتي والتمركز العقلي في الفكر الغربي، لأن ذلك الفكر، وأبرز ما فيه الخطاب الفلسفي لم ينشأ ولم يتبلور عند اليونانيين القدماء إلا بقيام اللغة الصوتية التي تعتمد على النظام الأبجدي في الكتابة، ولأن الفكر الميتافيزيقي المجرد لم يستطع أن يتألف إلا بالقدر الذي أتاحته له اللغة الصوتية من تجاوز للصور المادية المباشرة التي كانت تتم بواسطتها أنماط الكتابات السابقة على النظام الأبجدي. وعلى هذا فإن نقد الأسس الصوتية للخطاب الفلسفي الغربي، وإبراز وظائفه الأيديولوجية الكامنة، عملية لا تتم عند دريدا من غير إضفاء أهمية على المكونات الكتابية للفكر، وهو الأمر الذي يدفعه إلى محاولة تأسيس نوع من الكتابية(= الغـراماتولوجيا) الجـذرية(15). وظّف دريدا معرفته بنظم الفلسفة الغربية، مستعيناً بمفهوم «التمركز حول العقل»(16) للتقدم في نقده الشامل لتلك النظم، ولجأ أولاً إلى تجزئة موضوعاته. بدأ من الألفاظ والفرضيات الأساسية، ثم انتقل إلى تعرية الأنساق، وكشف الحجج التناقضية التي تنطوي عليها الألفاظ والفرضيات، ثم في مرحلة أخرى توغل إلى صلب موضوعه، إلا وهو تفكيك النظم الكبرى للفكر الفلسفي منطلقاً من أفلاطون وأرسطو، ماراً بديكارت وروسو وفرويد، ثم منتهياً بالفلاسفة المعاصرين مثل هوسرل وهيدغر. ولقد قاده استقراؤه إلى هدم الزعم القائل بوجود معنى موحد له هوية متطابقة مع ذاتها، فعمله الذي هدف منذ البداية إلى كشف التعارض في الأنساق الفلسفية أظهر له وجود تضادٍ جوهري في صميم النظم التي تدَّعي التطابق الذاتي والهوية الموحدة، ودفعه هذا الكشف إلى إجراء منهجي، هو ما صار يعرف بـ«التفكيك» وهو التموضع داخل الظاهرة الفكرية المدروسة، ثم توجيه ضربات متعاقبة لها من الداخل، ويمكن التعبير عن هذه الممارسة المنهجية بالصيغة الإجرائية الآتية: أولاً: ضرورة معرفة النظم الداخلية للميتافيزيقيا، والاندماج في مقولاتها، ومعرفة الأبعاد والغايات والمقاصد التي تستخدم فيها، وثانياً: الانفصال الرمزي عنها ومواجهتها بأسئلة مشتقة من سياقها الفكري، بما يظهر عجز تلك الميتافيزيقيا عن تقديم أجوبة حقيقية عن الأسئلة المثارة، الأمر الذي يفضح قصورها، ويكشف تناقضاتها الداخلية. إن ما يصطلح عليه دريدا بـ«التفكيك» بوصفه منهجاً تتكشف فعاليته، إذا مورس كما ينبغي أن يمارس، في قوة تماهيه مع موضوعه، بما يمنحه إمكانية أن يكون منفصلاً ومتصلاً في آن واحد. إمكانية الانفصال تضع الموضوع في دائرة السؤال النقدي، ومعالجته نقدياً عبر المسافة المطلوبة في كل ممارسة نقدية حقيقية بين الباحث وموضوع البحث، وإمكانية الاتصال تجعل ذلك المنهج يقارب موضوعه وقد تشبع بالشبكة الداخلية للمفاهيم والمقولات الخاصة بذلك الموضوع، بما يعوّم كل التعارضات الخادعة التي تنتظم في الإطار العام الذي يتكون فيه الموضوع. كانت الميتافيزيقيا تصرُّ على اعتبار الوجود حضوراً متعالياً، وبمواجهة قلعة الميتافيزيقيا الحصينة ومقولاتها الراسخة استعان دريدا بمقولات القراءة والاختلاف والأثر، واستخدمها من أجل تبديد التمركز الدلالي حول العقل، وفيما كان الموروث الفلسفي ينتج الحقائق على أنها مستودع للحضور، ذهب دريدا، إلى أن التفسير ليس غايته تثبيت أوضاع قارة، إنما فتح الأفق أمام مزيد من الاحتمالات، وهذا يعني توسيع فضاءات التفسير والوصول به إلى مناطق لم تستكشف بعد(17). بحث دريدا في الحقول المعرفية التي رتبت أوضاعها في ضوء سلطة التمركز، وجعلها موضوعات للبحث، وفي الوقت الذي كشف فيه عن بؤر التمركز في تلك الحقول، عمل على نقد مظاهر التمركز فيها، وهنا اقتضاه الأمر مزيداً من الحفر في البنيات الداخلية لتلك الحقول من أجل حصر مظاهر التمركز أولاً، والعمل على هزّ البؤر المتمركزة ثانياً. ومن أبرز الحقول التي كانت ميداناً لتطبيقاته فكرة الوجود والمعرفة والجنس والتاريخ وغير ذلك. وقد عالجها مشخصاً في تضاعيفها كل ما يتصل بالتمركز الذي يمنح فكرة ما أولية وأسبقية على غيرها، وهذا بدوره يؤدي إلى إقصاء جزء كبير من الفكرة التي ينبغي أن تتصف بالشمول. وأهم ما شخَّصه دريدا في هذا المضمار: 1. الأولية الإبستمولوجية Epistemological primacy ويقصد بها دريدا عدّ العقل والإدراك الحسي مركزاً للحضور، وهذا وهم أشاعته فكرة التمركز. ذلك أن العقل والحس ليسا معطيين قارين قديمين إنما هما يتشكلان من خلال ارتباطهما بالحقيقة، فليس ثمة وعي قبلي، إنما هو نتاج يتولد من مقاربة الفكر للموضوع. 2. الأولية التاريخية Chronological primacy. وفي هذه الأولية يعثر دريدا على أساس التمركز حول الصوت، فالتمركز هنا يعبر عن نفسه بواسطة النظم الميتافيزيقية استناداً إلى أن الزمن مطّرد في تقدمه من الماضي إلى المستقبل، وحينما نقّب دريدا في هذا الحقل الشامل المتصل بالزمن وجد أن التمركز يتجلى في ظواهر كثيرة يمكن هنا حصر ثلاث حالات هي: التمركز الذي أشاعته الميتافيزيقيا على اعتبار أن الروح ذات بعد مثالي، وأن تجسيداتها تتم من خلال زمنية الجسد وليس من بعدها المجرد وإن الأشكال المتعالية التي تفرزها الظواهر ثابتة وأبدية، وأخيراً أن كل مقولات المطلق بوصفه خالقاً ذات حضور دائم. 3. الأولية الجنسية Sexual primacy وهنا يشخِّص دريدا موضوعاً غاية في الأهمية، وذلك بكشفه ما يمكن الاصطلاح عليه بـ«التمركز حول القضيب phallogocentric»، فقد رصد هيمنة الشخصية الذكورية وإقصاء الشخصية الأنثوية، وكان المعيار في الإقصاء أو التكريس من خلال منح «القضيب» قوة رمزية تمنح صاحبه الأفضلية، وعلى هذا دفعت الميتافيزيقيا الرجل/الذكر إلى واجهة الاهتمام بسبب امتلاكه هذا العضو، فيما أقصيت المرأة وجرى تغييب لدورها لافتقادها إلى ذلك العضو تحديداً. وهذه التمايزات المبنية على فكرة التفاوت والمفاضلة، أدت إلى إقصاء قطاع بشري كبير، طمست إمكانية ظهور العقل والثقافة فيه، وهذا فتح الأفق على دراسة النوع الاجتماعي Gender. 4. الأولية الوجودية Antological primacy الفكرة التي تشكل لبّ هذه الأولية هي من أكثر الموضوعات التي أثارت اهتمام دريدا، وفي هذا الحقل تحديداً تميز نقده وتفكيكه. فالميتافيزيقيا الغربية ربطت بين الوجود والحضور، فالوجود ينطوي على إمكانية حضور متحققة في كل الظواهر والأشياء، ومع أنه يتعسر إدراك ذلك الحضور إلا أن وجوده وتجلياته جعل العالم مرهوناً بذلك الحضور. ولما كان فلاسفة الاغريق، وبخاصة أفلاطون الذي منح شرعية لمثل هذه الفكرة، حينما وصف الحقيقة بأنها حوار مع النفس، وأرسطو الذي اعتبرها تفكيراً ذاتياً، فإن الميتافيزيقيا اللاحقة لم تدقق في هذه المصادرة، فأصبحت هوية الوجود هي الحضور، ومن المعروف أن هذه القضية كانت من أبرز ما انصرف دريدا إلى نقده(18). احتل «العقل» في الميتافيزيقيا الغربية مكانة سامية، ولم يقف عند الحد المباشر لهذا المفهوم باعتباره آلة التفكير، إنما جاوزه إلى المدى الذي تحذّر منه المعرفة، وتحديداً إلى الارتفاع به إلى مفهوم تجريدي ينطوي على خبرة قبلية، وأنه القوة المنظمة للعالم، سواء كانت مفارقة له أو منبثّة فيه، وهكذا تنوعت المنظورات إليه، فقد نظر إليه بوصفه مبدأ، ثم بوصفه نظاماً متغلغلاً في الظواهر الكونية، ثم بوصفه خالقاً، وفي كل ذلك نظر إليه على أنه مفهوم يحكم العالم، وينبغي صوغ العالم على غرار معطياته الخالصة. وبهذا جعلت الممارسة الفكرية العقل هو المركز، وما العالم إلا تجليات من تجلياته اللانهائية، ودعمت الميتافيزيقيا الدينية هذا المفهوم، بإعطاء العقل بعده الإلهي، فدمجتْ فكرة «اللوغوس» و«الله». أو أنها طوَّرت ذاك إلى هذا. وتمركز التفكير كله حول قضية العقل، بحيث انحسر الاهتمام بالبعد الواقعي والفعلي للأشياء، وظل الفكر الغربي منذ بداياته الإغريقية يدفع إلى واجهة الاهتمام بهذا الموضوع، الأمر الذي أفضى إلى تمركز حول مفهوم العقل، جعل كثيراً من الفروض والإجراءات والنتائج المتصلة به على أنها حقائق ثابتة. وهذا الميدان المشبع بفكرة التمركز كان مثار اهتمام نقدي بدأه نتشه ومضى به هوسرل وهيدغر إلى مرحلة أخرى، ثم بلغ الاهتمام ذروته على يد دريدا الذي اشتق مفهوم «التمركز حول العقل» ليمارس به وفيه نقده القائم على قاعدة تفكيك النظم الداخلية للظواهر الفكرية الأمر الذي يفضي إلى انهيارها. 3. الغراماتولوجيا ونقد التمركز حول الصوت اقتضت ممارسة دريدا النقدية أن يتوسع في نقده ليشمل ظاهرة التمركز في أكثر من ميدان، وإن كانت جميعها ترتبت في ضوء سلطة الميتافيزيقيا، وإذا كان التمركز حول العقل كان نتيجة للتمركز حول الصوت. فإنّ هذا إنما هو جانب من جوانب التمركز، فجانبه الآخر المتصل بموضوع التمركز هو الإعلاء من شأن الكلام على حساب الكتابة. وفي هذين الموضوعين المتداخلين نجد أنّ «الصوت» أو «الكلام» هو المرجّح وحوله يتمركز الفكر أو بسببه ينشأ. وإذا كان دريدا ركّب مصطلح Logocentrism لمعالجة موضوع التمركز حول العقل فإنه يستخدم مصطلح Grammatology ليستكشف به أبعاد التمركز حول الكلام. وهذا المصطلح الذي يمكن ترجمته بـ«علم الكتابة» ذو أصول إغريقية، وهو مهجَّن من اللفظ الذي يحيل على الحرف الذي هو نقش كتابي، والممارسة الكتابية بوصفها علماً، ومع أنّ هدف دريدا هو كشف جملة الممارسات الإقصائية التي تعرضت لها الكتابة في الفكر الغربي والإعلاء من شأن الكلام. فإنّ الوجه الآخر لذلك الهدف هو التفكير جدياً بضرورة قلب ذلك التصور الذي منح أفضلية للكلام على حساب الكتابة، ومنح الأخيرة دوراً فاعلاً في خارطة التعبير الفكري، منطلقاً من وجهة نظر ترى أنّ جميع خصائص الكتابة، مثل غياب المتكلّم وغياب وعيه، تغني المعنى، ويتقدم بفكرته المناقضة للموروث الميتافيزيقي وهي بدل تصوّر الكتابة على أنها مشتق طفيلي من الكلام، فإنّ الأمر الأكثر صواباً هو اعتبار الكلام مشتق من الكتابة، هنا يفترض دريدا وجود نموذج بدئي للكتابة تفرضه الضرورة. فالكتابة تقليد قديم يعبر عنه بصور حسية مرئية وصورية، ولا يمكن أن تخلو الطبيعة من ممارسة كتابة من نوع ما. ظهر اهتمام دريدا بهذا الموضوع في خضمّ العناية الحديثة بموضوع الكتابة وأصولها ووظائفها. وكان تودروف ذهب إلى أنّ لمصطلح الكتابة معنيين. فالمعنى المباشر، والضيّق يقصد منه «النظام المنقوش للغة المدوَّنة». أما الدلالة العامة فهي تحيل على «كل نظام مكاني ودلالي مرئي»(19). وهنا يتضح أنّ الدلالة العامة لا تقرن الكتابة أبداً بموضوع نقش اللغة أو تدوينها. إنها توسع الأفق الدلالي للمصطلح، فيشمل نظم التعبير المرئية باعتبار أنّ الكلام متصل بحاسة السمع، فيما الكتابة متصلة بحاسة البصر. فإذا أخذ هذا المعنى، فإن كل «أثر» مادي غير لفظي يندرج ضمن مفهوم الكتابة، ولا يخفى أنّ مفهوم «الأثر» له أهمية كبيرة في فكر دريدا. ولم يتردد في فهم موضوع الكتابة طبقاً لدلالته العامة، فدمج بسبب ذلك كثيراً من المعطيات المرئية والصورية الملازمة للإنسان في الطبيعة فجعل منها كتابة أولية تسبق الكلام لأنها تنتج نظاماً تعبيرياً لا يقوم في أسسه على الصوت. وينبغي التفريق بين الكلام واللغة والكتابة، وأن لا تصادر اللغة من أيٍّ من الكلام أو الكتابة، بوصفها نظاماً تعبيرياً دالاً بغضّ النظر عما إذا كانت تستعين بالكلام أو الكتابة. كان جوناثان كلر عرّف الكتابة بأنها الوسيلة التي تقدّم اللغة بوصفها سلسلة من العلامات المرئية التي تعمل في غياب المتكلّم(20). فهي على نقيض الكلام تتجسد عبر نظام مادي - مرئي من العلامات، فالكتابة لا تفترض حضوراً مباشراً للمتكلم، لأنّ العلامات المرئية المشكّلة على الورق أو غيره تختلف عن الأصوات المتناثرة في الهواء في أثناء التكلّم، فالأخيرة تختفي بانتهاء الحديث، ولا تمتلك خاصية البقاء إن لم تسجّل، وكل خصائص الديمومة والبقاء لصيقة الكتابة. عبّر الفلاسفة عن كرههم للكتابة بسبب خشيتهم من قوتها في تدمير الحقيقة الفلسفية التي يرون أنها حقيقة نفسية خالصة وشفافة، ولا يعبر عنها إلاّ بالحديث الذاتي أو الحديث المباشر مع الآخرين، ولما كانت الكتابة لا تذعن لهذا التصور. فهي تجسد الحقيقة بصورة مرئية، فقد ظهر وكأنها تختزلها إلى مرتبة أقل سموّاً مما هي عليه في النفس، ذهب تصوّر الفلسفة إلى أنّ تدوين «الحقيقة» بالكتابة هو تدنيس لها. وكان سقراط يرفض رفضاً باتاً - كما يروى عنه - أن تدوّن فلسفته، لأن الحقيقة فيها لا يمكن أن يحتويها جلد أو حجر بدل النفس الزكية الطاهرة، وجاراه أفلاطون في اعتبارها بمثابة دواء له من الضرر على الذاكرة أكثر مما له من الفائدة لأنه يقود إلى النسيان، وهو موضوع عالجناه بكثير من التفصيل في الكتاب الأول، ومن المفيد الوقوف على العلاقة الملتبسة بين الكلام والكتابة لدى نخبة من المفكرين الغربييّن، قبل المضي في نقد دريدا، لأنه على أساس تفكيك نظم التمركز حول الكلام لديهم تقدم هو بمشروعه المضاد، ولما كان دريدا نفسه قد اختار أفلاطون وروسو ودي سوسير بوصفهم نماذج تجلّت لديهم تلك الإشكالية، فمن اللازم الوقوف عليهم هم. لأنهم مدار البحث والنقد معاً. يرى أفلاطون في محاورة «فايدروس»(21) أنّ الكتابة تمارس خطراً على الذاكرة، فهي آفة لا يطمئن إليها، شأنها في ذلك شأن كل الآفات التي ينبغي الحذر منها، فإذا كان ثمة خطر يداهم الذاكرة فمصدره الكتابة، وعلى النقيض من ذلك، إذا كان ثمة سبب ينشط الذاكرة ويقوّيها ويجعلها أكثر اتّقاداً في الاحتفاظ بالحقيقة فهو الكلام، ويُرجع ذلك التناقض بين وظيفة كل من الكتابة والكلام إلى كون الأولى غريبة عن النفس، فهي شيء طارئ وخارجي ومجرد اصطلاح تقني، فيما الكلام صادر عن النفس ذاتها باعتبارها مستوطنته الأصلية، فقدرته على التعبير عن الحقيقة، مبنية على قربه من مصدر الحقيقة. وبذلك فهو يحمل طابع الحيوية الذي تتصف به النفس، أما الكتابة فهي وسيلة جامدة وميتة، ولاتصافهما بصفتي الحياة والموت، فإنّ الكلام له القدرة على التواصل مع الآخرين، والتعبير عما في النفس من حقائق لأن الحياة حاضرة فيه ومنبثة في تضاعيفه، فيما الكتابة آلة ميتة ومنقطعة عن النفس. الكلام وحده القادر على تداول الحقيقة والتفاعل معها، أما الكتابة فعاجزة عن كل هذا لأسباب كامنة فيها، أنها شيء لا حياة فيه. وبهذا فهي عاجزة عن الإفصاح عمّا تدّعي حمله، وتنطوي عليه، في حين أنّ الكلام هو وسيلة الإفصاح عمّا يريد الإفصاح عنه، إلى ذلك، فإنّ الكتابة تثبّت وضعاً جامداً للمعنى لأنها تقوم بذلك بمعزل عن النسق الحيوي الذي يفترضه الكلام المعبّر عن الحقيقة والذي يلزم حضور المتكلمين: المتحدّث والمتلقي، فضلاً عن ذلك فالكتابة بسبب قصورها أشبه بكائن أعمى، غير قادرة على التعرُّف إلى من توجه الحقيقة التي ينبغي أساساً أن تصدر عن نفس طاهرة، وتتجه إلى نفس مثيلة. أنّ الكتابة لا تراعي المقام ولا تؤكد على المقاصد، وتفتقر إلى البراهين الآنية والمتجددة التي يقتضيها سياق تداول الحقائق، إنها بالإجمال شيء ميت وجامد «غير إنساني» وهي تقارب ما تهدف إليه بطريقة خاطئة، لأنها تريد أن تظهر بطريقة متعسفة وقاصرة ما يوجد داخل العقل والنفس إلى الخارج دون الأخذ بالاعتبار أن ما تريد إخراجه لا يمكن يكون إلاّ في داخل العقل والنفس. النتيجة التي يرتبها أفلاطون على عجز الكتابة الدائم، هو أنها تتطفل على ميدان هو من اختصاص الكلام. وبذلك فمهما ادعت من قوة، فهي في المطاف الأخير محاكاة ميتة للفعل الكلامي الذي يتضمن حيوية خاصة. حيوية النفس المنطوية على الحقيقة السامية. والخلاصة التي يخلص إليها أفلاطون بصدد المقارنة/المفاضلة بين الكلام والكتابة هي: أنه إذا أمكن أن تقوم مقارنة بين الاثنين، فإنّ نتيجتها لا تختلف عن كل النتائج التي تقوم حينما تقارن بين شيء حي وشيء ميت. وفي ضوء هذه الخلاصة يقيم دريدا نقده للتصور الأفلاطوني، فيظهر أنّ أفلاطون أوجد تعارضاً لا مصالحة فيه بين الكتابة و«اللوغوس». تعارض دائم يماثل التعارض بين الشيء الظاهري والحقيقة الباطنية، وينبغي الحذر من الكتابة لأنها تخرّب النفوس، كما يخرّبها السفسطائيون. وهنا يقيم أفلاطون مقابلة بين ذاكرتين متصلتين بالكلام والكتابة. ذاكرة حسنة وذاكرة قبيحة، الذاكرة الأولى هي الذاكرة الحيّة لأنها تستمد نسغها من الداخل، من «اللوغوس» وشرعيتها متأتية من أنها تندرج في علاقة حضور مباشر مع الذات، وهذه الذاكرة تقع في تعارض مع ذاكرة خارجية ميتة، تحاكي المعرفة المطلقة، وتأخذ اسم الكتابة، ومن الأفضل الاستغناء عن هذه الذاكرة/الكتابة وعدم اللجوء إلى هذا(الفارماكون) الذي هو دواء في الظاهر، لكنه داء في الحقيقة، خطره يأتي من أنه سيؤدي إلى تعطيل فاعلية الكلام، وبذلك يقضي على الذاكرة الحسنة، ذاكرة الذات نفسها، لأنه يحجر على الذاكرة، ويسبب النسيان، فالكتابة إذن لا تحرك إلاّ الشر ولا تثير غيره(22). ويفهم تمييز دريدا بين الذاكرتين اللتين استخلصهما من خطاب أفلاطون استناداً إلى تصور أفلاطون أنّ «اللوغوس» باعتباره موطن الحقيقة ومصدرها وجامعها ما هو إلاّ «التعبير الشفهي الواضح عن الفكر بالأصوات المركبة من أفعال وأسماء بحيث يعكس هذا الإرسال الصوتي الفكر كما لو كان صورة منعكسة له في مرآة أو على صفحة الماء»(23). اطّرد التصور الأفلاطوني في ثنايا الفكر الغربي، ووجد له تعبيراً واضحاً في منظور روسو الذي ميّز بين نوعين من الكتابة: الكتابة الحسنة والكتابة القبيحة، فالأولى تتصل بعلم النفس الإلهي وتتصل بالروح والعقل، وهي كتابة بالمعنى المجازي، لأنها «القانون الطبيعي الذي ما زال منقوشاً على قلب الإنسان بأحرف لا تمّحى فمن هنا يقوم بالنداء عليه» هذه الكتابة عند روسو مقدسة. أما الثانية فهي الكتابة التمثيلية، وهي كتابة ساقطة وثانوية ومدانة حـسب منظور روسو(24). تترتب رؤية روسو الموضوع الكلام والكتابة ضمن تصوره الطبيعي القائل بأنّ أفضل شيء هو ما يساير نظام الطبيعة ويوافقه. وفيما يخص هذا الموضوع، يميّز روسو بين ثلاث درجات من التعبير هي على التعاقب: التعبير بالإشارة والتعبير بالكلام والتعبير بالكتابة، ويذهب إلى أنّ «أبلغ اللغات هي تلك التي الإشارة فيها قد قالت كل شيء قبل الكلام»(25). فالإشارة تزيد من دقة المحاكاة، أما الصوت فيقتصر دوره على إثارة الإهتمام، والحاجة هي أملتْ أول إشارة، أما الأهواء والعواطف فهي التي انتزعت أول صوت، ولهذا كانت اللغة المجازية أول ما تولّد، أما الدلالة الحقيقية فكانت آخر ما اهتُدي إليه، ومن ثمّ فإنّ الأشياء لم تُسمَّ باسمها الحقيقي إلاّ عندما تمت رؤيتها في شكلها الحقيقي، لم يتكلّم الناس إلاّ شعراً، ولم يخطر ببالهم أن يفكروا إلاّ بعد زمن طويل(26). يهتدي روسو في هذه النقطة بأرسطو في تأكيده الشائع: إنّ الأولين كانوا يقررون الاعتقادات في النفوس بالتخيّل الشعري(27). ويمضي روسو في تفصيل هذه الفكرة مؤكداً أنه بقدر ما تنمو الحاجات، وتتعقّد الأعمال، بقدر ما تغيّر اللغة من طابعها، فتصبح أشد معقولية، وأقل عاطفية، وتعوّض المشاعر الأفكار، وتكف عن مخاطبة العقل، ومن ثمّ بالذات تنطفئ النبرة وتتعدد المقاطع، فتصير اللغة أشد ضبطاً ووضوحاً، ولكنَّها تصير أيضاً أفتر، وأصم وأبرد، ومع أنّ روسو يقول: «لا يتبع من الكتابة فن الكلام» إلاّ أنّ الكتابة وظيفياً تقوم بمهمة تتصل بالكلام، وهنا يفصح روسو عن وجهة نظره بالصورة الآتية: «إنّ الكتابة التي يبدو من مهامها تثبيت اللغة، هي عينها التي تغيّرها، فهي لا تغيّر الكلمات بل عبقريتها، أنها تعوّض التعبير بالدقة، فالمر تفكيكية جاك ديريدا بين الكتابة والكلام - سيناتور - 10-11-2007 ديريدا رائد الفلسفة التفكيكية المعاصرة سيّار الجميل لا يحس بقيمة التفكيك.. إلا المبدعون في إعادة البناء!! "إذا كان التفكيك مدمر حقًا.. فليدمر ما شاء من الأبنية القديمة المشوهة.. من أجل أن نعيد البناء من جديد.." جاك دريدا كما هو حال هذا العصر الذي ازدادت فيه التناقضات كثيرا، فان منتجاته التي تفيض بجملة تناقضاتها المريعة التي تبدو واضحة اشد الوضوح لكل من يحاول السعي ذهنيا وتجريبيا وبنيويا ان يفككها تفكيكا نقديا ماهرا بحيث لا يمكنه الابتعاد ابدا عن المنهج النقدي الذي كرسه جاك دريدا عند نهايات القرن العشرين. لقد طارت شهرة دريدا في الافاق ليس لكونه فيلسوفا ولا مؤرخا ولا مفكرا.. بل لأنه ناقدا غدت له مهاراته الذكية جدا قبل افكاره النقدية النظرية التي نجح في تسويقها تطبيقيا بنفسه من خلال مقارباته ومدلولاته المتنوعة والتي جعلها منسجمة مع طبيعة هذا العصر الذي نعايشه بكل الوانه وتعقيداته السريالية التي استفاد منها كثيرا في جميع مخلوقاته النقدية، وهي منتجات المشروع الذي تبنى نشره في الاوساط العالمية التي اعجبت بعض نخبها الادبية والفكرية ليس بافكار دريدا أو خطابه حسب، بل بتطبيقاته التي تحتشد فيها ركامات من الدلالات القوية التي وصفت بكونها عذراء بكر لم يتلمسها احد من قبل!! لقد ارسى دريدا في الحقيقة فلسفة راسخة في الفكر العالمي الحديث، فضلا عن الاليات المنهجية التي نجح في استخدامها نجاحا باهرا، والتي شكلت قراءاتها تفاعلات عديدة في الذاكرة النقدية وتسمت بأسمه. ويبدو واضحا، كم كان تأثير عدة مناهج أساسية معاصرة في تفكير دريدا وآلياته الحيوية، ومنها : البنيوية والفيلولوجيا والاركيولوجيا والتواريخ الكلاسيكية والكتابات السياسية والابداعات الادبية.. كما واستلهم الرجل من الادبيات اللاهوتية جملة من العناصر التي فتحت عيونه على ما يمكن تهشيمه وليس تفكيكه فقط! وبالرغم من فلسفته التي لم يتأثر بها الا القلة من الدارسين والمختصين في العالم، كان هناك من وقف ضدها وضد صاحبها.. واذكر ان جامعة كيمبردج رشحت اسم جاك دريدا للدكتوراه في الفلسفة، فاعترض مختصون وعلماء على ذلك ووصفوا دريدا بأن لا علاقة له بالفلسفة مطلقا، وانه مجرد عبثي لا يفهم ما يقول!! :: لقد استفدت حقا من نظريته في التفكيك :: اعترف بأنني استفدت جدا، ولكن مؤخرا جدا من منهج دريدا في التفكيك النقدي للنصوص وكنت قد تأثرت جدا بمحاضرته التي القاها في قسم فلسفة اللغة بجامعة ريدنك عندما حضر استاذا زائرا اليها من فرنسا وقد زار كلية سانت انتوني في جامعة اكسفورد العام 1977 ولكنه لم يلق اية محاضرات فيها.. لم يكن مشهورا وقت ذاك وكان شابا كثيف الشعر له نظرات حادة بطيىء الكلام، يفكر طويلا قبل ان يتكلم.. يتأمل طويلا في نوعية الاسئلة التي تلقى عليه، ولكنه كان يعتني بمجموعة من الافكار التي طور فيها مشروعه.. كان يلقي محاضرته التي حضرها عدد لا بأس به من الاساتذة والطلبة في الدراسات العليا.. يلقيها بالانكليزية الملحونة ولكن استخدم جملة من المصطلحات اللاتينية التي يشترك فيها الانكليز مع الفرنسيين في استخدامهم اياها. كان اكثر شبابا وهو متأثر جدا بفلسفة ميشال فوكو برغم نقداته التفكيكية للعديد من نصوص فوكو، ولقد جعل بعض دور النشر البريطانية تتراكض لترجمة اعمال ميشال فوكو.. ولعل اهم ما اكد عليه دريدا موضوع اللسانيات والمصطلحات. واذكر ان مشاحنة دارت ضد افكار دريدا ومنها تقداته المريرة في تفكيكه للمنهج الامبريقي والمؤسسة الجامعية ( وكان يعني بها الاكاديمية البريطانية التقليدية القديمة ) التي لم تؤسس على حد علم جاك دريدا بوصفه اياها «جامعة مناوئة للعقل»، مستنتجا بأن هذا ما جعل مثل هذه المؤسسة وكل مؤسسة اكاديمية عقيمة، لا غاية لها إلا نزعتها الامبريقية EMPIRIQUE التي يسمها خطابها المتعالي الذي لا ينتهي الا الى نتائج عابرة! وهذا ما جعلنا ننتقده جدا، وبرغم ما علق في تفكيرنا من الادوات التي استخدمها، الا انني بالذات كان تفكيري منشغلا في نظريات من نوع آخر! حوار بيننا نحن الطلبة وبينه حول ما بعد الحداثة، كان كلامه اشبه بالطلاسم التي لا يفهمها الا المختصون بعلم اللغة وعلم الصوت.. وكنا نحن الثلاثة طالبان وطالبة يحضران في فلسفة التاريخ الحديث.. لم تكن امكانيتي اللغوية قادرة على استيعاب مصطلحات غاية في التعقيد.. ولم تعد قدرتي صالحة على الاستيعاب من لغو ما يقول به خصوصا وان اغلبه يتناقض مع ما كنا نتدارس من مناهج، اللهم باستثناء مقوم اساسي اكد عليه دريدا كثيرا هو التمركز والتموضع.. سأله زميلي ب كيمب الذي كان استاذنا المؤرخ الشهير البرت حوراني قد انهى اشرافه على اطروحته في سانت انتوني باكسفورد.. سأل دريدا عما يمكن ان ينفعنا تفكيك النص التاريخي.. ولقد سجلت في محفظتي الدراسية بعض النقاط التي اراها مهمة جدا بالنسبة لمنهج التفكيك التاريخي الذي قمت باتباعه في كتابي " تفكيك هيكل " الذي اصدرته العام 2000، واذكر ايضا انه اجاب على اسئلة طرحناها عليه وكنت برفقة كل من زميلي الالمانيين توماس لنك وسابينا دودنباخ عن مفاهيم لم يأخذها احد بنظر الاعتبار وقت ذاك.. ولكنها ستغدو ذات اهمية لا تبارى في عمليات النقد في اللغة والادب خصوصا.. وهي نفسها التي يمكن ان تساعد جدا في تحقيق النص التاريخي بعد اخضاعه للتفكيك الذي يريده دريدا اساسا! لقد شعرت بأهمية ما سجلناه عنه ولكن في السنوات الاخيرة وبعد ان مررنا بتجارب منهاجية ومعرفية وفلسفية عديدة. ولكن لابد لي ان اقول بأن من لم يمتلك القدرة على قراءة النص قراءة داخلية في اعماقه واستكشاف تمركزاته لتبيان حقيقة قائله، فلا يغامر ابدا في قراءة دريدا ويضيّع وقته! :: جاك دريدا، ونظرية التفكيك لما بعد الحداثة :: تعد منهاجية التفكيك deconstruction أهم حركة مابعد بنيوية في كتابة النقد الأدبي فضلاً عن كونها اكبر حركة أثارت جدلا حتى اليوم. ولقد شهدنا ونخبة من الزملاء الذين جايلوا الربع الاخير من القرن العشرين اكبر حالة من التناقض بين موجات الاعجاب واضدادها من النفور ، ازاء هذا المنهج الذي كان ولم يزل في عداد نظرية في النقد الأدبي وخصوصا في السنوات الأخيرة، فمن ناحية نجد أن بعض أعمدة النقد مثل ج.هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم)، هم رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي على الرغم من تباين أسلوبهم وحماسهم، ومن ناحية أخرى نجد أن الكثير من النقاد الذين ينضوون تحت خانة النقد التقليدي يبدون سخطهم من التفكيك الذي يعدوه سخيفاً وشريراً ومدمراً. ولم يخل أي مركز فكري في أوروبا وأمريكا من الجدل في قيمة هذه النظرية الجديدة في النقد. ويمكن القول أن النظرية التفكيكية بحاجة إلى الكثير من التحليلات الجديدة وأن أية محاولة يقوم بها أي ناقد يحاول تحليل هذه النظرية لا تحتاج إلى التعريف بالتفكيك بالضرورة لأن مثل هذه النظرية المعقدة والشائكة تمتنع عن التعريف. وعلى العكس من ذلك بإمكان المرء محاولة تفسير المصطلحات الأساسية التي شكلها دريدا لتدمير النقد التقليدي وتسهيل فعل التفكيك... وهذه هي الخطوة الأولى التي سأقوم بها هنا، وسأنوي بعد وصف وتحليل المصطلحات التي جاء بها دريدا الإجابة عن السؤال عن الكيفية التي يتمكن بها التفكيك من إعادة توجيه النقد الأدبي، وأقول من باب حيادي بأن ما وصف بالسخف هو ليس كذلك وأن للتفكيك مضامين روحية. لقد خدمتني افكار وكتابات جاك دريدا في السنوات الاخيرة، وعدت الى منهجه اتدارسه واتوقف عند ابرز محطاته التي تسعفني حقا في قراءة النص مع متابعتي لما يكتب ضد منهجه اذ اشاع بعض خصومه انه مدمر للنص! فهل أن التفكيك مدمر حقاً؟ ولعل أفضل موضع ننطلق منه لتحقيق غايتنا في الاجابة هو كتابه "في علم الكتابة" الذي يعد لسان التفكيك... العمل البارز الذي أنجزه جاك دريدا، الفيلسوف والناقد الفرنسي. وأنني أعتقد أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيستان، الأولى أوجدها أسلوب دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة عن مصطلحاته ومفاهيمه، أما الثانية فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات interpretations غير وافية أو سوء تأويلات misinterpretations ، محتملة على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا، وسوف أعمل أنا على توثيق بعض هذه التعليقات النقدية قبل الشروع بتقديم وصفي وتقويمي لمفاهيم التفكيك. ومن الجدير بالذكر أن "الكتابة" و"الكلام" كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بهما فهمنا. وتتمع هاتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وهناك عدد من النقاد يعتقد أن التفكيك الذي جاء به دريدا يعد انتقالاً من التمركز حول العقل إلى التمركز حول الكتابة، وهذه ليست ملاحظة بريئة ولابد من التعبير عن دلالتها قبل الاسترسال في التفسير، وأنا أرى أن أفضل طريقة لتوضيح هذه المسألة هي محاولة تبسيط الأمر من خلال القياس. وقد أطلق دريدا تسمية "المفهوم السوقي للكتابة" على مفهوم الكتابة الذي أهمله مفهوم اللغة التقليدي واللسانيات الحديثة، وهكذا أصبح نقد قصيدة ما اكتشافاً لمعناها.. ذلك المعنى الذي يعد فكرة أو مفهوماً يمكن ربطه بفكرة أخرى، وسوف تتجمع عملية ربط الأفكار بعضها بالآخر في فهمنا للكينونة المتعالية. :: من هو جاك دريدا؟ :: انه رائد المدرسة التفكيكية في النقد ويقال انه يهودي فرنسي من اصل جزائري، اشتهر في السنوات العشر الاخيرة شهرة عالمية بعد ان كان له وزنه العلمي في الاوساط العلمية والفلسفية الاوربية. وتعتبر مدرسته واحدة من اهم المدارس عند بعض النقاد والباحثين. ان الفيلسوف جاك دريدا يبدو وكأنه فيلسوف من نوع خاص، فهو مراوغ في لغته ولكن تحكمه الدقة المتناهية في فهم المصطلحات والوعي بالمفاهيم، وهو يهيم بمنهج اسماه بالتفكيك الذي يشبه الى حد كبير البعثرة ومحاولة اعادة التركيب من جديد. ويرى العديد من دارسيه انه يجد لذته بنسف الوحدة التي تجمع الادب والفلسفة والسياسة، كاقانيم ثلاثة والتي لا تنفصل عنده إلا بالوهم، ولقد شبه الحالة بما يحكيه مجنون من لغة متمردة يؤسسها ليقوض عالم اخر بكل عماراته التي تأسست على مركزية «العقل» في كافة ميادين الكتابة. وهذا ما دفع بجاك دريدا لأن يكتب من عمق جنونه، هوية لا تشبه الثوابت، وكتابة لا تشبه العهود. لقد نعت جاك دريدا منذ سنوات خلت بشتى التهم الخطيرة التي تجعله على هامش الاخلاق ويسعده ذلك جدا لأنه يفهم بأن منهجه هو الوحيد الذي يفكك ولكن مناهج غيره لا يمكنها ان تفككه هو ذاته! لقد كان مؤلفه: «علم الكتابة» انطلاقة مهمتها إزاحة الطبقات المتراكمة الواحدة بعد الاخرى دون توقف، ودون وضع حد لعملية التفكيك لكثافة ما يعلق بالنص من ترسبات لأرض بكر. فدريدا لا يثبت معنى إلا لينقضه، ولا يهتدي الى مركز او مسار إلا ليحوله من مكانه وليحيد به عن خطه وينقله من قطبه، في عملية لا تني عن الانحراف، وتبعيد الشيء عن ذاته وتشظيته حتى تضيع هويته خلف تراكمات من التحولات والتحويلات لا حد لها، بحيث تصبح غاية دريدا المسماة منهجية «قوة تخريبية» لا تلمس شيئاً إلا لتنسف مسلماته وتفجره شظايا. من هنا تنبع صعوبة تتبع فكر دريدا وتنظيم محاوره في وحدة جامعة. :: ما الذي استفدته حقا من محاضرة دريدا القديمة؟ :: يبدو لي ان محاضرته التي القاها العام 1977 في جامعة اكسفورد وهي نفسها التي القاها في جامعة ردنك بانكلترا وقد كنت في الاثنتين معا.. كانت نواة كتابه " علم الكتابة "، وخصوصا عندما قارنت الركائز والمنطلقات التي احتواها هذا الكتاب القيم الذي يضم جملة من الاليات والاشياء والمعاني.. انه صقل حقيقي لموهبة النقد المتقدمة التي لابد ان تعالج فيها كل النصوص، وخصوصا التاريخية منها ثم السياسية.. ان مجرد تطبيق آليات دريدا على نصوصنا التي ننتجها منذ مئات السنين، فسوف تثمر هذه العملية المعقدة والصعبة عن نتائج خطيرة جدا.. خصوصا وان العرب مغرمون اليوم بالتأويل والشعوذة والاسطرة والانشائيات والمفبركات والاكاذيب وشحن الخطابات بالعواطف وترديد الشعارات غير الواقعية والجنونية..!! ويمكنني تلخيص اهم الركائز التي اعتنى بها دريدا في منهج التفكيك: أولاً : كشف التفكيك عن الكتابة التي تقوم على الاسطورة والكذب لا على العلم والحقيقة. فالكتابة هي نتاج الصدفة الاعتباطية، «والمعرفة المدونة تعني ترديد المدونات دون معرفتها، ودون معرفة اصولها» لأنها نشأت من الاسطورة كما يقول سقراط وفيدروس وأفلاطون.. ثانيـًا : وعملية تفكيك النص في الكتابة عند دريدا «ضرورية ولكن كاذبة» كما «تصبح التفكيكية مأزقاً منطقياً لأن الفاعل الكاتب هو ذات متعددة ومتناقضة كما هو النص متعدد ومتناقض، وهنا تستوجب الاحالة الدائمة لحضور المعنى مما يفتت الهوية الدلالية. ثالثـًا : يؤكد التفكيك ليس على كشف أوهام فحسب، بل استكشاف " الفبركة" التي يمارسها فنانون في فن الكتابة.. ومن خلالها يوهمون الناس بكينونة الحقائق الكاذبة، وخصوصا في المسائل الخطيرة التي يتعطش لمعرفتها الناس ليس إلا. انها تمثل فبركات مهولة تشير إلى الفشل الاخلاقي المريع.. (وهذا ما تعاني منه ادبياتنا العربية المعاصرة مع الاسف). إن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يستمر الباحثون في السير على خطا مثل هذه الدراسات النقدية الجادة ام ستبقى النمطية المكرورة هي المسيطرة على الخطاب النقدي العربي؟ وأخيرا، ها قد رحل اليوم فيلسوف النقد الادبي المعاصر جاك دريدا مخلفا من ورائه ثراء متميزا في النظرية التفكيكية وتطبيقها.. رحل عن هذه الحياة ولكن سيبقى ذكره مستمرا لآجال طوال وسيستفيد منه طلبة العلم والبحث والمناهج والنقد استفادة قصوى.. وستشغل نظريته التفكيكية حيزا كبيرا في تاريخ الثقافة البشرية مخلدة باسمه فالى ذكراه ازجى كلماتي الطيبة فلقد كان محاضرا بارعا ومنظرا عالي المستوى وناقدا متميزا شغل التفكير الادبي والنقدي على ربع قرن وهو عصارة عظمة الثقافة الحية في القرن العشرين. * * * * المصدر/ فصلة من كتاب الدكتور سيّار الجميل: نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية تفكيكية جاك ديريدا بين الكتابة والكلام - سيناتور - 10-11-2007 وفاة نجم الفلسفة المعاصرة جاك ديريدا علاينة عارف GMT 22:30:00 2004 السبت 9 أكتوبر -------------------------------------------------------------------------------- إيلاف مكتب باريس: توفي الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا عن عمر 74 عاما ليل الجمعة السبت في مستشفى باريسي بعد صراع مع سرطان في البنكرياس. ولد ديريدا في 15 تموز 1930 في الجزائر. التحق عام 1950 بدار المعلمين العليا في باريس قبل ان يصبح مساعدا في جامعة هارفرد بالولايات المتحدة ثم في جامعة السوربون في باريس. وقد بدأ بنشر مقالات ذات أهمية وتعريفية بفكر هوسرل وأخرين في مجلة "تل كيل". كما أن ظهوره الفلسفي رافق صعود تحليلات لغوية جديدة لأعمال أدبية كبيرة لعبت دورا كبيرا في تاريخ الطليعة الفرنسية بالأخص. وعين عام 1965 استاذ فلسفة في دار المعلمين العليا حيث شغل منصب مدير دراسات. وزاول ديريدا نشاطه التعليمي لفترة طويلة بين باريس وعدد من ابرز الجامعات الاميركية منها جامعتا يال وجون هوبكنز. انشأ عام 1983 معهد الفلسفة الدولي الذي تولى ادارته حتى العام 1985. وقام فيما بعد بالتدريس في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية. من مؤلفاته الكثيرة "الكتابة والاختلاف" و"الانتشار" و"هوامش الفلسفة" و"الحقيقة بالرسم" و"من اجل بول سيلان"، وغيرها. غير أن الكتاب الحقيقي والأصيل والذي تكمن فيه كل إضافات ديريدا للفسلسفة الغربية تكمن في عمله الهوسرلي الأول: "في الغراموتولوجيا". تميز ديريدا في حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر بادانته المتواصلة لسياسة فرنسا الاستعمارية في هذا البلد، وظل يأمل حتى اللحظة الاخيرة قبل ان يغادر الجزائر مع عائلته عام 1962، في شكل من الاستقلال يتيح التعايش بين الجزائريين والفرنسيين المولودين في الجزائر. لقد نال ديريدا جوائز عديدة، غير أن الجائزة الحقيقية التي كان يعتز بها هي جائزة الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو وذلك عام 2001. فأدورنو هو الفيلسوف المثال لانتهاك كل ما يقف أمام التشكيك الفلسفي وأمام الغموض اللازم للعمل الفني. تكمن أهمية ديريدا في قدرته اللغوية على التشكيك بمصطلحات الفلسفة دون الانفصال عن حوار مع ميتافيزيقتها. ترتكز فلسفة ديريدا أساسا على اللغة. فكان يعتبر ان القراءات الميتافيزيقية والتقليدية ترتكب اخطاء شاسعة حول طبيعة النصوص. فالقارئ التقليدي يظن ان اللغة قادرة على التعبير عن أفكار دون أن تغيرها، إذ في هرمية اللغة، تمثل الكتابة دوراثانويا بالنسبة للكلام، ومؤلف النص هو مصدر معناه. غير أن أسلوب القراءة التفكيكي الذي قام به ديريدا يهدم هذه الافتراضات ويتحدى فكرة ان النص له معنى موحد غير متغير. ذلك ان الفكر الفلسفي الغربي يميل إلى الافتراض بان الكلام هو المسلك الواضح والمباشر للتواصل. غير أن دريدا، معتمدا على اللسانيات والتحليل النفسي، وضع كل هذه الافتراضات موضع تساؤل. موضحا أن نوايا المؤلف في الكلام لا يمكن قبوله بلا شرط. ومن هنا جاءت إضافة دريدا للفكر الفلسفي الغربي: فتح إمكانات تأويلية جديدة للنصوص، وقد بين بمصطلحات تفكيكية ان هناك شرائح عديدة للمعنى لها دور عملي في اللغة. وبتفكيك اعمال كبار الأكاديميين والباحثين السابقين، حاول ديريدا تبيان اللغة بأنها دوما في حالة انزياح. اعتبر عدد من النقاد فكر ديريدا تدميريا للفلسفة. وأن هناك مشكلة مع تفكير ديريدا وهي أنه يأخذنا برحلة تأويلية مذهلة داخل صحارى الميتافيزيقيا، لكنه يتركنا عند حدود المفاهيم... وعيوننا شاخصة تحننا الى ما وراء هذه الحدود التي لم يستطع دريدا أخذنا اليها. كما أن إشكاليات اللاهوت المتجذرة داخل التفكير الفلسفي، لم يستطع ديريدا تجاوز عتبتها.. فأن أية قراءة قام بها للفكر أو للأدب ما إن أفضت به إلى غيمة اللاهوت حتى فقد دريدا مصطلحاته وتعثر خالطا بين ما للفسلفة للفلسفة وما للأدب للأدب. يجب أن لاننسى أن ديريدا رغم كل نخبويته الفلسفية، كان دائما يحاول انزال الفلسفة الى ساحة العام، ومن هنا يعتبره بعض النقاد بانه الفيلسوف الحركي الناشط: ذلك أن ديريدا كان دائما حاضر الذهن في معمعان الصراع الاجتماعي: التمييز العنصري، الحرب الجزائرية، حقوق المهاجرين، حركات المنشقين في المعسكر الاشتراكي، التربية الخ. كشف عن قدرة تخيلية ولغوية في طرق مواضيع قد لايستطيع فيلسوف آخر طرقها. وكان دائما واعيا على نحو نقدي وذكي، باية لعبة لغوية مثلى يجب تناول هذا الموضوع أو ذاك. كان الفيلسوف الذي لم يتخل عن حاسة الشاعر السادسة. مات ديريدا تاركا إرثا مُفكَّكا؛ سيغرف منه حواريون وقراء ونقاد، لكن ستقع عليهم مهمة جد ضخمة وهي: تحضير إجابات مقنعة على شتى الأسئلة التي انبثقت من الانهمام اللغوي البلاغي الذي لم يستطع ديريدا نفسه التخلص منه وبالتالي الإجابة على الأسئلة المكتوبة على جبين رحلته الفكرية. تفكيكية جاك ديريدا بين الكتابة والكلام - مالك - 10-13-2007 هل تعتقد انت ان ثمة فرقا فعليا بين الكتابة والكلام؟ (f) تفكيكية جاك ديريدا بين الكتابة والكلام - Awarfie - 10-16-2007 Array هل تعتقد انت ان ثمة فرقا فعليا بين الكتابة والكلام؟ (f) [/quote] [size=7]دريدا ونظرية التفكيك (1) ... ترجمة: خالدة حامد / العراق بقلم : س . رافيندران يعد التفكيك deconstruction أهم حركة ما بعد بنيوية في النقد الأدبي فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضاً . وربما لا توجد نظرية في النقد الأدبي قد أثارت موجات من الإعجاب وخلقت حالة من النفور والامتعاض مثلما فعل التفكيك في السنوات الأخيرة . فمن ناحية نجد أن بعض أعمدة النقد ( مثل ج. هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم ) هم رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي على الرغم من تباين أسلوبهم وحماسهم ، ومن ناحية أخرى نجد أن الكثير من النقاد الذين ينضوون في خانة النقد التقليدي يبدون سخطهم على التفكيك الذي يعدونه سخيفاً وشريراً ومدمراً . ولم يخل أي مركز فكري في أوروبا وأمريكا من الجدل في قيمة هذه النظرية الجديدة في النقد . فهل أن التفكيك مدمر حقاً ؟ إذا كان الجواب نعم ، كيف يكون ذلك ولماذا ؟ وإذا كان الجواب لا ، فلماذا هذا الرعب ؟ لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة إلا بعد فهم مفاهيم التفكيك الأساسية وتقويمها ، ولعل أفضل موضع ننطلق منه لتحقيق غايتنا هو كتاب " في علم الكتابة " (2) Grammatology Of الذي يعد لسان التفكيك … العمل البارز الذي أنجزه جاك دريدا ، الفيلسوف والناقد الفرنسي . وأنا أعتقد أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيستان ، الأولى أوجدها أسلوب دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة فضلاً عن مصطلحاته ومفاهيمه ، أما الأخرى فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات interpretations غير وافية أو سوء تأويلات misinterpretations محتملة ، على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا . وسأعمد إلى توثيق بعض هذه التعليقات النقدية قبل الشروع بوصف وتقويم مفاهيم التفكيك . يؤكد م. هـ. ابرامز M. H. Abrams أن أبرز جزء في نظرية دريدا هو : " 1ـ أنه ينقل بحثه من اللغة إلى الكتابة ، النص المكتوب أو المطبوع ، 2ـ أنه يتصور النص بطريقة محددة غير اعتيادية " (3) . ولم يعمد أبرامز إلى تبسيط مكانة دريدا بوصفه تفكيكياً من خلال مساواته مع البنيويين الفرنسيين الآخرين حسب ، بل إنه شوهه إلى حد كبير حينما حاول تعريف بعض الكلمات الأساسية في النقد التفكيكي مثل " الكتابة " ecriture و " النص" text . وقد بين أن الكتابة عند دريدا هي النص المطبوع أو المكتوب وأن مفهوم النص محدد على نحو غير اعتيادي . وسأبرهن في معرض تقييمي لدريدا وتعليقي عليه أن ما جاء به أبرامز لا يتعدى كونه حفنة من سوء التأويلات التي لم يحدثنا فيها عن ماهية التفكيك بل عن أمور لا تمت إلى التفكيك بصلة . أما نيوتن غارفر Newton Garvar فهو معلق آخر على دريدا ، إذ يؤكد أن دريدا واحد من فلاسفة اللغة ، وأنه يشدد على أسبقية البلاغة على المنطق : ينضوي دريدا تحت لواء الحركة التي تنظر إلى الأثر الذي تلعبه الملفوظات utterances في الخطاب الفعلي على أنه يمثل ماهية اللغة والمعنى ، والذي بسبب ذلك يعد المنطق مستنبطاً من المسوغات البلاغية (4) . وقد حظيت المحاجة التي تقول أن التفكيك حقل معرفي بلاغي ، بدعم هيليس ميلر الذي يقول : " إن التفكيك بحث في الإرث الذي يخلفه المجاز والمفهوم والسرد في أحدهما الآخر ، ولهذا السبب يعد التفكيك حقلاً معرفياً بلاغياً " (5) . ويعتقد موراي كريغر Murray Krieger أن دريدا " بنيوي نقدي تغلب على البنيوية وقهرها ، وربما يكون قد أبطلها أيضاً " وأضاف إن الهجوم الذي شنه دريدا يعد " شكلاً أكثر حداثة لذلك الهجوم القديم الذي شنه أفلاطون على الشاعر بوصفه خالق أساطير" (6) . ويؤكد فريدريك جيمسون Fredric Jemson أن فكر دريدا ينفي وهم تخطي الميتافيزيقيا والهرب من النموذج القديم لغرض تمحيص الجديد وغير المكتشف (7) . ومن الممكن أن تكون هذه التعليقات مصدر تضليل إذا عددناها بياناً أو تقويماً سليماً لنظرية دريدا ، على الرغم من فائدتها في سيرورة البحث في التفكيك ، فنحن حينما نعد دريدا مع بقية فلاسفة اللغة الذين يعتقدون أن المنطق مستنبط من البلاغة ، فإن هذا يعني سد الطريق أمام إمكان إدراك حداثة أفكاره ، كما إن مساواة دريدا بأفلاطون والتأكيد أن دريدا يكرر النزاع القديم مع الأسطورة myth يمثل إساءة لمكانة دريدا ، والتأكيد على أن دريدا لم يفعل شيئا سوى نقل الاهتمام من " الكلام " إلى "الكتابة " وبذا فإن حصر النص في حجيرة خاصة ، لهو سوء تأويل حقاً . إذ ينبغي للمرء أن يكون حذراً عند مقاربة المصادر الثانوية الرامية إلى فهم دريدا والتفكيك . وقد انقسم النقاد على فريقين … فهم أما يخفقون في فهم دريدا أو يسيئون تأويل أفكاره ، ولهذا السبب لا يمكن الاعتداد بالمادة الثانوية ، ولا يمكن أن نعدها طرقاً سالكة توصل إلى عالم التفكيك ، لكن مع ذلك يوجد نقاد آخرون أمثال هارولد بلوم Harold Bloom وهيليس ميلر وبول دي مان Paul DeMan وجيفري هارتمن Jeoffrey Hartman الذين هم بقدر أصالة دريدا ، إلا أن كل واحد منهم يشكل مدرسة تقريباً ونادراً ما يفسر دريدا … المعلم العظيم الأول للتفكيك . ويعد فهم دريدا الخطوة الأولى على طريق فهم التفكيك ، ومما لا شك فيه أن الخطوة الأولى تستدعي مماحكة أفكار دريدا . يمكن القول إن النظرية التفكيكية بحاجة إلى الكثير من التحليلات الجديدة وإن أية محاولة يقوم بها أي ناقد يحاول تحليل هذه النظرية لا تحتاج إلى التعريف بالتفكيك بالضرورة لأن مثل هذه النظرية المعقدة والشائكة تستعصي على التعريف . وعلى العكس من ذلك بإمكان المرء محاولة تفسير المصطلحات الأساسية التي شكلها دريدا لتدمير النقد التقليدي وتسهيل فعل التفكيك … وهذه هي الخطوة الأولى التي سأقوم بها هنا ، وسأنوي بعد وصف المصطلحات وتحليلها التي جاء بها دريدا الإجابة عن السؤال الذي يخص الكيفية التي يتمكن بها التفكيك من إعادة توجيه النقد الأدبي ، وسأبين في المراحل النهائية من تحليلي إن ما وصف بالسخف هو ليس كذلك وإن للتفكيك مضامين روحية . ومن الجدير بالذكر أن " الكتابة " و " الكلام " كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بهما فهمنا . وتتمتع هاتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة ، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وأولويته على الكتابة ، وإن الكلمة المنطوقة " صوت" phone كلمة غير خارجية ولها القدرة على المحو الذاتي . كما تُعرف الكلمة المنطوقة بأنها صورة صوتية (سمعية) وظيفتها هي استحضار المفهوم الذي تمثله الصورة الصوتية . وتتلاشى الكلمة المنطوقة أو الصورة الصوتية في سيرورة استحضار المفهوم ، ولهذا السبب فإنها بوصفها دالاً تطفئ نفسها في سيرورة التدليل على المدلول الذي يكون هو الأكثر أهمية من أي شيء آخر . ولا يمكن تصور هذا المدلول إلا من خلال الصورة الصوتية التي هي الدال . ومن الممكن أن نلاحظ هنا أن ثمة شيئا أشبه بالثالوث في هذه العلاقة : الذهن الإنساني ، الدال (الصورة الصوتية ) ، المدلول (المفهوم) . والآن ، ما المكانة التي تحتلها الكلمة المكتوبة في الفهم التقليدي للغة ؟ انطلاقاً من المفهوم التقليدي للغة تعرّف الكلمة المكتوبة بأنها التمثيل الكتابي للكلمة المنطوقة : وبهذا الصدد فإنها دال الكلمة المنطوقة … وهكذا فإن " الكلمة المكتوبة هي دال الدال وتعد ثانوية بالنسبة إلى الكلمة المنطوقة " ولا يمكن أن تقوم الكلمة المكتوبة بأي شيء عدا تمثيل الكلمة المنطوقة في حين أن الكلمة المنطوقة هي الدال . فإذا أردت أنا استحضار مفهوم " زهرة " ينبغي لي عندئذ أن أنطق صوت " زهرة " (زَهْرَ ة) ، والدال هو هذه الصورة الصوتية أو الصورة السمعية . لكني حينما أكتب كلمة " زهرة " فما عليّ سوى تمثيل الصورة الصوتية من خلال بنية كتابية graphic structure . ولا ترتبط هذه الصورة الكتابية بأية صلة بالمفهوم ، بل أن الصورة الكتابية لا تستطيع تمثيل المفهوم لأنها بنية مرئية للصورة الصوتية غير المرئية حسب ، أنها شيء أشبه بالطيف . وهي ثانوية بالنسبة إلى الصورة الصوتية ومن الممكن إهمالها ، بل لا بد من إهمالها . وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الحجج التقليدية التي نسبت مكانة ثانوية إلى الكلمة المكتوبة ومكانة رئيسة للكلمة المنطوقة هي حجج ميتافيزيقية ولاهوتية (8) . وكتب دريدا في تعليقه على الأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه مفهوم الكلمة المنطوقة قائلاً : …. إن فهم الله هو الاسم الآخر للوغوس logos بوصفه حضوراً ذاتياً . ومن الممكن أن يكون غير متناه وحاضرٍ ذاتياً ، كما يمكن توليده من خلال الصوت بوصفه صفة ذاتية . إنه ترتيب الدال الذي يمكن للذات من خلاله أن تستعير من خارج ذاتها الدال الذي تبعثه وتؤثر فيه في الوقت نفسه . وكذا الحال مع تجربة الصوت ، إذ تحيا هذه التجربة وتعلن عن نفسها بوصفها إقصاءً للكتابة ، بمعنى آخر إقصاءً للدال " الخارجي " ، " المحسوس " ، " المكاني " الذي يعيق الحضور الذاتي (9) . ويؤكد دريدا أن مفهومي الكلام والكتابة التقليديين " يحيلان إلى خارج المعنى" (10) logocentric ، وهذا مصطلح مهم آخر يستعمله دريدا ليعني به ما هو متجه ميتافيزيقياً أو ما هو متجه لاهوتياً (11) . ولكي أكون أكثر دقة أود أن أوضح أن مفهومي الكلام والكتابة قد شكلتهما واشترطتهما وتحكمت بهما الميتافيزيقا . والحق إن هذا " التمركز حول اللوغوس " هو " تمركز حول الصوت " phonocentrism .. ذلك الاعتقاد الذي يرى أن الصوت يقارب الواقع المتعالي (12) transcendental . ونجد في نظرية دريدا أن التمركز حول اللوغوس والتمركز حول الصوت هما مصطلحان مختلفان يمثلان ظاهرة واحدة : النشوء الميتافيزيقي metaphysical genesis لمفهوم الكلام والفهم . ويركز التمركز حول اللوغوس والتمركز حول الصوت على الصوت لأن هذين المفهومين يتولدان من الاعتقاد القائل أن الصوت يتوسط بين العقل الإنساني والواقع المتعالي . ويمكن القول أن هذه الحجة مقاربة للمفهوم الهندي لسلطة الـ mantras . الذي يمكن تعريفه " بأنه صوت أو سلسلة من الأصوات . ونحن نعتقد أن للصوت سلطة لأننا نرى أن بإمكانه إثارة السلطة المتعالية ؛ إذ تعزى الأهمية إلى نبرة الكلمات التي ننطقها … فكيف يمكن لصوت كلمة معينة نطلق عليها اسم " mantra" أن يكون متمتعاً بالسلطة ؟ إنه يتمتع بهذه الميزة لأننا نرى أن الصوت يعمل وسيطا بين اللوغوس والسلطة المتعالية . وأنا لا أسعى هنا إلى تأكيد أن المفهوم الغربي التقليدي الخاص بالتمركز حول اللوغوس ، التمركز حول الصوت هو المفهوم نفسه الخاص بـ mantra لكني أؤكد وجود أوجه تشابه . ونلاحظ في التفكيك أن ثمة عنصراً آخر هو " التمركز حول الكتابة " graphocentrism ، وهو مصطلح مهم بحاجة إلى التفسير قبل الدخول في صلب نظرية دريدا . ومن الممكن أن نبدأ القول بأن الكتابة writing كتابية graphic ، وأن الجرافيم grapheme هو حرف في الأبجدية أو أنه مجموع الحروف أو المجموعات الحرفية التي من الممكن أن تشير إلى الفونيم phoneme ( الذي يمكن تعريفه بأنه أصغر وحدة كلام تميز ملفوظا ما أو كلمة ما من ملفوظ آخر أو كلمة أخرى في اللغة) . وإذا علمنا أن الكتابة كتابية لذا يمكن القول أن الجرافيم ، تبعاً إلى ما يذكره المفهوم التقليدي ، دال صرف يقصد به أن وحدة الكتابة ليس لها أية صلة عدا كونها تمثل الصورة الصوتية . ولهذا السبب يمكن القول أن المقصود بالتمركز حول الكتابة هو انتقال الأهمية من الكلام إلى الكتابة ، وهو يمثل قلباً للمفهوم التقليدي القائل بأولوية الكلام أو الكلمة المنطوقة على الكتابة أو الكلمة المكتوبة . وهناك عدد من النقاد يعتقد أن التفكيك الذي جاء به دريدا يعد انتقالاً من التمركز حول اللوغوس إلى التمركز حول الكتابة (13) ، وهذه ليست ملاحظة بريئة ولا بد من التعبير عن دلالتها قبل الاسترسال في التفسير ، وأنا أرى أن أفضل طريقة لتوضيح هذه المسألة هي محاولة تبسيط الأمر من خلال القياس . فإذا كان بالإمكان مقارنة الكتابة والكلام والمفهوم الذي يمثلونه بالجسد والروح والواقع المتعالي فعندئذ يكون التركيز على الكلام هو التركيز على الروح ( والتركيز على الكلام هو التركيز على التمركز حول الصوت والتمركز حول اللوغوس) . أما التركيز على الكتابة فهو التركيز على الجسد ( والتركيز على الكتابة هو التمركز حول الكتابة). فإذا كان التفكيك تمركزاً حول الكتابة ، وإذا كان التمركز حول الكتابة يعني التركيز على الكتابة فعندئذ يمكن تعريف التفكيك بأنه رفض لأولوية الروح وسلطة الوسيط ، وإنه تحد لما هو أخلاقي ، إنه الانغمار في الحياة الدنيوية، إنه يعني اختفاء الرب … فهل من المقنع أن نقول أن التفكيك عدمي nihilistic؟ يمكن القول أن هذه التوكيدات كلها صحيحة ، والجواب عن الأسئلة أعلاه هو " نعم " عن كل ما يقوله دريدا ، وكل ما يقصده التفكيك . سأعود لهذه المشكلة بعد دراسة مصطلحات دريدا التي تعمل بصفة أدوات تفكيكية . فبعد أن عرض دريدا الأساس الميتافيزيقي واللاهوتي لمفهومي الكلام والكتابة ، شرع في فحص مسألة الوصف اللساني للغة والمفاهيم التي يحاول الوصف بناءها . والحق أن دريدا يأتي كرد فعل على نظرية سوسير التي تقول إن العلامة sign اللسانية هي وحدة الدال والمدلول . وتزعم اللسانيات الحديثة ، التي ترتكز على مفهوم الدال والمدلول ، والبنيوية ، التي تدين لذلك المفهوم ، أنهما جعلتا من دراسة اللغة وفعل النقد حقلين معرفيين علميين ، وقد بين دريدا أن هذا الزعم هو خداع حسب لأن مفهوم الدال والمدلول في اللغة الذي جاءنا من اللسانيات هو صورة أخرى لمفهوم الكلام والكتابة التقليدي . وقد لاحظ دريدا في أثناء عرضه للعلاقة المتبادلة بين الميتافيزيقا واللاهوت ، ما يأتي : دائماً ما يوحي مفهوم العلامة داخل ذاته بالفرق بين الدال والمدلول … حتى إن تم تمييزهما بأنهما وجهان لعملة واحدة ، ولهذا السبب يبقى هذا المفهوم ضمن تراث مفهوم التمركز حول اللوغوس الذي هو في حقيقته تمركزاً حول الصوت : التقارب المطلق بين الصوت واللصوت والكينونة being ، وللصوت ومعنى الكينونة ومثالية المعنى . ( OG, p. 112 ) ولهذا السبب فإن نسق اللغة الذي يقال أن اللسانيات جعلته علمياً وأن البنيوية استعارته بحماس بوصفه نموذجاً للنقد ، هو في حقيقته النسق القديم نفسه ، أي نسق " التمركز حول اللوغوس – التمركز حول الصوت " الذي هو نتاج الميتافيزيقا . ومن الواضح أن دريدا حشر الميتافيزيقا واللسانيات في خانة واحدة وهذا يعني أن الميتافيزيقا فسحت المجال أمام اللساني ليتصور ظاهرة اللغة في ضوء القطبية الثنائية ، بمعنى أن المفاهيم الميتافيزيقية ـ مفهوم الواقعي والمثالي ، مفهوم الجسد والروح ، مفهوم الخير والشر ـ قد فسحت المجال أمام اللساني ومكنته من تصور اللغة في ضوء قطبية ثنائية مشابهة . وتعد الحجة اللسانية ، التي تقول أن الصورة السمعية تستحضر المفهوم ( أي أن الدال يستحضر المدلول) ، تركيزاً على أولوية الكلمة المنطوقة على الكلمة المكتوبة ، وبهذا الصدد فإن اللسانيات البنيوية هي صورة معدلة عن الإهمال التقليدي للكتابة ، ذلك الإهمال الذي نتج عن النفور الفلسفي والميتافيزيقي من الطابع الخارجي والمرئي والمجسد للكلمة المكتوبة ، ويتضح من ذلك أن خلف مفهوم اللغة التقليدي ، وخلف مفهوم العلامة اللسانية عند سوسير كمنت ميتافيزيقا على شكل قوة اشتراطية قوية . وقد أطلق دريدا تسمية " المفهوم المبتذل للكتابة " على مفهوم الكتابة الذي أهمله مفهوم اللغة التقليدي واللسانيات الحديثة ، وعدّه مفهوماً ثانوياً ، أي شيئاً ليس له وجود إلا لغرض تمثيل الصوت الذي تجسده الكتابة . ويضيف قائلاً أن الاعتقاد الذي ساد في التراث الغربي بصدد الكتابة هو أنها "الحرف " و " النقش المرئي " و " الجسد والمادة " الخارجية بالنسبة إلى اللوغوس . وهذا هو المفهوم المبتذل تحديداً . وقد نبذ دريدا هذا المفهوم المبتذل الذي كان يوجه فهمنا للغة ، على الرغم من أننا لم نكن واعين به تماماً ، مثلما وجه أداءنا في ميدان النقد الأدبي من خلال دفعنا إلى الاعتقاد بأن كل شيء يستنبط المعنى ويعطيه فقط حينما يرتبط بفكرة ما ، والتي ينبغي أن ترتبط ، بالمقابل ، بفكرة أخرى وهكذا دواليك بحيث أن هذه الأفكار كلها ستتجمع في فكرتنا عن الكينونة المتعالية ، ولهذا السبب أصبحت فكرتنا عن الكينونة المتعالية تعمل بمثابة فكرة تتحكم في أفكارنا عن اللغة ، وأفكارنا في النقد … وهكذا أصبح نقد قصيدة ما اكتشافاً لمعناها… ذلك المعنى الذي يعد فكرة أو مفهوماً يمكن ربطه بفكرة أخرى ، وستتجمع عملية ربط الأفكار بعضها بالآخر في فهمنا للكينونة المتعالية. ومن الجدير بالإشارة أن جميع شذرات الأفكار التي يمكن نسجها في نسق واحد ، يجمعها مركز واحد تمثله فكرتنا عن الكينونة المتعالية وإن احتمالية النسق توحي بوجود المجموع . ويمكن تعريف المبدأ الجمعي بأنه فكرة الكينونة التي هي إبداع الميتافيزيقيا . وقد تمثلت محاولة دريدا بتحرير فهمنا للغة وفعل النقد من هذا التأثير الجمعي الذي مارسته الميتافيزيقا ، وتوصل إلى عملية التحرير هذه من خلال صياغته لمصطلحين جديدين من الممكن أن يبطلا مفهوم اللغة القديم وطريقة النقد القديمة . إلا أن أذهاننا خضعت لاشتراطات الفهم التقليدي للغة سواء كنا واعين بذلك الفهم أم لا . فنحن حينما نزعم إننا صغنا أفكاراً جديدة فإننا لم نفعل في حقيقة الأمر سوى تحويل الأفكار القديمة . فعلى سبيل المثال إن المصطلحات اللسانية التي جاء بها سوسير ـ التي يقال أنها أحدثت ثورة في فهمنا للغة ـ هي نتاج آخر للميتافيزيقا ؛ فنحن نكرر أنفسنا حينما نقول إن نسق اللغة الجديد علمي . والحق أن بالإمكان أن تتولد أفكار جديدة حينما تكون أذهاننا محايدة . وإن القصد من وراء عرض دريدا للأساس الميتافيزيقي للغة والنقد هو دفع أذهاننا إلى الحيادية لأننا ندرك تماماً أن ظاهرة طبيعية تماماً مثال اللغة تخفي في داخلها بذور الميتافيزيقا ، بل حتى التفسير العلمي للغة الذي قدمه سوسير هو في الحقيقة ضحية الميتافيزيقا . وقد شرع دريدا ، بعد عرض الأساس الميتافيزيقي الذي تقف عليه اللغة ، في صياغة مصطلحاته الخاصة التي بإمكانها توليد فهم جديد للغة .. وتشكل هاتان الخطوتان بنية التفكيك . وسأبدأ الآن بوصف المصطلحات التفكيكية وتقويمها . لقد استند مفهوم الكتابة الجديد الذي صاغه دريدا إلى ثلاث كلمات معقدة جداً ، هي : الاختلاف difference والأثر trace والكتابة الأصلية [الأولى] (14) arche - writing. وسأعمل على تفسير كل مصطلح من هذه المصطلحات الثلاث بأوسع قدر ممكن تسمح به محددات هذا المشروع ، وسأبين الكيفية التي تؤدي بها هذه المصطلحات إلى فعل التفكيك. فالاختلاف يشير إلى فعلينactions : 1 ـ أن يختلف ، أن لا يكون متشابهاً " differ " 2ـ أن يرجئ ويؤجل (15) (11) " defer" . وينبغي الانتباه إلى إن الأول مكاني spatial والثاني زماني temporal . ويرى دريدا أن كل علامة تؤدي هذه الوظيفة المزدوجة : أي الاختلاف والتأجيل ، ولهذا السبب تكون بنية العلامة مشترطة من قبل الاختلاف والتأجيل ، وليس من خلال الدال والمدلول ، بمعنى إن بنية العلامة هي الاختلاف الذي يعني أن العلامة شيء لا يشبه علامة أخرى ، وشيء غير موجود في العلامة على الإطلاق . ويمكن توضيح ما ذكرناه بالمثال الآتي : فنحن نميز بين كلمتيthree [وتعني ثلاثة] و tree [تعني شجرة](16) في الكلام والكتابة ، فهما مختلفتان تماماً وتكشفان عن هويتهما . ويعد هذا الاختلاف إحدى القوتين الموجودتين في كل علامة . أما القوة الأخرى في العلامة فهي قدرتها على الإرجاء ، أي قابليتها على التأجيل . فعلى سبيل المثال إن كلمة " وردة " في قصيدة ما لا تبدأ بكشف المعنى إلا حينما ندرك أنها ليست تلك الوردة التي نراها في الواقع ، بل أن لها شيئاً آخر ، ذلك الشيء الذي ينبغي اكتشافه . ولهذا السبب فإن العلامة نصفها واف والنصف الآخر غير وافٍ ، وهذه الحقيقة ضرورية لبداية فهمنا إلا إنها غير كافية بسبب نقصها . ومثلما أكد سوسير فإن العلامة هي ليست " الدال + المدلول " بل العلامة هي " الاختلاف + الإرجاء " . ويرى سوسير أن العلامة اتحاد في حين يراها دريدا اختلاف . وبما إن العلامة غير وافية وناقصة لذلك ينبغي أن تفهم على إنها " تحت الشطب [ المحو] " under erasure وهو مصطلح صاغه دريدا ليشير إلى عدم كفاية العلامات ونقصها . فهي مكتوبة لكنها مع ذلك مشطوبة ، فنحن نشطبها لنشير إلى نقصها . ولهذا السبب تحمل كل علامة هذه الإشارة عليها . فعلى سبيل المثال إن كلمة " مرئي " التي استعملها آنفاً لم تحمل أية إشارة واضحة عليها ، لكنها علامة على الرغم من ذلك . لكن إذا نظرنا اليها من زاوية تفكيكية فإنها ستظهر عندئذ علامة مشطوبة ، على النحو الآتي : " مرئي " . وينبغي ألا نأخذ فكرة تشطيب العلامة على نحو حرفي ، بل على نحو إيحائي فقط . فهذه الشطبة توحي بنقص العلامات وعدم كفايتها ، بل عدم قطعيتها . إذ لا توجد علامة يمكن أن نقول عنها انها دال لشيء أزلي ، فهي لا تتمتع بأية قيمة مطلقة ، كما إنها لا تحيل أي شيء متعالٍ .. فالعلامة سياقية contextual ، وهي تخلق سراب المدلول ، وإن جل ما تستطيع القيام به أنها ترسلنا بحثاً عما تحتاج هي إليه وتذكرنا بما هو غير كائن فيها . ولهذا السبب إن العلامة " أثر " ، فهي ليست التمثيل المرئي أو الكتابي المحسوس للصورة الصوتية بل إنها الأثر الذي يصفه دريدا بأنه ليس طبيعياً ، ( أي إنه ليس الإشارة أو العلامة الطبيعية أو المؤشر index بالمعنى الهوسرلي ) ، أكثر من كونه ثقافياً ، وإنه ليس مادياً أكثر من كونه نفسياً ، وإنه ليس بايولوجياً أكثر منه روحياً . إن ما هو كائن في العلامة يحرك الذهن باتجاه ما هو غير كائن فيها ، ولهذا السبب فإن ما هو موجود في العلامة يحمل أثر ما هو غير موجود فيها ، وتستطيع العلامة أسر الذهن لأن بمقدورها أن تذكرنا بما هو غير موجود فيها ، وتستطيع عبر هذا التذكير تحفيز الذهن ودفعه إلى الحركة . وهكذا نقول أن العلامة أثر ، وتحمل في أثرها قوتين هما الاختلاف والإرجاء . لذا صار من الضروري أن يتغير مفهوم الكتابة مع ظهور مصطلحي " الاختلاف " و " الأثر" إذ ما عاد بالإمكان الإبقاء على تعريفها بأنها " الحرف " و " النقش المحسوس " و " الجسد والمادة " الخارجية بالنسبة إلى العقل . وعند محاولة دريدا تعريف الكتابة وضح ذلك قائلاً : "... إنها النقش inscription عموماً ، سواء كان ذلك حرفياً أم غير حرفي حتى وإن كان ما تم توزيعه في الفراغ غريباً عن نظام الصوت..."(OG, p. 9) (17) . وبهذا المعنى يمكن أن نعد التصوير السينمائي والرقص والباليه والموسيقى والنحت جميعها كتابة . وقد لاحظ دريدا عند التوسع بمفهوم الكتابة هذا أن : قد يتحدث المرء أيضاً عن الكتابة الرياضية ( أي الرياضة عموماً ) أو الكتابة العسكرية أو السياسية في ضوء التقنيات التي تتحكم بهذه المجالات حالياً . وهذا لا يصف نسق الدلالة الذي يرتبط ارتباطا ثانوياً بهذه الأنشطة حسب ، بل يصف أيضاً ماهية هذه الأنشطة ذاتها ومضمونها. ( OG, p. 9) فاللغة بذاتها هي كتابة ضمن ذلك المعنى ( GO, p. 8 ). وقد لاحظ غايتاري سبيفاك Gayatri Spivak أن : " ثمة شيء يحمل في داخله أثر التغير الأزلي ، أي بنية النفس ، بنية العلامة . ويطلق دريدا على هذه البنية اسم " الكتابة" (18) . وقد ذكر سبيفاك الملاحظة الآتية في معرض توضيحه لمفهوم الكتابة : " هكذا نجد أن الكتابة هي اسم البنية التي يسكنها الأثر دائماً . وهذا مفهوم أوسع من المفهوم التجريبي للكتابة الذي يشير إلى نسق دلالة تجريبي على جوهر مادي " (OG, p. xxxix) . وقد أطلق دريدا تسمية " الكتابة الأصلية " على الفرق بين مفهوم الكتابة هذا ومفهوم الكتابة المبتذل الضيق . وتعمل الكتابة الأصلية في التعبيرات الكتابية وغير الكتابية . والكتابة بمعناها الضيق تعد كتابية graphic تعتمد مفهوم الجرافيم الذي هو في حقيقته دال صرف . أما في النظرية التفكيكية التي حدد دريدا أبعادها ، فقد أصبح لصفة الكتابية معنى مختلفاً عن المعنى الذي كان متداولاً في الاستعمال التقليدي . ويمكن القول أن الشكل الكتابي graphe هو " أثر متمأسس (19) institutionalized " ( GO, p. 46) . وقد أصبح لتوجه النظرية التفكيكية نحو التمركز حول الكتابة دلالة تضمين واسعة بسبب الأثر المتمأسس ، ولهذا السبب فإن التغيير الذي أحدثه دريدا لم يكن تغييرا بالأهمية التي تمتع بها مفهوم الكلام على مفهوم الكتابة ، قدر تعلق الأمر بالفهم التقليدي لهذه المصطلحات . إذ يوحي التمركز حول الكتابة ، بالمعنى الذي حدده دريدا ، بالتوجه الذي يسلكه الفهم على نحو يدفع الذهن إلى تصور وظيفة الأثر في أنواع التعريف كلها التي تسير الوعي أو الإدراك . فالأثر يبدي عمله في صورة البورتريت (الصورة الشخصية) ، والملصق الجداري (البوستر) واسم العَلَم ، والإيماءة والكلمة المنطوقة والكلمة المكتوبة ، وغيرها . ويمثل التمركز حول الكتابة الإدراك الجديد لوظيفة الأثر . فأنا حينما أتصور صورة شخصية يبدأ ذهني أو إدراكي بالعمل رغبة مني في فهم دلالة هذه الصورة ، وتعد عملية اشتعال الذهن غير مادية . فالذهن يتحرك بحثاً عن شيء بعيد عما موجود في الصورة (بمعنى البحث عن شيء خلّف بصماته الشبحية على الصورة) ، وتلك هي وظيفة الاختلاف . في حين أن البصمة الشبحية هي الأثر . لأن الأثر بذاته غير موجود ( GO, p. 167) . ويمكن تعريف التمركز حول الكتابة بأنه هذا الإدراك الحسي الجديد بأن شيئاً ما ، شيئاً غائباً ، قد ترك بصماته ( بصماته الشبحية ) على الموضوعات التي تخلق حركات معينة في الذهن (وتلك البصمات الشبحية هي الأثر) .ويبدأ الأثر بالعمل من خلال الاختلاف والإرجاء (الاختلاف + الإرجاء = الاخـ" ت " لاف) (20) . ويتم عرض مفهوم اللغة التقليدي بوصفه أسطورة .. فقد كان ينطوي بداخله على شيء باطني [صوفي] : مثل قرب الصوت من المدلول ، وغيرها . ونلاحظ أن العنصر الباطني هو العنصر الميتافيزيقي ، فقد كانت الميتافيزيقا تسيطر على مفهومنا للغة . وقد صاغ دريدا مصطلحات جديدة وشكل مفاهيم جديدة حتى يتكون فهم للغة متحرر من مفهوم الميتافيزيقا . ولهذا السبب يعد تحرير فهم اللغة من الميتافيزيقا إزالة للغموض والحيرة ، إذ يتم التخلص من العنصر الغامض تماماً . وإن إزالة الغموض هو في حقيقته إزالة للأسطرة (الطابع الأسطوري) أيضاً (21) . ومن الصواب أن نقول أن التفكيك يبدأ بإزالة ما هو باطني وإزالة الأسطرة في الفهم التقليدي للغة. لقد انطوت دراستنا هذه للتفكيك على ثلاث مراحل ، تمثلت المرحلة الأولى في تسليط الضوء على مفهومي الكلام والكتابة ، واشتملت على مسألتين مركزيتين هما : السبب الذي يكمن وراء الاعتقاد السائد الذي يقول بأسبقية الكلام وأولويته على الكتابة ، وما مدى البعد الذي وصلته الميتافيزيقا في تأثيرها . ودرسنا في المرحلة الثانية الزعم اللساني القائل أن اللسانيات الحديثة أضفت طابعاً علمياً على دراسة اللغة وجعلتها حقلاً علمياً . وتمثلت المسألتان المركزيتان اللتان تناولتهما في هذه المرحلة بتأكيد أن المفهوم اللساني للعلامة هو صورة أخرى للمفهوم التقليدي للكلام والكتابة ، وعلى أن اللسانيات الحديثة هي ضحية الميتافيزيقا ، وتتألف المرحلة الثالثة من وصف مصطلحات دريدا وتقويمها : الاختلاف والأثر والكتابة الأصلية . وقد سلطنا الضوء على دلالة مصطلح التمركز حول الكتابة من منظور دريدا . وبناء على ما سبق ، لقد تغير فهمنا للغة ، فما مصير النقد ؟ يبدأ الجواب عن هذا السؤال بافتراض أن الأدب هو شكل من أشكال الكتابة ، وإن القصيدة أو القصة أو أي عمل أدبي هو بنية آثار.. تلك الآثار التي نعرف أنها بصمات شبحية لا نعرف ماهيتها إلا إننا واثقون من كينونتها ووجودها . أما النقد ، الذي يعرف بالدرجة الأساس بأنه بحث في كلمة ، وسطر ، ونص ، أو أي شيء يحرك الذهن من نقطة إدراك حسي معينة إلى عوالم البحث بمعية دافع قوي للتأويل ، فإنه يبدأ بالشك ، الشك الذي يستند إلى الإقناع . فالناقد يشك في مظهر العلامة (كأن تكون كلمة ، وسطراً ، وقصة وتمثالاً ، صورة وبورتريتاً ، …إلخ ) لأنه يحمل قناعة مؤداها أن ما يظهر له هو ليس كل شيء ، بل هناك شيء آخر ، فنحن لا نكتفي بالأشياء كما هي ، بل نرغب بالبحث فيها والتوغل إلى أبعد من حدودها لاكتشاف أسرارها لأننا نشعر أن ثمة شيئاً مفقوداً أو شيئاً غائباً عما نتصوره نحن وندركه حسياً ، وإن هذا الشعور الأزلي بأن هناك شيئاً مفقوداً أو غائباً هو الكتابة الأصلية . ويعد الأدب واحداً من أنواع التعبير عن الكتابة الأصلية ، بينما يعد الرسم نوعاً آخر ، والموسيقى نوعاً آخر أيضاً ، وتعمل الكتابة الأصلية بصفة آثار في الموضوعات . فالآثار أشبه ما تكون بطبع الأقدام .. فمن هو الذي مشى على الرمال ؟ لقد مشى أحدهم وخلف وراءه آثار أقدامه في كل مكان ، وإن كل تلك البصمات التي تركها خلفه تذكرنا به إلا أنه مفقود وغائب . ويمكن تعريف الكتابة الأصلية بأنها إدراكنا حقيقة أنه مفقود ، وأنه غائب ، والذي يرافقه الشعور بالمعاناة المتولد عن تجربتنا التي نستشف منها عدم القدرة على اكتشاف هذا الغائب على الرغم من صمتنا المطبق أو عنفنا الصارخ ، فكل البصمات التي يخلفها وراءه هي الآثار لأنها هي التي تؤكد حضور هذا الغائب على الرغم من غيابه ، فياله من موقف غريب حقاً ! (وربما كان التشخيص - أي إضفاء الصفات الشخصية على غير العاقل - صيغة من صيغ التبسيط إلا أنه قد يساعد على الفهم ) . وقد اعتاد النقد التقليدي الظهور مع فكرة ما عبر المواجهة مع العمل الأدبي ، ولهذا السبب يعد نقد القصيدة اكتشافا لمعناها . ولهذا فإن المعنى فكرة أو مفهوماً يمكن أن يلحق بفكرة أخرى أو مفهوماً آخر والاستمرار بهذا الإلحاق حتى تلتحم هذه الأفكار في فكرة الكينونة المتعالية أو الحقيقة المتعالية . لكننا لا نعي حقيقة أن ما نسميه " المعنى" هو في حقيقة الأمر فكرة تتخذ من الميتافيزيقا ملاذاً لها . ولم تنج البنيوية ، التي يقال أنها سيرورة ثورية ، من قبضة الميتافيزيقا ، وإن القول أن البنيوية توحي بالنسق ، يعني أن هناك مركزاً في مكان ما ، وذاك المركز هو المفهوم المركزي الذي من الممكن اكتشافه بوصفه مفهوم الكينونة أو السلطة المتعالية . ويوحي مفهوم النسق أن كل شيء مفهوم على أفضل وجه ، أو أنه قابل للفهم في الأقل ، فحيثما وجد النسق ينعدم الإرباك أو التشويش . وسيؤكد التفكيك أن هذه أوهام حسب إذ كل ما نزعمه بأنه الحقيقة أو الكينونة هي " فبركة " ليس إلا . فهذه الكلمات تمثل فبركات مهولة تشير إلى الفشل في بحثنا عن المعنى ، وهذا يعني في مرحلة ما من مراحل تاريخ البحث عن المعنى أن الباحثين أعلنوا ، لسبب أو لآخر ، أنهم وصلوا إلى آخر نقطة ممكنة من بحثهم وأنه لا ينبغي القيام بأي بحث آخر يتجاوز هذه النقطة ، ولغرض حماية ما أسموه " النقطة النهائية " من الإهانة التي يمكن أن تنسبها إليهم البحوث المستقبلية ، عزوا لتلك النقطة نوعاً من القدسية وأسموها الحقيقة truth أو الكينونة being أو أي شيء آخر . وقد عملت نقطة البحث النهائية أو المفهوم المقدس بصفة مركز للنقد بنوعيه التقليدي والبنيوي . لذلك كان ثمة خداع كبير سار على هداه نشاطنا النقدي وفهمنا للغة . ألا توحي هذه التعليقات بأن كل ما كتب هو محض خيال ؟ أنا أعتقد إن التفكيك يوحي بذلك . وهذا يشمل كتبنا المقدسة أيضاً ! (والحق أن التفكيك لا يعترف بشيء اسمه كتاب ، بل بالنصوص فقط). فماذا عن مفهوم " الرب " إذن ؟ وما مصير المفاهيم الأخرى التي لا تعد ولا تحصى مثل : المصدر origin والحقيقة والكينونة والواقع المتعالي و ... الخ ؟ إن دريدا لا ينكر وجود الرب بل إنه يتساءل ، على نحو غير مباشر ، عن مفهومنا للرب ومدى صلته ، ولعلنا كنا نستخدم مصطلح " الرب " god للإشارة إلى إله معين كنظام دفاعي لحماية مفهوم المصدر والحقيقة والكينونة وما يشبهها من مصطلحات . فما المصدر الحقيقي أو الحقيقة الحقة اللذان ينبغي البحث فيهما . ربما تكون هذه المفاهيم وراء نطاق فهم الإنسان . فقد يكون عالم الحقيقة ، أو الرب ، عالماً محرماً على الإنسان الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً بإزائه سوى تخيله ، أو تكوين معنىً واهٍ عنه في أحسن الأحوال . إنه يشعر بغياب الكينونة الأسمى Supreme ولاشك ، وإن هذا الإحساس بالغياب و التوق للحضور هو الكتابة الأصلية ، أما بصمات ذلك الحضور الغائب الذي ندركه في كل مكان فهو الأثر . ومن خلال سعي دريدا إلى عرض الأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه فهمنا للغة ، ومحاولة تحرير فهمنا من الميتافيزيقا ، شرع دريدا في إطاحة الأديان عن عروشها في ممالك اللغة . فقد مثلت الأديان حصانات وفرت الحماية للمفاهيم الميتافيزيقية . ومع ذلك ينبغي أن نقر بأن دريدا يوحي ، على نحو غير مباشر ، بأن الرب وراء جميع المفاهيم الإنسانية والمعالجات اللفظية . وينبغي التأكيد عند هذه النقطة تحديداً أن دريدا لا يوحي بأي شيء مهول ، فهو يتبنى منهج البحث الحر في مجال المعرفة ، ويحاول تحرير الذهن من الضغوط والضوابط التي فرضت عليه باسم الرب أو الأديان . ويدفعنا دريدا ، بقوة ، إلى إعادة التفكير بالمصدر أو الحقيقة من خلال عرض الذهن على الحرية الجديدة في البحث ، ولهذا السبب تنطوي جدالات دريدا وحججه على مضامين روحية. وأخيراً ينبغي لي العودة إلى قضية النقد . فقد كان النقد ، بالمعنى التقليدي ، تطبيقاً لأنموذج يرمي إلى فهم العمل الأدبي ، وربما يكون هذا النموذج فلسفياً أو أخلاقياً أو دينياً أو لسانياً . ومن المحتمل أن الناقد غير واع تماماً بحقيقة أنه يطبق نموذجاً معيناً ، فالذي نطلق عليه أسم " التقويم الذاتي" هو في حقيقته غير ذاتي ، فنحن نلحق ما موجود في العمل الأدبي بشيء ما في سيرورة ذلك الفهم الذي يؤدي إلى التقويم . ومن الممكن أن يكون هذا الـ" شيء ما " هو النسق الأدبي الذي منح الكلمات والأفعال actions والظواهر إمكانية توليد المعنى . فعلى سبيل المثال ، إذا حاولت تفسير قصيدة The Lake Isle of Innisfree ، سأتمكن من ذلك أما من خلال ربط مضمون القصيدة بالمعلومات المتوفرة التي تتعلق بحياة الشاعر … تلك المعلومات التي تخص مزاجه وكآبته وتأملاته في الطبيعة سريعة التغير ، وسرعة زوال الأشياء الجميلة ، ونفوره من المكاسب المادية وعشقه للحياة الحالمة . ثم أبدأ بربط هذه الأفكار الموجودة في القصيدة بهذه الأفكار الخارجية التي تعمل بصفة نسق لربط الأفكار في القصيدة . ولهذا السبب تصبح الأفكار التي تزخر بها القصيدة ذات معنى فقط حينما أشرع أنا بعملية ربط هذه الأفكار بما هو خارج عن القصيدة . وفضلاً عن ذلك فإني قد أبدأ بالبحث في سبب كآبة الشاعر وأسباب عشقه للحياة الحالمة ، وأسباب دفعه إلى كراهية المكاسب المادية . ونلاحظ في هذا النوع من النقد أن التركيز لا يكون على النسق بحد ذاته لأن التركيز على النسق لدراسة النسق ذاته يؤدي بنا إلى البنيوية . فعلى سبيل المثال : ما المغزى الأدبي من ترك الموطن الرئيس والذهاب إلى جزيرة ؟ هل هناك مغزيات أخرى ؟ الجواب : نعم بالتأكيد . ونجد في بعض شخصيات شكسبير الكوميدية مثل مسرحية " كما تحبها " و " حلم ليلة منتصف صيف" أن الشخصيات تغادر المدينة لائذة بالغابات التي يتم فيها حل الصراعات وانتشار الحكمة ، وعلى هذا الغرار هناك عدد من الشخصيات في القصائد والروايات التي تغادر المدن صوب الجزر المعزولة ، ومثال ذلك شخصية " بروسبيرو " في مسرحية " العاصفة " وشخصية " جيليفر " في رواية "رحلات جيليفر " . ولهذا السبب نجد أن رغبة الشاعر ييتس باللجوء إلى جزيرة Innisfree تحاكي رغبة الكتاب السابقين . ونحن نقر بأننا نفهم القصيدة لأننا نألف هذه القناعة ، أي الاقتناع بترك المدينة ومباهجها واللجوء إلى الجزيرة ذات معنى كبير في الشعر ، ذلك لوجود قناعة أدبية أو اتفاق أدبي بأن لهذه الفكرة معنى ما وهكذا نجد أن بإمكان التحليل البنيوي أن يركز على العناصر الأخرى للقصيدة بغية دراسة النسق الشعري . وقد طبقت في المثال الأول ، أي مثال التطبيق غير البنيوي ، نماذج معينة متعارف عليها في الأدب على القصيدة فقط من أجل فهم القصيدة . أما في المثال الثاني ، أي مثال التفسير البنيوي ، فقد استعملت القصيدة وعناصرها لدراسة النسق الشعري أو لدراسة نماذج الأدب المتعارف عليها . وينبغي الإشارة هنا إلى أن التفكيك لا يمثل أي من هاتين الحالتين ، أو نقيضهما . فالتفكيك لا يمنح الناقد أية نماذج ، ولا يطبق أي أنموذج على النصوص الأدبية ، بل أنه يدمر جميع النماذج الموجودة ولا يقدم أي نموذج ، ولهذا تسبب الكتابة التفكيكية حيرة كبيرة . فعلى العكس من النقد البنيوي لا يؤمن النقد التفكيكي بوجود نسق يمكن فهمه . إذ توحي فكرة النسق بأن الأشياء منتظمة أو من الممكن جعلها كذلك ، إلا أن هذه الفكرة مصدر مواساة حقاً ، ونحن نفضل المواساة على الحيرة . وعلى الرغم من أن المواساة قد تنطوي على خداع لكنها أفضل من معاناة الحيرة . وقد أعلن البنيوي ، بعد أن واجهته مشكلة تعقيد الأدب والأذهان التي تكمن وراء الأعمال الأدبية ، أن التعقيد قابل للتحليل ويمكن فهمه ، ويزعم وجود نسق أدبي بإمكانه تفسير التعقيدات . إنه تأكيد الإرادة التي تجعل البنيوي يزعم هذا الزعم . فالبنيوية هي التوكيد لإرادة الإنسان وقدرتها على حل ما هو معقد ، وعلى العكس من ذلك يبحث التفكيك في إمكانية النسق ، ويتساءل عنها وعن الكيفية التي جاءت بها التقاليد والمواصفات الأدبية إلى الوجود . فالمواجهة القائمة بين الوعي الإنساني ونسق العلامة هي من التعقيد بحيث يصعب فهمها . ولهذا السبب ، يؤكد التفكيك ، تبعاً إلى ما يذكره ديفيد اليسون David Allison ، ضرورة إعادة التفكير بمشكلة اللغة كلها (22) . وربما كان من الضروري وجود حقل معرفي جديد يستعمل أصول الكلمات [التأثيل] etymology وعلم النفس معاً بصفة حقل معرفي واحد لأداء هذه المهمة . ونلاحظ هنا أن التفكيك ينبذ الميتافيزيقا والفلسفة بوصفهما من أنماط الإدراك الخادعة ، كما إن اللسانيات التي كانت تخفي الميتافيزيقا في نماذجها الخاصة باللغة ، لا تلائم التفكيك . وكذلك لا يلجأ التفكيك إلى البنيوية التي ترتكز بقوة على اللسانيات . قد يبدو التفكيك حقلاً تحكمه قواعد وأنظمة ولغة خاصة يصعب على المبتدئ فهمها ، إلا أن الحقيقة مختلفة . فنحن لدينا قواعد وأنظمة ولغة خاصة في النظريات النقدية التقليدية أكثر مما في التفكيك . فالمبتدئ يواجه مصطلحات تقنية كثيرة مثل شخصية، حبكة ، ثيمة ، صورة ، رمز، شعر غنائي ، سونيتة ، و ... إلخ ، وقد استعملناها مراراً وتكراراً حدّ أنها أصبحت طبيعية بسبب ذلك . وفضلاً عن ذلك ، فإننا إن لم نفهم المصطلحات التي على شاكلة " اختلاف " ، " أثر" ، " كتابة أصيلة " ، ... إلخ ، فإننا لا نتمكن من فهم واستيعاب أي عمل مكتوب ينضوي تحت هذه النظرية إذ من الصعب فهم أي شيء جديد . إلا أن المرء سيفيد من تعلم هذه النظرية كثيراً إذا ما تحمل الجهد أولاً . وتتمثل هذه الفائدة في أننا نتساءل في صلة فهم الإنسان وعالمه والمعرفة . ويلقي التفكيك ضياءً جديداً على عملياتنا الفكرية . ويخبرنا أن سلطة اللغة ليست متأتية من سلطة الأدب ولا من نسق اللغة لأن سلطة اللغة ، شأنها في ذلك شأن سلطة الموسيقى والرسم والنحت والطقوس ... إلخ ، متأتية من حس بدائي أصيل بشيء مفقود وغائب ، وتوجيه إدراك الإنسان بعد ذلك . الهوامش : (1) هذه المادة مترجمة عن كتاب ( البنيوية والتفكيك ) تأليف س . رافيندران Structuralism & Deconstruction. By: S. Ravindran. (المترجمة) (2) يُعرف جاك دريدا هذا المصطلح في كتابه " في الغراماتولوجيا " [في علم الكتابة] بأنه دراسة للأدب ولحروف الهجاء ولمقاطع الكلمات والقراءة والكتابة " قائلاً إنه يستند في ذلك إلى تعريف ليتريه Littre ، وأنه لم يعثر على هذا المصطلح في هذا القرن إلا في كتاب غيلب Gelb الذي يحمل عنوان " درس في الكتابة : أسس الغراماتولوجيا " A Study of Writing: The Foundations of Grammatology (1952) /د. محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة / وسيرمز له المؤلف بالرمز OG . (المترجمة) (3) م . هـ . ابرامز "الملاك التفكيكي" مجلة البحث النقدي 3(1977) ص 428 . (4) نيوتن غارفر ، تمهيد لكتاب " الصوت والظاهرة " ( إيفانستون : مطبعة جامعة نورثويسترن ، 1973 ) ص xxii . ويوضح غارفر في معرض تعليقه على مكانة المنطق والنظرية في فلسفة اللغة ، قائلاً : " نجد في تاريخ الفلسفة الغربية، ان فلسفة اللغة – وبضمنها الكثير من الميتافيزيقا – قد اعتمدت المنطق أكثر من اعتمادها البلاغة " ( التمهيد صxi ) . لكنه وضح في تعليقه على الحركتين اللتين حدثتا في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين ، قائلاً : " لقد كانت الحركة الأولى تعزيزاً لفلسفة اللغة التي تعتمد المنطق إلا ان الحركة اللاحقة كانت تدميراً لذلك التراث ، تدميراً يتحدث عنه دريدا بوصفه ختاماً للميتافيزيقا " ( التمهيد ، ص xii ) . (5) ج . هيليس ميلر " الناقد مضيفا " مجلة البحث النقد ي 3(1977)ص 41 . (6) موراي كريغر ، " نظرية النقد " (بلتيمور ولندن : مطبعة جامعة جون هوبكنز، 1972) ص 220 - 243 . (7) فريدريك جيمسون ،"سجن اللغة"(برنستون:مطبعة جامعة برنستون ، 1972)ص176 . (8) " لقد اقترن نسق اللغة بالكتابة الأبجدية الصوتية ، ذلك النسق الذي تولدت فيه الميتافيزيقا المتمركزة حول اللوغوس ، التي تحدد معنى الكينونة بأنه الحضور . لقد كان هذا التمركز حول اللوغوس مطوقاً دائماً ومضطهداً لأسباب بعيدة تماماً عن التأمل في أصل الكتابة والمكانة التي تحتلها .... " ( جاك دريدا ، " في علم الكتابة " ترجمة غياتري تشابرافورتي سبيفاك - بلتيمور ولندن : مطبعة جامعة جون هوبكنز ، 1972 ) ص 43 ، وقد كانت الاقتباسات تلحق بالرمز ( OG ) . (9) لقد أوضح جاك دريدا في تعليقه على الخلفية الميتافيزيقية لمفهوم الدال - المدلول قائلاً : " يعود الاختلاف بين الدال والمدلول إلى الحقبة الأخرى التي شملت تاريخ الميتافيزيقا ، هذا إذا نظرنا إلى الموضوع من منظور ضيق وضمني ، أما إذا ضيقنا المنظور أكثر فسننظر إلى حقبة الخلق والتناهي المسيحية التي تلائم المفاهيم الإغريقية "(OG ،ص 13 ) . (10) يستخدم دريدا مصطلح logocentric (التمركز حول اللوغوس )، أحياناً ، بدلاً من مصطلح phonocentric (التمركز حول الصوت ) للإشارة إلى نظم فكرية أو عادات التفكير التي تستند إلى ما يسميه بميتافيزيقا الحضور ـ وهو التعبير الذي وجده عند هيدغر ـ ويعني به الاعتقاد بوجود مركز خارج النص أو خارج اللغة يكفل صحة المعنى دون أن يكون قابلاً للطعن فيه أو البحث في حقيقته( د. محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة) . أما جابر عصفور فيذكر ( عصر البنيوية / تأليف أديث كيرزويل / ص274 ) أن اللوغوس لفظ يوناني يشير إلى الكلمة التي تعبر عن الفكر الداخلي ، أو الفكر الداخلي نفسه . وحينما يشير دريدا إلى التمركز حول اللوغوس ( الذي يترجمه عصفور إلى " مركزية اللوجوس ") فإنه يبغي تدمير تأثيره الطاغي ، وتدمير مبدأ الأصل الثابت الواحد ، وما يقترن به من مبدأ الغائية أو العلية ، وتأكيد أهمية الكتابة التي لن تغدو تابعاً بل أصلاً . (المترجمة) (11) من الممكن أن نعرف على التمركز حول اللوغوس بالميتافيزيقا ، لأن كليهما تعبير عن الرغبة بالمدلول . ويجد التمركز حول اللوغوس المعنى كله في العقل اللوغوس ، تلك الكلمة التي تعكس العقل الإلهي . (12) يمثل التمركز حول الصوت رفضاً للكتابة بوصفها تقنية حسب . وكذلك توكيد تقارب الكلمة المنطوقة من المدلول . فالكلمة المكتوبة لا تفيد إلا بصفة مدلول للكلام. (13) " تنطلق هذه الحركة مما يسميه هو " النموذج المغلق " المتمركز حول اللوغوس للآراء التقليدية أو الكلاسية للغة (والتي يؤكد أنها تعتمد وهم الكينونة المتعالية الأفلاطونية أو المسيحية أو الحضور الذي يضمن المعاني ) وصولاً إلى ما أسميته أنا " نموذجه المتمركز حول الكتابة " الذي يعد الحضور فيه بمثابة " بصمة على البياض " ( م . هـ . إبرامز ، " (الملاك التفكيكي " ص ، 429 ) . (14) الكتابة الأولى : التعبير مستقى من فرويد ، وقد استعمله للإشارة إلى اللاوعي عندما لاحظ لعبة للأطفال تتضمن ترك اثر الكتابة على الشمع بعد نزع الورقة . وقد استعمل دريدا هذا المفهوم ، مشيراً إلى فرويد مرات عدة في كتابه " الكتابة والاختلاف " . وهو يقول : " إن الكتابة تعد استكمالاً للإدراك حتى قبل أن يعي الإدراك نفسه . والذاكرة أو الكتابة هي فاتحة عملية وعي الإدراك بذاته . أما " المدرَك " فلا يمكن قراءته إلا في الماضي ، تحت الإدراك وبعده " . (د. محمد عناني / المصطلحات الأدبية الحديثة) . (المترجمة) (15) ي تفكيكية جاك ديريدا بين الكتابة والكلام - مالك - 10-23-2007 مرحبا زميل Awarfie هل نستطيع ان نعتبر عندما نقراء النص الذي اوردته وكان مؤلفة يقراءه علينا بصوت مسموع , ما هو الفرق -في المعنى- بين ان اكتب لك رسالة-مثلا- وتقراءها من ورقة وبين ان الفظها لك صوتا على سماعه التلفون.ماذا يضيف الصوت على معنى نص ما. ديريدا يقول ان النص المكتوب يثير كثيرا من الارتباك وعدم التحديد في معناه -قصد المؤلف-ويثير جملة لا نهائية من التاويلات الممكنه للنص . وهكذا يصبح الاتفاق على اي معنى محدد مسالة مستحيلة , ويبقى النص ساحة يتجول فيها كل انواع الشك والضنون...وهناك مدرسة اكسفورد التى تقول ان حالةعدم التحديد موجوده ولكن ليس في عموم النص وانما في مناطق والفاظ معينة يمكن عقلنتها ودراستها وضبطها.....ولا نبقى في مهب الريح في حالة فقدان توازن . (f) |