حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
من أجل “مَغْسَلة فكرية وثقافية كبرى”! - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســــــــاحات العامـــــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=3)
+--- المنتدى: فكـــر حــــر (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=57)
+--- الموضوع: من أجل “مَغْسَلة فكرية وثقافية كبرى”! (/showthread.php?tid=9770)



من أجل “مَغْسَلة فكرية وثقافية كبرى”! - discovery2 - 08-07-2007


Arrayأن تكون ضد التفكير الغالب لأصدقائك، الناس الذين تراهم كل يوم، هي أصعب صورة من صور البطولة تقدمها.[/quote]


من أجل “مَغْسَلة فكرية وثقافية كبرى”!

جواد البشيتي

لدينا من العِلْم والمعرفة، ومن أدوات وطرائق الاختبار الموضوعي لكل منتجات الوعي الإنساني، ما يسمح لنا، نحن أبناء القرن الحادي والعشرين، أو الألفية الثالثة، بإنشاء وتطوير “مغسلة فكرية كبرى”، تغسل عقولنا ومشاعرنا من أوهام وأباطيل وأضاليل فكرية تستبد بها منذ مئات وآلاف السنين.

ولا شك في أن العبودية الفكرية المزمنة تلك يجب أن تنتهي بإنهاء “السلطان المعرفي والثقافي” لـ “اليهودية”، التي، عبر كتابها “العهد القديم”، حالت بين أبصار وبصائر البشر وبين الحقائق التاريخية والموضوعية، فظل العقل الإنساني مثخنا بجراحه التلمودية.

بتأثير ذاك “السلطان المعرفي والثقافي”، يُنْظَر إلى “اليهودية” على أنها “مأثرة فكرية وحضارية كبرى”، ما كان للبشرية أن تعرفها وتنعم بها لولا شعب ليس كمثله شعب هو “بنو إسرائيل”، فهؤلاء جاءونا بـ “التناخ”، وبـ “عقيدة التوحيد” بالتالي.

إنها كذبة تاريخية كبرى، فـ “التوحيد” في “اليهودية” عرفته أمم غير يهودية، وقبل اليهودية، ولم يفعل قادة قبائل وعشائر بني إسرائيل سوى سرقة واستنساخ محتوى “عقيدة التوحيد”، فلا فضل لهم على العالمين في هذا الذي يفخرون به ويتباهون. ويستطيع العِلْم الإنساني أن يقيم الدليل على أنَّ “عقيدة التوحيد” ليست بـ “منتَج إسرائيلي”، وأنها أقرب إلى “البضاعة الصينية” منها إلى “البضائع الغربية الأصلية”.

لقد بدأوا عملهم “الفكري ـ التاريخي” بالسرقة والسطو، ولكنهم نجحوا في إظهاره على أنه منتَج إسرائيلي ذاتي لم يأتِ، ولن يأتي، البشر بمثله.

هذا أولا، أمَّا الأهم منه فهو أن قبائل وعشائر بني إسرائيل، والتي لم تعرف غير “البداوة” نمط عيش وتفكير، كانت عاجزة موضوعيا عن أن تكون “وثنية” في منزلة وثنية المصريين والإغريق والرومان، فوثنية هؤلاء ما كان ممكنا أن تقوم لها قائمة لو كانوا يعيشون في “فقر حضاري”، يجهلون النحت والبناء والهندسة والتعدين والزراعة والحرفة.. فهل كان في مقدور بدو بني إسرائيل أن يبتنوا معبدا كمثل معبد الكرنك، أو يصنعوا تمثالا كمثل تمثال رمسيس الثاني؟!

لقد عابوا على مصر القديمة وثنيتها لعجزهم الموضوعي والحضاري عن أن يكونوا في منزلتها الوثنية الرفيعة، فاخترعوا لهم إلها (بدوياً) على مثالهم، يشبههم في صفاته وخواصه، وينتقل معهم في حلهم وترحالهم، بحثا عن العشب والماء.

وفي هذا “الإله اليهودي”، ضخُّوا من الأوهام والأباطيل الفكرية ما يكفي للتغلب على شعورهم بمركب النقص، وبالدونية الحضارية والتاريخية، فنسبوا، من ثمَّ، أنفسهم إليه، ونسبوا إليه قرار تفضيلهم على العالمين، وجَعْلِهم شعبه المختار، الذي حان له أن يستقر في أرض، يمنحها له “الرب” إلى الأبد. وكتب قادتهم “الوعد الرباني”، ثم نسبوه إلى “الرب” الذي اخترعوه، لعل ذلك يشحن نفوس قبائل وعشائر بني إسرائيل بما يكفي من دوافع التوطن في “أرض الميعاد”، والانتقال، بالتالي، من البداوة إلى الحضارة.

واليوم، يستطيع العِلْم أن يقيم الدليل على أن هذا “الوعد الرباني” كان خرافة خالصة، كتبها مؤلفو “التناخ”، وهو كتاب الخرافة الأول في العالم، ثم نسبوه إلى إله خلقوه على مثالهم الاجتماعي والتاريخي، وأن يقيم الدليل، أيضا، على أنَّ أرض فلسطين، بطولها وعرضها، لا تضم من الآثار، والأدلة التاريخية المادية، إلا ما ينفي صلتها بـ “أرض الميعاد”، وأنها كانت “أرض مع شعب” قبل أن تظهر إلى حيز الوجود التاريخي، في مكان غير فلسطين، قبائل وعشائر بني إسرائيل.

اليهود لم يعرفهم التاريخ إلا بصفة كونهم جماعة بشرية معدومة الوزن التاريخي والحضاري والثقافي، فكانوا عرضة، بالتالي، إلى أن يفقدوا شخصيتهم الاجتماعية والتاريخية والثقافية واللغوية بتأثير الأمم ذات الوزن التاريخي والحضاري الثقيل، فأقاموا بينهم وبين غيرهم ما تقيمه العشيرة بينها وبين غيرها من برازخ.

برزخهم الأول كان قولهم بفئتين لا ثالث لهما ينتمي إليهما البشر جميعا: “اليهود” و”غير اليهود”. ولا أعرف لماذا يستمر المجتمع الإنساني في مهادنة ومسايرة هذا التصنيف العنصري البغيض!

والبرزخ الثاني كان تهويدهم لـ “لرب”، فهو إلههم وحدهم، وهم شعبه المختار، والمفضل، لأسباب مجهولة، على سائر البشر.

والبرزخ الثالث هو الاحتجاز العرقي لديانتهم، فلا يحق لغير المنتمي إلى عرقهم اعتناقها، وكأن تهويد “الرب” حلال، بينما تهويد غير اليهودي حرام!

والبرزخ الرابع هو جعل “التوحيد” عقيدة يهودية خالصة، فالشغل الشاغل لـ “الرب” إنما هو العناية بـ “شعبه المختار”، وتفضيلهم على سائر البشر، ومنحهم وطنا بعد انتزاعه من غيرهم، ومسامحتهم والصفح عنهم دائما. لقد خذلوا دائما “الرب” وخانوه.. يَتَّفِقون معه على ما يرضيه، ثمَّ يعملون ويعيشون بما يرضيهم ويُغْضِبه. وتاريخ علاقتهم بـ “الرب” كان كوميديا هزليا على وجه العموم، فـ “إلههم” يُلْدَغ من الجُحْر ذاته ألف مرَّة، لا يتعلَّم من تجربته، يُكرِّر التجربة الفاشلة ذاتها متوقِّعا نتائج مختلفة، فكلَّما خذلوه وخانوه صالحهم وغفر لهم، وفتح صفحة جديدة معهم، مُرْسِلا لهم مزيدا من الأنبياء؛ وإنِّي لأقترح على موسوعة جينز للأرقام القياسية أن تَذْكُر بني إسرائيل بوصفهم الجماعة البشرية المُنْتِجة للغالبية العظمى من الأنبياء، والمُسْتَهْلِكة وحدها للأنبياء الذين أنتجتهم، فالنبي تُنْتِجه هي، ولا تَقَبْل تصديره لغيرها من الجماعات البشرية.

والبرزخ الخامس هو تهويد العقل الإنساني، فآينشتاين بعبقريته الفيزيائية، مثلا، ليس منتَجا ألمانيا، بالمعنى التاريخي والاجتماعي، وإنما منتَج ديني يهودي. ولو كان الانتماء الديني قوة إنتاج للعلماء والعباقرة والمبدعين لأنتج الإسرائيليون القدامى حضارة تتفوق على حضارة الفراعنة والإغريق!

لقد حان للعِلْم أن يرد اليهود، جماعة بشرية وعقيدة، إلى أصولهم الواقعية التاريخية، وأن يحرِّرهم، ويحرِّر معهم العقل الإنساني، من الأوهام التلمودية. حان له أن يضم “التناخ” إلى مكتبة الكتب الخرافية، على أن يوضع في الرف الأسفل، وليس في الرف الأعلى حيث تتلألأ ألياذة هوميروس. حان له أن يَدَع أولئك الموتى يدفنون موتاهم، فالعالم لن يرتقي وعيا وروحا وشعورا إلا عندما يتقيأ كل وهم يهودي.

نريد ذلك، ونتمناه؛ ولكنَّ رياح الوهم تجري بما لا تشتهي سُفُن العقل، فها هو البابا بينيديكتوس السادس عشر يَفْتَتِح الألفية الثالثة بما تيسَّر له من وَهْم “ثنائية الإيمان والعقل”. هذا البابا، وعلى ما حاول إظهاره وتأكيده لنا، يؤمِن بأن للبشر جميعا الحق في حرية التعبير عن آرائهم وأفكارهم ووجهات نظرهم ومعتقداتهم.. ومواقفهم، فـ “العقل” عنده يعلو ولا يعلا عليه. حتى “المشيئة الإلهية” يجب إخضاعها، بحسب إيمانه الإنجيلي، لـ “عقل الإنسان”، فلا إيمان لا يقره العقل. وهنا، بحسب رأيه، يكمن الفرق الجوهري بين المسيحية والإسلام، فالمسيحية “تقوم على المنطق والعقل” بينما الإسلام يقوم على أساس أنَّ إرادة الله لا تخضع لمحاكمة العقل والمنطق.

وهذا الفرق يراه البابا جزءا من كل، فالعقيدتان تختلفان، بحسب رأيه، في “صورة الذات الإلهية”، فالله ـ يقول البابا ـ في العقيدة الإسلامية “مطلق السمو، ومشيئته تعلو على عقل الإنسان، ولا تخضع له”. عند البابا، ليس من إيمان ديني لا يقره العقل، أو يكون منافيا له، فالمنافي للعقل لا يمكنه إلا أن يكون منافيا لطبيعة الله. ويفهم البابا “نشر الدين بالعنف” على أنه منافٍ للعقل، ومنافٍ، بالتالي، لطبيعة الله، مع أن الإنجيل في أصحاح متى نسب إلى المسيح القول الآتي: “لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض بل سيفا”. هذا هو الأساس الفلسفي “الصلب” للتفكير المسيحي لدى البابا.

“الإيمان الديني” أعرفه؛ أما “العقل” الذي يقدِّسه البابا، ويريد له أن يحكم العالم، فهو الأحجية بعينها. إنه يحدِّثنا عن كائن خرافي، لم يوجد قط، ولن يوجد أبدا، هو العقل الإنساني “العام”، الذي هو ذاته مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، ومهما اختلفت مصالح البشر وحاجاتهم، ومهما اختلف البشر أنفسهم في الخواص التاريخية والاجتماعية. هل كان البابا يظن أن أسلافه من المؤمنين بأن الأرض مسطحة وليست كروية، وبأنها لا تدور حول نفسها، وبأن الشمس هي التي تدور حولها، كانوا قوما يؤمنون بما هو منافٍ للعقل في زمانهم؟!

المعرفة، في أي زمان ومكان، ليست كلها “حقائق”، فبعضها، الذي تتسع نسبته أو تتقلص، كان “أوهاما”؛ والعصور لا تختلف بحقائقها فحسب، وإنما بأوهامها، فلكل عصر حقائقه وأوهامه. والعقل، في كل عصر، ينظر إلى أوهامه على أنَّها حقائق. والأوهام التي ينظر إليها البابا بينيديكتوس السادس عشر، اليوم، على أنها حقائق، وحقائق مطلقة، يقرها العقل، ستَظْهَر، غدا، ولبشر الغد، على أنها أفكار ومعتقدات منافية للعقل، ومنافية، بالتالي، لطبيعة الله.

لقد ألَّه البابا العقل الإنساني “العام”، ضاربا صفحا عن حقيقة أن التاريخ لا معنى له، ولا معنى لحركته، إذا لم يتحوَّل “الموافِق للعقل”، فيه، وبه، إلى “منافٍ للعقل”.

البابا يستطيع اليوم أن يأتينا بمئات الأفكار والمعتقدات التي قال بها أسلافه في القرون الوسطى والتي هي الآن، في رأيه، وفي رأي كثيرين من المؤمنين وغير المؤمنين، منافية تماما للعقل. ولكن هل كان أسلافه أولئك، وبما يملكون من موازين العقل والمنطق والصواب والخطأ، يرونها منافية للعقل؟! الملحد،مثلا، لا يرى في إلحاده ما ينافي العقل، أي عقله، فهل نستنتج من ذلك أن إلحاده لا يخالف طبيعة الله؟!

لو كان البابا يفهم، أو في مقدوره أن يفهم، أو لديه من المصالح ما يغريه بأن يفهم، “عقلانية” العقل الإنساني فهما نسبيا وتاريخيا لما قام بتأليهه هذا التأليه، ولأدرك الأهم من كل ذلك وهو أنَّ ميزان المصالح الواقعية للبشر، وليس ميزان الصواب والخطأ، هو الميزان الأهم في التاريخ، فالبشر لا يتورعون عن إلغاء كل بديهية هندسية إذا ما وجدوها منافية لمصالحهم.

حتى “العنف”، أو “السيف”، لا يُفْهَم كما فهمه البابا، وكما أراد لنا فهمه، فما هو موقف البابا من العنف “المنافي لطبيعة الله” إذا ما استخدمه أناس في مواجهة من يحاول فرض معتقده عليهم بالعنف، أو السيف؟! هل، عندئذٍ، يصبح العنف الآخر، أو المضاد، موافقا لطبيعة الذات الإلهية؟!

بحسب هذا العقل الذي يقدسه البابا، لو سألتموه “هل المطر مفيد أم ضار؟” لأجابكم على البديهة قائلا: “إنه مفيد وليس بضار”، أو “إنه ضار وليس بمفيد”!

والمسيح ذاته، لا أحسب أنه يقف ضد السلام، إذا ما قال “لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض بل سيفا”، فالسيف في يد الفلسطيني الذي يقاتل إسرائيل محمود؛ ولكنه مذموم في يد بوش الذي يقاتل العراقيين.

البابا حرٌّ في قوله بأن الإيمان الديني يقوم على إخضاع المشيئة الإلهية لمحاكمة العقل والمنطق؛ ولكنه ليس حرا في أن يدعونا إلى وهم “العقل الإنساني المطلق الذي لا يخضع بأحكامه وعقلانيته ومفاهيمه لمحاكمة التاريخ”، الذي يفهمه البابا على أنه شيء بينه وبين الإنسان وعقله برزخ، فلا يبغيان!

بكامل قواه العقلية، ارتكب البابا بينيديكتوس السادس عشر جريمة كبرى في حق البشرية إذ أعلن رسميا انضمامه إلى إدارة الرئيس بوش في قيادتها الحروب الإمبريالية العالمية للولايات المتحدة عبر زجِّه في الحرب تلك بقوى “روحية” مستمَدة من زمن الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني (1350 ـ 1415).

عربة الحروب الإمبريالية لإدارة الرئيس بوش تحتاج إلى “وقود”، فمن أين تجيء به؟ جاءت به أولا من الشيخ أسامة بن لادن، فـ “11 أيلول” زوَّدها كمية من الخوف كانت هي مُنْتِجها الحقيقي؛ ثم شرعت تملأ به قلوب مواطنيها، مُظْهِرة لهم العقيدة الإسلامية على أنها المُنْتِج الطبيعي والحتمي لـ “العداء الإسلامي الإرهابي” لنمط حياتهم، وللحضارة الغربية على وجه العموم، ولكل ما تقوم عليه الحياة في الغرب من قيم ومبادئ ديمقراطية؛ ومُظْهِرة لهم، أيضا، أن الحل لمشكلة “الوحشية السياسية للإسلام” يقوم على المزاوجة بين الحرب بالحديد والنار (في أفغانستان والعراق..) و”حرب الأفكار”، التي يجب أن تنتهي إلى شحن الفكر الإسلامي بما تحتاج إليه مصالحها وأهدافها الإمبريالية من الفكر الليبرالي حتى يصبح ممكنا أن تنزل هيمنتها الإمبريالية، النفطية الهدف في المقام الأول، بردا وسلاما على العرب.

الخوف من الإرهاب هو السلاح الأول الذي استخدمته إدارة الرئيس بوش في حربها من أجل إعماء أبصار وبصائر مواطنيها، وزجِّهم، بالتالي، في حروبها الإمبريالية التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل. لقد خوَّفتهم من الإرهاب الذي يُنْتِجه الإسلام في عقول وقلوب المسلمين، فاختاروا بيع حقوقهم وحرياتهم الديمقراطية والمدنية بثلاثين من الفضة هي “الأمن”، مُطْلقين يد المحافظين الجدد في حروبهم الإمبريالية.

وعندما ظَهَر وتأكَّد أنَّ تلك الكمية من وقود الخوف توشك أن تنفد ثار السؤال.. سؤال “ما العمل؟”. لا بد من ضم زعيم الكنيسة الكاثوليكية، الذي يملك ما له تأثير الأفيون، إلى الحرب التي لم تنتهِ بعد. لقد نقص “وقود الخوف”، فقرروا بالتعاون مع “الحبر الأعظم” تعويض هذا النقص بعصبية دينية مسيحية كاثوليكية أحيوا عظامها وهي رميم، فلتتصوروا حال الإنسان في الغرب عندما يتوفر “الخوف” و”التعصب الديني” على إعادة خلقه. إنَّ إنسانيته، مع محتواه الحضاري والديمقراطي وسلطان العقل الذي نعم بالخضوع له زمنا طويلا، هي الضحية الأولى.

وغني عن البيان أن استئناف حكم الأموات للأحياء يحتاج إلى إحياء الرعية ذاتها التي كان يحكمها الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني. وغني عن البيان، أيضا، أنَّ البابا بينيديكتوس السادس عشر، في محاضرته “الأكاديمية”، لم يستحضر موقف ذاك الإمبراطور من الإسلام إلا من أجل استحضار الروح الأوروبية في العصر الوسيط، وإدخالها في جسدي الحاكم والمحكوم في الغرب في القرن الحادي والعشرين.

ما أشبه “روما الجديدة” بـ “روما القديمة”.. في “القديمة” ما كان للمسيحية أن تنتشر وتسود وتغدو ديانة عالمية لو لم يعتنقها “الإمبراطور الروماني”، الذي بفضل عصاه الغليظة جعلها ديانة رعايا إمبراطوريته العالمية. على يديِّ ذاك الإمبراطور فحسب تمكَّنت فكرة “تهويد الرب” من أن تغزو عقول وقلوب رعايا إمبراطوريته.

وإنَّ أحدا من المؤرخين لا يستطيع أن يأتي ولو بدليل واحد على أنَّ ذاك الإمبراطور، الذي شحن سلطته السياسية الزمنية بسلطة روحية إنجيلية، قد نشر عقيدته الجديدة بين رعاياه بـ “الحوار العقلاني”، فـ “الإيمان عبر العقل” ما كان هو الأسلوب الذي اتُّبِع في نشر العقيدة الجديدة. لقد آمن الإمبراطور فآمنت الرعية بما آمن. ومذ آمن الإمبراطور بدأ استخدام الدين الجديد في الحروب، وزُجَّ بالسماء في حروب الأرض.

وفي “روما الجديدة”، اشتد الميل الإيديولوجي إلى الإمعان في تهويد المسيحية التي يريدها المحافظون الجدد مسيحية متصالحة في الجوهر مع أوهام العهد القديم. وقد اقتُرِفت الجريمة الأولى والكبرى سنة 1965 حيث برأ المجمع المسكوني الثاني اليهود من جريمة صلب المسيح، فبيع مرتين بثلاثين من الفضة.

ولا شك في أن البابا بينيديكتوس السادس عشر سيدخل التاريخ بصفة كونه البابا الذي، في القرن الحادي والعشرين، أحيا التحالف بين البابوية وملوك أوروبا في العصر الوسيط، نافخا في حروب إمبراطور “روما الجديدة” الروح الدينية التي لا تدخل في الجسد الغربي إلا لتُخْرِج منه الروح العلمانية والديمقراطية، وكأنَّ قوام التحالف الجديد هو أن يمد البابا قيصر “روما الجديدة” بكل ما تحتاج إليه حروبه الإمبريالية من أسلحة دينية وروحية في مقابل دعم إدارة الرئيس بوش للبابا بينيديكتوس السادس عشر في مساعيه لتوسيع النفوذ الروحي للكنيسة الكاثوليكية في الغرب.

كلاهما يحتاج إلى أفيون يعمي أبصار وبصائر البشر في الغرب؛ وقد مزجا “الخوف من الإرهاب” و”العصبية الدينية” ليُنْتِجا أفيونا جديدا لا مثيل له لجهة قدرته على تعطيل وإلغاء عقول البشر عندهم.

“الحبر الأعظم” قال تلك الأقوال متوقِّعا ومتمنيا الآتي: أن يغضب المسلمون غضبا عارما، يولِّد فيهم من روح التعصب الديني ما يغذِّي روح التعصب المسيحي الكاثوليكي، فينجح الفاتيكان في التصيد في المياه التي عكَّرها، فيستعيد الكرسي البابوي نفوذه الروحي ـ الشعبي المفقود منذ مئات السنين من التطور العلماني والديمقراطي للغرب.

إنَّ أسوأ تفسير لتاريخ الأديان والعقائد هو هذا الذي جاء به، أو تبناه، البابا الألماني إذ صوَّر انتشار الإسلام على أنه ثمرة العنف وحدِّ السيف، وكأن العقائد، في انتشارها، تشذ عن القوانين الموضوعية للتاريخ التي بحسبها يستحيل أن ينتشر فكر ويستمر إذا لم يلقَ سندا قويا له في حاجات ومصالح البشر.

إننا لا ننكر الأهمية التاريخية للسيف في نشر الإسلام؛ ولكن من الحماقة بمكان إنكار الأهم من السيف وهو أن الإسلام كان كامنا في حاجات إنسانية أساسية قبل أن يصبح حقيقة تاريخية واقعة.

إمبراطور روما القديمة لم يحتج إلى إرسال الجيوش لنشر المسيحية التي اعتنقها، فإمبراطوريته كانت عالمية، وكان يكفي أن يدين بالديانة الجديدة حتى تدين بها رعيته من شتى المنابت والأصول. أما الرعيل الأول من المسلمين فما كان في مقدورهم نشر الإسلام عالميا بغير “الفتوحات”، التي لم تُتَّخذ وسيلة لإكراه غير المسلم على اعتناق الإسلام، فـ “الجزية” فحسب هي الثمن الذي كان يدفعه كل من لم يقتنع بالإسلام.

الآن، يملك البشر من الوسائل ما يسمح لهم بنشر معتقداتهم عالميا من غير حروب. أما عند ظهور الإسلام فلم يملك الرعيل الأول من المسلمين من وسيلة للوصول إلى عقول وقلوب سائر البشر غير “الفتوحات”، التي لم يتخذها المنتصر المسلم وسيلة لإكراه غير المسلم على اعتناق الإسلام.

وفي المقارنة الموضوعية بين اليهودية والإسلام، نرى في العقيدة الأولى عنصرية نبذتها العقيدة الثانية، فاليهودية قامت على تفضيل اليهود على العالمين، ورفضت دخول غير اليهود فيها. أما الإسلام فلم يُقِم وزنا للاختلاف في اللون والعرق والجنس، مُظْهِرا الانتماء إليه على أنه حق لأي إنسان.

كان على “الحبر الأعظم” أن يشرح لنا أوجه العلاقة بين الاستعمار الأوروبي القديم ونشر المسيحية بين الشعوب والأمم غير الأوروبية. لقد جاءوا بجيوشهم أولا؛ ثم جاء “المبشِّرون”، لينشروا المسيحية، بوسائل عديدة منها “الحوار العقلاني”، حيث سيطرت جيوشهم. ويا ليتهم اكتفوا بما يشبه “الجزية”.. لقد مارسوا من النهب والسرقة ما لم يعرفه التاريخ من قبل.

البابا يرفض كل قتال أو حرب باسم الدين، فَلِمَ لم يعتذر إلى البشرية جمعاء عن كل الحروب الداخلية والخارجية التي خاضها الأوروبيون باسم الدين؟! ولِمَ لم يستنكر كل الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة باسم “ديانتها الرابعة”، أي باسم الديمقراطية والحرية؟! لِمَ لم يوبِّخ بوش لزعمه غير مرة أن الرب هو الذي ألهمه قرارات الحرب، ولزعمه أنه والرب يناقشان في استمرار كل أمر سياسي يعتزمه الرئيس المؤمن؟!

دعانا البابا الألماني إلى استخدام عقولنا في مناقشة المشيئة الإلهية، فهل استخدم عقله في مناقشة “الوعد الرباني” لإبرام العبراني؟! ليشرح لنا الحكمة في موقف الرب من بني إسرائيل.. في جعلهم شعبا له من غير سائر البشر، وفي تفضيلهم على سائر البشر، حتى على بينيديكتوس السادس عشر نفسه، وفي تمليكهم أرضا يملكها غيرهم!

حتى سنة 1965، كانت الكنيسة الكاثوليكية تتهم اليهود بارتكاب جريمة صلب المسيح، فهل أوضح لنا الفاتيكان الأسباب التي حملت المجمع المسكوني الثاني على تبرئة ساحة اليهود؟! هل ألَّفوا “لجنة تحقيق تاريخية” انتهت إلى جمع أدلة على أن اليهود أبرياء؟!

“الإيمان” و”العقل” متى اجتمعا وتصالحا في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية التي في ربع الساعة الأخير من القرن العشرين فحسب اعترفت بأن غاليلو كان على حق إذ قال بدوران الأرض؟!

أما نحن فخير عمل يمكننا وينبغي لنا القيام به هو إحباط سعي البابا وتوقعه، أي أن نربأ بأنفسنا عن كل تعصب ديني يحتاج إليه التحالف الجديد بين السلطتين الروحية والزمنية في “روما الجديدة”، فهذا التحالف إنما هو حرب على الحضارة والديمقراطية، وفي سبيل إعادة البشرية إلى عهود الهمجية والبربرية!

ولكن، كيف لنا أن نخالفهم ونختلف عنهم إذا لم نُفَجِّر ثورة في العُمْق من عقولنا؟! في الحديث العربي عن “التنمية” و”الإصلاح”، أي عن “التغيير”، الذي كفى الله دعاته والمنادين به شرَّ “الثورة”، التي هي “رجس من عمل الشيطان” ينبغي لنا اجتنابه ولو كانت “بيضاء” ناصعة البياض، أرى شيئا يحتاج إلى ما يَعْدِل “الثورة”، هدما وبناء، حتى يتغيَّر؛ وهذا الشيء إنَّما هو “العقل العربي”، الذي له عين لا تُبْصِر، وأُذن لا تَسْمع، ويد مشلولة، وكأنَّه برزخ بيننا وبين الواقع النابض بالحياة.
لقد حان لهذا العقل أن يصقل مرآته حتى تعكس الواقع بأقل قدر ممكن من التشويه، الذي لا نغالي إذا قلنا إنَّه تحوَّل إلى “طريقة في التفكير” لا نحيد عنها.
إنَّ أوَّل مرض ينبغي للعقل العربي أن يشفى منه هو مرض “التسليم بكل ذاك الذي في حاجة إلى إثبات”، فنحن، دائما، في النقاش والجدال والحوار، لا نأتي بأدلَّة تؤكِّد وجهة نظرنا، أو تدحض وجهة نظر الخصم، إلا من النوع الذي ليس فيه من مقوِّمات “الدليل” شيء، فما نُعده “مسلَّمة”، أو “بديهية”، أو “أوَّلية”، نُشهرها في وجه الخصم كسيف بتَّار، أو كقول فصل، إنَّما هو “فكرة” ما زالت في حاجة إلى إثبات، وكأنَّه يكفي أن نعتقد بهذه الفكرة حتى يعتقد بها “الواقع”، فدليلنا هو دائما من النوع الذي يُعْوِزْهُ الدليل!
إنني أدعو إلى جَمْع كل ما ننظر إليه على أنَّه “مسلَّمات”، تشبه “السيف البتَّار”، وغربلتها، من ثمَّ، بغربال الواقع، أو الحقيقة الموضوعية، حتى لا يبقى منها إلا الجدير بالبقاء، أي الذي يصلح “دليل إثبات” أو “دليل نفي” في جدلنا الفكري. وأحسب أنَّ هذا هو “الثورة” بعينها، والتي فيها، وبها، لا يبقى للأموات من سلطان على الأحياء، وننتصر في الحرب على ما بقي فينا من “وثنية”، فإذا كانت الأصنام المصنوعة من حجر قد حُطِّمت مِنْ قَبْل فلا بد، الآن، من تحطيم الأصنام المصنوعة من “فكر” و”بشر”؛ وإذا كانت صرخة الثورة القديمة “جاء الحق وزهق الباطل” فينبغي لصرخة الثورة الجديدة أن تكون “جاءت الحقيقة وزهق الوهم”؛ وكلَّما تأخَّرت هذه الثورة، في العقل العربي، ظللنا “مخلوقات الوهم” التي لم تتحوَّل بعد إلى “مخلوقات الحقيقة”!
ولكن متى، وكيف، تشفى عقولنا من مرض “التسليم بالذي ما زال في حاجة إلى إثبات”؟ عندما ندرك، وعبْر إدراكنا، أهمية وضرورة التحوُّل من “أمَّة جواب” إلى “أمََّة سؤال”، فنحن، في مخزوننا المعرفي والثقافي والفكري لا نملك من حُبِّ السؤال، ومن عِلْمِه وفنِّه، ومن الحاجة إليه، إلا ما يَعْدِل قطرة في بحر “أجوبتنا الجاهزة”، التي في أبراج مشيَّدة لا يدركها الموت ولو أصبح الواقع الذي، بأسئلته، أنتجها، أثرا بعد عين، ففي ثقافتنا، أو في طريقة تفكيرنا، تموت الأشجار؛ ولكن ظلالها تبقى!
“المسلَّمة”.. إنَّما هي المتاع الفكري لكل عقل أراد له صاحبه أن يَسْتَنْقِع، فـ “المسلَّمة” هي مُنْتَج فكري لمُنْتجيه مصلحة في وَضْعِه في برج مشيَّد، وكأنَّه بخواص تَحول بيننا وبين وزنه في الميزان الموضوعي للحقيقة. إنَّه مِنْ فكر، على ما يزعمون، لا يمكن أبدا إثباته أو نفيه كما تُثْبِت الفيزياء أو تنفي فرضية ما. فَهْمُ “المسلَّمة” على هذا النحو إنَّما هو فَهْمٌ أرى فيه كثيرا من الصواب؛ ولكن لأسباب تختلف عن أسبابهم، فأنتَ، مثلا، لكَ الخيار في أن تؤمِن أو لا تؤمِن بوجود “العنقاء”، فإذا اخْتَرتَ أن تؤمِن فلا تطلب دليلا على وجودها، وإذا اخْتَرتَ أن لا تؤمِن فأنتَ مطالبٌ بأن تأتي بما يَدُلُّ على أنَّها غير موجودة!
وأنا أستطيع أن أقول لكَ أنَّ “الروح” ما أن “تغادِر الجسد (جسد الإنسان)” حتى تتجاوز في سرعتها سرعة الضوء، الذي هو السرعة القصوى في الكون (300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة). إنَّني أدعوكَ إلى أن تؤمِن بقولي هذا الذي أُلْبِسَهُ لبوس “المسلَّمة”؛ ولكن من غير أن تطلبَ منِّي أن آتيكَ بدليل على صحَّته يشبه الدليل الذي تأتينا به “الممارَسة”، أو “التجربة”، فأنا، ومهما أُوتيت من العِلْم، لن أتمكَّن أبدا من أن آتيكَ بدليل على صِدْق ما زَعَمْت. أنتَ المتشكِّك وغير المؤمِن هو مَنْ ينبغي له أن يأتي بدليل ينفي به ما دعوتكَ إلى التسليم به!
“العنقاء” هي كائن خرافي، أي هي شيء لا وجود له في الواقع الموضوعي. شيء لم يُوْجَد قط، ولن يُوْجَد أبدا. إنَّ لها وجودا فحسب في ذهني، الذي في مقدوره أن يُصوِّرها تصويرا ذاتيا مثاليا كيفما شاء وأراد، وإنْ ليس في مقدوره أبدا أن يُصوِّرها تصويرا يخلو في مكوِّناته وعناصره من الواقع الموضوعي، فـ “العنقاء” يمكن أن أُصوِّرها في ذهني على أنَّها طيرٌ له وجه الأسد، جناحاه كجناحي نسر، وذيله كذيل سمكة. هذا الطير ليس له من وجود؛ ولكن مكوِّناته وعناصره تلك موجودة في الواقع الموضوعي. إنَّها موجودة في “الأسد”، و”النسر”، و”السمكة”، فكل ما هو موجود في الواقع الموضوعي يمكن أن تصبح له صورة ذهنية؛ ولكن ليس كل ما له صورة ذهنية في أدمغتنا يمكن، أو يجب، أن يكون له وجود في الواقع الموضوعي.
لقد دعوتكَ إلى التسليم بوجود “العنقاء” قائلا لكَ إنَّ “العنقاء”، كمثل سائر “المسلَّمات”، حقيقة لا ريب فيها، وإنْ عَجِزَ العقل والعِلْم عن إقامة الدليل على وجودها؛ أمَّا إذا ظللتَ مصرِّاً على طلب الدليل على وجودها فإنَّ عجزكَ عن الإتيان ولو بدليل واحد على أنَّها غير موجودة هو خير دليل على أنَّها موجودة!
إنَّ كل فكرة لا يمكن وزنها بالميزان الموضوعي للحقيقة.. لا يمكن إثباتها أو نفيها كما أثبت العِلْم كروية الأرض وكما نفى المركزية الكونية للأرض، هي “صورة ذهنية” لا أصل لها في الواقع. وغني عن البيان أنَّ الشيء غير الموجود هو وحده الشيء الذي لا يمكن أبدا إثباته أو نفيه، فكيف لكَّ أنْ تُثْبِت، أو تنفي، ما هو غير موجود؟!
يكفي أن نعود إلى “الشكِّ المعرفي”، وما يُوَلِّدَهُ من أسئلة وتساؤلات، حتى يصغر “عظامنا” كما “صغر” سقراط إذ قال وهو يتربع على “عرش المعرفة” في زمانه: “كل ما أعرفه هو أنِّي لا أعرف شيئا”؛ وكما “صغر” آينشتاين إذ قال بعدما جاءنا بالنسبية العامة والنسبية الخاصة: “عُدتُّ طفلا لا أملك في رأسي إلا السؤال”! فمتى يسبغ الله على “عظامنا”، الذين لهم آفاق تسع كل شيء ولا يسعها شيء، نعمة “الصغارة” تلك؟!
منذ زمن طويل و”الثقافة” في مجتمعنا العربي تعاني “وثنية (أو “صنمية”) النص” حتى تحوَّل قسم كبير من “المثقفين”، أو من “أهل الفكر والقلم”، إلى “حَفَظَة” لنصوص لا تستقر على معنى أو تفسير، وكأنَّ “المعرفة” هي الحفاظ على “الجسد” من النص مع تبديل “الروح”؛ أمَّا الأسلوب المتَّبع في ذلك فهو “التأويل”، فالباحث يتوفَّر على البحث عن “المعاني الخفية” وراء “المعاني الظاهرة” في الكلام أو النص، مُفْسِدا ومشوِّها “معناه الحقيقي”. إنَّ “النص” لا يحتاج إلى “التأويل”؛ فالتفسير خير وأبقى، ويجب أن يظل غاية الباحث والبحث.
غير أنَّ بعض الناس يحتاجون إلى “التأويل”، الذي من خلاله يعزِّزون ويقوُّون وجهة نظر، لهم مصلحة في تعزيزها وتقويتها ولو كان تشويه “الحقيقة” هو عاقبة عملهم. بالتأويل يستطيع المرء، وبقليل من الجهد، أن يجد في أي نص المعاني التي يريد ويبتغي.. يستطيع أن يرى ما يرغب في رؤيته، أو ما يرغب في أن نراه.

لا بدَّ من العودة إلى الأخذ بـ “منطق التفسير والتحليل التاريخيين” فحسب، فالنص المنتزَع من “التاريخ”، أي من مكان وزمان ولادته، هو نص “معدوم المعنى”؛ ويكفي أنْ تَنْتَزِع “النص” من ظرفي الزمان والمكان حتى يتحوَّل إلى ما يشبه “السائل”، الذي لا شكل له سوى شكل الإناء الذي يُسكب فيه.
“الوثنية النصِّية” تفضي إلى اتخاذ “النص” مقياسا للحقيقة، فكل ما يوافقه يعدُّ حقيقة، وكل ما يخالفه يعدُّ باطلا، وكأنَّ “الحقيقة” في علومنا ومعارفنا هي ما يؤيده “النص”، الذي يشبه صنما صنعته أيادينا حتى تخضع له خضوعا وثنيا عقولنا!
العيب الأوَّل في ثقافتنا أنَّها من النمط الذي يسمح للمثقف بأنْ يتخذ “النص”، نص قول “عظيم”، دليلا على صواب وجهة نظره، أو على خطأ وجهة نظر معارضيه، فعندما يُسأل عن “الدليل”، دليل “التأييد” أو “النفي”، يستهل جوابه بإيراد نص قول يعتقد بعظمته الخالدة، لعلَّ هذا “الإرهاب الفكري” يجعل وجهة نظره في “بروج مشيَّدة”، فلا يدركها “الموت”!
هذا عيب ثقافي؛ لأنَّ “النص” مهما عظُم، أو بدا عظيما، لا يصلح دليلا بديلا من “دليل الواقع التاريخي”، فهذا الواقع هو الذي جاء بالنص، مختزِنا فيه “طاقة فكرية ناضبة”، أي أنَّ “الحيوية الفكرية” للنص لا تبقى بعد انتهاء “الواقع التاريخي”، الذي جاء بالنص إلى الحياة.
والعيب الثاني، هو “الغسل المستمر” للنص من معانيه الحقيقية عبر “لعبة كلامية” هي “التأويل”، الذي يمط النص، وكأنَّه شريط من المطَّاط، حتى قَطْعه وتمزيقه إربا إربا. وبهذا النسخ المستمر (عبر الزمن) لمعاني النص يتحوَّل “النص الواحد”، عمليا، إلى نصوص عديدة تتنابذ معانيها وتتناقض، كما تتحول “الثقافة” إلى “صناعة كلام”، تُفقِر العقل، وتجعل الإنسان في “اغتراب فكري” عن الواقع التاريخي الذي يعيش.
على أنَّ قولي هذا لا يعني، ويجب ألا يعني، دعوة إلى المصالحة مع الثقافة الجديدة التي يراد لها أن تسود، فهذه الثقافة التي تنتشر الآن بين شبابنا إنَّما هي ثقافة “لا للشقاء المعرفي”. إنَّ المتوفِّرين على صنعها وبثِّها يقولون لنا: لماذا نُضَيِّع الوقت والجهد في البحث عن سبب هذا الذي حَدَثَ لنا، وكيف حَدَثَ؟! يريدون لنا أن نَدَع “المعرفة” بما تُسَبِّبَه لنا من شقاء، وأن نبدأ “الحياة”، التي يريدون لنا أن نحياها.. حياةٌ نرى بعضا من وجوهها وملامحها في “أفكار”، و”مبادئ”، و”قيم”، خلقها واقعنا الاجتماعي ـ التاريخي ليًخْلقنا على مثالها.

وإليكم هذا الغيض من فيضها: البشر سيظلُّون دائما مُؤلَّفين من فقراء وأغنياء. الفقر والغنى (الدائمين الخالدين) هما مظهر من مظاهر الطبيعة الإنسانية التي لا يمكن أبدا تغييرها. الفساد يمكن ويجب أن نكافحه؛ ولكن لا يمكننا أبدا أن نقضي عليه قضاءً مبرما؛ لأنَّه سرمدي كمَصْدَرِه وهو طبيعة النفس البشرية؛ وينبغي لكلٍّ مِنَّا، بالتالي، أن يمتنع عن تعليل نفسه بوهم جَعْل النفس الأمَّارة بالسوء غير أمَّارة به. لا خلاص إلا الخلاص الفردي، فاسعَ فيه، وإيَّاكَ أن تسعى في الخلاص الجماعي. مجتمعكَ إنَّما هو (في ماضيه وحاضره ومستقبله) غابة ذئاب، فكُنْ ذئبا حتى لا تأكلكَ الذئاب، فإنْ لم تَقْتُلَ تُقْتَل، وإنْ لم تَسْرِق تُسْرَق، وإنْ لم تُجوِّع غيركَ تجوع. اسعَ في خطب ودِّ رئيسكَ، وولي نعمتكَ، ولو بما يعود بالضرر على رفاقِك. داهِن ذوي السلطان، وجاهِد في سبيل الفوز برضاهم، فقد تصبح مثلهم. إمَّا أن تعمل لمصلحة غيركَ وإمَّا أن يعمل غيركَ لمصلحتكَ. إمَّا أن تكون عبدا وإمَّا أن تكون مالكا للعبيد. إذا كان لديكَ قمحا فلا تَبِعْهُ كله.. ادَّخر بعضا منه (فهذا “قِرْشٌ أبيض” يفيد في “اليوم الأسود”) فقد يجوع الناس، فتبيعُ ما ادَّخَرْت، عندئذٍ، بثمن باهظ. ادْعُ إلى الأمانة والاستقامة حتى يَسْهُلَ عليكَ سرقة مَنْ تحلَّى بتلك الفضيلة. ادْعُ إلى الصِدْق حتى يُصِدِّق الصادق كذبكَ.

هذا غيض من فيض السموم الفكرية والأخلاقية التي يتوفَّر ذوو المصالح الفئوية الضيِّقة على نشرها في العقول والنفوس، مصوِّرينها على أنَّها “الحِكَم” التي لا يستنكف عن الأخذ بها، والعمل بمقتضاها، إلا كل أخرق عديم الطموح، ارتضى العيش ابد الدهر بين الحُفَر. وهُم لا يتورَّعون عن إظهارها على أنَّها “الذكاء الاجتماعي”، فـ “الذكي”، في موازيننا الاجتماعية إنَّما هو الذي يَعْرِف من أين تؤكَل الكتف، فإذا أنتَ ظللت فقيرا بعدما تبوَّأتَ منصبا عاما فهذا إنَّما يدلُّ على نقصٍ في ذكائكَ، أو وفرة في غبائِكَ، فـ “الفرصة” سنحت لكَ؛ ولكنَّكَ فشلتَ في اغتنامها!

كل تلك الأفكار إنَّما يرضعها عقل الطفل وهو يرضع ثدي أمِّه. إنَّها “الرضاعة الفكرية”، التي تَخْلِق بشرا يتخلَّقون بأخلاق العبد أو أخلاق مالك العبيد، يتقمَّصون هذا النمط أو ذاك من الأنماط الاجتماعية للشخصية. بـ “الرضاعة الفكرية” يرتضي الأحياء استمرار حُكْم الموتى لهم، فلا “جديد” إلا “القديم ذاته” وقد أُلْبِسَ لبوسا جديدا ليُوَفَّقَ في محاربة كل جديد حقَّاً.

هذا هو “الميزان الفكري ـ الأخلاقي” الذي يزنون به كل فكرة لجهة تأثيرها العملي والواقعي والمادي، المباشِر وغير المباشِر، حاضرا ومستقبلا. وبحسب ميزان ذوي المصالح الفئوية الضيِّقة، ليس من فكر “صالح” سوى الذي يدعو إلى (أو يُتَرْجَم عمليا بـ) خضوع واستسلام مَنْ هُم في حال “البقرة الحلوب” لهم.

وينطوي موقف ذوي المصالح الفئوية الضيِّقة من “الواقع” على التناقض الآتي: السعي في حماية وإدامة “الواقع” الذي كالناقة تدر عليهم بلبنها، وإنكاره في الوقت نفسه، فاعترافهم به يتعارض مع مصالحهم، ويُحرِّض المتضررين منه على السعي في تغييره.

ما السبب الحقيقي لهذا الشيء، أو لهذه الظاهرة؟ كل الناس، ومهما اختلفت، أو تضاربت، مصالحهم وغاياتهم ودوافعهم، لا بدَّ لهم من أن يسألوا دائما هذا السؤال، وأن يسعوا في إجابته إجابة موضوعية؛ لأنَّ “الإجابة الموضوعي” هي الشرط الأولي لإنجاز كل عمل، ولو كان الشيطان هو الذي يقوم به. وبعد ذلك، يتقرَّر الموقف من “الإجابة الموضوعية”، إيجابا أو سلبا، فإذا قضت “المصلحة” بنشر وإبراز تلك الإجابة، نُشِرت وأُبْرِزَت، وإذا كانت ضدَّ ذلك، حُجِبَت، بوسائل شتى، بعضها فكري، عن الأبصار والبصائر.

كل جماعة من الناس تميل إلى الوقوف، فكرا وعملا، ضد كل تغيير لحالٍ اجتماعية يعود عليها بقاؤها واستمرارها، بالنفع والفائدة، فكيف إذا كانت تلك الحال تعطيها “حصَّة الأسد” من ثروة المجتمع المادية، الاقتصادية والمالية؟!

قد تسأل عن سبب “الفقر”، فتَشْرَع تحاول “إجابة موضوعية”. وقد تتوصَّل إليها. ولكنَّ مصير هذه الإجابة تَقرِّره “مصلحتكَ”، فإذا كانت تقضي بمحاربة الفقر، وتغيير الواقع الموضوعي المُنْتِج والمنمِّي له، فإنَّكَ تسعى، عندئذٍ، في نشر وإبراز تلك الإجابة. أمَّا إذا كانت تقضي ببقاء وإدامة الفقر فإنَّكَ، عندئذٍ، تتوفَّر على مسخ تلك الإجابة، وحجب الحقيقة التي تنطوي عليها عن أبصار وبصائر الفقراء، مُسْتَخْدِما في سعيكَ هذا كل ما تستصلحه من أفكار ومعتقدات منافية للعِلْم، ومجافية للحقيقة الموضوعية.

لا بدَّ من معرفة “السبب” معرفةً علمية موضوعية؛ ولكن ليس حُبَّا بـ “المعرفة”، وإنَّما حُبَّا بـ “التغيير”.. تغيير الواقع، الذي لنا مصلحة حقيقية في تغييره في اتِّجاه آخر، ونحتاج فعلا إلى تغييره.

عندما يَعْجَز الإنسان، أو يُعْجَز، أي يُجْعَلَ عاجزا، عن فهم ومعرفة أسباب المصائب التي تحلُّ عليه، يَسْهُلَ جعله يَنْظُر إليها، ويفهمها، على أنَّها مُقَدَّرة عليه، أو قضاء مُقَدَّر. وثمَّة مصالح فئوية ضيِّقة تكمن في سعي ذويها (وخَدَمهم من المفكِّرين وأهل الفكر والقلم) إلى “التجهيل”، أو إنشاء وتطوير “صناعة العجز المعرفي”، حتى يبقى “القضاء والقدر” التعليل والتفسير، فترضى نفوس المؤمنين به مِمَّن تحل عليهم المصائب.

الإنسان، بحسب المُعْتَقَد الذي يتوفَّرون على نشره وغرسه في عقول العامَّة من الناس، لا يشذ عن “القانون الأسمى”.. قانون “استحالة إدراك حقيقة الأشياء”، فـ “حقيقة” الإنسان، والتي يسمُّونها “الطبيعة الإنسانية”، لا يمكن أبدا إدراكها، ولا يمكن، بالتالي، تغييرها، فالإنسان، وبسبب “طبيعته الثابتة الخالدة”، و”حقيقته” المستعصي والمستحيل إدراكها، لا يتغيَّر في الزمان، هو اليوم، وسيكون غدا، مثلما كان في الأمس.

إنَّهم لا ينكرون “الفساد” في المجتمع، ولا حتى استفحاله؛ ولكنَّهم، وعملا بمصالحهم الفئوية الضيَّقة التي فيها يَضْرِب الفساد جذوره عميقا، لا يفسِّرونه إلا بما يجعله في بروج مشيَّدة، فلا يدركه الموت. يفسِّرونه بما يجعلك تعتقد وتؤمن بأنَّ فساد المجتمع من فساد أفراده، فالمجتمع فاسِد؛ لأنَّ أفراده، أو بعضا منهم، فاسدون، وكأنَّ الفرد هو الذي يخلق المجتمع على مثاله الخُلقي!

و”الإصلاح” يجب أن يبدأ بإصلاح روح الفرد، وبالسيطرة على نفس الإنسان الأمَّارة بالسوء (والفساد). فإذا نحن أصْلَحْنا المجتمع، فردا فردا، بـ “العظات الأخلاقية”، صَلُح المجتمع، وصَلُحَت مؤسساته، فالتغيير، إذا كان لا مفرَّ منه، لا يبدأ بـ “المجتمع ذاته”؛ لأنَّ المجتمع ليس سوى “الحاصل من جمع أفراده”، أي أنَّه ليس بـ “مُركَّب”، يختلف في خواصه عن خواص مكوِّناته.

إنَّ الدعوة إلى “الإصلاح الأخلاقي” لا تفيد إلا في شيء واحد هو إظهار وتأكيد أنَّ أصحابها لا يريدون إصلاحا حقيقيا للمجتمع، فليس “الشر الكامن” في الإنسان هو الذي يُفْسِد “مؤسسات المجتمع” حتى نبدأ إصلاح المجتمع بـ “الإصلاح الأخلاقي” لأفراده. الإنسان لا “يُوْلَد” فاسِدا؛ إنَّما “يصبح” فاسدا. ومؤسسات المجتمع، التي تديرها وتتحكم فيها مصالح فئوية ضيقة يَعْبُد أصحابها “إله الفساد” سرَّاً، هي التي تُفْسِد الإنسان، وتجعله شريرا، فالإنسان، في طبيعته، ليس بملاك، وليس بشيطان، فهو ثمرة المجتمع ومؤسساته، فإمَّا أن يصبح الثمرة الطيبة، وإمَّا أن يصبح الثمرة السيئة.

لو جئتَ بملاك، وأجْلَسته على كرسي في البرلمان أو الوزارة..، لشرع يتحوَّل، أو يشتد لديه الميل إلى أن يتحوَّل، إلى شيطان رجيم، فليس “الكرسي” هو الذي يتخلَّق بأخلاق الجالس عليه، وإنَّما الجالس على “الكرسي” هو الذي يتخلَّق بأخلاقه. لماذا؟ لأنَّ “الكرسي” يسمح لكَ بأن تَضَع يدك على سلطة شبه مطلقة، وعلى شيء من “المال العام”، الذي لا حارس يحرسه سوى “ضميرك”.

ويكفي أن تجلس عليه حتى تكتشف أنَّ “توقيعكَ” يفوق في أهميته “الوصايا العشر”، فبجرَّة قلم تَفيدُ وتُفيد، تهطل عليك “الهدايا”، وقد كُتِب على كل “هدية”: اقْبَلْها، لا ترفضها، فالنبي قَبِلَ الهدية!

ولِمَ لا تقبلها وأنتَ تملك من بأس “الحيتان” ما يُمكِّنكَ من أن تدرأ عن نفسك المخاطر والشرور بسُلْطتين: “سلطة القانون”، و”السلطة المنافية للقانون”؟!

ويكفي أن تجلس عليه حتى تكتشف أهمية وضرورة أن تكون في “وظيفتكَ العامة” مفعما بالنشاط والحيوية، فاعمل أكثر في خدمة الناس والعباد تربح أكثر؛ ولكن احرص على أن تجعل “الفاتورة”، غير القانونية في محتواها، قانونية في شكلها، فضاعِف، مع مرؤوسيكَ المخلصين، الأسعار والمقادير؛ ولكن إيَّاك أن تُخطئ في “الجَمْع”، فالقانون يُسَهِّل السرقة؛ ولكنَّه لا يتسامح مع سارق لم يُتْقِن السرقة، وافتضح أمره.

حيث تعمل، وتملك السلطة والقرار،صَعِّب على المواطن قضاء حاجاته، فقد يُضطَّر إلى إظهار بعض من قدرته على إفادتكَ حتى تفيده، وتُذلِّل الصعاب التي اصْطَنَعْت من طريقه. عَلِّمْهُ أنْ لا قضاء لحاجته (ولو كانت تركيب عدَّاد كهربائي أو مائي) إلا بسيره في طريق الفساد، فَنِعْم مَنْ فسَدَ وأفْسَد.

إذا جلستَ عليه، فإيَّاك أن تتخلَّق بأخلاق الأنبياء، فهذا الأخلاق مكانها الطبيعي الجامِع أو الكنيسة، فاتْرُك “الوظيفة العامَّة” واذهب إلى بيوت الله. إيَّاكَ أن تقاوِم نفسك الأمَّارة بالسوء، وأن تَزْهَد في “متاع الغرور”، وأن تتعفَّف، وتَجْعَل فُرَص الرذيلة فُرُصاً لإظهار الفضيلة، فأنت، عندئذٍ، تُظْهِر وتؤكِّد أنَّك أبله غبي، وتَظْهَر على أنَّك عقبة لا بدَّ من تذليلها من الطريق التي شعار السائرين فيها “مَنْ ليس معنا فهو ضدنا!”.

لا تبحث عن “الحقيقة”، أو تنحاز إليها، فليست الحقيقة إلا ما يُفكِّر فيه بوش أو بن لادن، الآن، وإذا كان لا بد من أن تتعلَّم شيئا فتعلَّم “الكذب الحيوي”، فـ “الحقيقة” إنَّما هي “فن الكذب المفيد”!

كل شيء فسد حتى “التحية الأخوية”، وفَقَد المجتمع البقية الباقية من إنسانيته، ومن الإنسان في إنسانه، فأنتَ لا يمكنكَ أن تدوس برجلك الإنسانية في غيرك وأن تظل، في الوقت نفسه، محتفظا بإنسانيتك.