" فاء "
فيثاغوراس (582–500 ق م) والفيثاغوريون
حكيم ورياضي إغريقي، ولد في جزيرة ساموس (قرب شواطئ آسيا الصغرى)، وجال في منطقة شرق المتوسط، مقيمًا، على ما يُشاع، في مصر ردحًا من الزمن، ثم هاجر إلى كروتونا (جنوب إيطاليا)، حيث أسَّس تنظيمًا ذا طابع باطني مُسارَري.
يُعتبَر فيثاغوراس، من حيث الجوهر، فيلسوف النفس – الخالدة وذات الجوهر الإلهي – التي خُلِقَتْ كماهية حقيقية، متمايزةً بذلك تمامًا عن الجسد الفاني الذي يحتضنها، ومتقمِّصةً، على التوالي، سلسلة من الأجساد، مكفِّرةً بذلك عن ذنوبها السابقة. لذا فعنده أن ممارسة الفضيلة، التي يمكن اعتبارها عملية تطهير، تحرِّر النفس من "دورة الولادات" المتتالية .
يعتقد فيثاغوراس أنه لا يمكن فصل الفضيلة عن العلم، الذي أسماه – للمرة الأولى في التاريخ – فلسفة (كلمة تعني "محبة الحكمة")، باعتباره تلك المعرفة التي تتحقق من خلال التعرُّف إلى التناغم الذي يحكم الكون؛ وهو تناغم يجد تعبيره الأكمل فيما عرَّف به فيثاغوراس بوصفه العدد، الذي يفسِّر، في نظره، النظام المتمثِّل بحركة النجوم والكواكب؛ لذلك بوسعنا أن نقول إن فيثاغوراس هو الذي أوجد بحق علم العدد. كما أنه هو واضع تلك النظرية التي باتت تُعرَف باسمه ("مربع وتر المثلث القائم يساوي مجموع مربَّعي ضلعيه القائمين"). كما اكتشف أيضًا السلَّم الموسيقي، وجدول الضرب، والنظام العشري، وجعل من الحساب علمًا نظريًّا. أما فيما يتعلق بعالم ما تحت القمر، الذي هو "عالم الكون والفساد"، عالم الأشياء الفانية، والخاضعة جزئيًّا للفوضى، فهو عالم يتناقض، على ما يبدو، مع التناغم العددي، ويتضمن قسطًا من اللامنطق، وذلك على الرغم من احتوائه تلك الروح الدائمة الحركة، التي تبقى مشعة بنارها الخالدة.
لقد كانت الفيثاغورية بحق المحاولة الفلسفية الأولى للدخول إلى عالم النفس، ولتجاوز المحسوس. وقد أعيد إحياؤها فيما بعد، ليس فقط عبر فلسفة أفلاطون، وإنما أيضًا عبر جميع أولئك الذين – كديكارت، مثلاً - حاولوا اكتشاف التناغم بين الكون وقوانين العدد الرياضي.
------------------------------------------------------------------------
المدرسة (أو المؤسَّسة) الفيثاغورية..
وأية مدرسة كانت هذه المدرسة–المؤسسة، التي هيمنت في ذلك الزمان ما يقارب الـ 25 عاماً (بشكل غير مباشر) على حياة كروتونا والعديد من المدن الإغريقية الواقعة في الأرخبيل اليوناني وفي جنوب إيطاليا.. فأقامت فيها بالإقناع ما يمكن أن ندعوه اليوم نظاماً أريسطوقراطياً وشيوعياً معاً، نظاماً قائماً على التقشف ponos والفضيلة arete، كما كانوا يقولون باليونانية.. مبدئياً، كان بوسع أيٍّ كان الانتساب إلى هذه المدرسة التي كانت مشرعة الأبواب تقبل حتى النساء والغرباء.. ولكن، في الوقت نفسه، كم كان صعباً الانتساب إليها، حيث..
من منطلق التناغم الذي يشكّل أساس أية مؤسسة إنسانية ناجحة، ومن منطلق فهم نخبوي وأرستقراطي حقيقيين، كان تشدُّد فيثاغوراس في قبول الراغبين في الانتساب إلى مؤسسته.. وهو الذي قال يوماً إنه "ليس من أي خشب يُنحت هرمس.." لذا، كان على الراغب بالانتساب إلى المدرسة تجاوزُ مرحلة اختبارية قد تصل مدَّتها إلى ثلاث سنوات يقوم الأساتذة – فيثاغوراس تحديداً – خلالها بدراسة نفسيَّته.. وأيضاً.. كان على من يرغب بالانتساب إلى هذه المدرسة التخلِّي عن كل ما يملك لصالح المؤسَّسة التي تستثمر تلك الأملاك والأموال لما فيه الصالح العام، مع ملاحظة أنه كان بوسع الطالب استرداد كل شيء إذا ترك المؤسَّسة.. بعدئذٍ..
إذا وصل الطالب إلى العتبة، وقُبِل مبدئياً مريداً.. كان عليه أن يتجاوز مرحلة تحضيرية، قد تصل مدَّتها إلى خمس سنوات، يمتنع خلالها عن الكلام كلّياً فيصبح مستمعاًakkousmatikos ، فيُمنَع من النقاش ومن رؤية المعلِّم والتحدُّث إليه.. كان مسموحاً له فقط الاستماع إليه من وراء الستار و.. التأمُّل فيما يستمع ويتلقى من دروس منه ومن الأقدمين.. فالمريد، في هذه المرحلة، مايزال يعتبر "خارج العتبة" oi-exo حسب التعبير اليوناني.. هذا ونشير هنا إلى أن أستاذ هذه المرحلة كان هيباسيوس الميتابونطيّ الذي يُنسَب إليه كتاب في الروحانيات أو المسطيقا.. ثم..
إن تجاوز المريد العتبة وأصبح من أهل الباطن.. وأصبح في وسعه النقاش مع زملائه ورؤية المعلِّم والحديث إليه.. بدأ تعليمه الفعلي الذي كان ينقسم حسب جمبليخوس إلى ثلاث درجات..
أولاها، درجة الفيزيائيين أو الرياضيين، أو من كانوا يعرفون بالـ physikoi أو mathematikoi، حيث كان يدرس الفيزياء والفلك والهندسة والرياضيات وعلم العدد و..
ثانيتها، درجة السرَّانيين، أو من كانوا يعرفون بالـ hermetistes أو الـ sebastikoi، ويدرس فيها كافة العلوم السرَّانية، ومنها تلك المتعلِّقة بأصول الروح ومصيرها والتقمُّص.. إلخ، و..
ثالثتها، درجة عرفت ظاهراً بالاجتماعيين أو السياسيين، أو من كانوا يعرفون بالـ politikoi، وهي في الواقع درجة الكُمَّل أو الـ teleiotes، وتُدرَّس فيها تلك الصفوة من الصفوة المنتقاة لنشر المعرفة والقيادة، مبادئ القانون والوفاق الاجتماعي والتناغم الروحي.. وأيضاً..
كانت الحياة في المدرسة–المؤسَّسة تدور حول شخصية المعلِّم الذي أحيط بهالة من القداسة.. فبالنسبة لهم كان المعلِّم رسولاً فعلاً لا قولاً (كما هي الحال غالباً).. كان محظوراً التلفُّظ باسمه، وحين كان ينسب إليه قول ما كانوا يقولون: autos-epha، أي "هكذا قال هو.." و لكن هذا التقديس للمعلِّم كصفة كان يقابَل بتواضع لامتناهٍ من قبل المعلِّم كشخص، حيث يقال مثلاً إن.. في حضرة "الطاغية" ليونيداس، حاكم فيليونتي، الذي دعاه يوماً بالحكيم Sophos، أجابه إن الحكمة هي للألوهة فقط، و أنه يكتفي لنفسه بلقب "صديق الحكمة" أو philo-sophos.. فكان فعلاً، كما عبَّر هو عن نفسه، أوَّل الفلاسفة.. وأيضاً..
كانوا جميعاً يستيقظون مع شروق الشمس، وينامون مع غيابها.. يصرفون وقتهم في العمل والدراسة والتأمل والصلاة.. يراجعون أنفسهم مرتين في اليوم على الأقل، عند الصباح مبدئياً وقبل النوم حتماً.. كما علَّمهم هو حين قال في "الأبيات الذهبية" أن..
لاتدع النوم يغزو عينيك المرهقتين قبل أن تفحص كل يوم ضميرك، متسائلاً: "فيم قصّرتُ؟ وماذا فعلت؟ وأي واجباتي أغفلت؟"، و..
ابدأ من البداية، مسائلاً نفسك عن هذه المسائل واحدة واحدة.. فإذا أسأتَ التصرف، لُمْ مسلكك.. أما إذا أحسنتًه فابتهج..
وأيضاً، كانوا جميعاً نباتيين، يحظرون على أنفسهم تناول أي طعام ناجم عن قتل روح حيَّة..
وأيضاً، كانت جميع علومهم سرَّانية، يُحظَر الحديث عنها وكتابتها وتداولها خارج المدرسة.. هذا ونشير هنا إلى أننا سنناقش موضوع سرَّانية العلوم لاحقاً في سياق البحث.. أما الآن فنكتفي بالقول إن.. هذه "القاعدة الذهبية" بقيت سائدة حتى أيام أفلاطون وأرسطو.. وحتى ما نسب إلى جمبليخوس من تعليق حول مخطوط لسبوسيبوس يتعلَّق بالـ ..
الأعداد و.. الرياضيات الفيثاغورية
كل شيء كان بالنسبة للفيثاغوريين عدداً..
والحقُّ يقال، إنهم لم يكونوا ينظرون إلى العدد ككمية مجرَّدة وإنما.. كتجلٍّ إلهي وكانعكاس للواحد الأحد الذي هو منبع وأساس التناغم الكوني.. لذا.. فعلم الأعداد كان بالنسبة لهم جزءاً من عملية فهم القوى الحيَّة، إن لم نقل جزءاً من عملية فهم ذلك الفيض الفاعل في جميع العوالم ومن بينها عالمنا الإنساني..
والأعداد الفيثاغورية كانت من حيث الأساس أعداداً صحيحة وموجبة ومرتبطة بالملموس.. ففي البدء، لم يكن الفيثاغوريون، على ما يبدو، يميِّزون بين العدد وبين المحسوس، إنما..حصل هذا التمايز لاحقاً على يد أفلاطون وجماعته.. وأيضاً..
كانت الأعداد الفيثاغورية تنقسم إلى وتر (أعداد فردية) وشفع (أعداد زوجية)، و .. كانت تمثَّل بنقاط هندسية موزعة كمتتاليات بواسطة زوايا كما يلي:
.
..
...
....
حيث تمثل الأعداد الموجبة أو المربَّعة، شكلاً هندسياً متوازناً، إن لم نقل كاملاً من منطلق نسبتها التي هي n / n بينما.. تمثل الثانية أي الأرقام الفردية مستطيلاً، أي شكلاً هندسياً غير متوازن من خلال نسبتها التي هي n / n + 1 .. وأيضاً..
كان العدد الأول الـ 1 يمثِّل بالنسبة لهم أول الأرقام ورمز الألوهة.. فعنه ينبع كل شيء.. وهو، بحكم كونه رمزاً، تحدُّه نسبيتنا ومحدوديَّتنا.. منبثق عن العدم أو اللانهاية التي عبَّر عنها ابن عربي يوماً بـ"غيب الغيب" أو "الغيب المطلق" الذي ليس بوسعنا استيعابه.. أما على مستوانا فيبقى الواحد 1 هو المنطلق والأساس لجميع الأعداد.. فهو إذن محور الكون، وهو البداية و..
منه ينبع الثنائي أو الـ 2.. والثنائي هو النسبي وهو الخليقة، ويُرمَز له عادة بخط مستقيم.. ونتوصل مع الفيثاغوريين من بداية هذا النقاش الرقمي الرمزي إلى الجدول التالي الذي يمثِّل عدداً من الثنائيات الفيثاغورية..
1. لامحدود / محدود
2. مفرد / مزدوج
3. واحد / عدد
4. يسار / يمين
5. ذكر / أنثى
6. سكون / حركة
7. منحني / مستقيم
8. ظلام / ضوء
9. خير / شرّ
10. مستطيل / مربع
أما الثلاثي 3، وهو أول عدد كامل يلي الواحد، فقد كان يمثل عند الفيثاغوريين البداية والنهاية وما بينهما.. وهو عدد فردي، يجمع العددين الأول والثاني.. وهو غير قابل للقسمة. ومن هنا.. يعيدنا إلى الألوهة كرمز.. وأيضاً..
من قلب ذلك الثلاثي 3 الذي عاد إلى البداية 1.. و/أو.. من تلك الخليقة، إن لم نقل ذلك الثنائي 2 المتوالد، كان الرابوع أو الـ 4.. رمز عالمنا المادي والمجسَّم من حيث الشكل.. ونتذكر "أبياتنا الذهبية" التي تقسم بـ ..
..الذي أعطانا الرابوع، مبدأ الطبيعة الأزلية..
وأيضاً، فإن جمع الأرقام الأربع الأُوَل، 1 و 2 و 3 و 4، يعطينا الـ 10.. الرابوع tetraktis المقدَّس عند الفيثاغوريين.. وتلك، من خلال الرابوع، تعيدنا من جديد إلى الـ 1.. ففي الرابوع تتمثل حسب الفيثاغوري أرشيتياس التارانتي.. الأعداد والأبعاد والعناصر والأشكال والمواهب.. كما يلي..
الاعداد _ 1 , 2 , 3 , 4
الابعاد _ نقطة , خط , سطح . مجسم
العناصر _ نار , هواء , ماء , تراب
الاشكال _ رباعي الوجوه , مثمن , عشروني الوجه , مكعب
المواهب _ فكر , علم , رأي , أحساس
ونتابع التحليق مع الأرقام الفيثاغورية، فنشير، باختصار شديد، إلى أن هذه المدرسة كانت أول من أعطانا ما نعرفه اليوم في الرياضيات بـنظرية النسب الرياضية (b - m = m - a)والنسب الهندسية
(a / m = m / b) و التناغمية (m - a / b - m = a / b) .. وأيضاً..
من خلال ما يعرفه العامة بنظرية فيثاغوراس .. أو AB² +AC² = BC² أي مجموع مربعي ضلعي مثلث قائم يساوي مربع الوتر، توصَّل الفيثاغوريون إلى معرفة العدد غير الصحيح.. الأمر الذي كان يشكِّل في حينه مأزقاً فلسفياً لايمكن استيعابه.. كما لايستوعب الكثيرون اليوم القصد العميق لمفهوم الفوضى أو الـ entropy في الكون.. فالعدد غير الصحيح كان ربما أول تعبير فلسفي واقعي ملموس لهذه الفوضى المفترضة، وكما تبدو من منظورنا.. ونسجِّل هنا أن هذا الاكتشاف تحديداً كان ما دفع زينون وجماعته في حينه إلى معارضة المدرسة الفيثاغورية ومفاهيمها الثورية.. وأيضاً..
كان الفيثاغوريون أول من عرف ما ندعوه اليوم بالنسبة الذهبية أو العدد الذهبي أو 1.618 الذي فتن العديد من العلماء، بدءاً من أفلاطون، مروراً بليوناردو دافنشي، وصولاً إلى المعماري المعاصر الكبير لوكوربوزييه.. فالعدد الذهبي أو الـ modulor قد يكون أصدق تعبير رياضي لهذا التناغم الكوني الذي يستوعبنا.. وهذا ما سنحاول تسليط الضوء عليه قليلاً من خلال ما سيتيسَّر لنا عرضه عن..
الموسيقى و علم الفلك الفيثاغوريين
حيث تقول الأسطورة إن فيثاغوراس اكتشف النوطة الموسيقية من خلال إصغائه ذات يوم إلى تواترات أنغام مطارق الحدَّادين.. وهذا الحديث قد يكون صحيحاً، وقد يكون مجرَّد أقصوصة.. ولكن..
مما لاشك فيه، أن الفيثاغوريين كانوا أول من اكتشف سرّ وأول من وضع أسس النوطة الموسيقية التي أضحت معتمدة من بعد وبقيت حتى يومنا وحيث الـ ..
Ut = 1, Re = (2/3)2, Mi = (2/3)4, Fa = 3/2, Sol = 2/3, La = (2/3)3, Si = (2/3)5
من خلال اكتشاف نسبة الـ 2/3 وتشعباتها.. وأيضاً..
كما أوضح أفلاطون في مؤلفه الرئيسي الجمهورية، حاول الفيثاغوريون تعميم مفهوم التناغم الموسيقي على الكون برمَّته.. فالكون، كمفهوم، كان بالنسبة لهم رديفاً للتناغم.. أفلاتعني كلمة Kosmos – وهي تلك التسمية اليونانية التي أطلقوها على الكون – النظام والجمال؟ لذا نراهم..
يضعون فرضية تناغم الكرات التي تحدث عنها لاحقاً أفلاطون وأرسطو.. وحيث كانت مجالات تباعد النوطات الموسيقية الأساسية السبع متوافقة مع حركة وتباعد الكواكب السبع عن الأرض وبعضها بالنسبة لبعض.. فالعدد عندهم كان يسود في كل مكان ويسود في الكون.. وأيضاً..
يلاحظ العلماء اليوم أن الفيثاغوريين قد تجاوزوا قطعاً ما كان متبعاً في زمانهم من حيث الرصد الظاهري للكواكب والنجوم وحركتها وتسجيلها.. وأنهم توصَّلوا إلى فهم نظري متكامل تجاوز بكثير الفهم التقليدي الذي كان سائداً في حينه والذي جعل من الأرض مركزاً للكون.. فاستبدلوا به فهماً رياضياً هيأ منذ ذلك الحين الطريق للمفهوم اللامركزي الذي اعتمده كوبرنيكوس لاحقاً جداً (أي بعد 2200 سنة).. لا بل أكثر من ذلك، يعتقد بعض العلماء اليوم أن فيثاغوراس كان أول من تحدث عن كروية الأرض والكون.. أفلم تكن الكرة بالنسبة له هي الجسم الأكمل؟ أو لم يكن تلميذه فيلولاوس أول من قدَّم فهماً كروياً مركزياً لكون تتحرك مكوِّناته في الأثير بتناغم موسيقي حول كرة نارية مركزية اعتبروها في حينه مركزاً للعالم؟
و أيضاً.. مع مفهوم الأثير، يكون الفيثاغوريون قد تجاوزوا في حينه مفهوم العناصر الأساسية الأربعة.. فإذا كانت النار بالنسبة لهم ممثَّلة رمزاً بالإله آرِس (مارس)، وكانت الأرض ممثَّلة بهاذِس (العالم الأسفل)، والماء بكرونوس (الزمن)، والهواء بذيونيسوس، فإن الأثير الممثَّل رمزاً بزفس أبي الآلهة يستوعبها جميعها..
وأخيراً وليس آخراً، نلاحظ أن المدرسة الفيثاغورية قد ربطت بشكل غير قابل للانفصام بين مفهومين أساسيين يبدوان بالنسبة لنا اليوم متعارضين أقصد مفهومي..
العلم و الدين
ِ
ففيما مضى، في زمن غابر كما يقال، كانت العلوم مرتبطةً بالمعرفة كمفهوم مقدَّس.. فعلوم تلك الأزمنة، كما نعرِّف بها اليوم، كانت علوماً منقولة sciences traditionnelles..
"منقولة".. بمعنى أنها كانت تنطلق من قاعدة تراثية عريقة.. أي من قاعدة تربط كما يعرِّفها رونيه غينون العلوم بمجموعها بمبدأ متعالٍ transcendant، إن لم نقل ألوهي.. يقول غينون:
كانت الفيزياء بالنسبة لأرسطو تابعة للميتافيزياء، بمعنى أنها لم تكن مستقلة عنها إنما، كانت مجرّد تطبيق على صعيد الطبيعة للمبادئ العليا ومجرّد انعكاس لقوانين هذه المبادئ العليا. أما العلوم الحديثة [أو الدنيوية profanes حسب جينون] فهي تدعو خلافاً لذلك إلى عزل العلوم من خلال رفض كل ما يتجاوزها.
وما يتجاوز علومنا "الدنيوية" فعلاً اليوم كان وما زال وسيبقى.. ذلك الأساس المقدَّس الذي لاندركه.. وفصل هذا الأساس المقدَّس عن العلوم يعني عملياً (أيضاً حسب غينون) ".. تفريغ العلوم من مضمونها العميق.. وتسطيحها.." من خلال جعلها تطبيقية فقط وبالتالي بلاغاية حقيقية..
وهذا يشكل كما نتلمس اليوم، جانباً أساسياً من جوانب أزمة عالمنا المعاصر.. ولكن..
لماذا وكيف حدث ذلك؟.. ربما لأن الإنسانية أخطأت المسار عموماً؟.. أو ربما لأن أبناء المعرفة من البشر اختاروا طريقهم من خلال العقل وحده فتجبَّروا؟.. أو ربما لأن القوَّاّمين على الشرائع رفضوا العقل وحجبوا الحقيقة فضلُّوا، وضلَّلوا؟.. أو ربما لهذه الأسباب مجتمعة؟.. ولكن، وأيضاً، وخاصة.. لأن هذا كان قطعاً قدر الإنسان الذي حمل، بمشيئة الله، الأمانة.. وكما جاء حقاً في الكتاب الكريم..
إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقبلها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً..
المهم أن انفصالاً معيناً مترافقاً مع جهالة معينة قد حصل فأوصلنا إلى ما أوصلنا إليه.. كما حصل أيضاً، منذ بدء الخليقة الواعية وحتى الساعة، أن سعى أبناء المعرفة، على مرّ العصور، إلى جمع ما يصوِّرهما الفهمُ الظاهر للأشياء بالنقيضين وأقصد.. المعرفة والدين.. إن لم نقل.. العقل والإيمان..
العقل من خلال العلوم والمعرفة والسعي الدؤوب لإعادتها إلى قدسيَّتها البدئية.. والإيمان من خلال الأديان والسعي الدؤوب المستمر لإعادتها من حيث الجوهر إلى وحدانيتها..
وهنا، تحديداً، كانت المحاولة الفيثاغورية ملفتة للنظر حيث.. كان الفيثاغوريون انطلاقاً من تفهُّمهم العميق للأصول المشتركة لجميع الأديان.. ينظرون إليها جميعاً، كجوهر وكعمق، انطلاقاً من مستويات المعرفة وتفاوتها عند البشر.. ونفصِّل هذه النقطة الهامة قليلاً حيث..
بالنسبة لهم كان النظر إلى الألوهة من خلال المشاعر والأحاسيس سرعان ما يؤدي من خلال تعدُّد مظاهر هذه المشاعر والأحاسيس ولاتناهيها في العدد إلى.. تعدد الآلهة.. كفهم كان مسيطراً عند أغلبية الشعوب والأمم البدائية.. ولكن..
إن نظر الإنسان إلى الألوهة من خلال النفس العاقلة وجد أن المظهر سرعان ما يتغير فيصبح.. ثنائياً ومزدوجاً.. أي خيراً وشراً، وروحاً ومادة، إلخ.. وكما كان يعتقد في زمان فيثاغوراس مثلاً الزرادشتيون.. وأيضاً..
إن ارتقى الفهم فأضحى من خلال الروح والنفس والمادة مجرداً.. أصبح فهم الألوهة معه ثلاثي التجلِّي.. كما كانت الحال في زمن فيثاغوراس عند الهندوسية التي اعتمدت مبدأ ألوهة مثلَّثة التجلِّي وممثَّلة بـ .. برهما و فشنو و شيفا.. وأخيراً..
إن ارتقى الفهم عند أبناء المعرفة في جميع الملل.. من خلال تلك الإرادة الواحدة الجامعة التي تتجاوز الجميع.. سرعان ما يعود فهم الألوهة أحادياً.. كما كانت حال جميع العارفين قبل فيثاغوراس وبعده.. وكما كانت وأضحت الحال مع الديانات التوحيدية الكبرى الثلاث.. ولكن..
قد يعترض البعض هنا قائلاً إنه.. إذا كان ما عرضناه يمثل الفهم الفيثاغوري للألوهة والعلم فما الداعي، إذن، كما سبق و أشرنا، إلى هذا الإصرار الكبير من قبل المعلِّم وأنصاره على ما سبق وعرَّفنا به بوصفه..
الديموقراطية و الأرستقراطية..
حيث، كما سبق وأشرنا، كان فيثاغوراس يتعامل مع "الديموقراطية" كوسيلة وليس كغاية بحد ذاتها.. كوسيلة بمعنى أنها مجرد أداة.. ربما أفضل أداة يستطيع المجتمع الإنساني بواسطتها ومن خلالها تأمين تكافؤ حقيقي في الفرص بهدف الوصول إلى مبتغاه.. أما المبتغى الاجتماعي، أما الغاية الاجتماعية للديموقراطية، فقد كانت بالنسبة لفيثاغوراس.. النخبوية أو "الأرستقراطية"..
وفهمه للأرستقراطية أو للنخبوية كان مبنياً، كما سبق وبينَّا، على تملِّكها التصاعدي العميق للمعرفة المقدَّسة من خلال سرَّانيتها.. وعلى الأخلاق من خلال الدين والعبادة الحقيقيين.. وكما تقول "الأبيات الذهبية" أنْ..
لاتفعل أي شيء بلا علم، به وتعلَّم ما ينبغي أن تعلم.. فتلكم قاعدة الحياة الهنيئة و..
باشر عملك بعد أن تسبِّح الآلهة حتى تتوفَّق فيها فـ..
إذا ملكت هذه المبادئ عرفت جوهر الآلهة الخالدة والآلهة الفانية، والفوارق بين الأشياء والروابط التي تشدها بعضها إلى بعض..
وعرفت حدود الحلال، حيث الطبيعة هي هي في كل شيء، وبذلك لن تأمل فيما لا أمل فيه ولن يخفى عليك شيء..
فالافتقاد العملي لهذه المبادىء الخالدة هو الذي شكَّل، ربما، على مرّ العصور.. جانباً أساسياً من جوانب الأزمة الإنسانية.. وأستذكر ما أورده بهذا الخصوص رونيه جينون إذ قال:
لعل الفردية individualism هي من المسبِّبات الأساسية للانحطاط . وما نقصده بالفردية هو نفي أي مبدأ متعالٍ يفوق الفرد مما يعني، عملياً، حصر الحضارة في مختلف مجالاتها بما هو بشري فقط ليس غير […] فالمجتمع الإنساني المؤلف ".. من المجموع الحسابي لأفراده يصبح غير خاضع لأي مبدأ سام يعلو بمضمونه على الأفراد، وبالتالي يسوده قانون العدد الأكبر.." ذلك القانون الذي يعني عملياً ".. قانون المادة، إن لم نقل قانون القوة الغاشمة.
ونسجل هنا أن ما كانت المدرسة الفيثاغورية تسعى إليه أساساً كان القضاء على هذه الفردية من خلال المعرفة والمحبة التي تستلزم "الاشتراكية"، وحيث "يفترض أن تكون جميع الأشياء مشتركة بين الأصدقاء"، كما قال المعلِّم ذات يوم..
النهاية..
تلك النهاية الّتي يمكن تلمّسها ربما من خلال "الأبيات الذهبية" التي عكست بمرارة ما شعر به المعلِّم وتلاميذه في أيامهم الأخيرة تقول إن..
لسوف تعرف البشر، ضحايا المصائب التي ينزلونها بأنفسهم، وعلى بؤسهم، على العاجزين، لا بالنظر ولا بالسمع، عن إدراك الخيرات القريبة منهم إلى هذا الحد، إذ.. قلة من بينهم تعرف كيف تنجو من الشقاء..
ذلكم هو القضاء النازل بنفوس الفانين.. فهي كالكريَّات تتدحرج هنا وهناك معرَّضة لآلام لاتنتهي، فـ ..
الشقاق، رفيقهم الفاجع، يودي بهم من حيث لايدرون.. الشقاق الذي يظهر لدى ولادتهم، الذي يجب الامتناع عن إثارته، وتجنُّبه بالانقياد له..
فالأسطورة تقول إنه.. في عام 500 قبل الميلاد، حصل في مدينة سيباريس الغنية المجاورة لكروتونا، التي كانت تحكمها ككروتونا نخبة أرستقراطية عريقة، تمرَّد قائد طاغية يدعى تيليس استولى على السلطة هناك.. فأعدم وقتل الكثير من معارضيه الفيثاغوريين.. لكن.. بعضاً منهم تمكن من الهرب إلى كروتونا حيث طلبوا حق اللجوء..
ويُمنَح هؤلاء الفارين من سيباريس إلى كروتونا حقّ اللجوء، رغم معارضة بعض أعضاء مجلس شيوخها، نتيجة التدخل المباشر لفيثاغوراس.. مما أثار غضب طاغية سيباريس الذي أعلن الحرب على كروتونا..
وكان أنْ ربحت كروتونا (التي كان يقود جيشها البطل الأولمبي والفيثاغوري ميلون) في حينه تلك الحرب التي فُرِضت عليها ولكن..
كنتيجة لتلك الحرب.. ازدادت قوة "الحزب العامِّي" المعارض للنخبة الفيثاغورية الحاكمة وازدادت شقة الخلاف بين أبناء المدينة.. وطبعاً، تجلى الخلاف حول غنائم الحرب والأراضي المستولى عليها من سيباريس التي طالب "الحزب العامِّي" بضرورة توزيعها على أفراد الشعب، بينما عارض مجلس الشيوخ الذي كان يقوده الفيثاغوريون ذلك مفضلاً أن تُستثمَر للصالح العام..
وكان يقود ذلك "الحزب العامِّي" في حينه ابن عائلة كروتونية غنية يدعى سيلون سبق أن رفض فيثاغوراس انتسابَه إلى مدرسته بسبب عنفه وسوء أخلاقه.. مما أدى إلى تحوُّله إلى عدو لدود للفيثاغوريين.. ويحرض سيلون العامَّة من خلال استثارة أحطِّ غرائزها على التخلُّص من فيثاغوراس وجماعته..
وكانت مجزرة أودت بحياة معظم هؤلاء.. وكانوا مجتمعين في منزل القائد ميلون.. وحيث، كما تقول الأسطورة، لم ينج منهم إلا إثنان..
وتشتَّتت الطائفة بعد أن فشلت من خلال نظامها السياسي الذي كان قائماً على العمل والفضيلة في إصلاح المدينة..
أما فيثاغوراس – ولم يكن أحد الناجين – فلا أحد يعرف ما حلَّ به.. حيث يقول بعضهم، ومنهم هيبوليتوس ونيانتيس، أنه قتل في حينه مع رفاقه في منزل ميلون على يد المتمرِّدين.. ويقول بعضهم الآخر، ومنهم ساتيروس، إنه تمكن من الهرب واللجوء إلى معبد في ميتابونتي حيث قضى آخر أيامه في الصلاة صائماً حتى وافته المنيَّة.. وتختلف الأقاصيص، لكنها.. تتفق جميعها على غموض نهايته حيث..
لم يجد أحد جثمانه الذي يقول أتباعه إن الآلهة حملته إلى أعالي جبال الأولمب.. حيث مازال إلى يومنا هذا يتابع سعي أبنائه المستمر في سبيل الحقيقة..
تلك الحقيقة التي تعلو على كل شيء.. والتي مع خاتمة "الأبيات الذهبية" كانت وستبقى تؤكد، رغم كل شيء، لجميع المريدين الذين آمنوا بها أن..
"..البشر من سلالة إلهية وأن الطبيعة المقدسة ستدلُّهم وتكشف لهم كلّ أسرارها.."
أكرم أنطاكي