بعد التحية والاعتذار عن طول الغياب الذي لم يلحظه أحد...
لا أدري إن كان هذا المحور هو الأنسب للموضوع، ولكن لابد أن أبدأ من مكان ما.
أتذكر حوارات مطولة شهدتها ولا تزال تشهدها الساحة الفلسطينية حول توحيد أعلام الفصائل وأولوية العلم الفلسطيني عليها. يبدو أن معطى جديداً دخل على الموضوع، لا يقتصر على علم فلسطين وانما على نصف اعلام العرب. لست من عشاق النقل، ولكن ربما يستحق الأمر عناء اللصق.
http://www.alquds.co.uk:8080/archives/pdf/...ovThu/qds11.pdf
انتحار المفارقة ومصرع السخرية: هل صمم مارك سايكس علم العرب؟
عوني الجيوسي / القدس العربي
قرابة تسعين عاماً تكاد تمضي علي رفع راية الثورة العربية في الحجاز. من يا تري أمسك القلم لأول مرة ليختصر العرب بمثلثٍ وثلاثة مستطيلات، ويجترح تجريدا لوجودهم بأربعة ألوان هي الأحمر والأسود والأخضر والأبيض؟ هذه الراية التي توحي ـ للوهلة الأولي ـ وكأن أكثر الرايات العربية تناسلت عنها، وبأنها تركت فيهم جميعاً لمستها الوراثية، اما بتضاريس خطوطها أو بمزيجها اللوني. ولغاية اليوم، لا تزال هذه الراية، بشكلها الأصلي الدقيق، تخفق في مدينة العقبة الأردنية، وهي تذكر بأولي الفضاءات التي اقتحمها ذلك العلم. ولا يزال العلم الفلسطيني بالغ الوفاء لتلك الراية القديمة لولا انقلاب في تراتب الأبيض والأخضر، ومثله العلم الأردني، باضافة النجمة الفيصلية البيضاء. فمن يا تري صمم ذلك العلم؟
خلال طفولة يُكني عن جهلها المستبد بالبراءة، كنا نظن بأن شاعرا يدعي صفي الدين أسس لميلاد هذا العلم من دون أن يدري عندما أنشد بيته الشوفيني الشهير عن صنائعنا البيضاء ومرابعنا الخضراء ووقائعنا السوداء ومواضينا المضرجة بالحمرة. وكم وقفنا وكم هتفنا أمام سارية هذا العلم، وكم تمكنت من نفوسنا هندسته وألوانه وحتي ظله علي الأرض. ورويداً رويداً، كانت الحقيقة الباردة التي لا تتسع للشعر ولا للشعراء تزحف علي مساحات الجهالة، وتنزع عن صفي الدين الحلي لقب العراب المجازي لهذا العلم، لتـُسكن مكانه شخصاً آخر تماماً. فمن يكون هذا الشخص؟ ومن أين أتي بهذه الراية؟
في غرفة ما بجنوب غرب لندن، وداخل مبني هو اليوم مقر المدعي العام البريطاني، كان السير مارك سايكس يسارع بطباعة رسالة ما في الثاني والعشرين من شباط (فبراير) عام 1917. هذه الرسالة موجودة اليوم لدي أكثر من جهة، منها ـ مثالاً لا حصراً ـ الأرشيف الوطني البريطاني بلندن، ومركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوكسفورد، والأرشيف المكتبي لجامعة هَل بشمال انكلترا، ومجموعة وثائق سلديمير الخاصة بأرشيف عائلة سايكس.
ماذا كتب هذا الشاب الانكليزي، ابن السابعة والثلاثين عاما في رسالة وِجـْهتها القاهرة، وموضوعها الحجاز، ومنشؤها لندن؟ أكتب اليك علي عجلٍ شديد، فالكيس يخرج في الرابعة من بعد ظهر اليوم (كيس البريد) ، كتب سايكس في فاتحة رسالته العاجلة. لكن القصة تبدأ قبل ذلك بشهور عدة.
في العاشر من حزيران (يونيو) لعام 1916 بدأ التحرك المعروف بالثورة العربية الكبري، وكانت الراية التي يرفعها الهاشميون حتي تلك اللحظة الراية الشريفية، المقصورة علي اللون الأحمر الداكن وحده، رمز الحجازيين. ومع اقتراب الذكري الأولي لانطلاق الثورة، طالعت صحيفة القبلة، الصادرة في مكة، طالعت قراءها بخبر يبشر بميلاد علم للعرب، ليكون احتفائية رمزية بسنوية الثورة الأولي. كان هذا في عام 1917، وبالتحديد في أوائل شهر حزيران (يونيو)، وكان العلم الوليد، كما هو معلومٌ اليوم، مكوناً من مثلث أحمر في جانب ثلاثة مستطيلات متوازية تتواتر فيها الألوان هبوطاً من الأسود فالأخضر وصولاً الي الأبيض. وفي دراسته عن تطور العلم العربي ، في طبعتها الثانية والصادرة عام 1986 في عمان، يقول الدكتور مهدي عبدالهادي بأنه وفي السنة الثانية للثورة اتفق الحسين (بن علي) مع قادة الأحزاب العربية السرية علي ألوان العلم القومي للدولة العربية المستقبلية وعمل بنفسه علي تصميمها . لكن الدكتور عبدالهادي لا يوضح لنا مصدر معلوماته تلك، رغم ظني بأنه أخذ عن د. خيرية قاسمية في دراستها المبكرة عن العلم الفلسطيني ، حيث تقول بأن الراحل صبحي أبو غنيمة كان قد أخبرها بأن كلاً من الشريف حسين بن علي والشيخ فؤاد الخطيب قد أخبراه بأنهما هما من قاما بوضع تصميم علم الثورة. (رغم أن قصة التصميم هذه لم ترد في مذكرات صبحي أبو غنيمة الصادرة بعد وفاته، والتي جمعتها ابنته د. هدي أبو غنيمة). قد يبدو الموضوع محسوما الي هنا لولا أن شين ليزلي، وعلي الضفة التأريخية الأخري، سجل في كتاب له عن سيرة شخصية انكليزية لامعة اشارة عارضة بأن منشأ العلم انكليزي. وكانت د. خيرية قاسمية قد تنبهت لهذه الاشارة في دراستها الآنفة الذكر وارتأت بأن الاجابة التي استخلصتها من صبحي أبوغنيمة، بالاضافة لخبر نقلته صحيفة القِـبلة عن احتفال العرب في الحجاز بصدور العلم، ارتأت في هذين الشاهدين دليل نفي لرواية ليزلي، ودحضاً لزعمه بأن العلم العربي من غير صنع العرب. لكن، لم يكن شين ليزلي وحده من خرج بهذا الادعاء، فعلي ذات المزمار عزف غودفري لياس في كتابه عن نشأة الجيش العربي والمعنون جيش غلوب ، اذ ذكر مروراً في فاتحة اقتباس عن مارك سايكس بأن هذا الأخير قد صمم العلم الذي دخل تحته الأمير فيصل ولورنس الي دمشق خلال الحرب العالمية الأولي .
لكن من دون أن يشير بأي درجة من الوضوح الي المصدر الذي استقي منه هذه الواقعة المزعومة. وتبعه علي نفس المنوال ديفيد فرومكين في عمله القدير سلامٌ لهدم كل سلام ، قائلاً بأن مارك سايكس هو من صمم علم الثورة العربية، بل وبأن المصانع الحربية البريطانية في مصر هي من قامت بطباعته وتوزيعه. فما قصة هذا الخلاف، ومن الذي صمم حقاً تلك الراية؟
ان اجابة هذا السؤال تقع حتما ما بين الحزيرانين المتتالين لعامي 1916 و1917، في الفضاء الفاصل ما بين بدء الثورة واعلان القبلة عن تصميم العلم العربي. مرة أخري نجد أنفسنا في رواق في الخارجية البريطانية، في الثاني والعشرين من شباط (فبراير) عام 1917. كانت الرسالة التي يخطها سايكس موجهة الي المفوض الأعلي الجديد في مصر، ريجينالد وينغيت، والذي خلف هنري ماكماهون في ذات المنصب. يفتتح سايكس رسالته بحديث عام عن المهام الجديدة التي أوكلت اليه قبل أن يشرع بتفصيل نقاطٍ أربعة، ثالثها هو ما يعنينا في هذا المقام، اذ كتب فيها التالي:
انني لأري وبشدة أن اللجنة العربية بالقاهرة تحسن صنعاً ان صممت واستقرت علي علمٍ أو شارة ما يتم رفعها كلما رفع العلم الفرنسي في المناطق (أ) و(ب).
لا ينبغي لهذا العلم أن يكون مطابقا لعلم الشريف، بل يجب أن يوحي بفدرالية عربية ويكون في الوسع تسميته بعلم العرب المتحدين. ان لم يكن من مقترح أفضل، فاني أرفق طياً بعض الرسوم. الألوان تمثل الممالك العربية، العباسية بالأسود، الأموية بالأبيض، العلوية بالأخضر، والشريف ومعظم شيوخ جنوب شرق الجزيرة بالأحمر. أنا أقدم هذه كاقتراحات وحسب، ولكن ينبغي أن يكون لديهم شيء ما، وسيكون من المحبذ أن لا يكون شريفياً خالصاً. والرسوم المشار اليها هي أربعة، مرفقة مع هذا المقال، وبالامكان التعرف علي آخرها مباشرة لأنه العلم الذي اختير في نهاية المطاف. وقد أورد بروس ويستريت صورة هذه التصاميم في كتابه المكتب العربي: سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط من 1916 الي 1920 الصادر عام 1992، ولكن من دون ايراد الرسالة التي حوتها. ولست أري درهم عجرفة في الزعم الصريح بأن الروايات الشفوية التي نقلتها قاسمية قد سقطت الآن بالضربة الوثائقية القاضية. ودرءاً لشبهة تشابه الأسماء، ولأن آل سايكس الكرام يملكون أكثر من ماركٍ واحد، فلا بد من تأكيد شك القارئ في حال لم يبلغ شكه مبلغ اليقين، والقول بالفم الملآن خيبة، والفكين المنهكين حسرة: نعم، انه ذات المارك سايكس الذي رسم مع نظيره الفرنسي، جورج بيكو، كاريكاتير الشرق الأوسط المعاصر، وهو ذات المارك سايكس الذي يطل عليك وعلي في كل نقطة حدودية بين بلدين عربيين متجاورين، تكاد تراه يتبسم لك ـ وسط وجوه الضباط العابسة ـ وهو يري صدي خريطته الشهيرة يدوي بعد قرابة القرن، وقد اكتسبت أبعادها قدراً من القداسة، وصار الموت دفاعاً عنها ضرباً فريداً من الاستشهاد. هنا تموت كل المفارقات، وتستل السخرية مدفعاً رشاشاً لتفرغ ألف رصاصة في رأسها، ويخلع التهكم بنطاله قبل قبعته اجلالاً وتعظيماً لكوميديا العلم العربي التي قزمت مسرح برناردشو، وسخفت أوسكار وايلد، وقضت علي ارث توين. فها هي الأمة التي لا تزال الأمم تصطف علي أبواب مساجدها القرطبية، ومآذنها الدمشقية، وقبابها المقدسية، لتتأمل عبقرية المعمار وفلسفة الجمال عند الناطقين بالفصحي والشاهدين بلا إله الا الله، ها هي تأخذ تصميم خِرقـتها الوطنية من بارون آل سايكس السادس، ابن السابعة والثلاثين، الذي ختم رسالته الي وينغيت بعبارة هي المعادل الموضوعي لفعل التفـل في وجوه العرب جميعاً: لقد اضطرتني الساعة لأتوقف عن الكتابة وأرجو أن تغفر لي هذه الخربشة السريعة.... أعتذر بشدة عن الطبيعة العجولة لهذه الرسالة لكنني لم أملك أكثر من خمس وعشرين دقيقة لانجازها، بما فيها الرسوم .
لماذا الآن وأي نفع يُرتجي؟ سؤال وجيه أقصر اجابته في العلم الفلسطيني وحده، رغم أنه ليس العلم الوحيد الذي يستيقظ اليوم ليكتشف لنفسه أباً جديداً بعد ظهور نتائج التحليل التاريخي لحمضه النووي، وبطلان نسبه القاطع لكل لاهج فصيح بالضاد.
ان ترددي بكتابة هذا المقال رغم اكتمال مادته قبل عدة أشهر كان له أكثر من مرد، أوله تلك الجائزة البرزانية التي وضعها رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني علي رأس العلم العراقي، اذ لم يكن بودي أن أقدم ذخيرة ـ مطاطية ـ لشحاذي جائزة برزان، ذات الخمسة آلاف دولار، رغم ايماني التام بأن كل ما قدمته في موضوع العلم هو شهادة حق لصالح العلم العراقي لا عليه، فهو ـ أي علم العراق ـ أقرب في تصميمه لعلم الجمعية العربية الفتاة المصمم عام 1914، والذي لا يشتمل علي مثلث سايكس الأحمر، بل يكتفي بثلاث قطاعات مستطيلة تتوالي فيها الألوان هبوطاً من الأخضر مروراً بالأبيض ووصولاً الي الأسود. والسبب الثاني لترددي، وهو الأهم، فمتعلق بكل أولئك الشهداء الذين سُجوا بعلمٍ لم يخطر ببالهم يوماً أنه من ابتداع مخبر بريطاني أبي الا أن يضاعف من شحنة الاهانة ويرفعها لأس فلكي، فوضع تصميمه علي عجلٍ وبعث به من لندن الي مكتب استخباري بالقاهرة.
ان ترددي يتعلق أيضاً بذلك الشاب الذي كان يراقص الرصاص وهو يرفع علمه الوطني علي قبة مسجد، أو عمود كهرباء، أو سياج مستوطنة. ان ترددي يتعلق بستين عاماً من الثورة المظللة بتلك الألوان الأربعة، وطابور تحية العلم الذي كان يصطف أمامه طلاب المخيمات، ونزلاء المعتقلات، وأبطال المؤبدات المكررة. نعم، ان الرموز تتحدد بالدلالات التي يتواضع عليها الناس، لكن ثقل الحقيقة التاريخية قد يكون أفدح من أي توافق وأغلب من كل اجماع، وقد لا تكفي كل هذه الجثامين، ولا كل تلك الشجاعة حتي يتغير أصل هذا العلم الذي لم يكن يعرف بحقيقته سوي دائرة بالغة الضيق من القيمين علي الثورة العربية. ومن المؤسف أن يعلم المرء بأن علماً آخر كان يستخدم في فلسطين أيام النكبة وما تلاها، ذكرته د. خيرية قاسمية في كتابها عن العلم، يتألف من خلفية بيضاء كُتب عليها اسم فلسطين باللون الأحمر، الا أن استخدامه لم يدم طويلاً خصوصاً بعد أن اعتمد علم الثورة العربية علماً للدولة بقرار من حكومة عموم فلسطين وقتها.
ان حصري لهذا النداء بالعلم الفلسطيني يتعلق بأسباب بعضها شخصي، ولكنه يتعلق بأسباب أعم أيضاً، منها أن حقيقة أصل هذا العلم هي فضيحة للقطرية العربية بمجملها، وشاهد حق علي كرتونية هذه التقسيمات السياسية والجغرافية المفبركة. وعليه، فاني غير معني بأعلامٍ عربية أخري ينحدر أصلها المباشر من علم البارون السادس، السير سايكس. لكن الفكرة الفلسطينية لليوم لا تزال فكرة تحررية وثورية، وهي جديرة بهذا المعني، وشهداؤها معها، بعلمٍ خيرٍ من هذا، لم يرسمه ضابط مخابرات، ولم يخترعه المنتدب المستعمر، ولم يُصمم في غرفة قصية بلندن، ولا اضطر صاحبه لتلفيقه في خمس وعشرين دقيقة حتي يدرك الكيس الذي يخرج في الرابعة . وليس في تغيير العلم الفلسطيني اليوم تخلصاً من قرابة شائنة مع السير سايكس وحسب، بل وتحرراً من مرحلة تاريخية بأكملها، مهدت لتمزيق المنطقة العربية، وأدخلت الانكليز والفرنسيين اليها من أوسع الأبواب، تحت ذريعة اخراج الأتراك من النافذة. ولربما آن لأطفالنا أن يرتاحوا من تحية علمٍ يمضون نصف يومهم في شتم مخترعه، ونصفه الآخر في مقارعة المأساة التي أنزلها بهم.
كاتب من فلسطين
هامش الأسماء الانكليزية حسب ورودها:
Mark Sykes, Reginald Wingate, Shane Leslie, Godfrey Lias, David Fromkin, Bruce Westrate