نزع سلاح الشعوب لتدميرها بلا مقاومة!
بقلم: نصر شمالي
القطعان لا رأي لها ولا إرادة، أي لا عقل ولا حياة خاصة ولا حقوق مستقلة، وغرائزها هي التي تدفع حراكها اللاواعي شبه الآلي! وقد قرّر الأوروبيون الفاوستيون، منذ بدايات نهضتهم المادية الرائعة المروّعة، أن هذا التوصيف يشمل الشعوب الأخرى التي اعتبروا معظمها وسطاً بين الإنسان والحيوان، ورأينا السينما الأميركية على مدى القرن الماضي تتمادى إلى أبعد الحدود في تأكيد هذه المعاني التلمودية، فالروسي والصيني والكوبي والياباني والألماني والعربي والنيجيري..الخ، هم كائنات أدنى من الإنسان وأعلى من الحيوان! وقد أعطى الأنكلوسكسون اللوثريون أنفسهم الحق، عن قناعة إيمانية ورعة، باعتماد هذا التصنيف التلمودي، وهاهو الرئيس الأميركي جورج بوش الابن يصرّح، أخيراً لا آخراً، أن من حق الإسرائيليين الدفاع عن أمنهم ضدّ العرب، إنما يتوجب عليهم توخّي الحذر (20/8/2006). وتوّخي الحذر المقصود يعني عدم تمكين القطعان من إلحاق أي أذى بسيدها بينما هو يجزّ صوفها أو يحلب ضرعها أو يذبحها (لا برفسة ولا بنطحة ولا بعضّة!) إن توخّي الحذر الذي يوصي به جورج بوش الإسرائيليين يعني تجريد الضحية مسبقاً من أية قدرة على المقاومة، وتتلخص هذه الوصية، حسب التعبيرات السياسية المتداولة، بنزع سلاح الشعوب أولاً، ثم التصرف بها كالأنعام، جزّاً أو حلباً أو ذبحاً، حسب ما تقتضيه مصلحة السيد المقدّرة مسبقاً!
إن الذين يأملون أن يصدر عن الرئيس الأميركي قولاً، أو تلميحاً، يشير إلى إنسانيتهم أو حقوقهم سوف ينتظرون طويلاً من دون طائل، فما يقوله ويفعله اللبنانيون أو الفلسطينيون أو العراقيون، يصبح جيداً جداً لو أن قائله أو فاعله كان تلمودياً صهيونياً، يهودياً أو غير يهودي، أما عندما يقوله ويفعله الغوييم فإنه يغدو على الفور حيوانياً وحشياً!
جريمة توماس مورتون الفظيعة!
يعود تطبيق هذه العقيدة الفاوستية إلى بدايات القرن السابع عشر، ففي شهر حزيران/ يونيو 1630، اقتربت السفينة آربيلا من ميناء ساليم في ولاية ماساشوسيتس الأميركية المعاصرة وعلى متنها حمولة من البيوريتانيين اللوثريين الإنكليز، وقبل أن تدخل السفينة الميناء شرح المحامي جون وينتروب لرعيته حلمه، وأعلن في عرض البحر ميثاقاً مع إلهه الإنكليزي على الطريقة العبرانية، فقال أن المقصود من عملية استيطان أميركا هو: خلق نموذج من المحبة، وتجسيد ميثاق بين الله والبشر، وإنشاء مجتمع انجيلي من العدالة والرحمة! هتف وينتروب: مدينة على تلّة (مثل القدس) حيث ستسمو شريعة الله! إن وينتروب ما زال يواصل خطابه هذا على لسان الرئيس بوش!
لقد ارتكب توماس مورتون، الذي ترك رفاقه اللوثريين الرواد (عام 1625) وعاش مع سكان أميركا الأصليين، جريمة لا تغتفر عندما عامل أولئك السكان كبشر، وعندما تحدث في كتابه (كنعان الإنكليزية الجديدة) عن حسن استقبالهم وكرمهم واستضافتهم ومساعدتهم التي أنقذت المستعمرين الأوروبيين من هلاك محقق، فاتهم بممارسة العادات الشريرة في "إسرائيل الجديدة"! الاسم الذي أطلقه المستعمرون الرواد الإنكليز على مستوطناتهم الأميركية، وقد اعتقل وأرسل إلى إنكلترا بتهمة بيع الأسلحة للهنود، حيث كانت هذه هي جريمته الحقيقية، مقايضة السلاح الناري بالفراء، وهذا يعني أنه علّم الهنود استعمال السلاح حسب تعبير الحاكم وليم براد فورد، وقد أجاب مورتون على هذا الاتهام بقوله: ولكن لم لا؟ لماذا يحرّم على جنس من البشر ما يحلّ لجنس آخر؟ لقد أعلن المستوطنون (الحجّاج كما أسموا أنفسهم!) أنهم جاؤوا ليعيشوا مع الهنود بسلام، ولهذا فقد أعطاهم الهنود كل ما يحتاجونه، وشاركوهم في كل ما عندهم، فلماذا لا يكون عند الهنود المسالمين بعض السلاح الذي عند الحجّاج المسالمين؟!
المعاهدات خدعة لنزع السلاح!
على مدى مسيرة الاستيطان الطويلة الرهيبة في أميركا الشمالية أرغمت الشعوب الأصلية على توقيع 370 معاهدة مع الإدارات الاستيطانية، وهي كانت معاهدات مستكملة لجميع الشروط الأصولية القانونية، كل واحدة منها تبدو كأنما هي المعاهدة الأخيرة غير القابلة للانتهاك، غير أنها انتهكت جميعها المعاهدة تلو الأخرى، وتحولت إلى مجرد حبر على ورق، واحتفظ بها حتى اليوم في أرشيف حكومة الولايات المتحدة! لقد كانت تلك المعاهدات تعقد في نطاق "توخّي الحذر" حسب نصيحة الرئيس بوش للإسرائيليين في الحرب ضدّ لبنان، فهي تثبّت الأمر الواقع والوضع الراهن، ثم تنكشف عن مجرّد خديعة هدفها إنهاك مقاومة الضحايا كي يتحقق القضاء عليهم من دون مقاومة، بأقل تكلفة وبأقصر وقت!
لقد كان الاعتراف بإنسانية الهنود، وتزويدهم ببعض السلاح (للصيد) جريمة ارتكبها مورتون، وأقضت مضاجع أولئك المستوطنين، الحجّاج الروّاد، الذين وضعوا حجر الأساس لفكرة أميركا القائمة على استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة، ولذلك أنهى توماس مورتون حياته في سجن المستعمرة محّطماً سيئ السمعة، وقد تساءل الحاكم براد فورد حينئذ: ماذا لو استخدم الهنود هذا السلاح؟ إن المستعمرة لا تحتمل هذا الجرح الذي أحدثه مورتون، إنه جرح قاتل!
الثوابت الأميركية الإسرائيلية الخمسة!
بعد مضي حوالي قرنين من الزمان، في أواسط القرن التاسع عشر، قال الرئيس الأميركي جون آدامس أن تجارة مورتون مع الهنود بالسلاح والذخيرة، وتدريبه لهؤلاء المتوحشين، جريمة خطيرة قاتلة، لربما كانت أودت بحياة المهاجرين، وهدّدت المستعمرات بالإبادة الكاملة، وجعلت أميركا التي نراها اليوم فكرة مستحيلة! وواضح من كلام آدامس، وقبله براد فورد وبعده جورج بوش الابن، أن مسألة إبادة الضحايا أمر مفروغ منه، سواء أقاوموا أم لم يقاوموا!
إن جورج بوش وهو يتحدث عن نزع سلاح المقاومة، وعن حق الإسرائيليين في الدفاع عن أمنهم (أي حقهم في إبادة الآخرين!) وعن توخّي الحذر في التعامل مع ضحاياهم (القطعان!) إنما ينطلق من الثوابت الخمسة التي رافقت تاريخ الولايات المتحدة منذ تأسيسها وهي: أولاً، المعنى الإسرائيلي لأميركا. ثانياً، عقيدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي. ثالثاً، الدور الخلاصي للعالم أجمع. رابعاً، قدرية التوسع اللانهائي عالمياً. خامساً، حق التضحية بالآخرين (راجع كتاب: أميركا والإبادات الجماعية – منير العكش).
غير أن هذه الثوابت الأميركية الفظيعة تبدو وقد شارفت على التداعي قبل أن تتمّ قرنها الرابع: عام 2025!
www.snurl.com/375h